تفسير القرطبي فَوَقَعَ الْحَقُّ
وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ
وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ
سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ
بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ
مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا
أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ
لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى
رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا
أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا
أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
وَتَلْهَمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ أَبُو
حَاتِمٍ: وَبَلَغَنِي فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ" تَلَقَّمَ"
بِالْمِيمِ وَالتَّشْدِيدِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنْتَ عَصَا مُوسَى الَّتِي لَمْ تَزَلْ ... تَلْقَمُ مَا
يَأْفِكُهُ السَّاحِرُ
وَيُرْوَى: تَلَقَّفُ. (مَا يَأْفِكُونَ) أَيْ مَا
يَكْذِبُونَ، لِأَنَّهُمْ جَاءُوا بِحِبَالٍ وجعلوا فيها زئبقا
حتى، تحركت.
[سورة الأعراف (7): الآيات 118 الى 122]
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (118)
فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ
الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَوَقَعَ الْحَقُّ) قَالَ مُجَاهِدٌ:
فَظَهَرَ الْحَقُّ. (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) نَصْبٌ عَلَى
الْحَالِ. وَالْفِعْلُ مِنْهُ صَغِرَ يَصْغَرُ صَغَرًا
وَصِغَرًا وَصَغَارًا «1». أَيِ انْقَلَبَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ
وَفِرْعَوْنُ مَعَهُمْ أَذِلَّاءُ مَقْهُورِينَ مَغْلُوبِينَ.
فأما السحرة فقد آمنوا.
[سورة الأعراف (7): الآيات 123 الى 126]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ
لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ
لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى
رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ
آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ
عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ
أَنْ آذَنَ لَكُمْ) إِنْكَارٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ. (إِنَّ هَذَا
لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها
أَهْلَها) أَيْ جَرَتْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مُوَاطَأَةٌ فِي
هَذَا لِتَسْتَوْلُوا عَلَى مِصْرَ، أَيْ كَانَ هَذَا مِنْكُمْ
فِي مَدِينَةِ مِصْرَ قَبْلَ أَنْ تَبْرُزُوا إِلَى هذه
الصحراء
__________
(1). هو من باب فرح وكرم.
(7/260)
وَقَالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ
لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ
سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا
فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ
اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ
يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ (128)
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تهديدا لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِرْعَوْنُ أَوَّلَ مَنْ صَلَبَ،
وَقَطَعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ مِنْ خِلَافٍ، الرِّجْلُ
الْيُمْنَى وَالْيَدُ الْيُسْرَى، وَالْيَدُ الْيُمْنَى
وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى، عَنِ الْحَسَنِ. (وَما تَنْقِمُ
مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا) قَرَأَ الْحَسَنُ
بِفَتْحِ الْقَافِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ لُغَةٌ يُقَالُ:
نَقِمْتُ الْأَمْرَ وَنَقَمْتُهُ أَنْكَرْتُهُ، أَيْ لَسْتَ
تَكْرَهُ مِنَّا سِوَى أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَهُوَ
الْحَقُّ. (لَمَّا جاءَتْنا) آيَاتُهُ وَبَيِّنَاتُهُ.
(رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) الْإِفْرَاغُ الصَّبُّ،
أَيِ اصْبُبْهُ عَلَيْنَا عِنْدَ الْقَطْعِ وَالصَّلْبِ.
(وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) فَقِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ أَخَذَ
السَّحَرَةَ وَقَطَّعَهُمْ عَلَى شَاطِئِ النَّهَرِ، وَإِنَّهُ
آمَنَ بموسى عند إيمان ستمائة ألف.
[سورة الأعراف (7): الآيات 127 الى 128]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى
وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ
قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ
اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ
يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ (128)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ
أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أَيْ
بِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ وَتَشْتِيتِ الشَّمْلِ. (وَيَذَرَكَ)
بِنَصْبِ الرَّاءِ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْوَاوُ
نَائِبَةٌ عَنِ الْفَاءِ. (وَآلِهَتَكَ) قَالَ الْحَسَنُ:
كَانَ فِرْعَوْنُ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، فَكَانَ يَعْبُدُ
وَيُعْبَدُ. قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ
فِرْعَوْنَ كَانَ يَعْبُدُ الْبَقَرَ قَالَ التَّيْمِيُّ:
فَقُلْتُ لِلْحَسَنِ هَلْ كَانَ فِرْعَوْنُ يَعْبُدُ شَيْئًا؟
قَالَ نَعَمْ، إِنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ «1» شَيْئًا كان قد جعل
فِي عُنُقِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى" وَآلِهَتَكَ" أَيْ
وَطَاعَتَكَ، كما قيل في قول: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ «2» "
إِنَّهُمْ مَا عَبَدُوهُمْ وَلَكِنْ أَطَاعُوهُمْ، فَصَارَ
تَمْثِيلًا. وَقَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ" وَيَذَرُكَ"
بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ وَهُوَ يَذَرُكَ. وَقَرَأَ
الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ" وَيَذَرْكَ" مَجْزُومًا مُخَفَّفَ
يَذَرُكَ لِثِقَلِ الضَّمَّةِ. وَقَرَأَ أَنَسُ
__________
(1). في زوك: أن كان ليعبد.
(2). راجع ج 8 ص 199.
(7/261)
ابن مَالِكٍ" وَنَذَرُكَ" بِالرَّفْعِ
وَالنُّونِ. أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ
يَتْرُكُونَ عِبَادَتَهُ إِنْ تَرَكَ مُوسَى حَيًّا. وَقَرَأَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ"
وَإِلَاهَتَكَ" وَمَعْنَاهُ وَعِبَادَتَكَ. وَعَلَى هَذِهِ
الْقِرَاءَةِ كَانَ يَعْبُدُ وَلَا يُعْبَدُ، أَيْ وَيَتْرُكُ
عِبَادَتَهُ لَكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: فَمِنْ
مَذْهَبِ أَصْحَابِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ
لَمَّا قَالَ" أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «1» " وَ" مَا
عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «2» " نَفَى أَنْ يَكُونَ
لَهُ رب وآلهة. فَقِيلَ لَهُ: وَيَذَرُكَ وَإِلَاهَتَكَ،
بِمَعْنَى وَيَتْرُكُكَ وَعِبَادَةَ الناس لك. وقرأ
الْعَامَّةِ" وَآلِهَتَكَ" كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ
مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ
فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِ وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَرْبُوبٌ.
وَدَلِيلُ هَذَا قَوْلُهُ عِنْدَ حُضُورِ الْحِمَامِ" آمَنْتُ
أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا
إِسْرائِيلَ" «3» فَلَمْ يُقْبَلْ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ
(لَمَّا أَتَى بِهِ «4») بَعْدَ إِغْلَاقِ (بَابِ «5»)
التَّوْبَةِ. وَكَانَ قَبْلَ هَذَا الْحَالِ لَهُ إِلَهٌ
يَعْبُدُهُ سِرًّا دون رب العالمين جل وعز، قال الْحَسَنُ
وَغَيْرُهُ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ" أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ
لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَقَدْ تَرَكُوكَ أَنْ
يَعْبُدُوكَ". وَقِيلَ:" وَإِلَاهَتَكَ" قِيلَ: كَانَ يَعْبُدُ
بَقَرَةً، وَكَانَ إِذَا اسْتَحْسَنَ بَقَرَةً أَمَرَ
بِعِبَادَتِهَا، وَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ وَرَبُّ هَذِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ:" فَأَخْرَجَ لَهُمْ «6» عِجْلًا جَسَداً".
ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
كَانَ لَهُ أَصْنَامٌ صِغَارٌ يَعْبُدُهَا قَوْمُهُ تَقَرُّبًا
إِلَيْهِ فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ:" أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلى ". قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ:
قَوْلُ فِرْعَوْنَ" أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ". يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ شَيْئًا غَيْرَهُ. وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِلَاهَةِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ
عَبَّاسٍ الْبَقَرَةُ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا. وَقِيلَ:
أَرَادُوا بِهَا الشَّمْسَ وَكَانُوا يَعْبُدُونَهَا. قَالَ
الشَّاعِرُ:
وَأَعْجَلْنَا الْإِلَاهَةَ أن تؤبا
ثُمَّ آنَسَ قَوْمَهُ فَقَالَ (سَنَقْتُلُ أَبْنَاءَهُمْ)
بِالتَّخْفِيفِ، قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ.
وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ.
(وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أَيْ لَا تَخَافُوا جَانِبَهُمْ.
(وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) آنَسَهُمْ بِهَذَا
الْكَلَامِ. وَلَمْ يَقُلْ سَنُقَتِّلُ مُوسَى لِعِلْمِهِ
أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
قَالَ: كَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ مُلِئَ مِنْ مُوسَى رُعْبًا،
فَكَانَ إذا رآه بال كما يبول الحمار. ولما بلغ قوم
__________
(1). راجع ج 19 ص 198.
(2). راجع ج 14 ص 288.
(3). راجع ج 8 ص 337.
(4). من ب وج وز وك.
(5). من ب وج وز وك.
(6). راجع ج 11 ص 232. يلاحظ أن الآية في السامري.
(7/262)
قَالُوا أُوذِينَا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا
قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ (129)
مُوسَى مِنْ فِرْعَوْنَ هَذَا قَالَ لَهُمْ
مُوسَى: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ
لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ) أَطْمَعَهُمْ فِي أَنْ
يُوَرِّثَهُمُ اللَّهُ أَرْضَ مِصْرَ. (وَالْعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ) أَيِ الْجَنَّةُ لِمَنِ اتقى. وعاقبة كل شي:
آخِرُهُ، وَلَكِنَّهَا إِذَا أُطْلِقَتْ فَقِيلَ: الْعَاقِبَةُ
لِفُلَانٍ فهم منه في العرف الخير.
[سورة الأعراف (7): آية 129]
قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ
مَا جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ (129)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَأْتِيَنا) أَيْ فِي ابْتِدَاءِ وِلَادَتِكَ بِقَتْلِ
الْأَبْنَاءِ وَاسْتِرْقَاقِ النِّسَاءِ. (وَمِنْ بَعْدِ مَا
جِئْتَنا) أَيْ وَالْآنَ أُعِيدَ عَلَيْنَا ذَلِكَ، يَعْنُونَ
الْوَعِيدَ الَّذِي كَانَ مِنْ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: الْأَذَى
مِنْ قَبْلُ تَسْخِيرُهُمْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي
أَعْمَالِهِمْ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَإِرْسَالُهُمْ
بَقِيَّتَهُ لِيَكْتَسِبُوا لِأَنْفُسِهِمْ. وَالْأَذَى مِنْ
بَعْدُ: تَسْخِيرُهُمْ جَمِيعَ النَّهَارِ كُلِّهِ بِلَا
طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ، قَالَهُ جُوَيْبِرٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ
الْأَذَى مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَخْذُ
الْجِزْيَةِ. (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) " عَسى " مِنَ اللَّهِ
واجب، جدد «1» لهم الوعد وحققه. وقد استحلفوا فِي مِصْرَ فِي
زَمَانِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ،
وَفَتَحُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَعَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، كَمَا
تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ حِينَ خَرَجَ
بِهِمْ مُوسَى وَتَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ فَكَانَ وَرَاءَهُمْ
وَالْبَحْرُ أَمَامَهُمْ، فَحَقَّقَ اللَّهُ الْوَعِيدَ بِأَنْ
غَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ وَأَنْجَاهُمْ. (فَيَنْظُرَ
كَيْفَ تَعْمَلُونَ) تقدم نظائره. أَيْ يَرَى ذَلِكَ الْعَمَلَ
الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا
يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ، إِنَّمَا
يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا يَقَعُ منهم.
[سورة الأعراف (7): آية 130]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ
الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ
بِالسِّنِينَ) يَعْنِي الْجَدُوبَ. وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي
اللُّغَةِ، يُقَالُ: أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ، أَيْ جَدْبٌ.
وتقديره جدب سنة. وفي الحديث: (اللهم
__________
(1). في ب وج وز وك: حدد. بالمهملة. [ ..... ]
(7/263)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ
الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا
طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (131)
اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِ
يُوسُفَ (. وَمِنَ الْعَرَبِ مِنْ يُعْرِبُ النُّونَ فِي
السِّنِينَ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
أَرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ
السِّرَارُ «1» مِنَ الْهِلَالِ
قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ هَذَا الْبَيْتَ
بِفَتْحِ النُّونِ، وَلَكِنْ أَنْشَدَ «2» فِي هذا مالا
يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَقَدْ جَاوَزْتُ رَأْسَ الْأَرْبَعِينِ
وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ:
أَقَمْتُ عِنْدَهُ سَنِينًا يَا هَذَا، مَصْرُوفًا. قَالَ:
وَبَنُو تَمِيمٍ لَا يَصْرِفُونَ وَيَقُولُونَ: مَضَتْ لَهُ
سِنِينَ يَا هَذَا. وَسِنِينُ جَمْعُ سَنَةٍ، وَالسَّنَةُ
هُنَا بِمَعْنَى الْجَدْبِ لَا بِمَعْنَى الْحَوْلِ. وَمِنْهُ
أَسْنَتَ الْقَوْمُ أَيْ أَجْدَبُوا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الزِّبَعْرَى:
عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... وَرِجَالُ
مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ»
(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ليتعظوا وترق قلوبهم.
[سورة الأعراف (7): آية 131]
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا
إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (131)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذا
جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) أَيِ الْخِصْبُ وَالسَّعَةُ. (قالُوا
لَنا هذِهِ) أَيْ أُعْطِينَاهَا بِاسْتِحْقَاقٍ. (وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أَيْ قَحْطٌ وَمَرَضٌ وَهِيَ
الْمَسْأَلَةُ:- الثَّانِيَةُ- (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى) أَيْ
يَتَشَاءَمُوا بِهِ. نَظِيرُهُ" وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ «4» ". وَالْأَصْلُ"
يَتَطَيَّرُوا" أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ. وَقَرَأَ
طَلْحَةُ:" تَطَيَّرُوا" عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مِنَ الطِّيَرَةِ وَزَجْرِ الطَّيْرِ،
ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ حتى قيل لكل
__________
(1). السرار والسرر (بفتح السين وكسرها فيهما): الليلة التي
يستسر فيها القمر آخر الشهر.
(2). في ع: أنشدوا.
(3). يريد به هاشم بن عبد مناف أبا عبد المطلب جد النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان يسمى عمرا.
(4). راجع ج 5 ص 282.
(7/264)
مَنْ تَشَاءَمَ: تَطَيَّرَ. وَكَانَتِ
الْعَرَبُ تَتَيَمَّنُ بِالسَّانِحِ: وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي
مِنْ نَاحِيَةِ الْيَمِينِ. وَتَتَشَاءَمُ بِالْبَارِحِ:
وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي مِنْ نَاحِيَةِ الشِّمَالِ. وَكَانُوا
يَتَطَيَّرُونَ أَيْضًا بِصَوْتِ الْغُرَابِ،
وَيَتَأَوَّلُونَهُ الْبَيْنَ. وَكَانُوا يَسْتَدِلُّونَ
بِمُجَاوَبَاتِ الطُّيُورِ بَعْضِهَا بَعْضًا عَلَى أُمُورٍ،
وَبِأَصْوَاتِهَا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِهَا الْمَعْهُودَةِ
عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا الظِّبَاءُ إِذَا مَضَتْ
سَانِحَةً أَوْ بَارِحَةً، وَيَقُولُونَ إِذَا بَرِحَتْ:" مَنْ
لِي بِالسَّانِحِ بَعْدَ الْبَارِحِ «1» ". إِلَّا أَنَّ
أَقْوَى مَا عِنْدَهُمْ كَانَ يَقَعُ فِي جَمِيعِ الطَّيْرِ،
فَسَمَّوُا الْجَمِيعَ تَطَيُّرًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَتَطَيَّرَ الْأَعَاجِمُ إذا رأوا صبيا يذهب به إلى العلم
بِالْغَدَاةِ، وَيَتَيَمَّنُونَ بِرُؤْيَةِ صَبِيٍّ يَرْجِعُ
مِنْ عِنْدِ الْمُعَلِّمِ إِلَى بَيْتِهِ، وَيَتَشَاءَمُونَ
بِرُؤْيَةِ السَّقَّاءِ عَلَى ظَهْرِهِ قِرْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ
مَشْدُودَةٌ، وَيَتَيَمَّنُونَ بِرُؤْيَةِ فَارِغِ السقاء
مفتوحة (قربته «2»)، ومتشاءمون بِالْحَمَّالِ الْمُثْقَلِ
بِالْحِمْلِ، وَالدَّابَّةِ الْمُوقَرَةِ «3»،
وَيَتَيَمَّنُونَ بِالْحَمَّالِ الذي وضع جمله،
وَبِالدَّابَّةِ يُحَطُّ عَنْهَا ثِقْلُهَا. فَجَاءَ
الْإِسْلَامُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّطَيُّرِ وَالتَّشَاؤُمِ
بِمَا يُسْمَعُ مِنْ صَوْتِ طَائِرٍ مَا كَانَ، وَعَلَى أَيِّ
حَالٍ كَانَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَقِرُّوا
الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا «4»). وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا
مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ
أَتَى الطَّيْرَ فِي وَكْرِهَا فَنَفَّرَهَا، فَإِذَا أَخَذَتْ
ذَاتَ الْيَمِينِ مَضَى لِحَاجَتِهِ، وَهَذَا هُوَ السَّانِحُ
عِنْدَهُمْ. وَإِنْ أَخَذَتْ ذَاتَ الشِّمَالِ رَجَعَ، وَهَذَا
هُوَ الْبَارِحُ عِنْدَهُمْ. فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا بقول: (أَقِرُّوا
الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا) هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ.
وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ: (وُكُنَاتِهَا) قَالَ
امْرُؤُ الْقِيسِ:
وَقَدْ أَغْتَدِي وَالطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا
وَالْوُكْنَةُ: اسْمٌ لِكُلِّ وَكْرٍ وَعُشٍّ. وَالْوَكْنُ:
مَوْضِعُ الطَّائِرِ الَّذِي يَبِيضُ فِيهِ وَيُفْرِخُ، وَهُوَ
الْخِرَقُ فِي الْحِيطَانِ وَالشَّجَرِ. وَيُقَالُ: وَكَنَ
الطَّائِرُ يَكِنُّ وُكُونًا إِذَا حِضْنَ بَيْضَهُ. وَكَانَ
أَيْضًا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ لَا يَرَى التَّطَيُّرَ شَيْئًا،
وَيَمْدَحُونَ مَنْ كَذَّبَ به. قال المرقش:
__________
(1). هذا مثل يضرب للرجل يسئ الرجل فيقال له: إنه سوف يحسن
إليك. واصل ذلك أن رجلا مرت به ظباء بارحة فقيل له سوف تسنح لك
فقال: من لي ... إلخ.
(2). من ع.
(3). الدابة الموقرة: التي أصابتها الوقرة وهى صدع في الساق.
(4). مكناتها بكسر الكاف وقد تفتح: أي بيضها. وهى في الأصل بيض
الضباب. وقيل على أمكنتها ومساكنها. قال شمر: والصحيح في قوله
على مكناتها أنها جمع المكنة والملكة: التمكن. وقال الزمخشري:
ويروى: مكناتها جمع مكن ومكن جمع مكان.
(7/265)
وَلَقَدْ غَدَوْتُ وَكُنْتُ لَا ...
أَغْدُو عَلَى وَاقٍ وَحَاتِمٍ «1»
فَإِذَا الْأَشَائِمُ كَالْأَيَا ... مِنِ وَالْأَيَامِنُ
كَالْأَشَائِمِ
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَرَّ
طَائِرٌ يَصِيحُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: خَيْرٌ،
خَيْرٌ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا عِنْدَ هَذَا لَا خَيْرَ
وَلَا شَرَّ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَأَمَّا أَقْوَالُ
الطَّيْرِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا يُجْعَلُ دَلَالَةً
عَلَيْهِ، وَلَا لَهَا عِلْمٌ بِكَائِنٍ فَضْلًا عَنْ
مُسْتَقْبَلٍ فَتُخْبِرُ بِهِ، وَلَا فِي النَّاسِ مَنْ
يَعْلَمُ مَنْطِقَ الطَّيْرِ، إِلَّا مَا كَانَ الله تعال
خَصَّ بِهِ سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ ذَلِكَ، فَالْتَحَقَ التَّطَيُّرُ بِجُمْلَةِ الْبَاطِلِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَحَلَّمَ «2» أَوْ تَكَهَّنَ
أَوْ رَدَّهُ عَنْ سَفَرِهِ تَطَيُّرٌ). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الطِّيَرَةُ شِرْكٌ-
ثَلَاثًا- وَمَا مِنَّا إِلَّا وَلَكِنَّ «3» اللَّهَ
يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ). وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ رَجَّعَتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ
حَاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ). قِيلَ: وَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ
اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ وَلَا خَيْرَ إِلَّا
خَيْرُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ ثُمَّ يَمْضِي لِحَاجَتِهِ).
وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: (إِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا
أَنْتَ وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ لَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ). ثُمَّ يَذْهَبُ
مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَكْفِيهِ مَا
وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى
مَا يُهِمُّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ الْفَرْقُ
بَيْنَ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ «4». (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ
عِنْدَ اللَّهِ) وَقَرَأَ الْحَسَنُ" طَيْرُهُمْ" جَمْعُ
طَائِرٍ. أَيْ مَا قدر لهم
__________
(1). الواق بكسر القاف: الصرد وهو طائر أبقع ضخم الرأس يكون في
الشجر نصفه أبيض ونصفه أسود. والحاتم: الغراب الأسود.
(2). تحلم: إذا ادعى الرؤيا كاذبا.
(3). كذا في مسند أبى داود وبعض نسخ الأصل. قال ابن الأثير:"
هكذا جاء في الحديث مقطوعا ولم يذكر المستثنى. أي إلا وقد
يعتريه التطير، وتسبق إلى قلبه الكراهة، فحذف اختصار واعتمادا
على فهم السامع ... وقوله:" ولكن الله يذهبه بالتوكل" معناه
أنه إذا خطر له عارض التطير فتوكل على الله وسلم إليه ولم يعمل
بذلك الخاطر غفره الله له ولم يؤاخذه به". وفى ب:" .. وما منا
إلا من تطير .. " إلخ.
(4). راجع ج 6 ص 59.
(7/266)
وَقَالُوا مَهْمَا
تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ
لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
وَعَلَيْهِمْ. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ) أَنَّ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْقَحْطِ
وَالشَّدَائِدِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ بِذُنُوبِهِمْ لَا مِنْ عند موسى وقومه.
[سورة الأعراف (7): آية 132]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها
فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ
آيَةٍ) أَيْ قَالَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى" مَهْما". قَالَ
الْخَلِيلُ: الْأَصْلُ مَا، مَا، الْأُولَى لِلشَّرْطِ،
وَالثَّانِيَةُ زَائِدَةٌ تَوْكِيدٌ لِلْجَزَاءِ، كَمَا
تُزَادُ فِي سَائِرِ الْحُرُوفِ، مِثْلَ إِمَّا وَحَيْثُمَا
وَأَيْنَمَا وَكَيْفَمَا. فَكَرِهُوا حَرْفَيْنِ لَفْظُهُمَا
وَاحِدٌ، فَأَبْدَلُوا مِنَ الْأَلِفِ الْأُولَى هَاءً
فَقَالُوا مَهْمَا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَصْلُهُ مَهْ،
أَيِ اكْفُفْ، مَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ. وَقِيلَ: هِيَ
كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ، يُجَازَى بِهَا لِيُجْزَمَ مَا بَعْدَهَا
عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ. وَالْجَوَابُ" فَما نَحْنُ لَكَ
بِمُؤْمِنِينَ" (لِتَسْحَرَنا) لِتَصْرِفَنَا عَمَّا نَحْنُ
عَلَيْهِ. وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ بَيَانُ هَذِهِ
اللَّفْظَةِ «1». قِيلَ: بَقِيَ مُوسَى فِي الْقِبْطِ بَعْدَ
إِلْقَاءِ السَّحَرَةِ سُجَّدًا عِشْرِينَ سَنَةً يُرِيهِمُ
الْآيَاتِ إِلَى أَنْ أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ
هَذَا قَوْلَهُمْ.
[سورة الأعراف (7): آية 133]
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ
وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا
وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى إِسْرَائِيلُ عَنْ
سِمَاكٍ عَنْ نَوْفٍ الشَّامِيِّ قَالَ: مَكَثَ مُوسَى صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آل فرعون بعد ما غَلَبَ
السَّحَرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
عُمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مِنْجَابٍ: عِشْرِينَ
سَنَةً، يُرِيهِمُ الْآيَاتِ: الْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ
وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(الطُّوفانَ) أَيِ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ حَتَّى عَامُوا فِيهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: الطُّوفَانُ الْمَوْتُ قَالَ
الْأَخْفَشُ: وَاحِدَتُهُ طُوفَانَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ مصدر
كالرجحان
__________
(1). راجع ج 2 ص 200.
(7/267)
وَالنُّقْصَانِ، فَلَا يُطْلَبُ لَهُ
وَاحِدٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: الطُّوفَانُ فِي اللُّغَةِ مَا
كَانَ مُهْلِكًا مِنْ مَوْتٍ أَوْ سَيْلٍ، أَيْ مَا يُطِيفُ
بِهِمْ فَيُهْلِكُهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَلَمْ يُصِبْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ قَطْرَةٌ مِنْ مَاءٍ، بَلْ دَخَلَ بُيُوتَ
الْقِبْطِ حَتَّى قَامُوا فِي الْمَاءِ إِلَى تَرَاقِيهِمْ
«1»، وَدَامَ عَلَيْهِمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ:
أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفُ
عَنَّا فَنُؤْمِنُ بِكَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَرَفَعَ عَنْهُمُ
الطُّوفَانَ فَلَمْ يُؤْمِنُوا. فَأَنْبَتَ اللَّهُ لَهُمْ فِي
تِلْكَ السَّنَةِ مَا لَمْ يُنْبِتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ
الْكَلَأِ وَالزَّرْعِ. فَقَالُوا: كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ
نِعْمَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ عليها الْجَرَادَ وَهُوَ
الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ، جَمْعُ جَرَادَةٍ فِي الْمُذَكَّرِ
وَالْمُؤَنَّثِ. فَإِنْ أَرَدْتَ الْفَصْلَ نَعَتَّ فَقُلْتَ
رَأَيْتُ جَرَادَةً ذَكَرًا- فَأَكَلَ زُرُوعَهُمْ
وَثِمَارَهُمْ حَتَّى إِنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ السُّقُوفَ
وَالْأَبْوَابَ حَتَّى تَنْهَدِمَ دِيَارُهُمْ. وَلَمْ
يَدْخُلْ دُورَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهَا شي. الثَّالِثَةُ-
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَتْلِ الْجَرَادِ إِذَا حَلَّ
بِأَرْضٍ فَأَفْسَدَ، فَقِيلَ: لَا يُقْتَلُ. وَقَالَ أَهْلُ
الْفِقْهِ كُلُّهُمْ: يُقْتَلُ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ
بِأَنَّهُ خَلْقٌ عَظِيمٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَأْكُلُ مِنْ
رِزْقِ اللَّهِ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ. وَبِمَا
رُوِيَ (لَا تَقْتُلُوا الْجَرَادَ فَإِنَّهُ جُنْدُ اللَّهِ
الْأَعْظَمُ). وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ فِي تَرْكِهَا
فَسَادَ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتال المسلم إذا أراد أخذ مال،
فَالْجَرَادُ إِذَا أَرَادَتْ فَسَادَ الْأَمْوَالِ كَانَتْ
أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ قَتْلُهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدِ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الْحَيَّةِ
وَالْعَقْرَبِ؟ لِأَنَّهُمَا يُؤْذِيَانِ النَّاسَ فَكَذَلِكَ
الْجَرَادُ. رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ وَأَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ إِذَا دَعَا عَلَى الْجَرَادِ قَالَ: (اللَّهُمَّ
أَهْلِكْ كِبَارَهُ وَاقْتُلْ صِغَارَهُ وَأَفْسِدْ بَيْضَهُ
وَاقْطَعْ دَابِرَهُ وَخُذْ بِأَفْوَاهِهِ عَنْ مَعَايِشِنَا
وَأَرْزَاقِنَا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (. قَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَدْعُو عَلَى جُنْدٍ مِنْ
أَجْنَادِ اللَّهِ بِقَطْعِ دَابِرِهِ؟ قَالَ:) إِنَّ
الْجَرَادَ «2» نَثْرَةُ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ (.
