تفسير القرطبي المص (1) كِتَابٌ
أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ
لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
تفسير سورة الأعراف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ
الْأَعْرَافِ وهي مكية، إلا ثمان آيات، وهي قوله تعالى:"
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ" إِلَى قَوْلِهِ:" وَإِذْ
نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ «1» ". وَرَوَى النَّسَائِيُّ
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ
الْأَعْرَافِ، فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ. صححه أبو محمد عبد
الحق.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعراف (7): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ
حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (المص) تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ
«2» وموضعه رفع بالابتداء. و" كِتابٌ" خَبَرُهُ. كَأَنَّهُ
قَالَ:" المص" حُرُوفُ" كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ" وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ: أَيْ هَذَا كِتَابٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا
يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) فيه مسألتان: الْأَوْلَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَرَجٌ" أَيْ ضِيقٌ، أَيْ لَا يَضِيقُ
صَدْرُكَ بِالْإِبْلَاغِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَثْلَغُوا
«3» (رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً) الْحَدِيثَ. خَرَّجَهُ
مُسْلِمٌ. قَالَ إِلْكِيَا: فَظَاهِرُهُ النَّهْيُ،
وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْهُ، أَيْ لَا يَضِيقُ
صَدْرُكَ أَلَّا يُؤْمِنُوا بِهِ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلَاغُ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ سِوَى الإنذار به من شي من
إيمانهم
__________
(1). راجع ص 304. فما بعد.
(2). راجع ج 1 ص 154.
(3). كذا في الأصول. والذي في صحيح مسلم: إذا يثلغوا رأسي.
راجع صحيح مسلم. كتاب الجنة، باب الصفات التي يصرف بها أهل
الجنه وأهل النار. والثلغ: الشدخ. وقيل: هو ضربك الشيء الرطب
بالشيء اليابس حتى ينشدخ. وفى النهاية: إذن يثلغوا رأسي كما
تثلغ الخبزة.
(7/160)
اتَّبِعُوا مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
أَوْ كُفْرِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ «1» " الْآيَةَ.
وَقَالَ:" لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ «2» ". وَمَذْهَبُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ
الْحَرَجَ هُنَا الشَّكُّ، وَلَيْسَ هَذَا شَكَّ الْكُفْرِ
إِنَّمَا هُوَ شَكُّ الضِّيقِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ
«3» ". وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَالْهَاءُ فِي" مِنْهُ" لِلْقُرْآنِ. وَقِيلَ: لِلْإِنْذَارِ،
أَيْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ لِتُنْذِرَ بِهِ فَلَا
يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ. فَالْكَلَامُ فِيهِ
تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَقِيلَ لِلتَّكْذِيبِ الَّذِي
يُعْطِيهِ قُوَّةُ الْكَلَامِ. أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ
ضِيقٌ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ. الثَّانِيَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَذِكْرى " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ وَنَصْبٍ وَخَفْضٍ. فَالرَّفْعُ مِنْ
وَجْهَيْنِ، قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هِيَ رَفْعٌ عَلَى
إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: عَطْفٌ عَلَى"
كِتابٌ" وَالنَّصْبُ مِنْ وَجْهَيْنِ، عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ
وَذَكِّرْ بِهِ ذِكْرَى، قال الْبَصْرِيُّونَ. وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ: عَطْفٌ عَلَى الْهَاءِ فِي" أَنْزَلْناهُ «4»
". وَالْخَفْضُ حَمْلًا عَلَى مَوْضِعِ" لِتُنْذِرَ بِهِ"
وَالْإِنْذَارُ لِلْكَافِرِينَ، وَالذِّكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ،
لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ.
[سورة الأعراف (7): آية 3]
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا
تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً مَا
تَذَكَّرُونَ (3)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يَعْنِي
الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما
آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا «5» ". وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا أَمْرٌ يَعُمُّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ دُونَهُ. أَيِ
اتَّبِعُوا مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنَ، وَأَحِلُّوا
حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ،
وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَرْكِ
اتِّبَاعِ الْآرَاءِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ.
__________
(1). راجع ج 10 ص 353 وص 63.
(2). راجع ج 13 ص 89.
(3). راجع ج 10 ص 353 وص 63. [ ..... ]
(4). كذا في الأصول. وفى السمين: إنها حال من الضمير في أنزل.
وقال: هذا سهو.
(5). راجع ج 18 ص 17.
(7/161)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ
قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ
بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا
تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) " مِنْ دُونِهِ" مِنْ
غَيْرِهِ. وَالْهَاءُ تَعُودُ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ،
وَالْمَعْنَى: لَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلَا
تَتَّخِذُوا مَنْ عَدَلَ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَلِيًّا. وَكُلُّ
مَنْ رَضِيَ مَذْهَبًا فَأَهْلُ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ
أَوْلِيَاؤُهُ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ
قَرَأَ" وَلَا تَبْتَغُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ" أَيْ
وَلَا تَطْلُبُوا. وَلَمْ يَنْصَرِفْ" أَوْلِياءَ" لِأَنَّ
فِيهِ أَلِفَ التَّأْنِيثِ. وَقِيلَ: تَعُودُ عَلَى" مَا" مِنْ
قَوْلِهِ:" اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ". (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) " مَا" زَائِدَةٌ.
وقيل: تكون مع الفعل مصدرا.
[سورة الأعراف (7): الآيات 4 الى 5]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً
أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ
بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) "
كَمْ" لِلتَّكْثِيرِ، كَمَا أَنَّ" رُبَّ" لِلتَّقْلِيلِ.
وَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَ" أَهْلَكْنَا"
الْخَبَرُ. أَيْ وَكَثِيرٌ مِنَ الْقُرَى- وَهِيَ مَوَاضِعُ
اجْتِمَاعِ النَّاسِ- أَهْلَكْنَاهَا. وَيَجُوزُ النَّصْبُ
بِإِضْمَارِ فِعْلٍ بَعْدَهَا، وَلَا يُقَدَّرُ قَبْلَهَا،
لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ.
وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ قَوْلُهُ:" وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ «1» " وَلَوْلَا اشْتِغَالُ"
أَهْلَكْنا" بِالضَّمِيرِ لَانْتَصَبَ بِهِ مَوْضِعُ" كَمْ".
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" أَهْلَكْنَا" صِفَةً لِلْقَرْيَةِ،
وَ" كَمْ" فِي الْمَعْنَى هِيَ الْقَرْيَةُ، فَإِذَا وَصَفْتَ
الْقَرْيَةَ فَكَأَنَّكَ قَدْ وَصَفْتَ كَمْ. يَدُلُّ عَلَى
ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي
السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً" فَعَادَ
الضَّمِيرُ عَلَى" كَمْ". عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ كَانَتِ
الْمَلَائِكَةُ فِي الْمَعْنَى. فَلَا يَصِحُّ عَلَى هَذَا
التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ" كَمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
بِإِضْمَارِ فِعْلٍ بَعْدَهَا." فَجاءَها بَأْسُنا" فِيهِ
إِشْكَالٌ لِلْعَطْفِ بِالْفَاءِ. فَقَالَ الْفَرَّاءُ:
الْفَاءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَلَا يَلْزَمُ التَّرْتِيبُ.
وَقِيلَ: أَيْ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا
فَجَاءَهَا بَأْسُنَا، كَقَوْلِهِ:" فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ
«2» ". وَقِيلَ: إن
__________
(1). راجع ج 10 ص 235 وص 174.
(2). راجع ج 17 ص 103.
(7/162)
الْهَلَاكَ. وَاقِعٌ بِبَعْضِ الْقَوْمِ،
فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَا
بَعْضَهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَا الْجَمِيعَ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فِي
حُكْمِنَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا. وَقِيلَ: أَهْلَكْنَاهَا
بِإِرْسَالِنَا مَلَائِكَةَ الْعَذَابِ إِلَيْهَا، فَجَاءَهَا
بَأْسُنَا وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ. وَالْبَأْسُ، الْعَذَابُ
الْآتِي عَلَى النَّفْسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَهْلَكْنَاهَا
فَكَانَ إِهْلَاكُنَا إِيَّاهُمْ فِي وَقْتِ كَذَا، فَمَجِيءُ
الْبَأْسِ عَلَى هَذَا هُوَ الْإِهْلَاكُ. وَقِيلَ: الْبَأْسُ
غَيْرُ الْإِهْلَاكِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَحَكَى الْفَرَّاءُ
أَيْضًا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا
أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْتَ أَيُّهُمَا شِئْتَ، فَيَكُونُ
الْمَعْنَى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ جَاءَهَا بَأْسُنَا
فَأَهْلَكْنَاهَا، مِثْلُ دَنَا فَقَرُبَ، وَقَرُبَ فَدَنَا،
وَشَتَمَنِي فَأَسَاءَ، وَأَسَاءَ فَشَتَمَنِي، لأن الإساءة
والشتم شي وَاحِدٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:" اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «1» ". الْمَعْنَى- وَاللَّهُ
أَعْلَمُ- انْشَقَّ الْقَمَرُ فَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ.
وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ." بَياتاً" أَيْ لَيْلًا، وَمِنْهُ
الْبَيْتُ، لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ. يُقَالُ: بَاتَ يَبِيتُ
بَيْتًا وبياتا. أوهم قائلون أي" أَوْ هُمْ قائِلُونَ" أَيْ
أَوْ وَهُمْ قَائِلُونَ، فَاسْتَثْقَلُوا فَحَذَفُوا الْوَاوَ،
قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ،
إِذَا عَادَ الذِّكْرُ اسْتُغْنِيَ عَنِ الْوَاوِ، تَقُولُ:
جَاءَنِي زَيْدٌ رَاكِبًا أَوْ هُوَ مَاشٍ، وَلَا يُحْتَاجُ
إِلَى الْوَاوِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَلَمْ يَقُلْ بَيَاتًا
أَوْ وَهُمْ قَائِلُونَ لِأَنَّ فِي الْجُمْلَةِ ضَمِيرًا
يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ فَاسْتُغْنِيَ عَنِ الْوَاوِ.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ أَوْ
لِلشَّكِّ بَلْ لِلتَّفْصِيلِ، كَقَوْلِكَ: لَأُكْرِمَنَّكَ
مُنْصِفًا لِي أَوْ ظَالِمًا. وَهَذِهِ الْوَاوُ تُسَمَّى
عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ وَاوُ الْوَقْتِ. وَ" قائِلُونَ" مِنَ
الْقَائِلَةِ وَهِيَ الْقَيْلُولَةُ، وَهِيَ نَوْمُ نِصْفِ
النَّهَارِ وَقِيلَ: الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفُ النَّهَارِ إِذَا
اشْتَدَّ الْحَرُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نَوْمٌ.
وَالْمَعْنَى جَاءَهُمْ عَذَابُنَا وَهُمْ غَافِلُونَ إِمَّا
لَيْلًا وَإِمَّا نَهَارًا. وَالدَّعْوَى الدُّعَاءُ، وَمِنْهُ
قَوْلُ:" وَآخِرُ دَعْواهُمْ «2» ". وَحَكَى النَّحْوِيُّونَ:
اللَّهُمَّ أَشْرِكْنَا فِي صَالِحِ دَعْوَى مَنْ دَعَاكَ.
وَقَدْ تَكُونُ الدَّعْوَى بِمَعْنَى الِادِّعَاءِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يُخْلِصُوا عِنْدَ الْإِهْلَاكِ
إِلَّا عَلَى الإقرار بأنهم كانوا ظالمين." دَعْواهُمْ" فِي
مَوْضِعِ نَصْبِ خَبَرِ كَانَ، وَاسْمُهَا" إِلَّا أَنْ
قالُوا". نَظِيرُهُ (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ
قالُوا «3»
__________
(1). راجع ج 17 ص 125.
(2). راجع ج 8 ص 313.
(3). راجع ج 13 ص 219.
(7/163)
فَلَنَسْأَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ
(6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا
غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى
رَفْعًا، وَ" أَنْ قالُوا" نَصْبًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:"
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا «1» " بِرَفْعِ" الْبِرَّ"
وَقَوْلِهِ:" ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى
أَنْ كَذَّبُوا «2» " برفع" عاقبة".
[سورة الأعراف (7): الآيات 6 الى 7]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ
وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ
بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7)
قوله تعالى: (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ)
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُحَاسَبُونَ. وَفِي
التَّنْزِيلِ" ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا «3» حِسابَهُمْ". وفي سورة
القصص" وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ «4» "
يَعْنِي إِذَا اسْتَقَرُّوا فِي الْعَذَابِ. وَالْآخِرَةُ
مَوَاطِنُ: مَوْطِنٌ يُسْأَلُونَ فِيهِ لِلْحِسَابِ.
وَمَوْطِنٌ لَا يُسْأَلُونَ فِيهِ. وَسُؤَالُهُمْ تَقْرِيرٌ
وَتَوْبِيخٌ وَإِفْضَاحٌ. وَسُؤَالُ الرُّسُلِ سُؤَالُ
اسْتِشْهَادٍ بِهِمْ وَإِفْصَاحٍ، أَيْ عَنْ جَوَابِ الْقَوْمِ
لَهُمْ. وَهُوَ مَعْنَى قوله:" لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ
صِدْقِهِمْ «5» " عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: المعنى"
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ" أي الأنبياء"
وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ" أَيِ الْمَلَائِكَةَ
الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ. وَاللَّامُ في"
فَلَنَسْئَلَنَّ" لام القسم وحقيقتها التوكيد. كذا
(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَنْطِقُ عَلَيْهِمْ «6». (وَما كُنَّا غائِبِينَ) أَيْ كُنَّا
شَاهِدِينَ لِأَعْمَالِهِمْ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى عالم بعلم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 8 الى 9]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما
كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" الْحَقُّ"
نَعْتَهُ، وَالْخَبَرُ" يَوْمَئِذٍ". وَيَجُوزُ نَصْبُ"
الْحَقِّ" عَلَى الْمَصْدَرِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَزْنِ وَزْنُ
أعمال العباد
__________
(1). راجع ج 2 ص 237.
(2). راجع ج 14 ص 9 وص 129.
(3). راجع ج 20 ص 37.
(4). راجع ج 13 ص 315.
(5). راجع ج 14 ص 9 وص 129.
(6). عبارة الطبري:" ينطق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم.
(7/164)
بِالْمِيزَانِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ:
تُوزَنُ صَحَائِفُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ. وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ عَلَى مَا
يَأْتِي. وَقِيلَ: الْمِيزَانُ الْكِتَابُ الَّذِي فِيهِ
أَعْمَالُ الْخَلْقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمِيزَانُ
الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ بِأَعْيَانِهَا. وَعَنْهُ
أَيْضًا وَالضَّحَّاكِ وَالْأَعْمَشِ: الْوَزْنُ وَالْمِيزَانُ
بِمَعْنَى الْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ، وَذِكْرُ الْوَزْنِ ضَرْبُ
مَثَلٍ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ فِي وَزْنِ هَذَا
وَفِي وِزَانِهِ، أَيْ يُعَادِلُهُ وَيُسَاوِيهِ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ هُنَاكَ وَزْنٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا سَائِغٌ مِنْ
جِهَةِ اللِّسَانِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ مَا جَاءَ فِي
الْأَسَانِيدِ الصِّحَاحِ مِنْ ذِكْرِ الْمِيزَانِ. قَالَ
الْقُشَيْرِيُّ: وَقَدْ أَحْسَنَ فِيمَا قَالَ، إِذْ لَوْ
حُمِلَ الْمِيزَانُ عَلَى هذا فليحمل الصراط على الذين
الْحَقِّ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ عَلَى مَا يَرِدُ عَلَى
الْأَرْوَاحِ دُونَ الْأَجْسَادِ، وَالشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ
عَلَى الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ عَلَى
الْقُوَى الْمَحْمُودَةِ. وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ فِي
الصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَخْذِ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ
مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ
التَّأْوِيلِ وَجَبَ الْأَخْذُ بِالظَّاهِرِ، وَصَارَتْ هَذِهِ
الظَّوَاهِرُ نُصُوصًا. قَالَ ابْنُ فُورَكَ: وَقَدْ
أَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ «1» الْمِيزَانَ بِنَاءً مِنْهُمْ
عَلَى أَنَّ الْأَعْرَاضَ يَسْتَحِيلُ وَزْنُهَا، إِذْ لَا
تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا. وَمِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ
يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْلِبُ الْأَعْرَاضَ
أَجْسَامًا فَيَزِنُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا لَيْسَ
بِصَحِيحٍ عِنْدَنَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوَازِينَ
تَثْقُلُ بِالْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا الْأَعْمَالُ
مَكْتُوبَةٌ، وَبِهَا تَخِفُّ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ
مَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ رُوِيَ (أَنَّ مِيزَانَ
بَعْضِ بَنِي آدَمَ كَادَ يَخِفُّ بِالْحَسَنَاتِ فَيُوضَعُ
فِيهِ رَقٌّ مَكْتُوبٌ فِيهِ" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"
فَيَثْقُلُ). فَقَدْ علم أن لك يَرْجِعُ إِلَى وَزْنِ مَا
كُتِبَ فِيهِ الْأَعْمَالُ لَا نَفْسَ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُخَفِّفُ الْمِيزَانَ إِذَا أَرَادَ،
وَيُثَقِّلُهُ إِذَا أَرَادَ بِمَا يُوضَعُ فِي كِفَّتَيْهِ
مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي فِيهَا الْأَعْمَالُ. وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ
لِابْنِ عُمَرَ: كَيْفَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْوَى «2»؟ قَالَ
سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (يُدْنَى الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقْرِرُهُ
بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ
أَعْرِفُ قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي
الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى
صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ
فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ كَذَبُوا على الله (. فقوله:) فيعطى صحيفة حسناته)
__________
(1). في ز: الإمامية. [ ..... ]
(2). يريد مناجاة الله تعالى للعبد يوم القيامة.
(7/165)
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ تُكْتَبُ
فِي الصُّحُفِ وَتُوزَنُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ
أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ
فَيُنْشَرُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا كُلُّ
سِجِلٍّ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا فَيَقُولُ لَا
يَا رَبِّ فَيَقُولُ أَظْلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ
فَيَقُولُ لَا ثُمَّ يَقُولُ أَلَكَ عُذْرٌ أَلَكَ حَسَنَةٌ
فَيَهَابُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ لَا فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ
عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ
فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ
السِّجِلَّاتِ فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ فَتُوضَعُ
السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ
فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ (. زَادَ
التِّرْمِذِيُّ (فَلَا يَثْقُلُ مع اسم الله شي) وَقَالَ:
حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَابِ مَزِيدُ
بَيَانٍ فِي" الْكَهْفِ «1» وَالْأَنْبِيَاءِ «2» " إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما
كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ"" مَوازِينُهُ" جَمْعُ مِيزَانٍ،
وَأَصْلُهُ مِوْزَانٌ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا
قَبْلَهَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَوَازِينُ
لِلْعَامِلِ الْوَاحِدِ يُوزَنُ بِكُلِ مِيزَانٍ مِنْهَا
صِنْفٌ مِنْ أَعْمَالِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
مِيزَانًا وَاحِدًا عُبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، كَمَا
تَقُولُ: خَرَجَ فُلَانٌ إِلَى مَكَّةَ عَلَى الْبِغَالِ،
وَخَرَجَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي السُّفُنِ. وَفِي
التَّنْزِيلِ:" كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ"."
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ «3» ". وَإِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ
وَاحِدٌ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. وَقِيلَ: الْمَوَازِينُ
جَمْعُ مَوْزُونٍ، لَا جَمْعُ مِيزَانٍ. أَرَادَ
بِالْمَوَازِينِ الْأَعْمَالَ الْمَوْزُونَةَ." وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ" مثله. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: تُوزَنُ الْحَسَنَاتُ
وَالسَّيِّئَاتُ فِي مِيزَانٍ له لسان كفتان، فَأَمَّا
الْمُؤْمِنُ فَيُؤْتَى بِعَمَلِهِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ
فَيُوضَعُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ فَتَثْقُلُ حَسَنَاتُهُ
عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:" فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" وَيُؤْتَى
بِعَمَلِ الْكَافِرِ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ فَيُوضَعُ فِي
كِفَّةِ الْمِيزَانِ فَيَخِفُّ وَزْنُهُ حَتَّى يَقَعَ فِي
النَّارِ. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
__________
(1). راجع ج 11 ص 66 وص 293.
(2). راجع ج 13 ص 118 وص 122.
(3). راجع ج 13 ص 118 وص 122.
(7/166)
وَلَقَدْ
مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا
مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
ابْنُ عَبَّاسٍ قَرِيبٌ مِمَّا قِيلَ:
يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَعْمَالِ
الْعِبَادِ جَوْهَرًا فَيَقَعُ الْوَزْنُ عَلَى تِلْكَ
الْجَوَاهِرِ. وَرَدَّهُ ابْنُ فُورَكَ وَغَيْرُهُ. وَفِي
الْخَبَرِ (إِذَا خَفَّتْ حَسَنَاتُ المؤمن أخرج رسول الله صل
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاقَةً كَالْأُنْمُلَةِ
فَيُلْقِيهَا فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ الْيُمْنَى الَّتِي
فِيهَا حَسَنَاتُهُ فَتَرْجَحُ الْحَسَنَاتُ فَيَقُولُ ذَلِكَ
الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! مَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ
وَمَا أَحْسَنَ خَلْقَكَ فَمَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ أَنَا
مُحَمَّدٌ نَبِيُّكَ وَهَذِهِ صَلَوَاتُكَ الَّتِي كُنْتَ
تُصَلِّي عَلَيَّ قَدْ وَفَّيْتُكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ
إِلَيْهَا (. ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَذَكَرَ أَنَّ الْبِطَاقَةَ (بِكَسْرِ الْبَاءِ) رُقْعَةٌ
فِيهَا رَقْمُ الْمَتَاعِ بِلُغَةِ. أَهْلِ مِصْرَ. وَقَالَ
ابْنُ مَاجَهْ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: الْبِطَاقَةُ
الرُّقْعَةُ، وَأَهْلُ مِصْرَ يَقُولُونَ لِلرُّقْعَةِ
بِطَاقَةٌ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: صَاحِبُ الْمَوَازِينِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى: (يَا جِبْرِيلُ زِنْ بَيْنَهُمْ فَرُدَّ مِنْ بَعْضٍ
عَلَى بَعْضٍ). قَالَ: وَلَيْسَ ثَمَّ ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ،
فَإِنْ كَانَ لِلظَّالِمِ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ
فَرُدَّ عَلَى الْمَظْلُومِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ
حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَتُحْمَلُ
عَلَى الظَّالِمِ، فَيَرْجِعُ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ مِثْلُ
الْجِبَالِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَا آدَمُ ابْرُزْ إِلَى جَانِبِ الْكُرْسِيِّ
عِنْدَ الْمِيزَانِ وَانْظُرْ مَا يُرْفَعُ إِلَيْكَ مِنْ
أَعْمَالِ بَنِيكَ فَمَنْ رَجَحَ خَيْرُهُ عَلَى شَرِّهِ
مِثْقَالَ حَبَّةٍ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ رَجَحَ شَرُّهُ
عَلَى خَيْرِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ فَلَهُ النَّارُ حَتَّى تعلم
أني لا أعذب إلا ظالما).
[سورة الأعراف (7): آية 10]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها
مَعايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (10)
أَيْ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ قَرَارًا وَمِهَادًا، وَهَيَّأْنَا
لَكُمْ فِيهَا أَسْبَابَ الْمَعِيشَةِ. وَالْمَعَايِشُ جَمْعُ
مَعِيشَةٍ، أَيْ مَا يُتَعَيَّشُ بِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ
وَالْمَشْرَبِ وَمَا تَكُونُ بِهِ الْحَيَاةُ. يُقَالُ: عَاشَ
يَعِيشُ عَيْشًا وَمَعَاشًا وَمَعِيشًا وَمَعِيشَةً وَعِيشَةً.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعِيشَةُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى
الْعَيْشِ. وَمَعِيشَةٌ فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ وَكَثِيرٍ من
النحويين مفعلة. وقرا الأعرج:" معايش" بِالْهَمْزِ. وَكَذَا
رَوَى خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ نَافِعٍ. قَالَ
النَّحَّاسُ: وَالْهَمْزُ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ
الْوَاحِدَةَ مَعِيشَةٌ، أَصْلُهَا مَعِيشَةٌ، فَزِيدَتْ
أَلِفُ الْوَصْلِ وَهِيَ سَاكِنَةٌ وَالْيَاءُ سَاكِنَةٌ،
فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيكٍ إِذْ لَا سَبِيلَ
(7/167)
وَلَقَدْ
خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
إِلَى الْحَذْفِ، وَالْأَلِفُ لَا
تُحَرَّكُ فَحُرِّكَتِ الْيَاءُ بِمَا كَانَ يَجِبُ لَهَا فِي
الْوَاحِدِ. وَنَظِيرُهُ من الواو مناور وَمَنَاوِرُ،
وَمَقَامٌ وَمَقَاوِمُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَقَوَّامٌ مَقَاوِمَ لَمْ يَكُنْ ... جَرِيرٌ وَلَا
مَوْلَى جَرِيرٍ يَقُومُهَا
وَكَذَا مُصِيبَةٌ وَمَصَاوِبُ. هَذَا الْجَيِّدُ، وَلُغَةٌ
شَاذَّةٌ مَصَائِبُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا جَازَ
مَصَائِبُ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ مُعْتَلَّةٌ. قَالَ
الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ يَلْزَمُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ
مَقَائِمُ. وَلَكِنَّ الْقَوْلَ أَنَّهُ مِثْلُ وِسَادَةٍ
وَإِسَادَةٍ. وَقِيلَ: لَمْ يَجُزِ الْهَمْزُ فِي مَعَايِشَ
لِأَنَّ الْمَعِيشَةَ مَفْعَلَةٌ، فَالْيَاءُ أَصْلِيَّةٌ،
وَإِنَّمَا يُهْمَزُ إِذَا كَانَتِ الْيَاءُ زَائِدَةً مِثْلَ
مَدِينَةٍ وَمَدَائِنُ، وَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفُ، وَكَرِيمَةٍ
وكرائم، ووظيفة ووظائف، وشبهه.
[سورة الأعراف (7): آية 11]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ
لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْناكُمْ) لَمَّا ذَكَرَ نِعَمَهُ ذَكَرَ ابْتِدَاءَ
خَلْقِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْخَلْقِ «1» فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ." ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ" أَيْ خَلَقْنَاكُمْ نُطَفًا
ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ، ثُمَّ إِنَّا نُخْبِرُكُمْ أَنَّا
قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا: الْمَعْنَى خَلَقْنَا
آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي ظَهْرِهِ. وَقَالَ
الْأَخْفَشُ:" ثُمَّ" بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى" وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ،
ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ، عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
وَقِيلَ:" وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" يَعْنِي آدَمَ، ذُكِرَ
بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ." ثُمَّ
صَوَّرْناكُمْ" رَاجِعٌ إِلَيْهِ أَيْضًا. كَمَا يُقَالُ:
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ، أَيْ قَتَلْنَا سَيِّدَكُمْ." ثُمَّ
قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ" وَعَلَى هَذَا لَا
تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ، يُرِيدُ آدَمَ
وَحَوَّاءَ، فَآدَمُ مِنَ التُّرَابِ وَحَوَّاءُ مِنْ ضِلَعٍ
مِنْ أَضْلَاعِهِ، ثُمَّ وَقَعَ التَّصْوِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا أَبَوَيْكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاهُمَا، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
خَلَقْنَاكُمْ في ظهر آدم
__________
(1). راجع ج 1 ص 226، 251.
(7/168)
قَالَ مَا مَنَعَكَ
أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ حِينَ أَخَذْنَا
عَلَيْكُمُ الْمِيثَاقَ. هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، رَوَاهُ
عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ. قَالَ
النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ. يَذْهَبُ
مُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّهُ خَلَقَهُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ، ثُمَّ
صَوَّرَهُمْ حِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، ثُمَّ كَانَ
السُّجُودُ بَعْدُ. وَيُقَوِّي هَذَا" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ
مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ «1» ذُرِّيَّتَهُمْ".
وَالْحَدِيثُ (أَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ أَمْثَالَ الذَّرِّ
فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ). وَقِيلَ:" ثُمَّ"
لِلْإِخْبَارِ، أَيْ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ يَعْنِي فِي
ظَهْرِ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ أَيْ فِي الْأَرْحَامِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
هَذَا صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: كُلُّ هَذِهِ
الْأَقْوَالِ مُحْتَمَلٌ، وَالصَّحِيحُ مِنْهَا مَا
يُعَضِّدُهُ التَّنْزِيلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «2» " يَعْنِي
آدَمَ. وَقَالَ:" وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها
«3» ". ثُمَّ قَالَ:" جَعَلْناهُ" أَيْ جَعَلْنَا نَسْلَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ" نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ" الْآيَةَ «4».
فَآدَمُ خُلِقَ مِنْ طِينٍ ثم صور وأكوم بِالسُّجُودِ،
وَذُرِّيَّتُهُ صُوِّرُوا فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ بَعْدَ
أَنْ خُلِقُوا فِيهَا وَفِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ «5» أَنَّ كُلَّ
إِنْسَانٍ مَخْلُوقٌ مِنْ نُطْفَةٍ وَتُرْبَةٍ، فَتَأَمَّلْهُ
وَقَالَ هُنَا:" خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ" وَقَالَ
فِي آخِرِ الْحَشْرِ:" هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ
الْمُصَوِّرُ «6» ". فَذَكَرَ التَّصْوِيرَ بَعْدَ الْبَرْءِ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقِيلَ: مَعْنَى" وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" أَيْ خَلْقنَا
الْأَرْوَاحَ أَوَّلًا ثُمَّ صَوَّرْنَا الْأَشْبَاحَ آخِرًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ
السَّاجِدِينَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَقِيلَ:
مِنَ الْجِنْسِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ كَانَ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا. كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ في
البقرة «7».
[سورة الأعراف (7): آية 12]
قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
(12)
__________
(1). راجع ص 313 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 12 ص 108.
(3). راجع ج د ص 1.
(4). راجع ج 12 ص 108.
(5). راجع ج 6 ص 388.
(6). راجع ج 18 ص 48.
(7). راجع ج 1 ص 29.
(7/169)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا مَنَعَكَ) " مَا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ
بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ أي شي مَنَعَكَ. وَهَذَا سُؤَالُ
تَوْبِيخٍ. أَلَّا تَسْجُدَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ مِنْ
أَنْ تَسْجُدَ. وَ" لَا" زَائِدَةٌ. وَفِي ص" مَا مَنَعَكَ
أَنْ تَسْجُدَ «1» " وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَى جُودُهُ لَا الْبُخْلُ فَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ ... نَعَمْ
مِنْ فَتًى لَا يَمْنَعُ الْجُودَ نَائِلُهُ
أَرَادَ أَبَى جُودَهُ الْبُخْلُ، فَزَادَ" لَا". وَقِيلَ:
لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، فَإِنَّ الْمَنْعَ فِيهِ طَرَفٌ مِنَ
الْقَوْلِ وَالدُّعَاءِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ لَكَ
أَلَّا تَسْجُدَ؟ أَوْ مَنْ دَعَاكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ؟
كَمَا تَقُولُ: قَدْ قُلْتُ لَكَ أَلَّا تَفْعَلَ كَذَا.
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا مَنَعَكَ
مِنَ الطَّاعَةِ وَأَحْوَجَكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ. قَالَ
الْعُلَمَاءُ: الَّذِي أَحْوَجَهُ إِلَى تَرْكِ السُّجُودِ
هُوَ الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ، وَكَانَ أَضْمَرَ ذَلِكَ فِي
نَفْسِهِ إِذَا أُمِرَ بِذَلِكَ. وَكَانَ أَمَرَهُ مِنْ قَبْلِ
خَلْقِ آدَمَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنِّي خالِقٌ
بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ
رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «2» ". فَكَأَنَّهُ دَخَلَهُ
أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ قَوْلِهِ" فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ".
فَإِنَّ فِي الْوُقُوعِ تَوْضِيعَ الْوَاقِعِ وَتَشْرِيفًا
لِمَنْ وَقَعَ لَهُ، فَأَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ أَلَّا يَسْجُدَ
إِذَا أَمَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ
الرُّوحَ وَقَعَتِ الْمَلَائِكَةُ سُجَّدًا، وَبَقِيَ هُوَ
قَائِمًا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَأَظْهَرَ بِقِيَامِهِ
وَتَرْكِ السُّجُودِ مَا فِي ضَمِيرِهِ. فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ" أَيْ مَا مَنَعَكَ
مِنَ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِي، فَأَخْرَجَ سِرَّ ضَمِيرِهِ
فَقَالَ:" أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ". الثَّانِيَةُ- قوله تعالى:
(إِذْ أَمَرْتُكَ) يدل علما يَقُولُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَنَّ
الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بِمُطْلَقِهِ مِنْ غَيْرِ
قَرِينَةٍ، لِأَنَّ الذَّمَّ عُلِّقَ عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ
الْمُطْلَقِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ
لِلْمَلَائِكَةِ:" اسْجُدُوا لِآدَمَ" وَهَذَا بَيِّنٌ.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)
أَيْ مَنَعَنِي مِنَ السُّجُودِ فَضْلِي عَلَيْهِ، فَهَذَا
مِنْ إِبْلِيسَ جَوَابٌ عَلَى الْمَعْنَى. كَمَا تَقُولُ: لمن
هذه الدار؟ فيقول المخاطب: مالكها
__________
(1). راجع ج 15 ص 228 وص 227.
(2). راجع ج 15 ص 228 وص 227. [ ..... ]
(7/170)
زَيْدٌ. فَلَيْسَ هَذَا عَيْنَ الْجَوَابِ،
بَلْ هُوَ كَلَامٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْجَوَابِ.
(خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فَرَأَى
أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ، لِعُلُوِّهَا
وَصُعُودِهَا وَخِفَّتِهَا، وَلِأَنَّهَا جَوْهَرٌ مُضِيءٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: أَوَّلُ
مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ فَأَخْطَأَ الْقِيَاسَ. فمن قاس الدين
برأيه قرنه مَعَ إِبْلِيسَ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَمَا
عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ.
وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ: أَخْطَأَ عَدُوُّ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ
فَضَّلَ النَّارَ عَلَى الطِّينِ، وَإِنْ كَانَا فِي دَرَجَةٍ
وَاحِدَةٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ جَمَادٌ مَخْلُوقٌ. فَإِنَّ
الطِّينَ أَفْضَلُ مِنَ النَّارِ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ:
أَحَدُهَا- أَنَّ مِنْ جَوْهَرِ الطِّينِ الرَّزَانَةَ
وَالسُّكُونَ، وَالْوَقَارَ وَالْأَنَاةَ، وَالْحِلْمَ،
وَالْحَيَاءَ، وَالصَّبْرَ. وَذَلِكَ هُوَ الدَّاعِي لِآدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ السَّعَادَةِ الَّتِي سَبَقَتْ
لَهُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّضَرُّعِ،
فَأَوْرَثَهُ الْمَغْفِرَةَ وَالِاجْتِبَاءَ وَالْهِدَايَةَ.
وَمِنْ جَوْهَرِ النَّارِ الْخِفَّةُ، وَالطَّيْشُ،
وَالْحِدَّةُ، وَالِارْتِفَاعُ، وَالِاضْطِرَابُ. وَذَلِكَ
هُوَ الدَّاعِي لِإِبْلِيسَ بَعْدَ الشَّقَاوَةِ الَّتِي
سَبَقَتْ لَهُ إِلَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْإِصْرَارِ، فأورثه
الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء، قال الْقَفَّالُ. الثَّانِي-
أَنَّ الْخَبَرَ نَاطِقٌ بِأَنَّ تُرَابَ الْجَنَّةِ مِسْكٌ
أَذْفَرُ، وَلَمْ يَنْطِقِ الْخَبَرُ بِأَنَّ فِي الْجَنَّةِ
نَارًا وَأَنَّ فِي النَّارِ تُرَابًا. الثَّالِثُ- أَنَّ
النَّارَ سَبَبُ الْعَذَابِ، وَهِيَ عَذَابُ اللَّهِ
لِأَعْدَائِهِ، وَلَيْسَ التُّرَابُ سَبَبًا لِلْعَذَابِ.
الرَّابِعُ- أَنَّ الطِّينَ مُسْتَغْنٍ عَنِ النَّارِ،
وَالنَّارَ مُحْتَاجَةٌ إلى المكان ومكانها التراب. قلت-
ومحتمل قَوْلًا خَامِسًا وَهُوَ أَنَّ التُّرَابَ مَسْجِدٌ
وَطَهُورٌ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ. وَالنَّارُ
تَخْوِيفٌ وَعَذَابٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" ذلِكَ يُخَوِّفُ
اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ «1» ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ
الطَّاعَةُ أَوْلَى بِإِبْلِيسَ مِنَ الْقِيَاسِ فَعَصَى
رَبَّهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ بِرَأْيِهِ. وَالْقِيَاسُ
فِي مُخَالَفَةِ النَّصِّ مَرْدُودٌ. الرَّابِعَةُ-
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْقِيَاسِ إِلَى قَائِلٍ بِهِ،
وَرَادٍّ لَهُ، فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِهِ فَهُمُ
الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَجُمْهُورُ مَنْ بَعْدَهُمْ،
وَأَنَّ التَّعَبُّدَ بِهِ جَائِزٌ عَقْلًا وَاقِعٌ شَرْعًا،
وهو الصحيح.
__________
(1). راجع ج 15 ص 243.
(7/171)
وذهب القفال من الشافعية وأبو الحسين
الْبَصْرِيِّ إِلَى وُجُوبِ التَّعَبُّدِ بِهِ عَقْلًا.
وَذَهَبَ النَّظَّامُ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ التَّعَبُّدُ
بِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَرَدَّهُ بَعْضُ أَهْلُ الظَّاهِرِ.
وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي (كِتَابِ
الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ): الْمَعْنَى لَا
عِصْمَةَ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ
نَبِيِّهِ أَوْ فِي إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ إِذَا وُجِدَ
فِيهَا الْحُكْمُ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَالْقِيَاسُ. وَقَدْ
تَرْجَمَ عَلَى هَذَا (بَابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا
بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بين الله حكمها لِيُفْهِمَ
السَّائِلَ). وَتَرْجَمَ بَعْدَ هَذَا (بَابُ الْأَحْكَامِ
الَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّلَائِلِ وَكَيْفَ مَعْنَى
الدَّلَالَةِ وَتَفْسِيرِهَا). وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:
الِاجْتِهَادُ وَالِاسْتِنْبَاطُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ هُوَ الْحَقُّ الْوَاجِبُ، وَالْفَرْضُ
اللَّازِمُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِذَلِكَ جَاءَتِ
الْأَخْبَارِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَعَنْ جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الْمَالِكِيُّ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ
عَلَى الْقِيَاسِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى
قِيَاسِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فِي الزَّكَاةِ. وَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: أَقِيلُونِي بَيْعَتِي. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ
لَا نُقِيلُكَ وَلَا نَسْتَقِيلُكَ، رَضِيَكَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا أَفَلَا
نَرْضَاكَ لِدُنْيَانَا؟ فَقَاسَ الْإِمَامَةَ عَلَى
الصَّلَاةِ. وَقَاسَ الصِّدِّيقُ الزَّكَاةَ عَلَى الصَّلَاةِ
وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ.
وَصَرَّحَ عَلِيٌّ بِالْقِيَاسِ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ
بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا سَكِرَ
هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَحَدُّهُ حَدُ الْقَاذِفِ.
وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ كتابا فيه:
الْفَهْمَ فِيمَا يَخْتَلِجُ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَمْ
يَبْلُغْكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، اعْرِفِ الْأَمْثَالَ
وَالْأَشْبَاهَ، ثُمَّ قِسِ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ،
فَاعْمِدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى. الْحَدِيثُ بِطُولِهِ
ذَكَرَهُ الدَّارقُطْنِيُّ. وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ
لِعُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ «1» عَنْهُمَا) فِي حَدِيثِ
الْوَبَاءِ، حِينَ رَجَعَ عُمَرُ مِنْ سَرْغَ «2»: نَفِرُّ
مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ! نَفِرُّ مِنْ
قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ
عُمَرُ: أَرَأَيْتَ «3» ... فَقَايَسَهُ وَنَاظَرَهُ بِمَا
يُشْبِهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِ بِمَحْضَرِ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ، وَحَسْبُكَ. وَأَمَّا الْآثَارُ وَآيُ
الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَكَثِيرٌ. وَهُوَ يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ،
وَعِصْمَةٌ مِنْ عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ، يَرْجِعُ إِلَيْهِ
الْمُجْتَهِدُونَ، وَيَفْزَعُ إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ العاملون،
فيستنبطون
__________
(1). من ع.
(2). موضع قرب الشام بين المغيثة وتبوك.
(3). راجع الموطأ:" باب ما جاء في الطاعون".
(7/172)
قَالَ فَاهْبِطْ
مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ
إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
(15)
بِهِ الْأَحْكَامَ. وَهَذَا قَوْلُ
الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ هُمُ الْحُجَّةُ، وَلَا يُلْتَفَتُ
إِلَى مَنْ شَذَّ عَنْهَا. وَأَمَّا الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ
وَالْقِيَاسُ الْمُتَكَلَّفُ «1» الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَهُوَ
مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ المذكورة، لأن ذلك ظن
و «2» نزغ مِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «3» ". وَكُلُّ مَا
يُورِدُهُ الْمُخَالِفُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ
وَالْأَخْبَارِ الْوَاهِيَةِ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ فَهِيَ
مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِيَاسِ
الْمَذْمُومِ، الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ
مَعْلُومٌ. وَتَتْمِيمُ هَذَا الْبَابِ في كتب الأصول.
[سورة الأعراف (7): آية 13]
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ
فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) أَيْ مِنَ
السَّمَاءِ. (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا
لِأَنَّ أَهْلَهَا الْمَلَائِكَةُ الْمُتَوَاضِعُونَ.)
فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيْ مِنَ
الْأَذَلِّينَ. وَدَلَّ هَذَا أَنَّ مَنْ عَصَى مَوْلَاهُ
فَهُوَ ذَلِيلٌ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ وَالْبَجَلِيُّ:"
فَاهْبِطْ مِنْها" أَيْ مِنْ صُورَتِكَ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا،
لِأَنَّهُ افْتَخَرَ بِأَنَّهُ مِنَ النَّارِ فَشُوِّهَتْ
صُورَتُهُ بِالْإِظْلَامِ وَزَوَالِ إِشْرَاقِهِ. وَقِيلَ:"
فَاهْبِطْ مِنْها" أَيِ انْتَقِلْ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى
جَزَائِرِ الْبِحَارِ، كَمَا يُقَالُ: هَبَطْنَا أَرْضَ كَذَا
أَيِ انْتَقَلْنَا إِلَيْهَا مِنْ مَكَانٍ آخَرَ، فَكَأَنَّهُ
أُخْرِجَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى جَزَائِرِ الْبِحَارِ
فَسُلْطَانُهُ فِيهَا، فَلَا يَدْخُلُ الْأَرْضَ إِلَّا
كَهَيْئَةِ السَّارِقِ «4» يَخَافُ فِيهَا حَتَّى يَخْرُجَ
مِنْهَا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وقد تقدم في البقرة
«5».
[سورة الأعراف (7): الآيات 14 الى 15]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ
مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
سَأَلَ النَّظِرَةَ وَالْإِمْهَالَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ
وَالْحِسَابِ. طَلَبَ أَلَّا يَمُوتَ لِأَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ
لَا مَوْتَ بَعْدَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وغيرها:
__________
(1). في ع: المشكل.
(2). في ع: وغرور. وفى ب: نغز. وهو الإغراء.
(3). راجع ج 10 ص 257.
(4). في ب: الساري بالياء.
(5). راجع ج 1 ص 327.
(7/173)
قَالَ فَبِمَا
أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
(16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ
خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا
تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
أَنْظَرَهُ إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى
حَيْثُ يَمُوتُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ. وَكَانَ طَلَبَ
الْإِنْظَارِ إِلَى النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ حَيْثُ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَبَى اللَّهُ ذَلِكَ
عَلَيْهِ. وَقَالَ:" إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" وَلَمْ يتقدم
مَنْ يُبْعَثُ، لِأَنَّ الْقِصَّةَ فِي آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ،
فدلت القرينة على أنهم هم المبعوثون.
[سورة الأعراف (7): الآيات 16 الى 17]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ
شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَبِما أَغْوَيْتَنِي) الْإِغْوَاءُ إِيقَاعُ الْغَيِّ فِي
الْقَلْبِ، أَيْ فَبِمَا أَوْقَعْتَ فِي قَلْبِي مِنَ الْغَيِّ
وَالْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ. وَهَذَا لِأَنَّ كُفْرَ
إِبْلِيسَ لَيْسَ كُفْرَ جَهْلٍ، بَلْ هُوَ كُفْرُ عِنَادٍ
وَاسْتِكْبَارٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «1». قِيلَ:
مَعْنَى الْكَلَامِ الْقَسَمُ، أَيْ فَبِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى صِرَاطِكَ، أَوْ فِي صِرَاطِكَ،
فَحُذِفَ. دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ فِي (ص):"
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «2» " كأن
إِبْلِيسَ أَعْظَمَ قَدْرَ إِغْوَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِمَا
فِيهِ مِنَ التَّسْلِيطِ عَلَى الْعِبَادِ، فَأَقْسَمَ بِهِ
إِعْظَامًا لِقَدْرِهِ عِنْدَهُ. وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى
اللَّامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ.
وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى مَعَ، وَالْمَعْنَى فَمَعَ
إِغْوَائِكَ إِيَّايَ. وَقِيلَ: هُوَ استفهام، كأنه سأل بأي شي
أَغْوَاهُ؟. وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ:
فَبِمَ أَغْوَيْتِنِي؟. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَبِمَا
أَهْلَكْتِنِي بِلَعْنِكَ إِيَّايَ. وَالْإِغْوَاءُ
الْإِهْلَاكُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ
غَيًّا «3» " أَيْ هَلَاكًا. وَقِيلَ: فَبِمَا أَضْلَلْتَنِي.
وَالْإِغْوَاءُ: الْإِضْلَالُ وَالْإِبْعَادُ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: خَيَّبْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، وَمِنْهُ
قَوْلُ الشَّاعِرِ «4»:
وَمَنْ يَغْوَ لَا يَعْدَمُ عَلَى الْغَيِّ لَائِمًا
__________
(1). راجع ج 1 ص 295.
(2). راجع ج 15 ص 228.
(3). راجع ج 11 ص 125.
(4). هذا عجز بيت للرقش، وصدره كما في اللسان مادة غوى:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
(7/174)
أَيْ مَنْ يَخِبْ. وَقَالَ ابْنُ
الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي «1» غَيًّا
إِذَا فَسَدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، أَوْ فَسَدَ هُوَ فِي
نَفْسِهِ. وَهُوَ أحد معاني قول تَعَالَى:" وَعَصى آدَمُ
رَبَّهُ فَغَوى «2» " أَيْ فَسَدَ عَيْشُهُ فِي الْجَنَّةِ.
وَيُقَالُ: غَوَى الْفَصِيلُ إِذَا لَمْ يَدْرِ لَبَنَ
أُمِّهِ. الثَّانِيَةُ- مَذْهَبُ أَهْلِ السنة أي أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَضَلَّهُ وَخَلَقَ فِيهِ الْكُفْرَ،
وَلِذَلِكَ نَسَبَ الْإِغْوَاءَ فِي هَذَا إِلَى اللَّهِ تعالى
وهو الحقيقة، فلا شي فِي الْوُجُودِ إِلَّا وَهُوَ مَخْلُوقٌ
لَهُ، صَادِرٌ عَنْ إِرَادَتِهِ تَعَالَى. وَخَالَفَ
الْإِمَامِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَغَيْرُهُمَا شَيْخَهُمْ
إِبْلِيسَ الَّذِي طَاوَعُوهُ فِي كُلِّ مَا زَيَّنَهُ لَهُمْ،
وَلَمْ يُطَاوِعُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيَقُولُونَ:
أَخْطَأَ إِبْلِيسُ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلْخَطَأِ حَيْثُ نَسَبَ
الْغَوَايَةَ إِلَى رَبِّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: وَإِبْلِيسُ وَإِنْ كَانَ أَهْلًا
لِلْخَطَأِ فَمَا تَصْنَعُونَ فِي نَبِيٍّ مُكَرَّمٍ
مَعْصُومٍ، وهو ونوح عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ
لِقَوْمِهِ:" وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ
أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ
هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «3» " وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ طَاوُسًا جَاءَهُ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
وَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْقَدَرِ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ
الْكِبَارِ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ طَاوُسٌ: تَقُومُ
أَوْ تُقَامُ؟ فَقِيلَ لِطَاوُسٍ: تَقُولُ هَذَا لِرَجُلٍ
فَقِيهٍ! فَقَالَ: إِبْلِيسُ أَفْقَهُ مِنْهُ، يَقُولُ
إِبْلِيسُ: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي. وَيَقُولُ هَذَا: أَنَا
أَغْوِي نَفْسِي. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
(لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) " أَيْ
بِالصَّدِّ عَنْهُ، وَتَزْيِينِ الْبَاطِلِ حَتَّى يَهْلِكُوا
كَمَا هَلَكَ، أَوْ يَضِلُّوا كَمَا ضَلَّ، أَوْ يَخِيبُوا
كَمَا خُيِّبَ، حسب ما تقدم من المعاني الثلاثة ف"
أَغْوَيْتَنِي". وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الطَّرِيقُ
الْمُوَصِّلُ إِلَى الْجَنَّةِ. وَ" صِراطَكَ" مَنْصُوبٌ عَلَى
حَذْفِ" عَلَى" أَوْ" فِي" مِنْ قَوْلِهِ:" صِراطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ"، كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ" ضَرَبَ زَيْدٌ
الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ". وَأَنْشَدَ:
لَدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فِيهِ كَمَا
عسل الطريق الثعلب «4»
__________
(1). من ج. [ ..... ]
(2). راجع ج 11 ص 255.
(3). راجع ج 9 ص 28.
(4). البيت لساعدة بن جوية. يريد في الطريق. وصف في البيت رمحا
لين الهز فشبه اضطرابه في نفسه أو في حال هزه بعسلان الثعلب في
سيره. والعسل العسلان (بالتحريك): سير سريع في اضطراب. واللدن:
الناعم اللين. (عن شرح الشواهد).
(7/175)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا
مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
ومن أحسن ما قيل في تأويل (ثُمَّ
لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أَيْ
لَأَصُدَّنَّهُمْ «1» عَنِ الْحَقِّ، وَأُرَغِّبَنَّهُمْ فِي
الدُّنْيَا، وَأُشَكِّكُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا غَايَةٌ
فِي الضَّلَالَةِ. كَمَا قَالَ:" وَلَأُضِلَّنَّهُمْ «2» "
حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ:" مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ" مِنْ
دُنْيَاهُمْ." وَمِنْ خَلْفِهِمْ" مِنْ آخِرَتِهِمْ." وَعَنْ
أَيْمانِهِمْ" يَعْنِي حَسَنَاتِهِمْ." وَعَنْ شَمائِلِهِمْ"
يَعْنِي سَيِّئَاتِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ
حَسَنٌ وَشَرْحُهُ: أَنَّ مَعْنَى" ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
" مِنْ دُنْيَاهُمْ، حَتَّى يُكَذِّبُوا بِمَا فِيهَا «3» مِنَ
الْآيَاتِ وَأَخْبَارُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ" وَمِنْ
خَلْفِهِمْ" مِنْ آخِرَتِهِمْ حَتَّى يُكَذِّبُوا بِهَا."
وَعَنْ أَيْمانِهِمْ" مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَأُمُورِ دِينِهِمْ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ:" إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ"." وَعَنْ شَمائِلِهِمْ" يَعْنِي
سَيِّئَاتِهِمْ، أَيْ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، لِأَنَّهُ
يُزَيِّنُهَا لَهُمْ. (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)
أَيْ مُوَحِّدِينَ طَائِعِينَ مظهرين الشكر.
[سورة الأعراف (7): آية 18]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ اخْرُجْ مِنْها) أَيْ من الجنة.
(مَذْؤُماً مَدْحُوراً) " مَذْؤُماً" أَيْ مَذْمُومًا.
وَالذَّأْمُ: الْعَيْبُ، بِتَخْفِيفِ «4» الْمِيمِ. قَالَ
ابْنُ زَيْدٍ: مَذْءُومًا وَمَذْمُومًا سَوَاءٌ، يُقَالُ:
ذَأَمْتُهُ وذممته وذمته بمعنى واحد. وقرا الأعمش" مَذْؤُماً".
وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ
«5». وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَذْءُومُ الْمَنْفِيُّ.
وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ. وَالْمَدْحُورُ: الْمُبْعَدُ
الْمَطْرُودُ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَأَصْلُهُ
الدَّفْعُ. (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ
مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) اللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ،
وَالْجَوَابُ" لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ". وَقِيلَ:" لَمَنْ
تَبِعَكَ" لَامُ تَوْكِيدٍ." لَأَمْلَأَنَّ" لَامُ قَسَمٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ
الْقِرَاءَةِ حذف اللام الأولى، ولا يجوز
__________
(1). في ج: لأضلنهم.
(2). راجع ج 5 ص 389.
(3). راجع ج 15 ص 73.
(4). في ج: مما قبلها.
(5). لا حاجة لهذا القيد: فإن الهمز كاف للفرق بيته وبين الذم.
(7/176)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ
أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا
وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ (19)
حَذْفُ الثَّانِيَةِ. وَفِي الْكَلَامِ
مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْمُجَازَاةِ، أَيْ مَنْ تَبِعَكَ
عَذَّبْتُهُ. وَلَوْ قُلْتَ: مَنْ تَبِعَكَ أُعَذِّبُهُ لَمْ
يَجُزْ، إِلَّا أَنْ تُرِيدَ لَأُعَذِّبُهُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ
مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ" لَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ" بِكَسْرِ اللَّامِ. وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ
النَّحْوِيِّينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَتَقْدِيرُهُ- وَاللَّهُ
أَعْلَمُ- مِنْ أَجْلِ مَنْ تَبِعَكَ. كَمَا يُقَالُ:
أَكْرَمْتُ فُلَانًا لَكَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْنَى:
الدَّحْرُ لِمَنْ تَبِعَكَ. وَمَعْنَى" مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ"
أَيْ مِنْكُمْ وَمِنْ بَنِي آدَمَ، لِأَنَّ ذِكْرَهُمْ قَدْ
جَرَى إِذْ قَالَ:" وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" خَاطَبَ وَلَدَ
آدَمَ.
[سورة الأعراف (7): آية 19]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ
حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا
مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
قَالَ لِآدَمَ بَعْدَ إِخْرَاجِ إِبْلِيسَ مِنْ مَوْضِعِهِ
مِنَ السَّمَاءِ: اسْكُنْ أَنْتَ وَحَوَّاءُ الْجَنَّةَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «1» مَعْنَى الْإِسْكَانِ،
فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى وَلَا
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ هُنَاكَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
[سورة الأعراف (7): آية 20]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ
عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ
هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ
تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) أَيْ
إِلَيْهِمَا. قِيلَ: دَاخِلَ الْجَنَّةِ بِإِدْخَالِ
الْحَيَّةِ إِيَّاهُ وَقِيلَ: مِنْ خَارِجٍ بِالسَّلْطَنَةِ
«2» الَّتِي جُعِلَتْ لَهُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي
الْبَقَرَةِ. وَالْوَسْوَسَةُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ.
وَالْوَسْوَسَةُ: حَدِيثُ النَّفْسِ يُقَالُ: وَسْوَسَتْ
إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَسْوَسَةً وَوِسْوَاسًا (بِكَسْرِ
الْوَاوِ). وَالْوَسْوَاسُ (بِالْفَتْحِ): اسْمٌ مِثْلُ
الزَّلْزَالِ. وَيُقَالُ لِهَمْسِ الصَّائِدِ وَالْكِلَابِ
وَأَصْوَاتِ الْحَلْيِ: وَسْوَاسٌ. قَالَ الأعشى:
__________
(1). راجع ج 1 ص 298. وص 204.
(2). في ج: بالشيطة.
(7/177)
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا
انْصَرَفَتْ ... كَمَا اسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ «1»
وَالْوَسْوَاسُ: اسْمُ الشَّيْطَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ «2»). (لِيُبْدِيَ
لَهُما) أَيْ لِيُظْهِرَ لَهُمَا. وَاللَّامُ لَامُ
الْعَاقِبَةِ كَمَا قَالَ (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَناً «3») وَقِيلَ: لام كي و (وُورِيَ) أَيْ سُتِرَ
وَغُطِّيَ عَنْهُمَا. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ القرآن أورى مثل
أقتت ومن سوءاتهما من (عوراتها «4») وَسُمِّيَ الْفَرْجُ
عَوْرَةً لِأَنَّ إِظْهَارَهُ يَسُوءُ صَاحِبَهُ. وَدَلَّ
هَذَا عَلَى قُبْحِ كَشْفِهَا فَقِيلَ: إِنَّمَا بدت سوءاتهما
لَهُمَا لَا لِغَيْرِهِمَا كَانَ عَلَيْهِمَا نُورٌ «5» لَا
تُرَى عَوْرَاتُهُمَا فَزَالَ النُّورُ. وَقِيلَ: ثَوْبٌ
فَتَهَافَتَ «6»، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (إِلَّا أَنْ تَكُونا
مَلَكَيْنِ) (أَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، بِمَعْنَى إِلَّا،
كَرَاهِيَةَ أَنْ فحذف المضاف. هذا قول البصرين.
وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ: لِئَلَّا تَكُونَا. وَقِيلَ:
أَيْ إِلَّا أَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ تَعْلَمَانِ الْخَيْرَ
وَالشَّرَّ. وَقِيلَ طَمِعَ آدَمُ فِي الْخُلُودِ لِأَنَّهُ
عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَمُوتُونَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ فَضْلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي
غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَمِنْهَا هَذَا وَهُوَ
(إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ). وَمِنْهُ (وَلا أَقُولُ
إِنِّي مَلَكٌ «7»). ومنهَ- لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
«8» وَقَالَ الْحَسَنُ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ
بِالصُّوَرِ. وَالْأَجْنِحَةِ وَالْكَرَامَةِ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: فَضَّلَهُمْ جَلَّ وَعَزَّ بِالطَّاعَةِ وَتَرْكِ
الْمَعْصِيَةِ، فَلِهَذَا يَقَعُ التَّفْضِيلُ في كل شي.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ. لَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَلَكَيْنِ فِي أَلَّا
يَكُونَ لَهُمَا شَهْوَةٌ فِي طَعَامٍ. وَاخْتِيَارُ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَالزَّجَّاجِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَفْضِيلُ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي
الْبَقَرَةِ «9». وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فُضِّلُوا عَلَى
الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ، غَيْرَ طَائِفَةٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ: جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ
وَمَلَكَ الْمَوْتِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ رُسُلِ
اللَّهِ. وَتَمَسَّكَ كُلُّ فَرِيقٍ بِظَوَاهِرَ مِنَ
الشَّرِيعَةِ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ
عَبَّاسٍ" مَلِكَيْنِ" بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ
يَحْيَى بْنِ أَبِي «10» كَثِيرٍ وَالضَّحَّاكِ. وأنكر
__________
(1). العشرق كزبرج: شجر قدر ذراع له حب صغار إذا جف صوت بمر
الريح.
(2). راجع ج 20 ص 261.
(3). راجع ج 13 ص 252.
(4). من ج وك وى. [ ..... ]
(5). النور بفتح النون: الزهر.
(6). تهافت: تساقط.
(7). راجع ج 9 ص 25.
(8). راجع ج 6 ص 26.
(9). راجع ج 1 ص 289.
(10). من ب وع وز.
(7/178)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي
لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ
فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا
الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا
عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى
حِينٍ (24)
أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ كَسْرَ
اللَّامِ وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ قَبْلَ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مَلِكٌ فَيَصِيرَا مَلِكَيْنِ. قَالَ
النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِسْكَانُ
اللَّامِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى
لِخِفَّةِ الْفَتْحَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَاهُمَا
الْمَلْعُونُ مِنْ جِهَةِ الْمُلْكِ، وَلِهَذَا قَالَ:" هَلْ
أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى «1» ".
وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ احْتِجَاجَ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ بِقَوْلِهِ:" وَمُلْكٍ لَا يَبْلى " حُجَّةٌ
بَيِّنَةٌ، وَلَكِنَّ النَّاسَ عَلَى تَرْكِهَا فلهذا تركناها.
قال النحاس:" إلا أن تكون مُلْكَيْنِ" قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ.
وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ هَذَا الْكَلَامَ،
وَجُعِلَ مِنَ الْخَطَأِ الْفَاحِشِ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ
يَتَوَهَّمَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يَصِلُ إِلَى
أَكْثَرَ مِنْ مُلْكِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ غَايَةُ
الطَّالِبِينَ. وَإِنَّمَا مَعْنَى" وَمُلْكٍ لَا يَبْلى "
الْمُقَامُ فِي مُلْكِ الْجَنَّةِ، وَالْخُلُودُ فِيهِ.
[سورة الأعراف (7): آية 21]
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقاسَمَهُما) أَيْ حَلَفَ لَهُمَا.
يُقَالُ: أَقْسَمَ إِقْسَامًا، أَيْ حَلَفَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ ... أَلَذُّ مِنَ
السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا «2»
وَجَاءَ" فَاعَلْتَ" مِنْ وَاحِدٍ. وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ
قَالَ: إِنَّ الْمُفَاعَلَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنِ
اثْنَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ. (إِنِّي لَكُما
لَمِنَ النَّاصِحِينَ) لَيْسَ" لَكُما" دَاخِلًا فِي
الصِّلَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي نَاصِحٌ لَكُمَا لَمِنَ
النَّاصِحِينَ، قَالَهُ هِشَامٌ النَّحْوِيُّ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ:
اتَّبِعَانِي أُرْشِدْكُمَا، ذَكَرَهُ قَتَادَةُ.
[سورة الأعراف (7): الآيات 22 الى 24]
فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ
لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ
وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما
عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)
__________
(1). راجع ج 11 ص 254.
(2). السلوى: العسل. وشار العسل: اجتناه واخذه من موضعه.
(7/179)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَدَلَّاهُما
بِغُرُورٍ) أَوْقَعَهُمَا فِي الْهَلَاكِ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: غَرَّهُمَا بِالْيَمِينِ. وَكَانَ يَظُنُّ آدَمُ
أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ بِاللَّهِ كَاذِبًا، فغررهما
بِوَسْوَسَتِهِ وَقَسَمِهِ لَهُمَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَلَفَ
بِاللَّهِ لَهُمَا حَتَّى خَدَعَهُمَا. وَقَدْ يُخْدَعُ
الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ. كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ:
مَنْ خَادَعَنَا بِاللَّهِ خدعنا. وفي الحديث عنه صلى:
(الْمُؤْمِنُ غِرٌّ «1» كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ).
وَأَنْشَدَ نِفْطَوَيْهِ:
إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا تَشَاءُ خَدَعْتَهُ ... وَتَرَى
اللَّئِيمَ مُجَرِّبًا لَا يُخْدَعُ
" فَدَلَّاهُما" يُقَالُ: أَدْلَى دلوه: أرسلها. ودلاها:
أخرجها. وقيل:" فَدَلَّاهُما" أَيْ دَلَّلَهُمَا، مِنَ
الدَّالَّةِ وَهِيَ الْجُرْأَةُ. أَيْ جَرَّأَهُمَا عَلَى
الْمَعْصِيَةِ فَخَرَجَا مِنَ الْجَنَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما
وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) فِيهِ
ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلَمَّا
ذاقَا الشَّجَرَةَ" أَيْ أَكَلَا مِنْهَا. وَقَدْ مَضَى فِي"
الْبَقَرَةِ" الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ «2»، وَكَيْفَ
أَكَلَ آدَمُ مِنْهَا." بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما" أَكَلَتْ
حَوَّاءُ أولا فلم يصبها شي، فَلَمَّا أَكَلَ آدَمُ حَلَّتِ
الْعُقُوبَةُ، لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَلَيْهِمَا كَمَا
تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «3» ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
تَقَلَّصَ النُّورُ الَّذِي كَانَ لِبَاسَهُمَا فَصَارَ
أَظْفَارًا فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ. الثَّانِيَةُ-"
وَطَفِقا" وَيَجُوزُ إِسْكَانُ «4» الْفَاءِ. وَحَكَى
الْأَخْفَشُ طَفِقَ يَطْفِقُ، مِثْلَ ضَرَبَ يَضْرِبُ.
يُقَالُ: طَفِقَ، أَيْ أَخَذَ فِي الْفِعْلِ." يَخْصِفانِ"
وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَشَدِّ الصَّادِ.
وَالْأَصْلُ" يَخْتَصِفَانِ" فَأُدْغِمَ، وَكُسِرَ الْخَاءُ
__________
(1). الغر: الذي لا يفطن للشر. والخلب (بكسر الخاء وفتحها): ضد
الغر، وهو الخدع المفسد. الرواية الثابتة عن أبى هريرة:
والمنافق خب لئيم بدل الفاجر.
(2). راجع ج 1 ص 304.
(3). راجع ج 1 ص 304.
(4). كذا في الأصول. والمتبادر أنه يريد المصدر على لغة ضرب
ضربا لأن طفق كفرح.
(7/180)
قَالَ فِيهَا
تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
وشد الصاد. والأصل يخصفان فَأُدْغِمَ
وَكُسِرَ الْخَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ
ابْنُ بُرَيْدَةَ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْخَاءِ، أَلْقَيَا
حَرَكَةَ التَّاءِ عَلَيْهَا. وَيَجُوزُ" يُخَصِّفَانِ"
بِضَمِّ الْيَاءِ، مِنْ خَصَّفَ يُخَصِّفُ. وَقَرَأَ
الزُّهْرِيُّ" يُخْصِفَانِ" مِنْ أَخْصَفَ. وَكِلَاهُمَا
مَنْقُولٌ بِالْهَمْزَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ وَالْمَعْنَى:
يَقْطَعَانِ الْوَرَقَ وَيَلْزَقَانِهِ لِيَسْتَتِرَا بِهِ،
وَمِنْهُ خَصْفُ النَّعْلِ. وَالْخَصَّافُ الَّذِي
يُرَقِّعُهَا. وَالْمِخْصَفُ الْمِثْقَبُ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: هُوَ وَرَقُ التِّينِ. وَيُرْوَى أَنَّ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَدَتْ سَوْأَتُهُ وَظَهَرَتْ
عَوْرَتُهُ طَافَ عَلَى أَشْجَارِ الْجَنَّةِ يَسُلُّ «1»
مِنْهَا وَرَقَةً يُغَطِّي بِهَا عَوْرَتَهُ، فَزَجَرَتْهُ
أَشْجَارُ الْجَنَّةِ حَتَّى رَحِمَتْهُ شجرة التين فأعطته
ورقة." وَطَفِقا" يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ" يَخْصِفانِ
عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ" فَكَافَأَ اللَّهُ
التِّينَ بِأَنْ سَوَّى ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ فِي
الْحَلَاوَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَأَعْطَاهُ ثَمَرَتَيْنِ فِي
عام واحد مرتين. الثانية- وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قُبْحِ
كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا
السَّتْرَ، وَلِذَلِكَ ابْتَدَرَا إِلَى سَتْرِهَا، وَلَا
يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْمَرَا بِذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا
قِيلَ لَهُمَا:" وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ". وَقَدْ
حَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ لَمْ
يَجِدْ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ إِلَّا وَرَقَ الشَّجَرِ
لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَتِرَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ سُتْرَةٌ
ظَاهِرَةٌ يُمْكِنُهُ التَّسَتُّرُ بِهَا، كَمَا فَعَلَ آدَمُ
فِي الْجَنَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ «2» تَعَالَى:
(وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا
الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ
مُبِينٌ. قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)
أَيْ قَالَ لَهُمَا: أَلَمْ أَنْهَكُمَا. قَالَا رَبَّنا
نِدَاءٌ مُضَافٌ. وَالْأَصْلُ يَا رَبَّنَا. وَقِيلَ. إِنَّ
فِي حَذْفِ" يَا" مَعْنَى التَّعْظِيمِ. فَاعْتَرَفَا
بِالْخَطِيئَةِ وَتَابَا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا
وَسَلَّمَ «3»). وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ «4») وَمَعْنَى
قَوْلِهِ: (قالَ اهْبِطُوا) تقدم أيضا إلى آخر الآية.
[سورة الأعراف (7): آية 25]
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها
تُخْرَجُونَ (25)
الضَّمَائِرُ كُلُّهَا لِلْأَرْضِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ
فِي" قالَ"، وَلَوْ ذَكَرَهَا لَجَازَ «5» أَيْضًا. وَهُوَ
كَقَوْلِكَ: قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو كَذَا قَالَ لَهُ كَذَا.
__________
(1). في ك: يسأل.
(2). في ع وز وك: الثالثة قوله تعالى:" وَناداهُما" الآية. [
..... ]
(3). من ع.
(4). راجع ج 1 ص 324. وص 319.
(5). أي في مثل هذا التركيب في غير القرآن.
(7/181)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ
أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ
وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ
آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
[سورة الأعراف (7): آية 26]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي
سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ
مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا
بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي
سَوْآتِكُمْ) قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هَذِهِ
الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، لِأَنَّهُ
قَالَ:" يُوارِي سَوْآتِكُمْ". وَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ لَيْسَ
فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، بَلْ فِيهَا دَلَالَةٌ
عَلَى الْإِنْعَامِ فَقَطْ. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ
أَصَحُّ. وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِنْعَامِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ،
فَبَيَّنَ أَنَّهُ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى «1») جَعَلَ
لِذُرِّيَّتِهِ مَا يَسْتُرُونَ بِهِ عَوْرَاتِهِمْ، وَدَلَّ
عَلَى الْأَمْرِ بِالسَّتْرِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ
الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عَنْ أَعْيُنِ
النَّاسِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَوْرَةِ مَا هِيَ؟ فَقَالَ
ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: هِيَ مِنَ الرَّجُلِ الْفَرْجُ نَفْسُهُ،
الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ دُونَ غَيْرِهِمَا. وَهُوَ قَوْلُ
دَاوُدَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَابْنِ أَبِي عَبْلَةَ «2»
وَالطَّبَرِيِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لِباساً يُوارِي
سَوْآتِكُمْ"،" بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما"،" لِيُرِيَهُما
سَوْآتِهِما". وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ:" فَأَجْرَى
«3» رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
زُقَاقِ خَيْبَرَ- وَفِيهِ- ثُمَّ حَسِرَ «4» الْإِزَارُ عَنْ
فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَقَالَ مَالِكٌ:
السُّرَّةُ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ، وَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ
يَكْشِفَ فَخِذَهُ بِحَضْرَةِ زَوْجَتِهِ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: الرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَتِ السُّرَّةُ وَلَا
الرُّكْبَتَانِ مِنَ الْعَوْرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَحَكَى
أَبُو حَامِدٍ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي
السُّرَّةِ قَوْلَيْنِ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لِجَرْهَدٍ: (غَطِّ فَخِذكَ فَإِنَّ الْفَخِذَ
عَوْرَةٌ). خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَقَالَ:
حَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ «5»، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ
حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ اختلافهم. وحديث جرهد هذا
__________
(1). من ع.
(2). في وز: وابن عطية.
(3). أي أجرى دابته.
(4). أي أقوى وأحسن سندا من حديث جرهد.
(5). أي أقوى وأحسن سندا من حديث جرهد
(7/182)
يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَبَّلَ سُرَّةَ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ: أُقَبِّلُ مِنْكَ مَا كَانَ
رسول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ مِنْكَ. فَلَوْ
كَانَتِ السُّرَّةُ عَوْرَةً مَا قَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ،
وَلَا مَكَّنَهُ الْحَسَنُ مِنْهَا. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ
الْحُرَّةُ فَعَوْرَةٌ كُلُّهَا إِلَّا الْوَجْهَ
وَالْكَفَّيْنِ. عَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ العلم. وقد قال
النبي صلى: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً
فَلْيَنْظُرْ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا). وَلِأَنَّ ذَلِكَ
وَاجِبٌ كَشْفُهُ فِي الْإِحْرَامِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هشام: كشيء مِنَ
الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ حَتَّى ظُفْرَهَا. وَرُوِيَ عَنْ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ نَحْوُهُ. وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ
فَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُهُ- يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ
حَنْبَلٍ- يُسْأَلُ عَنْ أُمِّ الْوَلَدِ كَيْفَ تُصَلِّي؟
فَقَالَ: تُغَطِّي رَأْسَهَا وَقَدَمَيْهَا، لِأَنَّهَا لَا
تُبَاعُ، وَتُصَلِّي كَمَا تُصَلِّي الْحُرَّةُ. وَأَمَّا
الْأَمَةُ فَالْعَوْرَةُ مِنْهَا ما تحت ثديها، وَلَهَا أَنْ
تُبْدِيَ رَأْسَهَا وَمِعْصَمَيْهَا. وَقِيلَ: حُكْمُهَا
حُكْمُ الرَّجُلِ. وَقِيلَ: يُكْرَهُ لَهَا كَشْفُ رَأْسِهَا
وَصَدْرِهَا. وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْرِبُ
الْإِمَاءَ عَلَى تَغْطِيَتِهِنَّ رُءُوسَهُنَّ وَيَقُولُ: لَا
تَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ. وَقَالَ أَصْبَغُ: إِنِ انْكَشَفَ
فَخِذُهَا أَعَادَتِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ. وَقَالَ أَبُو
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ:
كُلُّ شي مِنَ الْأَمَةِ عَوْرَةٌ حَتَّى ظُفْرَهَا. وَهَذَا
خَارِجٌ عَنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ، لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى
أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ
الْمَكْتُوبَةَ وَيَدَاهَا وَوَجْهُهَا مَكْشُوفٌ ذَلِكَ
كُلُّهُ، تُبَاشِرُ الْأَرْضَ بِهِ. فَالْأَمَةُ أَوْلَى،
وَأُمُّ الْوَلَدِ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الْأَمَةِ.
وَالصَّبِيُّ الصَّغِيرُ لَا حُرْمَةَ لِعَوْرَتِهِ. فَإِذَا
بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ إِلَى حَدٍّ تَأْخُذُهَا الْعَيْنُ
وَتُشْتَهَى سَتَرَتْ عَوْرَتَهَا. وَحُجَّةُ أَبِي بَكْرِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قول تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ
«1» ". وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ: مَاذَا
تُصَلِّي فِيهِ الْمَرْأَةُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فقالت: تصلي
الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ السَّابِغِ الَّذِي يُغَيِّبُ ظُهُورَ
قَدَمَيْهَا. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا. وَالَّذِينَ
أَوْقَفُوهُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ أَكْثَرُ وَأَحْفَظُ،
مِنْهُمْ مَالِكٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ
أَبُو دَاوُدَ: وَرَفَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ
أُمِّهِ «2» عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1). راجع ج 14 ص 241.
(2). في ب: عن أبيه. وقد روى عن أبيه وأمه.
(7/183)
قَالَ أَبُو عُمَرَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ
هَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ خَرَّجَ
الْبُخَارِيُّ بَعْضَ حَدِيثِهِ. وَالْإِجْمَاعُ فِي هَذَا
الْبَابِ أَقْوَى مِنَ الْخَبَرِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً" يَعْنِي الْمَطَرَ
الَّذِي يُنْبِتُ الْقُطْنَ وَالْكَتَّانَ، وَيُقِيمُ
الْبَهَائِمَ «1» الَّذِي مِنْهَا الْأَصْوَافُ وَالْأَوْبَارُ
وَالْأَشْعَارُ، فَهُوَ مَجَازٌ مِثْلُ" وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «2» " عَلَى مَا
يَأْتِي. وَقِيلَ: هَذَا الْإِنْزَالُ إنزال شي اللِّبَاسِ
مَعَ آدَمَ وَحَوَّاءَ، لِيَكُونَ مِثَالًا لِغَيْرِهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:" أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ" (أَيْ
«3») خَلَقْنَا لَكُمْ، كَقَوْلِهِ:" وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ
الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ" أَيْ خَلَقَ. عَلَى مَا
يَأْتِي. وَقِيلَ: أَلْهَمْنَاكُمْ كَيْفِيَّةَ صَنْعَتِهِ.
الثَّالِثَة- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرِيشاً) قَرَأَ أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحَسَنُ وَعَاصِمٌ مِنْ رِوَايَةِ
الْمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ، وَأَبُو عَمْرٍو مِنْ رِوَايَةِ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ" وَرِيَاشًا". وَلَمْ
يَحْكِهِ أَبُو عُبَيْدٍ «4» إِلَّا عَنِ الْحَسَنِ، وَلَمْ
يُفَسِّرْ مَعْنَاهُ. وَهُوَ جَمْعُ رِيشٍ. وَهُوَ مَا كَانَ
مِنَ الْمَالِ وَاللِّبَاسِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رِيشٌ
وَرِيَاشٌ، كَمَا يُقَالُ: لِبْسٌ وَلِبَاسٌ. وَرِيشُ
الطَّائِرِ مَا سَتَرَهُ اللَّهُ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ
الْخِصْبُ وَرَفَاهِيَةُ الْعَيْشِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ
أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الرِّيشَ مَا سَتَرَ مِنْ
لِبَاسٍ أَوْ مَعِيشَةٍ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
فَرِيشِي مِنْكُمْ وَهَوَايَ مَعْكُمْ ... وإن كانت زياتكم
لِمَامًا
وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: وهت لَهُ
دَابَّةً بِرِيشِهَا، أَيْ بِكِسْوَتِهَا وَمَا عَلَيْهَا من
اللباس. الرابعة- قوله تعالى: (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ
خَيْرٌ) بَيَّنَ أَنَّ التَّقْوَى خَيْرُ لِبَاسٍ، كَمَا
قَالَ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابًا مِنَ التُّقَى ...
تقلب عيانا وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا
وَخَيْرُ لِبَاسِ الْمَرْءِ طَاعَةُ رَبِّهِ ... وَلَا خَيْرَ
فِيمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا
وَرَوَى قَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ عَوْفٍ عَنْ مَعْبَدٍ
الْجُهَنِيِّ قَالَ:" لِباسُ التَّقْوى " الْحَيَاءُ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ:" لِباسُ التَّقْوى " هُوَ الْعَمَلُ
الصَّالِحُ. وعنه أيضا: السمت الحسن
__________
(1). كذا في الأصول. ولعل الصواب: التي.
(2). راجع ج 15 ص 234.
(3). من ك.
(4). في ك: أبو عبد الرحمن. [ ..... ]
(7/184)
يَا بَنِي آدَمَ لَا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ
مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا
لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
فِي الْوَجْهِ. وَقِيلَ: مَا عَلَّمَهُ
عَزَّ وَجَلَّ وَهَدَى بِهِ. وَقِيلَ:" لِباسُ التَّقْوى "
لُبْسُ الصُّوفِ وَالْخَشِنِ مِنَ الثِّيَابِ، مِمَّا
يُتَوَاضَعُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُتَعَبَّدُ لَهُ خَيْرٌ
مِنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ:" لِباسُ
التَّقْوى " الدِّرْعُ وَالْمِغْفَرُ، وَالسَّاعِدَانِ،
وَالسَّاقَانِ، يُتَّقَى بِهِمَا فِي الْحَرْبِ. وَقَالَ
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: هُوَ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ.
وَقِيلَ: هُوَ اسْتِشْعَارُ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا
أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ،
وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُرْوَةَ.
وَقَوْلُ زَيْدِ بن علي حسن، فإنه خض عَلَى الْجِهَادِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ. وَهَذَا فِيهِ
تَكْرَارٌ، إِذْ قَالَ أَوَّلًا:" قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ
لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ". وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لُبْسُ
الْخَشِنِ مِنَ الثِّيَابِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى
التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ الرَّعُونَاتِ فَدَعْوَى، فَقَدْ كَانَ
الْفُضَلَاءُ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَلْبَسُونَ الرَّفِيعَ مِنَ
الثِّيَابِ مَعَ حُصُولِ التَّقْوَى، عَلَى مَا يَأْتِي
مُبَيَّنًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَالْكِسَائِيُّ" لِبَاسَ" بِالنَّصْبِ عَطْفًا
عَلَى" لِباساً" الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ بِفِعْلٍ
مُضْمَرٍ، أَيْ وَأَنْزَلْنَا لِبَاسَ التَّقْوَى.
وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَ" ذلِكَ"
نَعْتُهُ وَ" خَيْرٌ" خَبَرُ الِابْتِدَاءِ. وَالْمَعْنَى:
وَلِبَاسُ التَّقْوَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ، الَّذِي
عَلِمْتُمُوهُ، خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ لِبَاسِ الثِّيَابِ الَّتِي
تُوَارِي سَوْآتِكُمْ، وَمِنَ الرِّيَاشِ الَّذِي أَنْزَلْنَا
إِلَيْكُمْ، فَالْبَسُوهُ. وَقِيلَ: ارْتَفَعَ بِإِضْمَارِ
هُوَ، أَيْ وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، أَيْ هُوَ سَتْرُ
الْعَوْرَةِ. وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلِبَاسُ التَّقْوَى هُوَ خَيْرٌ، فَ"
ذلِكَ" بِمَعْنَى هُوَ. وَالْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ
مَا قِيلَ فِيهِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" وَلِبَاسُ التَّقْوَى
خَيْرٌ" وَلَمْ يَقْرَأْ" ذلِكَ". وَهُوَ خِلَافُ الْمُصْحَفِ.
(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) أَيْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
لَهُ خَالِقًا. وَ" ذلِكَ" رَفْعٌ عَلَى الصِّفَةِ، أَوْ عَلَى
الْبَدَلِ، أَوْ عطف بيان.
[سورة الأعراف (7): آية 27]
يا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ
أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما
لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ
مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ
أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
(7/185)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ) أَيْ لَا يَصْرِفَنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ عَنِ الدِّينِ، كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْكُمْ
بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ." أَبٌ" لِلْمُذَكَّرِ، وَ"
أَبَةٌ" لِلْمُؤَنَّثِ. فَعَلَى هَذَا قِيلَ: أَبَوَانِ (ينزع
عنهما لباسهما) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَيَكُونُ
مُسْتَأْنَفًا فَيُوقَفُ عَلَى" مِنَ الْجَنَّةِ"."
لِيُرِيَهُما" نُصِبَ بِلَامِ كي. (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ) الأصل يرءاكم ثم خففت الهمزة. وقبيله عطف على
المضمر وهو توكيد ليحسن العطف كقوله: (اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وهذا يدل على أنه يقبح رأيتك وعمرو،
وأن المضمر كالمظهر وَفِي هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ
سَتْرِ الْعَوْرَةِ، لِقَوْلِهِ: (يَنْزِعُ عَنْهُما
لِباسَهُما). قَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّمَا فِيهِ التَّحْذِيرُ
مِنْ زَوَالِ النِّعْمَةِ، كَمَا نَزَلَ بِآدَمَ. هَذَا أَنْ
لَوْ ثَبَتَ أَنَّ شَرْعَ آدَمَ يَلْزَمُنَا، وَالْأَمْرُ
بِخِلَافِ ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ
يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) " قَبِيلُهُ" جُنُودُهُ. قَالَ
مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ. ابْنُ زَيْدٍ:"
قَبِيلُهُ" نَسْلُهُ. وَقِيلَ: جِيلُهُ. مِنْ حَيْثُ لَا
تَرَوْنَهُمْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِي هَذَا دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الْجِنَّ لَا يُرَوْنَ، لِقَوْلِهِ" مِنْ حَيْثُ
لَا تَرَوْنَهُمْ" قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ يُرَوْا، لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ كَشَفَ
أَجْسَامَهُمْ حَتَّى تُرَى. قَالَ النَّحَّاسُ:" مِنْ حَيْثُ
لَا تَرَوْنَهُمْ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ لَا يُرَوْنَ
إِلَّا فِي وَقْتِ نَبِيٍّ، لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى
نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ خَلَقَهُمْ
خَلْقًا لَا يُرَوْنَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُرَوْنَ إِذَا
نُقِلُوا عَنْ صُوَرِهِمْ. وَذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ
الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا فِي وَقْتِ الْأَنْبِيَاءِ
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ
الْقُشَيْرِيُّ: أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّ بَنِي
آدَمَ لَا يَرَوْنَ الشَّيَاطِينَ الْيَوْمَ. وَفِي الْخَبَرِ
(إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى
الدَّمِ). وَقَالَ تَعَالَى:" الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ
النَّاسِ «1» ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ
لِلْمَلَكِ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً- أَيْ
بِالْقَلْبِ- فَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ
بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ
الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بالشر وتكذيب بالحق (. وقد تقدم
__________
(1). راجع ج 20 ص 263.
(7/186)
وَإِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ
أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا
وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا
هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ
اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
فِي الْبَقَرَةِ «1». وَقَدْ جَاءَ فِي
رُؤْيَتِهِمْ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ. وَقَدْ خَرَّجَ
الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَكَّلَنِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ
زَكَاةِ رَمَضَانَ، وَذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً، ذَكَرَ فِيهَا
أَنَّهُ أَخَذَ الْجِنِّيَّ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ التَّمْرَ،
وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لَهُ: (مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ). وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: (وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ
لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ) - فِي الْعِفْرِيتِ الَّذِي تَفَلَّتَ «2»
عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي فِي" ص" إِنْ «3» شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ زِيَادَةً فِي عُقُوبَتِهِمْ
وَسَوَّيْنَا بَيْنَهُمْ فِي الذَّهَابِ عن الحق.
[سورة الأعراف (7): آية 28]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا
وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(28)
الفاحشة هنا في قول كثر الْمُفَسِّرِينَ طَوَافُهُمْ
بِالْبَيْتِ عُرَاةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الشِّرْكُ
وَالْكُفْرُ. وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِتَقْلِيدِهِمْ
أَسْلَافَهُمْ، وَبِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهَا. وَقَالَ
الْحَسَنُ:" وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها" قَالُوا: لَوْ كَرِهَ
اللَّهُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَنَقَلَنَا عَنْهُ. (قُلْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) بَيَّنَ أَنَّهُمْ
مُتَحَكِّمُونَ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ
أَمَرَهُمْ بِمَا ادَّعَوْا. وَقَدْ مَضَى ذَمُّ التَّقْلِيدِ
وَذَمُّ كَثِيرٍ من جهالاتهم. وهذا منها.
[سورة الأعراف (7): الآيات 29 الى 30]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً
حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا
الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
__________
(1). راجع ج 3 ص 329. وص 269.
(2). أي تعرض بغتة.
(3). في قوله تعالى:" قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي ... "
ج 15 ص 204.
(7/187)
يَا بَنِي آدَمَ
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي
بِالْقِسْطِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ. وَقِيلَ: القسط العدل، أي أمر: العدل فَأَطِيعُوهُ.
فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) أَيْ
تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ إِلَى الْقِبْلَةِ.
(عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أَيْ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ كُنْتُمْ.
(وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ) الدِّينَ أَيْ وَحِّدُوهُ وَلَا
تُشْرِكُوا بِهِ. (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) نَظِيرُهُ"
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ «1» " وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ، أَيْ تَعُودُونَ كَمَا بَدَأَكُمْ، أَيْ كَمَا
خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يُعِيدُكُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ. أَيْ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. (فَرِيقاً هَدى) " فَرِيقاً"
نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضْمَرِ فِي" تَعُودُونَ" أَيْ
تَعُودُونَ فَرِيقَيْنِ: سُعَدَاءَ، وَأَشْقِيَاءَ. يُقَوِّي
هَذَا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ" تَعُودُونَ فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا
هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ"، عَنِ
الْكِسَائِيِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ «2» كَعْبٍ
الْقُرَظِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى" فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً
حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ" قَالَ: مَنِ ابْتَدَأَ اللَّهُ
خَلْقَهُ لِلضَّلَالَةِ صَيَّرَهُ إِلَى الضَّلَالَةِ، وَإِنْ
عَمِلَ بِأَعْمَالِ الْهُدَى. وَمَنِ ابْتَدَأَ اللَّهَ
خَلْقَهُ عَلَى الْهُدَى صَيَّرَهُ إِلَى الْهُدَى، وَإِنْ
عَمِلَ بِأَعْمَالِ الضَّلَالَةِ. ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَ
إِبْلِيسَ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَعَمِلَ بِأَعْمَالِ
السَّعَادَةِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ رَدَّهُ اللَّهُ
إِلَى مَا ابْتَدَأَ عَلَيْهِ خَلْقَهُ. قَالَ:" وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ" وَفِي هَذَا رَدٌّ وَاضِحٌ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ
وَمَنْ تَابِعْهُمْ. وَقِيلَ:" فَرِيقاً" نُصِبَ بِ" هَدى "،"
وَفَرِيقاً" الثَّانِي نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ
وَأَضَلَّ فَرِيقًا. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا ... أَمْلِكُ رَأْسَ
الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا
وَالذِّئْبَ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْتُ بِهِ ... وَحْدِي
وَأَخْشَى الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا «3»
قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ كَانَ مَرْفُوعًا «4» لَجَازَ.
(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ) وقرأ عيسى بن عمر:" أنهم" بالهمزة، يعني لأنهم.
[سورة الأعراف (7): آية 31]
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ (31)
__________
(1). راجع ص 42 من هذا الجزء.
(2). من البحر.
(3). البيتان للربيع بن ضبع الفزاري. وصف فيهما انتهاء شبيبته
وذهاب قوته.
(4). أي في مثل هذا التركيب في غير كلام الله.
(7/188)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا بَنِي آدَمَ) هُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ
الْعَالَمِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا مَنْ كَانَ
يَطُوفُ مِنَ الْعَرَبِ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، فَإِنَّهُ
عَامٌّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ. لِأَنَّ الْعِبْرَةَ
لِلْعُمُومِ لَا! لِلسَّبَبِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ
أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّوَافَ، لِأَنَّ
الطَّوَافَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ،
وَالَّذِي يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ هُوَ الصَّلَاةُ. وَهَذَا
قَوْلُ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ. وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ
الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ
وَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا «1»؟ تَجْعَلُهُ عَلَى
فَرْجِهَا. وَتَقُولُ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا
مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ" التِّطْوَافُ (بِكَسْرِ التَّاءِ). وَهَذِهِ
الْمَرْأَةُ هِيَ ضُبَاعَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ قُرْطٍ،
قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتِ
الْعَرَبُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلَّا الْحُمْسَ «2»،
وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ، كَانُوا يَطُوفُونَ
بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلَّا أَنْ تُعْطِيَهُمُ الْحُمْسُ
ثِيَابًا فَيُعْطِي الرِّجَالُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءُ
النِّسَاءَ. وَكَانَتْ الْحُمْسُ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ
الْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَقِفُونَ
بِعَرَفَاتٍ «3». فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ: وَيَقُولُونَ نَحْنُ
أَهْلُ الْحَرَمِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ
أَنْ يَطُوفَ إِلَّا فِي ثِيَابِنَا، وَلَا يَأْكُلَ إِذَا
دَخَلَ أَرْضَنَا إِلَّا مِنْ طَعَامِنَا. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ مِنَ الْعَرَبِ صَدِيقٌ بِمَكَّةَ يُعِيرُهُ ثَوْبًا
وَلَا يَسَارٌ يَسْتَأْجِرُهُ بِهِ كَانَ بَيْنَ أَحَدِ
أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا،
وَإِمَّا أَنْ يَطُوفَ فِي ثِيَابِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ
طَوَافِهِ أَلْقَى ثَوْبَهُ عَنْهُ فَلَمْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ.
وَكَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ يُسَمَّى اللَّقَى، قَالَ قَائِلٌ
مِنَ الْعَرَبِ:
كَفَى حَزَنًا كَرَيٍّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ ... لَقًى بَيْنَ
أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ
فَكَانُوا عَلَى تِلْكَ الْجَهَالَةِ وَالْبِدْعَةِ
وَالضَّلَالَةِ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى:" يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ" الْآيَةَ «4».
وَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَلَا لَا يطوف بالبيت عريان.
__________
(1). الثوب الذي يطاف به. على وزن تفعال بالفتح وبالكسر.
(2). الحمس سموا بهذا لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا
والخامسة الشجاعة.
(3). في صحيح مسلم: يبلغون عرفات.
(4). من ع.
(7/189)
قُلْتُ: وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ
الصَّلَاةُ فَزِينَتُهَا النِّعَالُ، لِمَا رَوَاهُ كُرْزُ
بْنُ وَبْرَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
ذَاتَ يَوْمٍ: (خُذُوا زِينَةَ الصَّلَاةِ) قِيلَ: وَمَا
زِينَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: (الْبَسُوا نِعَالَكُمْ فَصَلُّوا
فِيهَا). الثَّانِيَةُ- دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ
الْعَوْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ
الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ هِيَ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى
الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَهَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ فِي
الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: (ارْجِعْ
إِلَى ثَوْبِكَ فَخُذْهُ وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً). أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ. وَذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي إِلَى أَنَّ سَتْرَ
الْعَوْرَةِ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ
لَوْ كَانَ فَرْضًا فِي الصَّلَاةِ لَكَانَ الْعُرْيَانُ لَا
يجوز له أن يصلي، لأن كل شي مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ يَجِبُ
الْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، أَوْ بَدَلَهُ
مَعَ عَدَمِهِ، أَوْ تَسْقُطُ الصَّلَاةُ جُمْلَةً، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ
سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ فَسَقَطَ ثَوْبُ
إِمَامٍ فَانْكَشَفَ دُبُرُهُ وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَفَعَ
رَأْسَهُ فَغَطَّاهُ أَجْزَأَهُ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ سَحْنُونُ: وَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ مِنَ
الْمَأْمُومِينَ أَعَادَ. وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونَ أَيْضًا:
أَنَّهُ يُعِيدُ وَيُعِيدُونَ، لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ
شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ بَطَلَتِ
الصَّلَاةُ. أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: أَمَّا مَنْ قَالَ، إِنَّ صَلَاتَهُمْ لَا
تَبْطُلُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْقِدُوا شَرْطًا، وَأَمَّا مَنْ
قَالَ إِنْ أَخَذَهُ مَكَانَهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَتَبْطُلُ
صَلَاةُ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ فَصَحِيفَةٌ يَجِبُ مَحْوُهَا
وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ
وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: لَمَّا
رَجَعَ قَوْمِي مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا قَالَ: (لِيَؤُمَّكُمْ
أَكْثَرُكُمْ قِرَاءَةً لِلْقُرْآنِ). قَالَ: فَدَعَوْنِي
فَعَلَّمُونِي الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَكُنْتُ أُصَلِّي
بِهِمْ وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ مَفْتُوقَةٌ، وَكَانُوا
يَقُولُونَ لِأَبِي: أَلَا تُغَطِّي عَنَّا اسْتَ ابْنِكَ.
لَفْظُ النَّسَائِيِّ. وَثَبَتَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
قَالَ: لَقَدْ كَانَتِ الرِّجَالُ عَاقِدِي أُزُرَهُمْ فِي
أَعْنَاقِهِمْ مِنْ ضِيقِ الْأُزُرِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ كَأَمْثَالِ
الصِّبْيَانِ، فَقَالَ قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن
حَتَّى تَرْفَعَ الرِّجَالُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو داود.
(7/190)
الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفُوا إِذَا رَأَى
عَوْرَةَ نَفْسِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ
الثَّوْبُ ضَيِّقًا يَزُرُّهُ أَوْ يُخَلِّلُهُ بِشَيْءٍ
لِئَلَّا يَتَجَافَى الْقَمِيصُ فَتُرَى مِنَ الْجَيْبِ
الْعَوْرَةُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَرَأَى عَوْرَةَ نَفْسِهِ
أَعَادَ الصَّلَاةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ. وَرَخَّصَ
مَالِكٌ فِي الصَّلَاةِ فِي الْقَمِيصِ مَحْلُولِ
الْأَزْرَارِ، لَيْسَ عَلَيْهِ سَرَاوِيلٌ. وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَكَانَ سَالِمٌ يُصَلِّي
مَحْلُولَ الْأَزْرَارِ. وَقَالَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ: إِذَا
كَانَ عَظِيمَ اللِّحْيَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَحَكَى
مَعْنَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ. فَإِنْ كَانَ إِمَامًا
فَلَا يُصَلِّي إِلَّا بِرِدَائِهِ، لِأَنَّهُ مِنَ
الزِّينَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الزِّينَةِ الصَّلَاةُ فِي
النَّعْلَيْنِ، رَوَاهُ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصِحَّ. وَقِيلَ: زِينَةُ
الصَّلَاةِ رَفْعُ الْأَيْدِي فِي الرُّكُوعِ وَفِي الرفع منه.
قال أبو عمر: لكل شي زِينَةٌ وَزِينَةُ الصَّلَاةِ
التَّكْبِيرُ وَرَفْعُ الْأَيْدِي. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَوْسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ
ثِيَابَهُ، صَلَّى فِي إِزَارٍ «1» وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ
وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ،
فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ- «2»
وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ «3» وَقَمِيصٍ- فِي تُبَّانٍ
وَرِدَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَالدَّارَقُطْنِيُّ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَحَلَّ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ
مَا لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أَوْ مَخِيلَةً «4». فَأَمَّا مَا
تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ
وَسَكَّنَ الظَّمَأَ، فَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عَقْلًا وَشَرْعًا،
لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ النَّفْسِ وَحِرَاسَةِ الْحَوَاسِّ،
وَلِذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ،
لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الْجَسَدَ وَيُمِيتُ النَّفْسَ، وَيُضْعِفُ
عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع وتدفعه الْعَقْلُ. وَلَيْسَ
لِمَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ حَظٌّ مِنْ بِرٍّ
وَلَا نَصِيبٍ مِنْ زُهْدٍ، لِأَنَّ مَا حُرِمَهَا مِنْ فِعْلِ
الطَّاعَةِ بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ أَكْثَرُ ثَوَابًا
وَأَعْظَمُ أَجْرًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الزَّائِدِ عَلَى
قَدْرِ الْحَاجَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ حَرَامٌ، وَقِيلَ
مَكْرُوهٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ،
فَإِنَّ قَدْرَ الشِّبَعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ البلدان
والأزمان
__________
(1). الإزار: ما يؤتزر به في النصف الأسفل. والرداء للنصف
الأعلى.
(2). القباء (بالفتح): ثوب يلبس فوق الثياب. وقيل: يلبس فوق
القميص ويتنطق عليه. [ ..... ]
(3). التبان (بضم المثناة وتشديد الموحدة) سراويل صغير مقدار
شبر يستر العورة المغلظة فقط.
(4). المخيلة: الكبر.
(7/191)
وَالْأَسْنَانِ وَالطُّعْمَانِ. ثُمَّ
قِيلَ: فِي قِلَّةِ الْأَكْلِ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا
أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَصَحَّ جِسْمًا وَأَجْوَدَ حِفْظًا
وَأَزْكَى فَهْمًا وَأَقَلَّ نَوْمًا وَأَخَفَّ نَفْسًا. وَفِي
كَثْرَةِ الْأَكْلِ كَظُّ الْمَعِدَةِ وَنَتَنُ التُّخْمَةِ
«1»، وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْأَمْرَاضُ الْمُخْتَلِفَةُ،
فَيَحْتَاجُ مِنَ الْعِلَاجِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ
إِلَيْهِ الْقَلِيلُ الْأَكْلِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ:
أَكْبَرُ الدَّوَاءِ تَقْدِيرُ الْغِذَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا
الْمَعْنَى بَيَانًا شَافِيًا يُغْنِي عَنْ كَلَامِ
الْأَطِبَّاءِ فَقَالَ: (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا
مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ
صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ
وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ (. خَرَّجَهُ
التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي
كَرِبَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَوْ سَمِعَ بُقْرَاطُ هَذِهِ
الْقِسْمَةَ لَعَجِبَ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ. وَيُذْكَرُ
أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ لَهُ طَبِيبٌ نَصْرَانِيٌّ حَاذِقٌ
فَقَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: لَيْسَ فِي كِتَابِكُمْ
مِنْ عِلْمِ الطب شي، وَالْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ
الْأَدْيَانِ وَعِلْمُ الْأَبَدَانِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ:
قَدْ جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ كُلَّهُ فِي نِصْفِ آيَةٍ مِنْ
كِتَابِنَا. فَقَالَ لَهُ: مَا هِيَ؟ قَالَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ:" وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا". فَقَالَ
النَّصْرَانِيُّ: وَلَا يُؤْثَرُ عن رسولكم شي مِنَ الطِّبِّ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطِّبَّ فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ «2».
قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: (الْمَعِدَةُ بَيْتُ الْأَدْوَاءِ
وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ كُلِّ دَوَاءٍ وَأَعْطِ كُلَّ جَسَدٍ مَا
عَوَّدْتَهُ). فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا تَرَكَ
كِتَابُكُمْ وَلَا نَبِيُّكُمْ لِجَالِينُوسَ طِبًّا. قُلْتُ:
وَيُقَالُ إِنَّ مُعَالَجَةَ الْمَرِيضِ نِصْفَانِ: نِصْفٌ
دَوَاءٌ وَنِصْفٌ حمية: فإن اجتمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصح.
وإلا فالحمية به أولى، إذ يَنْفَعُ دَوَاءٌ مَعَ تَرْكِ
الْحِمْيَةِ. وَلَقَدْ تَنْفَعُ الْحِمْيَةُ مَعَ تَرْكِ
الدَّوَاءِ. وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَصْلُ كُلِّ دَوَاءٍ الْحِمْيَةُ).
وَالْمَعْنِيُّ بِهَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهَا تُغْنِي
عَنْ كُلِّ دَوَاءٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: إِنَّ الْهِنْدَ
جُلُّ مُعَالَجَتِهِمُ الْحِمْيَةُ، يَمْتَنِعُ الْمَرِيضُ
عَنِ الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ وَالْكَلَامِ عِدَّةَ أَيَّامٍ
فَيَبْرَأُ وَيَصِحُّ. الْخَامِسَةُ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي
سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى
وَاحِدٍ). وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى الله
__________
(1). في ع: نتن للمنحة. قال الجوهري: الإنفحة هي الكرش.
(2). في ع: المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء. هكذا في
الرواية المشهورة وليس بحديث بل هو من كلام الحارث بن كلدة
طبيب العرب راجع كشف الخلفاء ج 2 ص 214. ففيه قيم في هذا
الحديث.
(7/192)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضٌّ عَلَى
التَّقْلِيلِ مِنَ الدُّنْيَا وَالزُّهْدِ فِيهَا
وَالْقَنَاعَةِ بِالْبُلْغَةِ. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ
تَمْتَدِحُ بِقِلَّةِ الْأَكْلِ وَتَذُمُّ بِكَثْرَتِهِ. كَمَا
قَالَ قَائِلُهُمْ:
تَكْفِيهِ فِلْذَةُ كَبِدٍ إِنْ أَلَمَّ بِهَا ... مِنَ
الشِّوَاءِ وَيُرْوِي شُرْبَهُ الْغُمَرُ «1»
وَقَالَتْ أَمُّ زَرْعٍ فِي ابْنِ «2» أَبِي زَرْعٍ:
وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ «3». وَقَالَ حَاتِمٌ
الطَّائِيُّ يَذُمُّ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ:
فَإِنَّكَ إِنْ أَعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ ... وَفَرْجَكَ
نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجمعا «4»
وقال الخطاب: مَعْنَى قَوْلِهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «5»): الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ
أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ دُونَ شِبَعِهِ، وَيُؤْثِرُ عَلَى
نَفْسِهِ وَيُبْقِي مِنْ زَادِهِ لِغَيْرِهِ، فَيُقْنِعُهُ مَا
أَكَلَ. وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) لَيْسَ عَلَى
عُمُومِهِ، لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تَدْفَعُهُ، فَإِنَّهُ قَدْ
يُوجَدُ كَافِرٌ أَقَلُّ أَكْلًا مِنْ مُؤْمِنٍ، وَيُسْلِمُ
الْكَافِرُ فَلَا يَقِلُّ أَكْلُهُ وَلَا يَزِيدُ. وَقِيلَ:
هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مُعَيَّنٍ. ضَافَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَيْفٌ كَافِرٌ يُقَالُ: إِنَّهُ
الْجَهْجَاهُ الْغِفَارِيُّ. وَقِيلَ: ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ.
وَقِيلَ: نَضْلَةُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ. وَقِيلَ:
بَصْرَةُ بْنُ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ. فَشَرِبَ حِلَابَ
سَبْعِ شِيَاهٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ فَشَرِبَ
حِلَابَ شَاةٍ فَلَمْ يَسْتَتِمَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. فَكَأَنَّهُ قَالَ:
هَذَا الْكَافِرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّ
الْقَلْبَ لَمَّا تَنَوَّرَ بِنُورِ التَّوْحِيدِ نَظَرَ إِلَى
الطَّعَامِ بِعَيْنِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ، فَأَخَذَ
مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ، وَحِينَ كَانَ مُظْلِمًا
بِالْكُفْرِ كَانَ أَكْلُهُ كَالْبَهِيمَةِ تَرْتَعُ حَتَّى
تَثْلِطَ «6». وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْأَمْعَاءِ، هَلْ هِيَ
حَقِيقَةٌ أم لا؟ فقبل حَقِيقَةٌ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ
مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ
وَالتَّشْرِيحِ. وَقِيلَ: هِيَ كِنَايَاتٌ عَنْ أَسْبَابٍ
سَبْعَةٍ يَأْكُلُ بِهَا النَّهِمُ: يَأْكُلُ لِلْحَاجَةِ
وَالْخَبَرِ «7» وَالشَّمِّ وَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ
وَالذَّوْقِ وَيَزِيدُ اسْتِغْنَامًا «8». وَقِيلَ: الْمَعْنَى
أَنْ يَأْكُلَ أَكْلَ مَنْ لَهُ سَبْعَةُ أَمْعَاءٍ.
وَالْمُؤْمِنُ بِخِفَّةِ أَكْلِهِ يَأْكُلُ أَكْلَ مَنْ ليس له
إلا معى واحد،
__________
(1). البيت لأعشى باهلة يرثى أخاه المنتشر بن وهب الباهلي.
ورواية اللسان: يكفيه حزة فلذ ... والمعنى واحد. والغمر (بضم
الأول وفتح الثاني): القرح الصغير.
(2). في ع: ابنة. تشبعها
(3). الجفرة: الصغيرة من ولد المعزى إذا بلغ أربعة أشهر.
(4). الذي في ديوانه:
وإنك مهما تعط ...
إلخ.
(5). من ع.
(6). الثلط: الرقيق من الروث.
(7). يريد شهوة الأذن.
(8). في ع: استتعاما.
(7/193)
فَيُشَارِكُ الْكَافِرَ بِجُزْءٍ مِنْ
أَجْزَاءِ أَكْلِهِ، وَيَزِيدُ الْكَافِرُ عَلَيْهِ بِسَبْعَةِ
أَمْثَالٍ. وَالْمِعَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْمَعِدَةُ.
السَّادِسَةُ- وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ غَسْلُ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ
وَبَعْدَهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الْوُضُوءُ
قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ بَرَكَةٌ). وَكَذَا فِي
التَّوْرَاةِ. رَوَاهُ زَاذَانُ عَنْ سَلْمَانَ. وَكَانَ
مَالِكٌ يَكْرَهُ غَسْلَ الْيَدِ النَّظِيفَةِ.
وَالِاقْتِدَاءُ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى. وَلَا يَأْكُلُ
طَعَامًا حَتَّى يَعْرِفَ أَحَارًّا هُوَ أَمْ بَارِدًا؟
فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ حَارًّا فَقَدْ يَتَأَذَّى. وَرُوِيَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: (أَبْرِدُوا بِالطَّعَامِ فَإِنَّ الْحَارَّ
غَيْرُ ذِي بَرَكَةٍ) حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
الْبَقَرَةِ وَلَا يَشُمُّهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ
الْبَهَائِمِ، بَلْ إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ
تَرَكَهُ، وَيُصَغِّرُ اللُّقْمَةَ وَيُكْثِرُ مَضْغَهَا
لِئَلَّا يُعَدَّ شَرِهًا. وَيُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى فِي
أَوَّلِهِ وَيَحْمَدُهُ فِي آخِرِهِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْحَمْدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
جُلَسَاؤُهُ قَدْ فَرَغُوا مِنَ الْأَكْلِ، لِأَنَّ فِي رَفْعِ
الصَّوْتِ مَنْعًا لَهُمْ مِنَ الْأَكْلِ. وَآدَابُ الْأَكْلِ
كَثِيرَةٌ، هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْهَا. وَسَيَأْتِي بَعْضُهَا
فِي سُورَةِ" هُودٍ «1» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلِلشَّرَابِ أَيْضًا آدَابٌ مَعْرُوفَةٌ، تَرَكْنَا
ذِكْرَهَا لِشُهْرَتِهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ
بِيَمِينِهِ وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ
الشيطان يأكل بشمال وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ). السَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تُسْرِفُوا" أَيْ فِي كَثْرَةِ
الْأَكْلِ، وَعَنْهُ يَكُونُ كَثْرَةُ الشُّرْبِ، وَذَلِكَ
يُثْقِلُ الْمَعِدَةَ، وَيُثَبِّطُ الْإِنْسَانَ عَنْ خِدْمَةِ
رَبِّهِ، وَالْأَخْذِ بِحَظِّهِ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ.
فَإِنْ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا فَوْقَهُ مِمَّا يَمْنَعُهُ
الْقِيَامَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ
أَسْرَفَ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ. رَوَى أَسَدُ بْنُ
مُوسَى مِنْ حَدِيثِ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: أَكَلْتُ ثَرِيدًا بِلَحْمٍ سَمِينٍ،
فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَنَا أَتَجَشَّى «2»، فَقَالَ: (اكْفُفْ عَلَيْكَ مِنْ
جُشَائِكَ أَبَا جُحَيْفَةَ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا
فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (.
فَمَا أَكَلَ أَبُو جُحَيْفَةَ بِمِلْءِ بَطْنِهِ حَتَّى
فَارَقَ الدُّنْيَا، وَكَانَ إِذَا تَغَدَّى لَا يَتَعَشَّى،
وَإِذَا تَعَشَّى لا يتغدى.
__________
(1). راجع ج 9 ص 64.
(2). التجشؤ: تنفس المعدة عند الامتلاء في ى وع وز: ثريد بر. [
..... ]
(7/194)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ
مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ هَذَا مَعْنَى
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي
مِعًى وَاحِدٍ) أَيِ التَّامُّ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ مَنْ
حَسُنَ إِسْلَامُهُ وَكَمُلَ إِيمَانُهُ كَأَبِي جُحَيْفَةَ
تَفَكَّرَ فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَوْتِ
وَمَا بَعْدَهُ، فَيَمْنَعُهُ الْخَوْفُ وَالْإِشْفَاقُ مِنْ
تِلْكَ الْأَهْوَالِ مِنِ اسْتِيفَاءِ شَهَوَاتِهِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى" وَلا تُسْرِفُوا"
لَا تَأْكُلُوا حَرَامًا. وَقِيلَ: (مِنَ السَّرَفِ أَنْ
تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ). رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَّجَهُ
ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. وَقِيلَ: مِنَ الْإِسْرَافِ
الْأَكْلُ بَعْدَ الشِّبَعِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ.
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تَأْكُلْ
شِبَعًا فَوْقَ شِبَعٍ، فَإِنَّكَ أَنْ تَنْبِذَهُ «1»
لِلْكَلْبِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَأْكُلَهُ. وَسَأَلَ سَمُرَةُ
بْنُ جُنْدَبٍ عَنِ ابْنِهِ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا: بَشِمَ
الْبَارِحَةَ. قَالَ: بَشِمَ! فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا
إِنَّهُ لَوْ مَاتَ مَا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ
الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ
دَسِمًا فِي أَيَّامِ حَجِّهِمْ، وَيَكْتَفُونَ بِالْيَسِيرِ
مِنَ الطَّعَامِ، وَيَطُوفُونَ عُرَاةً. فَقِيلَ لَهُمْ:"
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا" فِي تَحْرِيمِ مَا لَمْ
يُحَرَّمْ عَلَيْكُمْ.
[سورة الأعراف (7): آية 32]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ
الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(32)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) بَيَّنَ أَنَّهُمْ
حَرَّمُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَالزِّينَةُ هُنَا الْمَلْبَسُ
الْحَسَنُ، إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. وَقِيلَ: جَمِيعُ
الثِّيَابِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
شَيْخِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ
يَلْبَسُ كِسَاءَ خَزٍّ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، يَلْبَسُهُ فِي
الشِّتَاءِ، فَإِذَا كَانَ فِي الصَّيْفِ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ
بَاعَهُ فَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، وكان يلبس في الصيف
__________
(1). في ج: تنشره.
(7/195)
ثوبين من متاع بمصر مُمَشَّقَيْنِ «1»
وَيَقُولُ:" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي
أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ".
الثَّانِيَةُ- وَإِذَا كَانَ هَذَا فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ
عَلَى لِبَاسِ الرَّفِيعِ مِنَ الثِّيَابِ، وَالتَّجَمُّلِ
بِهَا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَعِنْدَ لِقَاءِ
النَّاسِ وَمُزَاوَرَةِ الْإِخْوَانِ. قَالَ أَبُو
الْعَالِيَةِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا تَزَاوَرُوا
تَجَمَّلُوا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ «2» تُبَاعُ
عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ
اشْتَرَيْتَهَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلِلْوُفُودِ إِذَا
قَدِمُوا عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما يلبس هذا من لأخلاق لَهُ فِي
الْآخِرَةِ). فَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذِكْرَ التجمل، فَمَا
أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذِكْرَ التَّجَمُّلِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ
عَلَيْهِ كَوْنَهَا سِيَرَاءَ. وَقَدِ اشْتَرَى تَمِيمٌ
الدَّارِيُّ حُلَّةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا.
وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَلْبَسُ الثِّيَابَ
الْعَدَنِيَّةَ الْجِيَادَ. وَكَانَ ثَوْبُ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ يُشْتَرَى بِنَحْوِ الدِّينَارِ. أَيْنَ هَذَا
مِمَّنْ يَرْغَبُ عَنْهُ وَيُؤْثِرُ لِبَاسَ الْخَشِنِ مِنَ
الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ مِنَ الثِّيَابِ. وَيَقُولُ:" وَلِباسُ
التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ" هَيْهَاتَ! أَتَرَى مَنْ ذَكَرْنَا
تَرَكُوا لِبَاسَ التَّقْوَى، لَا وَاللَّهِ! بَلْ هُمْ أَهْلُ
التَّقْوَى وَأُولُو الْمَعْرِفَةِ وَالنُّهَى، وَغَيْرُهُمْ
أَهْلُ دَعْوَى، وَقُلُوبُهُمْ خَالِيَةٌ مِنَ التَّقْوَى.
قَالَ خَالِدُ بْنُ شَوْذَبَ: شَهِدْتُ الْحَسَنَ وَأَتَاهُ
فَرْقَدٌ، فَأَخَذَهُ الْحَسَنُ بِكِسَائِهِ فَمَدَّهُ
إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا فُرَيْقِدُ، يَا بْنَ أُمِّ فُرَيْقِدٍ،
إِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي هَذَا الْكِسَاءِ، إِنَّمَا
الْبِرُّ مَا وَقَرَ فِي الصَّدْرِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ.