الرَّابِعَةُ: ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ
كُنَّا نَأْكُلُ الْجَرَادَ مَعَهُ. وَلَمْ يَخْتَلِفِ العلماء
في أكله على الجملة،
__________
(1). التراقي: جمع الترقوة، وهى عظم وصل بين ثغرة النحر
والعاتق من الجانبين. [ ..... ]
(2). النثره: شبه العطسة.
(7/268)
وَأَنَّهُ إِذَا أُخِذَ حَيًّا وَقُطِعَتْ
رَأْسُهُ أَنَّهُ حَلَالٌ بِاتِّفَاقٍ. وَأَنَّ ذَلِكَ
يَتَنَزَّلُ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الذَّكَاةِ فِيهِ. وَإِنَّمَا
اخْتَلَفُوا هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ يَمُوتُ بِهِ إِذَا
صِيدَ أَمْ لَا، فَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ
إِلَى ذَلِكَ، وَيُؤْكَلُ كَيْفَمَا مَاتَ. وَحُكْمُهُ
عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْحِيتَانِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ
نَافِعٍ وَمُطَرِّفٌ وَذَهَبَ مَالِكٌ إلى أنه لأبد لَهُ مِنْ
سَبَبٍ يَمُوتُ بِهِ، كَقَطْعِ رُءُوسِهِ أَوْ أَرْجُلِهِ أَوْ
أَجْنِحَتِهِ إِذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يُصْلَقُ أَوْ
يُطْرَحُ فِي النَّارِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ حَيَوَانِ
الْبَرِّ فَمَيْتَتُهُ مُحَرَّمَةٌ. وَكَانَ اللَّيْثُ
يَكْرَهُ أَكْلَ مَيِّتِ الْجَرَادِ، إِلَّا مَا أُخِذَ حَيًّا
ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّ أَخْذَهُ ذَكَاةٌ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ الْحُوتُ
وَالْجَرَادُ وَدَمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ). وَقَالَ ابن
ماجة: حدثنا أحمد ابن مَنِيعٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ
يَقُولُ: كُنَّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَتَهَادَيْنَ الْجَرَادَ عَلَى الْأَطْبَاقِ.
ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا. الْخَامِسَةُ- رَوَى
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَلْفَ
أُمَّةٍ سِتُّمِائَةٍ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ وَأَرْبَعُمِائَةٍ
فِي الْبَرِّ وَإِنَّ أَوَّلَ هَلَاكِ هَذِهِ الْأُمَمِ
الْجَرَادُ فَإِذَا هَلَكَتِ الْجَرَادُ تَتَابَعَتِ الْأُمَمُ
مِثْلَ نِظَامِ السِّلْكِ إِذَا انْقَطَعَ (. ذَكَرَهُ
التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي (نَوَادِرِ الْأُصُولِ)
وَقَالَ: وَإِنَّمَا صَارَ الْجَرَادُ أَوَّلَ هَذِهِ
الْأُمَمِ هَلَاكًا لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنَ الطِّينَةِ الَّتِي
فَضَلَتْ مِنْ طِينَةِ آدم. وإنما تهلك الأمم لهلاك الآدمين
لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ لَهُمْ. رَجَعْنَا إِلَى قِصَّةِ
الْقِبْطِ- فَعَاهَدُوا مُوسَى أَنْ يُؤْمِنُوا لَوْ كَشَفَ
عَنْهُمُ الْجَرَادَ، فَدَعَا فَكُشِفَ وَكَانَ قَدْ بَقِيَ
مِنْ زروعهم شي فَقَالُوا: يَكْفِينَا مَا بَقِيَ، وَلَمْ
يُؤْمِنُوا فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ، وَهُوَ
صِغَارُ الدَّبَى، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالدَّبَى: الْجَرَادُ
قَبْلَ أَنْ يَطِيرَ، الْوَاحِدَةُ دَبَاةٌ. وَأَرْضٌ
مَدْبِيَّةٌ إِذَا أَكَلَ الدَّبَى نَبَاتَهَا. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: الْقُمَّلُ السُّوسُ الَّذِي فِي الْحِنْطَةِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْبَرَاغِيثُ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
دَوَابُّ سُودٌ صِغَارٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
الْحَمْنَانُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْقُرَادِ، وَاحِدُهَا
حَمْنَانَةٌ. فَأَكَلَتْ دَوَابَّهُمْ وَزُرُوعَهُمْ،
وَلَزِمَتْ جُلُودَهُمْ كَأَنَّهَا الْجُدَرِيُّ عَلَيْهِمْ،
(7/269)
وَمَنَعَهُمُ النَّوْمَ وَالْقَرَارَ.
وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ (أَبِي «1») ثَابِتٍ: الْقُمَّلُ
الْجِعْلَانُ «2». وَالْقُمَّلُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ
ضَرْبٌ مِنَ الْقِرْدَانِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ
الْأَعْرَابِيُّ الْعَدَوِيُّ: الْقُمَّلُ دَوَابٌّ صِغَارٌ
مِنْ جِنْسِ الْقِرْدَانِ، إِلَّا أَنَّهَا أَصْغَرُ مِنْهَا،
وَاحِدَتُهَا قَمْلَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَيْسَ هَذَا
بِنَاقِضٍ لِمَا قَالَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا أُرْسِلَتْ
عَلَيْهِمْ، وَهِيَ أَنَّهَا كُلَّهَا تَجْتَمِعُ فِي أَنَّهَا
تُؤْذِيهِمْ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ"
بِعَيْنِ شَمْسٍ «3» " كَثِيبٌ مِنْ رَمْلٍ فَضَرَبَهُ مُوسَى
بِعَصَاهُ فَصَارَ قُمَّلًا. وَوَاحِدُ الْقُمَّلِ قَمْلَةٌ.
وَقِيلَ: الْقُمَّلُ الْقَمْلُ، قَالَهُ عَطَاءٌ
الْخُرَاسَانِيُّ. وَفِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ" وَالْقَمْلُ"
بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ فَتَضَرَّعُوا
فَلَمَّا كُشِفَ عَنْهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ الضَّفَادِعَ، جَمْعُ ضِفْدِعٍ «4» وَهِيَ
الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَاءِ، (وَفِيهِ
مَسْأَلَةٌ «5» وَاحِدَةٌ هِيَ أَنَّ) النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ
قَتْلِهَا، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ الذُّهْلِيِّ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الصُّرَدِ وَالضِّفْدِعِ
وَالنَّمْلَةِ وَالْهُدْهُدِ. وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ طَبِيبًا ذَكَرَ
ضِفْدِعًا فِي دَوَاءٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِ. صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ الْحَقِّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الصُّرَدُ
أَوَّلُ طَيْرٍ صَامَ. وَلَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مِنَ الشَّأْمِ إِلَى الْحَرَمِ فِي بِنَاءِ
الْبَيْتِ كَانَتِ السَّكِينَةُ «6» مَعَهُ وَالصُّرَدُ،
فَكَانَ الصُّرَدُ دَلِيلَهُ إِلَى الْمَوْضِعِ،
وَالسَّكِينَةُ مِقْدَارَهُ. فَلَمَّا صَارَ إِلَى الْبُقْعَةِ
وَقَعَتِ السَّكِينَةُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَنَادَتْ:
ابْنِ يَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى مِقْدَارِ ظِلِّي، فَنَهَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ
الصُّرَدِ لِأَنَّهُ كَانَ دَلِيلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى
الْبَيْتِ، وَعَنِ الضِّفْدِعِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَصُبُّ
الْمَاءَ عَلَى نَارِ إِبْرَاهِيمَ. وَلَمَّا تَسَلَّطَتْ
عَلَى فِرْعَوْنَ جَاءَتْ فَأَخَذَتِ الْأَمْكِنَةَ كُلَّهَا،
فَلَمَّا صَارَتْ إِلَى التَّنُّورِ وَثَبَتْ فِيهَا وَهِيَ
نَارٌ تُسَعَّرُ، طَاعَةً لِلَّهِ. فَجَعَلَ (اللَّهُ «7»
نَقِيقَهَا تَسْبِيحًا. يُقَالُ: إِنَّهَا أَكْثَرُ
الدَّوَابِّ تَسْبِيحًا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو:
لَا تَقْتُلُوا الضِّفْدِعَ فَإِنَّ نَقِيقَهُ الَّذِي
تَسْمَعُونَ تَسْبِيحٌ. فَرُوِيَ أَنَّهَا مَلَأَتْ
__________
(1). من ب وج وك. والتهذيب.
(2). الجعلان (بكسر الجيم جمع جعل كصرد) وهو دابة سوداء من
دواب الأرض.
(3). عاصمة مصر يومئذ.
(4). الضفدع: بفتح الضاد والدال وبكسرهما وسكون الفاء.
(5). من ج وك.
(6). السكينة: ريح خجوج، أي سريعة الممر.
(7). من ع.
(7/270)
وَلَمَّا وَقَعَ
عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ
لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
(134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ
هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا
مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
فُرُشَهُمْ وَأَوْعِيَتَهُمْ وَطَعَامَهُمْ
وَشَرَابَهُمْ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَجْلِسُ إِلَى ذَقَنِهِ فِي
الضَّفَادِعِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ وَثَبَ الضِّفْدِعُ فِي
فِيهِ. فَشَكَوْا إِلَى مُوسَى وَقَالُوا: نَتُوبُ، فَكَشَفَ
اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ فَعَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ،
فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ فَسَالَ النِّيلُ
عَلَيْهِمْ «1» دَمًا. وَكَانَ الْإِسْرَائِيلِيُّ يَغْتَرِفُ
مِنْهُ الْمَاءَ، وَالْقِبْطِيُّ الدَّمَ. وَكَانَ
الْإِسْرَائِيلِيُّ يَصُبُّ الْمَاءَ فِي فَمِ الْقِبْطِيِّ
فَيَصِيرُ دَمًا، وَالْقِبْطِيُّ يَصُبُّ الدَّمَ فِي فَمِ
الْإِسْرَائِيلِيِّ فَيَصِيرُ مَاءً زُلَالًا. (آياتٍ
مُفَصَّلاتٍ) أَيْ مُبَيَّنَاتٍ ظَاهِرَاتٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) نَصْبٌ عَلَى
الْحَالِ. وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْآيَةِ
ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَقِيلَ:
شَهْرٌ، فَلِهَذَا قَالَ" مُفَصَّلَاتٍ". (فَاسْتَكْبَرُوا)
أَيْ تَرَفَّعُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تعالى.
[سورة الأعراف (7): الآيات 134 الى 136]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ
لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا
الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي
إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى
أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ
(136)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) أي
العذاب. وقرى بِضَمِّ الرَّاءِ، لُغَتَانِ. قَالَ ابْنُ
جُبَيْرٍ: كَانَ طَاعُونًا مَاتَ بِهِ مِنَ الْقِبْطِ فِي
يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعُونَ «2» أَلْفًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ
بِالرِّجْزِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْآيَاتِ. (بِما
عَهِدَ عِنْدَكَ) " مَا" بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ بِمَا
اسْتَوْدَعَكَ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ بِمَا اخْتَصَّكَ بِهِ
فَنَبَّأَكَ. وَقِيلَ: هَذَا قَسَمٌ، أَيْ بِعَهْدِهِ عِنْدَكَ
إِلَّا مَا دَعَوْتَ لَنَا، فَ" مَا" صِلَةٌ «3». (لَئِنْ
كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) أَيْ بِدُعَائِكَ لِإِلَهِكَ
حَتَّى يَكْشِفَ عَنَّا. (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) أَيْ
نُصَدِّقُكَ بِمَا جِئْتَ بِهِ. (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي
إِسْرائِيلَ) وَكَانُوا يَسْتَخْدِمُونَهُمْ، عَلَى مَا
تَقَدَّمَ (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) يَعْنِي أَجَلَهُمُ
الَّذِي ضُرِبَ لَهُمْ فِي التَّغْرِيقِ. (إِذا هُمْ
يَنْكُثُونَ) أَيْ يَنْقُضُونَ مَا عَقَدُوهُ
__________
(1). من ب وج وك وى.
(2). في ع: تسمعون.
(3). كذا في جميع نسخ الأصل، وظاهر أنها مصدرية.
(7/271)
وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ
الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا
صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ
وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
عَلَى أَنْفُسِهِمْ. (فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا
بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) وَالْيَمُّ الْبَحْرُ."
وَكانُوا عَنْها" أَيِ النِّقْمَةِ. دَلَّ عَلَيْهَا"
فَانْتَقَمْنا". وَقِيلَ: عَنِ الْآيَاتِ أَيْ لَمْ
يَعْتَبِرُوا بها حتى صاروا كالغافلين عنها.
[سورة الأعراف (7): آية 137]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ
بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ
وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ) يُرِيدُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ. (الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) أَيْ
يُسْتَذَلُّونَ بِالْخِدْمَةِ. (مَشارِقَ الْأَرْضِ
وَمَغارِبَهَا) زَعَمَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ أَنَّ
الْأَصْلَ" فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبهَا" ثُمَّ
حُذِفَ" فِي" فَنُصِبَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ وَرِثُوا
أَرْضَ الْقِبْطِ. فَهُمَا نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ
الصَّرِيحِ، يُقَالُ: وَرِثْتُ الْمَالَ وَأَوْرَثْتُهُ
الْمَالَ، فَلَمَّا تَعَدَّى الْفِعْلُ بِالْهَمْزَةِ نَصَبَ
مَفْعُولَيْنِ. وَالْأَرْضُ هِيَ أَرْضُ الشَّأْمِ وَمِصْرَ.
وَمَشَارِقُهَا وَمَغَارِبُهَا جِهَاتُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ
بِهَا، فَالْأَرْضُ مَخْصُوصَةٌ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ
وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ: أراد جميع الأرض، لأن بن بَنِي
إِسْرَائِيلَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَقَدْ مَلَكَا الْأَرْضَ.
(الَّتِي بارَكْنا فِيها) أَيْ بِإِخْرَاجِ الزُّرُوعِ
وَالثِّمَارِ والأنهار. (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى
عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ هِيَ قَوْلُهُ:" وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «1» ".
(بِما صَبَرُوا) أَيْ بِصَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى فِرْعَوْنَ،
وَعَلَى أَمْرِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا بِمُوسَى.
(وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما
كانُوا يَعْرِشُونَ) يُقَالُ: عَرَشَ يَعْرِشُ إِذَا بَنَى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ مَا كَانُوا يَبْنُونَ
مِنَ الْقُصُورِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ
تَعْرِيشُ الْكَرْمِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ
عَنْ عَاصِمٍ" يَعْرُشُونَ" بِضَمِّ الرَّاءِ. قَالَ
الْكِسَائِيُّ: هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ أَبِي عَبْلَةَ" يُعَرِّشُونَ" بتشديد الراء وضم الياء.
__________
(1). راجع ج 13 ص 247.
(7/272)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي
إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ
عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا
إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ
وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ
اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (140)
[سورة الأعراف (7): آية 138]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى
قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ
قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ
فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ)
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْكَافِ،
وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا. يُقَالُ: عَكَفَ يَعْكِفُ
وَيَعْكُفُ بِمَعْنَى أَقَامَ عَلَى الشَّيْءِ وَلَزِمَهُ.
وَالْمَصْدَرُ مِنْهُمَا عَلَى فُعُولٍ. قَالَ قَتَادَةُ:
كَانَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ مِنْ لَخْمٍ، وَكَانُوا نُزُولًا
بِالرِّقَّةِ وَقِيلَ: كَانَتْ أَصْنَامُهُمْ تَمَاثِيلَ
بَقَرٍ، وَلِهَذَا أَخْرَجَ لَهُمْ السَّامِرِيُّ عِجْلًا.
(قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ
آلِهَةٌ) نَظِيرُهُ قَوْلُ جُهَّالِ الْأَعْرَابِ وَقَدْ
رَأَوْا شَجَرَةً خَضْرَاءَ لِلْكُفَّارِ تُسَمَّى ذَاتَ
أَنْوَاطٍ «1» يُعَظِّمُونَهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمًا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ
ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
(اللَّهُ أَكْبَرُ. قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا
قَالَ قوم مُوسَى" اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ
قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ" لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ في
قبلكم حذو القذة «2» بالقذة حتى إنهم لو دخلوا حجر ضَبٍّ
لَدَخَلْتُمُوهُ (. وَكَانَ هَذَا فِي مَخْرَجِهِ إِلَى
حُنَيْنٍ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" بَرَاءَةٌ «3» "
إِنْ شَاءَ الله تعالى.
[سورة الأعراف (7): الآيات 139 الى 140]
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا
يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً
وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140)
قَوْلُهُ تَعَالَى:) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ)
أَيْ مُهْلَكٌ، وَالتَّبَارُ: الْهَلَاكُ. وَكُلُّ إِنَاءٍ
مُكَسَّرٍ مُتَبَّرٌ. وَأَمْرٌ مُتَبَّرٌ. أَيْ إِنَّ
الْعَابِدَ وَالْمَعْبُودَ مُهْلَكَانِ. وقوله: (وَباطِلٌ) أي
ذاهب
__________
(1). ينوطون بها سلاحهم، أي يعلقونه.
(2). القذة ريش الهم. قال ابن الأثير: يضرب مثلا للشيئين
يستويان ولا يتفاوتان. [ ..... ]
(3). راجع ج 8 ص 97.
(7/273)
وَإِذْ
أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ
(141)
مضمحل. (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كانوا صلة
رائدة. (قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) 140 أَيْ
أَطْلُبُ لَكُمْ إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى. يُقَالُ:
بَغَيْتُهُ وَبَغَيْتُ لَهُ. (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ) 140 أَيْ عَلَى عَالَمِي زَمَانِكُمْ. وَقِيلَ:
فَضَّلَهُمْ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، وبما خصهم به من الآيات.
[سورة الأعراف (7): آية 141]
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ
سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
ذَكَّرَهُمْ مِنَّتَهُ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِيَهُودِ
عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَيْ
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْجَيْنَا أَسْلَافَكُمْ. حَسَبَ مَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ (الْبَقَرَةِ «1»).
[سورة الأعراف (7): آية 142]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ
فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى
لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً) " فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) " ذَكَرَ
أَنَّ مِمَّا كَرَّمَ اللَّهُ «2» بِهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا فَكَانَ وَعَدَهُ الْمُنَاجَاةَ
إِكْرَامًا لَهُ. (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمَسْرُوقٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ:
هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. أَمَرَهُ
أَنْ يَصُومَ الشَّهْرَ وَيَنْفَرِدَ فِيهِ بِالْعِبَادَةِ،
فَلَمَّا صَامَهُ أَنْكَرَ خَلُوفَ فَمِهِ فَاسْتَاكَ. قِيلَ:
بِعُودِ خَرْنُوبٍ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْشِقُ مِنْ فِيكَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ فَأَفْسَدْتَهُ
بِالسِّوَاكِ. فَزِيدَ عَلَيْهِ عَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ
لَمَّا اسْتَاكَ: (يَا مُوسَى لَا أُكَلِّمُكَ حتى يعود)
__________
(1). راجع ج 1 ص 381.
(2). من ع.
(7/274)
فُوكَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلُ،
أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَائِحَةَ الصَّائِمِ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ (. وَأَمَرَهُ بِصِيَامِ عَشَرَةِ
أَيَّامٍ. وَكَانَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى (صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) «1» غَدَاةَ النَّحْرِ حِينَ
فَدَى إِسْمَاعِيلَ مِنَ الذَّبْحِ، وَأَكْمَلَ لِمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ. وَحُذِفَتِ
الْهَاءُ مِنْ عَشْرٍ لِأَنَّ الْمَعْدُودَ مُؤَنَّثٌ.
وَالْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ:" فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ ثَلَاثِينَ
وَعَشَرَةً أَرْبَعُونَ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ
الْمُرَادَ أَتْمَمْنَا الثَّلَاثِينَ بِعَشْرٍ مِنْهَا،
فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَشْرَ سِوَى الثَّلَاثِينَ. فَإِنْ قِيلَ:
فَقَدْ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ أَرْبَعِينَ وَقَالَ هُنَا
ثَلَاثِينَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْبَدَاءِ. قِيلَ: لَيْسَ
كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ:" وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ"
وَالْأَرْبَعُونَ، وَالثَّلَاثُونَ وَالْعَشَرَةُ قَوْلٌ
وَاحِدٌ لَيْسَ بِمُخْتَلِفٍ. وَإِنَّمَا قَالَ الْقَوْلَيْنِ
عَلَى تَفْصِيلٍ وَتَأْلِيفٍ، قَالَ أَرْبَعِينَ فِي قَوْلٍ
مُؤَلَّفٍ، وَقَالَ ثَلَاثِينَ، يَعْنِي شَهْرًا مُتَتَابِعًا
وَعَشْرًا. وَكُلُّ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ، كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ:
" عَشْرٌ وَأَرْبَعٌ ... "
يَعْنِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ، لَيْلَةَ الْبَدْرِ. وَهَذَا
جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ضَرْبَ
الْأَجَلِ لِلْمُوَاعَدَةِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، وَمَعْنًى قديم
أَسَّسَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَضَايَا، وَحَكَمَ بِهِ
لِلْأُمَمِ، وَعَرَّفَهُمْ بِهِ مَقَادِيرَ التَّأَنِّي فِي
الْأَعْمَالِ. وَأَوَّلُ أَجَلٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى
الْأَيَّامُ السِّتَّةُ الَّتِي خَلَقَ فِيهَا جَمِيعَ
الْمَخْلُوقَاتِ،" وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ «2» 50: 38". وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ فِيمَا
تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ:" إِنَّ
رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ «3» ". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِذَا
ضَرَبَ الْأَجَلَ لِمَعْنًى يُحَاوِلُ فِيهِ تَحْصِيلَ
الْمُؤَجَّلِ فَجَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ زِيدَ
فِيهِ تَبْصِرَةً وَمَعْذِرَةً. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ
تَعَالَى ذَلِكَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضَرَبَ لَهُ
أَجَلًا ثَلَاثِينَ ثُمَّ زَادَهُ عَشْرًا تَتِمَّةَ
أَرْبَعِينَ. وَأَبْطَأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
هَذِهِ الْعَشْرِ عَلَى قَوْمِهِ، فَمَا عَقَلُوا جَوَازَ
التَّأَنِّي وَالتَّأَخُّرِ حَتَّى قَالُوا: إِنَّ مُوسَى
ضَلَّ أَوْ نَسِيَ، وَنَكَثُوا عَهْدَهُ وَبَدَّلُوا بَعْدَهُ،
وَعَبَدُوا إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
إِنَّ مُوسَى قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّ رَبِّي وَعَدَنِي
ثَلَاثِينَ لَيْلَةً أَنْ أَلْقَاهُ، وَأَخْلُفُ فِيكُمْ
__________
(1). من ع.
(2). راجع ج 17 ص 23.
(3). راجع ص 218 من هذا الجزء.
(7/275)
هَارُونَ، فَلَمَّا فَصَلَ»
مُوسَى إِلَى رَبِّهِ زَادَهُ اللَّهُ عَشْرًا، فَكَانَتْ
فِتْنَتُهُمْ فِي الْعَشْرِ الَّتِي زَادَهُ اللَّهُ بِمَا
فَعَلُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ. ثُمَّ الزِّيَادَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى
الْأَجَلِ تَكُونُ مُقَدَّرَةً، كَمَا أَنَّ الْأَجَلَ
مُقَدَّرٌ. وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ مِنَ الْحَاكِمِ
بَعْدَ النَّظَرِ إِلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ
بِالْأَمْرِ: مِنْ وَقْتٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ، فَيَكُونُ مِثْلَ
ثُلُثِ الْمُدَّةِ السَّالِفَةِ، كَمَا أَجَّلَ اللَّهُ
لِمُوسَى. فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ
الْأَصْلَ فِي الْأَجَلِ وَالزِّيَادَةَ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ
جَازَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ التَّرَبُّصِ بَعْدَهَا لِمَا
يَطْرَأُ مِنَ الْعُذْرِ عَلَى الْبَشَرِ، قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ. رَوَى الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى
بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً «2». قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا أَصْلٌ
لِإِعْذَارِ الْحُكَّامِ إِلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مَرَّةً
بَعْدَ أُخْرَى. وَكَانَ هَذَا لُطْفًا بِالْخَلْقِ،
وَلِيَنْفُذَ الْقِيَامُ عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ. يُقَالُ:
أَعْذَرَ فِي الْأَمْرِ أَيْ بَالَغَ فِيهِ، أَيْ أَعْذَرَ
غَايَةَ الْإِعْذَارِ الَّذِي لَا إِعْذَارَ بَعْدَهُ.
وَأَكْبَرُ الْإِعْذَارِ إِلَى بَنِي آدَمَ بَعْثَةُ الرُّسُلِ
إِلَيْهِمْ لِتَتِمَّ حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ،" وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «3» ". وَقَالَ"
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ «4» " قِيلَ: هُمُ الرُّسُلُ. ابْنُ
عَبَّاسٍ: هُوَ الشَّيْبُ. فَإِنَّهُ يَأْتِي فِي سِنِّ
الِاكْتِهَالِ، فَهُوَ عَلَامَةٌ لِمُفَارَقَةِ سِنِّ
الصِّبَا. وَجَعَلَ السِّتِّينَ غَايَةَ الْإِعْذَارِ لِأَنَّ
السِّتِّينَ قَرِيبٌ مِنْ مُعْتَرَكِ الْعِبَادِ، وَهُوَ سِنُّ
الْإِنَابَةِ وَالْخُشُوعِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ،
وَتَرَقُّبِ الْمَنِيَّةِ وَلِقَاءِ اللَّهِ، فَفِيهِ
إِعْذَارٌ بَعْدَ إِعْذَارٍ «5». الْأَوَّلُ بِالنَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالثَّانِي بِالشَّيْبِ، وَذَلِكَ
عِنْدَ كَمَالِ الْأَرْبَعِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ «6» ". فَذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ مَنْ
بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَدْ آنَ لَهُ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَ
نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ وَيَشْكُرَهَا
«7». قَالَ مَالِكٌ: أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا،
وَهُمْ يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا وَيُخَالِطُونَ النَّاسَ حَتَّى
يَأْتِيَ لِأَحَدِهِمْ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَإِذَا أَتَتْ
عَلَيْهِمُ اعْتَزَلُوا النَّاسَ. الثَّالِثَةُ- وَدَلَّتِ
الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ التَّارِيخَ يَكُونُ
بِاللَّيَالِي دُونَ الْأَيَّامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
ثَلاثِينَ لَيْلَةً" لِأَنَّ اللَّيَالِيَ أَوَائِلُ
الشُّهُورِ. وَبِهَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ الله عنهم
تخبر عن
__________
(1). فصل: خرج.
(2). أي لم يبق فيه موضعا للاعتذار حيث أمهله طول هذه المدة
ولم يعتذر.
(3). راجع ج 10 ص 231.
(4). راجع ج 14 ص 351.
(5). في ب: وإنذار بعد إنذار.
(6). راجع ج 16 ص 194.
(7). كذا في ج وك وهو الصواب. وفى أوب وز وى يشكرهما.