وَدَخَلَ أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ أَخِي مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ
عَلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ يَسَارٍ «3» وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ
صُوفٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ،
صَوَّفْتَ قَلْبَكَ أَوْ جِسْمَكَ؟ صَوِّفْ قَلْبَكَ وَالْبَسِ
الْقُوهِيَّ عَلَى الْقُوهِيِّ «4». وَقَالَ رَجُلٌ
لِلشِّبْلِيِّ: قَدْ وَرَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِكَ وَهُمْ
فِي الْجَامِعِ، فَمَضَى فَرَأَى عَلَيْهِمُ الْمُرَقَّعَاتِ
وَالْفُوَطَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَمَّا الْخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ ... وَأَرَى
نِسَاءَ الْحَيِّ غير نسائه
__________
(1). ثوب ممشق. ممشوق: مصبوغ بالمشق، وهو صبغ أحمر.
(2). سيراء بسين مهملة مكسورة ثم ياء مثناة مفتوحة ثم ألف
ممدودة: نوع من البرود فيه خطوط صفر، أو يخالطه. حرير. وضبطوا
الحلة هنا بالتنوين، على أن سيراء صفة. وبغير تنوين على
الإضافة. وهما وجهان مشهوران.
(3). في ج وع وك وه: بشار.
(4). القوهي: ضرب من الثياب بيض فارسي منسوبة إلى قهستان.
(7/196)
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ: وأنا أكره ليس الْفُوَطِ وَالْمُرَقَّعَاتِ
لِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لُبْسِ
السَّلَفِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُرَقِّعُونَ ضَرُورَةً.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ ادِّعَاءَ الْفَقْرِ، وَقَدْ
أُمِرَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُظْهِرَ أَثَرَ نِعَمِ «1» اللَّهِ
عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ- إِظْهَارُ التَّزَهُّدِ، وَقَدْ
أُمِرْنَا بِسَتْرِهِ. وَالرَّابِعُ- أَنَّهُ تَشَبُّهٌ
بِهَؤُلَاءِ الْمُتَزَحْزِحِينَ عَنِ الشَّرِيعَةِ. وَمَنْ
تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:
وَلَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ آثَرَ لِبَاسَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ
عَلَى لِبَاسِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ مَعَ وُجُودِ
السَّبِيلِ إِلَيْهِ من حله. ومن أكل البقول والعدس وأختاه
عَلَى خُبْزِ الْبُرِّ. وَمَنْ تَرَكَ أَكْلَ اللَّحْمِ خوفا
من عارض شهوة النساء. وسيل بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ لُبْسِ
الصُّوفِ، فَشَقَّ عَلَيْهِ وَتَبَيَّنَتِ الْكَرَاهَةُ فِي
وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: لُبْسُ الْخَزِّ وَالْمُعَصْفَرِ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الصُّوفِ فِي الْأَمْصَارِ.
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَلْبَسُونَ
الثِّيَابَ الْمُتَوَسِّطَةَ، لَا الْمُتَرَفِّعَةَ وَلَا
الدُّونَ، وَيَتَخَيَّرُونَ أَجْوَدَهَا لِلْجُمُعَةِ
وَالْعِيدِ وَلِلِقَاءِ الْإِخْوَانِ، وَلَمْ يَكُنْ تَخَيُّرُ
الْأَجْوَدِ عِنْدَهُمْ قَبِيحًا. وَأَمَّا اللِّبَاسُ الَّذِي
يُزْرِي بِصَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِظْهَارَ
الزُّهْدِ وَإِظْهَارَ الْفَقْرِ، وَكَأَنَّهُ لِسَانُ شَكْوَى
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُوجِبُ احْتِقَارَ اللَّابِسِ،
وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. فَإِنْ قَالَ
قَائِلٌ تَجْوِيدُ اللِّبَاسِ هَوَى النَّفْسِ وَقَدْ
أُمِرْنَا بِمُجَاهَدَتِهَا، وَتَزَيُّنٌ لِلْخَلْقِ وَقَدْ
أُمِرْنَا أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُنَا لِلَّهِ لَا لِلْخَلْقِ.
فَالْجَوَابُ لَيْسَ كُلُّ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ يُذَمُّ،
وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ لِلنَّاسِ يُكْرَهُ،
وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّرْعُ قَدْ
نَهَى عَنْهُ أَوْ عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ فِي بَابِ
الدِّينِ. فَإِنَّ الإنسان يجب أَنْ يُرَى جَمِيلًا. وَذَلِكَ
حَظٌّ لِلنَّفْسِ لَا يُلَامُ فِيهِ. وَلِهَذَا يُسَرِّحُ
شَعْرَهُ وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَيُسَوِّي عِمَامَتَهُ
وَيَلْبَسُ بِطَانَةَ الثَّوْبِ الْخَشِنَةَ إِلَى دَاخِلٍ
وَظِهَارَتَهُ الْحَسَنَةَ إِلَى خَارِجٍ. وَلَيْسَ في شي مِنْ
هَذَا مَا يُكْرَهُ وَلَا يُذَمُّ. وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ
عَلَى الْبَابِ، فَخَرَجَ يُرِيدُهُمْ، وَفِي الدَّارِ
رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ
وَيُسَوِّي لِحْيَتَهُ وَشَعْرَهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا
خَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى إِخْوَانِهِ فَلِيُهَيِّئْ مِنْ
نَفْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ). وَفِي
صَحِيحِ. مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ
كبر).
__________
(1). في ج وك: نعمة. وفى الحديث إن الله يحب أن يرى أثر نعمه
على عبده رواء الترمذي.
(7/197)
فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ
أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ:
(إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ
الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ). وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا
الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى النَّظَافَةِ
وَحُسْنِ الْهَيْئَةِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ
أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا
مَنْدَلٌ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُسَافِرُ بِالْمُشْطِ وَالْمِرْآةِ وَالدُّهْنِ وَالسِّوَاكِ
وَالْكُحْلِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: مُشْطٌ عَاجٌ يَمْتَشِطُ
بِهِ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا قَبِيصَةُ بْنُ
عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ رَبِيعِ بْنِ
صُبَيْحٍ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَيُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ
بِالْمَاءِ. أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا
عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ بِهَا عِنْدَ النَّوْمِ
ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) الطَّيِّبَاتُ اسْمٌ عَامٌّ
لِمَا طَابَ كَسْبًا وَطَعْمًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَقَتَادَةُ: يَعْنِي بِالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ مَا
حَرَّمَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْبَحَائِرِ
وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَالْحَوَامِي. وَقِيلَ: هِيَ
كُلُّ مُسْتَلَذٍّ مِنَ الطَّعَامِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّذَّاتِ،
فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ، وَالْفِعْلُ
وَالتَّرْكُ يَسْتَوِي فِي الْمُبَاحَاتِ. وَقَالَ آخَرُونَ:
لَيْسَ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ سَبِيلٌ إِلَى
الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَقِصَرِ الْأَمَلِ فِيهَا،
وَتَرْكِ التَّكَلُّفِ لِأَجْلِهَا، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ
إِلَيْهِ، وَالْمَنْدُوبُ قُرْبَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ:
وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَوْلُهُ: لَوْ شِئْنَا لَاتَّخَذْنَا صِلَاءً وَصَلَائِقَ
وَصِنَابًا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَذُمُّ
أَقْوَامًا فَقَالَ:" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي
حَياتِكُمُ الدُّنْيا «1» " وَيُرْوَى" صَرَائِقُ" بِالرَّاءِ،
وَهُمَا جَمِيعًا الْجَرَادِقُ «2». وَالصَّلَائِقُ (باللام):
ما يلصق مِنَ اللُّحُومِ وَالْبُقُولِ. وَالصِّلَاءُ (بِكَسْرِ
الصَّادِ وَالْمَدِّ): الشِّوَاءُ: وَالصِّنَابُ: الْخَرْدَلُ
بِالزَّبِيبِ. وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ حُضُورِ ذَلِكَ
كُلِّهِ بِكُلْفَةٍ وَبِغَيْرِ كُلْفَةٍ. قَالَ أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْمَقْدِسِيُّ شَيْخُ
أشياخنا: وهو الصحيح أشاء اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ
لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ امْتَنَعَ من
__________
(1). راجع ج 16 ص 199.
(2). الجرادق: جمع جردقة، وهى الرغيف.
(7/198)
طَعَامٍ لِأَجْلِ طِيبِهِ قَطُّ، بَلْ
كَانَ يَأْكُلُ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ وَالْبِطِّيخَ
وَالرُّطَبَ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ التَّكَلُّفُ لِمَا فِيهِ
مِنَ التَّشَاغُلِ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عَنْ مُهِمَّاتِ
الْآخِرَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَقَدْ
كَرِهَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ، وَاحْتَجَّ
بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ
وَاللَّحْمَ فَإِنَّ له ضراوة كضرواة «1» الْخَمْرِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ عُمَرَ قَوْلٌ خَرَجَ عَلَى
مَنْ خَشِيَ مِنْهُ إِيثَارَ التَّنَعُّمِ فِي الدُّنْيَا،
وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَى الشَّهَوَاتِ، وَشِفَاءَ النَّفْسِ
مِنَ اللَّذَّاتِ، وَنِسْيَانَ الْآخِرَةِ وَالْإِقْبَالَ
عَلَى الدُّنْيَا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عمال: إِيَّاكُمْ
وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ أَهْلِ الْعَجَمِ، وَاخْشَوْشِنُوا.
وَلَمْ يرد رضي الله عنه تحريم شي أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَلَا
تَحْظِيرَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ. وَقَوْلُ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْلَى مَا امْتُثِلَ وَاعْتُمِدَ
عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ
اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ
الرِّزْقِ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (سَيِّدُ إِدَامِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ). وَقَدْ رَوَى هِشَامُ
بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الطِّبِّيخَ
بِالرُّطَبِ وَيَقُولُ: (يَكْسِرُ حَرُّ هَذَا بَرْدَ هَذَا
وَبَرْدُ هَذَا حَرَّ هَذَا). وَالطِّبِّيخُ لُغَةٌ فِي
الْبِطِّيخِ، وَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ. وَقَدْ «2» مَضَى فِي"
الْمَائِدَةِ" الرَّدُّ عَلَى مَنْ آثَرَ أَكْلَ الْخَشِنِ
مِنَ الطَّعَامِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِ
وَغَيْرُهَا: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) يَعْنِي بِحَقِّهَا مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ
تَعَالَى وَالتَّصْدِيقِ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُنْعِمُ
وَيَرْزُقُ، فَإِنْ وَحَّدَهُ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ
وَصَدَّقَهُ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ النِّعْمَةِ، وَإِنْ كَفَرَ
فَقَدْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ نَفْسِهِ. وَفِي صَحِيحِ
الْحَدِيثِ (لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنَ اللَّهِ
يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَهُمْ يَدَّعُونَ لَهُ
الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ). وَتَمَّ الْكَلَامُ عَلَى"
الْحَياةِ الدُّنْيا". ثُمَّ قَالَ" خالِصَةً" بِالرَّفْعِ
وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَافِعٍ." خالِصَةً يَوْمَ
الْقِيامَةِ" أَيْ يُخْلِصُ اللَّهُ الطَّيِّبَاتِ فِي
الْآخِرَةِ لِلَّذِينَ آمَنُوا، وليس للمشركين فيها شي كَمَا
كَانَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِيهَا.
وَمَجَازُ الْآيَةِ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
مُشْتَرِكَةٌ فِي الدُّنْيَا مَعَ غَيْرِهِمْ، وَهِيَ
لِلْمُؤْمِنِينَ
__________
(1). أي أن له عادة ينزع إليها كعادة الخمر. أي عادة طلابة
لأكله وتسمى القرم وهى شدة شهوة اللحم.
(2). راجع ج 6 ص 260.
(7/199)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
خالصة يوم القيامة. فخالصة مُسْتَأْنَفٌ
عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ
وَابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ
هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الدُّنْيَا هِيَ
خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِلْمُؤْمِنِينَ فِي
الدُّنْيَا، وَخُلُوصُهَا أَنَّهُمْ لَا يُعَاقَبُونَ
عَلَيْهَا وَلَا يُعَذَّبُونَ فَقَوْلُهُ:" فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا" مُتَعَلِّقٌ" بِ" آمَنُوا". وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ
تَفْسِيرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ وَالْقَطْعِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ
قَدْ تَمَّ دُونَهُ. وَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى هَذِهِ
الْقِرَاءَةِ على" الدُّنْيا"، لأن ما بعده متعلق بقول"
لِلَّذِينَ آمَنُوا" حال مِنْهُ، بِتَقْدِيرِ قُلْ هِيَ
ثَابِتَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي
حَالِ خُلُوصِهَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ أَبُو
عَلِيٍّ. وَخَبَرُ الِابْتِدَاءِ" لِلَّذِينَ آمَنُوا".
والعالم فِي الْحَالِ مَا فِي اللَّامِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ
فِي قَوْلِهِ:" لِلَّذِينَ" وَاخْتَارَ سِيبَوَيْهِ النَّصْبَ
لِتَقَدُّمِ الظَّرْفِ." كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ" أَيْ
كَالَّذِي فَصَّلْتُ لَكُمُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ أُفَصِّلُ
لَكُمْ مَا تحتاجون إليه.
[سورة الأعراف (7): آية 33]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها
وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا لبس
المسلمون الثياب وطافوا بالبيت غيرهم الْمُشْرِكُونَ،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْفَوَاحِشُ: الْأَعْمَالُ
الْمُفْرِطَةُ فِي الْقُبْحِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ. وَرَوَى رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ
إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:"
مَا ظَهَرَ مِنْها" نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ." وَما بَطَنَ" الزِّنَى. وَقَالَ قَتَادَةُ:
سِرُّهَا وَعَلَانِيَتُهَا. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ
ذَكَرَ الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ
بِالْفَوَاحِشِ. بَعْضُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
فَالظَّاهِرُ مِنَ الْفَوَاحِشِ الزِّنَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَالْإِثْمَ) قَالَ الْحَسَنُ: الْخَمْرُ. قَالَ الشَّاعِرِ:
شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ
الْإِثْمُ تذهب بالعقول
(7/200)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً
وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
وَقَالَ آخَرُ:
نَشْرَبُ الْإِثْمَ بِالصُّوَاعِ جِهَارًا ... وَتَرَى
الْمِسْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارَا «1»
" وَالْبَغْيَ" الظُّلْمُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ فِيهِ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْبَغْيُ أَنْ يَقَعَ الرَّجُلُ
فِي الرَّجُلِ فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ، وَيَبْغِي عَلَيْهِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ، إِلَّا أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْهُ بِحَقٍّ.
وَأَخْرَجَ الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَهُمَا
مِنْهُ لِعِظَمِهِمَا وَفُحْشِهِمَا، فَنَصَّ عَلَى
ذِكْرِهِمَا تَأْكِيدًا لِأَمْرِهِمَا وَقَصْدًا لِلزَّجْرِ
عَنْهُمَا. وَكَذَا وَأَنْ تُشْرِكُوا وأن تقولوا وهما في موضع
نصب عطفا عَلَى مَا قَبْلُ. وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ أَنْ
يَكُونَ الْإِثْمُ بِمَعْنَى الْخَمْرِ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
الْإِثْمُ مَا دُونَ الْحَدِّ وَالِاسْتِطَالَةُ عَلَى
النَّاسِ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِثْمُ
الْخَمْرَ فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ، وَحَقِيقَةُ الْإِثْمِ
أَنَّهُ جَمِيعُ الْمَعَاصِي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي وَجَدْتُ الْأَمْرَ أَرْشَدُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ
وَشَرُّهُ الْإِثْمُ
قُلْتُ: وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَيْضًا وَقَالَ:"
وَلَا حُجَّةَ فِي الْبَيْتِ «2»، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ:
شَرِبْتُ الذَّنْبَ أَوْ شَرِبْتُ الوزر لكان كذلك، ولم يوجب
قول أَنْ يَكُونَ الذَّنْبُ وَالْوِزْرُ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ
الْخَمْرِ كَذَلِكَ الْإِثْمُ. وَالَّذِي أَوْجَبَ
التَّكَلُّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْجَهْلُ بِاللُّغَةِ
وَبِطَرِيقِ الْأَدِلَّةِ فِي الْمَعَانِي". قُلْتُ: وَقَدْ
ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي
الصِّحَاحِ: وَقَدْ يُسَمَّى الْخَمْرُ إِثْمًا، وَأَنْشَدَ:
شَرِبْتُ الْإِثْمَ ....
الْبَيْتَ وَأَنْشَدَهُ الْهَرَوِيُّ فِي غَرِيبَيْهِ، عَلَى
أَنَّ الْخَمْرَ الْإِثْمُ. فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ
الْإِثْمُ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَعَلَى الْخَمْرِ
أَيْضًا لُغَةً، فَلَا تَنَاقُضَ. وَالْبَغْيُ: التَّجَاوُزُ
في الظلم، وقيل: الفساد.
[سورة الأعراف (7): آية 34]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا
يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ:
__________
(1). الصراع: إنا يشرب فيه. ومستعار: متداول. أي نتعاوره
بأيدينا تشتمه.
(2). يريد به البيت الأول.
(7/201)
يَا بَنِي آدَمَ
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ
آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ) أَيْ وَقْتٌ مُؤَقَّتٌ. (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أَيِ
الْوَقْتُ الْمَعْلُومُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ" جَاءَ آجَالُهُمْ" بِالْجَمْعِ لَا
يَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ،
إِلَّا أَنَّ السَّاعَةَ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا
أَقَلُّ أَسْمَاءِ الْأَوْقَاتِ، وَهِيَ ظَرْفُ زَمَانٍ. وَلَا
يَسْتَقْدِمُونَ فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ
إِنَّمَا يُقْتَلُ بِأَجَلِهِ. وَأَجَلُ الْمَوْتِ هُوَ وَقْتُ
الْمَوْتِ، كَمَا أَنَّ أَجَلَ الدَّيْنِ هو وقت حلوله. وكل شي
وقت به شي فَهُوَ أَجَلٌ لَهُ. وَأَجَلُ الْإِنْسَانِ هُوَ
الْوَقْتُ الَّذِي يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ «1»
الْحَيُّ فِيهِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ وَقْتٌ لَا يَجُوزُ
تَأْخِيرُ موته عنه، لأمن حَيْثُ إِنَّهُ لَيْسَ مَقْدُورًا
تَأْخِيرُهُ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَّا
مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمَقْتُولَ مَاتَ بِغَيْرِ
أَجَلِهِ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ، وَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ
لَحَيِيَ. وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْمَقْتُولَ لَمْ يَمُتْ
مِنْ أَجْلِ قَتْلِ غَيْرِهِ لَهُ، بَلْ مِنْ أَجْلِ مَا
فَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ إِزْهَاقِ نَفْسِهِ عِنْدَ الضَّرْبِ
لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ مَاتَ بِأَجَلِهِ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ ضَارِبَهُ وَتَقْتَصُّونَ مِنْهُ؟. قِيلَ لَهُ:
نَقْتُلُهُ لِتَعَدِّيهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيمَا لَيْسَ لَهُ
أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ، لَا لِمَوْتِهِ وَخُرُوجِ الرُّوحِ
إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ. وَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ
وَالتَّعَدِّي مِنْ غَيْرِ قِصَاصٍ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى
الْفَسَادِ وَدَمَارِ العباد. وهذا واضح.
[سورة الأعراف (7): الآيات 35 الى 36]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
رُسُلٌ مِنْكُمْ) شَرْطٌ. وَدَخَلَتِ النُّونُ تَوْكِيدًا
لِدُخُولِ" مَا". وَقِيلَ: مَا صِلَةٌ، أَيْ إِنْ يَأْتِكُمْ.
أَخْبَرَ أَنَّهُ يُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ مِنْهُمْ
لِتَكُونَ إِجَابَتُهُمْ أَقْرَبَ. وَالْقَصَصُ إِتْبَاعُ
الْحَدِيثِ بَعْضَهُ بَعْضًا. (آياتِي) أَيْ فَرَائِضِي
وَأَحْكَامِي. فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ شَرْطٌ، وَمَا
بَعْدَهُ جَوَابُهُ، وَهُوَ جَوَابُ الْأَوَّلِ. أَيْ
وَأَصْلَحَ مِنْكُمْ مَا بيني وبينه. فلا خوف عليهم ولاهم
يَحْزَنُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ لَا يَخَافُونَ وَلَا يَحْزَنُونَ، وَلَا
يَلْحَقُهُمْ رُعْبٌ وَلَا فَزَعٌ. وَقِيلَ: قَدْ يَلْحَقُهُمْ
أَهْوَالُ يَوْمِ القيامة، ولكن
__________
(1). في ك: يميت.
(7/202)
فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ
بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ
حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا
ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ
كَانُوا كَافِرِينَ (37)
مَآلَهُمُ الْأَمْنُ. وَقِيلَ: جَوَابُ"
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ" مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ
فَأَطِيعُوهُمْ" فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ" والقول الأول قول
الزجاج.
[سورة الأعراف (7): آية 37]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ
كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ
الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ
قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ
كانُوا كافِرِينَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) الْمَعْنَى أَيُّ
ظُلْمٍ أَشْنَعُ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى الله تعالى والتكذيب
بآياته. ثم قال: (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ
الْكِتابِ) أَيْ مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَعُمُرٍ
وَعَمَلٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. ابْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ شَقَاءٍ
وَسَعَادَةٍ. ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. الْحَسَنُ
وَأَبُو صَالِحٍ: مِنَ الْعَذَابِ بِقَدْرِ كُفْرِهِمْ.
وَاخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا
كُتِبَ لَهُمْ، أَيْ مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ
وَرِزْقٍ وَعَمَلٍ وَأَجَلٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ
زَيْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ: أَلَا تَرَى
أَنَّهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ
رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) يَعْنِي رُسُلَ مَلَكِ الْمَوْتِ.
وَقِيلَ:" الْكِتابِ" هُنَا الْقُرْآنُ، لِأَنَّ عَذَابَ
الْكُفَّارِ مَذْكُورٌ فِيهِ. وَقِيلَ:" الْكِتابِ" اللَّوْحُ
الْمَحْفُوظُ. ذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ
قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ قَالَ:
سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ عَنِ الْقَدَرِ
فَقَالَ لِي: كُلُّ شي بِقَدَرٍ، وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ
بِقَدَرٍ، وَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ مَنْ قَالَ: إِنَّ
الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ بِقَدَرٍ. قَالَ عَلِيٌّ وَقَالَ لِي
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: الْعِلْمُ وَالْقَدَرُ
وَالْكِتَابُ سَوَاءٌ. ثُمَّ عَرَضْتُ كَلَامَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ
الْفَزَارِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سُمَيْعٍ عَنْ
بُكَيْرٍ الطَّوِيلِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ"
أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ" قَالَ:
قَوْمٌ يعملون أعمالا لأبد لَهُمْ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا. وَ"
حَتَّى" لَيْسَتْ غَايَةً، بَلْ هِيَ ابْتِدَاءُ خَبَرٍ
عَنْهُمْ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: حَتَّى وَإِمَّا
وَإِلَّا
(7/203)
قَالَ ادْخُلُوا فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ
لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ
عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ
لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ
فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
لَا يُمَلْنَ لِأَنَّهُنَّ حُرُوفٌ
فَفُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَسْمَاءِ نَحْوَ حُبْلَى
وَسَكْرَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: تُكْتَبُ حَتَّى بِالْيَاءِ
لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ سَكْرَى، وَلَوْ كُتِبَتْ إِلَّا
بِالْيَاءِ لَأَشْبَهَتْ إِلَى. وَلَمْ تُكْتَبْ إِمَّا
بِالْيَاءِ لِأَنَّهَا" إِنْ" ضُمَّتْ إِلَيْهَا مَا. (قالُوا
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) سُؤَالُ
تَوْبِيخٍ. وَمَعْنَى" تَدْعُونَ" تَعْبُدُونَ. (قالُوا
ضَلُّوا عَنَّا) أَيْ بَطَلُوا وَذَهَبُوا. قِيلَ: يَكُونُ
هَذَا فِي الْآخِرَةِ. (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي أقروا بالكفر على أنفسهم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 38 الى 39]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ
لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً
قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا
فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ
وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ
فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ
بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) أَيْ
مَعَ أُمَمٍ، فَ" فِي" بِمَعْنَى مَعَ. وَهَذَا لَا
يَمْتَنِعُ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ فِي الْقَوْمِ، أَيْ
مَعَ الْقَوْمِ. وَقِيلَ: هِيَ عَلَى بَابِهَا، أَيِ ادْخُلُوا
فِي جُمْلَتِهِمْ. وَالْقَائِلُ قِيلَ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، أَيْ قَالَ اللَّهُ ادْخُلُوا. وَقِيلَ: هُوَ مَالِكٌ
خَازِنُ النَّارِ." (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ
أُخْتَها) " أَيِ الَّتِي سَبَقَتْهَا إِلَى النَّارِ، وَهِيَ
أُخْتُهَا فِي، الدِّينِ وَالْمِلَّةِ. حَتَّى إذا أدركوا
فِيهَا جَمِيعًا أَيِ اجْتَمَعُوا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ"
تَدَارَكُوا" وَهُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ وَقَعَ الْإِدْغَامُ
فَاحْتِيجَ إِلَى أَلِفِ الْوَصْلِ. وَحَكَاهَا الْمَهْدَوِيُّ
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. النَّحَّاسُ: وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ"
حَتَّى إِذَا ادَّرَكُوا" أَيْ أَدْرَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَعِصْمَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو" حَتَّى إِذَا ادَّارْكُوا"
بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ عَلَى الجمع بين الساكنين. وحكى: هذان
عبد اللَّهِ. وَلَهُ ثُلُثَا الْمَالِ. وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو
أَيْضًا:" إِذَا إِدَّارَكُوا" بِقَطْعِ أَلِفِ
(7/204)
إِنَّ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ
لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ
وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ
(41)
الْوَصْلِ، فَكَأَنَّهُ سَكَتَ عَلَى"
إِذَا" لِلتَّذَكُّرِ، فَلَمَّا طَالَ سُكُوتُهُ قَطَعَ أَلِفَ
الْوَصْلِ، كَالْمُبْتَدِئِ بِهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ
قَطْعُ أَلِفِ الْوَصْلِ نحو قوله:
يَا نَفْسُ صَبْرًا كُلُّ حَيٍّ لَاقِي ... وَكُلُّ اثْنَيْنِ
إِلَى إِفْتِرَاقِ
وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَحُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ" حَتَّى إِذِ
ادَّرَكُوا" بِحَذْفِ أَلِفِ" إِذَا" لِالْتِقَاءِ
السَّاكِنَيْنِ، وَحَذْفِ الْأَلِفِ الَّتِي بَعْدَ الدَّالِ."
جَمِيعاً" نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. (قالَتْ أُخْراهُمْ
لِأُولاهُمْ) أَيْ آخِرُهُمْ دُخُولًا وَهُمُ الْأَتْبَاعُ
لِأُولَاهُمْ وَهُمُ الْقَادَةُ. رَبَّنَا هَؤُلَاءِ
أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ.
فَاللَّامُ فِي" لِأُولاهُمْ" لَامُ أَجْلٍ، لِأَنَّهُمْ لَمْ
يُخَاطِبُوا أُولَاهُمْ وَلَكِنْ قَالُوا فِي حَقِّ أُولَاهُمْ
رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا. وَالضِّعْفُ الْمِثْلُ
الزَّائِدُ عَلَى مِثْلِهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ. وَعَنِ ابن
مسعود أن الضعف ها هنا الْأَفَاعِي وَالْحَيَّاتُ. وَنَظِيرُ
هَذِهِ الْآيَةِ" رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ
وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً «1» ". وَهُنَاكَ يَأْتِي
ذِكْرُ الضِّعْفِ بِأَبْشَعَ مِنْ هَذَا وَمَا يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أَيْ لِلتَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ.
(وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ
بِالْيَاءِ، أَيْ لَا يَعْلَمُ كُلُّ فَرِيقٍ مَا بِالْفَرِيقِ
الْآخَرِ، إِذْ لَوْ عَلِمَ بَعْضُ مَنْ فِي النَّارِ أَنَّ
عَذَابَ أَحَدٍ فَوْقَ عَذَابِهِ لَكَانَ نَوْعَ سَلْوَةٍ
لَهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى" وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ"
بِالتَّاءِ، أَيْ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا
الْمُخَاطَبُونَ مَا يَجِدُونَ مِنَ الْعَذَابِ. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ولكن لا تعلمون يأهل الدُّنْيَا
مِقْدَارَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ. (وَقالَتْ
أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ
فَضْلٍ) أَيْ قَدْ كَفَرْتُمْ وَفَعَلْتُمْ كَمَا فعلنا، فليس
تستحقون تخفيفا من العذاب فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون.
[سورة الأعراف (7): الآيات 40 الى 41]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها
لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ
مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ (41)
__________
(1). راجع ج 14 ص 249. [ ..... ]
(7/205)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ
لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أَيْ لِأَرْوَاحِهِمْ. جَاءَتْ
بِذَلِكَ أَخْبَارٌ صِحَاحٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ
(التَّذْكِرَةِ). مِنْهَا حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ،
وَفِيهِ فِي قَبْضِ رُوحِ الْكَافِرِ قَالَ: وَيَخْرُجُ
مِنْهَا رِيحٌ كَأَنْتَنِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَلَأٍ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ
الخبيثة. فيقولون فلان بن فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ
الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى
يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا
فَيَسْتَفْتِحُونَ فَلَا يُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا
تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ" الْآيَةَ. وَقِيلَ: لَا
تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ إِذَا دَعَوْا، قَالَهُ
مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُفَتَّحُ
لَهُمْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ فِي
السَّمَاءِ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَلا يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)
وَالْجَمَلُ لَا يَلِجُ فَلَا يَدْخُلُونَهَا الْبَتَّةَ.
وَهَذَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُمْ.
وَعَلَى هَذَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ
عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
لَا يَغْفِرُ لَهُمْ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ. قَالَ الْقَاضِي
أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ
يَكُونُ هَذَا إِجْمَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ؟ وَقَدْ زَعَمَ
قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِأَنَّ مُقَلِّدَةَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ لَيْسُوا
فِي النَّارِ. قِيلَ لَهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَنْكَرُوا أَنْ
يَكُونَ الْمُقَلِّدُ كَافِرًا لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ
عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَزْعُمُوا أَنَّ الْمُقَلِّدَ كَافِرٌ
وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ فِي النَّارِ، وَالْعِلْمُ
بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ كَافِرٌ أَوْ غَيْرُ كَافِرٍ طَرِيقُهُ
النَّظَرُ دُونَ التَّوْقِيفِ وَالْخَبَرِ. وقرا حمزة
والكسائي:" لا تُفَتَّحُ" بِالْيَاءِ مَضْمُومَةٍ عَلَى
تَذْكِيرِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى
تَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ، كَمَا قَالَ:" مُفَتَّحَةً لَهُمُ
الْأَبْوابُ «1» " فَأَنَّثَ. وَلَمَّا كَانَ التَّأْنِيثُ فِي
الْأَبْوَابِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ جَازَ تَذْكِيرُ الْجَمْعِ.
وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْيَاءِ وَخَفَّفَ أَبُو
عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ
التَّخْفِيفَ يَكُونُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ،
وَالتَّشْدِيدَ لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّكْرِيرِ مَرَّةً بَعْدَ
مَرَّةٍ لَا غَيْرَ، وَالتَّشْدِيدُ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ
عَلَى الْكَثِيرِ أَدَلُّ. وَالْجَمَلُ مِنَ الْإِبِلِ. قَالَ
الْفَرَّاءُ: الْجَمَلُ زَوْجُ النَّاقَةِ. وَكَذَا قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْجَمَلِ
فَقَالَ: هُوَ زَوْجُ النَّاقَةِ، كَأَنَّهُ اسْتَجْهَلَ مَنْ
سأله عما يعرفه الناس جميعا. والجمع
__________
(1). راجع ج 15 ص 219.
(7/206)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (42)
جِمَالٌ وَأَجْمَالٌ وَجَمَالَاتٌ
وَجَمَائِلُ. وَإِنَّمَا يُسَمَّى جَمَلًا إِذَا أَرْبَعَ.
وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ:" حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ
الْأَصْفَرُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ". ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ
الْأَنْبَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ
دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ فِي
قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ ... ، فَذَكَرَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ
عَبَّاسٍ" الْجُمَّلُ" بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ
وَتَشْدِيدِهَا. وَهُوَ حَبْلُ السَّفِينَةِ الَّذِي يُقَالُ
لَهُ الْقَلْسُ، وَهُوَ حِبَالٌ مَجْمُوعَةٌ، جَمْعُ جُمْلَةٍ،
قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ. وَقِيلَ: الْحَبْلُ
الْغَلِيظُ مِنَ الْقَنْبِ. وَقِيلَ: الْحَبْلُ الَّذِي
يُصْعَدُ بِهِ فِي النَّخْلِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ:" الْجُمَلُ" بِضَمِّ الْجِيمِ
وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ هُوَ الْقَلْسُ أَيْضًا وَالْحَبْلُ،
عَلَى مَا ذَكَرْنَا آنِفًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا"
الْجُمُلُ" بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ جَمَلٍ، كَأُسُدٍ وَأَسَدٍ،
وَالْجُمْلُ مِثْلَ أَسَدٍ وَأُسْدٍ. وَعَنْ أَبِي
السَّمَّالِ" الْجَمْلِ" بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ
الْمِيمِ، تَخْفِيفُ" جَمَلٍ". وَسَمِّ الْخِيَاطِ: ثُقْبُ
الْإِبْرَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَكُلُّ ثُقْبٍ
لَطِيفٍ فِي الْبَدَنِ يُسَمَّى سَمًّا وَسُمًّا وَجَمْعُهُ
سُمُومٌ. وَجَمْعُ السُّمِّ الْقَاتِلِ سِمَامٌ. وَقَرَأَ
ابْنُ سِيرِينَ" فِي سُمِّ" بِضَمِّ السِّينِ. وَالْخِيَاطُ:
مَا يُخَاطُ بِهِ، يُقَالُ: خِيَاطٌ وَمِخْيَطٌ، مِثْلَ
إِزَارٍ ومئزر وقناع ومقنع." المهاد" الْفِرَاشُ. وَ" غَواشٍ"
جَمْعُ غَاشِيَةٍ، أَيْ نِيرَانٌ تَغْشَاهُمْ. (وَكَذَلِكَ
نَجْزِي الظَّالِمِينَ) يَعْنِي الْكُفَّارَ. وَاللَّهُ أعلم.
[سورة الأعراف (7): آية 42]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا نُكَلِّفُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)
كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ، أَيْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ. وَمَعْنَى" لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها" أَيْ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْ أَحَدًا مِنْ نَفَقَاتِ
الزَّوْجَاتِ إِلَّا مَا وَجَدَ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ، دُونَ مَا
لَا تَنَالُهُ يَدُهُ، وَلَمْ يُرِدْ إِثْبَاتَ
الِاسْتِطَاعَةِ قبل الفعل، قال ابْنُ الطَّيِّبِ. نَظِيرُهُ"
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا «1» ".
__________
(1). راجع ج 18 ص 170.
(7/207)
وَنَزَعْنَا مَا فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا
كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ
جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ
الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
[سورة الأعراف (7): آية 43]
وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا
اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا
أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (43)
ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا يُنْعِمُ بِهِ عَلَى
أَهْلِ الْجَنَّةِ نَزْعَ الْغِلِّ مِنْ صُدُورِهِمْ.
وَالنَّزْعُ: الِاسْتِخْرَاجُ وَالْغِلُّ: الْحِقْدُ
الْكَامِنُ فِي الصَّدْرِ. وَالْجَمْعُ غِلَالٌ. أَيْ
أَذْهَبْنَا فِي الْجَنَّةِ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ
الْغِلِّ فِي الدُّنْيَا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْغِلُّ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ
كَمَبَارِكِ الْإِبِلِ قَدْ نَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ). وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ
وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى فِيهِمْ:" وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ
غِلٍّ". وَقِيلَ: نَزْعُ الْغِلِّ فِي الْجَنَّةِ أَلَّا
يَحْسُدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي تَفَاضُلِ مَنَازِلِهِمْ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ،
وَلِهَذَا قَالَ:" وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «1»
" أَيْ يُطَهِّرُ الْأَوْضَارَ مِنَ الصُّدُورِ، عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" الْإِنْسَانِ" وَ" الزُّمَرِ
«2» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) (أَيْ لِهَذَا «3») الثَّوَابِ،
بِأَنْ أَرْشَدَنَا وَخَلَقَ لَنَا الْهِدَايَةَ. وَهَذَا
رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. (وَما كُنَّا) قِرَاءَةُ ابْنُ
عَامِرٍ بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ. وَالْبَاقُونَ بِإِثْبَاتِهَا.
(لِنَهْتَدِيَ) لام كي. (لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ. (وَنُودُوا) أَصْلُهُ. نُودِيُوا (أَنْ) فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ
بِأَنَّهُ (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ). وَقَدْ تَكُونُ تَفْسِيرًا
لِمَا نُودُوا بِهِ، لِأَنَّ النِّدَاءَ قَوْلٌ، فَلَا يَكُونُ
لَهَا مَوْضِعٌ. أَيْ قِيلَ لَهُمْ:" تِلْكُمُ الْجَنَّةُ"
لِأَنَّهُمْ وُعِدُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا، أَيْ قِيلَ
لَهُمْ: هَذِهِ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ الَّتِي وُعِدْتُمْ بِهَا،
أَوْ يُقَالُ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ حِينَ عَايَنُوهَا مِنْ
بُعْدٍ. وَقِيلَ:" تِلْكُمُ" بمعنى هذه. ومعنى (أُورِثْتُمُوها
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أَيْ وَرِثْتُمْ مَنَازِلَهَا
بِعَمَلِكُمْ، وَدُخُولُكُمْ إِيَّاهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ
وَفَضْلِهِ. كَمَا قال:" ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ «4» ".
__________
(1). راجع ج 19 ص 141.
(2). راجع ج 15 ص 284.
(3). من ع.
(4). راجع ج 5 ص 271.
(7/208)
وَنَادَى أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ
رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
وَقَالَ:" فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ
مِنْهُ وَفَضْلٍ «1» ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (لَنْ
يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ) قَالُوا:
وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلَا أَنَا إِلَّا
أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ مِنْهُ وَفَضْلٍ).
وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: لَيْسَ مِنْ كَافِرٍ وَلَا مُؤْمِنٍ
إِلَّا وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَنْزِلٌ، فَإِذَا
دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ
النَّارَ رُفِعَتِ الْجَنَّةُ لِأَهْلِ النَّارِ فَنَظَرُوا
«2» إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِيهَا، فَقِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ
مَنَازِلُكُمْ لَوْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ. ثُمَّ
يُقَالُ: يأهل الْجَنَّةِ رِثُوهُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ، فَتُقْسَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ
مَنَازِلُهُمْ. قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (لَا يَمُوتُ
رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ فِي
النَّارِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا). فَهَذَا أَيْضًا
مِيرَاثٌ، نَعَّمَ بِفَضْلِهِ مَنْ شَاءَ وَعَذَّبَ بِعَدْلِهِ
مَنْ شَاءَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْجَنَّةُ وَمَنَازِلُهَا لَا
تُنَالُ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ، فَإِذَا دَخَلُوهَا
بِأَعْمَالِهِمْ فَقَدْ وَرِثُوهَا بِرَحْمَتِهِ، وَدَخَلُوهَا
بِرَحْمَتِهِ، إِذْ أَعْمَالُهُمْ رَحْمَةٌ منه لهم وتفضل
عليهم. وقرى" أُورِثْتُمُوهَا" مِنْ غَيْرِ إِدْغَامٍ.
وَقُرِئَ بِإِدْغَامِ التَّاءِ في الثاء.
[سورة الأعراف (7): آية 44]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ
وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا
وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
قوله تعالى: (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) هَذَا سُؤَالُ
تَقْرِيعٍ وَتَعْيِيرٍ. (أَنْ قَدْ وَجَدْنا) مِثْلَ" أَنْ
تِلْكُمُ الْجَنَّةُ" أَيْ أَنَّهُ قَدْ وَجَدْنَا. وَقِيلَ:
هُوَ نَفْسُ النِّدَاءِ. (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ)
أَيْ نَادَى وَصَوَّتَ، يَعْنِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ."
بَيْنَهُمْ" ظَرْفٌ، كَمَا تَقُولُ: أَعْلَمُ وَسَطَهُمْ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ:" نَعِمَ" بِكَسْرِ
الْعَيْنِ وَتَجُوزُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ بِإِسْكَانِ
الْعَيْنِ. قَالَ مَكِّيٌّ: مَنْ قَالَ" نَعِمَ" بِكَسْرِ
الْعَيْنِ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ" نَعَمْ" الَّتِي
هِيَ جَوَابٌ وَبَيْنَ" نَعَمٌ" الَّتِي هِيَ اسْمٌ لِلْإِبِلِ
وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ
إِنْكَارَ" نَعَمْ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ في الجواب، وقال: قل
__________
(1). راجع ج 6 ص 27.
(2). في ك: فينظرون.
(7/209)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ
بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
نَعِمَ. وَنَعَمْ وَنَعِمَ، لُغَتَانِ
بِمَعْنَى الْعِدَةِ وَالتَّصْدِيقِ. فَالْعِدَةُ إِذَا
اسْتَفْهَمْتَ عَنْ مُوجَبٍ نَحْوَ قَوْلِكَ: أَيَقُومُ
زَيْدٌ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ. وَالتَّصْدِيقُ إِذَا أَخْبَرْتَ
عَمَّا وَقَعَ، تَقُولُ: قَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ
نَعَمْ. فَإِذَا اسْتَفْهَمْتَ عَنْ مَنْفِيٍّ فَالْجَوَابُ
بَلَى نَحْوَ قَوْلِكَ أَلَمْ أُكْرِمْكَ، فَيَقُولُ بَلَى.
فَنَعَمْ لِجَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلِ عَلَى
الْإِيجَابِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَبَلَى، لِجَوَابِ
الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلِ عَلَى النَّفْيِ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى:" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» ". وَقَرَأَ
الْبَزِّيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ"
أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ" وَهُوَ الْأَصْلُ. وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ" أَنْ" وَرَفْعِ اللَّعْنَةِ عَلَى
الِابْتِدَاءِ. فَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى
الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ. وَيَجُوزُ فِي
الْمُخَفَّفَةِ أَلَّا يَكُونَ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ
الْإِعْرَابِ، وَتَكُونُ مُفَسِّرَةً كما تقوم. وَحُكِيَ عَنِ
الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ" إِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ" بِكَسْرِ
الْهَمْزَةِ، فَهَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ كما قرأ
الكوفيون «2» " فناداه الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي
فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ" وَيُرْوَى أَنَّ طَاوُسًا
دَخَلَ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ:
اتَّقِ اللَّهَ وَاحْذَرْ يَوْمَ الْأَذَانِ. فَقَالَ: وَمَا
يَوْمُ الْأَذَانِ؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ" فَصُعِقَ هِشَامٌ. فَقَالَ طَاوُسٌ: هَذَا
ذُلُّ الصِّفَةِ فَكَيْفَ ذُلُّ الْمُعَايَنَةِ.
[سورة الأعراف (7): آية 45]
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها
عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ لِ" ظالمين" على النعت. ويجوز
الرفع والنصب على إضمارهم أَوْ أَعْنِي. أَيِ الَّذِينَ
كَانُوا يَصُدُّونَ فِي الدُّنْيَا النَّاسَ عَنِ
الْإِسْلَامِ. فَهُوَ مِنَ الصَّدِّ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ.
أَوْ يَصُدُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ
يُعْرِضُونَ. وَهَذَا مِنَ الصُّدُودِ. (وَيَبْغُونَها
عِوَجاً) يَطْلُبُونَ اعْوِجَاجَهَا وَيَذُمُّونَهَا فَلَا
يُؤْمِنُونَ بِهَا. وَقَدْ مَضَى هَذَا «3» الْمَعْنَى.-
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) أَيْ وَكَانُوا بِهَا
كَافِرِينَ، فَحُذِفَ وَهُوَ كثير في الكلام.
__________
(1). راجع ص 313 من هذا الجزء.
(2). كذا في الأصول. وتقدم في ج 4 ص 74 أنها قراءة حمزة
والكسائي فيكون الصواب: الكوفيان. وفى الشواذ قراءة ابن مسعود.
(3). راجع ج 4 ص 154.
(7/210)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ
وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ
وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ
يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
[سورة الأعراف (7): آية 46]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ
كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
أَيْ بَيْنَ النَّارِ وَالْجَنَّةِ- لِأَنَّهُ جَرَى
ذِكْرُهُمَا- حاجز، أسور. وَهُوَ السُّورُ الَّذِي ذَكَرَهُ
اللَّهُ فِي قَوْلِهِ:" فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ «1» ".
(وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) أَيْ عَلَى أَعْرَافِ السُّورِ،
وَهِيَ شُرَفُهُ. وَمِنْهُ عُرْفُ الْفَرَسِ وَعُرْفُ
الدِّيكِ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي «2» يَزِيدَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأَعْرَافُ الشَّيْءُ
الْمُشْرِفُ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ: الْأَعْرَافُ سُورٌ لَهُ عُرْفٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ.
وَالْأَعْرَافُ فِي اللُّغَةِ: الْمَكَانُ الْمُشْرِفُ، جَمْعُ
عُرْفٍ. قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: سَأَلْتُ الْكِسَائِيَّ
عَنْ وَاحِدِ الْأَعْرَافِ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: الْأَعْرَافُ سُورٌ لَهُ عُرْفٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ.
فَقَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ، وَاحِدُهُ يَعْنِي، وَجَمَاعَتُهُ
أَعْرَافٌ، يَا غُلَامُ، هَاتِ الْقِرْطَاسَ، فَكَتَبَهُ.
وَهَذَا الْكَلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ. الْمَدْحِ، كَمَا قَالَ
فِيهِ:" رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ «3» " وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي
أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ
وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ
جُبَيْرٍ: هُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ
وَسَيِّئَاتُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي مُسْنَدِ
خَيْثَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ (فِي آخِرِ الْجُزْءِ الْخَامِسَ
عَشَرَ) حَدِيثٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ
رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تُوضَعُ
الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُوزَنُ الْحَسَنَاتُ
وَالسَّيِّئَاتُ فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى
سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ صوابه «4» دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ
رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مثقال صوابه دخل
النار). قيل: يا وسول اللَّهِ، فَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ
وَسَيِّئَاتُهُ؟ قَالَ: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ)
(لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ). وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
هُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ فُقَهَاءُ عُلَمَاءُ. وَقِيلَ: هُمُ
الشُّهَدَاءُ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقَالَ
الْقُشَيْرِيُّ: وَقِيلَ هُمْ فُضَلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالشُّهَدَاءِ، فَرَغُوا مِنْ شَغْلِ أنفسهم، وتفرغوا لمطالعة
حال الناس، فإذا
__________
(1). راجع ج 17 ص 245.
(2). كذا في أو ج وك. وفى ز: ابن أبى زيد. والظاهر: ابن زيد.
راجع ج 12 ص 264.
(3). كذا في أو ج وك. وفى ز: ابن أبى زيد. والظاهر: ابن زيد.
راجع ج 12 ص 264. [ ..... ]
(4). الصؤابة: بيضة القملة.
(7/211)
رَأَوْا أَصْحَابَ النَّارِ تَعَوَّذُوا
بِاللَّهِ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ فِي
قُدْرَةِ اللَّهِ كُلَّ شي، وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ مَقْدُورٌ.
فَإِذَا رَأَوْا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا
بَعْدُ يَرْجُونَ لَهُمْ دُخُولَهَا. وَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ
سَعْدٍ: هُمُ الْمُسْتَشْهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ خَرَجُوا عُصَاةً لِآبَائِهِمْ. وَذَكَرَ
الطَّبَرِيُّ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ تَعَادَلَ عُقُوقُهُمْ
وَاسْتِشْهَادُهُمْ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ بِإِسْنَادِهِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قول عَزَّ وَجَلَّ:" وَعَلَى
الْأَعْرافِ رِجالٌ" قَالَ: الْأَعْرَافُ مَوْضِعٌ عَالٍ عَلَى
الصِّرَاطِ، عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ وَحَمْزَةُ وَعَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ وَجَعْفَرُ ذُو الْجَنَاحَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، يَعْرِفُونَ مُحِبِّيهِمْ بِبَيَاضِ الْوُجُوهِ
وَمُبْغِضِيهِمْ بِسَوَادِ الْوُجُوهِ. وَحَكَى
الزَّهْرَاوِيُّ أَنَّهُمْ عُدُولُ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ
يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَهُمْ فِي كُلِّ
أُمَّةٍ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ، وَقَالَ:
وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ، فَهُمْ عَلَى السُّورِ
بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُمْ
قَوْمُ أَنْبِيَاءَ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ كَانَتْ لَهُمْ
صَغَائِرُ لَمْ تُكَفَّرْ عَنْهُمْ بِالْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ
فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ لَهُمْ كَبَائِرُ فَيُحْبَسُونَ
عَنِ الْجَنَّةِ لِيَنَالَهُمْ بِذَلِكَ غَمٌّ فَيَقَعُ فِي
مُقَابَلَةِ صَغَائِرِهِمْ. وَتَمَنَّى سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي
حُذَيْفَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، لِأَنَّ
مَذْهَبَهُ أَنَّهُمْ مُذْنِبُونَ. وَقِيلَ: هُمْ أَوْلَادُ
الزِّنَى «1»، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: هُمْ مَلَائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِهَذَا السُّورِ،
يُمَيِّزُونَ الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ
إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، ذَكَرَهُ أَبُو
مِجْلَزٍ. فَقِيلَ لَهُ: لَا يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ رِجَالٌ؟
فَقَالَ: إِنَّهُمْ ذُكُورٌ وَلَيْسُوا بِإِنَاثٍ، فَلَا
يَبْعُدُ إِيقَاعُ لَفْظِ الرِّجَالِ عَلَيْهِمْ، كَمَا
أُوقِعَ عَلَى الْجِنِّ فِي قَوْلِهِ:" وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ
مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ «2» "
فَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ يَعْرِفُونَ المؤمنين بعلاماتهم
والكفار بعلاماتهم، فيبشرون المؤمنين فبدخولهم الْجَنَّةَ
وَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا بَعْدُ فَيَطْمَعُونَ فِيهَا.
وَإِذَا رَأَوْا أَهْلَ النَّارِ دَعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ
بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَاللَّازِمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ عَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالًا
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَأَخَّرُ دُخُولُهُمْ وَيَقَعُ
لَهُمْ مَا وُصِفَ من الاعتبار في الفريقين. أَيْ
بِعَلَامَاتِهِمْ، وَهِيَ بَيَاضُ الْوُجُوهِ وَحُسْنُهَا فِي
أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَسَوَادُهَا وَقُبْحُهَا فِي أَهْلِ
النَّارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ حَيِّزِ
هَؤُلَاءِ وحيز هؤلاء.
__________
(1). في ع: الزناة.
(2). راجع ج 19 ص 8.
(7/212)
وَإِذَا صُرِفَتْ
أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا
لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
قُلْتُ: فَوُقِفَ عَنِ التَّعْيِينِ
لِاضْطِرَابِ الْأَثَرِ وَالتَّفْصِيلِ، وَاللَّهُ بِحَقَائِقِ
الْأُمُورِ عَلِيمٌ. ثُمَّ قِيلَ: الْأَعْرَافُ جَمْعُ عُرْفٍ
وَهُوَ كُلُّ عَالٍ مُرْتَفِعٍ، لِأَنَّهُ بِظُهُورِهِ
أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْخَفِضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الأعراف
شر ف الصِّرَاطِ. وَقِيلَ: هُوَ جَبَلُ أُحُدٍ يُوضَعُ
هُنَاكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَكَرَ الزَّهْرَاوِيُّ
حَدِيثًا أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: (إِنَّ أُحُدًا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ وَإِنَّهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَمْثُلُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ
يُحْبَسُ عَلَيْهِ أَقْوَامٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ
هُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ (. وَذَكَرَ
حَدِيثًا آخَرَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) إِنَّ أُحُدًا
عَلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْجَنَّةِ (. قُلْتُ: وَذَكَرَ
أَبُو عُمَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) أُحُدٌ جَبَلٌ
يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى تُرْعَةٍ مِنْ
تُرَعِ الْجَنَّةِ (. قَوْلُهُ تَعَالَى:) وَنادَوْا أَصْحابَ
الْجَنَّةِ) أَيْ نَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ. أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَيْ قَالُوا لَهُمْ
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى سَلِمْتُمْ مِنَ
الْعُقُوبَةِ. لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يطعمون أَيْ لَمْ
يَدْخُلِ الْجَنَّةَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ، أَيْ لَمْ
يَدْخُلُوهَا بَعْدُ." وَهُمْ يَطْمَعُونَ" عَلَى هَذَا
التَّأْوِيلِ بِمَعْنَى وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ
يَدْخُلُونَهَا. وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ أَنْ
يَكُونَ طَمِعَ بِمَعْنَى عَلِمَ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ.
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَغَيْرِهِمَا، أَنَّ الْمُرَادَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ.
وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، أَيْ قَالَ
لَهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَأَهْلُ
الْجَنَّةِ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بَعْدُ وَهُمْ
يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَارِّينَ
عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ. وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:"
سَلامٌ عَلَيْكُمْ". وَعَلَى قَوْلِهِ:" لَمْ يَدْخُلُوها".
ثُمَّ يَبْتَدِئُ" وَهُمْ يَطْمَعُونَ" عَلَى مَعْنَى وَهُمْ
يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" وَهُمْ
يَطْمَعُونَ" حَالًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَمْ يَدْخُلْهَا
الْمُؤْمِنُونَ الْمَارُّونَ عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ
طَامِعِينَ، وَإِنَّمَا دَخَلُوهَا غَيْرَ طَامِعِينَ فِي
دُخُولِهَا، فَلَا يوقف على" لَمْ يَدْخُلُوها".
[سورة الأعراف (7): آية 47]
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ
قالُوا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(47)
(7/213)
وَنَادَى أَصْحَابُ
الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا
مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا
يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا
خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا صُرِفَتْ
أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) أَيْ جِهَةَ
اللِّقَاءِ وَهِيَ جِهَةُ الْمُقَابَلَةِ. وَلَمْ يَأْتِ
مَصْدَرٌ عَلَى تِفْعَالٍ غَيْرَ حَرْفَيْنِ «1»: تِلْقَاءٌ
وَتِبْيَانٌ. وَالْبَاقِي بِالْفَتْحِ، مِثْلَ تَسْيَارٍ
وَتَهْمَامٍ وَتَذْكَارٍ. وَأَمَّا الِاسْمُ بِالْكَسْرِ فِيهِ
فَكَثِيرٌ، مِثْلَ تِقْصَارٍ وَتِمْثَالٍ. قَالُوا أَيْ قَالَ
أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ. (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) سَأَلُوا اللَّهَ أَلَّا
يَجْعَلَهُمْ مَعَهُمْ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا
يَجْعَلُهُمْ مَعَهُمْ. فَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّذَلُّلِ،
كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ:" رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا
نُورَنا «2» " وَيَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. عَلَى سَبِيلِ
الشُّكْرِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ
لَذَّةٌ.
[سورة الأعراف (7): الآيات 48 الى 49]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ
بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما
كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
(49)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا
يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) أَيْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
(قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ) أَيْ لِلدُّنْيَا وَاسْتِكْبَارُكُمْ عَنِ
الْإِيمَانِ. (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْمٍ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءِ، كَبِلَالٍ وَسَلْمَانَ
وَخَبَّابٍ وَغَيْرِهِمْ. (أَقْسَمْتُمْ) فِي الدُّنْيَا. (لَا
يَنالُهُمُ اللَّهُ) فِي الْآخِرَةِ. (بِرَحْمَةٍ)
يُوَبِّخُونَهُمْ بِذَلِكَ. وَزِيدُوا غَمًّا وَحَسْرَةً
بِأَنْ قَالُوا لَهُمْ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) وَقَرَأَ
عِكْرِمَةُ" دَخَلُوا الْجَنَّةَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ وَالدَّالُ
مَفْتُوحَةٌ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ" أُدْخِلُوا
الْجَنَّةَ" بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ
«3». وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ
مَلَائِكَةٌ أَوْ أَنْبِيَاءُ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ
إِخْبَارٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ جَعَلَ أَصْحَابَ
الْأَعْرَافِ الْمُذْنِبِينَ كَانَ آخِرَ قَوْلِهِمْ
لِأَصْحَابِ النَّارِ" وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ"
وَيَكُونُ" أَهؤُلاءِ الَّذِينَ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِنْ
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ النَّارِ تَوْبِيخًا لَهُمْ
عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَوَّلُ عَنِ الحسن. وقيل: هو من
كلام الملائكة
__________
(1). الذي في المصباح: قالوا ولم يجئ بالكسر إلا تبيان وتلقاء
والتنضال. قلت: في هذه الصيغة خلاف.
(2). راجع ج 18 ص 197.
(3). فعل ماض مبنى للمجهول كما في أبى حيان.
(7/214)
وَنَادَى أَصْحَابُ
النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ
الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ
اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
الْمُوَكَّلِينَ بِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ،
فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَحْلِفُونَ أَنَّ أَصْحَابَ
الْأَعْرَافِ يَدْخُلُونَ مَعَهُمُ النَّارَ فَتَقُولُ
الْمَلَائِكَةُ لِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ:" ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ"
[سورة الأعراف (7): آية 50]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا
عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا
إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ
الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنادى) قِيلَ: إِذَا صَارَ أَهْلُ
الْأَعْرَافِ إِلَى الْجَنَّةِ طَمِعَ أَهْلُ النَّارِ
فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا إِنَّ لَنَا قَرَابَاتٍ فِي
الْجَنَّةِ فَأْذَنْ لَنَا حَتَّى نَرَاهُمْ وَنُكَلِّمَهُمْ.
وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَعْرِفُونَهُمْ لسواد وجوههم.
فيقولون: (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ) فَبَيَّنَ أَنَّ ابْنَ آدَمَ لَا
يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَإِنْ كَانَ فِي
الْعَذَابِ. (قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى
الْكافِرِينَ) يَعْنِي طَعَامَ الْجَنَّةِ وَشَرَابَهَا.
وَالْإِفَاضَةُ التَّوْسِعَةُ، يُقَالُ: أَفَاضَ عَلَيْهِ
نِعَمَهُ. الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ سَقْيَ الْمَاءِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ
سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ:
الْمَاءُ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى أَهْلِ النَّارِ حِينَ
اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ" أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا
مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ". وَرَوَى أَبُو
دَاوُدَ أَنَّ سَعْدًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ «1» أَعْجَبُ
إِلَيْكَ؟ قَالَ: (الْمَاءُ). وَفِي رِوَايَةٍ: فَحَفَرَ
بِئْرًا فَقَالَ: (هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ). وَعَنْ أَنَسٍ
قَالَ قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ
كَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ، أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ
أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ).
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَسْقِيَ عَنْهَا
الْمَاءَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَقْيَ الْمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ
الْقُرُبَاتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ
التَّابِعِينَ: مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ فَعَلَيْهِ بِسَقْيِ
الْمَاءِ. وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَ الَّذِي سَقَى
الْكَلْبَ، فَكَيْفَ بِمَنْ سَقَى رَجُلًا مُؤْمِنًا
مُوَحِّدًا وَأَحْيَاهُ. روى
__________
(1). في ك: أي الأعمال.
(7/215)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ
يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ
اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ
مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ فإذ كَلْبٌ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ
الْعَطَشِ فَقَالَ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِثْلَ
الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ
ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ «1» لَهُ
فَغَفَرَ لَهُ (. قالوا: يا رسول الله، وألنا فِي الْبَهَائِمِ
لَأَجْرًا؟ قَالَ:) فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ «2»
أَجْرٌ". وَعَكْسُ هَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ
سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا
هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا وَلَا
هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ «3» الْأَرْضِ (.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ
مَاءٍ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً
وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ لَا
يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهَا (. خَرَّجَهُ ابْنُ
مَاجَهْ فِي السُّنَنِ. الثَّالِثَةُ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ
بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ
وَالْقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ، وَأَنَّ لَهُ مَنْعَهُ
مِمَّنْ أَرَادَهُ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ:" إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ"
لَا حَقَّ لَكُمْ فِيهَا. وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: (بَابُ مَنْ رَأَى
أَنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ وَالْقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ)
وَأَدْخَلَ فِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَذُودَنَّ رِجَالًا عَنْ
حَوْضِي كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنَ الْإِبِلِ عَنِ
الْحَوْضِ). قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَا خِلَافَ أَنَّ صَاحِبَ
الْحَوْضِ أَحَقُّ بِمَائِهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(لَأَذُودَنَّ رِجَالًا عَنْ حَوْضِي).
[سورة الأعراف (7): آية 51]
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ
كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا
يَجْحَدُونَ (51)
الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ نَعْتٌ لِلْكَافِرِينَ. وَقَدْ
يَكُونُ رَفْعًا وَنَصْبًا بِإِضْمَارِ. قِيلَ: هُوَ مِنْ
قَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ أَيْ
نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ. كما نسوا لقاء يومهم
__________
(1). أي أثنى عليه أو قبل عمله ذلك، أو أظهر ما جازاه به عند
ملائكته. (عن شرح القسطلاني).
(2). روايه البخاري وأحمد وابن ماجة" في كل ذات كبد حراء أجر".
(3). خشاش الأرض (مثلثة الخاء): هوامها وحشراتها.
(7/216)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ
بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
هَذَا أَيْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ
وَكَذَّبُوا بِهِ. وَ" مَا" مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كَنَسْيِهِمْ.
(وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) عطف عليه، وجحدهم.
[سورة الأعراف (7): آية 52]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) يَعْنِي
الْقُرْآنَ." فَصَّلْناهُ" أَيْ بَيَّنَّاهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ
مَنْ تَدَبَّرَهُ وَقِيلَ:" فَصَّلْناهُ" أَنْزَلْنَاهُ
مُتَفَرِّقًا. (عَلى عِلْمٍ) مِنَّا بِهِ، لَمْ يَقَعْ فِيهِ
سَهْوٌ وَلَا غَلَطٌ. (هُدىً وَرَحْمَةً) قَالَ الزَّجَّاجُ:
أَيْ هَادِيًا وَذَا رَحْمَةٍ، فَجَعَلَهُ حَالًا مِنَ الهاء
التي في" فَصَّلْناهُ". قال وَيَجُوزُ هُدًى وَرَحْمَةٌ،
بِمَعْنَى هُوَ هُدًى وَرَحْمَةٌ. وقيل: يجوز هدى ورحمة بالخفض
على المن كِتَابٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ:
وَيَجُوزُ هُدًى وَرَحْمَةٍ بِالْخَفْضِ عَلَى النَّعْتِ
لِكِتَابٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مِثْلُ" وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ «1» ". (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خُصَّ
المؤمنون لأنهم المنتفعون به.
[سورة الأعراف (7): آية 53]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ
جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ
فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي
كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ
مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ)
بِالْهَمْزِ، مِنْ آلَ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُخَفِّفُونَ
الْهَمْزَةَ. وَالنَّظَرُ: الِانْتِظَارُ، أَيْ هَلْ
يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ
الْعِقَابِ وَالْحِسَابِ. وَقِيلَ:" يَنْظُرُونَ" مِنَ
النَّظَرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَالْكِنَايَةُ فِي"
تَأْوِيلَهُ" تَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ. وَعَاقِبَةُ «2»
الْكِتَابِ مَا وَعَدَ اللَّهُ فِيهِ من البعث والحساب. وقال
مجاهد:" تَأْوِيلَهُ"
__________
(1). راجع ص 142 من هذا الجزء.
(2). كذا في الأصول ولعله بعد قول قتادة الآتي.
(7/217)
إِنَّ رَبَّكُمُ
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
جَزَاؤُهُ، أَيْ جَزَاءُ تَكْذِيبهمْ
بِالْكِتَابِ. قَالَ قَتَادَةُ:" تَأْوِيلَهُ" عَاقِبَتُهُ.
وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أَيْ
تَبْدُو عَوَاقِبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَ" يَوْمَ"
مَنْصُوبٌ بِ" يَقُولُ"، أَيْ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ
قَبْلِ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ. (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ
رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) اسْتِفْهَامٌ
فِيهِ مَعْنَى التَّمَنِّي. (فَيَشْفَعُوا) نُصِبَ لِأَنَّهُ
جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ. (لَنا أَوْ نُرَدُّ) قَالَ
الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَوْ هَلْ نُرَدُّ. (فَنَعْمَلَ
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) قَالَ الزَّجَّاجُ: نُرَدُّ
عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ هَلْ يَشْفَعُ لَنَا أَحَدٌ
أَوْ نرد. وقرا ابن إسحاق" أنرد فَنَعْمَلَ" بِالنَّصْبِ
فِيهِمَا. وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ نُرَدَّ، كَمَا قَالَ «1»:
فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا ... نُحَاوِلُ
مُلْكًا أَوْ نَمُوتُ فَنُعْذَرَا
وَقَرَأَ الْحَسَنُ" أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلُ" بِرَفْعِهِمَا
جَمِيعًا. (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أَيْ فَلَمْ
يَنْتَفِعُوا بِهَا، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِنَفْسِهِ
فَقَدْ خَسِرَهَا. وَقِيلَ: خَسِرُوا النِّعَمَ وَحَظَّ
أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا. (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا
يَفْتَرُونَ) أَيْ بَطَلَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّ
مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ.
[سورة الأعراف (7): آية 54]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعالَمِينَ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) بَيَّنَ
أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِقُدْرَةِ الْإِيجَادِ، فَهُوَ الَّذِي
يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَأَصْلُ" سِتَّةِ" سِدْسَةٌ،
فَأَرَادُوا إِدْغَامَ الدَّالِ فِي السِّينِ فَالْتَقَيَا
عِنْدَ مَخْرَجِ التَّاءِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ
شِئْتَ قُلْتَ: أُبْدِلَ مِنْ إِحْدَى السِّينَيْنِ تَاءٌ
وَأُدْغِمَ فِي الدَّالِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ فِي تَصْغِيرِهَا:
سُدَيْسَةٌ، وَفِي الْجَمْعِ أَسْدَاسٌ، وَالْجَمْعُ
وَالتَّصْغِيرُ يَرُدَّانِ الْأَسْمَاءَ إِلَى أُصُولِهَا.
وَيَقُولُونَ: جَاءَ فُلَانٌ سَادِسًا وَسَادِتًا وساتا، فمن
قال:
__________
(1). هو امرؤ القيس.
(7/218)
سادتا أيدل مِنَ السِّينِ تَاءً.
وَالْيَوْمُ: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا. فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ شَمْسٌ فَلَا يَوْمَ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ.
وَقَالَ: وَمَعْنَى (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أَيْ مِنْ أَيَّامِ
الْآخِرَةِ، كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ سَنَةٍ، لِتَفْخِيمِ خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقِيلَ: مِنْ أَيَّامِ
الدُّنْيَا. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: أَوَّلُهَا الْأَحَدُ
وَآخِرُهَا الْجُمُعَةُ. وَذَكَرَ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَلَوْ
أَرَادَ خَلْقَهَا فِي لَحْظَةٍ لَفَعَلَ، إِذْ هُوَ
الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَقُولَ لَهَا كُونِي فَتَكُونُ.
وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ الْعِبَادَ الرِّفْقَ
وَالتَّثَبُّتَ فِي الْأُمُورِ، وَلِتَظْهَرَ قُدْرَتُهُ
لِلْمَلَائِكَةِ شَيْئًا بَعْدَ شي. وَهَذَا عِنْدَ مَنْ
يَقُولُ: خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ. وَحِكْمَةٌ أُخْرَى- خَلَقَهَا فِي ستة أيام لأن
لكل شي عِنْدَهُ أَجَلًا. وَبَيَّنَ بِهَذَا تَرْكَ
مُعَاجَلَةِ الْعُصَاةِ بالعقاب، لأن لكل شي عنده أجلا. وهذا
كقول: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ.
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ «1»). بَعْدَ أَنْ قَالَ:"
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ
مِنْهُمْ بَطْشاً" قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) هَذِهِ مَسْأَلَةُ الِاسْتِوَاءِ، وَلِلْعُلَمَاءِ
فِيهَا كَلَامٌ وَإِجْرَاءٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَقْوَالَ
الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي الْكِتَابِ (الْأَسْنَى فِي شَرْحِ
أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى)
وَذَكَرْنَا فِيهَا هُنَاكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا.
وَالْأَكْثَرُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ
أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ تَنْزِيهُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ عَنِ
الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ فَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ
وَلَوَاحِقِهِ اللَّازِمَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَقَادَتِهِمْ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ تَنْزِيهُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنِ
الْجِهَةِ، فَلَيْسَ بِجِهَةِ فَوْقٍ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُ
يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَتَى اخْتَصَّ بِجِهَةٍ أَنْ
يَكُونَ فِي مَكَانٍ أَوْ حَيِّزٍ، وَيَلْزَمُ عَلَى
الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ
لِلْمُتَحَيِّزِ، وَالتَّغَيُّرُ وَالْحُدُوثُ. هَذَا قَوْلُ
الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا
يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ، بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ
بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا نَطَقَ كِتَابُهُ
وَأَخْبَرَتْ رُسُلُهُ. وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ
الصَّالِحِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً.
وَخُصَّ الْعَرْشُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ
مَخْلُوقَاتِهِ، وَإِنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّةَ
الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ. قَالَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ- يَعْنِي
في اللغة- والكيف
__________
(1). راجع ج 17 ص 22. فما بعد. [ ..... ]
(7/219)
مَجْهُولٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْ هَذَا
بِدْعَةٌ. وَكَذَا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةً
عَلَيْهِ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُتُبِ
الْعُلَمَاءِ. وَالِاسْتِوَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ
الْعُلُوُّ وَالِاسْتِقْرَارُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
وَاسْتَوَى مِنَ اعْوِجَاجٍ، وَاسْتَوَى عَلَى ظَهْرِ
دَابَّتِهِ، أَيِ اسْتَقَرَّ. وَاسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ
أَيْ قَصَدَ. وَاسْتَوَى أَيِ اسْتَوْلَى وَظَهَرَ. قَالَ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ
وَدَمٍ مِهْرَاقِ
وَاسْتَوَى الرَّجُلُ أَيِ انْتَهَى شَبَابُهُ. وَاسْتَوَى
الشَّيْءُ إِذَا اعْتَدَلَ. وَحَكَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:"
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «1» " قَالَ: عَلَا.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بِفَيْفَاءَ قَفْرَةٍ ... وَقَدْ
حَلَّقَ النَّجْمُ الْيَمَانِيُّ فَاسْتَوَى
أَيْ عَلَا وَارْتَفَعَ. قلت: فعلوا اللَّهِ تَعَالَى
وَارْتِفَاعُهُ عِبَارَةٌ عَنْ عُلُوِّ مَجْدِهِ وَصِفَاتِهِ
وَمَلَكُوتِهِ. أَيْ لَيْسَ فَوْقَهُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ
مَعَانِي الْجَلَالِ أَحَدٌ، وَلَا مَعَهُ مَنْ يَكُونُ
الْعُلُوُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، لَكِنَّهُ العلي
بالإطلاق سبحانه. قوله تعالى: (عَلَى الْعَرْشِ) لَفْظٌ
مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الْعَرْشُ سَرِيرُ الْمُلْكِ.
وَفِي التَّنْزِيلِ" نَكِّرُوا لَها عَرْشَها «2» "،" وَرَفَعَ
أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ «3» " وَالْعَرْشُ: سَقْفُ
الْبَيْتِ. وَعَرْشُ الْقَدَمِ: مَا نَتَأَ فِي ظَهْرِهَا
وَفِيهِ الْأَصَابِعُ. وَعَرْشُ السِّمَاكِ: أَرْبَعَةُ
كَوَاكِبَ صِغَارٍ أَسْفَلَ مِنَ الْعُوَاءِ «4»، يُقَالُ:
إِنَّهَا عَجُزُ الْأَسَدِ. وَعَرْشُ الْبِئْرِ: طَيُّهَا
بِالْخَشَبِ، بَعْدَ أَنْ يُطْوَى أَسْفَلُهَا بِالْحِجَارَةِ
قَدْرَ قَامَةٍ، فَذَلِكَ الْخَشَبُ هُوَ الْعَرْشُ،
وَالْجَمْعُ عُرُوشٌ. وَالْعَرْشُ اسْمٌ لِمَكَّةَ.
وَالْعَرْشُ الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ. يُقَالُ: ثُلَّ عَرْشُ
فُلَانٍ إِذَا ذَهَبَ مُلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ وَعِزُّهُ. قَالَ
زُهَيْرٌ:
تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا ...
وَذُبْيَانُ إِذْ ذَلَّتْ بِأَقْدَامِهَا النَّعْلُ
__________
(1). راجع ج 11 ص 169.
(2). راجع ج 13 ص 207.
(3). راجع ج 9 ص 462.
(4). العواء: خمسة كواكب على خط معقف. وقال ابن سيده. العواء
منزل من منازل القمر، يمد ويقصر والألف في آخره للتأنيث.
(7/220)
وقد يئول الْعَرْشُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى
الْمُلْكِ، أَيْ مَا اسْتَوَى الْمُلْكُ إِلَّا لَهُ جَلَّ
وَعَزَّ. وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ فِي كِتَابِنَا.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهارَ) أَيْ يَجْعَلُهُ كَالْغِشَاءِ، أَيْ يُذْهِبُ نُورَ
النَّهَارِ لِيَتِمَّ قِوَامُ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا
بِمَجِيءِ اللَّيْلِ. فَاللَّيْلُ لِلسُّكُونِ، وَالنَّهَارُ
للمعاش. وقرى" يُغَشِّي" بِالتَّشْدِيدِ، وَمِثْلُهُ فِي"
الرَّعْدِ «1» ". وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ
وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ. وَخَفَّفَ الْبَاقُونَ. وَهُمَا
لُغَتَانِ أَغْشَى وَغَشَّى. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى"
فَغَشَّاها «2» مَا غَشَّى" مُشَدَّدًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى"
فَأَغْشَيْناهُمْ «3» " فَالْقِرَاءَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ.
وَفِي التَّشْدِيدِ مَعْنَى التَّكْرِيرِ وَالتَّكْثِيرِ.
وَالتَّغْشِيَةُ وَالْإِغْشَاءُ: إِلْبَاسُ الشَّيْءِ
الشَّيْءَ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُخُولَ
النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ، فَاكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ
الْآخَرِ، مِثْلَ" سَرابِيلَ تَقِيكُمُ «4» الْحَرَّ"."
بِيَدِكَ الْخَيْرُ «5» ". وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ"
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ" وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّهَارَ
يُغْشِي اللَّيْلَ. (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أَيْ يَطْلُبُهُ
دَائِمًا مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ. وَ" يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهارَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ.
وَالتَّقْدِيرُ: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مُغْشِيًا اللَّيْلَ
النَّهَارَ. وَكَذَا" يَطْلُبُهُ حَثِيثاً" حَالٌ مِنَ
اللَّيْلِ، أَيْ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ طَالِبًا لَهُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً
لَيْسَتْ بِحَالٍ." حَثِيثاً" بَدَلٌ مِنْ طَالِبٍ
الْمُقَدَّرِ أَوْ نَعْتٌ لَهُ، أَوْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ
مَحْذُوفٍ، أَيْ يَطْلُبُهُ طَلَبًا سَرِيعًا. وَالْحَثُّ:
الْإِعْجَالُ وَالسُّرْعَةُ. وَوَلَّى حَثِيثًا أَيْ
مُسْرِعًا. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ
بِأَمْرِهِ) قَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى
السَّمَاوَاتِ، أَيْ وَخَلَقَ الشَّمْسَ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى
الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلا لَهُ
الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ الْأُولَى- صِدْقُ
اللَّهِ فِي خَبَرِهِ، فَلَهُ الْخَلْقُ وَلَهُ الْأَمْرُ،
خَلَقَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِمَا أَحَبَّ. وَهَذَا الْأَمْرُ
يَقْتَضِي النَّهْيَ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَرَّقَ بَيْنَ
الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، فمن جمع بينهما فقد كفر.
__________
(1). راجع ج 9 ص 280.
(2). راجع ج 17 ص 121.
(3). راجع ج 15 ص 9.
(4). راجع ج 10 ص 159.
(5). راجع ج 4 ص 51.