(7/276)
الْأَيَّامِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهَا
أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: صُمْنَا خَمْسًا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْعَجَمُ
تُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، فَتَحْسِبُ بِالْأَيَّامِ لِأَنَّ
مُعَوَّلَهَا عَلَى الشَّمْسِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَحِسَابُ
الشَّمْسِ لِلْمَنَافِعِ، وَحِسَابُ الْقَمَرِ لِلْمَنَاسِكِ،
وَلِهَذَا قَالَ:" وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً".
فَيُقَالُ: أَرَّخْتُ تاريخا، وورخت توريخا، لغتان. قوله
تعالى: (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي
قَوْمِي وَأَصْلِحْ) الْمَعْنَى: وَقَالَ مُوسَى حِينَ أَرَادَ
الْمُضِيَّ لِلْمُنَاجَاةِ وَالْمَغِيبَ فِيهَا لِأَخِيهِ
هَارُونَ: كُنْ خَلِيفَتِي، فَدَلَّ عَلَى النِّيَابَةِ. وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ لِعَلِيٍّ حِينَ خَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ:
(أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ
مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي).
فَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الرَّوَافِضُ وَالْإِمَامِيَّةُ
وَسَائِرُ فِرَقِ الشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ عَلِيًّا عَلَى
جَمِيعِ الْأُمَّةِ، حَتَّى كَفَّرَ الصَّحَابَةَ
الْإِمَامِيَّةُ- قَبَّحَهُمُ اللَّهُ- لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ
تَرَكُوا الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ النَّصُّ عَلَى اسْتِخْلَافِ
عَلِيٍّ وَاسْتَخْلَفُوا غَيْرَهُ بِالِاجْتِهَادِ مِنْهُمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَ عَلِيًّا إِذْ لَمْ يَقُمْ بِطَلَبِ
حَقِّهِ. وَهَؤُلَاءِ لَا شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ وَكُفْرِ مَنْ
تَبِعَهُمْ عَلَى مَقَالَتِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ
هَذَا اسْتِخْلَافٌ فِي حَيَاةٍ كَالْوَكَالَةِ الَّتِي
تَنْقَضِي بِعَزْلِ الْمُوَكَّلِ أَوْ بِمَوْتِهِ، لَا
يَقْتَضِي أَنَّهُ مُتَمَادٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَيَنْحَلُّ
عَلَى هَذَا مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِمَامِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَدِ اسْتَخْلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ
وَغَيْرَهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ اسْتِخْلَافُهُ
دَائِمًا بِالِاتِّفَاقِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ هَارُونُ
شُرِّكَ مَعَ مُوسَى فِي أَصْلِ الرِّسَالَةِ، فَلَا يَكُونُ
لَهُمْ فِيهِ عَلَى مَا رَامُوهُ دَلَالَةٌ. وَاللَّهُ
الْمُوَفِّقُ لِلْهِدَايَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَصْلِحْ"
أَمْرٌ بِالْإِصْلَاحِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ مِنَ
الْإِصْلَاحِ أَنْ يَزْجُرَ. السَّامِرِيَّ وَيُغَيِّرَ
عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَيِ ارْفُقْ بِهِمْ، وَأَصْلِحْ
أَمْرَهُمْ، وَأَصْلِحْ نَفْسَكَ، أَيْ كُنْ مُصْلِحًا. وَلَا
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ أَيْ لَا تَسْلُكْ سَبِيلَ
العاصين، ولا تكن عونا للظالمين.
(7/277)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى
لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى
الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ
مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ
إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
[سورة الأعراف (7): آية 143]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ
انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ
تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا
وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ
إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) أَيْ
فِي الْوَقْتِ الْمَوْعُودِ. (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أَيْ
أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ. (قالَ رَبِّ
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) سَأَلَ النَّظَرَ إِلَيْهِ،
وَاشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَتِهِ لما أسمعه كلامه. ف (قالَ لَنْ
تَرانِي) أَيْ فِي الدُّنْيَا. وَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى
أَنَّهُ أَرَادَ: أَرِنِي آيَةً عَظِيمَةً لِأَنْظُرَ إِلَى
قُدْرَتِكَ، لِأَنَّهُ قَالَ" إِلَيْكَ" وَ" قالَ لَنْ
تَرانِي". وَلَوْ سَأَلَ آيَةً لَأَعْطَاهُ اللَّهُ مَا
سَأَلَ، كَمَا أَعْطَاهُ سَائِرَ الْآيَاتِ. وَقَدْ كَانَ
لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا مَقْنَعٌ عَنْ طَلَبِ
آيَةٍ أُخْرَى، فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ. (وَلكِنِ انْظُرْ
إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي)
ضَرَبَ لَهُ مِثَالًا مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْ بِنْيَتِهِ
وَأَثْبَتُ. أَيْ فَإِنْ ثَبَتَ الْجَبَلُ وَسَكَنَ فَسَوْفَ
تَرَانِي، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْ فَإِنَّكَ لَا تُطِيقُ
رُؤْيَتِي، كَمَا أَنَّ الْجَبَلَ لَا يُطِيقُ رُؤْيَتِي.
وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ
الطَّيِّبِ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
رَأَى اللَّهَ فَلِذَلِكَ خَرَّ صَعِقًا، وَأَنَّ الْجَبَلَ
رَأَى رَبَّهُ فَصَارَ دَكًّا بِإِدْرَاكٍ خَلْقَهُ اللَّهُ
لَهُ. وَاسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ:" وَلكِنِ انْظُرْ
إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ
تَرانِي". ثُمَّ قَالَ (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) وَتَجَلَّى مَعْنَاهُ
ظَهَرَ، مِنْ قَوْلِكَ: جَلَوْتُ الْعَرُوسَ أَيْ
أَبْرَزْتُهَا. وَجَلَوْتُ السَّيْفَ أَبْرَزْتُهُ مِنَ
الصَّدَأِ، جِلَاءً فِيهِمَا. وَتَجَلَّى الشَّيْءُ انْكَشَفَ.
وَقِيلَ: تَجَلَّى أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ
وَغَيْرُهُ. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ
الْبَصْرَةِ" دَكًّا"، يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا" دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكًّا" «1» وَأَنَّ الْجَبَلَ مُذَكَّرٌ «2».
وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ" دَكَّاءَ" أَيْ جَعَلَهُ مِثْلَ
أَرْضٍ دَكَّاءَ، وَهِيَ النَّاتِئَةُ «3» لَا تَبْلُغُ أَنْ
تَكُونَ جَبَلًا. وَالْمُذَكَّرُ أَدَكُّ، وَجَمْعُ دَكَّاءَ
دكاوات
__________
(1). راجع ج 20 ص 54. [ ..... ]
(2). في ب وج: قراءة.
(3). الذي في مفردات الراغب: أرض دكاء مسواة.
(7/278)
وَدُكٌّ، مِثْلَ حَمْرَاوَاتٍ وَحُمْرٌ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: الدُّكُّ مِنَ الْجِبَالِ: الْعِرَاضُ،
وَاحِدُهَا أَدَكُّ. غَيْرُهُ: وَالدَّكَّاوَاتُ جَمْعُ
دَكَّاءَ: رَوَابٍ مِنْ طِينٍ لَيْسَتْ بِالْغِلَاظِ.
وَالدِّكْدَاكُ كَذَلِكَ مِنَ الرَّمْلِ: مَا الْتَبَدَ
بِالْأَرْضِ فَلَمْ يَرْتَفِعْ. وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ لَا
سَنَامَ لَهَا. وَفِي التَّفْسِيرِ: فَسَاخَ الْجَبَلُ فِي
الْأَرْضِ، فَهُوَ يَذْهَبُ فِيهَا حَتَّى الْآنَ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَهُ تُرَابًا. عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ:
رَمْلًا هَائِلًا. (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أَيْ مَغْشِيًّا
عَلَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ.
وَقِيلَ: مَيِّتًا، يُقَالُ: صَعِقَ الرَّجُلُ فَهُوَ صَعِقٌ.
وَصُعِقَ فَهُوَ مَصْعُوقٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ:
خَرَّ مُوسَى صَعِقًا يَوْمَ الْخَمِيسَ يَوْمَ عَرَفَةَ،
وَأُعْطِيَ التَّوْرَاةَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.
فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ قَالَ
مُجَاهِدٌ: مِنْ مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: سَأَلَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَلِذَلِكَ تَابَ.
وقيل: قال عَلَى جِهَةِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ
وَالْخُشُوعِ لَهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ. وَأَجْمَعَتِ
الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ مَا كَانَتْ عَنْ
مَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ. وَأَيْضًا
عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الرُّؤْيَةُ
جَائِزَةٌ. وَعِنْدَ الْمُبْتَدِعَةِ سَأَلَ لِأَجْلِ
الْقَوْمِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ،
وَهَذَا لَا يَقْتَضِي التَّوْبَةَ. فَقِيلَ: أَيْ تُبْتُ
إِلَيْكَ مِنْ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ.
وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْعَامِ «1» " بَيَانُ أَنَّ
الرُّؤْيَةَ جَائِزَةٌ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ
الطَّبَرِيُّ: لَوْ كَانَ سُؤَالُ مُوسَى مُسْتَحِيلًا مَا
أَقْدَمَ عَلَيْهِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ، كَمَا لَمْ
يَجُزْ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَا رَبِّ أَلَكَ صَاحِبَةٌ
وَوَلَدٌ. وَسَيَأْتِي فِي" الْقِيَامَةِ «2» " مَذْهَبُ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُؤْمِنِينَ) قِيلَ: بن قَوْمِي. وَقِيلَ: مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَقِيلَ: بِأَنَّكَ لَا
تُرَى فِي الدُّنْيَا لِوَعْدِكَ السَّابِقِ، فِي ذَلِكَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يخيروا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ
النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَرْفَعُ رَأْسِي
فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ
الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَصَعِقَ فِيمَنْ صعق فأفاق قبلي أو
حوسب بصفته الْأُولَى (. أَوْ قَالَ (كَفَتْهُ صَعْقَتُهُ
الْأُولَى). وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ
كَعْبٍ قال: إن الله تبارك وتعالى قسم
__________
(1). راجع ج 54 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 19 ص 105.
(7/279)
قَالَ يَا مُوسَى
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي
وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
(144)
كَلَامَهُ وَرُؤْيَتَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ
وَمُوسَى صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، فَكَلَّمَهُ
مُوسَى مَرَّتَيْنِ، وَرَآهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين.
[سورة الأعراف (7): آية 144]
قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ
بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ
الشَّاكِرِينَ (144)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى
النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) الِاصْطِفَاءُ:
الِاجْتِبَاءُ، أَيْ فَضَّلْتُكَ. وَلَمْ يَقُلْ عَلَى
الْخَلْقِ، لِأَنَّ مِنْ هَذَا الِاصْطِفَاءِ أَنَّهُ
كَلَّمَهُ وَقَدْ كَلَّمَ الْمَلَائِكَةَ وَأَرْسَلَهُ
وَأَرْسَلَ غَيْرَهُ. فَالْمُرَادُ" عَلَى النَّاسِ"
الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. وَقَرَأَ" بِرِسَالَتِي" عَلَى
الْإِفْرَادِ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ. وَالْبَاقُونَ
بِالْجَمْعِ. وَالرِّسَالَةُ مَصْدَرٌ، فَيَجُوزُ
إِفْرَادُهَا. وَمَنْ جَمَعَ عَلَى أَنَّهُ أُرْسِلَ بِضُرُوبٍ
مِنَ الرِّسَالَةِ فَاخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا، فَجُمِعَ
الْمَصْدَرُ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، كَمَا قَالَ:" إِنَّ
أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «1» ". فَجَمَعَ
لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الْأَصْوَاتِ وَاخْتِلَافِ المصوتين.
ووحد في قوله" الصوت" لَمَّا أَرَادَ بِهِ جِنْسًا وَاحِدًا
مِنَ الْأَصْوَاتِ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ قَوْمَهُ لَمْ
يُشَارِكْهُ فِي التَّكْلِيمِ وَلَا وَاحِدٌ مِنَ
السَّبْعِينَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي" الْبَقَرَةِ «2» ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) إِشَارَةٌ إِلَى
الْقَنَاعَةِ، أَيِ اقْنَعْ بِمَا أَعْطَيْتُكَ. (وَكُنْ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) أَيْ مِنَ الْمُظْهِرِينَ لِإِحْسَانِي
إِلَيْكَ وَفَضْلِي عَلَيْكَ، يُقَالُ: دَابَّةٌ شَكُورٌ إِذَا
ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ السِّمَنِ فَوْقَ مَا تُعْطَى مِنَ
الْعَلَفِ. وَالشَّاكِرُ مُعَرَّضٌ لِلْمَزِيدِ كَمَا قَالَ:"
لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «3» ". وَيُرْوَى أَنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكَثَ بَعْدَ أَنْ كَلَّمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا يَرَاهُ أَحَدٌ
إِلَّا مات من نور الله عز وجل.
[سورة الأعراف (7): آية 145]
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً
وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ
قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ
الْفاسِقِينَ (145)
__________
(1). راجع ج 14 ص 71.
(2). راجع ج 1 ص 403.
(3). راجع ج 9 ص 342.
(7/280)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَتَبْنا لَهُ فِي
الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يُرِيدُ التَّوْرَاةَ.
وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ قَبَضَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَنَاحِهِ فَمَرَّ بِهِ فِي الْعُلَا
حَتَّى أَدْنَاهُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ حِينَ
كَتَبَ اللَّهُ لَهُ الْأَلْوَاحَ، ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ
الْحَكِيمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ
زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ. ابْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ يَاقُوتَةٍ
حَمْرَاءَ. أَبُو الْعَالِيَةِ: مِنْ زَبَرْجَدٍ. الْحَسَنُ:
مِنْ خَشَبٍ، نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: مِنْ
صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، لَيَّنَهَا اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَقَطَعَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ شَقَّهَا
بِأَصَابِعِهِ، فَأَطَاعَتْهُ كَالْحَدِيدِ لِدَاوُدَ. قَالَ
مُقَاتِلٌ: أَيْ كَتَبْنَا (لَهُ «1») فِي الألواح كنقس
الْخَاتَمِ. رَبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ
وَهِيَ سَبْعُونَ وِقْرَ «2» بَعِيرٍ. وَأَضَافَ الْكِتَابَةَ
إِلَى نَفْسِهِ عَلَى جِهَةِ التَّشْرِيفِ، إِذْ هِيَ
مَكْتُوبَةٌ بِأَمْرِهِ كَتَبَهَا جِبْرِيلُ بِالْقَلَمِ
الَّذِي كَتَبَ بِهِ الذِّكْرَ. وَاسْتُمِدَّ مِنْ نَهَرِ
النُّورِ. وَقِيلَ: هِيَ كِتَابَةٌ أَظْهَرَهَا اللَّهُ
وَخَلَقَهَا فِي الْأَلْوَاحِ. وَأَصْلُ اللُّوحِ: (لَوْحٌ
«3») (بِفَتْحِ اللَّامِ)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" بَلْ هُوَ
قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «4» ". فَكَأَنَّ
اللَّوْحَ تَلُوحُ فِيهِ الْمَعَانِي. وَيُرْوَى أَنَّهَا
لَوْحَانِ، وَجَاءَ بِالْجَمْعِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ.
وَيُقَالُ: رَجُلٌ عَظِيمُ الْأَلْوَاحِ إِذَا كَانَ كَبِيرَ
عَظْمِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَتَكَسَّرَتِ الْأَلْوَاحُ حِينَ أَلْقَاهَا فَرُفِعَتْ
إِلَّا سُدُسَهَا. وَقِيلَ: بَقِيَ سُبُعُهَا وَرُفِعَتْ
سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا. فَكَانَ فِي الَّذِي رُفِعَ تَفْصِيلُ
كل شي، وَفِي الَّذِي بَقِيَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ.
وَأَسْنَدَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ
نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ
تَكَسَّرَتْ فَصَامَ مِثْلَهَا فَرُدَّتْ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى"
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ
مِنَ الْأَحْكَامِ وَتَبْيِينِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، عَنِ
الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ لَفْظٌ يُذْكَرُ
تَفْخِيمًا وَلَا يُرَادُ بِهِ التَّعْمِيمُ، تَقُولُ: دخلت
السوق فاشتريت كل شي. وعند فلان كل شي. وَ" تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ «5» "." وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «6» " وقد تقدم.
(موعظة وتفصيلا لكل شي) أي لكل شي أُمِرُوا بِهِ مِنَ
الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمُ اجْتِهَادٌ،
وَإِنَّمَا خُصَّ بِذَلِكَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) فِي الْكَلَامِ
حَذْفٌ، أَيْ فَقُلْنَا لَهُ: خُذْهَا بِقُوَّةٍ، أي بجد
ونشاط. نظيره
__________
(1). من ب، ع.
(2). الوقر (بكسر الواو): الحمل الثقيل. وعم بعضهم به الثقيل
والخفيف وما بينهما.
(3). من ع. وهو الصواب. والذي في ب ى اك: اللمع. وليست بشيء.
بدليل الآية الشاهد.
(4). راجع ج 19 ص 269.
(5). راجع ج 16 ص 206.
(6). راجع ج 13 ص 184.
(7/281)
سَأَصْرِفُ عَنْ
آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا
غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ
الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
" خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ"
وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا
بِأَحْسَنِها) أَيْ يَعْمَلُوا بِالْأَوَامِرِ وَيَتْرُكُوا
النَّوَاهِيَ، وَيَتَدَبَّرُوا الْأَمْثَالَ وَالْمَوَاعِظَ.
نَظِيرُهُ" وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ «2» ". وَقَالَ:" فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
«3» ". وَالْعَفْوُ أَحْسَنُ مِنَ الِاقْتِصَاصِ. وَالصَّبْرُ
أَحْسَنُ مِنَ الِانْتِصَارِ. وَقِيلَ: أَحْسَنُهَا
الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ، وَأَدْوَنُهَا الْمُبَاحُ.
سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ قَالَ الْكَلْبِيُّ:" دارَ
الْفاسِقِينَ" مَا مَرُّوا عَلَيْهِ إِذَا سَافَرُوا مِنْ
مَنَازِلِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَالْقُرُونِ الَّتِي «4»
أُهْلِكُوا. وَقِيلَ: هِيَ جَهَنَّمُ، عَنِ الْحَسَنِ
وَمُجَاهِدٍ. أَيْ فَلْتَكُنْ مِنْكُمْ عَلَى ذِكْرٍ،
فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا مِنْهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَا
مِصْرَ، أَيْ سَأُرِيكُمْ دِيَارَ الْقِبْطِ وَمَسَاكِنَ
فِرْعَوْنَ خَالِيَةً عَنْهُمْ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ.
قَتَادَةُ: الْمَعْنَى سَأُرِيكُمْ مَنَازِلَ الْكُفَّارِ
الَّتِي سَكَنُوهَا قَبْلَكُمْ مِنَ الْجَبَابِرَةِ
وَالْعَمَالِقَةِ لِتَعْتَبِرُوا بِهَا يَعْنِي الشَّأْمَ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا" وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ «5» " الْآيَةَ." وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «6» " الْآيَةَ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَسَامَةُ بْنُ
زُهَيْرٍ" سَأُوَرِّثُكُمْ" مِنْ وَرَّثَ. وَهَذَا ظَاهِرٌ.
وَقِيلَ: الدَّارُ الْهَلَاكُ، وَجَمْعُهُ أَدْوَارٌ. وَذَلِكَ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ أَوْحَى
إِلَى الْبَحْرِ أَنِ اقْذِفْ بِأَجْسَادِهِمْ إِلَى
السَّاحِلِ، قَالَ: فَفَعَلَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ بَنُو
إسرائيل فأراهم هلاك الفاسقين.
[سورة الأعراف (7): الآيات 146 الى 147]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا
يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (147)
__________
(1). راجع ج 1 ص 437. [ ..... ]
(2). راجع ج 15 ص 270، ص 243.
(3). راجع ج 15 ص 270، ص 243.
(4). في ج وك: الذين.
(5). راجع ص 272. من هذا الجزء.
(6). راجع ج 13 ص 247.
(7/282)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَأَصْرِفُ عَنْ
آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ) قَالَ قَتَادَةُ: سَأَمْنَعُهُمْ فَهْمَ كِتَابِي.
وَقَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. وَقِيلَ: سَأَصْرِفُهُمْ
عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا. وَقِيلَ: سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ
نَفْعِهَا، وَذَلِكَ مُجَازَاةً عَلَى تَكَبُّرِهِمْ.
نَظِيرُهُ:" فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ «1» قُلُوبَهُمْ".
وَالْآيَاتُ عَلَى هَذَا الْمُعْجِزَاتُ أَوِ الْكُتُبُ
الْمُنَزَّلَةُ. وَقِيلَ: خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أَيْ أَصْرِفُهُمْ عَنْ الِاعْتِبَارِ بِهَا. (يَتَكَبَّرُونَ)
يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ. وَهَذَا ظَنٌّ
بَاطِلٌ، فَلِهَذَا قَالَ: (بِغَيْرِ الْحَقِّ) فَلَا
يَتَّبِعُونَ نَبِيًّا وَلَا يَصْغُونَ إِلَيْهِ
لِتَكَبُّرِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ
آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ
لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُتَكَبِّرُونَ.
أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ طَرِيقَ الرَّشَادِ
وَيَتَّبِعُونَ سَبِيلَ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ، أَيِ الْكُفْرُ
يَتَّخِذُونَهُ دِينًا. ثُمَّ عَلَّلَ فَقَالَ: (ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أَيْ ذَلِكَ الْفِعْلُ
الَّذِي فَعَلْتُهُ بِهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ. (وَكَانُوا
عَنْهَا غَافِلِينَ) أَيْ كَانُوا فِي تَرْكِهِمْ تَدَبُّرَ
الْحَقِّ كَالْغَافِلِينَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا
غَافِلِينَ عَمَّا يُجَازَوْنَ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: مَا
أَغْفَلَ فُلَانٍ عَمَّا يُرَادُ بِهِ، وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ
دِينَارٍ" وَإِنْ يُرَوْا" بِضَمِّ الْيَاءِ فِي
الْحَرْفَيْنِ، أَيْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ. وَقَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ" سَبِيلَ الرُّشْدِ"
بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ. وَأَهْلُ الْكُوفَةِ
إِلَّا عَاصِمًا" الرَّشَدِ" بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَرَّقَ أَبُو عَمْرٍو بَيْنَ الرُّشْدِ
وَالرَّشَدِ فَقَالَ: الرُّشْدُ فِي الصَّلَاحِ. وَالرَّشَدُ
فِي الدِّينِ. قَالَ النَّحَّاسُ:" سِيبَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى
أَنَّ الرُّشْدَ وَالرَّشَدَ مِثْلُ السُّخْطِ وَالسَّخَطِ،
وَكَذَا قَالَ الْكِسَائِيُّ. وَالصَّحِيحُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو
غَيْرُ مَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ قَالَ: إِذَا كَانَ الرُّشْدُ
وَسَطَ الْآيَةِ فَهُوَ مُسَكَّنٌ، وَإِذَا كَانَ رَأْسَ
الْآيَةِ فَهُوَ مُحَرَّكٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: يَعْنِي
بِرَأْسِ الْآيَةِ نَحْوَ" وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا
رَشَداً «2» 10" فَهُمَا عِنْدَهُ لُغَتَانِ بِمَعْنًى
وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ هَذَا لِتَتَّفِقَ الْآيَاتُ.
وَيُقَالُ: رَشَدَ يَرْشُدُ، وَرَشُدَ يَرْشُدُ. وَحَكَى
سِيبَوَيْهِ رَشِدَ يَرْشَدُ. وَحَقِيقَةُ الرُّشْدِ
وَالرَّشَدِ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَظْفَرَ الْإِنْسَانُ بِمَا
يُرِيدُ، وهو ضد الخيبة".
__________
(1). راجع ج 18 ص 82.
(2). راجع ج 10 ص 358.
(7/283)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ
خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا
يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
[سورة الأعراف (7): آية 148]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ
عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا
يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا
ظالِمِينَ (148)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ)
أَيْ مِنْ بَعْدِ خُرُوجِهِ إِلَى الطُّورِ. (مِنْ
حُلِيِّهِمْ) هَذِهِ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ
البصرة. وقرا أهل الكوفة عَاصِمًا" مِنْ حِلِيِّهِمْ" بِكَسْرِ
الْحَاءِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ" مِنْ حَلْيِهِمْ" بِفَتْحِ
الْحَاءِ وَالتَّخْفِيفِ. قَالَ النَّحَّاسُ: جمع حلي وحلي
وَحِلِيٌّ، مِثْلَ ثَدْيٍ وَثُدِيٍّ وَثِدِيٍّ. وَالْأَصْلُ"
حُلُوِيٌّ" ثُمَّ أُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ
فَانْكَسَرَتِ اللَّامُ لِمُجَاوَرَتِهَا الْيَاءَ، وَتُكْسَرُ
الْحَاءُ لِكَسْرَةِ اللَّامِ. وَضَمُّهَا عَلَى الْأَصْلِ.
(عِجْلًا) مَفْعُولٌ. (جَسَدًا) نَعْتٌ أَوْ بَدَلٌ. (لَهُ
خُوَارٌ) رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. يُقَالُ: خَارَ يَخُورُ
خُوَارًا إِذَا صَاحَ. وَكَذَلِكَ جَأَرَ يَجْأَرُ جُؤَارًا.
وَيُقَالُ: خَوِرَ يَخْوَرُ خَوَرًا إِذَا جَبُنَ وَضَعُفَ.
وَرُوِيَ فِي قَصَصِ الْعِجْلِ: أَنَّ السَّامِرِيَّ،
وَاسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظَفَرَ، يُنْسَبُ إِلَى قَرْيَةٍ
تُدْعَى سَامِرَةَ. وُلِدَ عَامَ قَتْلِ الْأَبْنَاءِ،
وَأَخْفَتْهُ أُمُّهُ فِي كَهْفِ جَبَلٍ فَغَذَّاهُ جِبْرِيلُ
فَعَرَفَهُ لِذَلِكَ، فَأَخَذَ حِينَ عَبَرَ الْبَحْرَ عَلَى
فَرَسٍ وَدِيقٍ «1» لِيَتَقَدَّمَ فِرْعَوْنَ فِي الْبَحْرِ-
قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ حَافِرِ الْفَرَسِ. وَهُوَ مَعْنَى
قَوْلِهِ:" فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ «2»
20: 96". وَكَانَ مُوسَى وَعَدَ قَوْمَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا،
فَلَمَّا أَبْطَأَ فِي الْعَشْرِ الزَّائِدِ وَمَضَتْ
ثَلَاثُونَ لَيْلَةً قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ
مُطَاعًا فِيهِمْ: إِنَّ مَعَكُمْ حُلِيًّا مِنْ حُلِيِّ آلِ
فِرْعَوْنَ، وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَتَزَيَّنُونَ فِيهِ
وَيَسْتَعِيرُونَ مِنَ الْقِبْطِ الْحُلِيَّ فَاسْتَعَارُوا
لِذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَمَّا أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِنْ
مِصْرَ وَغَرِقَ الْقِبْطُ بَقِيَ ذَلِكَ الْحُلِيُّ فِي
أَيْدِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ السَّامِرِيُّ: إِنَّهُ حَرَامٌ
عَلَيْكُمْ، فَهَاتُوا مَا عِنْدَكُمْ فَنُحَرِّقُهُ. وَقِيلَ:
هَذَا الْحُلِيُّ مَا أَخَذَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ قَوْمِ
فِرْعَوْنَ بَعْدَ الْغَرَقِ، وَأَنَّ هَارُونَ قَالَ لَهُمْ:
إِنَّ الْحُلِيَّ غَنِيمَةٌ، وَهِيَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ،
فَجَمَعَهَا فِي حُفْرَةٍ حَفَرَهَا فَأَخَذَهَا
السَّامِرِيُّ. وَقِيلَ: اسْتَعَارُوا الْحُلِيَّ لَيْلَةَ
أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْ مِصْرَ، وَأَوْهَمُوا الْقِبْطَ
أَنَّ لهم عرسا أو مجتمعا،
__________
(1). أي تشتهي الفحل.