(7/221)
فَالْخَلْقُ الْمَخْلُوقُ، وَالْأَمْرُ
كَلَامُهُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهُوَ قَوْلُهُ:"
كُنْ"." إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» " وَفِي تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ
الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ
مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَلَامُهُ
الَّذِي هُوَ أَمْرٌ مَخْلُوقًا لَكَانَ قَدْ قَالَ: أَلَا
لَهُ الْخَلْقُ وَالْخَلْقُ. وَذَلِكَ عِيٌّ مِنَ الْكَلَامِ
وَمُسْتَهْجَنٌ وَمُسْتَغَثٌّ. وَاللَّهُ يَتَعَالَى عَنِ
التَّكَلُّمِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ." وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ «2» بِأَمْرِهِ"." وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ «3» ". فَأَخْبَرَ
سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةٌ بِأَمْرِهِ،
فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا لَافْتَقَرَ إِلَى أَمْرٍ
آخَرَ يَقُومُ بِهِ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ
إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَذَلِكَ مُحَالٌ. فَثَبَتَ
أَنَّ أَمْرَهُ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لِيَصِحَّ قِيَامُ الْمَخْلُوقَاتِ بِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما
خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا «4»
بِالْحَقِّ". وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهُمَا
بِالْحَقِّ، يَعْنِي الْقَوْلَ وَهُوَ قَوْلُهُ
لِلْمَكُونَاتِ:" كُنْ". فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ مَخْلُوقًا
لَمَا صَحَّ أَنْ يَخْلُقَ بِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّ
الْخَلْقَ لَا يُخْلَقُ بِالْمَخْلُوقِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ"
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ"."
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ
عَنْها مُبْعَدُونَ «5» "." وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي
«6» ". وَهَذَا كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى السَّبْقِ فِي
الْقَوْلِ فِي الْقِدَمِ «7»، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْأَزَلَ فِي
الْوُجُودِ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ كَافِيَةٌ فِي الرَّدِّ
عَلَيْهِمْ. وَلَهُمْ آيَاتٌ احْتَجُّوا بِهَا عَلَى
مَذْهَبِهِمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا يَأْتِيهِمْ
مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ" الْآيَةَ. وَمِثْلَ
قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً
«8» ". وَ" مَفْعُولًا «9» " وَمَا كَانَ مِثْلَهُ. قَالَ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: مَعْنَى" مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ
«10» " أَيْ مِنْ وَعْظٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدٍ وَتَخْوِيفٍ" إِلَّا اسْتَمَعُوهُ
وَهُمْ يَلْعَبُونَ"، لِأَنَّ وَعْظَ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَتَحْذِيرَهُمْ ذِكْرٌ. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ «11»
". وَيُقَالُ: فُلَانٌ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ. وَمَعْنَى"
وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً" و" مَفْعُولًا"
أراد سبحانه
__________
(1). راجع ج 15 ص 60 وص 139.
(2). راجع ج 14 ص 19 وص 965 188.
(3). راجع ج 10 ص 83 وص 53.
(4). راجع ج 10 ص 83 وص 53.
(5). راجع ج 11 ص 345 وص 266. [ ..... ]
(6). راجع ج 14 ص 19 وص 965 188.
(7). في ج: القديم.
(8). راجع ج 14 ص 19 وص 965 188.
(9). راجع ج 14 ص 19 وص 965 188.
(10). راجع ج 11 ص 345 وص 266.
(11) راجع ج 20 ص 37.
(7/222)
ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
(55)
عِقَابَهُ وَانْتِقَامَهُ مِنَ
الْكَافِرِينَ وَنَصْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَا حَكَمَ بِهِ
وَقَدَّرَهُ مِنْ أَفْعَالِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا «1» " وَقَالَ عَزَّ
وَجَلَّ:" وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ" يَعْنِي به شأنه
وأفعال وَطَرَائِقَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَهَا أَمْرُهَا حَتَّى إِذَا مَا تَبَوَّأَتْ ...
بِأَخْفَافِهَا مَرْعًى تَبَوَّأَ مَضْجَعَا
الثَّانِيَةُ- وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ
الْأَمْرَ لَيْسَ من الإرادة في شي. وَالْمُعْتَزِلَةُ
تَقُولُ: الْأَمْرُ نَفْسُ الْإِرَادَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ،
بَلْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ وَيَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ
وَلَمْ يُرِدْهُ مِنْهُ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُصَلِّيَ
مَعَ أُمَّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً، وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُ
إِلَّا خَمْسَ صَلَوَاتٍ. وَقَدْ أَرَادَ شَهَادَةَ حَمْزَةَ
حَيْثُ يَقُولُ:" وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ «2» ". وَقَدْ
نَهَى الْكُفَّارَ عَنْ قَتْلِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ.
وهذا صحيح نفيس فبابه، فَتَأَمَّلْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) " تَبارَكَ" تَفَاعَلَ،
مِنَ الْبَرَكَةِ وَهِيَ الْكَثْرَةُ وَالِاتِّسَاعُ. يقال
بورك الشيء وبورك فيه، قال ابْنُ عَرَفَةَ. وَقَالَ
الْأَزْهَرِيُّ:" تَبارَكَ" تَعَالَى وَتَعَاظَمَ وَارْتَفَعَ.
وَقِيلَ: إِنَّ بِاسْمِهِ يُتَبَرَّكُ وَيُتَيَّمْنُ. وَقَدْ
مضى في الفاتحة معنى" رَبُّ الْعالَمِينَ «3» "
[سورة الأعراف (7): آية 55]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (55)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(ادْعُوا رَبَّكُمْ) هَذَا أَمْرٌ بِالدُّعَاءِ وَتَعَبُّدٌ
بِهِ. ثُمَّ قَرَنَ جَلَّ وَعَزَّ بِالْأَمْرِ صِفَاتٍ
تَحْسُنُ مَعَهُ، وَهِيَ الْخُشُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ
وَالتَّضَرُّعُ. وَمَعْنَى" خُفْيَةً" أَيْ سِرًّا فِي
النَّفْسِ لِيَبْعُدَ عَنِ الرِّيَاءِ، وَبِذَلِكَ أَثْنَى
عَلَى نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ
مُخْبِرًا عَنْهُ:" إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا «4»
". وَنَحْوَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ
مَا يَكْفِي). وَالشَّرِيعَةُ مُقَرِّرَةٌ أَنَّ السِّرَّ
فِيمَا لَمْ يَعْتَرِضْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أَعْظَمُ
أَجْرًا من الجهر.
__________
(1). راجع ج 9 ص 33 وص 93.
(2). راجع ج 4 ص 218.
(3). راجع ج 1 ص 136.
(4). راجع ج 11 ص 76.
(7/223)
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي"
الْبَقَرَةِ «1» ". قَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ:
لَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ
عَمَلٌ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَكُونَ سِرًّا فَيَكُونُ
جَهْرًا أَبَدًا. وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ
فِي الدُّعَاءِ فَلَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ، إِنْ هُوَ
إِلَّا الْهَمْسُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ. وَذَلِكَ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً). وذكر عبد اصالحا رَضِيَ فِعْلَهُ
فَقَالَ:" إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا". وَقَدِ
اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا عَلَى أَنَّ
إِخْفَاءَ" آمِينَ" أَوْلَى مِنَ الْجَهْرِ بِهَا، لِأَنَّهُ
دُعَاءٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي" الْفَاتِحَةِ «2»
". وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ-
وَفِي رِوَايَةٍ فِي غَزَاةٍ- فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ
بِالتَّكْبِيرِ- وَفِي رِوَايَةٍ فَجَعَلَ رَجُلٌ كُلَّمَا
عَلَا ثَنِيَّةً قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ- فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّهَا
النَّاسُ ارْبَعُوا «3» عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَسْتُمْ
تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ
سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ). الْحَدِيثَ.
الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رَفْعِ
الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ، فَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ. وَرَأَى شُرَيْحٌ رَجُلًا رَافِعًا يَدَيْهِ
فَقَالَ: مَنْ تَتَنَاوَلُ بِهِمَا، لَا أُمَّ لَكَ! وَقَالَ
مَسْرُوقٌ لِقَوْمٍ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ: قَطَعَهَا اللَّهُ.
وَاخْتَارُوا إِذَا دَعَا اللَّهَ فِي حَاجَةٍ أَنْ يُشِيرَ
بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ. وَيَقُولُونَ: ذَلِكَ
الْإِخْلَاصُ. وَكَانَ قَتَادَةُ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ وَلَا
يَرْفَعُ يَدَيْهِ. وَكَرِهَ رَفْعَ الْأَيْدِي عَطَاءٌ
وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ. وَرُوِيَ جَوَازُ
الرَّفْعِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ،
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ:
دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ
رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ. وَمِثْلُهُ
عَنْ أَنَسٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ
إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ «4». وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رسول الله صلى الله
__________
(1). راجع ج 3 ص 332.
(2). راجع ج 1 ص 127.
(3). أي ارفقوا بها ولا تبالغوا في الجهد.
(4). هو خالد بن الوليد، بعثه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي جذيمة داعيا إلى الإسلام فلم
يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر. فنقم
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خالد استعجاله في
شأنهم وترك التثبت في أمرهم. راجع كتاب المغازي في صحيح
البخاري. [ ..... ]
(7/224)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ،
وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ
«1» رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ مَادًّا يَدَيْهِ، فَجَعَلَ
يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ لَمْ
يَحُطُّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. قَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ
سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: (إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ
عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ فَيَرُدُّهُمَا
صِفْرًا (أَوْ قَالَ «2») خَائِبَتَيْنِ (. احْتَجَّ
الْأَوَّلُونَ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ
رُوَيْبَةَ وَرَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ
رَافِعًا يَدَيْهِ فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ
الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ
هَكَذَا، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الْمُسَبِّحَةِ. وَبِمَا
رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة أن أنس ابن
مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ لا يرفع يديه في شي مِنَ الدُّعَاءِ إِلَّا
عِنْدَ الِاسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُهُمَا حَتَّى
يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ طُرُقًا
وَأَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ،
فَإِنَّ سَعِيدًا كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ
عُمْرِهِ. وَقَدْ خَالَفَهُ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ (بْنِ مَالِكٍ «3») فَقَالَ فِيهِ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ. وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّهُ إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ
أَنَّ الرَّفْعَ عِنْدَ ذَلِكَ جَمِيلٌ حَسَنٌ كَمَا فَعَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الِاسْتِسْقَاءِ وَيَوْمَ بَدْرٍ. قُلْتُ: وَالدُّعَاءُ حَسَنٌ
كَيْفَمَا تَيَسَّرَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْإِنْسَانِ
لِإِظْهَارِ مَوْضِعِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ إِلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّذَلُّلِ لَهُ وَالْخُضُوعِ. فَإِنْ
شَاءَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَحَسَنٌ،
وَإِنْ شَاءَ فَلَا، فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي
الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:" ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً". وَلَمْ يُرِدْ «4» صِفَةً مِنْ رَفْعِ
يَدَيْنِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ:" الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً «5» " فَمَدَحَهُمْ وَلَمْ
يَشْتَرِطْ حَالَةً غَيْرَ مَا ذَكَرَ. وَقَدْ دَعَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ
يَوْمَ الْجُمْعَةَ وهو غير مستقبل القبلة.
__________
(1). تقدم في ج 3 ص 255. أن أهل بدر كأصحاب طالوت وهم ثلاثمائة
وثلاثة عشر. وهذا هو المشهور. فليراجع.
(2). الزيادة عن سنن ابن ماجة.
(3). من ج.
(4). في ع: ولم ترد صفة.
(5). راجع ج 4 ص 305.
(7/225)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ
لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يُرِيدُ فِي الدُّعَاءِ وَإِنْ
كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا (إِلَى هَذَا هِيَ الْإِشَارَةُ «1».
وَالْمُعْتَدِي هُوَ الْمُجَاوِزُ لِلْحَدِّ وَمُرْتَكِبُ
الْحَظْرِ. وَقَدْ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ مَا اعْتَدَى فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: (سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي
الدُّعَاءِ). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَبِي شَيْبَةَ. حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الْجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي
نَعَامَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابْنَهُ
يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ
عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا. فَقَالَ: أي بني،
سل الله الجنة وعذبه مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ).
وَالِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا
الْجَهْرُ الْكَثِيرُ وَالصِّيَاحُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ فِي أَنْ تَكُونَ لَهُ
مَنْزِلَةُ نَبِيٍّ، أَوْ يَدْعُوَ فِي مُحَالٍ، وَنَحْوَ
هَذَا مِنَ الشَّطَطِ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ طَالِبًا
مَعْصِيَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ بِمَا
لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَتَخَيَّرُ أَلْفَاظًا
مُفَقَّرَةً «2» وَكَلِمَاتٍ مُسَجَّعَةً قَدْ وَجَدَهَا فِي
كَرَارِيسَ لَا أَصْلَ لَهَا وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهَا،
فَيَجْعَلُهَا شِعَارَهُ وَيَتْرُكُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكُلُّ هَذَا يَمْنَعُ مِنِ
اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ. كَمَا تقدم في البقرة بيانه «3».
[سورة الأعراف (7): آية 56]
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ
خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلاحِها) فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ
سُبْحَانَهُ نَهَى عَنْ كُلِّ فَسَادٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ
بَعْدَ صَلَاحٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ
عَلَى الصَّحِيحِ من الأقوال. وقال الضحاك: معناه لا تعوروا
«4» الْمَاءَ الْمَعِينَ، وَلَا تَقْطَعُوا الشَّجَرَ
الْمُثْمِرَ ضِرَارًا. وَقَدْ وَرَدَ: قَطْعُ الدَّنَانِيرِ
مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ قِيلَ: تِجَارَةُ
الْحُكَّامِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ
الْقُشَيْرِيُّ: الْمُرَادُ وَلَا تُشْرِكُوا، فَهُوَ نَهْيٌ
عَنِ الشِّرْكِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْهَرْجِ فِي
الْأَرْضِ، وَأَمْرٌ بِلُزُومِ الشَّرَائِعِ بَعْدَ
إِصْلَاحِهَا، بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللَّهُ بِبَعْثِهِ
الرُّسُلَ، وَتَقْرِيرِ «5»
__________
(1). ما بين المربعات هكذا ورد في نسخ الأصل ولعله زيادة من
الناسخ.
(2). في ع: مقفاه.
(3). راجع ج 2 ص 308.
(4). عورت عيون المياه: إذا دفنها وسددتها.
(5). في ز: تقدير.
(7/226)
الشَّرَائِعِ وَوُضُوحِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَصَدَ إِلَى أَكْبَرِ فَسَادٍ
بَعْدَ أَعْظَمِ صَلَاحٍ فَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ. قُلْتُ:
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ فَلَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ،
وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى
الْمُؤْمِنِ، وَأَمَّا مَا يَعُودُ ضَرَرُهُ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ فَذَلِكَ جَائِزٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَوَّرَ مَاءَ قَلِيبِ «1»
بَدْرٍ وَقَطَعَ شَجَرَ الْكَافِرِينَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ
فِي قَطْعِ الدَّنَانِيرِ فِي" هُودٍ «2» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أَمْرٌ بِأَنْ
يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِي حَالَةِ تَرَقُّبٍ وَتَخَوُّفٍ
وَتَأْمِيلٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجَاءُ
وَالْخَوْفُ لِلْإِنْسَانِ كَالْجَنَاحَيْنِ لِلطَّائِرِ
يَحْمِلَانِهِ فِي طَرِيقِ اسْتِقَامَتِهِ، وَإِنِ انْفَرَدَ
أَحَدُهُمَا هَلَكَ الْإِنْسَانُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ
عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «3» ". فَرَجَّى وَخَوَّفَ.
فَيَدْعُو الْإِنْسَانُ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ وَطَمَعًا فِي
ثَوَابِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَيَدْعُونَنا رَغَباً
وَرَهَباً «4» ". وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ. وَالْخَوْفُ:
الِانْزِعَاجُ لِمَا لَا يُؤْمَنُ مِنَ الْمَضَارِّ.
وَالطَّمَعُ: تَوَقُّعُ الْمَحْبُوبِ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ «5»
الْخَوْفُ الرَّجَاءَ طُولَ الْحَيَاةِ، فَإِذَا جَاءَ
الْمَوْتُ غَلَبَ الرَّجَاءُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ
يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ). صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ) وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ. فَفِيهِ سَبْعَةُ
أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالرُّحُمَ واحد، وهي
بمعنى العفو الغفران، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَاخْتَارَهُ
النَّحَّاسُ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الرَّحْمَةُ
مَصْدَرٌ، وَحَقُّ الْمَصْدَرِ التَّذْكِيرُ، كَقَوْلِهِ:"
فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ «6» ". وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ
الزَّجَّاجِ، لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ بِمَعْنَى الْوَعْظِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بالرحمة الإحسان،
__________
(1). القليب (بفتح القاف): البئر العادية القديمة التي لا يعلم
لها رب ولا حافر، تكون في البراري.
(2). راجع ج 9 ص 84.
(3). راجع ج 10 ص 34.
(4). راجع ج 11 ص 336. [ ..... ]
(5). هذا يخالف ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام لو وزن خوف
المؤمن ورجاءه بميزان تريص ما زاد أحدهما على الآخر، وفى
رواية" لاعتدلا". وورد عن حذيفة رضى الله عنه حين احتضر: اللهم
إنك أمرتنا أن نعدل بين الخوف والرجاء والآن الرجاء فيك أمثل.
(6). راجع ج 3 ص 347.
(7/227)
وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (57)
وَلِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ تَأْنِيثُهُ
حَقِيقِيًّا جَازَ تَذْكِيرُهُ، ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الْمَطَرَ، قَالَهُ
الْأَخْفَشُ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُذَكَّرَ كَمَا يُذَكَّرُ
بَعْضُ الْمُؤَنَّثِ. وَأَنْشَدَ:
فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ
إِبْقَالَهَا «1»
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ذُكِّرَ" قَرِيبٌ" عَلَى تَذْكِيرِ
الْمَكَانِ، أَيْ مَكَانًا قَرِيبًا. قَالَ عَلِيُّ بْنُ
سُلَيْمَانَ: وَهَذَا خَطَأٌ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ
لَكَانَ" قَرِيبٌ" مَنْصُوبًا فِي الْقُرْآنِ، كَمَا تَقُولُ:
إِنَّ زَيْدًا قَرِيبًا مِنْكَ. وَقِيلَ: ذُكِّرَ عَلَى
النَّسَبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ ذَاتُ
قُرْبٍ، كَمَا تَقُولُ: امْرَأَةٌ طَالِقٌ وَحَائِضٌ. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ: إِذَا كَانَ الْقَرِيبُ فِي مَعْنَى الْمَسَافَةِ
يُذَكَّرُ مؤنث، إن كَانَ فِي مَعْنَى النَّسَبِ يُؤَنَّثُ
بِلَا اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ. تَقُولُ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ
قَرِيبَتِي، أَيْ ذَاتُ قَرَابَتِي، ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ.
وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ عَنِ الْفَرَّاءِ: يُقَالُ فِي النَّسَبِ
قَرِيبَةُ فُلَانٍ، وَفِي غَيْرِ النَّسَبِ يَجُوزُ
التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، يُقَالُ: دَارُكَ مِنَّا
قَرِيبٌ، وَفُلَانَةُ مِنَّا قَرِيبٌ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ
قَرِيباً «2» ". وَقَالَ مَنِ احْتَجَّ لَهُ: كَذَا كَلَامُ
الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمَّ هَاشِمِ ... قَرِيبٌ
وَلَا الْبَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ سَبِيلَ المذكر
والمؤنث أن يجريا على أفعالهما.
[سورة الأعراف (7): آية 57]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ
لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ
مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ
بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ:"
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ". ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ مِنْ
نِعَمِهِ، وَدَلَّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَثُبُوتِ
إِلَهِيَّتِهِ. وَقَدْ مضى الكلام
__________
(1). البيت لعامر بن جوين الطائي. وصف أرضا مخصبة لكثرة ما نزل
بها من الغيث. والودق: المطر. والمزنة: السحابة (عن شرح
الشواهد).
(2). راجع ج 14 ص 248.
(7/228)
فِي الرِّيحِ فِي الْبَقَرَةِ «1».
وَرِيَاحٌ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَأَرْوَاحٌ جَمْعُ قِلَّةٍ.
وَأَصْلُ رِيحٍ رِوْحٌ. وَقَدْ خُطِّئَ مَنْ قَالَ فِي جَمْعِ
الْقِلَّةِ أَرْيَاحٌ." بُشْراً" فِيهِ سَبْعُ قِرَاءَاتٍ:
قَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو" نُشُرًا"
بِضَمِّ النُّونِ وَالشِّينِ جَمْعُ نَاشِرٍ عَلَى مَعْنَى
النَّسَبِ، أَيْ ذَاتُ نَشْرٍ، فَهُوَ مِثْلُ شَاهِدٍ
وَشُهُدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَشُورٍ كَرَسُولٍ
وَرُسُلٍ. يُقَالُ: رِيحُ النَّشُورِ إذا أتت من هاهنا وهاهنا.
وَالنَّشُورُ بِمَعْنَى الْمَنْشُورِ، كَالرَّكُوبِ بِمَعْنَى
الْمَرْكُوبِ. أَيْ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ
مُنْشَرَةً. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ" نُشْرًا" بِضَمِّ
النُّونِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ مُخَفَّفًا مِنْ نُشُرٍ، كَمَا
يُقَالُ: كُتْبٌ وَرُسْلٌ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ"
نَشْرًا" بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ عَلَى
الْمَصْدَرِ، أَعْمَلَ فِيهِ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ
قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَنْشُرُ الرِّيَاحَ نَشْرًا. نَشَرْتُ
الشَّيْءَ فَانْتَشَرَ، فَكَأَنَّهَا كَانَتْ مَطْوِيَّةً
فَنُشِرَتْ عِنْدَ الْهُبُوبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الرِّيَاحِ، كَأَنَّهُ
قَالَ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُنْشَرَةً، أَيْ مُحْيَيَةً، مِنْ
أَنَشَرَ اللَّهُ الْمَيِّتَ فَنُشِرَ، كَمَا تَقُولُ أَتَانَا
رَكْضًا، أَيْ رَاكِضًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ نَشْرًا
(بِالْفَتْحِ) مِنَ النَّشْرِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الطَّيِّ
عَلَى مَا ذَكَرْنَا. كَأَنَّ الرِّيحَ فِي سُكُونِهَا
كَالْمَطْوِيَّةِ ثُمَّ تُرْسَلُ مِنْ طَيِّهَا ذَلِكَ
فَتَصِيرُ كَالْمُنْفَتِحَةِ. وَقَدْ فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ
بِمَعْنَى مُتَفَرِّقَةٍ فِي وُجُوهِهَا، على معنى ينشرها
هاهنا وهاهنا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ:" بُشْرًا" بِالْبَاءِ
وَإِسْكَانِ الشِّينِ وَالتَّنْوِينِ جَمْعُ بَشِيرٍ، أَيِ
الرِّيَاحُ تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ. وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ:"
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ «2» ".
وَأَصْلُ الشِّينِ الضَّمُّ، لَكِنْ سُكِّنَتْ تَخْفِيفًا
كَرُسُلٍ وَرُسْلٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ" بَشْرًا" بِفَتْحِ
الْبَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيُقْرَأُ" بُشُرًا" وَ" بَشْرٌ
مَصْدَرُ بَشَرَهُ يَبْشُرُهُ بِمَعْنَى بَشَّرَهُ" فَهَذِهِ
خَمْسُ قِرَاءَاتٍ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ الْيَمَانِيُّ"
بُشْرَى" عَلَى وَزْنِ حُبْلَى. وَقِرَاءَةٌ سابعة" بشرى" بضم
الباء والشين. (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا)
السَّحَابُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَكَذَا كُلُّ جَمْعٍ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدَتِهِ هَاءٌ. وَيَجُوزُ نَعْتُهُ
بِوَاحِدٍ فَتَقُولُ: سَحَابٌ ثَقِيلٌ وَثَقِيلَةٌ.
وَالْمَعْنَى: حَمَلَتِ الرِّيحُ سَحَابًا ثِقَالًا
بِالْمَاءِ، أَيْ أَثْقَلَتْ بِحَمْلِهِ. يُقَالُ: أَقَلَّ
فُلَانٌ الشَّيْءَ أي حمله. سقناه
__________
(1). راجع ج 2 ص 197.
(2). راجع ج 14 ص 43.
(7/229)
أَيِ السَّحَابُ. (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أَيْ
لَيْسَ فِيهِ نَبَاتٌ. يُقَالُ: سُقْتُهُ لِبَلَدِ كَذَا
وَإِلَى بَلَدِ كَذَا. وَقِيلَ لِأَجْلِ بَلَدٍ مَيِّتٍ،
فَاللَّامُ لَامُ أَجْلِ. وَالْبَلَدُ كُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ
الْأَرْضِ عَامِرٍ أَوْ غَيْرِ عَامِرٍ خَالٍ أَوْ مَسْكُونٍ.
وَالْبَلْدَةُ وَالْبَلَدُ وَاحِدُ الْبِلَادِ وَالْبُلْدَانِ.
وَالْبَلَدُ الْأَثَرُ وَجَمْعُهُ أَبْلَادُ. قَالَ
الشَّاعِرُ:
مِنْ بَعْدِ مَا شَمِلَ الْبِلَى أَبْلَادَهَا «1»
وَالْبَلَدُ: أُدْحِيُّ «2» النَّعَامِ. يُقَالُ: هُوَ أَذَلُّ
مِنْ بَيْضَةِ الْبَلَدِ، أَيْ مِنْ بَيْضَةِ النَّعَامِ
الَّتِي يَتْرُكُهَا. وَالْبَلْدَةُ الْأَرْضُ، يُقَالُ:
هَذِهِ بَلْدَتُنَا كَمَا يُقَالُ بَحْرَتُنَا. وَالْبَلْدَةُ
مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، وَهِيَ سِتَّةُ أَنْجُمٍ مِنَ
الْقَوْسِ تَنْزِلُهَا الشَّمْسُ فِي أَقْصَرِ يَوْمٍ فِي
السَّنَةِ. وَالْبَلْدَةُ الصَّدْرُ، يُقَالُ: فُلَانٌ وَاسِعُ
الْبَلْدَةِ أَيْ وَاسِعُ قَالَ الشَّاعِرُ:
أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ «3» بَلْدَةٍ ...
قَلِيلٌ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بُغَامَهَا
يَقُولُ: بَرَكَتِ النَّاقَةُ فَأَلْقَتْ صَدْرَهَا عَلَى
الْأَرْضِ. وَالْبَلْدَةُ (بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا):
نَقَاوَةُ مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ، فَهُمَا مِنَ
الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ. (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ)
أَيْ بِالْبَلَدِ. وَقِيلَ: أَنْزَلْنَا بِالسَّحَابِ
الْمَاءَ، لِأَنَّ السَّحَابَ آلَةٌ لِإِنْزَالِ الْمَاءِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَأَنْزَلْنَا مِنْهُ
الْمَاءَ، كَقَوْلِهِ:" يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «4» "
أَيْ مِنْهَا. (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ
كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ
الْإِخْرَاجِ نُحْيِي الْمَوْتَى. وَخَرَّجَ الْبَيْهَقِيُّ
وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قُلْتُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُعِيدُ اللَّهُ الْخَلْقَ، وَمَا
آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: (أَمَا مَرَرْتَ بِوَادِي
قَوْمِكَ جَدْبًا ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا)
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَتِلْكَ آيَةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ).
وَقِيلَ: وَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ إِحْيَاءَهُمْ مِنْ
قُبُورِهِمْ يَكُونُ بِمَطَرٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى
قُبُورِهِمْ، فَتَنْشَقُّ عَنْهُمُ الْقُبُورُ، ثُمَّ تَعُودُ
إِلَيْهِمُ الْأَرْوَاحُ. وَفِي صحيح
__________
(1). هذا عجز بيت لابن الرقاع. وصدره:
عرف الديار توهما فاعتادها
(2). الأدحي (بضم الهمزة وكسرها: مبيض النعام في الرمل، لأن
النعام تبيض فيه وليس للنعام عش.
(3). في الأصول:" بعد". والتصويب عن اللسان وديوان ذى الرمة.
أراد بالبلدة الأولى ما يقع على الأرض من صدرها. وبالثانية
الفلاة التي أناخ ناقته فيها. والبغام: صوت الناقة وأصله للظبي
فاستعاره للناقة.
(4). راجع ج 19 ص 122.
(7/230)
وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي
خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ- أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ-
مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ
النَّاسِ ثُمَّ يُقَالُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى
رَبِّكُمْ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (. وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِكَمَالِهِ فِي كِتَابِ
(التَّذْكِرَةِ) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. فَدَلَّ عَلَى الْبَعْثِ
وَالنُّشُورِ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
[سورة الأعراف (7): آية 58]
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ
وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ
نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ
بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا
نَكِداً) أَيِ التُّرْبَةُ الطَّيِّبَةُ. وَالْخَبِيثُ الَّذِي
فِي تُرْبَتِهِ حِجَارَةٌ أَوْ شَوْكٌ، عَنِ الْحَسَنِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ التَّشْبِيهُ، شَبَّهَ تَعَالَى السَّرِيعَ
الْفَهْمَ بِالْبَلَدِ الطَّيِّبِ، وَالْبَلِيدَ بِالَّذِي
خَبُثَ، عَنِ النَّحَّاسِ. وَقِيلَ: هَذَا مَثَلٌ لِلْقُلُوبِ،
فَقَلْبٌ يَقْبَلُ الْوَعْظَ وَالذِّكْرَى، وَقَلْبٌ فَاسِقٌ
يَنْبُو عَنْ ذَلِكَ، قال الْحَسَنُ أَيْضًا. وَقَالَ
قَتَادَةُ: مَثَلٌ لِلْمُؤْمِنِ يَعْمَلُ مُحْتَسِبًا
مُتَطَوِّعًا، وَالْمُنَافِقُ غَيْرُ مُحْتَسِبٍ، قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ
يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ «1» حَسَنَتَيْنِ
لَشَهِدَ الْعِشَاءَ)." نَكِداً" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ،
وَهُوَ الْعَسِرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ إِعْطَاءِ الْخَيْرِ.
وَهَذَا تَمْثِيلٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي أَنَّ فِي بَنِي
آدَمَ الطَّيِّبَ وَالْخَبِيثَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ" إِلَّا
نَكِداً" حَذَفَ الْكَسْرَةِ لِثِقَلِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ
الْقَعْقَاعِ" نَكَدًا" بِفَتْحِ الْكَافِ، فَهُوَ مَصْدَرٌ
بِمَعْنَى ذَا نَكَدٍ. كَمَا قَالَ:
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ «2»
وَقِيلَ:" نَكِدًا" بِنَصْبِ الْكَافِ وَخَفْضِهَا بِمَعْنًى،
كَالدَّنِفِ وَالدَّنَفِ، لُغَتَانِ. (كَذلِكَ نُصَرِّفُ
الْآياتِ) أَيْ كَمَا صَرَّفْنَا مِنَ الْآيَاتِ، وَهِيَ
الْحُجَجُ وَالدَّلَالَاتُ، فِي إِبْطَالِ الشِّرْكِ، كَذَلِكَ
نُصَرِّفُ الْآيَاتِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ
النَّاسُ. (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) وخص الشاكرين لأنهم
المنتفعون بذلك.
__________
(1). المرماة (بكسر الميم وفتحها): ظلف الشاه. وقيل: ما بين
ظلفها.
(2). البيت للخنساء. وصدره: ترقع ما رتعت حتى إذا أدركت.
الخزانة ج 1 ص 207.
(7/231)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
[سورة الأعراف (7): آية 59]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ
فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ
الْخَالِقُ الْقَادِرُ عَلَى الْكَمَالِ ذَكَرَ أَقَاصِيصَ
الْأُمَمِ وَمَا فِيهَا مِنْ تَحْذِيرِ الْكُفَّارِ.
وَاللَّامُ فِي" لَقَدْ" لِلتَّأْكِيدِ الْمُنَبِّهِ عَلَى
الْقَسَمِ. وَالْفَاءُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ بَعْدَ
الْأَوَّلِ." يَا قَوْمِ" نِدَاءٌ مُضَافٌ. وَيَجُوزُ" يَا
قَوْمِي" عَلَى الْأَصْلِ. وَنُوحٌ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى
الْأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِتَحْرِيمِ
الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ. قَالَ
النَّحَّاسُ: وَانْصَرَفَ لِأَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ.
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ مِنْ نَاحَ ينوح، وقد تقدم إن
فِي" آلِ عِمْرَانَ «1» " هَذَا الْمَعْنَى وَغَيْرُهُ
فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَنْ
قَالَ إِنَّ إِدْرِيسَ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ
فَقَدْ وَهِمَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ وَهْمِهِ
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي الْإِسْرَاءِ حِينَ لَقِيَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آدَمَ
وَإِدْرِيسَ فَقَالَ لَهُ آدَمُ: (مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ
الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ). وَقَالَ لَهُ إِدْرِيسُ:
(مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ).
فَلَوْ كَانَ إِدْرِيسُ أَبًا لِنُوحٍ لَقَالَ مَرْحَبًا
بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. فَلَمَّا
قَالَ لَهُ وَالْأَخُ الصَّالِحُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ
يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي نُوحٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
أَجْمَعِينَ. وَلَا كَلَامَ لِمُنْصِفٍ بَعْدَ هَذَا. قَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ: وجاء جواب الآباء ها هنا كَنُوحٍ
وَإِبْرَاهِيمَ وَآدَمَ (مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ).
وَقَالَ عَنْ إِدْرِيسَ (بِالْأَخِ الصَّالِحِ) كَمَا ذُكِرَ
عَنْ مُوسَى وَعِيسَى وَيُوسُفَ وَهَارُونَ وَيَحْيَى مِمَّنْ
لَيْسَ بِأَبٍ بِاتِّفَاقٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: قَدْ ذَكَرَ
الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ إِدْرِيسَ جَدُّ نُوحٍ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ. فَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إِدْرِيسَ
بُعِثَ أَيْضًا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُ النَّسَّابِينَ إِنَّهُ
قَبْلَ نُوحٍ، لِمَا أَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِ
آدَمَ إِنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ، وَإِنْ لَمْ
يَقُمْ دَلِيلٌ جَازَ مَا قَالُوا: وَصَحَّ أَنْ يُحْمَلَ
أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ مُرْسَلٍ. قَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَدْ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا بِأَنْ
يُقَالَ: اخْتَصَّ بَعْثُ نُوحٍ لِأَهْلِ الْأَرْضِ- كَمَا
قَالَ فِي الْحَدِيثِ- كَافَّةً كَنَبِيِّنَا عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَيَكُونُ إِدْرِيسُ لِقَوْمِهِ كَمُوسَى وَهُودٍ
وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَغَيْرِهِمْ. وقد استدل
__________
(1). راجع ج 4 ص 62.
(7/232)
بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ
قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ «1» ". وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ. وَقَدْ قُرِئَ" سَلَامٌ
عَلَى إِدْرَاسِينَ". قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ
رَأَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ بَطَّالٍ ذَهَبَ إِلَى
أَنَّ آدَمَ لَيْسَ بِرَسُولٍ، لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا
الِاعْتِرَاضِ. وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلُ يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ آدَمَ وَإِدْرِيسَ رَسُولَانِ. قَالَ ابْنُ
عطية: ومجمع ذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ بَعْثَةُ نُوحٍ
مَشْهُورَةً لِإِصْلَاحِ النَّاسِ وَحَمْلِهِمْ
بِالْعَذَابِ وَالْإِهْلَاكِ عَلَى الْإِيمَانِ،
فَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ عَلَى هَذِهِ
الصِّفَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ وَهُوَ
ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ الْكَلْبِيُّ: بَعْدَ
آدَمَ بِثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَبَقِيَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عَامًا، كَمَا أَخْبَرَ التَّنْزِيلُ. ثُمَّ
عَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ سَنَةً. حَتَّى كَثُرَ
النَّاسُ وَفَشَوْا. وَقَالَ وَهْبٌ: بُعِثَ نُوحٌ وَهُوَ
ابْنُ خَمْسِينَ سَنَةً. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ شَدَّادٍ:
بُعِثَ نُوحٌ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثمِائَةٍ وَخَمْسِينَ
سَنَةً. وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ:
التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ الْآنَ
مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَذَكَرَ
النَّقَّاشُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنِ
الزُّهْرِيِّ: أَنَّ الْعَرَبَ وَفَارِسَ وَالرُّومَ
وَأَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْيَمَنِ مِنْ وَلَدِ سَامَ
بْنِ نُوحٍ. وَالسِّنْدَ وَالْهِنْدَ وَالزِّنْجَ
وَالْحَبَشَةَ وَالزُّطَّ وَالنُّوبَةَ، وَكُلَّ جِلْدٍ
أَسْوَدَ مِنْ وَلَدِ حَامِ بْنِ نُوحٍ. وَالتُّرْكَ
وَبَرْبَرَ وَوَرَاءَ الصِّينِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
وَالصَّقَالِبَةَ كُلَّهُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ
نُوحٍ. وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ ذُرِّيَّةُ نُوحٍ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) بِرَفْعِ"
غَيْرُهُ" قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ
وَحَمْزَةَ. أَيْ مَا لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ. نَعْتٌ
عَلَى الْمَوْضِعِ. وَقِيلَ:" غَيْرُ" بِمَعْنَى إِلَّا،
أَيْ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ أَبُو
عَمْرٍو: مَا أَعْرِفُ الْجَرَّ وَلَا النَّصْبَ. وَقَرَأَ
الْكِسَائِيُّ بِالْخَفْضِ عَلَى الْمَوْضِعِ. وَيَجُوزُ
النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَيْسَ بِكَثِيرٍ،
غَيْرَ أَنَّ الْكِسَائِيَّ وَالْفَرَّاءَ أَجَازَا
نَصْبَ" غَيْرَ" فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَحْسُنُ فِيهِ"
إِلَّا" تَمَّ الْكَلَامُ أَوْ لَمْ يَتِمَّ فَأَجَازَا:
مَا جَاءَنِي غَيْرُكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةُ
بَعْضِ بَنِي أَسَدٍ وَقُضَاعَةَ. وَأَنْشَدَ:
__________
(1). راجع ج 15 ص 115. [ ..... ]
(7/233)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ
يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ
رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي
وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (62)
لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ
أَنْ هَتَفَتْ ... حَمَامَةٌ فِي سَحُوقٍ ذَاتِ أَوْقَالِ
«1»
قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَلَا يَجُوزُ جَاءَنِي غَيْرُكَ،
فِي الْإِيجَابِ، لِأَنَّ إِلَّا لَا تَقَعُ هَاهُنَا
قَالَ النَّحَّاسُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ
نَصْبُ" غَيْرَ" إِذَا لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ. وَذَلِكَ
عِنْدَهُمْ مِنْ أَقْبَحِ اللَّحْنِ.