(2). راجع ج 11 ص 238.
(7/284)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ
لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (149)
وَكَانَ السَّامِرِيُّ سَمِعَ قَوْلَهُمْ"
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ «1» آلِهَةٌ". وَكَانَتْ
تِلْكَ الْآلِهَةُ عَلَى مِثَالِ الْبَقَرِ، فَصَاغَ لَهُمْ
عِجْلًا جَسَدًا، أَيْ مصمتا، غير أنهم كانوا يسمعون منه خوار.
وَقِيلَ: قَلَبَهُ اللَّهُ لَحْمًا وَدَمًا. وَقِيلَ: إِنَّهُ
لَمَّا أَلْقَى تِلْكَ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ فِي
النَّارِ عَلَى الْحُلِيِّ صَارَ عِجْلًا لَهُ خُوَارٌ،
فَخَارَ خَوْرَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يُثَنِّ ثُمَّ قَالَ
لِلْقَوْمِ:" هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ»
20: 88". يَقُولُ: نسيه هاهنا وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فَضَلَّ
عَنْهُ- فَتَعَالَوْا نَعْبُدُ هَذَا الْعِجْلَ. فَقَالَ
اللَّهُ لِمُوسَى وَهُوَ يُنَاجِيهِ:" فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا
قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ 20: 85".
فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، هَذَا السَّامِرِيُّ أَخْرَجَ
لَهُمْ عِجْلًا مِنْ حُلِيِّهِمْ، فَمَنْ جَعَلَ لَهُ جَسَدًا؟
- يُرِيدُ اللَّحْمَ وَالدَّمَ- وَمَنْ جَعَلَ لَهُ خُوَارًا؟
فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَا فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ
وَجَلَالِكَ مَا أَضَلَّهُمْ غَيْرُكَ. قَالَ صَدَقْتَ يَا
حَكِيمَ الْحُكَمَاءِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:" إِنْ هِيَ
إِلَّا فِتْنَتُكَ «3» ". وَقَالَ الْقَفَّالُ: كَانَ
السَّامِرِيُّ احْتَالَ بِأَنْ جَوَّفَ الْعِجْلَ، وَكَانَ
قَابَلَ بِهِ الرِّيحَ، حَتَّى جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُحَاكِي
الْخُوَارَ، وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا صَارَ
كَذَلِكَ لِمَا طُرِحَ فِي الْجَسَدِ مِنَ التُّرَابِ الَّذِي
كَانَ أَخَذَهُ مِنْ تُرَابِ قَوَائِمِ فَرَسِ جِبْرِيلَ.
وَهَذَا كلام فيه تهافت «4»، قال القشيري. قوله تعالى: (أَلَمْ
يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ) بَيَّنَ أَنَّ
الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْكَلَامِ. (وَلَا
يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) أَيْ طَرِيقًا إِلَى حُجَّةٍ.
(اتَّخَذُوهُ) أَيْ إِلَهًا. (وَكَانُوا ظَالِمِينَ) أَيْ
لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا فَعَلُوا مِنِ اتِّخَاذِهِ «5».
وَقِيلَ: وَصَارُوا ظَالِمِينَ أَيْ مُشْرِكِينَ لجعلهم العجل
إلها.
[سورة الأعراف (7): آية 149]
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ
ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ
لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أَيْ
بَعْدَ عَوْدِ مُوسَى مِنَ الْمِيقَاتِ. يُقَالُ لِلنَّادِمِ
الْمُتَحَيِّرِ: قَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ:
يُقَالُ سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَأُسْقِطَ. وَمَنْ قَالَ: سَقَطَ
فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، فَالْمَعْنَى
عِنْدَهُ: سَقَطَ النَّدَمُ، قال الأزهري والنحاس وغيرهما.
__________
(1). راجع ص 273 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 11 ص 232 وص 294 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 11 ص 232 وص 294 من هذا الجزء.
(4). في ب وى: متهافت.
(5). في ز: اتخاذهم. [ ..... ]
(7/285)
وَلَمَّا رَجَعَ
مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا
خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ
وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ
إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي
وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ
وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ
وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
وَالنَّدَمُ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ،
وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْيَدَ لأنه يقال لمن تحصل على شي: قَدْ
حَصَلَ فِي يَدِهِ أَمْرُ كَذَا، لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ
الْأَشْيَاءِ فِي الْغَالِبِ بِالْيَدِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ «1» 10". وَأَيْضًا:
النَّدَمُ وَإِنْ حَلَّ فِي الْقَلْبِ فَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي
الْبَدَنِ، لِأَنَّ النَّادِمَ يَعَضُّ يَدَهُ، وَيَضْرِبُ
إِحْدَى يديه على الأخرى، وقال اللَّهُ تَعَالَى:" فَأَصْبَحَ
يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها «2» " أَيْ
نَدِمَ." وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ «3» "
أَيْ مِنَ النَّدَمِ. وَالنَّادِمُ يَضَعُ ذَقَنَهُ فِي
يَدِهِ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الِاسْتِئْسَارِ، وَهُوَ أَنْ
يَضْرِبَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَوْ يَصْرَعَهُ فَيَرْمِيَ بِهِ
مِنْ يَدَيْهِ إِلَى الْأَرْضِ لِيَأْسِرَهُ أَوْ يُكَتِّفَهُ،
فَالْمَرْمِيُّ مَسْقُوطٌ بِهِ فِي يَدِ السَّاقِطِ.
(وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) أَيِ انْقَلَبُوا «4»
بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ. (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا
وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أَخَذُوا فِي
الْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَقَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:" لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا
وَتَغْفِرْ لَنَا" بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَفِيهِ
مَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ فِي
السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ." رَبَّنَا" بِالنَّصْبِ عَلَى حَذْفِ
النِّدَاءِ. وَهُوَ أَيْضًا أَبْلَغُ فِي الدُّعَاءِ
وَالْخُضُوعِ. فَقِرَاءَتُهُمَا أبلغ في الاستكانة والتضرع،
فهي أولى.
[سورة الأعراف (7): الآيات 150 الى 151]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ
بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ
رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ
يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ
اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ
الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي
رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ
غَضْبانَ أَسِفاً) 150 لَمْ يَنْصَرِفْ" غَضْبَانَ" لِأَنَّ
مُؤَنَّثَهُ غَضْبَى، وَلِأَنَّ الْأَلِفَ وَالنُّونَ فِيهِ
بِمَنْزِلَةِ أَلِفَيِ التَّأْنِيثِ فِي قَوْلِكَ حَمْرَاءُ.
وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَ" أَسِفًا" شَدِيدُ
الْغَضَبِ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الْأَسَفُ مَنْزِلَةٌ
وَرَاءَ الْغَضَبِ أَشَدُّ من ذلك. وهو أسف وأسف وَأَسْفَانٌ
وَأَسُوفٌ. وَالْأَسِيفُ أَيْضًا الْحَزِينُ. ابْنُ عَبَّاسٍ
__________
(1). راجع ج 12 ص 15.
(2). راجع ج 10 ص 409.
(3). راجع ج 13 ص 25.
(4). في ب وى: ابتلوا.
(7/286)
وَالسُّدِّيُّ: رَجَعَ حَزِينًا مِنْ
صَنِيعِ قَوْمِهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَخْبَرَهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ رُجُوعِهِ أَنَّهُمْ قَدْ فُتِنُوا
بِالْعِجْلِ، فَلِذَلِكَ رَجَعَ وَهُوَ غَضْبَانُ. ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ
أَعْظَمِ النَّاسِ غَضَبًا، لَكِنَّهُ كَانَ سَرِيعَ
الْفَيْئَةِ «1»، فَتِلْكَ بِتِلْكَ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ:
سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
إِذَا غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ، وَرَفَعَ
شَعْرُ بَدَنِهِ جُبَّتَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ
تَتَوَقَّدُ فِي الْقَلْبِ. وَلِأَجْلِهِ أَمَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ غَضِبَ أَنْ
يَضْطَجِعَ. فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ غَضَبُهُ اغْتَسَلَ،
فَيُخْمِدُهَا اضْطِجَاعُهُ وَيُطْفِئُهَا اغْتِسَالُهُ.
وَسُرْعَةُ غَضَبِهِ كَانَ سَبَبًا لِصَكِّهِ مَلَكَ الموت
ففقأ عينه. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ «2» مَا
لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ:
وَإِنَّمَا اسْتَجَازَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ
لِأَنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ مَنِ
اجْتَرَأَ عَلَيْهِ أَوْ مَدَّ إِلَيْهِ يَدًا بِأَذًى فَقَدْ
عَظُمَ الْخَطْبُ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ احْتَجَّ
عَلَيْهِ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ تَنْزِعُ رُوحِي؟ أَمِنْ فَمِي
وَقَدْ نَاجَيْتُ بِهِ رَبِّي! أَمْ مِنْ سَمْعِي وَقَدْ
سَمِعْتُ بِهِ كَلَامَ رَبِّي! أَمْ مِنْ يَدِي وَقَدْ
قَبَضْتُ مِنْهُ «3» الْأَلْوَاحَ! أَمْ مِنْ قَدَمِي وَقَدْ
قُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أُكَلِّمُهُ بِالطُّورِ! أَمْ مِنْ
عَيْنِي وَقَدْ أَشْرَقَ وَجْهِي لِنُورِهِ. فَرَجَعَ إِلَى
رَبِّهِ مُفْحَمًا. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي
ذَرٍّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ
قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا
فَلْيَضْطَجِعْ). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ
الْقَاصِّ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ
السَّعْدِيِّ فَكَلَّمَهُ رَجُلٌ فَأَغْضَبَهُ، فَقَامَ ثُمَّ
رَجَعَ وَقَدْ تَوَضَّأَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ
جَدِّي عَطِيَّةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ
وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا
تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَتَوَضَّأْ). قَوْلُهُ تعالى: (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي
مِنْ بَعْدِي) 150 ذَمٌّ مِنْهُ لَهُمْ، أَيْ بِئْسَ الْعَمَلُ
عَمِلْتُمْ «4» بَعْدِي. يُقَالُ: خَلَفَهُ، بِمَا يَكْرَهُ.
وَيُقَالُ فِي الْخَيْرِ أَيْضًا. يُقَالُ مِنْهُ: خَلَفَهُ
بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ فِي أَهْلِهِ وقومه
__________
(1). الفيئة (بفتح الفاء وكسرها): الحالة من الرجوع عن الشيء
الذي يكون قد لابسه الإنسان وباشره.
(2). راجع ج 6 ص 122.
(3). في ج: به.
(4). في ب: عملكم.
(7/287)
بَعْدَ شُخُوصِهِ. (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ
رَبِّكُمْ) 150 أَيْ سَبَقْتُمُوهُ. وَالْعَجَلَةُ:
التَّقَدُّمُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَهِيَ
مَذْمُومَةٌ. وَالسُّرْعَةُ: عَمَلُ الشَّيْءِ فِي أَوَّلِ
أَوْقَاتِهِ، وَهِيَ مَحْمُودَةٌ. قَالَ يَعْقُوبُ: يُقَالُ
عَجِلْتُ الشَّيْءَ سَبَقْتُهُ. وَأَعْجَلْتُ الرَّجُلَ
اسْتَعْجَلْتُهُ، أَيْ حَمَلْتُهُ عَلَى الْعَجَلَةِ.
وَمَعْنَى" أَمْرَ رَبِّكُمْ 150" أَيْ مِيعَادُ رَبِّكُمْ،
أَيْ وعد أربعين ليلة. وقيل: أن تَعَجَّلْتُمْ سَخَطَ
رَبِّكُمْ. وَقِيلَ: أَعَجِلْتُمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ
قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمْ أَمْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) 150 فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) 150
أَيْ مِمَّا اعْتَرَاهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْأَسَفِ حِينَ
أَشْرَفَ عَلَى قَوْمِهِ وَهُمْ عَاكِفُونَ عَلَى عِبَادَةِ
الْعِجْلِ، وَعَلَى أَخِيهِ فِي إهمال أمرهم، قال سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ. وَلِهَذَا قِيلَ: لَيْسَ الْخَبَرُ
كَالْمُعَايَنَةِ. وَلَا الْتِفَاتَ لِمَا رُوِيَ عَنْ
قَتَادَةَ إِنْ صَحَّ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنَّ إِلْقَاءَهُ
الْأَلْوَاحَ إِنَّمَا كَانَ لِمَا رَأَى فِيهَا مِنْ
فَضِيلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ولم يكن ذلك لأمته. وهذا قول ردئ يَنْبَغِي أَنْ
يُضَافَ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ، وَأَنَّهُ رُفِعَ مِنْهَا
التَّفْصِيلُ وَبَقِيَ (فِيهَا «1») الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ.
الثَّانِيَةُ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ جُهَّالِ
الْمُتَصَوِّفَةِ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ رَمْيِ الثِّيَابِ
إِذَا اشْتَدَّ طَرَبُهُمْ عَلَى الْمَغْنَى. ثُمَّ مِنْهُمْ
مَنْ يَرْمِي بِهَا صِحَاحًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْرِقُهَا
ثُمَّ يَرْمِي بِهَا. قَالَ: هَؤُلَاءِ فِي غَيْبَةٍ فَلَا
يُلَامُونَ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا غَلَبَ
عَلَيْهِ الْغَمُّ بِعِبَادَةِ قَوْمِهِ الْعِجْلَ، رَمَى
الْأَلْوَاحَ فَكَسَّرَهَا، وَلَمْ يَدْرِ مَا صَنَعَ. قَالَ
أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ: مَنْ يُصَحِّحُ عَنْ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ رَمَاهَا رَمْيَ كَاسِرٍ؟
وَالَّذِي ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ أَلْقَاهَا، فَمِنْ أَيْنَ
لَنَا أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ؟ ثُمَّ لَوْ قِيلَ: تَكَسَّرَتْ
فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّهُ قَصَدَ كَسْرَهَا؟ ثُمَّ لَوْ
صَحَّحْنَا ذَلِكَ عَنْهُ قُلْنَا كَانَ فِي غَيْبَةٍ، حَتَّى
لَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ بَحْرٌ مِنْ نَارٍ لَخَاضَهُ.
وَمَنْ يُصَحِّحُ لِهَؤُلَاءِ غَيْبَتَهُمْ وَهُمْ يَعْرِفُونَ
الْمُغَنِّيَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَحْذَرُونَ مِنْ بِئْرٍ لَوْ
كَانَتْ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ كَيْفَ تُقَاسُ أَحْوَالُ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ.
وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عُقَيْلٍ عَنْ تَوَاجُدِهِمْ وَتَخْرِيقِ
ثِيَابِهِمْ فَقَالَ: خَطَأٌ وَحَرَامٌ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَةِ
الْمَالِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَإِنَّهُمْ لا يعقلون ما
يفعلون. فقال:
__________
(1). من ب.
(7/288)
إِنْ حَضَرُوا هَذِهِ الْأَمْكِنَةَ مَعَ
عِلْمِهِمْ أَنَّ الطَّرَبَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ فَيُزِيلُ
عُقُولَهُمْ أَثِمُوا بِمَا أَدْخَلُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
مِنَ التَّخْرِيقِ وَغَيْرِهِ مِمَّا أَفْسَدُوا، وَلَا
يَسْقُطُ عَنْهُمْ خِطَابُ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُمْ
مُخَاطَبُونَ قَبْلَ الْحُضُورِ بِتَجَنُّبِ هَذَا الْمَوْضِعِ
الَّذِي يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ. كَمَا هُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ
شُرْبِ الْمُسْكِرِ، كَذَلِكَ هَذَا الطَّرَبُ الَّذِي
يُسَمِّيهِ أَهْلُ التَّصَوُّفِ وَجْدًا إِنْ صَدَقُوا أَنَّ
فِيهِ سُكْرَ طَبْعٍ، وَإِنْ كَذَبُوا أَفْسَدُوا مَعَ
الصَّحْوِ، فَلَا سَلَامَةَ فِيهِ مَعَ الْحَالَيْنِ،
وَتَجَنُّبُ مَوَاضِعِ الرِّيَبِ وَاجِبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) 150 أَيْ
بِلِحْيَتِهِ وَذُؤَابَتِهِ. وَكَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ
مُوسَى- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا- بِثَلَاثَ
سِنِينَ، وَأَحَبَّ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ موسى، لأنه
كان لين الغضب. للعلماء فِي أَخْذِ مُوسَى بِرَأْسِ أَخِيهِ
أَرْبَعَ تَأْوِيلَاتٍ الْأَوَّلُ- أَنَّ ذَلِكَ كَانَ
مُتَعَارَفًا عِنْدَهُمْ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ
مِنْ قَبْضِ الرَّجُلِ عَلَى لِحْيَةِ أَخِيهِ وَصَاحِبِهِ
إِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ
الْإِذْلَالِ. الثَّانِي- أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ
لِيُسِرَّ إِلَيْهِ نُزُولَ الْأَلْوَاحِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا
نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمُنَاجَاةِ وَأَرَادَ أَنْ
يُخْفِيَهَا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ التَّوْرَاةِ.
فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا
بِرَأْسِي، لِئَلَّا يُشْتَبَهَ سِرَارُهُ عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ بِإِذْلَالِهِ. الثَّالِثُ- إِنَّمَا فَعَلَ
ذَلِكَ بِهِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ هَارُونَ
مَائِلٌ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا فَعَلُوهُ مِنْ أَمْرِ
الْعِجْلِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ.
الرَّابِعُ- ضَمَّ إِلَيْهِ أَخَاهُ لِيَعْلَمَ مَا لَدَيْهِ،
فَكَرِهَ ذَلِكَ هَارُونُ لِئَلَّا يَظُنَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ
أَنَّهُ أَهَانَهُ، فَبَيَّنَ لَهُ أَخُوهُ أَنَّهُمُ
اسْتَضْعَفُوهُ، يَعْنِي عَبَدَةَ الْعِجْلِ، وَكَادُوا
يَقْتُلُونَهُ أَيْ قَارَبُوا. فَلَمَّا سَمِعَ عُذْرَهُ
قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي، أَيِ اغْفِرْ لِي مَا
كَانَ مِنَ الْغَضَبِ الَّذِي أَلْقَيْتُ مِنْ أَجْلِهِ
الْأَلْوَاحَ، وَلِأَخِي لِأَنَّهُ ظَنَّهُ مُقَصِّرًا فِي
الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ،
أَيِ اغْفِرْ لِأَخِي إِنْ قَصَّرَ. قَالَ الْحَسَنُ: عَبَدَ
كُلُّهُمُ الْعِجْلَ غَيْرَ هَارُونَ، إِذْ لَوْ كَانَ ثَمَّ
مُؤْمِنٌ غَيْرُ مُوسَى وَهَارُونَ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى
قَوْلِهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي، وَلَدَعَا لِذَلِكَ
الْمُؤْمِنِ أَيْضًا. وَقِيلَ: اسْتَغْفَرَ لِنَفْسِهِ مِنْ
فِعْلِهِ بِأَخِيهِ،
(7/289)
فَعَلَ ذَلِكَ لِمَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِ،
إِذْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فَيُعَرِّفُهُ مَا جَرَى لِيَرْجِعَ
فَيَتَلَافَاهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ:" يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ
إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ «1» 20: 93 -
92" الْآيَةَ. فَبَيَّنَ هَارُونُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَقَامَ
خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَتْلِ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ
عَلَى أَنَّ لِمَنْ خَشِيَ الْقَتْلَ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ
تغيير المنكر أن يسكت. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي"
آلِ عِمْرَانَ «2» " ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَفِيهَا دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ لَا يُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ كَمَا
زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
لَمْ يُغَيِّرْ غَضَبُهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ، بَلِ
اطَّرَدَتْ عَلَى مَجْرَاهَا مِنْ إِلْقَاءِ لَوْحٍ وَعِتَابِ
أَخٍ وَصَكِّ مَلَكٍ. الهدوي: لِأَنَّ غَضَبَهُ كَانَ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، وَسُكُوتَهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَوْفًا
أَنْ يَتَحَارَبُوا أَوْ يَتَفَرَّقُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(قالَ ابْنَ أُمَّ) 150 وَكَانَ ابْنَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ.
وَلَكِنَّهَا كَلِمَةُ لِينٍ وَعَطْفٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
قِيلَ كَانَ هَارُونُ أَخَا مُوسَى لأمه لا لأبيه. وقرى
بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، فَمَنْ فَتَحَ جَعَلَ" ابْنَ
أُمَّ 150" اسْمًا وَاحِدًا كَخَمْسَةَ عَشَرَ، فَصَارَ
كَقَوْلِكَ: يَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَقْبِلُوا. وَمَنْ كَسَرَ
الْمِيمَ جعله مضاف إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ حَذَفَ
يَاءَ الْإِضَافَةِ، لِأَنَّ مَبْنَى النِّدَاءِ عَلَى
الْحَذْفِ، وَأَبْقَى الْكَسْرَةَ فِي الْمِيمِ لِتَدُلَّ
عَلَى الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ:" يَا عِبادِ «3» 10". يَدُلُّ
عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ السَّمَيْقَعِ" يَا بن أُمِّي"
بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ
والفراء وأبو عبيد:"ابْنَ أُمَّ 20: 94
" بالفتح، تقديره يا بن أُمَّاهُ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ:
هَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْأَلِفَ خَفِيفَةٌ لَا
تُحْذَفُ، وَلَكِنْ جَعَلَ الِاسْمَيْنِ اسما واحدا. وقال
الأخفش وأبو حاتم:"ابْنَ أُمَّ 20: 94
" بِالْكَسْرِ كَمَا تَقُولُ: يَا غُلَامُ غُلَامِ أَقْبِلْ،
وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ وَالْقِرَاءَةُ بِهَا بَعِيدَةٌ.
وَإِنَّمَا هَذَا فِيمَا يَكُونُ مُضَافًا إِلَيْكَ، فَأَمَّا
الْمُضَافُ إِلَى مُضَافٍ إِلَيْكَ فَالْوَجْهُ أَنْ تقول: يا
غلام غلامي، ويا بن أخي. وجوزوا يا بن أُمَّ، يَا بْنَ عَمَّ،
لِكَثْرَتِهَا فِي الْكَلَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ
وَالنَّحَّاسُ: وَلَكِنْ لَهَا وَجْهٌ حَسَنٌ جَيِّدٌ،
يُجْعَلُ الِابْنُ مَعَ الْأُمِّ وَمَعَ الْعَمِّ اسْمًا
وَاحِدًا، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: يَا خَمْسَةَ عَشَرَ
أَقْبِلُوا، فَحُذِفَتِ الْيَاءُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ يَا
غُلَامِ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي اسْتَذَلُّونِي
وَعَدُّونِي ضَعِيفًا. وَكَادُوا أَيْ قَارَبُوا.
يَقْتُلُونَنِي بِنُونَيْنِ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ.
وَيَجُوزُ الْإِدْغَامُ فِي غَيْرِ «4» الْقُرْآنِ. فَلَا تشمت
بى الأعداء
__________
(1). راجع ج 11 ص 236.
(2). راجع ج 4 ص 47.
(3). راجع ج 15 ص 243.
(4). راجع ج 15 ص 276 ففيه خلاف هذا.
(7/290)
إِنَّ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ
ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ
بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
أَيْ لَا تَسُرُّهُمْ. وَالشَّمَاتَةُ:
السُّرُورُ بِمَا يُصِيبُ أَخَاكَ مِنَ الْمَصَائِبِ فِي
الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ
فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ). وَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ
مِنْهَا وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنْ
سُوءِ الْقَضَاءِ وَدَرْكِ الشَّقَاءِ وَشَمَاتَةِ
الْأَعْدَاءِ). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ
الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ ... كَلَاكِلَهُ
أَنَاخَ بِآخَرِينَا
فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا ... سَيَلْقَى
الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِيَنَا
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ" تَشْمَتُ"
بِالنَّصْبِ فِي التَّاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ،" الْأَعْدَاءُ"
بِالرَّفْعِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَفْعَلْ بِي مَا تَشْمَتُ
مِنْ أَجْلِهِ الْأَعْدَاءُ، أَيْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ
لِفِعْلٍ تَفْعَلُهُ أَنْتَ بِي. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا"
تَشْمَتْ" بِالْفَتْحِ فِيهِمَا" الْأَعْدَاءَ" بِالنَّصْبِ.
قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: الْمَعْنَى فَلَا تَشْمَتْ بِي أَنْتَ
يَا رَبِّ. وَجَازَ هَذَا كَمَا قَالَ:" اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ «1» " وَنَحْوَهُ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمُرَادِ
فَأَضْمَرَ فِعْلًا نَصَبَ بِهِ الْأَعْدَاءَ، كَأَنَّهُ
قَالَ: وَلَا تُشْمِتْ بِيَ، الْأَعْدَاءَ. قَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: وَحَكَيْتُ عَنْ حُمَيْدٍ:" فَلَا تَشْمِتْ"
بِكَسْرِ الْمِيمِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا وَجْهَ لِهَذِهِ
الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ شَمِتَ وَجَبَ أَنْ
يَقُولَ تَشْمَتُ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَشْمَتَ وَجَبَ أَنْ
يَقُولَ تُشْمِتُ. وَقَوْلُهُ: (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) 150 قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الذين
عبدوا العجل. (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا
فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «2») تقدم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 152 الى 153]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ
مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ
نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ
سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ). الْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ
الْعُقُوبَةُ. وذلة في الحيوة الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا
بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: الذلة الجزية.
__________
(1). راجع ج 1 ص 207. [ ..... ]
(2). راجع ج 3 ص 431.
(7/291)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى
وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَمْ
تُؤْخَذْ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ.
ثُمَّ قِيلَ: هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَنْهُ،
وَتَمَّ الْكَلَامُ. ثم قال الله تعالى:" وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُفْتَرِينَ". وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ الْقَوْمُ
بِقَتْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا تَابُوا
وَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ جَرَى الْقَتْلُ
الْعَظِيمُ- كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَقَرَةِ «1» -
أَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَتِيلًا فَهُوَ
شَهِيدٌ، وَمَنْ بَقِيَ حَيًّا فَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ.
وَقِيلَ: كَانَ ثَمَّ طائفة أشربوا في قلوبهم العجل، أحبه، فلم
يتوبوا، فهم المعنيون. بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ) وَقِيلَ: أَرَادَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ
رُجُوعِ مُوسَى مِنَ الْمِيقَاتِ. وَقِيلَ: أَرَادَ
أَوْلَادَهُمْ. وَهُوَ مَا جَرَى عَلَى قُرَيْظَةَ
وَالنَّضِيرِ، أَيْ سَيَنَالُ أَوْلَادَهُمْ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) أَيْ مِثْلَ مَا
فَعَلْنَا بِهَؤُلَاءِ نَفْعَلُ بِالْمُفْتَرِينَ. وَقَالَ
مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: مَا مِنْ
مُبْتَدِعٍ إِلَّا وَتَجِدُ فَوْقَ رَأْسِهِ ذِلَّةٌ، ثُمَّ
قَرَأَ" إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ
غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ"- حَتَّى قَالَ-" وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُفْتَرِينَ" أَيِ الْمُبْتَدِعِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى
أُمِرَ بِذَبْحِ الْعِجْلِ، فَجَرَى مِنْهُ دَمٌ وَبَرَدَهُ
بِالْمِبْرَدِ وَأَلْقَاهُ مَعَ الدَّمِ فِي الْيَمِّ
وَأَمَرَهُمْ بِالشُّرْبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَمَنْ عَبَدَ
ذَلِكَ الْعِجْلَ وَأُشْرِبَهُ «2» ظَهَرَ ذَلِكَ عَلَى
أَطْرَافِ فَمِهِ، فَبِذَلِكَ عرف عبدة العجل قد مَضَى هَذَا
فِي الْبَقَرَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ
اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ التَّائِبِ مِنَ الشرك وغيره. موضع
(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ) أَيِ الْكُفْرُ
وَالْمَعَاصِي. (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) أَيْ مِنْ بَعْدِ
فِعْلِهَا. (وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي من بعد
التوبة لغفور رحيم.
[سورة الأعراف (7): آية 154]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ
وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ
لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ)
أَيْ سَكَنَ. وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ"
سَكَنَ" بِالنُّونِ وَأَصْلُ السُّكُوتِ السُّكُونُ
وَالْإِمْسَاكُ، يقال: جرى الوادي ثلاثا
__________
(1). راجع ج 1 ص 401.
(2). في ك: وشربه. ولعل أصل العبارة: اشربه وظهر. إلخ. راجع ج
2 ص 31.
(7/292)
وَاخْتَارَ مُوسَى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا
أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا
فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ
تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ
وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْغَافِرِينَ (155)
ثُمَّ سَكَنَ، أَيْ أَمْسَكَ عَنِ
الْجَرْيِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَكَتَ مُوسَى عَنِ الْغَضَبِ،
فَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ. كَقَوْلِكَ: أَدْخَلْتُ الْأُصْبُعَ
فِي الْخَاتَمِ وَأَدْخَلْتُ الْخَاتَمَ فِي الْأُصْبُعِ.
وَأَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي، وَأَدْخَلْتُ
رَأْسِي فِي الْقَلَنْسُوَةِ. (أَخَذَ الْأَلْواحَ) الَّتِي
أَلْقَاهَا. (وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ) أَيْ"
هُدىً" مِنَ الضَّلَالَةِ،" وَرَحْمَةٌ" أَيْ مِنَ الْعَذَابِ.
وَالنَّسْخُ: نَقْلُ مَا فِي كِتَابٍ إِلَى كِتَابٍ آخَرَ.
وَيُقَالُ لِلْأَصْلِ الَّذِي كُتِبَتْ مِنْهُ: نُسْخَةٌ،
وَلِلْفَرْعِ نُسْخَةٌ. فَقِيلَ: لَمَّا تَكَسَّرَتِ
الْأَلْوَاحُ صَامَ مُوسَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَرُدَّتْ
عَلَيْهِ وَأُعِيدَتْ لَهُ تِلْكَ الْأَلْوَاحُ فِي
لَوْحَيْنِ، وَلَمْ يَفْقِدْ مِنْهَا شَيْئًا، ذَكَرَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَعَلَى هَذَا" وَفِي
نُسْخَتِهَا" أَيْ وَفِيمَا نُسِخَ مِنَ الْأَلْوَاحِ
الْمُتَكَسِّرَةِ وَنُقِلَ إِلَى الْأَلْوَاحِ الْجَدِيدَةِ
هُدًى وَرَحْمَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: وَفِيمَا بَقِيَ مِنْهَا.
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا سُبُعُهَا،
وَذَهَبَ سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا. وَلَكِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنَ
الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ شي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" وَفِي
نُسْخَتِهَا" أَيْ وَفِيمَا نُسِخَ لَهُ مِنْهَا مِنَ
اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ هُدًى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَفِيمَا
كُتِبَ لَهُ فِيهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى
أَصْلٍ يَنْقُلُ عَنْهُ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: انْسَخْ مَا
يَقُولُ فُلَانٌ، أَيْ أثبته في كتابك. قوله تعالى:
(لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أَيْ يَخَافُونَ.
وَفِي اللَّامِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ
هِيَ زَائِدَةٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ
الْفَرَزْدَقَ يَقُولُ نَقَدْتُ لَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ،
بِمَعْنَى نَقَدْتُهَا. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ أَجْلٍ،
الْمَعْنَى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ أجل ربهم يرهبون رِيَاءَ
وَلَا سُمْعَةَ، عَنِ الْأَخْفَشِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
يَزِيدَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرٍ، الْمَعْنَى:
لِلَّذِينَ هُمْ رَهْبَتُهُمْ لِرَبِّهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا
تَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ حسن دخول اللام، كقول:" إِنْ كُنْتُمْ
لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ «1» ". فَلَمَّا تَقَدَّمَ
الْمَعْمُولُ وَهُوَ الْمَفْعُولُ ضَعُفَ عَمَلُ الْفِعْلِ
فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يَتَعَدَّى.
[سورة الأعراف (7): آية 155]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا
فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ
تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ
وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْغافِرِينَ (155)
__________
(1). راجع ج 9 ص 198.
(7/293)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا) مَفْعُولَانِ،
أَحَدُهُمَا حُذِفَتْ مِنْهُ مِنْ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
مِنَّا الَّذِي اخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً ... وَبِرًّا
إِذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعَازِعُ «1»
وَقَالَ الرَّاعِي يَمْدَحُ رَجُلًا:
اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إِذْ رَثَّتْ خَلَائِقُهُمْ ...
وَاخْتَلَّ «2» مَنْ كَانَ يُرْجَى عِنْدَهُ السُّولُ
يُرِيدُ: اخْتَرْتُكَ مِنَ النَّاسِ. وَأَصْلُ اخْتَارَ
اخْتِيرَ، فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَقَبْلَهَا فَتْحَةٌ
قُلِبَتْ أَلِفًا، نَحْو قَالَ وَبَاعَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أَيْ مَاتُوا.
وَالرَّجْفَةُ فِي اللُّغَةِ الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ.
وَيُرْوَى أَنَّهُمْ زُلْزِلُوا حَتَّى مَاتُوا. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ
وَإِيَّايَ) أَيْ أَمَتَّهُمْ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:"
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ «3» "." وَإِيَّايَ 40" عَطْفٌ.
وَالْمَعْنَى: لَوْ شِئْتَ أَمَتَّنَا مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَخْرُجَ إِلَى الْمِيقَاتِ بِمَحْضَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
حَتَّى لَا يَتَّهِمُونِي. أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ سُفْيَانَ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَبْدٍ عَنْ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُونُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَانْطَلَقَ شَبَّرُ وَشَبِّيرُ-
هُمَا ابْنَا هَارُونَ- فَانْتَهَوْا إِلَى جَبَلٍ فِيهِ
سَرِيرٌ، فَقَامَ عَلَيْهِ هَارُونُ فَقُبِضَ رُوحُهُ.
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالُوا: أَنْتَ
قَتَلْتَهُ، حَسَدْتَنَا «4» عَلَى لِينِهِ وَعَلَى خُلُقِهِ،
أَوْ كَلِمَةٍ نَحْوَهَا، الشَّكُّ مِنْ سُفْيَانَ، فَقَالَ:
كَيْفَ أَقْتُلُهُ وَمَعِيَ ابْنَاهُ! قَالَ: فَاخْتَارُوا
مَنْ شِئْتُمْ، فَاخْتَارُوا مِنْ كُلِّ سِبْطٍ عَشَرَةً.
قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ:" وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ
سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا" فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ،
فَقَالُوا: مَنْ قتلك يا هارون؟ قال: ما قتلني
__________
(1). البيت للفرزدق، كما في شواهد سيبويه. في ديوانه: وخيرا.
(2). اختل: افتقر.
(3). راجع ج 6 ص 28.
(4). في ك: حسدا.
(7/294)
أَحَدٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَوَفَّانِي.
قَالُوا: يَا مُوسَى، مَا تُعْصَى «1». فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ، فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ «2» يَمِينًا
وَشِمَالًا، وَيَقُولُ: (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ
قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ
مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) قال فَأَحْيَاهُمْ
وَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ. وَقِيلَ: أَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ لِقَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً كَمَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ" عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَقَرَةِ
«3». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا أَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْهَوْا مَنْ عَبَدَ
الْعِجْلَ، وَلَمْ يَرْضُوا عِبَادَتَهُ. وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ
السَّبْعُونَ غَيْرُ مَنْ قَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً.
وَقَالَ وَهْبٌ: مَا مَاتُوا، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ مِنَ الْهَيْبَةِ حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَبِينَ
مَفَاصِلُهُمْ، وَخَافَ مُوسَى عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُمْ مَاتُوا
يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا فِي مَعْنَى سَبَبِ
أَخْذِهِمْ بِالرَّجْفَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ
ذَلِكَ. وَمَقْصُودُ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ:"
أَتُهْلِكُنا" الْجَحْدُ، أَيْ لَسْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ. وَهُوَ
كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَإِذَا كَانَ نَفْيًا كَانَ
بِمَعْنَى الْإِيجَابِ، كَمَا قَالَ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى
الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ «4»
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ وَالطَّلَبُ، أَيْ لَا
تُهْلِكْنَا، وَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ. وَالْمُرَادُ
الْقَوْمُ الَّذِينَ مَاتُوا مِنَ الرَّجْفَةِ. وَقَالَ
الْمُبَرِّدُ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِفْهَامِ اسْتِفْهَامُ
اسْتِعْظَامٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تُهْلِكْنَا، وَقَدْ
عَلِمَ مُوسَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا بِذَنْبِ
غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ كَقَوْلِ عِيسَى:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «5» ". وَقِيلَ: الْمُرَادُ
بِالسُّفَهَاءِ السَّبْعُونَ. وَالْمَعْنَى: أَتُهْلِكُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ بِمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءُ فِي
قَوْلِهِمْ" أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً"." إِنْ هِيَ إِلَّا
فِتْنَتُكَ" أَيْ مَا هَذَا إِلَّا اخْتِبَارُكَ
وَامْتِحَانُكَ. وَأَضَافَ الْفِتْنَةَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ وَلَمْ يُضِفْهَا إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ
إِبْرَاهِيمُ:" وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ «6» 80"
فَأَضَافَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ وَالشِّفَاءَ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى: وَقَالَ يُوشَعُ:" وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا
الشَّيْطانُ»
". وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
مِنْ قوله تعالى له:
__________
(1). في ع: ما تقضى.
(2). ع: يتردون.
(3). راجع ج 1 ص 403.
(4). الراح: جمع راحة، وهى الكف.
(5). راجع ج 6 ص 377.
(6). راجع ج 13 ص 110. [ ..... ]
(7). راجع ج 11 ص 12.
(7/295)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا
إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ
بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
" فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ
بَعْدِكَ «1» 20: 85". فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ وَرَأَى
الْعِجْلَ مَنْصُوبًا لِلْعِبَادَةِ وَلَهُ خُوَارٌ قَالَ
(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها) أَيْ
بِالْفِتْنَةِ. (مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) وهذا رد
على القدرية.
[سورة الأعراف (7): آية 156]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا
يُؤْمِنُونَ (156)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا
حَسَنَةً) أَيْ وَفِّقْنَا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي
تَكْتُبُ لَنَا بِهَا الْحَسَنَاتِ. (وَفِي الْآخِرَةِ) 20
أَيْ جَزَاءً عَلَيْهَا. (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أَيْ
تُبْنَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ.
وَالْهَوْدُ: التوبة، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «2».
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ)
أَيِ الْمُسْتَحَقِّينَ لَهُ، أَيْ هَذِهِ الرَّجْفَةُ
وَالصَّاعِقَةُ عَذَابٌ مِنِّي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى" مَنْ أَشاءُ" أَيْ مَنْ أَشَاءُ أَنْ
أُضِلَّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ
شَيْءٍ) عُمُومٌ، أَيْ لَا نِهَايَةَ لَهَا أَيْ مَنْ دَخَلَ
فِيهَا لم تعجز عنه. وقيل: وسعت كل شي مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى
إِنَّ الْبَهِيمَةَ لَهَا رَحْمَةٌ وَعَطْفٌ عَلَى وَلَدِهَا.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: طَمِعَ في هذه الآية كل شي حتى
إبليس فقال: أنا شي، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) فَقَالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى: نَحْنُ مُتَّقُونَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ"
الْآيَةَ. فَخَرَجَتِ الْآيَةُ عَنِ الْعُمُومِ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ. رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ
السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: كتبها الله عز وجل لهذه الأمة.
__________
(1). راجع ج 11 ص 232.
(2). راجع ج 1 ص 423.
(7/296)
الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ
آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ
الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
[سورة الأعراف (7): آية 157]
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا
بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي
أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي
كَثِيرٍ عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ الْحِمْيَرِيِّ: لَمَّا
اخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِ ربه
قال الله تعالى لموسى: أن أَجْعَلُ لَكُمُ الْأَرْضَ مَسْجِدًا
وَطَهُورًا تُصَلُّونَ حَيْثُ أَدْرَكَتْكُمُ الصَّلَاةُ
إِلَّا عِنْدَ مِرْحَاضٍ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ قَبْرٍ،
وَأَجْعَلُ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِكُمْ، وَأَجْعَلُكُمْ
تقرءون التوراة عن ظهر قلوبكم، يقرأها الرَّجُلُ مِنْكُمْ
وَالْمَرْأَةُ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالصَّغِيرُ
وَالْكَبِيرُ. فَقَالَ ذَلِكَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، فَقَالُوا:
لَا نُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ إِلَّا فِي الْكَنَائِسِ، وَلَا
نَسْتَطِيعُ حَمْلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِنَا، وَنُرِيدُ
أَنْ تَكُونَ كَمَا كَانَتْ فِي التَّابُوتِ، وَلَا
نَسْتَطِيعُ أَنْ نقرأ التوراة عن ظهر قلوبنا، ونريد أَنْ
نَقْرَأَهَا إِلَّا نَظَرًا. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ"- إِلَى قَوْلِهِ-"
الْمُفْلِحُونَ". فَجَعَلَهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. فَقَالَ
مُوسَى: يَا رَبِّ، اجْعَلْنِي نَبِيَّهُمْ. فَقَالَ:
نَبِيُّهُمْ مِنْهُمْ. قَالَ: رَبِّ اجْعَلْنِي «1» مِنْهُمْ.
قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَهُمْ. فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ،
أَتَيْتُكَ بِوَفْدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَجَعَلْتَ
وِفَادَتَنَا لِغَيْرِنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:"
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ «2» ". فَرَضِيَ مُوسَى. قَالَ نَوْفٌ:
فَاحْمَدُوا اللَّهَ الَّذِي جَعَلَ وِفَادَةَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ لَكُمْ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا هَذِهِ
الْقِصَّةَ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ قال: حدثنا يحيى بن
أبي عمرو السيباني «3» قَالَ حَدَّثَنِي نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ
«4» إِذَا افْتَتَحَ مَوْعِظَةً قَالَ: أَلَا تَحْمَدُونَ
رَبَّكُمُ الَّذِي حَفِظَ غَيْبَتَكُمْ وَأَخَذَ لَكُمْ بَعْدَ
سَهْمِكُمْ وَجَعَلَ وِفَادَةَ الْقَوْمِ لكم. وذلك أن موسى
عليه السلام
__________
(1). في ج: أخرني حتى تجعلني منهم.
(2). راجع ص 302 من هذا الجزء.
(3). السيبانى في التقريب: بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها
موحدة، وسيبان بطن من حمير. التهذيب.
(4). في ج وز وك وى: قال كان أبو عمرو البكالي إذا افتتح. إلخ
وأبو عمرو كنية نوف ولعله يحدث عن نفسه.
(7/297)
وَفَدَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ
(اللَّهُ «1») لَهُمْ: إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَسْجِدًا حَيْثُمَا صَلَّيْتُمْ فِيهَا تَقَبَّلْتُ
صَلَاتَكُمْ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ من صلى فيمن لَمْ
أَقْبَلْ صَلَاتَهُ الْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ
وَالْمِرْحَاضُ. قَالُوا: لَا، إِلَّا فِي الْكَنِيسَةِ.
قَالَ: وَجَعَلْتُ لَكُمُ التُّرَابَ طَهُورًا إِذَا لَمْ
تَجِدُوا الْمَاءَ. قَالُوا: لَا، إِلَّا بِالْمَاءِ. قَالَ:
وَجَعَلْتُ لَكُمْ حَيْثُمَا صَلَّى الرَّجُلُ فَكَانَ
وَحْدَهُ تَقَبَّلْتُ صَلَاتَهُ. قَالُوا: لَا، إِلَّا فِي
جَمَاعَةٍ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) هَذِهِ
الْأَلْفَاظُ كَمَا ذَكَرْنَا أَخْرَجَتِ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ الَّذِي يَظْهَرُ فِي،
قَوْلِهِ:" فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ" وَخَلَصَتْ
هَذِهِ الْعِدَةُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ
وَغَيْرُهُمَا. وَ" يَتَّبِعُونَ" يَعْنِي فِي شَرْعِهِ
وَدِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ. وَالرَّسُولُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ، فَإِنَّ
الرَّسُولَ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ. وَقُدِّمَ الرَّسُولُ
اهْتِمَامًا بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ، وَإِلَّا فَمَعْنَى
النُّبُوَّةِ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ، وَلِذَلِكَ رَدَّ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَرَاءِ
حِينَ قَالَ: وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَقَالَ لَهُ:
(قُلْ آمَنْتُ بِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) خَرَّجَهُ فِي
الصَّحِيحِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ:" وَبِرَسُولِكَ
الَّذِي أَرْسَلْتَ" تَكْرِيرُ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ مَعْنًى
وَاحِدٌ فَيَكُونُ كَالْحَشْوِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
بِخِلَافِ قَوْلِهِ:" وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ"
فَإِنَّهُمَا لَا تَكْرَارَ فِيهِمَا. وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ
رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا، لِأَنَّ
الرَّسُولَ وَالنَّبِيَّ قَدِ اشْتَرَكَا فِي أَمْرٍ عَامٍّ
وَهُوَ النَّبَأُ، وَافْتَرَقَا فِي أَمْرٍ (خَاصٍّ «2»)
وَهِيَ الرِّسَالَةُ. فَإِذَا قُلْتَ: مُحَمَّدٌ رَسُولٌ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَرَسُولُ
اللَّهِ. وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" الْأُمِّيَّ" هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّةِ
الْأُمِّيَّةِ، الَّتِي هِيَ عَلَى أَصْلِ وِلَادَتِهَا، لَمْ
تَتَعَلَّمِ الْكِتَابَةَ وَلَا قِرَاءَتَهَا، قال ابْنُ «3»
عُزَيْزٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
كَانَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ وَلَا يَحْسُبُ، قال
الله تعالى:" وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ
وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «4» ". وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ
__________
(1). من ج وز وى.
(2). من ك.
(3). من اوب وج وح وز وى. وابن عزيز أو عزير من علماء
المالكية. وفى ل: ابن جرير. وفى ك: ابن العربي.
(4). راجع ج 13 ص 351.
(7/298)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ).
الْحَدِيثَ. وَقِيلَ: نُسِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى، ذَكَرَهُ
النَّحَّاسُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَالْإِنْجِيلِ) رَوَى الْبُخَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ
حَدَّثَنَا هِلَالٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ لَقِيتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ
صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
التَّوْرَاةِ. فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ
فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: (يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا
وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا «1»)، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ،
أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ،
لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ «2» فِي
الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ
وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ
تَعَالَى حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ
يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحَ بِهَا
أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صما، وقلوبا غلقا. (فِي غَيْرِ
الْبُخَارِيِّ «3») قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ لَقِيتُ كَعْبًا
فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَمَا اخْتَلَفَا حَرْفًا، إِلَّا
أَنَّ كَعْبًا قَالَ بِلُغَتِهِ: قُلُوبًا غُلُوفِيًّا
وَآذَانًا صُمُومِيًّا وَأَعْيُنًا عُمُومِيًّا. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَأَظُنُّ هَذَا وَهَمًا أَوْ عُجْمَةً. وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَهَا: قُلُوبًا غُلُوفًا
وَآذَانَا صُمُومًا وَأَعْيُنًا عُمُومِيًّا. قَالَ
الطَّبَرِيُّ: هِيَ لُغَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ. وَزَادَ كَعْبٌ فِي
صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَهِجْرَتُهُ بِطَابَةَ «4»، وَمُلْكُهُ
بِالشَّأْمِ، وَأُمَّتُهُ الْحَامِدُونَ، يَحْمَدُونَ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ مَنْزِلٍ، يُوَضِّئُونَ
أَطْرَافَهُمْ وَيَأْتَزِرُونَ إِلَى أَنْصَافِ سَاقِهِمْ،
رُعَاةُ الشَّمْسِ، يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ حَيْثُمَا
أَدْرَكَتْهُمْ وَلَوْ عَلَى ظَهْرِ الْكُنَاسَةِ «5»،
صَفُّهُمْ فِي الْقِتَالِ مِثْلُ «6» صَفِّهِمْ فِي
الصَّلَاةِ. ثُمَّ قَرَأَ" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ
مَرْصُوصٌ «7» ". الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ)
قَالَ عَطَاءٌ:" يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ" بِخَلْعِ
الْأَنْدَادِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَصِلَةِ
الْأَرْحَامِ." وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ" عبادة الأصنام،
وقطع الأرحام.
__________
(1). راجع ج 14 ص 199.
(2). في ع، هـ: سخاب. بمهملة لغة في صخاب.
(3). من ب وج وك وى. [ ..... ]
(4). طابة: طيبة وهى المدينة المنورة.
(5). كذا في كل الأصول. والكناسة: القمامة ومكانها. والصلاة لا
تجوز على المزبلة. فتأمل.
(6). في ج. كصفهم.
(7). راجع ج 18 ص 81.
(7/299)
السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ
الطَّيِّبَاتِ هِيَ الْمُحَلَّلَاتُ، فَكَأَنَّهُ وَصَفَهَا
بِالطِّيبِ، إِذْ هِيَ لَفْظَةٌ تَتَضَمَّنُ مَدْحًا
وَتَشْرِيفًا. وَبِحَسَبِ هَذَا نَقُولُ فِي الْخَبَائِثِ:
إِنَّهَا الْمُحَرَّمَاتُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْخَبَائِثُ هِيَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَالرِّبَا وَغَيْرُهُ.
وَعَلَى هَذَا حَلَّلَ مَالِكٌ الْمُتَقَذَّرَاتِ
كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالْخَنَافِسِ وَنَحْوَهَا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ
الطَّيِّبَاتِ هِيَ مِنْ جِهَةِ الطَّعْمِ، إِلَّا أَنَّ
اللَّفْظَةَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ عَلَى عُمُومِهَا، لِأَنَّ
عُمُومَهَا بِهَذَا الْوَجْهِ مِنَ الطَّعْمِ يَقْتَضِي
تَحْلِيلَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، بَلْ يَرَاهَا
مُخْتَصَّةً فِيمَا حَلَّلَهُ الشَّرْعُ. وَيَرَى الْخَبَائِثَ
لَفْظًا عَامًّا فِي الْمُحَرَّمَاتِ بِالشَّرْعِ وَفِي
الْمُتَقَذَّرَاتِ، فَيُحَرِّمُ الْعَقَارِبَ وَالْخَنَافِسَ
وَالْوَزَغَ وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى. وَالنَّاسُ عَلَى
هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «1»
هَذَا الْمَعْنَى. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) الإصر: الثقل، قال مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ
وَابْنُ جُبَيْرٍ. وَالْإِصْرُ أَيْضًا: الْعَهْدُ، قال ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ. وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ الْمَعْنَيَيْنِ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ
كَانَ أُخِذَ عَلَيْهِمْ عَهْدٌ أَنْ يَقُومُوا بِأَعْمَالٍ
ثِقَالٍ، فَوُضِعَ عَنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْعَهْدُ وَثِقَلُ تِلْكَ
الْأَعْمَالِ، كَغَسْلِ الْبَوْلِ، وَتَحْلِيلِ الْغَنَائِمِ،
وَمُجَالَسَةِ الْحَائِضِ وَمُؤَاكَلَتِهَا وَمُضَاجَعَتِهَا،
فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ بَوْلٌ
قَرَضَهُ. وَرُوِيَ: جِلْدُ أَحَدِهِمْ. وَإِذَا جَمَعُوا
الْغَنَائِمَ نَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْهَا،
وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَقْرَبُوهَا، إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ «2» الصَّحِيحِ
وَغَيْرِهِ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَغْلالَ
الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) فَالْأَغْلَالُ عِبَارَةٌ
مُسْتَعَارَةٌ لِتِلْكَ الْأَثْقَالِ. وَمِنَ الْأَثْقَالِ
تَرْكُ الِاشْتِغَالِ يَوْمَ السَّبْتِ، فَإِنَّهُ يُرْوَى
أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى يَوْمَ السَّبْتِ
رَجُلًا يَحْمِلُ قَصَبًا فَضَرَبَ عُنُقَهُ. هَذَا قَوْلُ
جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ،
وَإِنَّمَا كَانَ الْقِصَاصُ. وَأُمِرُوا بِقَتْلِ
أَنْفُسِهِمْ عَلَامَةً لِتَوْبَتِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
فَشُبِّهَ ذلك بالأغلال، كما قال الشاعر:
__________
(1). راجع ج 2 ص 207.
(2). من ع.
(7/300)
قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ
الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أُمَّ
مَالِكٍ ... وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ
وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ ... سِوَى
الْعَدْلِ شَيْئًا فَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ
فَشَبَّهَ حُدُودَ الْإِسْلَامِ وَمَوَانِعَهُ عَنِ
التَّخَطِّي إِلَى الْمَحْظُورَاتِ بِالسَّلَاسِلِ
الْمُحِيطَاتِ بِالرِّقَابِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ
أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ لِأَبِي سُفْيَانَ:
اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا ... طُوِّقْتَهَا طَوْقَ
الْحَمَامَهْ
أَيْ لَزِمَكَ عَارُهَا. يُقَالُ: طُوِّقَ فُلَانٌ كَذَا إِذَا
لَزِمَهُ. التَّاسِعَةُ إِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَطَفَ
الْأَغْلَالَ وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى الْإِصْرِ وَهُوَ مُفْرَدٌ،
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِصْرَ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى
الْكَثْرَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ" آصَارَهُمْ"
بِالْجَمْعِ، مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ. فَجَمَعَهُ لِاخْتِلَافِ
ضُرُوبِ الْمَآثِمِ. وَالْبَاقُونَ بِالتَّوْحِيدِ، لِأَنَّهُ
مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ جِنْسِهِ
مَعَ إِفْرَادِ لَفْظِهِ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى
التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِهِ:" وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً
«1» ". وَهَكَذَا كُلَّمَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا
الْمَعْنَى، مِثْلَ" وَعَلى سَمْعِهِمْ «2» "." لا يَرْتَدُّ
إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ «3» " و" مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ «4» ".
كله بمعنى الجمع. العاشرة- قوله تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا
بِهِ وَعَزَّرُوهُ) أَيْ وَقَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ. قَالَ
الْأَخْفَشُ: وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى" وَعَزَرُوهُ"
بِالتَّخْفِيفِ. وَكَذَا" وَعَزَرْتُمُوهُمْ «5» ". يُقَالُ:
عَزَرَهُ يعزره ويعزره. و (النُّورَ) القرآن" الفلاح" الظفر
بالمطلوب. وقد تقدم (هذا «6»).
[سورة الأعراف (7): آية 158]
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(158)
__________
(1). راجع ج 3 ص 430 وج 1 ص 185 و181.
(2). راجع ج 3 ص 430 وج 1 ص 185 و181.
(3). راجع ج 9 ص 377.
(4). راجع ج 16 ص 45.
(5). راجع ج 6 ص 114.
(6). من ج وك.
(7/301)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
ذُكِرَ أَنَّ مُوسَى بَشَّرَ بِهِ، وَأَنَّ
عِيسَى بَشَّرَ بِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ بِنَفْسِهِ"
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً". وَ (كَلِماتِهِ)
كَلِمَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كُتُبُهُ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ والقرآن.