[سورة الأعراف (7): الآيات 60 الى 62]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ
وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61)
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)
" الْمَلَأُ" أشرف القوم ورؤساؤهم. وقد تقدم بيانه في
البقرة «2». الضلال وَالضَّلَالَةُ: الْعُدُولُ عَنْ
طَرِيقِ الْحَقِّ، وَالذَّهَابُ عَنْهُ. أَيْ إِنَّا
لَنَرَاكَ فِي دُعَائِنَا إِلَى إِلَهٍ وَاحِدٍ فِي
ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ. (أُبَلِّغُكُمْ) بِالتَّشْدِيدِ
مِنَ التَّبْلِيغِ، وَبِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِبْلَاغِ.
وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ لُغَتَانِ، مِثْلُ
كَرَّمَهُ وَأَكْرَمَهُ. (وَأَنْصَحُ لَكُمُ) النُّصْحُ:
إِخْلَاصُ النِّيَّةِ مِنْ شَوَائِبَ الْفَسَادِ فِي
الْمُعَامَلَةِ، بِخِلَافِ الْغَشِّ. يُقَالُ: نَصَحْتُهُ
وَنَصَحْتُ لَهُ نَصِيحَةً وَنَصَاحَةً وَنُصْحًا. وَهُوَ
بِاللَّامِ أَفْصَحُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَأَنْصَحُ
لَكُمْ" وَالِاسْمُ النَّصِيحَةُ. وَالنَّصِيحُ
النَّاصِحُ، وَقَوْمٌ نُصَحَاءُ. وَرَجُلٌ نَاصِحُ
الْجَيْبِ أَيْ نَقِيُّ الْقَلْبِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ:
النَّاصِحُ الْخَالِصُ من العسل وغيره. مثل الناصع. وكل شي
خَلَصَ فَقَدْ نَصَحَ. وَانْتَصَحَ فُلَانٌ أَقْبَلَ عَلَى
النَّصِيحَةِ. يُقَالُ: انْتَصِحْنِي إِنَّنِي لَكَ
نَاصِحٌ. وَالنَّاصِحُ الْخَيَّاطُ. وَالنِّصَاحُ
السِّلْكُ يُخَاطُ بِهِ. وَالنَّصَاحَاتُ أَيْضًا
الْجُلُودُ. قَالَ الْأَعْشَى:
فَتَرَى الشُّرْبَ نَشَاوَى كُلُّهُمْ ... مِثْلَ مَا
مُدَّتْ نِصَاحَاتُ الرُّبَحِ
الرُّبَحُ لُغَةٌ فِي الرُّبَعِ، وَهُوَ الْفَصِيلُ.
وَالرُّبَحُ أَيْضًا طَائِرٌ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا
زِيَادَةُ مَعْنًى فِي" بَرَاءَةٌ «3» " إِنْ شاء الله
تعالى.
__________
(1). البيت لأبى قيس بن الأسلت. السحوق: ما طال من الدوم.
وفى الخزانة: في غصون. وأوقاله ثماره. خ ج 2 ص 45.
(2). راجع ج 3 ص 243.
(3). راجع ج 8 ص 226.
(7/234)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ
لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
(63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي
الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ
أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا
لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ
وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ
أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ
رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ
نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا
آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
[سورة الأعراف (7): الآيات 63 الى 64]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى
رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا
وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ
كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ. فِي
الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) قوله تعالى:
(أَوَعَجِبْتُمْ) فُتِحَتِ الْوَاوُ لِأَنَّهَا وَاوُ
عَطْفٍ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ
لِلتَّقْرِيرِ. وَسَبِيلُ الْوَاوِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى
حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَّا الْأَلِفَ لِقُوَّتِهَا."
(أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ) " أَيْ وَعْظٌ مِنْ رَبِّكُمْ.
(عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أَيْ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ.
وَقِيلَ:" عَلى " بِمَعْنَى" مَعَ"، أَيْ مَعَ رَجُلٍ
وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ
مُنَزَّلٌ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، أَيْ تَعْرِفُونَ
نَسَبَهُ. أَيْ عَلَى رَجُلٍ مِنْ جِنْسِكُمْ. وَلَوْ
كَانَ مَلَكًا فَرُبَّمَا كَانَ فِي اخْتِلَافِ الْجِنْسِ
تَنَافُرُ الطبع." الْفُلْكِ" يَكُونُ وَاحِدًا وَيَكُونُ
جَمْعًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «1». وَ"
عَمِينَ" أَيْ عَنِ الْحَقِّ، قَالَ قَتَادَةُ. وَقِيلَ:
عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، يُقَالُ:
رَجُلٌ عَمٍ بِكَذَا، أَيْ جَاهِلٌ.
[سورة الأعراف (7): الآيات 65 الى 69]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ
(65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ
الْكاذِبِينَ (66) قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ
وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67)
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ
أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ
رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ
نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا
آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) أَيْ
وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ أَيِ ابْنُ أَبِيهِمْ. وَقِيلَ: أَخَاهُمْ فِي
الْقَبِيلَةِ. وَقِيلَ: أي بشرا من بني أبيهم آدم.
__________
(1). راجع ج 2 ص 194.
(7/235)
وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ
أَخَاهُمْ هُودًا أَيْ صَاحِبُهُمْ. وَعَادٌ مِنْ وَلَدِ
سَامَ بْنِ نُوحٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَادٌ هُوَ
ابْنُ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ شالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَدَ
بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهُودٌ هُوَ
هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ بْنِ الْجُلُودِ
بْنِ عَادِ بْنِ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ
نُوحٍ. بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى عَادٍ نَبِيًّا. وَكَانَ
مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَفْضَلِهِمْ حَسَبًا. وَ"
عادٍ" مَنْ لَمْ يَصْرِفْهُ جَعَلَهُ اسْمًا
لِلْقَبِيلَةِ، وَمَنْ صَرَفَهُ جَعَلَهُ اسْمًا
لِلْحَيِّ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ
وَابْنِ مَسْعُودٍ" عَادَ الْأُولَى»
" بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَ" هُودٌ" أَعْجَمِيٌّ، وَانْصَرَفَ
لِخِفَّتِهِ، لِأَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ. وَقَدْ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَرَبِيًّا مُشْتَقًّا مِنْ هَادَ
يَهُودُ. وَالنَّصْبُ عَلَى الْبَدَلِ. وَكَانَ بَيْنَ
هُودٍ وَنُوحٍ فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ سَبْعَةُ
آبَاءٍ. وَكَانَتْ عَادٌ فِيمَا رُوِيَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
قَبِيلَةً، يَنْزِلُونَ الرِّمَالَ، رَمْلَ عَالِجَ.
وَكَانُوا أَهْلَ بَسَاتِينَ وَزُرُوعٍ وَعِمَارَةٍ،
وَكَانَتْ بِلَادُهُمْ أَخْصَبَ الْبِلَادِ، فَسَخِطَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَهَا مَفَاوِزَ. وَكَانَتْ
فِيمَا رُوِيَ بِنَوَاحِي حَضْرَمَوْتَ إِلَى الْيَمَنِ،
وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. وَلَحِقَ هُودٌ حِينَ
أُهْلِكَ قَوْمُهُ بِمَنْ آمَنَ مَعَهُ بِمَكَّةَ، فَلَمْ
يَزَالُوا بِهَا حَتَّى مَاتُوا. (إِنَّا لَنَراكَ فِي
سَفاهَةٍ) أَيْ فِي حُمْقِ وَخِفَّةِ عَقْلٍ. قَالَ «2»:
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ...
أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْبَقَرَةِ «3»
". وَالرُّؤْيَةُ هُنَا وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ قِيلَ: هِيَ
مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ
بِهَا الرَّأْيُ الَّذِي هُوَ أَغْلَبُ الظَّنِّ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ
بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) " خُلَفاءَ" جَمْعُ خَلِيفَةٍ عَلَى
التَّذْكِيرِ وَالْمَعْنَى، وَخَلَائِفُ عَلَى اللَّفْظِ.
مَنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ سُكَّانَ الْأَرْضِ
بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ. (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً)
ويجوز" بسطة" بِالصَّادِ لِأَنَّ بَعْدَهَا طَاءً، أَيْ
طُولًا فِي الْخَلْقِ وَعِظَمِ الْجِسْمِ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: كَانَ أَطْوَلُهُمْ مِائَةَ ذِرَاعٍ،
وَأَقْصَرُهُمْ سِتِّينَ ذِرَاعًا. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ
كَانَتْ عَلَى خَلْقِ آبَائِهِمْ. وَقِيلَ: عَلَى خَلْقِ
قَوْمِ نُوحٍ. قَالَ وَهْبٌ: كَانَ رَأْسُ أحدهم
__________
(1). راجع ج 17 ص 118.
(2). هو ذو الرمة. بصف نسوة.
(3). هو ذو الرمة. بصف نسوة.
(7/236)
قَالُوا أَجِئْتَنَا
لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ
آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي
أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا
نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا
إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا
وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
مِثْلَ قُبَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَكَانَ عَيْنُ
الرَّجُلِ يُفَرِّخُ فِيهَا السِّبَاعُ، وَكَذَلِكَ
مَنَاخِرُهُمْ. وَرَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ قَوْمِ عَادٍ
يَتَّخِذُ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ حِجَارَةٍ لَوِ اجْتَمَعَ
عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
لَمْ يُطِيقُوهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَغْمِزُ
بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ فَتَدْخُلُ فِيهَا. (فَاذْكُرُوا
آلاءَ اللَّهِ) أَيْ نِعَمَ اللَّهِ، وَاحِدُهَا إِلًى
وَإِلْيٌ وَإِلْوٌ وَأَلًى. كَالْآنَاءِ وَاحِدُهَا إِنًى
وَإِنْيٌ وَإِنْوٌ وأنى. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تقدم
«1».
[سورة الأعراف (7): الآيات 70 الى 72]
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ
مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ
أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ
وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا
وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما
كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
طَلَبُوا الْعَذَابَ الَّذِي خَوَّفَهُمْ بِهِ
وَحَذَّرَهُمْ مِنْهُ. فَقَالَ لَهُمْ: (قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ). وَمَعْنَى وَقَعَ أَيْ وَجَبَ. يُقَالُ:
وَقَعَ الْقَوْلُ وَالْحُكْمُ أَيْ وَجَبَ! وَمِثْلُهُ:"
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ «2» ". أَيْ نَزَلَ
بِهِمْ." وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا
لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ «3» ". وَالرِّجْسُ
الْعَذَابُ وَقِيلَ: عُنِيَ بِالرِّجْسِ الرَّيْنُ عَلَى
الْقَلْبِ بِزِيَادَةِ الْكُفْرِ. (أَتُجادِلُونَنِي فِي
أَسْماءٍ) يَعْنِي الْأَصْنَامَ الَّتِي عَبَدُوهَا،
وَكَانَ لَهَا أَسْمَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ. مَا نَزَّلَ
اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ أَيْ مِنْ حُجَّةٍ لَكُمْ
فِي عبادتها. فالاسم هنا بمعنى المسمى. نظيره" إِنْ هِيَ
إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها «4» " وَهَذِهِ
الْأَسْمَاءُ مِثْلُ الْعُزَّى مِنَ الْعِزِّ وَالْأَعَزِّ
وَاللَّاتَ، وَلَيْسَ لَهَا مِنَ العز والإلهية شي.
دَابِرُ آخِرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «5». أَيْ لَمْ يَبْقَ
لهم بقية.
__________
(1). راجع ج 1 ص 181.
(2). راجع ص 271 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 13 ص 233.
(4). راجع ج 9 ص 192.
(5). راجع ج 6 ص 425.
(7/237)
وَإِلَى ثَمُودَ
أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ
آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا
تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
[سورة الأعراف (7): آية 73]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ
جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ
لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا
تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)
وَهُوَ ثَمُودُ بْنُ عَادِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ
نُوحٍ. وَهُوَ أَخُو جَدِيسَ، وَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ
مَعَايِشِهِمْ، فَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَعَبَدُوا
غَيْرَهُ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ. فَبَعَثَ اللَّهُ
إِلَيْهِمْ صَالِحًا نَبِيًّا، وَهُوَ صَالِحُ بْنُ
عُبَيْدِ بْنِ آسِفِ بْنِ كَاشِحَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ
حَاذِرِ بْنِ ثَمُودَ. وَكَانُوا قَوْمًا عَرَبًا. وَكَانَ
صَالِحٌ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَفْضَلِهِمْ حَسَبًا
فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى شَمِطَ «1»
وَلَا يَتَّبِعُهُ. مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ
مُسْتَضْعَفُونَ. وَلَمْ يَنْصَرِفْ" ثَمُودَ" لِأَنَّهُ
جُعِلَ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَمْ
يَنْصَرِفْ، لِأَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ. قَالَ
النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ
الثَّمَدِ وَهُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ. وَقَدْ قَرَأَ
الْقُرَّاءُ" أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ «2» "
عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْحَيِّ. وَكَانَتْ مَسَاكِنُ
ثَمُودَ الْحِجْرَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ إِلَى
وَادِي الْقُرَى وَهُمْ مِنْ وَلَدِ سَامَ بْنِ نُوحٍ.
وَسُمِّيَتْ ثَمُودُ لِقِلَّةِ مَائِهَا. وَسَيَأْتِي
بَيَانُهُ فِي" الْحِجْرِ «3» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. (هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) أَخْرَجَ
لَهُمُ النَّاقَةَ حِينَ سَأَلُوهُ مِنْ حَجَرٍ صَلْدٍ،
فَكَانَ لَهَا يَوْمٌ تَشْرَبُ فِيهِ مَاءَ الْوَادِي
كُلَّهُ، وَتَسْقِيهِمْ مِثْلَهُ لَبَنًا لَمْ يُشْرَبْ
قَطُّ أَلَذَّ وأحلى منه. وكان بقدر حاجتهم على كرتهم،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ
يَوْمٍ مَعْلُومٍ «4» ". وَأُضِيفَتِ النَّاقَةُ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى جِهَةِ إِضَافَةِ الْخَلْقِ
إِلَى الْخَالِقِ. وَفِيهِ مَعْنَى التَّشْرِيفِ
وَالتَّخْصِيصِ. (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ)
أَيْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ رِزْقُهَا وَمَئُونَتُهَا.
__________
(1). الشمط، (بفتح الميم): شيب اللحية. وقيل: بياض شعر
الرأس يخالط سواده.
(2). راجع ج 9 ص 59. [ ..... ]
(3). راجع ج 10 ص 45 فما بعد.
(4). راجع ج 13 ص 127.
(7/238)
وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا
وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ
اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
[سورة الأعراف (7): آية 74]
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ
وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها
قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا
آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
(74)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) فِيهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ
بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ مَنَازِلَ. (تَتَّخِذُونَ مِنْ
سُهُولِها قُصُوراً) أَيْ تَبْنُونَ الْقُصُورَ بِكُلِّ
مَوْضِعٍ. (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) اتَّخَذُوا
الْبُيُوتَ فِي الْجِبَالِ لِطُولِ أَعْمَارِهِمْ، فَإِنَّ
السُّقُوفَ وَالْأَبْنِيَةَ كَانَتْ تَبْلَى قَبْلَ
فَنَاءِ أَعْمَارِهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ
الْحَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ. وَفِيهِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ
الْحَلْقِ فَلِذَلِكَ جَاءَ عَلَى فَعَلَ يَفْعَلُ.
الثَّانِيَةُ- اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ أَجَازَ
«1» الْبِنَاءَ الرَّفِيعَ كَالْقُصُورِ وَنَحْوِهَا،
وَبِقَوْلِهِ:" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي
أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ «2» ".
ذُكِرَ أَنَّ ابْنًا لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بَنَى
دَارًا وَأَنْفَقَ فِيهَا مَالًا كَثِيرًا فَذُكِرَ ذَلِكَ
لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَقَالَ: مَا أَرَى بَأْسًا
أَنْ يَبْنِيَ الرَّجُلُ بِنَاءً يَنْفَعُهُ. وَرُوِيَ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: (إِذَا أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ
النِّعْمَةِ عَلَيْهِ). وَمِنْ آثَارِ النِّعْمَةِ
الْبِنَاءُ الْحَسَنُ، وَالثِّيَابُ الْحَسَنَةُ. أَلَا
تَرَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً جَمِيلَةً بِمَالٍ
عَظِيمٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَقَدْ يَكْفِيهِ دُونَ ذَلِكَ،
فَكَذَلِكَ الْبِنَاءُ. وَكَرِهَ ذَلِكَ آخَرُونَ،
مِنْهُمْ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاحْتَجُّوا
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِعَبْدٍ شَرًّا أَهْلَكَ مَالَهُ فِي الطِّينِ
وَاللَّبِنِ). وَفِي خَبَرٍ آخَرَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَالَ: (مَنْ بَنَى فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ جَاءَ
بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ على عنقه). قلت: بهذا
أقول، لقول عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَمَا أَنْفَقَ
الْمُؤْمِنُ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّ خَلَفَهَا عَلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا مَا كَانَ فِي بُنْيَانٍ
أَوْ مَعْصِيَةٍ (. رَوَاهُ جابر بن عبد الله وخرجه
الدارقطني.
__________
(1). كذا في ك وفي ج: اختار جواز البناء. وفى ب وى: أجاز
جواز.
(2). راجع ص 195 من هذ الجزء.
(7/239)
قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ
صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
(76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا
إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَيْسَ
لِابْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ بَيْتٌ
يَسْكُنُهُ وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَهُ وَجِلْفُ «1»
الْخُبْزِ وَالْمَاءُ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاذْكُرُوا آلاءَ
اللَّهِ" أَيْ نِعَمَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْكُفَّارَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ مَضَى فِي" آلِ
عِمْرَانَ «2» " الْقَوْلُ فِيهِ." وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ «3»).
وَالْعِثِيُّ وَالْعُثُوُّ لُغَتَانِ. وَقَرَأَ
الْأَعْمَشُ" تِعْثَوْا" بِكَسْرِ التَّاءِ أَخَذَهُ مِنْ
عَثِيَ يَعْثَى لا من عثا يعثو.
[سورة الأعراف (7): الآيات 75 الى 76]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا
إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ
كافِرُونَ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) الثَّانِي بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ،
لِأَنَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَهُوَ
بَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الكل.
[سورة الأعراف (7): الآيات 77 الى 79]
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ
وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى
عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ
رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ
النَّاصِحِينَ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) الْعَقْرُ
الْجَرْحُ. وَقِيلَ: قَطْعُ عُضْوٍ يُؤَثِّرُ فِي
النَّفْسِ. وَعَقَرْتُ الْفَرَسَ: إِذَا ضَرَبْتُ
قَوَائِمَهُ بِالسَّيْفِ. وَخَيْلٌ عَقْرَى. وَعَقَرْتُ
ظَهْرَ الدَّابَّةِ: إِذَا أَدْبَرْتُهُ.
__________
(1). الجلف بالكسر: الخبز وحده لا أدم معه. وقيل: الخبز
الغليظ اليابس.
(2). راجع ج 4 ص 330.
(3). راجع ج 1 ص 421.
(7/240)
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الْغَبِيطُ بِنَا مَعًا ... عَقَرْتَ
بَعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
أَيْ جَرَحْتَهُ وَأَدْبَرْتَهُ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:
الْعَقْرُ كَشْفُ «1» عُرْقُوبِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ قِيلَ
لِلنَّحْرِ عَقْرٌ، لِأَنَّ الْعَقْرَ سَبَبُ النَّحْرِ
فِي الْغَالِبِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَاقِرِ النَّاقَةِ
عَلَى أَقْوَالٍ. أَصَحُّهَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ، خَطَبَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذُكِرَ النَّاقَةَ وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَهَا فَقَالَ:
(إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ
عَارِمٌ «2» مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ «3» مِثْلُ أَبِي
زَمْعَةَ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقِيلَ فِي اسْمِهِ:
قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ. وَقِيلَ: إِنَّ مُلْكَهُمْ كَانَ
إِلَى امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا مُلْكِي، فَحَسَدَتْ
صَالِحًا لَمَّا مَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَقَالَتْ
لِامْرَأَتَيْنِ كَانَ لَهُمَا خَلِيلَانِ
يَعْشَقَانِهِمَا: لَا تُطِيعَاهُمَا وَاسْأَلَاهُمَا
عَقْرَ النَّاقَةِ، فَفَعَلَتَا. وَخَرَجَ الرَّجُلَانِ
وَأَلْجَآ النَّاقَةَ إِلَى مَضِيقٍ وَرَمَاهَا
أَحَدُهُمَا بِسَهْمٍ وَقَتَلَاهَا. وَجَاءَ السَّقْبُ
وَهُوَ وَلَدُهَا إِلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي خَرَجَتِ
الناقة منها فرغا ثلاثا وانفجرت الصَّخْرَةُ فَدَخَلَ
فِيهَا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ الدَّابَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ
فِي آخِرِ الزَّمَانِ عَلَى النَّاسِ، عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ فِي" النَّمْلِ «4» ". وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
أَتْبَعَ السَّقْبُ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ
عَقَرَ النَّاقَةَ، مِصْدَعٌ وَأَخُوهُ ذُؤَابٌ «5».
فَرَمَاهُ مِصْدَعٌ بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ قَلْبَهُ «6»،
ثُمَّ جَرَّهُ بِرِجْلِهِ فَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ،
وَأَكَلُوهُ مَعَهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّ
صَالِحًا قَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ بَقِيَ مِنْ عُمْرِكُمْ
ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلِهَذَا رَغَا ثَلَاثًا. وَقِيلَ:
عَقَرَهَا عَاقِرُهَا وَمَعَهُ ثَمَانِيَةُ رِجَالٍ،
وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:" وَكانَ فِي
الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ «7» " عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ فِي" النَّمْلِ". وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ"
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ «8» ". وَكَانُوا
يَشْرَبُونَ فَأَعْوَزَهُمُ الْمَاءُ لِيَمْزُجُوا
شَرَابَهُمْ، وَكَانَ يَوْمَ لَبَنِ النَّاقَةِ، فَقَامَ
أَحَدُهُمْ وَتَرَصَّدَ النَّاسَ وَقَالَ: لَأُرِيحَنَّ
النَّاسَ مِنْهَا، فَعَقَرَهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أَيِ اسْتَكْبَرُوا.
عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا أَيِ اسْتَكْبَرَ. وَتَعَتَّى
فُلَانٌ إِذَا لَمْ يُطِعْ. والليل العاتي: الشديد الظلمة،
عن الخليل.
__________
(1). في ج وك: كسر.
(2). عارم: أي خبيث شرير.
(3). في ج: أهله.
(4). راجع ج 13 ص 334. وص 215.
(5). كذا في الأصول.
(6). انتظم الصيد: إذا طعنه أو رماه حتى ينفذه.
(7). راجع ج 13 ص 334. وص 215. [ ..... ]
(8). راجع ج 17 ص 140.
(7/241)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا
مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
(وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما
تَعِدُنا) أَيْ مِنَ الْعَذَابِ. (فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ) أَيِ الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ. وَقِيلَ:
كَانَ صَيْحَةً شَدِيدَةً خَلَعَتْ «1» قُلُوبَهُمْ، كَمَا
(فِي «2» قِصَّةِ ثَمُودَ) فِي سُورَةِ" هُودٍ «3» " فِي
قِصَّةِ ثَمُودَ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة. يقال: رجف الشيء
يرجف رجفا رجفانا. وَأَرْجَفَتِ الرِّيحُ الشَّجَرَ
حَرَّكَتْهُ. وَأَصْلُهُ حَرَكَةٌ مَعَ صَوْتٍ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى" يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ «4» "
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَمَّا رَأَيْتُ الْحَجَّ قَدْ آنَ وَقْتُهُ ...
وَظَلَّتْ مَطَايَا الْقَوْمِ بِالْقَوْمِ تَرْجُفُ
(فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أَيْ بَلَدِهِمْ. وَقِيلَ:
وُحِّدَ عَلَى طَرِيقِ الْجِنْسِ، وَالْمَعْنَى: فِي
دُورِهِمْ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:" فِي دِيارِهِمْ"
أَيْ فِي مَنَازِلِهِمْ. (جاثِمِينَ) أَيْ لَاصِقِينَ
بِالْأَرْضِ عَلَى رُكَبِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ، كَمَا
يَجْثُمُ الطَّائِرُ. أَيْ صَارُوا خَامِدِينَ مِنْ
شِدَّةِ الْعَذَابِ. وَأَصْلُ الْجُثُومِ لِلْأَرْنَبِ
وَشَبَهِهَا، وَالْمَوْضِعُ مَجْثَمٌ. قَالَ زُهَيْرٌ:
بِهَا الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ...
وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثِمِ «5»
وَقِيلَ: احْتَرَقُوا بِالصَّاعِقَةِ فَأَصْبَحُوا
مَيِّتِينَ، إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ
اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا
أَصَابَ قَوْمَهُ. (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي عند اليأس
منهم. (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ
رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ
ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قال
بَعْدَ مَوْتِهِمْ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِقَتْلَى بَدْرٍ: (هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ
حَقًّا) فَقِيلَ: أَتُكَلِّمُ هَؤُلَاءِ الْجِيَفَ؟
فَقَالَ: (مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ
لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْجَوَابِ). وَالْأَوَّلُ
أَظْهَرُ. يَدُلُّ عَلَيْهِ (وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ
النَّاصِحِينَ) أي لم تقبلوا نصحي.
[سورة الأعراف (7): آية 80]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ
مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80)
فِيهِ أربع مسائل:
__________
(1). في ب: تقطت.
(2). من ج وز وك وى.
(3). راجع ج 9 ص 59.
(4). راجع ج 19 ص 188.
(5). العين بكسر أوله: البقر واحدها أعين وعيناه. والآرام.
الظباء والأطلاء: أولادها، الواحد طلا. وخلفة: فوج بعد
فوج. وقيل: مختلفة، هذه مقبلة وهذه مدبرة، وهذه صاعدة وهذه
نازلة. (عن شرح المعلقات).
(7/242)
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلُوطاً
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) قَالَ الْفَرَّاءُ: لُوطٌ مُشْتَقٌّ
مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا أَلْيَطُ بِقَلْبِي، أَيْ
أَلْصَقُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: قَالَ الزَّجَّاجُ زَعَمَ
بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ- يَعْنِي الْفَرَّاءَ- أَنَّ
لُوطًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ لُطْتُ إِذَا
مَلَّسْتُهُ بِالطِّينِ. قَالَ: وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ
الْأَسْمَاءَ الْأَعْجَمِيَّةَ لَا تُشْتَقُّ كَإِسْحَاقَ،
فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ مِنَ السُّحْقِ وَهُوَ الْبُعْدُ.
وَإِنَّمَا صُرِفَ لُوطٌ لِخِفَّتِهِ «1» لِأَنَّهُ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ وَهُوَ سَاكِنُ الْوَسَطِ. قَالَ
النَّقَّاشُ: لُوطٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ
وَلَيْسَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ. فَأَمَّا لُطْتُ الْحَوْضَ،
وَهَذَا أَلْيَطُ بِقَلْبِي مِنْ هَذَا، فَصَحِيحٌ.
وَلَكِنَّ الِاسْمَ أَعْجَمِيٌّ كَإِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: نُوحٌ وَلُوطٌ أَسْمَاءٌ
أَعْجَمِيَّةٌ، إِلَّا أَنَّهَا خَفِيفَةٌ فَلِذَلِكَ
صُرِفَتْ. بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أُمَّةٍ
تُسَمَّى سَدُومُ، وَكَانَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ.
وَنَصْبُهُ إِمَّا بِ" أَرْسَلْنا" الْمُتَقَدِّمَةِ
فَيَكُونُ مَعْطُوفًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا
بِمَعْنَى وَاذْكُرْ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) يَعْنِي إِتْيَانَ الذُّكُورِ.
ذَكَرَهَا اللَّهُ بِاسْمِ الْفَاحِشَةِ لِيُبَيِّنَ
أَنَّهَا زِنًى، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا
تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً «2» ".
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَقَالَ
مَالِكٌ: يُرْجَمُ، أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصَنْ.
وَكَذَلِكَ يُرْجَمُ الْمَفْعُولُ بِهِ إِنْ كَانَ
مُحْتَلِمًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: يُرْجَمُ إِنْ
كَانَ مُحْصَنًا، وَيُحْبَسُ وَيُؤَدَّبُ إِنْ كَانَ
غَيْرَ مُحْصَنٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ
وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حنيفة:
يعزر الْمُحْصَنُ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى قِيَاسًا
عَلَيْهِ. احْتَجَّ مَالِكٌ بقول تَعَالَى:" وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ". فَكَانَ ذَلِكَ
عُقُوبَةً لَهُمْ وَجَزَاءً عَلَى فِعْلِهِمْ. فَإِنْ
قِيلَ: لَا حُجَّةَ فِيهَا لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا-
أَنَّ قَوْمَ لُوطٍ إِنَّمَا عُوقِبُوا عَلَى الْكُفْرِ
وَالتَّكْذِيبِ كَسَائِرِ الْأُمَمِ. الثَّانِي- أَنَّ
صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ دَخَلَ فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى
خُرُوجِهَا مِنْ بَابِ الْحُدُودِ. قِيلَ: أَمَّا
الْأَوَّلُ فَغَلَطٌ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أخبر
عنهم أنهم كانوا على معاصي فَأَخَذَهُمْ بِهَا، مِنْهَا
هَذِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَكَانَ مِنْهُمْ فَاعِلٌ
وَكَانَ مِنْهُمْ رَاضٍ، فَعُوقِبَ الْجَمِيعُ لِسُكُوتِ
الْجَمَاهِيرِ عَلَيْهِ. وَهِيَ حِكْمَةُ اللَّهِ
وَسُنَّتُهُ في عباده.
__________
(1). من ب وج ك وى وز.
(2). راجع ج 10 ص 253 وص 42 وج 9 ص 81.
(7/243)
وَبَقِيَ أَمْرُ الْعُقُوبَةِ عَلَى
الْفَاعِلِينَ مُسْتَمِرًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ
وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا
الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ). لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ
وَابْنِ مَاجَهْ. وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ (أَحْصَنَا أَوْ
لَمْ يُحْصِنَا). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ
وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبِكْرِ
يُوجَدُ عَلَى اللُّوطِيَّةِ قَالَ: يُرْجَمُ. وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ حَرَّقَ رَجُلًا يُسَمَّى الْفُجَاءَةَ
حِينَ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ بِالنَّارِ. وَهُوَ
رَأْيُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا
كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فِي
ذَلِكَ جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيهِ،
فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَمْ تَعْصِ بِهِ
أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ صَنَعَ
اللَّهُ بِهَا مَا عَلِمْتُمْ، أَرَى أَنْ يُحَرَّقَ
بِالنَّارِ. فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحَرَّقَ
بِالنَّارِ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ
الْوَلِيدِ أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ فَأَحْرَقَهُ.
ثُمَّ أَحْرَقَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي زَمَانِهِ.
ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ. ثُمَّ
أَحْرَقَهُمْ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ بِالْعِرَاقِ. وَرُوِيَ
أَنَّ سَبْعَةً أُخِذُوا فِي زَمَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي
لِوَاطٍ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ فَوَجَدَ أَرْبَعَةً قَدْ
أَحْصَنُوا فَأَمَرَ بِهِمْ فَخَرَجُوا (بِهِمْ»
) مِنْ الْحَرَمِ فَرُجِمُوا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى
مَاتُوا، وَحَدَّ الثَّلَاثَةَ، وَعِنْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَابْنُ عُمَرَ فَلَمْ يُنْكِرَا عَلَيْهِ. وَإِلَى هَذَا
ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ أَحَقُّ، فَهُوَ أَصَحُّ
سَنَدًا وَأَقْوَى مُعْتَمَدًا. وَتَعَلَّقَ
الْحَنَفِيُّونَ بِأَنْ قَالُوا: عُقُوبَةُ الزِّنَى
مَعْلُومَةٌ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ
غَيْرَهَا وَجَبَ أَلَّا يُشَارِكَهَا فِي حَدِّهَا.
وَيَأْثِرُونَ «2» فِي هَذَا حَدِيثًا: (مَنْ وَضَعَ
حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ).
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ لَا يَتَعَلَّقُ
بِهِ إِحْلَالٌ وَلَا إِحْصَانٌ، وَلَا وُجُوبَ مَهْرٍ
وَلَا ثُبُوتَ نَسَبٍ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَدٌّ.
الثَّالِثَةُ- فَإِنْ أَتَى بَهِيمَةً فَقَدْ قِيلَ: لَا
يُقْتَلُ هُوَ وَلَا الْبَهِيمَةُ. وَقِيلَ: يُقْتَلَانِ،
حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(من وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا
الْبَهِيمَةَ مَعَهُ). فَقُلْنَا لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا
شَأْنُ الْبَهِيمَةِ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ قَالَ ذَلِكَ،
إِلَّا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا وَقَدْ
عُمِلَ بِهَا ذَلِكَ الْعَمَلُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
إِنْ يَكُ الْحَدِيثُ ثابتا فالقول «3» به
__________
(1). كذا في ب وج وك. وفى ز: فأخرجوا بهم.
(2). في ز: يرون.
(3). في ج وز: فالعمل.
(7/244)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ
الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
يَجِبُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ
فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرًا،
وَإِنْ عَزَّرَهُ الْحَاكِمُ كَانَ حَسَنًا. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَتْلَ الْبَهِيمَةِ
لِئَلَّا تُلْقِي خَلْقًا مُشَوَّهًا، فَيَكُونُ قَتْلُهَا
مَصْلَحَةً لِهَذَا الْمَعْنَى مَعَ مَا جَاءَ مِنَ
السُّنَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو
دَاوُدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الَّذِي
زَنَى بِالْبَهِيمَةِ حَدٌّ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَذَا
قَالَ عَطَاءٌ. وَقَالَ الْحَكَمُ: أَرَى أَنْ يُجْلَدَ
وَلَا يُبْلَغَ بِهِ الْحَدُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ
بِمَنْزِلَةِ الزَّانِي. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُجْلَدُ
مِائَةً أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ. وَقَالَ مَالِكٌ
وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ
يُعَزَّرُ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ
وَالْحَكَمِ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ «1» عَنِ
الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا أَشْبَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي
هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: يُقَامُ
عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْبَهِيمَةُ
لَهُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا سَبَقَكُمْ
بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) " مِنْ"
لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، أَيْ لَمْ يَكُنِ اللِّوَاطُ
فِي أُمَّةٍ قَبْلَ «2» قَوْمِ لُوطٍ. وَالْمُلْحِدُونَ
يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَهُمْ. وَالصِّدْقُ
مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ
إِبْلِيسَ كَانَ أَصْلَ عَمَلِهِمْ بِأَنْ دَعَاهُمْ إِلَى
نَفْسِهِ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَكَانَ يَنْكِحُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ
بِالْغُرَبَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ
بِبَعْضٍ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى
أُمَّتِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ). وَقَالَ مُحَمَّدُ بن
سيرين: ليس شي مِنَ الدَّوَابِّ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ
لُوطٍ إِلَّا الخنزير والحمار.
[سورة الأعراف (7): آية 81]
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ
النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ) قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ
عَلَى الْخَبَرِ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَكْسُورَةٍ،
تَفْسِيرًا لِلْفَاحِشَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَمْ يَحْسُنْ
إِدْخَالُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ
مَا بَعْدَهُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي
مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَحَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا قبله
وبعده «3» كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ. وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ
أَبُو عُبَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وغيرهما، واحتجوا بقوله عز
وجل:
__________
(1). في ب وج وز وك: الروايات.
(2). في ج: غير.
(3). كذا في الأصول والعبارة غير واضحة. [ ..... ]
(7/245)
وَمَا كَانَ جَوَابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ
قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
" أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «1»
" وَلَمْ يَقُلْ أَفَهُمْ. وَقَالَ:" أَفَإِنْ ماتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ «2» " وَلَمْ
يَقُلْ أَنْقَلَبْتُمْ. وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْغَلَطِ
لِأَنَّهُمَا شَبَّهَا شَيْئَيْنِ بِمَا لَا
يَشْتَبِهَانِ، لأن الشرط وجوابه بمنزلة شي وَاحِدٍ
كَالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
فِيهِمَا اسْتِفْهَامَانِ. فَلَا يَجُوزُ: أَفَإِنْ مِتَّ
أَفَهُمْ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَزَيْدٌ أَمُنْطَلِقٌ.
وَقِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا جُمْلَتَانِ،
فَلَكَ أَنْ تَسْتَفْهِمَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَاخْتَارَهُ
النَّحَّاسُ وَمَكِّيٌّ وَغَيْرُهُمَا" شَهْوَةً" نَصْبٌ
عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ تَشْتَهُونَهُمْ شَهْوَةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ."
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ" نَظِيرُهُ" بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ «3» " في جمعكم إلى الشرك هذه
الفاحشة.
[سورة الأعراف (7): الآيات 82 الى 83]
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا
أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ
يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ
امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا
أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ) أَيْ لُوطًا وَأَتْبَاعَهُ.
وَمَعْنَى (يَتَطَهَّرُونَ) عَنِ الْإِتْيَانِ فِي هَذَا
الْمَأْتَى. يُقَالُ: تَطَهَّرَ الرَّجُلُ أَيْ تَنَزَّهَ
عَنِ الْإِثْمِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَابُوهُمْ وَاللَّهِ
بِغَيْرِ عَيْبٍ. (مِنَ الْغابِرِينَ) أَيِ الباقين في
عذاب الله، قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ. غَبَرَ
الشَّيْءُ إِذَا مَضَى، وَغَبَرَ إِذَا بَقِيَ. وَهُوَ
مِنَ الْأَضْدَادِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَاضِي عَابِرٌ
بِالْعَيْنِ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ. وَالْبَاقِي غَابِرٌ
بَالْغَيْنِ مُعْجَمَةٍ. حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي «4»
الْمُجْمَلِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" مِنَ الْغابِرِينَ"
أَيْ مِنَ الْغَائِبِينَ عَنِ النَّجَاةِ وَقِيلَ: لِطُولِ
عُمْرِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَبُو عُبَيْدَةَ
يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى مِنَ الْمُعَمِّرِينَ،
أَيْ إِنَّهَا قَدْ هَرِمَتْ. وَالْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ
أَنْ يَكُونَ الْغَابِرُ الْبَاقِيَ، قَالَ الرَّاجِزُ:
فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ ... لَهُ الإله ما
مضى وما غبر
[سورة الأعراف (7): آية 84]
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
__________
(1). راجع ج 11 ص 287.
(2). راجع ج 4 ص 226.
(3). راجع ج 13 ص 132.