[سورة الأعراف (7): آية 159]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ (159)
أَيْ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْهِدَايَةِ. وَ (يَعْدِلُونَ)
مَعْنَاهُ فِي الْحُكْمِ. وَفِي التَّفْسِيرِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ
قَوْمٌ مِنْ وَرَاءِ الصِّينِ، مِنْ وَرَاءِ نَهَرِ الرَّمْلِ،
يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، آمَنُوا
بِمُحَمَّدٍ وَتَرَكُوا السَّبْتَ، يَسْتَقْبِلُونَ
قِبْلَتَنَا، لَا يَصِلُ إِلَيْنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا
مِنَّا إِلَيْهِمْ أَحَدٌ. فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ
الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مُوسَى كَانَتْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ
يَهْدُونَ بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَكُونُوا
بَيْنَ ظَهَرَانَيْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَخْرَجَهُمُ
اللَّهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ أَرْضِهِ فِي عُزْلَةٍ مِنَ
الْخَلْقِ، فَصَارَ لَهُمْ سَرَبٌ فِي الْأَرْضِ، فَمَشَوْا
فِيهِ سَنَةً وَنِصْفَ سَنَةٍ حَتَّى خَرَجُوا وَرَاءَ
الصِّينِ، فَهُمْ عَلَى الْحَقِّ إِلَى الْآنِ. وَبَيْنَ
النَّاسِ وَبَيْنَهُمْ بَحْرٌ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ
بِسَبَبِهِ. ذَهَبَ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ
فَآمَنُوا بِهِ وَعَلَّمَهُمْ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ
لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ مِكْيَالٌ وَمِيزَانٌ؟ قَالُوا: لَا،
قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ مَعَاشُكُمْ؟ قَالُوا: نَخْرُجُ إِلَى
الْبَرِيَّةِ فَنَزْرَعُ، فَإِذَا حَصَدْنَا وَضَعْنَاهُ
هُنَاكَ، فَإِذَا احْتَاجَ أَحَدُنَا إِلَيْهِ يَأْخُذُ
حَاجَتَهُ. قَالَ: فَأَيْنَ نِسَاؤُكُمْ؟ قَالُوا: فِي
نَاحِيَةٍ مِنَّا، فَإِذَا احْتَاجَ أَحَدُنَا لِزَوْجَتِهِ
صَارَ إِلَيْهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ. قَالَ: فَيَكْذِبُ
أَحَدُكُمْ فِي حَدِيثِهِ؟ قَالُوا: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ
أَحَدُنَا أَخَذَتْهُ لَظًى، إِنَّ النَّارَ تَنْزِلُ
فَتَحْرِقُهُ. قَالَ: فَمَا بَالُ بُيُوتِكُمْ مُسْتَوِيَةٌ؟
قَالُوا لِئَلَّا يَعْلُوَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. قَالَ:
فَمَا بَالُ قُبُورِكُمْ عَلَى أَبْوَابِكُمْ؟ قَالُوا:
لِئَلَّا نَغْفُلَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ. ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الدُّنْيَا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أُنْزِلَ عَلَيْهِ:"
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ «1» " يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. يُعْلِمُهُ أَنَّ الَّذِي أَعْطَيْتُ مُوسَى فِي
قَوْمِهِ أَعْطَيْتُكَ فِي أُمَّتِكَ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ
آمَنُوا بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ تَمَسَّكُوا بِشَرْعِ مُوسَى قَبْلَ نَسْخِهِ،
وَلَمْ يُبَدِّلُوا ولم يقتلوا الأنبياء.
__________
(1). راجع ص 329 من هذا لجزء. تأمل هذا مع كون الآية مدينة
بالإجماع.
(7/302)
وَقَطَّعْنَاهُمُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا
قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا
عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا
ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا
مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
[سورة الأعراف (7): الآيات 160 الى 162]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ
اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا
عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ
وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ
وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا
مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ
رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
أَسْباطاً أُمَماً) 160 عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلَهُمْ أَسْبَاطًا لِيَكُونَ أَمْرُ كُلِّ
سِبْطٍ مَعْرُوفًا مِنْ جِهَةِ رَئِيسِهِمْ، فَيَخِفُّ
الْأَمْرُ عَلَى مُوسَى. وَفِي التَّنْزِيلِ" وَبَعَثْنا
مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً" وَقَدْ تَقَدَّمَ «1».
وَقَوْلُهُ:" اثْنَتَيْ عَشْرَةَ" وَالسِّبْطُ مُذَكَّرٌ
لِأَنَّ بَعْدَهُ" أُمَماً 160"" فَذَهَبَ التَّأْنِيثُ إِلَى
الْأُمَمِ. وَلَوْ قَالَ: اثْنَيْ عَشَرَ لِتَذْكِيرِ
السِّبْطِ جَازَ، عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقِيلَ: أَرَادَ
بِالْأَسْبَاطِ الْقَبَائِلَ وَالْفِرَقَ، فَلِذَلِكَ أَنَّثَ
الْعَدَدَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا عَشْرُ أَبْطُنٍ ... وَأَنْتَ
بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِهَا الْعَشْرِ
فَذَهَبَ بِالْبَطْنِ إِلَى الْقَبِيلَةِ وَالْفَصِيلَةِ،
فَلِذَلِكَ أَنَّثَهَا. وَالْبَطْنُ مُذَكَّرٌ، كَمَا أَنَّ
الْأَسْبَاطَ جَمْعُ مُذَكَّرٍ. الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى
قَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً." أَسْباطاً 160"
بَدَلٌ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ" أُمَماً 160" نَعْتٌ
لِلْأَسْبَاطِ. وَرَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ"
وَقَطَّعْناهُمُ 160" مُخَفَّفًا." أَسْباطاً 160"
الْأَسْبَاطُ فِي وَلَدِ إِسْحَاقَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبَائِلِ
فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَالْأَسْبَاطُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّبَطِ وَهُوَ شَجَرٌ
تَعْلِفُهُ الْإِبِلُ. وقد مضى في البقرة «2» مستوفى. وروى
معمر عن همام بن منبه
__________
(1). راجع ج 6 ص 112. [ ..... ]
(2). راجع ج 2 ص 140.
(7/303)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ
سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ
كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ
قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ
مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا
مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ:" فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا
غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ" قَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ.
وَقِيلَ لَهُمْ:" ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً" فَدَخَلُوا
مُتَوَرِّكِينَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ. بِما كانُوا يَظْلِمُونَ
مَرْفُوعٌ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ وَمَوْضِعُهُ
نَصْبٌ. وَ" مَا" بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ بِظُلْمِهِمْ.
وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ
الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ «1». وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
[سورة الأعراف (7): الآيات 163 الى 164]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ
الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ
حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا
يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ
تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
قوله تعالى: (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) أَيْ عَنْ أَهْلِ
الْقَرْيَةِ، فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِهَا لَمَّا كَانَتْ
مُسْتَقَرًّا لَهُمْ أَوْ سبب اجتماعهم. نظيره" وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها «2» ". وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ
مُعَاذٍ) يَعْنِي أَهْلَ الْعَرْشِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ،
فَرَحًا وَاسْتِبْشَارًا «3» بِقُدُومِهِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ. أَيْ وَاسْأَلِ الْيَهُودَ الَّذِينَ هُمْ جِيرَانُكَ
عَنْ أَخْبَارِ أَسْلَافِهِمْ وَمَا مَسَخَ الله منهم قردة
وخنازير. هذا سُؤَالُ تَقْرِيرٍ وَتَوْبِيخٍ. وَكَانَ ذَلِكَ
عَلَامَةً لِصِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، إِذْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْأُمُورِ
مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ
أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، لِأَنَّا مِنْ سِبْطِ
خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ سِبْطِ إِسْرَائِيلَ وَهُمْ
بِكْرُ»
اللَّهِ، وَمِنْ سِبْطِ مُوسَى كَلِيمِ اللَّهِ، وَمِنْ سِبْطِ
وَلَدِهِ عُزَيْرٍ، فَنَحْنُ مِنْ أَوْلَادِهِمْ. فَقَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ: سَلْهُمْ يَا مُحَمَّدُ
عَنِ الْقَرْيَةِ، أَمَا عَذَّبْتُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وذلك
بتغيير فرع من فروع الشريعة.
__________
(1). راجع ج 1 ص 409.
(2). راجع ج 9 ص 245.
(3). في ج وك وع وهـ: استبشارا به أي بقدومه.
(4). زَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى
إلى إسرائيل أن ولدك بكرى من الولد. راجع ج 6 ص 120.
(7/304)
وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ
الْقَرْيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ
وَالسُّدِّيُّ: هِيَ أَيْلَةُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا
أَنَّهَا مَدْيَنُ بَيْنَ أَيْلَةَ وَالطُّورِ. الزُّهْرِيُّ:
طَبَرِيَّةُ. قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هِيَ سَاحِلٌ
مِنْ سَوَاحِلِ الشَّأْمِ، بَيْنَ مَدْيَنَ وَعَيْنُونَ،
يُقَالُ لَهَا: مَقْنَاةُ. وَكَانَ الْيَهُودُ يَكْتُمُونَ
هَذِهِ الْقِصَّةَ لِمَا فِيهَا مِنَ السُّبَّةِ عَلَيْهِمْ.
(الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) أَيْ كَانَتْ بِقُرْبِ
«1» الْبَحْرِ، تقول: كنت بحضرة الدار أي بقربها. (إذا
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أَيْ يَصِيدُونَ الْحِيتَانَ، وَقَدْ
نُهُوا عَنْهُ، يُقَالُ سَبَتَ الْيَهُودُ، تَرَكُوا الْعَمَلَ
فِي سَبْتِهِمْ. وَسَبَتَ الرَّجُلُ لِلْمَفْعُولِ سُبَاتًا
أَخَذَهُ ذلك، من الْخَرَسِ. وَأَسْبَتَ سَكَنَ فَلَمْ
يَتَحَرَّكْ. وَالْقَوْمُ صَارُوا فِي السَّبْتِ. وَالْيَهُودُ
دَخَلُوا فِي السَّبْتِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْمَعْرُوفُ.
وَهُوَ مِنَ الرَّاحَةِ وَالْقَطْعِ. وَيُجْمَعُ أَسْبُتٌ
وَسُبُوتٌ وَأَسْبَاتٌ. وَفِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ
السَّبْتِ فَأَصَابَهُ بَرَصٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا
نَفْسَهُ). قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّمَ
يَجْمُدُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَإِذَا مَدَدْتَهُ
لِتَسْتَخْرِجَهُ لَمْ يَجْرِ وَعَادَ بَرَصًا. وَقِرَاءَةُ
الْجَمَاعَةُ" يَعْدُونَ". وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ"
يُعِدُّونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَشَدِّ
الدَّالِ. الْأُولَى مِنَ الِاعْتِدَاءِ وَالثَّانِيَةُ مِنَ
الْإِعْدَادِ، أي يهيئو الْآلَةَ لِأَخْذِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ
السَّمَيْقَعِ" فِي الْأَسْبَاتِ" عَلَى جَمْعِ السَّبْتِ."
(إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ) " وقرى"
أَسْبَاتِهِمْ". شُرَّعًا أَيْ شَوَارِعَ ظَاهِرَةً عَلَى
الْمَاءِ كَثِيرَةً. وَقَالَ اللَّيْثُ: حِيتَانٌ شُرَّعٌ
رَافِعَةٌ رُءُوسَهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ حِيتَانَ
الْبَحْرِ كَانَتْ تَرِدُ يَوْمَ السَّبْتِ عُنُقًا «2» مِنَ
الْبَحْرِ فَتُزَاحِمُ أَيْلَةَ. أَلْهَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّهَا لَا تُصَادُ يَوْمَ السَّبْتِ، لِنَهْيِهِ تَعَالَى
الْيَهُودَ عَنْ صَيْدِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ
تَشْرَعُ عَلَى أَبْوَابِهِمْ، كَالْكِبَاشِ الْبِيضِ رافعة
رءوسها. حكاه بعض المتأخرين، فتعدوا فَأَخَذُوهَا فِي
السَّبْتِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَحَدِ،
وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. (وَيَوْمَ لَا
يَسْبِتُونَ) أَيْ لَا يَفْعَلُونَ السَّبْتَ، يُقَالُ: سَبَتَ
يَسْبِتُ إِذَا عَظَّمَ السَّبْتَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ"
يُسْبِتُونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ يَدْخُلُونَ فِي
السَّبْتِ، كَمَا يُقَالُ: أَجْمَعْنَا وَأَظْهَرْنَا
وَأَشْهَرْنَا، أَيْ دَخَلْنَا فِي الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ
وَالشَّهْرِ. لَا تَأْتِيهِمْ أي حيتانهم. كذلك نبلوهم أي نشدد
__________
(1). حاضرة البحر فيه معنى التعظيم. قال أبو حيان في البحر:
يحتمل أن يريد معنى الحاضرة عل جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة
في قرى البحر إلخ.
(2). أي طوائف يقال: جاء القوم عنقا عنقا، أي قطيعا قطيعا.
(7/305)
عَلَيْهِمْ فِي الْعِبَادَةِ
وَنَخْتَبِرُهُمْ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نصب. (بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ) أي بفسقهم. وسيل الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ:
هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْحَلَالُ لَا يَأْتِيكَ
إِلَّا قُوتًا، وَالْحَرَامُ يَأْتِيكَ جَزْفًا جَزْفًا؟
قَالَ: نَعَمْ، فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَأَيْلَةُ" إِذْ
تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ
لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ". وَرُوِيَ فِي قَصَصِ هَذِهِ
الْآيَةِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ:
إِنَّمَا نُهِيتُمْ عَنْ أَخْذِهَا يَوْمَ السَّبْتِ،
فَاتَّخِذُوا الْحِيَاضَ، فَكَانُوا يَسُوقُونَ الْحِيتَانَ
إِلَيْهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَتَبْقَى فِيهَا، فَلَا
يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ مِنْهَا لِقِلَّةِ الْمَاءِ،
فَيَأْخُذُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ
مَالِكٍ قَالَ: زَعَمَ ابْنُ رُومَانَ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَأْخُذُ الرَّجُلُ خَيْطًا وَيَضَعُ فِيهِ وَهْقَةً «1»،
وَأَلْقَاهَا فِي ذَنَبِ الْحُوتِ، وَفِي الطَّرَفِ الْآخَرِ
مِنَ الْخَيْطِ وَتَدٌ وَتَرَكَهُ كَذَلِكَ إِلَى الْأَحَدِ،
ثُمَّ تَطَرَّقَ النَّاسُ حِينَ رَأَوْا مَنْ صَنَعَ هَذَا لَا
يُبْتَلَى حَتَّى كَثُرَ صَيْدُ الْحُوتِ، وَمُشِيَ بِهِ فِي
الْأَسْوَاقِ، وَأَعْلَنَ الْفَسَقَةُ بِصَيْدِهِ، فَقَامَتْ
فِرْقَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَهَتْ، وَجَاهَرَتْ
بِالنَّهْيِ وَاعْتَزَلَتْ. وَقِيلَ «2»: إِنَّ النَّاهِينَ
قَالُوا: لَا نُسَاكِنُكُمْ، فَقَسَمُوا الْقَرْيَةَ
بِجِدَارٍ. فَأَصْبَحَ النَّاهُونَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي
مَجَالِسِهِمْ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْمُعْتَدِينَ أَحَدٌ،
فَقَالُوا: إِنَّ لِلنَّاسِ لَشَأْنًا، فَعَلَوْا عَلَى
الْجِدَارِ فَنَظَرُوا فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ، فَفَتَحُوا
الْبَابَ وَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ، فَعَرَفَتِ الْقِرَدَةُ
أَنْسَابَهَا مِنَ الْإِنْسِ، وَلَمْ تَعْرِفِ الْإِنْسُ
أَنْسَابَهُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ، فَجَعَلَتِ الْقِرَدَةُ
تَأْتِي نَسِيبَهَا مِنَ الْإِنْسِ فَتَشُمُّ ثِيَابَهُ
وَتَبْكِي، فَيَقُولُ: أَلَمْ نَنْهَكُمْ! فَتَقُولُ
بِرَأْسِهَا نَعَمْ. قَالَ قَتَادَةُ: صَارَ الشُّبَّانُ
قِرَدَةً وَالشُّيُوخُ خَنَازِيرَ، فَمَا نَجَا إِلَّا
الَّذِينَ نَهَوْا وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ. فَعَلَى هَذَا
الْقَوْلِ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ تَفْتَرِقْ إِلَّا
فِرْقَتَيْنِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً
اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً)
أَيْ قَالَ الْفَاعِلُونَ لِلْوَاعِظِينَ حِينَ وَعَظُوهُمْ:
إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ مُهْلِكُنَا فَلِمَ
تَعِظُونَنَا؟ فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً. (قَالُوا
مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أَيْ
قَالَ الْوَاعِظُونَ: مَوْعِظَتُنَا إِيَّاكُمْ مَعْذِرَةً
(إِلَى «3» رَبِّكُمْ)، أَيْ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا أن
نعظكم لعلكم تتقون. أسند
__________
(1). الوهق (بالتحريك وتسكن الهاء): الحبل في طرفيه أنشوطة
يطرح في عنق الدابة والإنسان حتى تؤخذ. والأنشوطة: عقدة يسهل
انحلالها، إذا أخذ بأحد طرفيها انفتحت كعقدة التكة.
(2). في ب وج وع وى: ويقال.
(3). من ب وج وك وى.
(7/306)
هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ
الْكَلْبِيِّ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ بَنِي
إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ ثَلَاثَ فِرَقٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ
مِنَ الضَّمَائِرِ فِي الْآيَةِ. فرقة عصمت وَصَادَتْ،
وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا. وَفِرْقَةٌ
اعْتَزَلَتْ وَلَمْ تَنْهَ وَلَمْ تَعْصِ، وَأَنَّ هَذِهِ
الطَّائِفَةَ قَالَتْ لِلنَّاهِيَةِ: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا-
تُرِيدُ الْعَاصِيَةَ- اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ
مُعَذِّبُهُمْ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَمَا عُهِدَ مِنْ
فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَئِذٍ بِالْأُمَمِ الْعَاصِيَةِ.
فَقَالَتِ النَّاهِيَةُ: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةً إِلَى
اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. وَلَوْ كَانُوا فِرْقَتَيْنِ
لَقَالَتِ النَّاهِيَةُ لِلْعَاصِيَةِ: وَلَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ، بِالْكَافِ. ثُمَّ اخْتُلِفَ بَعْدَ هَذَا،
فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي لَمْ تَنْهَ
وَلَمْ تَعْصِ هَلَكَتْ مَعَ الْعَاصِيَةِ عُقُوبَةً عَلَى
تَرْكِ النَّهْيِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَيْضًا:
مَا أَدْرِي مَا فُعِلَ بِهِمْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ
الْآيَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا
قَالَ مَا أَدْرِي مَا فُعِلَ بِهِمْ: أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ
قَدْ كَرِهُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفُوهُمْ فَقَالُوا:
لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ؟ فَلَمْ أَزَلْ
بِهِ حتى عرفته أنهم قد نحوا، فَكَسَانِي حُلَّةً. وَهَذَا
مَذْهَبُ الْحَسَنِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا
هَلَكَتِ الْفِرْقَةُ الْعَادِيَةُ لَا غَيْرَ قَوْلُهُ:"
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا". وَقَوْلُهُ:" وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ"
الْآيَةَ. وَقَرَأَ عِيسَى وَطَلْحَةُ" مَعْذِرَةً"
بِالنَّصْبِ. وَنَصْبُهُ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ مِنْ
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْمَصْدَرِ. وَالثَّانِي عَلَى
تَقْدِيرِ فَعَلْنَا ذَلِكَ مَعْذِرَةً. وَهِيَ قِرَاءَةُ
حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ: وَهُوَ
الِاخْتِيَارُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَعْتَذِرُوا
اعْتِذَارًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ أَمْرٍ لِيمُوا عَلَيْهِ،
وَلَكِنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: لِمَ تَعِظُونَ؟ فَقَالُوا:
مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةً. وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ:
مَعْذِرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ مِنْ كَذَا، يُرِيدُ
اعْتِذَارًا، لَنَصَبَ. هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَدَلَّتِ
الْآيَةُ عَلَى الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ. وَقَدْ مَضَى
فِي (الْبَقَرَةِ). وَمَضَى فِيهَا الْكَلَامُ فِي
الْمَمْسُوخِ هَلْ يَنْسُلُ أَمْ لَا، مُبَيَّنًا «1».
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَمَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ" وَ"
الْمَائِدَةِ" الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ
الْمُنْكَرِ «2». وَمَضَى فِي (النساء «3») اعتزال أهل الفساد
ومجانبتم، وَأَنَّ مَنْ جَالَسَهُمْ كَانَ مِثْلَهُمْ، فَلَا
مَعْنَى للإعادة.
__________
(1). راجع ج 1 ص 439 فما بعد.
(2). راجع ج 4 ص 46 وج 6 ص 253.
(3). راجع ج 5 ص 417 فما بعد.
(7/307)
فَلَمَّا نَسُوا مَا
ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ
السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
[سورة الأعراف (7): آية 165]
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ
يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا
بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165)
وَالنِّسْيَانُ يُطْلَقُ عَلَى السَّاهِي. وَالْعَامِدُ:
التَّارِكُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا
ذُكِّرُوا بِهِ) أَيْ تَرَكُوهُ عَنْ قَصْدٍ، وَمِنْهُ" نَسُوا
اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «1» ". وَمَعْنَى (بِعَذابٍ بَئِيسٍ)
أَيْ شَدِيدٍ. وَفِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ قِرَاءَةً: الْأُولَى-
قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ" بَئِيسٍ"
عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. الثَّانِيَةُ- قِرَاءَةُ أَهْلِ
مَكَّةَ" بِئِيسٍ" بِكَسْرِ الْبَاءِ وَالْوَزْنِ وَاحِدٌ.
وَالثَّالِثَةُ- قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ" بِيسٍ"
الْبَاءُ مَكْسُورَةٌ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا
سِينٌ مَكْسُورَةٌ مُنَوَّنَةٌ، وَفِيهَا «2» قَوْلَانِ. قَالَ
الكسائي: الأصل فيه" بئيس" خَفِيفَةُ الْهَمْزَةِ، فَالْتَقَتْ
يَاءَانِ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا وَكُسِرَ أَوَّلُهُ: كَمَا
يُقَالُ: رَغِيفٌ وَشَهِيدٌ. وَقِيلَ: أَرَادَ" بَئِسَ" عَلَى
وَزْنِ فَعِلَ، فَكَسَرَ أَوَّلَهُ وَخَفَّفَ الْهَمْزَةَ
وَحَذَفَ الْكَسْرَةَ، كَمَا يُقَالُ: رَحِمَ وَرِحْمَ.
الرَّابِعَةُ- قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، الْبَاءُ مَكْسُورَةٌ
بَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا سِينٌ مَفْتُوحَةٌ.
الْخَامِسَةُ- قَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ"
بَئِسٍ" الْبَاءُ مَفْتُوحَةٌ وَالْهَمْزَةُ مَكْسُورَةٌ
وَالسِّينُ مَكْسُورَةٌ مُنَوَّنَةٌ. السَّادِسَةُ- قَالَ
يَعْقُوبُ الْقَارِئُ: وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ"
بِعَذَابٍ بَئِسَ" الْبَاءُ مَفْتُوحَةٌ وَالْهَمْزَةُ
مَكْسُورَةٌ وَالسِّينُ مَفْتُوحَةٌ. السَّابِعَةُ- قراءة
الأعمش" بئيس" عَلَى وَزْنِ فَيْعَلٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ"
بَيْأَسٍ" عَلَى وَزْنٍ فَيْعَلٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ" بَئِّسٍ"
بِبَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَهَمْزَةٍ مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ،
وَالسِّينُ فِي كُلِّهِ مَكْسُورَةٌ مُنَوَّنَةٌ، أَعْنِي
قِرَاءَةَ الْأَعْمَشِ. الْعَاشِرَةُ- قِرَاءَةُ نَصْرِ بْنِ
عَاصِمٍ «3» " بِعَذَابٍ بَيِّسٍ" الْبَاءُ مَفْتُوحَةٌ
وَالْيَاءُ مُشَدَّدَةٌ بِغَيْرِ هَمْزٍ. قَالَ يَعْقُوبُ
الْقَارِئُ: وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ" بِئْيَسٍ"
الْبَاءُ مَكْسُورَةٌ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا
يَاءٌ مَفْتُوحَةٌ. فَهَذِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ قِرَاءَةً
ذَكَرَهَا النَّحَّاسُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ:
الْعَرَبُ تَقُولُ جَاءَ بِبَنَاتٍ بِيسٍ أَيْ بشيء ردئ.
فمعنى" بعذاب بيس" بعذاب ردئ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ
فَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهَا، قَالَ:
لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ بِئْسَ، حَتَّى
يُقَالَ: بِئْسَ الرَّجُلُ، أَوْ بِئْسَ رَجُلًا. قَالَ
النَّحَّاسُ: وَهَذَا مَرْدُودٌ من
__________
(1). راجع ج 8 ص 199. [ ..... ]
(2). في ج: وقيل فيها قولان.
(3). نصر بن عاصم الليثي البصري.
(7/308)
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ
مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ
(166)
كَلَامِ أَبِي حَاتِمٍ، حَكَى
النَّحْوِيُّونَ: إِنْ فَعَلْتَ كذا وكذا فبها ونعمت. يريدون
فيها وَنِعْمَتِ الْخَصْلَةُ. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ
الْحَسَنِ: بِعِذَابٍ بئس العذاب.
[سورة الأعراف (7): آية 166]
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ
كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ)
أَيْ فَلَمَّا تَجَاوَزُوا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. (قُلْنَا
لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) يُقَالُ: خَسَأْتُهُ
فَخَسَأَ، أَيْ بَاعَدْتُهُ وَطَرَدْتُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي الْبَقَرَةِ «1». وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبُ
«2» النِّقْمَةِ: وَهَذَا لَا خَفَاءَ بِهِ. فَقِيلَ: قَالَ
لَهُمْ ذَلِكَ بِكَلَامٍ يُسْمَعُ، فكانوا كذلك. وقيل: المعنى
كوناهم قردة.
[سورة الأعراف (7): آية 167]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى
يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ
رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(167)
أَيْ أَعْلَمَ أَسْلَافَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ غَيَّرُوا وَلَمْ
يُؤْمِنُوا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ بَعَثَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مَنْ يُعَذِّبُهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ:"
آذَنَ" بِالْمَدِّ، أَعْلَمَ. وَ" أَذَّنَ" بِالتَّشْدِيدِ،
نَادَى. وَقَالَ قَوْمٌ: آذَنَ وَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَعْلَمَ،
كَمَا يُقَالُ: أَيْقَنَ وَتَيَقَّنَ. قَالَ زُهَيْرٌ:
فقلت تعلم إن للصيد غرة ... فإلا تضعيها فَإِنَّكَ قَاتِلُهُ
وَقَالَ آخَرُ:
تَعَلَّمْ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ حَيٌّ ... يُنَادَى فِي
شِعَارِهِمْ يَسَارُ
أَيِ اعْلَمْ «3». وَمَعْنَى" يَسُومُهُمْ" يُذِيقُهُمْ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (البقرة «4»). قيل: المراد بخت نصر.
وَقِيلَ: الْعَرَبُ. وَقِيلَ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَظْهَرُ، فَإِنَّهُمُ
الْبَاقُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" سُوءَ الْعَذابِ" هُنَا أَخْذُ
الْجِزْيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فقد
__________
(1). راجع ج 1 ص 443.
(2). في ع: تسبب.
(3). قال أبو حيان في البحر: أجرى مجرى فعل القسم ولذلك أجيب
بما يجاب به القسم. وكذا قال الزمخشري.
(4). راجع ج 1 ص 384.
(7/309)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي
الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ
ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
مُسِخُوا، فَكَيْفَ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ
الْجِزْيَةُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ
أَبْنَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَهُمْ أَذَلُّ قَوْمٍ، وَهُمُ
الْيَهُودُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ" سُوءَ الْعَذابِ"
قَالَ: الْخَرَاجُ، وَلَمْ يَجْبُ نَبِيٌّ قَطُّ الْخَرَاجَ،
إِلَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ
الْخَرَاجَ، فَجَبَاهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثم أمسك،
ونبينا عليه السلام.
[سورة الأعراف (7): آية 168]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ
وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ
وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً)
أَيْ فَرَّقْنَاهُمْ فِي الْبِلَادِ. أَرَادَ بِهِ تَشْتِيتَ
أَمْرِهِمْ، فَلَمْ تُجْمَعْ لَهُمْ كَلِمَةٌ. (مِنْهُمُ
الصَّالِحُونَ) رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالْمُرَادُ مَنْ
آمَنَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السلام. ومن لم يبدل منهم ومات
نَسْخِ شَرْعِ مُوسَى. أَوْ هُمُ الَّذِينَ وَرَاءَ الصِّينِ،
كَمَا سَبَقَ. (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) مَنْصُوبٌ عَلَى
الظَّرْفِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا
رَفَعَهُ. وَالْمُرَادُ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ.
(وَبَلَوْناهُمْ) أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ. (بِالْحَسَناتِ) أَيْ
بِالْخِصْبِ وَالْعَافِيَةِ. (وَالسَّيِّئاتِ) أَيِ الْجَدْبُ
والشدائد. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ليرجعوا عن كفرهم.
[سورة الأعراف (7): آية 169]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ
لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ
يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا
عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ
وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (169)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) يَعْنِي
أَوْلَادَ الَّذِينَ فَرَّقَهُمْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ أَبُو
حَاتِمٍ:" الْخَلْفُ" بِسُكُونِ اللَّامِ: الْأَوْلَادُ
الْوَاحِدُ وَالْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَ" الْخَلَفُ"
بِفَتْحِ اللَّامِ الْبَدَلُ، وَلَدًا كَانَ أَوْ غَرِيبًا.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:" الْخَلَفُ" بِالْفَتْحِ
الصَّالِحُ، وَبِالْجَزْمِ الطَّالِحُ. قَالَ لَبِيدٍ:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي
خَلْفٍ كَجِلْدِ الأجرب
(7/310)
وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّدِيءِ مِنَ
الْكَلَامِ: خَلْفٌ. وَمِنْهُ الْمَثَلُ السَّائِرُ" سَكَتَ
أَلْفًا وَنَطَقَ خَلْفًا". فَخَلْفٌ فِي الذَّمِّ
بِالْإِسْكَانِ، وَخَلَفٌ بِالْفَتْحِ فِي الْمَدْحِ. هَذَا
هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ الْمَشْهُورُ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ
خَلَفٍ عُدُولُهُ". وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلُ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ. قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
لَنَا القدم الأولى إليك وخلقنا ... لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ
اللَّهِ تَابِعُ
وَقَالَ آخَرُ:
إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... أَغْلَقَ
عَنَّا بَابَهُ ثُمَّ حَلَفْ «1»
لَا يُدْخِلُ الْبَوَّابُ إِلَّا مَنْ عَرَفْ ... عَبْدًا
إِذَا مَا نَاءَ بِالْحَمْلِ وَقَفْ
وَيُرْوَى: خَضَفَ، أَيْ رَدَمَ «2». وَالْمَقْصُودُ مِنَ
الْآيَةِ الذَّمُّ. (وَرِثُوا الْكِتابَ) قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَرِثُوا كِتَابَ اللَّهِ
فَقَرَءُوهُ وَعَلِمُوهُ، وَخَالَفُوا حُكْمَهُ وَأَتَوْا
مَحَارِمَهُ مَعَ دِرَاسَتِهِمْ لَهُ. فَكَانَ هَذَا
تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا. يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا
الْأَدْنَى ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَا
يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ
وَنَهَمِهِمْ. (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) وَهُمْ لَا
يَتُوبُونَ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)
وَالْعَرَضُ: مَتَاعُ الدُّنْيَا، بِفَتْحِ الرَّاءِ.
وَبِإِسْكَانِهَا مَا كَانَ مِنَ الْمَالِ سِوَى الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ. وَالْإِشَارَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى
الرِّشَا وَالْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ. ثُمَّ ذَمَّهُمْ
باغترارهم في قولهم (سَيُغْفَرُ لَنا) وَأَنَّهُمْ بِحَالٍ
إِذَا أَمْكَنَتْهُمْ ثَانِيَةً ارْتَكَبُوهَا، فَقَطَعُوا
بِاغْتِرَارِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَهُمْ مُصِرُّونَ،
وَإِنَّمَا يَقُولُ سَيُغْفَرُ لَنَا مَنْ أَقْلَعَ وَنَدِمَ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْوَصْفُ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى
بِهِ هَؤُلَاءِ مَوْجُودٌ فِينَا. أَسْنَدَ الدَّارِمِيُّ
أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جَابِرٍ عَنْ
شَيْخٍ يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو عن معاذ
__________
(1). كذا وردت هذه الأبيات في الأصول. والذي في اللسان" مادة
خضف".
إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... عَبْدًا إِذَا
ما ناء بالحمل خضف
أَغْلَقَ عَنَّا بَابَهُ ثُمَّ حَلَفْ ... لَا يُدْخِلُ البواب
إلا من عرف
(2). الردم: الضراط.
(7/311)
بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
سَيَبْلَى الْقُرْآنُ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ كَمَا يَبْلَى
الثَّوْبُ فَيَتَهَافَتُ، يَقْرَءُونَهُ لَا يَجِدُونَ لَهُ
شَهْوَةً وَلَا لَذَّةً، يَلْبَسُونَ جُلُودَ الضَّأْنِ عَلَى
قُلُوبِ الذِّئَابِ، أَعْمَالُهُمْ طَمَعٌ لَا يُخَالِطُهُ
خَوْفٌ، إِنْ قَصَّرُوا قَالُوا سَنَبْلُغُ، وَإِنْ أَسَاءُوا
قَالُوا سَيُغْفَرُ لَنَا، إِنَّا لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ
شَيْئًا. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي" يَأْتِهِمْ"
لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ، أَيْ وَإِنْ يَأْتِ يَهُودَ يَثْرِبَ
الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ كَمَا
أَخَذَهُ أَسْلَافُهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يُؤْخَذْ
عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ. الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ
يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) يُرِيدُ التَّوْرَاةَ.
وَهَذَا تَشْدِيدٌ فِي لُزُومِ قَوْلِ الْحَقِّ فِي الشَّرْعِ
وَالْأَحْكَامِ، وَأَلَّا يَمِيلَ الْحُكَّامُ بِالرِّشَا
إِلَى الْبَاطِلِ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي لَزِمَ هَؤُلَاءِ
وَأُخِذَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْمِيثَاقُ فِي قَوْلِ الْحَقِّ،
لَازِمٌ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابِ رَبِّنَا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ فِي (النِّسَاءِ «1»). وَلَا خِلَافَ فِيهِ فِي
جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَالْحَمْدُ لله. الثانية- قوله تعالى:
(وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) أَيْ قَرَءُوهُ، وَهُمْ قَرِيبُو عهد
به. وقرا أبو عبد الرحمن وادرسوا مَا فِيهِ فَأُدْغِمَ «2»
التَّاءُ فِي الدَّالِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ يَأْتِيهِمُ
الْمُحِقُّ بِرِشْوَةٍ فَيُخْرِجُونَ لَهُ كِتَابَ اللَّهِ
فَيَحْكُمُونَ لَهُ بِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْمُبْطِلُ أَخَذُوا
مِنْهُ الرِّشْوَةَ وَأَخْرَجُوا لَهُ كِتَابَهُمُ الَّذِي
كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ وَحَكَمُوا لَهُ. وَقَالَ ابن عباس:"
أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ" وَقَدْ
قَالُوا الْبَاطِلَ فِي غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمُ الَّذِي
يُوجِبُونَهُ وَيَقْطَعُونَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
يَعْنِي فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي يَحْكُمُونَ بِهَا، كَمَا
ذَكَرْنَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ مَعْنَى"
وَدَرَسُوا مَا فِيهِ" أَيْ مَحَوْهُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ
وَالْفَهْمِ لَهُ، مِنْ قَوْلِكَ: دَرَسَتِ الرِّيحُ
الْآثَارَ، إِذَا مَحَتْهَا. وَخَطٌّ دَارِسٌ وَرَبْعٌ
دَارِسٌ، إِذَا امَّحَى وَعَفَا أَثَرُهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى
مُوَاطِئٌ- أَيْ مُوَافِقٌ- لقوله
__________
(1). راجع ج 6 ص 7 فما بعدها.
(2). كذا في الأصول، والعبارة كما في البحر: أصله تدارسوا، أي
فأدغم.
(7/312)
وَالَّذِينَ
يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا
الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ
وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا
مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ
مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا
إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً
مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ
(173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (174)
تَعَالَى:" نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ «1» 10"
الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ:" فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ «2» ".
حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي (البقرة).
[سورة الأعراف (7): آية 170]
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ
إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ
170" أَيْ بِالتَّوْرَاةِ، أَيْ بِالْعَمَلِ بِهَا، يُقَالُ:
مَسَّكَ بِهِ وَتَمَسَّكَ بِهِ أَيِ اسْتَمْسَكَ بِهِ.
وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي
بَكْرٍ" يُمْسِكُونَ" بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَمْسَكَ يُمْسِكُ.
وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَوْلَى، لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى
التَّكْرِيرِ وَالتَّكْثِيرِ لِلتَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى وَبِدِينِهِ فَبِذَلِكَ يُمْدَحُونَ. فَالتَّمَسُّكُ
بِكِتَابِ اللَّهِ وَالدِّينِ يَحْتَاجُ إِلَى الْمُلَازَمَةِ
وَالتَّكْرِيرُ لِفِعْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ
زُهَيْرٍ:
فَمَا تَمَسَّكَ بِالْعَهْدِ الَّذِي زَعَمْتَ ... إِلَّا
كَمَا تُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ
فَجَاءَ بِهِ عَلَى طَبْعِهِ يذم بكثرة نقض العهد.
[سورة الأعراف (7): آية 171]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ
وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ
بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
قَوْلُهُ تَعَالَى (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) " نَتَقْنَا"
مَعْنَاهُ رَفَعْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي
الْبَقَرَةِ." كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ" أَيْ كَأَنَّهُ
لِارْتِفَاعِهِ سَحَابَةٌ تُظِلُّ." خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ
بِقُوَّةٍ" أَيْ بِجِدٍّ. وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ «3»
إلى آخر الآية.
[سورة الأعراف (7): الآيات 172 الى 174]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ (172) أَوْ
تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا
ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ
الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ
وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
__________
(1). راجع ج 2 ص 41.
(2). راجع ج 4 ص 304.
(3). راجع ج 1 ص 436.
(7/313)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) أَيْ وَاذْكُرْ
لَهُمْ مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ تَذْكِيرِ الْمَوَاثِيقِ فِي
كِتَابِهِمْ مَا أَخَذْتُ مِنَ الْمَوَاثِيقِ مِنَ الْعِبَادِ
يَوْمَ الذَّرِّ. وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ وَقَدْ تَكَلَّمَ
الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهَا وَأَحْكَامِهَا، فَنَذْكُرُ مَا
ذَكَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ حَسَبَ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ فَقَالَ
قَوْمٌ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ
مِنْ ظُهُورِ بني آدم بعضهم من بعض. قالوا: معنى" أَشْهَدَهُمْ
عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" دَلَّهُمْ بِخَلْقِهِ
عَلَى توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرور أَنَّ لَهُ رَبًّا
وَاحِدًا." أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" أَيْ قَالَ. فَقَامَ ذَلِكَ
مَقَامَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِقْرَارِ مِنْهُمْ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ:" قالَتا
أَتَيْنا طائِعِينَ «1» ". ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَفَّالُ
وَأَطْنَبَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْرَجَ
الْأَرْوَاحَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَادِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ
فِيهَا مِنَ الْمَعْرِفَةِ مَا عَلِمَتْ بِهِ مَا خَاطَبَهَا.
قُلْتُ: وَفِي الحديث عن النبي صلى الله عيلة وَسَلَّمَ غَيْرَ
هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ
الْأَشْبَاحَ فِيهَا الْأَرْوَاحُ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ
الْآيَةِ" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا
يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ"
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْهَا،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ
بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ
هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ
ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ
__________
(1). راجع ج 15 ص 344. [ ..... ]
(7/314)
هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعلمون ثُمَّ
مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ
خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ
يَعْمَلُونَ". فَقَالَ رَجُلٌ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ
اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ
عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلُهُ
الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ
بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ
أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ النَّارَ".
قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعُ الْإِسْنَادِ،
لِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ. وَقَالَ
فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَا «1»
يُعْرَفُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ،
ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ، وَنُعَيْمٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِحَمْلِ
الْعِلْمِ. لَكِنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ صَحَّ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ
ثَابِتَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَغَيْرِهِمْ. رَوَى
التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:" لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ
مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا (مِنْ
ذُرِّيَّتِهِ «2») إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ
عَيْنَيْ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ ثُمَّ
عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ يَا رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ
قَالَ هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ
فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَ أَيْ
رَبِّ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ
مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ فَقَالَ رَبِّ كَمْ
جَعَلْتَ عُمْرَهُ قَالَ سِتِّينَ سَنَةً قَالَ أَيْ رَبِّ
زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمَّا انْقَضَى
عُمُرُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ
فَقَالَ أو لم يبق من عمري أربعون سنة قال أو لم تُعْطِهَا
ابْنكَ دَاوُدَ قَالَ فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتَهُ
وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ". فِي غَيْرِ
التِّرْمِذِيِّ: فَحِينَئِذٍ أُمِرَ بِالْكِتَابِ
وَالشُّهُودِ. فِي رِوَايَةٍ: فرأى فيهم الضعف وَالْغَنِيَّ
وَالْفَقِيرَ (وَالذَّلِيلَ «3») وَالْمُبْتَلَى وَالصَّحِيحَ.
فَقَالَ (لَهُ «4») آدَمُ: يَا رَبِّ، مَا هَذَا؟ أَلَا
سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ! قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُشْكَرَ. وَرَوَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ" أُخِذُوا مِنْ ظَهْرِهِ
كَمَا يُؤْخَذُ بِالْمُشْطِ مِنَ الرَّأْسِ". وَجَعَلَ اللَّهُ
لَهُمْ عُقُولًا كَنَمْلَةِ سُلَيْمَانَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ
الْعَهْدَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَأَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ.
فَأَقَرُّوا بذلك والتزموه، وأعلمهم
__________
(1). في ك: مسلم بن يسار يعرف. لعله الصواب.
(2). الزيادة عن صحيح الترمذي.
(3). من ج.
(4). من ج.
(7/315)
بِأَنَّهُ سَيَبْعَثُ إِلَيْهِمُ
الرُّسُلُ، فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ أُبَيُّ
بْنُ كَعْبٍ: وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ،
فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يُولَدُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
إِلَّا وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ. وَاخْتُلِفَ فِي
الْمَوْضِعِ الَّذِي أُخِذَ فِيهِ الْمِيثَاقُ حِينَ
أُخْرِجُوا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: بِبَطْنِ نُعْمَانَ، وَادٍ إِلَى جَنْبِ عَرَفَةَ. و
(روي «1») عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ بِرَهْبَا- أَرْضٍ بِالْهِنْدِ-
الَّذِي هَبَطَ فِيهِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ: أَهَبَطَ اللَّهُ آدَمَ بِالْهِنْدِ، ثُمَّ مَسَحَ
عَلَى ظَهْرِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نَسَمَةٍ هُوَ
خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ:" أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا" قَالَ يَحْيَى قَالَ
الْحَسَنُ: ثُمَّ أَعَادَهُمْ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَيْنَ مَكَّةَ
وَالطَّائِفِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا
حِينَ أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَيْهَا مَسَحَ عَلَى
ظَهْرِهِ فَأَخْرَجَ مِنْ صَفْحَةِ ظَهْرِهِ الْيُمْنَى
ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ، فَقَالَ لَهُمُ
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي. وَأَخْرَجَ مِنْ صَفْحَةِ
ظَهْرِهِ الْيُسْرَى ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ وَقَالَ لَهُمُ
ادْخُلُوا النَّارَ وَلَا أُبَالِي. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
خَرَجَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ لِلْجَنَّةِ بَيْضَاءَ،
وَكُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ لِلنَّارِ سَوْدَاءَ.
الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (رَحِمَهُ اللَّهُ
«2»):" فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ
الْخَلْقَ وَهُمْ لَمْ يُذْنِبُوا، أَوْ يُعَاقِبْهُمْ عَلَى
مَا أَرَادَهُ مِنْهُمْ وَكَتَبَهُ عَلَيْهِمْ وَسَاقَهُمْ
إِلَيْهِ، قُلْنَا: وَمِنْ أَيْنَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ،
أَعَقْلًا أَمْ شَرْعًا؟ فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ الرَّحِيمَ
الْحَكِيمَ مِنَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. قُلْنَا:
لِأَنَّ فَوْقَهُ آمِرًا يَأْمُرُهُ وَنَاهِيًا يَنْهَاهُ،
وَرَبُّنَا تَعَالَى لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يسئلون وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ الْخَلْقُ بِالْخَالِقِ،
وَلَا تُحْمَلَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ عَلَى أَفْعَالِ
الْإِلَهِ، وَبِالْحَقِيقَةِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ
جَلَّ جَلَالُهُ، وَالْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ لَهُ، صَرَفَهُمْ
كَيْفَ شَاءَ، وَحَكَمَ بَيْنَهُمْ «3» بِمَا أَرَادَ، وَهَذَا
الَّذِي يَجِدُهُ الْآدَمِيُّ إِنَّمَا تَبْعَثُ عَلَيْهِ
رِقَّةُ الْجِبِلَّةِ وَشَفَقَةُ الْجِنْسِيَّةِ وَحُبُّ
الثَّنَاءِ والمدح، لما يتوقع فذلك مِنَ الِانْتِفَاعِ،
وَالْبَارِي تَعَالَى مُتَقَدِّسٌ عَنْ ذَلِكَ كله، فلا يجوز
أن يعتبر به". وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ هِيَ
خَاصَّةٌ أَوْ عَامَّةٌ. فَقِيلَ: الْآيَةُ خَاصَّةٌ،
لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:" مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ
ظُهُورِهِمْ" فَخَرَجَ مِنْ هَذَا (الْحَدِيثِ «4») مَنْ كَانَ
مِنْ وَلَدِ آدم لصلبه. وقال جل وعز: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا
أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ) فَخَرَجَ مِنْهَا كُلُّ مَنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ آباء مشركون.
__________
(1). من ك.
(2). من ع.
(3). في ى: وحكيم فيهم كما أراد.
(4). من ج.
(7/316)
وَقِيلَ: هِيَ مَخْصُوصَةٌ فِيمَنْ أُخِذَ
عَلَيْهِ الْعَهْدُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ:
بَلْ هِيَ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ
يَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ طِفْلًا فَغُذِّيَ وَرُبِّيَ، وَأَنَّ
لَهُ مُدَبِّرًا وَخَالِقًا. فَهَذَا مَعْنَى" وَأَشْهَدَهُمْ
عَلى أَنْفُسِهِمْ". وَمَعْنَى (قالُوا بَلى) 30 أَيْ إِنَّ
ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا اعْتَرَفَ الْخَلْقُ
لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ الرَّبُّ ثُمَّ ذَهَلُوا عَنْهُ
ذَكَّرَهُمْ بِأَنْبِيَائِهِ وَخَتَمَ الذِّكْرَ بِأَفْضَلِ
أَصْفِيَائِهِ لِتَقُومَ حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ:"
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ»
". ثم مكنه من الصيطرة، وَأَتَاهُ السَّلْطَنَةَ، وَمَكَّنَ
لَهُ دِينَهُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ «2»: إِنَّ
هَذَا الْعَهْدَ يَلْزَمُ الْبَشَرَ وَإِنْ كَانُوا لَا
يَذْكُرُونَهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، كَمَا يَلْزَمُ
الطَّلَاقُ مَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ وَقَدْ نَسِيَهُ".
الرَّابِعَةُ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ
قَالَ: إِنَّ مَنْ مَاتَ صَغِيرًا دَخَلَ الْجَنَّةَ
لِإِقْرَارِهِ فِي، الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ. وَمَنْ بَلَغَ
الْعَقْلَ لَمْ يُغْنِهِ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ. وَهَذَا
الْقَائِلُ يَقُولُ: أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
اخْتُلِفَ فِيهَا لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ، وَالصَّحِيحُ مَا
ذَكَرْنَاهُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي" الرُّومِ
«3» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِي
كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الْخَامِسَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْ ظُهُورِهِمْ" بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ
قَوْلِهِ" مِنْ بَنِي آدَمَ". وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ تَقْتَضِي
أَنَّ الْأَخْذَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَيْسَ
لِآدَمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرٌ بِحَسَبِ اللَّفْظِ. وَوَجْهُ
النَّظْمِ عَلَى هَذَا: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ ظُهُورِ
بَنِي آدَمَ ذُرِّيَّتَهُمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ ظَهْرَ
آدَمَ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ بَنُوهُ.
وَأَنَّهُمْ أُخْرِجُوا يَوْمَ الْمِيثَاقِ مِنْ ظَهْرِهِ.
فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ لِقَوْلِهِ:" مِنْ بَنِي آدَمَ".
(ذُرِّيَّتَهُمْ) قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ كَثِيرٍ
بِالتَّوْحِيدِ وَفَتْحِ التَّاءِ، وَهِيَ تَقَعُ لِلْوَاحِدِ
وَالْجَمْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً «4» " فَهَذَا لِلْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ
إِنَّمَا سَأَلَ هِبَةَ وَلَدٍ فَبُشِّرَ بِيَحْيَى.
وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى التَّوْحِيدِ في قوله:" مِنْ
ذُرِّيَّةِ آدَمَ «5» " ولا شي أَكْثَرَ مِنْ ذُرِّيَّةِ
آدَمَ. وَقَالَ:" وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ" فهذا
للجمع. وقرا الباقون
__________
(1). راجع ج 20 ص 37.
(2). في ى" الطرلوسى" بالسين المهملة.
(3). راجع ج 14 ص 24 فما بعد.
(4). راجع ج 4 ص 69 فما بعد.
(5). راجع ج 11 ص 120.
(7/317)
" ذُرِّيَّاتهمْ" بِالْجَمْعِ، لِأَنَّ
الذُّرِّيَّةَ لَمَّا كَانَتْ تَقَعُ لِلْوَاحِدِ أَتَى
بِلَفْظٍ لَا يَقَعُ لِلْوَاحِدِ فَجَمَعَ لِتَخْلُصَ
الْكَلِمَةُ إِلَى مَعْنَاهَا الْمَقْصُودِ إِلَيْهِ لَا
يشركها فيه شي وَهُوَ الْجَمْعُ، لِأَنَّ ظُهُورَ بَنِي آدَمَ
اسْتُخْرِجَ مِنْهَا ذُرِّيَّاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَنَاسِبَةٌ،
أَعْقَابٌ بَعْدَ أَعْقَابٍ، لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا
اللَّهُ، فَجَمَعَ لِهَذَا الْمَعْنَى. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (بَلى) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا فِي"
الْبَقَرَةِ" عِنْدَ قَوْلِهِ بَلَى مِنْ كسب سيئة مستوفى،
فتأمله هناك «1». (أن يقولوا) " أو يقولوا" قَرَأَ أَبُو
عَمْرٍو بِالْيَاءِ فِيهِمَا. رَدَّهُمَا عَلَى لفظ الغيبة
المتكرر قبله، وهو قول:" مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ".
وَقَوْلُهُ:" قالُوا بَلى 30" أَيْضًا لَفْظُ غَيْبَةٍ.
وَكَذَا" وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ""
وَلَعَلَّهُمْ" فَحَمَلَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ
مِنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ
فِيهِمَا، رَدُّوهُ عَلَى لَفْظِ الْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ
فِي قَوْلِهِ:" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ".
وَيَكُونُ" شَهِدْنا 130" مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ. لَمَّا
قَالُوا" بَلى " قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ:" شَهِدْنا أَنْ
تَقُولُوا"" أَوْ تَقُولُوا" أَيْ لِئَلَّا تَقُولُوا.
وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا بَلَى،
فَأَقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
لِلْمَلَائِكَةِ: اشْهَدُوا قَالُوا شَهِدْنَا بِإِقْرَارِكُمْ
لِئَلَّا تَقُولُوا أَوْ تَقُولُوا. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ
وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: قَوْلُهُ" شَهِدْنا 130" هُوَ مِنْ
قَوْلِ بَنِي آدَمَ، وَالْمَعْنَى: شَهِدْنَا أَنَّكَ رَبُّنَا
وَإِلَهُنَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْهَدَ بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا قَالُوا بَلَى شَهِدَ
بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ
الْمَلَائِكَةِ فَيُوقَفُ عَلَى" بَلَى" وَلَا يَحْسُنُ
الْوَقْفُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ قَوْلِ بَنِي آدَمَ،
لِأَنَّ" أَنْ" مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَ بَلَى، مِنْ
قَوْلِهِ:" وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ" لِئَلَّا
يَقُولُوا. وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ «2» عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ كَمَا يُؤْخَذُ بِالْمُشْطِ مِنَ الرَّأْسِ
فَقَالَ لَهُمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى قَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا". أَيْ شَهِدْنَا
عَلَيْكُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِئَلَّا
تَقُولُوا. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّاءِ. قَالَ مَكِّيٌّ:
وَهُوَ الِاخْتِيَارُ لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّ
الْجَمَاعَةَ عَلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ"
شَهِدْنَا" مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَلَائِكَةِ.
وَالْمَعْنَى: فَشَهِدْنَا عَلَى إِقْرَارِكُمْ، قَالَهُ أَبُو
مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أيضا.
__________
(1). راجع ج 2 ص 11. [ ..... ]
(2). في ع: عن مجاهد.
(7/318)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
(وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ)
أَيِ اقْتَدَيْنَا بِهِمْ. (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ
الْمُبْطِلُونَ) بِمَعْنَى: لَسْتَ تَفْعَلُ هذا. ولا عذر
للمقلد في التوحيد.
[سورة الأعراف (7): آية 175]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا
فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ
الْغاوِينَ (175)
ذَكَّرَ أَهْلَ الْكِتَابِ قِصَّةً عَرَفُوهَا فِي
التَّوْرَاةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الَّذِي أُوتِيَ
الْآيَاتِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ
بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَاءَ، وَيُقَالُ نَاعِمٌ «1»، مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَكَانَ بِحَيْثُ إِذَا نَظَرَ رَأَى الْعَرْشَ. وَهُوَ
الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آتَيْناهُ آياتِنا" وَلَمْ يَقُلْ آيَةً، وَكَانَ فِي
مَجْلِسِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ أَلْفَ مِحْبَرَةٍ
لِلْمُتَعَلِّمِينَ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ عَنْهُ. ثُمَّ صَارَ
بِحَيْثُ (إِنَّهُ «2») كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا
(فِي «3») أن" ليس للعالم صانع". قال مالك ابن دِينَارٍ:
بُعِثَ بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَاءَ إِلَى مَلِكِ مَدْيَنَ
لِيَدْعُوَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَأَعْطَاهُ وَأَقْطَعَهُ
فَاتَّبَعَ دِينَهُ وَتَرَكَ دِينَ مُوسَى، فَفِيهِ نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَاتُ. (رَوَى «4») الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ بَلْعَامُ قَدْ أُوتِيَ
النُّبُوَّةَ، «5» وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، فَلَمَّا
أَقْبَلَ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُرِيدُ قِتَالَ
الْجَبَّارِينَ، سَأَلَ الْجَبَّارُونَ بَلْعَامَ بن باعوراء
أن يدعوا عَلَى مُوسَى فَقَامَ لِيَدْعُوَ فَتَحَوَّلَ
لِسَانُهُ بِالدُّعَاءِ على أصحابه. فقيل له في ذلك، لَا
أَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا تَسْمَعُونَ، وَانْدَلَعَ
لِسَانُهُ عَلَى صَدْرِهِ. فَقَالَ: قَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي
الْآنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا
الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْحِيلَةُ، وَسَأَمْكُرُ لَكُمْ،
فَإِنِّي أَرَى أَنْ تُخْرِجُوا إِلَيْهِمْ فَتَيَاتِكُمْ
فَإِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الزِّنَى، فَإِنْ وَقَعُوا فِيهِ
هَلَكُوا، فَفَعَلُوا فَوَقَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي
الزِّنَى، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ فَمَاتَ
مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ
بِكَمَالِهِ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ
بَلْعَامَ بْنَ بَاعُورَاءَ دَعَا أَلَّا يَدْخُلَ مُوسَى
مَدِينَةَ الْجَبَّارِينَ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ وَبَقِيَ فِي
التِّيهِ «6». فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، بِأَيِ ذَنْبٍ
بَقِينَا فِي التِّيهِ. فَقَالَ: بِدُعَاءِ بَلْعَامَ. قَالَ:
فَكَمَا سَمِعْتَ دُعَاءَهُ عَلَيَّ فَاسْمَعْ دُعَائِي
عَلَيْهِ. فَدَعَا مُوسَى أن ينزع الله عنه الاسم الأعظم،
__________
(1). في ع وز وى: بلعم. وفي ز: ويقال: بلعم. وفي ى: ويقال:
باعر.