(4). من ب وج وز وك.
(7/246)
وَإِلَى مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا
عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ
وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي
أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ (87)
سَرَى لُوطٌ بِأَهْلِهِ كَمَا وَصَفَ
اللَّهُ" بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ «1» " ثُمَّ أُمِرَ
جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَدْخَلَ جَنَاحَهُ
تَحْتَ مَدَائِنِهِمْ فَاقْتَلَعَهَا وَرَفَعَهَا حَتَّى
سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ وَنُبَاحَ
الْكِلَابِ، ثُمَّ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا،
وَأُمْطِرَتْ عَلَيْهِمْ حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلٍ، قِيلَ:
عَلَى مَنْ غَابَ مِنْهُمْ. وَأَدْرَكَ امْرَأَةَ لُوطٍ،
وَكَانَتْ مَعَهُ حَجَرٌ فَقَتَلَهَا. وَكَانَتْ فِيمَا
ذُكِرَ أَرْبَعَ قُرًى. وَقِيلَ: خَمْسٌ فِيهَا
أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" هُودٍ
«2» " قِصَّةُ لُوطٍ بِأَبْيَنَ مِنْ هَذَا، إِنْ شَاءَ
الله تعالى.
[سورة الأعراف (7): الآيات 85 الى 87]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ
جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا
تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً
وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ
وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي
أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ
الْحاكِمِينَ (87)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَإِلى مَدْيَنَ) قِيلَ فِي مَدْيَنَ: اسْمُ بَلَدٍ
وَقُطْرٍ. وَقِيلَ: اسْمُ قَبِيلَةٍ كَمَا يُقَالُ: بَكْرٍ
وَتَمِيمٍ. وَقِيلَ: هُمْ مِنْ وَلَدِ مَدْيَنَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَمَنْ
رَأَى أَنَّ مَدْيَنَ اسْمُ رَجُلٍ لَمْ يَصْرِفْهُ
لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ أَعْجَمِيٌّ. وَمَنْ رَآهُ اسْمًا
لِلْقَبِيلَةِ أَوِ الْأَرْضِ فَهُوَ أَحْرَى بِأَلَّا
يَصْرِفَهُ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَيُرْوَى أَنَّهُ
كَانَ ابْنَ بِنْتِ لُوطٍ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: كَانَ زَوْجَ
بِنْتِ لُوطٍ. وَاخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِ، فَقَالَ عَطَاءٌ
وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا: وَشُعَيْبٌ هُوَ ابْنُ
ميكيل بن يشجر
__________
(1). راجع ج 9 ص 84. فما بعد.
(2). راجع ج 9 ص 84. فما بعد.
(7/247)
ابن مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَكَانَ اسْمُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ
بَيْرُوتَ. وَأُمُّهُ مِيكَائِيلُ بِنْتُ لُوطٍ. وَزَعَمَ
الشرقي بن القطامي أن شعيبا بن عَيْفَاءَ بْنِ يَوْبَبَ
بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وزعم ابن سمعان أن شعيبا
بن جَزَى بْنِ يَشْجُرَ بْنِ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَشُعَيْبٌ تَصْغِيرُ شَعْبٍ
أَوْ شِعْبٍ «1». وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ
يَوْبَبَ «2». وَقِيلَ: شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ
عَيْفَاءَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
«3». وَاللَّهُ أعلم. وكان أعمى «4»، ولذلك قَالَ
قَوْمُهُ:" وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً «5» ".
وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ لِحُسْنِ
مُرَاجَعَتِهِ قَوْمَهُ. وَكَانَ قَوْمُهُ أَهْلَ كُفْرٍ
بِاللَّهِ وَبَخْسٍ لِلْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. (قَدْ
جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ بَيَانٌ،
وَهُوَ مَجِيءُ شُعَيْبٍ بِالرِّسَالَةِ. وَلَمْ يُذْكَرْ
لَهُ مُعْجِزَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: مُعْجِزَتُهُ
فِيمَا ذَكَرَ الْكِسَائِيُّ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) الْبَخْسُ النَّقْصُ. وَهُوَ
يَكُونُ فِي السِّلْعَةِ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ
فِيهَا، أَوِ الْمُخَادَعَةِ عَنِ الْقِيمَةِ،
وَالِاحْتِيَالِ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ
وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَكْلِ
الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي
الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالسَّالِفَةِ عَلَى
أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَى جَمِيعِهِمْ «6») وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) عَطْفٌ
عَلَى" وَلا تَبْخَسُوا". وَهُوَ لَفْظٌ يَعُمُّ دَقِيقَ
الْفَسَادِ وَجَلِيلَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ
الْأَرْضُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ شُعَيْبًا
رَسُولًا يُعْمَلُ فِيهَا بِالْمَعَاصِي وَتُسْتَحَلُّ
فِيهَا الْمَحَارِمُ وَتُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ. قَالَ:
فَذَلِكَ فَسَادُهَا. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ شُعَيْبًا
وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ صَلَحَتِ الْأَرْضُ. وَكُلُّ
نَبِيٍّ بُعِثَ إِلَى قَوْمِهِ فَهُوَ صَلَاحُهُمْ.
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَقْعُدُوا
بِكُلِّ صِراطٍ) نَهَاهُمْ عَنِ الْقُعُودِ بِالطُّرُقِ
وَالصَّدِّ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى
طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَانُوا يُوعِدُونَ الْعَذَابَ مَنْ
آمَنَ. وَاخْتَلَفَ العلماء
__________
(1). في شرح القاموس: تصغير شعب أو أشعب: كما قالوا في
تصغير أسود سويد.
(2). في ع: ثويب.
(3). وردت هذه الأسماء مضطربة في نسخ الأصل وفى المصادر
التي بين أيدينا. ولم نوفق لضبطها.
(4). ليس رسول من الله أعمى وإنما شعيب الرجل الصالح صاحب
موسى هو فيما قيل أعمى وبينهما ثلاثمائة سنة إذ عصمة
الأنبياء تنافى ما ينفر من الصفات. مصححة.
(5). راجع ج 9 ص 84.
(6). من ع.
(7/248)
فِي مَعْنَى قُعُودِهِمْ عَلَى الطُّرُقِ
عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانُوا
يَقْعُدُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى
شُعَيْبٍ فَيَتَوَعَّدُونَ مَنْ أَرَادَ الْمَجِيءَ
إِلَيْهِ وَيَصُدُّونَهُ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ كَذَّابٌ
فَلَا تَذْهَبْ إِلَيْهِ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ
تَفْعَلُهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: هَذَا نَهْيٌ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ «1»،
وَأَخْذِ السَّلَبِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي
خَشَبَةً عَلَى الطَّرِيقِ لَا يمر بها ثوب إلا شقته ولا
شي إِلَّا خَرَقَتْهُ فَقُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ
قَالَ هَذَا مَثَلٌ لِقَوْمٍ مِنْ أُمَّتِكَ يَقْعُدُونَ
عَلَى الطَّرِيقِ فَيَقْطَعُونَهُ (- ثُمَّ تَلَا-" وَلا
تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ" الْآيَةَ. وَقَدْ
مَضَى الْقَوْلُ فِي اللُّصُوصِ وَالْمُحَارَبِينَ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ «2». وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا:
كَانُوا عَشَّارِينَ مُتَقَبِّلِينَ. وَمِثْلُهُمُ
الْيَوْمَ هَؤُلَاءِ الْمَكَّاسُونَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ
مَا لَا يَلْزَمُهُمْ شَرْعًا مِنَ الْوَظَائِفِ
الْمَالِيَّةِ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ، فَضَمِنُوا مَا
لَا يَجُوزُ ضَمَانُ أَصْلِهِ مِنَ الزَّكَاةِ
وَالْمَوَارِيثِ وَالْمَلَاهِي. وَالْمُتَرَتِّبُونَ فِي
الطُّرُقِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ كَثُرَ فِي
الْوُجُودِ وَعُمِلَ بِهِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ. وَهُوَ
مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِهَا وَأَفْحَشِهَا،
فَإِنَّهُ غَصْبٌ وَظُلْمٌ وَعَسْفٌ عَلَى النَّاسِ
وَإِذَاعَةٌ لِلْمُنْكَرِ وَعَمَلٌ بِهِ وَدَوَامٌ
عَلَيْهِ وَإِقْرَارٌ لَهُ، وَأَعْظَمُهُ تَضْمِينُ
الشَّرْعِ وَالْحُكْمِ لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! لَمْ يَبْقَ مِنَ
الْإِسْلَامِ إِلَّا رَسْمُهُ، وَلَا مِنَ الدِّينِ إِلَّا
اسْمُهُ. يُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ
النَّهْيِ فِي شَأْنِ الْمَالِ فِي الْمَوَازِينِ
وَالْأَكْيَالِ وَالْبَخْسِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ
آمَنَ بِهِ) الضَّمِيرُ فِي" بِهِ" يَحْتَمِلُ أَنْ
يَعُودَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَعُودَ
إِلَى شُعَيْبٍ فِي قَوْلِ مَنْ رَأَى الْقُعُودَ عَلَى
الطَّرِيقِ لِلصَّدِّ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى السَّبِيلِ."
عِوَجاً" قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: كَسْرُ
الْعَيْنِ فِي الْمَعَانِي. وَفَتْحُهَا فِي الْأَجْرَامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا
فَكَثَّرَكُمْ) أَيْ كَثَّرَ عَدَدَكُمْ، أَوْ كَثَّرَكُمْ
بِالْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ. أَيْ كُنْتُمْ فُقَرَاءَ
فَأَغْنَاكُمْ." فَاصْبِرُوا" لَيْسَ هَذَا أَمْرًا
بِالْمُقَامِ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَكِنَّهُ وَعِيدٌ
وَتَهْدِيدٌ. وَقَالَ: (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ)
فَذَكَّرَ عَلَى الْمَعْنَى، وَلَوْ رَاعَى «3» اللفظ قال:
كانت.
__________
(1). في ب وج وك: الطرق.
(2). راجع ج 6 ص 147 فما بعد. [ ..... ]
(3). الأولى: روعي لقيل.
(7/249)
قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ
يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا
أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا
كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا
اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا
كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا
افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ
خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
[سورة الأعراف (7): الآيات 88 الى 89]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ
مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ
أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى
اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ
نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ
فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا
كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا
افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ
خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ.
وَمَعْنَى" أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا" أَيْ
لَتَصِيرُنَّ إِلَى مِلَّتِنَا وَقِيلَ: كَانَ أَتْبَاعُ
شُعَيْبٍ قَبْلَ الْإِيمَانِ بِهِ عَلَى الْكُفْرِ أَيْ
لَتَعُودُنَّ إِلَيْنَا كَمَا كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ. قَالَ
الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ بِمَعْنَى
الِابْتِدَاءِ، يُقَالُ: عَادَ إِلَيَّ مِنْ فُلَانٍ
مَكْرُوهٌ، أَيْ صَارَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَقَهُ
مَكْرُوهٌ قَبْلَ ذَلِكَ، أَيْ لَحِقَنِي ذَلِكَ مِنْهُ.
فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ)
أَيْ وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ تَجْبُرُونَنَا عَلَيْهِ،
أَيْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْوَطَنِ أَوِ الْعَوْدِ فِي
مِلَّتِكُمْ. أَيْ إِنْ فَعَلْتُمْ هَذَا أَتَيْتُمْ
عَظِيمًا. (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ
عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ
مِنْها) إِيَاسٌ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِلَّتِهِمْ. (وَما
يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللَّهُ رَبُّنا) قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: أَيْ
إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: وَهَذَا
قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَيْ وَمَا يَقَعُ مِنَّا
الْعَوْدُ إِلَى الْكُفْرِ إِلَّا أَنْ يَشَاءُ اللَّهُ
ذَلِكَ. فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. وَقِيلَ:
الِاسْتِثْنَاءُ هُنَا عَلَى جِهَةِ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ:" وَما تَوْفِيقِي إِلَّا
بِاللَّهِ «1» ". وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ
بَعْدَهُ" وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى
اللَّهِ تَوَكَّلْنا". وقيل: هو كقولك ألا أُكَلِّمُكَ
حَتَّى يَبْيَضَّ الْغُرَابُ، وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ
فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. وَالْغُرَابُ لَا يَبْيَضُّ
أَبَدًا، والجمل لا يلج (فِي سَمِّ الْخِياطِ «2»).
__________
(1). راجع ج 9 ص 84.
(2). من ز.
(7/250)
وَقَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ
شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ
جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ
لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا
كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ
رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ
كَافِرِينَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ
شَيْءٍ عِلْماً) أَيْ عَلِمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ."
عِلْماً" نصب على التمييز." وَما يَكُونُ لَنا أَنْ
نَعُودَ فِيها" أَيْ فِي الْقَرْيَةِ بَعْدَ أَنْ
كَرِهْتُمْ مُجَاوَرَتَنَا، بَلْ نَخْرُجُ مِنْ
قَرْيَتِكُمْ مُهَاجِرِينَ إِلَى غَيْرِهَا." إِلَّا أَنْ
يَشاءَ اللَّهُ" رَدَّنَا إِلَيْهَا. وَفِيهِ بُعْدٌ،
لِأَنَّهُ يُقَالُ: عَادَ لِلْقَرْيَةِ وَلَا يُقَالُ
عَادَ فِي الْقَرْيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلَى اللَّهِ
تَوَكَّلْنا) أَيِ اعْتَمَدْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
غَيْرِ مَوْضِعٍ «1». (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ
قَوْمِنا بِالْحَقِّ) قَالَ قَتَادَةُ: بَعَثَهُ اللَّهُ
إِلَى أُمَّتَيْنِ: أَهْلِ مَدْيَنَ، وَأَصْحَابِ
الْأَيْكَةِ «2». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ شُعَيْبٌ
كَثِيرَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا (طَالَ «3») تَمَادِي
قَوْمِهِ فِي كُفْرِهِمْ وَغَيِّهِمْ، وَيَئِسَ مِنْ
صَلَاحِهِمْ، دَعَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ:" رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ
الْفاتِحِينَ «4» " فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ
فَأَهْلَكَهُمْ بالرجفة.
[سورة الأعراف (7): الآيات 90 الى 93]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ
اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ
جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ
يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا
هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا
قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ
لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ) أَيْ قَالُوا لِمَنْ دُونَهُمْ. (لَئِنِ
اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أَيْ
هَالِكُونَ. (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أَيِ
الزَّلْزَلَةُ. وَقِيلَ: الصَّيْحَةُ. وَأَصْحَابُ
الْأَيْكَةِ أُهْلِكُوا بِالظُّلَّةِ «5»، عَلَى مَا
يَأْتِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) قَالَ
الْجُرْجَانِيُّ: قِيلَ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، أَيِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا صاروا كأنهم لم يزالوا
موتى." يَغْنَوْا" يقيموا، يقال:
__________
(1). راجع ج 4 ص 189.
(2). الأيكة: الشجر الكثير الملتف.
(3). من ب وج وك.
(4). قال الفراء: فتح بمعنى حكم بلغة أهل عمان: الطبري.
(5). الظلة: سحابة فيها نار أمطرتهم بها. وقيل: سموم. راجع
ج 13 ص 135.
(7/251)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا
بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ
(94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ
حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا
الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
غَنَيْتُ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَمْتُ
بِهِ. وَغَنِيَ الْقَوْمُ فِي دَارِهِمْ أَيْ طَالَ
مُقَامُهُمْ فِيهَا. وَالْمَغْنَى: المنزل، والجمع
المغاني. قال لبيد:
وعنيت سِتًّا قَبْلَ مَجْرَى دَاحِسٍ ... لَوْ كَانَ
لِلنَّفْسِ اللجوج خلود
وقال حاتم طيّ:
غَنِينَا زَمَانًا بِالتَّصَعْلُكِ وَالْغِنَى ... (كَمَا
الدَّهْرُ فِي أَيَّامِهِ الْعُسْرُ وَالْيُسْرُ) «1»
(كَسَبْنَا صُرُوفَ الدَّهْرِ لِينًا وَغِلْظَةً «2») ...
وَكُلًّا سَقَانَاهُ بِكَأْسِهِمَا الدَّهْرُ
فَمَا زَادَنَا بَغْيًا عَلَى ذِي قَرَابَةٍ ... غِنَانَا
وَلَا أَزْرَى بِأَحْسَابِنَا الْفَقْرُ
(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ
الْخَاسِرِينَ) ابْتِدَاءُ خِطَابٍ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ
فِي الذَّمِّ والتوبيخ وإعادة لتعظيم الأم وَتَفْخِيمِهِ.
وَلَمَّا قَالُوا: مَنِ اتَّبَعَ شُعَيْبًا خَاسِرٌ قَالَ
اللَّهُ الْخَاسِرُونَ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا
الْقَوْلَ. (فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) أَيْ
أَحْزَنُ. أَسَيْتُ عَلَى الشَّيْءِ آسَى (أَسًى «3»)،
وَأَنَا آس.
[سورة الأعراف (7): الآيات 94 الى 95]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ
أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ
السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ
مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَبِيٍّ) فِيهِ إِضْمَارٌ، وَهُوَ فَكَذَّبَ أَهْلُهَا.
إِلَّا أَخَذْنَاهُمْ. (بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ
«4». (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ)
أَيْ أَبْدَلْنَاهُمْ بِالْجَدْبِ خِصْبًا. حَتَّى عَفَوْا
أَيْ كَثُرُوا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ. وَعَفَا:
مِنَ الْأَضْدَادِ: عَفَا: كَثُرَ. وَعَفَا: دَرَسَ.
أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَهُمْ
بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ فَلَمْ يَزْدَجِرُوا وَلَمْ
يَشْكُرُوا. وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ
وَالسَّرَّاءُ فَنَحْنُ مِثْلُهُمْ. فَأَخَذْنَاهُمْ
بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً ليكون أكثر حسرة.
__________
(1). التكملة عن ديوان حاتم.
(2). من ب وج وك.
(3). من ب وج وك.
(4). راجع ج 2 ص 243.
(7/252)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا
فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا
بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ
يَلْعَبُونَ (98)
[سورة الأعراف (7): آية 96]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) يُقَالُ
لِلْمَدِينَةِ قَرْيَةٌ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا.
مِنْ قَرَيْتُ الْمَاءَ إِذَا جَمَعْتُهُ. وَقَدْ مَضَى
فِي" الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى»
. (آمَنُوا) أَيْ صَدَّقُوا. (وَاتَّقَوْا) أَيِ
الشِّرْكَ. (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ
السَّماءِ وَالْأَرْضِ) يَعْنِي الْمَطَرَ وَالنَّبَاتَ.
وَهَذَا فِي أَقْوَامٍ عَلَى الْخُصُوصِ جَرَى ذِكْرُهُمْ.
إِذْ قَدْ يُمْتَحَنُ الْمُؤْمِنُونَ بِضِيقِ الْعَيْشِ
وَيَكُونُ تَكْفِيرًا لِذُنُوبِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ
أَخْبَرَ عَنْ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ" اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ
عَلَيْكُمْ مِدْراراً «2» " وَعَنْ هُودٍ" ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً «3» ".
فَوَعَدَهُمُ الْمَطَرَ وَالْخِصْبَ عَلَى التَّخْصِيصِ.
يَدُلُّ عَلَيْهِ (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ) أَيْ كذبوا الرسل. والمؤمنون صدقوا
ولم يكذبوا.
[سورة الأعراف (7): الآيات 97 الى 98]
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا
بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى
أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى)
الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءِ لِلْعَطْفِ.
نَظِيرُهُ:" أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ «4» ".
وَالْمُرَادُ بِالْقُرَى مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا،
لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْقُرَى.
(أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) أَيْ عَذَابُنَا. (بَياتاً)
أَيْ لَيْلًا (وَهُمْ نائِمُونَ) (أَوَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) قَرَأَهُ
الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ بِإِسْكَانِ الْوَاوِ
لِلْعَطْفِ، عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ، مِثْلَ" وَلا
تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً «5» ". جَالِسْ
الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ. وَالْمَعْنَى: أَوْ
أَمِنُوا هَذِهِ الضُّرُوبَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ. أَيْ إِنْ
أَمِنْتُمْ ضَرْبًا مِنْهَا لَمْ تأمنوا الآخر.
__________
(1). راجع ج 1 ص 49.
(2). راجع ج 18 ص 301. [ ..... ]
(3). راجع ج 9 ص 50.
(4). راجع ج 6 ص 214.
(5). راجع 19 ص 146.
(7/253)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ
اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْخَاسِرُونَ (99)
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" أَوْ" لِأَحَدِ
الشَّيْئَيْنِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا أَوْ
عَمْرًا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا بِهَمْزَةٍ
بَعْدَهَا. جَعَلَهَا وَاوَ الْعَطْفِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا
ألف الاستفهام، نظيره" أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً «1»
". ومعنى (ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أَيْ وَهُمْ فِيمَا
لَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ، يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ كَانَ
فِيمَا يَضُرُّهُ ولا يجدي عليه لاعب، ذكر النَّحَّاسُ.
وَفِي الصِّحَاحِ. اللَّعِبُ مَعْرُوفٌ، وَاللِّعْبُ
مِثْلُهُ. وَقَدْ لَعِبَ يَلْعَبُ. وَتَلَعَّبَ: (لَعِبَ
«2») مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَرَجُلٌ تِلْعَابَةٌ:
كَثِيرُ اللَّعِبِ، وَالتَّلْعَابُ «3» (بِالْفَتْحِ)
المصدر. وجارية لعوب.
[سورة الأعراف (7): آية 99]
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ) أَيْ
عَذَابَهُ وَجَزَاءَهُ عَلَى مَكْرِهِمْ. وَقِيلَ: مكره
استدراجه بالنعمة والصحة.
[سورة الأعراف (7): آية 100]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ
بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا
يَسْمَعُونَ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَهْدِ) أَيْ يُبَيَّنْ.
(لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) يريد كفار مكة ومن
حولهم. (أَصَبْناهُمْ) أي أخذناهم (بذنبهم) أَيْ
بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ. (وَنَطْبَعُ) أَيْ وَنَحْنُ
نَطْبَعُ، فَهُوَ مُسْتَأْنَفٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ
عَلَى أَصَبْنَا، نصيبهم ونطبع، فوقع الماضي موقع
المستقبل.
[سورة الأعراف (7): آية 101]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ
جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ
اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101)
__________
(1). راجع ج 2 ص 39.
(2). زيادة عن كتب اللغة.
(3). في ب: تلعابة.
(7/254)
وَمَا وَجَدْنَا
لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ
لَفَاسِقِينَ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْكَ الْقُرى) أَيْ
هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا، وَهِيَ قُرَى
نُوحٍ وَعَادٍ «1» وَلُوطٍ وَهُودٍ وَشُعَيْبٍ
الْمُتَقَدِّمَةُ الذِّكْرِ. (نَقُصُّ) أَيْ نَتْلُو.
(عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) أَيْ مِنْ أَخْبَارِهَا.
وَهِيَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَالْمُسْلِمِينَ. (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أَيْ فَمَا
كَانَ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ لِيُؤْمِنُوا بعد هلاكهم
لأحييناهم، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. نَظِيرُهُ" وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا «2» ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعُ:
كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ أَخَذَ
عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالرُّسُلِ. (بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) يُرِيدُ يَوْمَ
الْمِيثَاقِ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ
فَآمَنُوا كَرْهًا لَا طَوْعًا. قَالَ السُّدِّيُّ:
آمَنُوا يَوْمَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ كَرْهًا
فَلَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا الْآنَ حَقِيقَةً. وَقِيلَ:
سَأَلُوا الْمُعْجِزَاتِ، فَلَمَّا رَأَوْهَا مَا كَانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ رُؤْيَةِ
الْمُعْجِزَةِ «3». نَظِيرُهُ" كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ «4» ". (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى
قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أَيْ مِثْلَ طَبْعِهِ عَلَى قُلُوبِ
هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ
عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة الأعراف (7): آية 102]
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا
أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ
عَهْدٍ)." مِنْ" زَائِدَةٌ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى
الْجِنْسِ، وَلَوْلَا" مِنْ" لَجَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ
أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يُرِيدُ الْعَهْدَ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمْ وَقْتَ
الذَّرِّ، وَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَا
عَهْدَ لَهُ، أَيْ كَأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: الْعَهْدُ الَّذِي عُهِدَ إِلَيْهِمْ مَعَ
الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّ الْكُفَّارَ
مُنْقَسِمُونَ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ مَنْ لَا
أَمَانَةَ لَهُ وَلَا وَفَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ
أَمَانَةٌ مَعَ كُفْرِهِ وَإِنْ قَلُّوا، رُوِيَ عَنْ أبي
عبيدة.
[سورة الأعراف (7): آية 103]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى
فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
__________
(1). في ج: نوح وعاد ولوط وشعيب.
(2). راجع ج 6 ص 410.
(3). في ب وج وك: المعجزات.
(4). راجع ص 65 من هذا الجزء.
(7/255)
وَقَالَ مُوسَى يَا
فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا
الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ
كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ
ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ
بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا
تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ
فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ
سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِمْ) أَيْ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَهُودٍ «1» وَصَالِحٍ
وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ. (مُوسى) أي موسى بن عمران (بِآياتِنا)
أي بِمُعْجِزَاتِنَا. (فَظَلَمُوا بِها) أَيْ كَفَرُوا
وَلَمْ يُصَدِّقُوا بِالْآيَاتِ. وَالظُّلْمُ: وَضْعُ
الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. قوله تعالى: (فَانْظُرْ
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أَيْ آخِرَ أمرهم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 104 الى 112]
وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى
اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ
إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ
مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ
لِلنَّاظِرِينَ (108)
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا
لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ
وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)
حَقِيقٌ عَلى «2» أَيْ وَاجِبٌ. وَمَنْ قَرَأَ" عَلَى
أَلَّا" فَالْمَعْنَى حَرِيصٌ عَلَى أَلَّا أَقُولَ. وَفِي
قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" حَقِيقٌ أَلَّا أَقُولَ"
بِإِسْقَاطِ" عَلَى". وَقِيلَ:" عَلى " بِمَعْنَى
الْبَاءِ، أَيْ حَقِيقٌ بِأَلَّا أَقُولَ. وَكَذَا فِي
قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَالْأَعْمَشِ" بِأَلَّا أَقُولَ".
كَمَا تَقُولُ: رَمَيْتُ بِالْقَوْسِ وَعَلَى الْقَوْسِ.
فَ" حَقِيقٌ" على هذا بمعنى محقوق. ومعنى" فَأَرْسِلْ
مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ" أَيْ خَلِّهِمْ. وَكَانَ
يَسْتَعْمِلُهُمْ «3» فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ.
(فَأَلْقى عَصاهُ) يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَجْسَامِ
وَالْمَعَانِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ «4». وَالثُّعْبَانُ:
الْحَيَّةُ الضخم الذكر، وهو أعظم الحيات. (مبين)
__________
(1). كذا في ع. وفى بقية الأصول: نمود.
(2). قراءة نافع.
(3). في ع: يشغلهم.
(4). راجع ج 4 ص 232. [ ..... ]
(7/256)
" أَيْ حَيَّةٌ لَا لَبْسَ فِيهَا.
(وَنَزَعَ يَدَهُ) أَيْ أَخْرَجَهَا وَأَظْهَرَهَا. قِيلَ:
مِنْ جَيْبِهِ أَوْ مِنْ جَنَاحِهِ كَمَا فِي التَّنْزِيلِ
(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ
غَيْرِ سُوءٍ «1») أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. وَكَانَ
مُوسَى أَسْمَرَ شَدِيدَ السُّمْرَةِ، ثُمَّ أَعَادَ
يَدَهُ إِلَى جَيْبِهِ فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا
الْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كان ليده نور ساطع يضئ
مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقِيلَ: كَانَتْ
تَخْرُجُ يَدُهُ بَيْضَاءَ كَالثَّلْجِ تَلُوحُ، فَإِذَا
رَدَّهَا عَادَتْ إِلَى مِثْلِ سَائِرِ بَدَنِهِ.
وَمَعْنَى (عَلِيمٌ) أَيْ بِالسِّحْرِ. (مِنْ أَرْضِكُمْ)
أَيْ مِنْ مُلْكِكُمْ مَعَاشِرَ القبط، بتقديمه بني
إسرائيل عليكم. (فَماذا تَأْمُرُونَ) أَيْ قَالَ
فِرْعَوْنُ: فَمَاذَا تَأْمُرُونَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ
قَوْلِ الْمَلَأِ، أَيْ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ وَحْدَهُ
فَمَاذَا تَأْمُرُونَ. كَمَا يُخَاطَبُ الْجَبَّارُونَ
وَالرُّؤَسَاءُ: مَا تَرَوْنَ فِي كَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ قَالُوا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ. وَ" مَا" فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ، عَلَى أَنَّ" ذَا" بِمَعْنَى الَّذِي.
وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى أَنَّ" مَا" وَ" ذَا" شي
وَاحِدٌ. (قالُوا أَرْجِهْ) قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَعَاصِمٌ والكسائي بغير حمزة، إِلَّا أَنَّ وَرْشًا
وَالْكِسَائِيَّ أَشْبَعَا كَسْرَةَ الْهَاءِ. وَقَرَأَ
أَبُو عَمْرٍو بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَالْهَاءُ
مَضْمُومَةٌ. وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: أَرْجَأْتُهُ
وَأَرْجَيْتُهُ، أَيْ أَخَّرْتُهُ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَهِشَامٌ، إِلَّا
أَنَّهُمْ أَشْبَعُوا ضَمَّةَ الْهَاءِ. وَقَرَأَ سَائِرُ
أَهْلِ الْكُوفَةِ" أَرْجِهْ" بِإِسْكَانِ الْهَاءِ. قَالَ
الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةٌ لِلْعَرَبِ، يَقِفُونَ عَلَى
الْهَاءِ الْمُكَنَّى عَنْهَا فِي الْوَصْلِ إِذَا
تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا، وَكَذَا هَذِهْ طَلْحَةُ قَدْ
أَقْبَلَتْ. وَأَنْكَرَ الْبَصْرِيُّونَ هَذَا. قَالَ
قَتَادَةُ: مَعْنَى" أَرْجِهْ" احْبِسْهُ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: أَخِّرْهُ. وَقِيلَ:" أَرْجِهْ" مَأْخُوذٌ مِنْ
رَجَا يَرْجُو، أَيْ أَطْمِعْهُ وَدَعْهُ يَرْجُو، حَكَاهُ
النَّحَّاسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ. وَكَسْرُ
الْهَاءِ عَلَى الْإِتْبَاعِ. وَيَجُوزُ ضَمُّهَا عَلَى
الْأَصْلِ. وَإِسْكَانُهَا لَحْنٌ «2» لَا يَجُوزُ إِلَّا
فِي شُذُوذٍ مِنَ الشِّعْرِ. (وَأَخاهُ) عَطْفٌ عَلَى
الْهَاءِ. (حاشِرِينَ) نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. (يَأْتُوكَ)
جَزْمٌ، لِأَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ
مِنْهُ النُّونُ. قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا
عَاصِمًا" بِكُلِّ سَحَّارٍ" وَقَرَأَ سَائِرُ النَّاسِ"
ساحِرٍ" وهما متقاربان، إلا أفعالا أشد مبالغة.
__________
(1). راجع ج 13 ص 156.
(2). كذا في الأصول وإعراب القرآن للنحاس. ويلاحظ أنها
قراءة أهل الكوفة.
(7/257)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ
فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا
نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ
لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
[سورة الأعراف (7): الآيات 113 الى 114]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا
لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ
نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ)
وَحُذِفَ ذِكْرُ الْإِرْسَالِ لِعِلْمِ السَّامِعِ. قَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا،
مَعَ كُلِّ نَقِيبٍ عِشْرُونَ عَرِيفًا، تَحْتَ يَدَيْ
كُلِّ عَرِيفٍ أَلْفُ سَاحِرٍ. وَكَانَ رَئِيسَهُمْ
شَمْعُونُ فِي قَوْلِ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ
ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ مِنَ الْعَرِيشِ
وَالْفَيُّومِ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ أَثْلَاثًا. وَقَالَ
ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَاحِرٍ،
وَرُوِيَ عَنْ وَهْبٍ. وَقِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ
أَلْفًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: ثَمَانِينَ
أَلْفًا. وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ:
كَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الرِّيفِ،
وَثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الصَّعِيدِ،
وَثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الْفَيُّومِ وَمَا
وَالَاهَا. وَقِيلَ: كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا. وَقِيلَ:
ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ
مَعَهُمْ فِيمَا رُوِيَ حِبَالٌ وَعِصِيٌّ يَحْمِلُهَا
ثَلَاثُمِائَةِ بَعِيرٍ. فَالْتَقَمَتِ الْحَيَّةُ ذَلِكَ
كُلَّهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: كَانَتْ
إِذَا فَتَحَتْ فَاهَا صَارَ شِدْقُهَا ثَمَانِينَ
ذِرَاعًا، وَاضِعَةً فَكَّهَا الْأَسْفَلَ عَلَى
الْأَرْضِ، وَفَكَّهَا الْأَعْلَى عَلَى سُورِ الْقَصْرِ.
وَقِيلَ: كَانَ سِعَةُ فَمِهَا أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَقَصَدَتْ فِرْعَوْنَ
لِتَبْتَلِعَهُ، فَوَثَبَ مِنْ سَرِيرِهِ فَهَرَبَ مِنْهَا
وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى، فَأَخَذَهَا فَإِذَا هِيَ عَصًا
كَمَا كَانَتْ. قَالَ وَهْبٌ: مَاتَ مِنْ خَوْفِ الْعَصَا
خَمْسَةٌ وعشرون ألفا. (قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا
لَأَجْراً) أَيْ جَائِزَةً وَمَالًا. وَلَمْ يَقُلْ
فَقَالُوا بِالْفَاءِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ لَمَّا جَاءُوا
قَالُوا. وقرى" إِنَّ لَنَا" عَلَى الْخَبَرِ. وَهِيَ
قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ. أَلْزَمُوا فِرْعَوْنَ
أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مالا إن غلبوا. فقال لهم فرعون:
(نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أَيْ لَمِنْ
أَهْلِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ لَدَيْنَا، فَزَادَهُمْ
عَلَى مَا طَلَبُوا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا قَطَعُوا
ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي حُكْمِهِمْ إِنْ غَلَبُوا. أَيْ
قَالُوا: يَجِبُ لَنَا الْأَجْرُ إِنْ غَلَبْنَا. وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ عَلَى جِهَةِ
الِاسْتِخْبَارِ. اسْتَخْبَرُوا فِرْعَوْنَ: هَلْ يَجْعَلُ
لَهُمْ أَجْرًا إِنْ غَلَبُوا أَوْ لَا، فَلَمْ يَقْطَعُوا
عَلَى فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ، إِنَّمَا اسْتَخْبَرُوهُ هَلْ
يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ" نَعَمْ" لَكُمُ
الْأَجْرُ وَالْقُرْبُ إن غلبتم.
(7/258)
قَالُوا يَا مُوسَى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ
الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا
بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ
أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
(117)
[سورة الأعراف (7): الآيات 115 الى 117]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ
نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا
أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ
وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى
أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
(117)
تَأَدَّبُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ
ذَلِكَ سَبَبَ إِيمَانِهِمْ. وَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، عَلَى مَعْنَى
إِمَّا أَنْ تَفْعَلَ الْإِلْقَاءَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ
الشَّاعِرِ:
قَالُوا الرُّكُوبَ فَقُلْنَا تِلْكَ عَادَتُنَا «1»
قَالَ أَلْقُوا قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ.
وَالْمَعْنَى: قَالَ لَهُمْ مُوسَى إِنَّكُمْ لَنْ
تَغْلِبُوا رَبَّكُمْ وَلَنْ تُبْطِلُوا آيَاتِهِ. وَهَذَا
مِنْ مُعْجِزِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِي مِثْلُهُ
فِي كَلَامِ النَّاسِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ.
يَأْتِي اللَّفْظُ الْيَسِيرُ بِجَمْعِ الْمَعَانِي
الْكَثِيرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ تهديد. أي ابتدءوا
بِالْإِلْقَاءِ، فَسَتَرَوْنَ مَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنَ
الِافْتِضَاحِ، إذا لَا يَجُوزُ عَلَى مُوسَى أَنْ
يَأْمُرَهُمْ بِالسِّحْرِ. وَقِيلَ: أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ
لِيُبَيِّنَ كَذِبَهُمْ وَتَمْوِيهَهُمْ. (فَلَمَّا
أَلْقَوْا) أَيِ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ (سَحَرُوا
أَعْيُنَ النَّاسِ) أَيْ خَيَّلُوا لَهُمْ وَقَلَبُوهَا
عَنْ صِحَّةِ إِدْرَاكِهَا، بِمَا يُتَخَيَّلُ مِنَ
التَّمْوِيهِ الَّذِي جَرَى مَجْرَى الشَّعْوَذَةِ
وَخِفَّةِ الْيَدِ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «2»
بَيَانُهُ. وَمَعْنَى (عَظِيمٍ) أَيْ عِنْدَهُمْ،
لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا وَلَيْسَ بِعَظِيمٍ عَلَى
الْحَقِيقَةِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ الِاجْتِمَاعُ
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَبَلَغَ ذَنَبُ الْحَيَّةِ
وَرَاءَ الْبُحَيْرَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَفَتَحَتْ
فَاهَا فَجَعَلَتْ تَلْقَفُ- أَيْ تَلْتَقِمُ- مَا
أَلْقَوْا مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ
مَا أَلْقَوْا حِبَالًا مِنْ أَدَمٍ فِيهَا زِئْبَقٌ
فَتَحَرَّكَتْ وَقَالُوا هَذِهِ حَيَّاتٌ. وَقَرَأَ
حَفْصٌ" تَلْقَفُ" بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَالتَّخْفِيفِ.
جَعَلَهُ مُسْتَقْبَلَ لَقِفَ يَلْقَفُ. قَالَ
النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ"
تِلْقَفُ" لِأَنَّهُ مِنْ لَقِفَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
بِالتَّشْدِيدِ وَفَتْحِ اللَّامِ، وَجَعَلُوهُ
مُسْتَقْبَلَ تَلَقَّفُ، فَهِيَ تَتَلَقَّفُ. يُقَالُ:
لَقِفْتُ الشَّيْءَ وَتَلَقَّفْتُهُ إِذَا أخذته أو بلعته.
تلقف وتلقم
__________
(1). هذا صدر بيت وتمامه: أو النزول فإنا معشر نزل. في ب:
فقلت تلك.
(2). راجع ج 2 ص 43.
(7/259)
|