(2). من ع.
(3). من ع.
(4). من ع.
(5). قوله: أوتى النبوة. فليتأمل كيف يؤتى النبوة ثم يضل فإنه
مناف لعصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
(6). التيه: موضع بين مصر والعقبة.
(7/319)
فَسَلَخَهُ اللَّهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ،
وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ فِي (آخِرِ «1») كِتَابِ مِنْهَاجِ
الْعَارِفِينَ لَهُ: وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْعَارِفِينَ يَقُولُ
إِنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ سأل الله تعالى عن أمر بلعام وطرد
بَعْدَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: لَمْ يَشْكُرْنِي يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ عَلَى
مَا أَعْطَيْتُهُ، وَلَوْ شَكَرَنِي عَلَى ذَلِكَ مَرَّةً
لَمَا سَلَبْتُهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ بَلْعَامُ
نَبِيًّا وَأُوتِيَ كِتَابًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُ
أُوتِيَ النُّبُوَّةَ، فَرَشَاهُ قَوْمُهُ عَلَى أَنْ يَسْكُتَ
فَفَعَلَ وَتَرَكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ. قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَا يَصْطَفِي لِنُبُوَّتِهِ إِلَّا مَنْ عَلِمَ
أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَزَيْدُ
بْنُ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ
الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكُتُبَ وَعَلِمَ أَنَّ
اللَّهَ مُرْسِلٌ رَسُولًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَتَمَنَّى
أَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ الرَّسُولَ، فَلَمَّا أَرْسَلَ
اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَسَدَهُ وَكَفَرَ بِهِ. وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" آمَنَ شِعْرُهُ
وَكَفَرَ قَلْبُهُ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ:
نَزَلَتْ فِي أَبِي عَامِرِ بْنِ صَيْفِيِّ، وَكَانَ يَلْبَسُ
الْمُسُوحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَفَرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ؟
قَالَ:" جِئْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ". قَالَ:
فَإِنِّي عَلَيْهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَسْتُ عَلَيْهَا لِأَنَّكَ أَدْخَلْتَ
فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا". فَقَالَ أَبُو عَامِرٍ: أَمَاتَ
اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنَّا طَرِيدًا وَحِيدًا. فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" نَعَمْ
أَمَاتَ اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنَّا كَذَلِكَ" وَإِنَّمَا قَالَ
هَذَا يُعَرِّضُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَيْثُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ. فَخَرَجَ أَبُو عَامِرٍ
إِلَى الشَّأْمِ وَمَرَّ إِلَى قَيْصَرَ وَكَتَبَ إِلَى
الْمُنَافِقِينَ: اسْتَعِدُّوا فَإِنِّي آتِيكُمْ مِنْ عِنْدِ
قَيْصَرَ بِجُنْدٍ لِنُخْرِجَ مُحَمَّدًا مِنَ الْمَدِينَةِ،
فَمَاتَ بِالشَّامِ وَحِيدًا. وَفِيهِ نَزَلَ:" وَإِرْصاداً
لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ «2» 10"
وَسَيَأْتِي فِي بَرَاءَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي
رِوَايَةٍ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ
يُسْتَجَابُ لَهُ فِيهَا، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ
لَهَا" الْبَسُوسُ" فَكَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَقَالَتْ:
اجْعَلْ لِي مِنْهَا دَعْوَةً وَاحِدَةً. فَقَالَ: لَكِ
وَاحِدَةٌ، فَمَا تَأْمُرِينَ؟ قَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ
يَجْعَلَنِي أَجْمَلَ امرأة
__________
(1). من ج وك وهـ وى.
(2). راجع ج 8 ص 252 فما بعد.
(7/320)
وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا
الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ
كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمَّا عَلِمَتْ
أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهَا رَغِبَتْ عَنْهُ، فَدَعَا
اللَّهَ عَلَيْهَا أَنْ يَجْعَلَهَا كَلْبَةً نَبَّاحَةً.
فَذَهَبَ فِيهَا دَعْوَتَانِ، فَجَاءَ بَنُوهَا وَقَالُوا: لَا
صَبْرَ لَنَا عَنْ هَذَا، وَقَدْ صَارَتْ أُمُّنَا كَلْبَةً
يُعَيِّرُنَا النَّاسُ بِهَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهَا
كَمَا كَانَتْ، فَدَعَا فَعَادَتْ إِلَى مَا كَانَتْ،
وَذَهَبَتِ الدَّعَوَاتُ فِيهَا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ
أَشْهَرُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ. قَالَ عُبَادَةُ بْنُ
الصَّامِتِ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، آتَاهُمُ اللَّهُ آيَاتِهِ
الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْسَلَخُوا مِنْهَا وَلَمْ
يَقْبَلُوهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَلْعَامُ مِنْ
مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ. وَقِيلَ: كَانَ مِنْ الْيَمَنِ.
(فَانْسَلَخَ مِنْها) أَيْ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى،
أَيْ نُزِعَ مِنْهُ الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ يَعْلَمُهُ. وَفِي
الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (الْعِلْمُ عِلْمَانِ عِلْمٌ فِي الْقَلْبِ
فَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ
فَذَلِكَ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ابْنِ آدَمَ (.
فَهَذَا مِثْلُ علم بلعام وأشباهه، نعوذ بالله منه، ونسأل
التَّوْفِيقَ وَالْمَمَاتَ عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَالِانْسِلَاخُ: الْخُرُوجُ، يُقَالُ: انْسَلَخَتِ الْحَيَّةُ
مِنْ جِلْدِهَا أَيْ خَرَجَتْ مِنْهُ. وَقِيلَ: هَذَا مِنَ
الْمَقْلُوبِ، أَيِ انْسَلَخَتِ الْآيَاتُ مِنْهُ.
(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أَيْ لَحِقَ بِهِ، يُقَالُ:
أَتْبَعْتُ الْقَوْمَ أَيْ لَحِقْتُهُمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ
فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، انْتَظَرُوا خُرُوجَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكفروا به.
[سورة الأعراف (7): الآيات 176 الى 177]
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى
الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ
إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ
ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ
مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ) يُرِيدُ
بَلْعَامَ. أَيْ لَوْ شِئْنَا لَأَمَتْنَاهُ قَبْلَ أَنْ
يَعْصِيَ فَرَفَعْنَاهُ إِلَى الْجَنَّةِ. (بِها) أَيْ
بِالْعَمَلِ بِهَا. (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ)
أَيْ رَكَنَ إِلَيْهَا، عَنِ
(7/321)
ابْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ. مُجَاهِدٌ:
سَكَنَ إِلَيْهَا، أَيْ سَكَنَ إِلَى لَذَّاتِهَا. وَأَصْلُ
الْإِخْلَادِ اللُّزُومُ. يُقَالُ: أَخْلَدَ فُلَانٌ
بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ وَلَزِمَهُ. قَالَ زُهَيْرٌ:
لِمَنِ الدِّيَارُ غَشِيَتْهَا بِالْغَرْقَدِ ... كَالْوَحْيِ
فِي حَجَرِ الْمَسِيلِ الْمُخْلَدِ «1»
يَعْنِي الْمُقِيمَ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى لَزِمَ لِذَّاتِ
الْأَرْضِ فَعُبِّرَ عَنْهَا بِالْأَرْضِ، لِأَنَّ مَتَاعَ
الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أَيْ
مَا زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ: كَانَ هَوَاهُ مَعَ
الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: اتَّبَعَ رِضَا زَوْجَتِهِ، وَكَانَتْ
رَغِبَتْ فِي أَمْوَالٍ حَتَّى حَمَلَتْهُ عَلَى الدُّعَاءِ
عَلَى مُوسَى. (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) ابتداء وخبر.
(إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) شَرْطٌ وَجَوَابُهُ. وَهُوَ
فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ
لَاهِثًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ على شي وَاحِدٍ لَا يَرْعَوِي
عَنِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ الَّذِي هَذِهِ
حَالَتُهُ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَاهِثٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ،
طَرَدْتَهُ أَوْ لَمْ تَطْرُدْهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
الْكَلْبُ مُنْقَطِعُ الْفُؤَادِ، لَا فُؤَادَ لَهُ، إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ،
كَذَلِكَ الَّذِي يَتْرُكُ الْهُدَى لَا فُؤَادَ لَهُ،
وَإِنَّمَا فُؤَادُهُ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: كُلُّ
شي يَلْهَثُ فَإِنَّمَا يَلْهَثُ مِنْ إِعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ،
إِلَّا الْكَلْبَ فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي حَالِ الْكَلَالِ
وَحَالِ الرَّاحَةِ وَحَالِ الْمَرَضِ وَحَالِ الصِّحَّةِ
وَحَالِ الرِّيِّ وَحَالِ الْعَطَشِ. فَضَرَبَهُ اللَّهُ
مَثَلًا لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ فَقَالَ: إِنْ وَعَظْتَهُ
ضَلَّ وَإِنْ تَرَكْتَهُ ضَلَّ، فَهُوَ كَالْكَلْبِ إِنْ
تَرَكْتَهُ لَهَثَ وإن طردته لهث، كقول تَعَالَى:" وَإِنْ
تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ
عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «2» ".
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: لَهَثَ الْكَلْبُ" بِالْفَتْحِ"
يَلْهَثُ لَهْثًا وَلُهَاثًا" بِالضَّمِّ" إِذَا أَخْرَجَ
لِسَانَهُ مِنَ التَّعَبِ أَوِ العطش، وكذلك الرجل إذا أعيا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى" إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ"
لِأَنَّكَ إِذَا حَمَلْتَ عَلَى الْكَلْبِ نَبَحَ وَوَلَّى
هَارِبًا، وَإِذَا تَرَكْتَهُ شَدَّ عَلَيْكَ وَنَبَحَ،
فَيُتْعِبُ نَفْسَهُ مُقْبِلًا عَلَيْكَ وَمُدْبِرًا عَنْكَ
فَيَعْتَرِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ مَا يَعْتَرِيهِ عِنْدَ الْعَطَشِ
مِنْ إِخْرَاجِ اللِّسَانِ. قال الترمذي الحكيم في نوادر «3»
الأصول:
__________
(1). الغرقد: هو بقيع الغرقد، مقابر بالمدينة. والذي في
ديوانه" بالفدفد" وهو الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع. الوحى:
الكتاب، وإنما جعله في حجر المسيل لأنه أصلب. عن شرح الديوان.
(2). راجع ص 341 من هذا الجزء.
(3). من ز.
(7/322)
إِنَّمَا شَبَّهَهُ بِالْكَلْبِ مِنْ
بَيْنِ السِّبَاعِ لِأَنَّ الْكَلْبَ مَيِّتُ الْفُؤَادِ،
وَإِنَّمَا لُهَاثُهُ لِمَوْتِ فُؤَادِهِ. وَسَائِرُ
السِّبَاعِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ لَا يَلْهَثْنَ.
وَإِنَّمَا صَارَ الْكَلْبُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ
آدَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَرْضِ
شَمِتَ بِهِ الْعَدُوُّ، فَذَهَبَ إِلَى السِّبَاعِ
فَأَشْلَاهُمْ «1» عَلَى آدَمَ، فَكَانَ الْكَلْبُ مِنْ
أَشَدِّهِمْ طَلَبًا. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْعَصَا الَّتِي
صُرِفَتْ إِلَى مُوسَى بِمَدْيَنَ وَجَعَلَهَا آيَةً لَهُ
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَجَعَلَ فِيهَا سُلْطَانًا
عَظِيمًا وَكَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ، فَأَعْطَاهَا آدَمَ
(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ «2»)
لِيَطْرُدَ بِهَا السِّبَاعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَرَهُ فِيمَا
رُوِيَ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْكَلْبِ وَيَضَعَ يَدَهُ عَلَى
رَأْسِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَلِفَهُ الْكَلْبُ وَمَاتَ
الْفُؤَادُ مِنْهُ لِسُلْطَانِ الْعَصَا، وَأَلِفَ بِهِ
وَبِوَلَدِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، لِوَضْعِ يَدِهِ عَلَى
رَأْسِهِ، وَصَارَ حَارِسًا مِنْ حُرَّاسِ وَلَدِهِ. وَإِذَا
أُدِّبَ وَعُلِّمَ الِاصْطِيَادَ تَأَدَّبَ وَقَبِلَ
التَّعْلِيمَ «3»، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:" تُعَلِّمُونَهُنَّ
مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ «4» ". السُّدِّيُّ: كَانَ
بَلْعَامُ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْهَثُ كَمَا يَلْهَثُ الْكَلْبُ.
وَهَذَا الْمَثَلُ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
بِالتَّأْوِيلِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ
فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ فِي كُلِّ مُنَافِقٍ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى:" فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ
عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ" أَيْ إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ بِدَابَّتِكَ أَوْ بِرِجْلِكَ يَلْهَثْ أَوْ
تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ. وَكَذَلِكَ مَنْ يَقْرَأُ الْكِتَابَ
وَلَا يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا شَرُّ
تَمْثِيلٍ، لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي أَنَّهُ قَدْ غَلَبَ
عَلَيْهِ هَوَاهُ حَتَّى صَارَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا
وَلَا نَفْعًا بِكَلْبٍ لَاهِثٍ أَبَدًا، حُمِلَ عَلَيْهِ أَوْ
لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ، فَهُوَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ
تَرْكَ اللَّهَثَانِ. وَقِيلَ: مِنْ أَخْلَاقِ الْكَلْبِ
الْوُقُوعُ بِمَنْ لَمْ يُخِفْهُ عَلَى جِهَةِ الِابْتِدَاءِ
بِالْجَفَاءِ، ثُمَّ تَهْدَأُ طَائِشَتُهُ بِنَيْلِ كُلِّ
عِوَضٍ «5» خَسِيسٍ. ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِي قَبِلَ
الرِّشْوَةَ فِي الدِّينِ حَتَّى انْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ
رَبِّهِ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا عَلَى أَلَّا
يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ وَلَا بِعِلْمِهِ، إِذْ لَا
يَدْرِي بِمَا يُخْتَمُ لَهُ. وَدَلَّتْ عَلَى مَنْعِ أَخْذِ
الرِّشْوَةِ لِإِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ تَغْيِيرِهِ. وَقَدْ مَضَى
بَيَانُهُ فِي" الْمَائِدَةِ «6» ". وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى
مَنْعِ التَّقْلِيدِ لِعَالِمٍ إِلَّا بِحُجَّةٍ يُبَيِّنُهَا،
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ أَعْطَى هَذَا
آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ يَخَافَ مِثْلَ
هَذَا عَلَى غَيْرِهِ وَأَلَّا يَقْبَلَ مِنْهُ إِلَّا
بِحُجَّةٍ.
__________
(1). الإشلاء: الإغراء.
(2). من ع، ى. [ ..... ]
(3). في ع: وصار ذا أدب وعلم.
(4). راجع ج 6 ص 65 وص 183.
(5). في ع: غرض.
(6). راجع ج 6 ص 65 وص 183.
(7/323)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ (178)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي هو
مثل جميع الكفار. وقوله:" ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ" يُقَالُ:
سَاءَ الشَّيْءُ قَبُحَ، فَهُوَ لَازِمٌ، وَسَاءَ يَسُوءُ
مَسَاءَةً، فَهُوَ مُتَعَدٍّ، أَيْ قَبُحَ مَثَلُهُمْ.
وَتَقْدِيرُهُ: سَاءَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ، فَحُذِفَ
الْمُضَافُ، وَنُصِبَ" مَثَلًا" عَلَى التَّمْيِيزِ. قَالَ
الْأَخْفَشُ: فَجُعِلَ الْمَثَلُ الْقَوْمَ مَجَازًا.
وَالْقَوْمُ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ
مُبْتَدَأٍ. التَّقْدِيرُ: سَاءَ الْمَثَلُ مَثَلًا هُوَ
مَثَلُ الْقَوْمِ. وَقَدَّرَهُ أَبُو عَلِيٍّ: سَاءَ مَثَلًا
مَثَلُ الْقَوْمِ. وَقَرَأَ عاصم الجحدري والأعمش" ساء مثل
القوم" رفع مثلا بساء.
[سورة الأعراف (7): آية 178]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ
فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)
تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي غَيْرِ هذه مَوْضِعٍ. وَهَذِهِ
الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ كَمَا سَبَقَ،
وَتَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَدَى
جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يضل أحدا.
[سورة الأعراف (7): آية 179]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ
بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ (179)
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا
بِعَدْلِهِ. ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ:" لَهُمْ قُلُوبٌ لَا
يَفْقَهُونَ بِها" بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَفْقَهُ،
لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا، وَلَا يَعْقِلُونَ
ثَوَابًا وَلَا يَخَافُونَ عقابا. (أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ)
بها الهدى. (وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها)
الْمَوَاعِظَ. وَلَيْسَ الْغَرَضُ نَفْيَ الْإِدْرَاكَاتِ عَنْ
حَوَاسِّهِمْ جُمْلَةً. كَمَا بَيَّنَاهُ فِي (الْبَقَرَةِ
«1»). (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) لِأَنَّهُمْ
لَا يَهْتَدُونَ إِلَى ثَوَابٍ، فَهُمْ كَالْأَنْعَامِ، أَيْ
هِمَّتُهُمُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَهُمْ أَضَلُّ لِأَنَّ
الْأَنْعَامَ تبصر منافعها
__________
(1). راجع ج 1 ص 214.
(7/324)
وَلِلَّهِ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (180)
وَمَضَارَّهَا وَتَتْبَعُ مَالِكَهَا،
وَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَنْعَامُ
تَعْرِفُ اللَّهَ، وَالْكَافِرُ لَا يَعْرِفُهُ. وَقِيلَ:
الْأَنْعَامُ مُطِيعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْكَافِرُ غَيْرُ
مُطِيعٍ. (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أَيْ تَرَكُوا
التَّدَبُّرَ وأعرضوا عن الجنة والنار.
[سورة الأعراف (7): آية 180]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا
يَعْمَلُونَ (180)
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ
بِها) 180 فيه ست مسائل: الأولى- قوله تعالى: (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) 180 أَمْرٌ
بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَمُجَانَبَةِ
الْمُشْرِكِينَ وَالْمُلْحِدِينَ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ
مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، كَانَ يَقُولُ فِي صلاته: يا رحمان يَا
رَحِيمُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ: أَلَيْسَ
يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ
رَبًّا وَاحِدًا، فَمَا بَالُ هَذَا يَدْعُو رَبَّيْنِ
اثْنَيْنِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:"
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها 180".
الثَّانِيَةُ- جَاءَ فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ وَسُنَنِ
ابْنَ مَاجَهْ وَغَيْرِهِمَا حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَ فِيهِ
(إِنَّ لِلَّهِ) تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، فِي أَحَدِهِمَا
مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي
(الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ
الْحُسْنَى). قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ- وَذَكَرَ حَدِيثَ
التِّرْمِذِيِّ- وَذَلِكَ الْحَدِيثُ لَيْسَ بِالْمُتَوَاتِرِ،
وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ
غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ
صَالِحٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَإِنَّمَا
الْمُتَوَاتِرُ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا
مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ".
وَمَعْنَى" أَحْصاها" عَدَّهَا وَحَفِظَهَا. وَقِيلَ غَيْرُ
هَذَا مِمَّا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِنَا. وَذَكَرْنَا هُنَاكَ
تَصْحِيحَ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، وَذَكَرْنَا مِنَ
الْأَسْمَاءِ مَا اجْتُمِعَ عَلَيْهِ وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ
مِمَّا وَقَفْنَا عَلَيْهِ فِي كُتُبِ أَئِمَّتِنَا مَا
يُنَيِّفُ عَلَى مِائَتَيِ اسْمٍ. وَذَكَرْنَا قَبْلَ
تَعْيِينِهَا فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ اثْنَيْنِ
وَثَلَاثِينَ فَصْلًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِهَا،
فَمَنْ أَرَادَهُ وَقَفَ عَلَيْهِ هُنَاكَ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ
الْكُتُبِ الْمَوْضُوعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَاللَّهُ
الْمُوَفِّقُ (للصواب «1»)، لا رب سواه.
__________
(1). من ج وك.
(7/325)
الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، وَقَدْ
ذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ ذَلِكَ فِي" الْكِتَابِ
الْأَسْنَى". قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ
وُقُوعُ الِاسْمِ عَلَى الْمُسَمَّى وَوُقُوعُهُ عَلَى
التَّسْمِيَةِ. فَقَوْلُهُ:" وَلِلَّهِ" وَقَعَ عَلَى
الْمُسَمَّى، وَقَوْلُهُ:" الْأَسْماءُ" وَهُوَ جَمْعُ اسْمٍ
وَاقِعٌ عَلَى التَّسْمِيَاتِ. يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا
قُلْنَاهُ قَوْلُهُ:" فَادْعُوهُ بِها 180"، وَالْهَاءُ فِي
قَوْلِهِ:" فَادْعُوهُ 180" تَعُودُ عَلَى الْمُسَمَّى
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهُوَ الْمَدْعُوُّ. وَالْهَاءُ فِي
قَوْلِهِ" بِها" تَعُودُ عَلَى الْأَسْمَاءِ، وهي التسميات
التي يدعى بلا بِغَيْرِهَا. هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ لِسَانُ
الْعَرَبِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ أَنَا
مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ" الحديث. وقد تقدم في البقرة شي مِنْ
هَذَا «1». وَالَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ أَنَّ
الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى، أَوْ صِفَةٌ لَهُ تَتَعَلَّقُ
بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ التَّسْمِيَةِ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى 180": فِيهِ ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الِاسْمَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ
غَيْرَهُ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَسْمَاءُ لِغَيْرِ اللَّهِ
تَعَالَى. الثَّانِي: قَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِهِ
التَّسْمِيَاتُ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَالْأَسْمَاءُ
جَمْعٌ. قُلْتُ- ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ
الْأَسْمَاءَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى التَّسْمِيَاتِ
إِجْمَاعًا مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ:
وَتَأْوِيلُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مَنْ
أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" أَيْ أَنَّ لَهُ تِسْعَةً
وَتِسْعِينَ تَسْمِيَةً بِلَا خِلَافٍ، وَهِيَ عِبَارَاتٌ عَنْ
كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَوْصَافٍ شَتَّى، مِنْهَا مَا
يَسْتَحِقُّهُ لِنَفْسِهِ وَمِنْهَا مَا يَسْتَحِقُّهُ
لِصِفَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَسْمَاؤُهُ الْعَائِدَةُ إِلَى
نَفْسِهِ هِيَ هُوَ، وَمَا تَعَلَّقَ بِصِفَةٍ لَهُ فَهِيَ
أَسْمَاءٌ لَهُ. وَمِنْهَا صِفَاتٌ لِذَاتِهِ. وَمِنْهَا
صِفَاتُ أَفْعَالٍ. وَهَذَا هُوَ تَأْوِيلُ قوله تعالى:"
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها 180" أَيِ
التَّسْمِيَاتُ الْحُسْنَى. الثَّالِثُ- قَالَ آخَرُونَ
مِنْهُمْ: وَلِلَّهِ الصِّفَاتُ. الرَّابِعَةُ- سَمَّى اللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَسْمَاءَهُ بِالْحُسْنَى لِأَنَّهَا حَسَنَةٌ فِي
الْأَسْمَاعِ وَالْقُلُوبِ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى
تَوْحِيدِهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِفْضَالِهِ.
وَالْحُسْنَى مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ
__________
(1). راجع المسألة الثانية ج 1 ص 281.
(7/326)
" الْحُسْنى " فُعْلَى، مُؤَنَّثُ
الْأَحْسَنِ، كَالْكُبْرَى تَأْنِيثُ الْأَكْبَرِ، وَالْجَمْعُ
الْكُبَرُ وَالْحُسَنُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ أُفْرِدَ كَمَا
أُفْرِدَ وَصْفُ مَا لَا يَعْقِلُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:"
مَآرِبُ أُخْرى «1» 20: 18" وَ" يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ
«2» 10". الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَادْعُوهُ بِها)
180 أَيِ اطْلُبُوا مِنْهُ بِأَسْمَائِهِ، فَيُطْلَبُ بِكُلِّ
اسْمٍ مَا يَلِيقُ بِهِ، تَقُولُ يَا رَحِيمُ ارْحَمْنِي، يَا
حَكِيمُ احْكُمْ لِي، يَا رَازِقُ ارْزُقْنِي، يَا هادي
اهْدِنِي، يَا فَتَّاحُ افْتَحْ لِي، يَا تَوَّابُ تُبْ
عَلَيَّ، هَكَذَا. فَإِنْ دَعَوْتَ بِاسْمٍ عَامٍّ قُلْتُ: يَا
مَالِكُ ارْحَمْنِي، يَا عَزِيزُ احْكُمْ لِي، يَا لَطِيفُ
ارْزُقْنِي. وَإِنْ دَعَوْتَ بِالْأَعَمِّ الْأَعْظَمِ
فَقُلْتَ: يَا أَللَّهُ، فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِكُلِّ اسْمٍ.
وَلَا تَقُولُ: يَا رَزَّاقُ اهْدِنِي، إِلَّا أَنْ تُرِيدَ
يَا رَزَّاقُ ارْزُقْنِي الْخَيْرَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَهَكَذَا، رَتِّبْ دُعَاءَكَ تَكُنْ مِنَ الْمُخْلِصِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «3» " شَرَائِطُ الدُّعَاءِ
وفى هذه السورة أيضا «4». الحمد لِلَّهِ. السَّادِسَةُ-
أَدْخَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عِدَّةً
مِنَ الْأَسْمَاءِ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ، مِثْلَ
مُتِمُّ نُورِهِ، وَخَيْرُ الْوَارِثِينَ، وَخَيْرُ
الْمَاكِرِينَ، وَرَابِعُ ثَلَاثَةٍ، وَسَادِسُ خَمْسَةٍ،
وَالطَّيِّبُ، وَالْمُعَلِّمُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. قَالَ
ابْنُ الْحَصَّارِ: وَاقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِابْنِ بَرْجَانَ
«5»، إِذْ ذَكَرَ فِي الْأَسْمَاءِ" النَّظِيفَ" وَغَيْرَ
ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. قُلْتُ:
أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ:" مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِي
كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ" فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
الطَّيِّبُ". وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ" النَّظِيفَ".
وَخَرَّجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ
(رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلَا
تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ"
الْحَدِيثَ. وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَعَلَى
هَذَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ: يَا خَيْرَ الْمَاكِرِينَ امْكُرْ
لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا" الطَّيِّبَ، وَالنَّظِيفَ" في كتابنا وغيره مما جاء
__________
(1). راجع ج 11 ص 185.
(2). راجع ج 14 ص 264.
(3). راجع ج 2 ص 308.
(4). راجع ص 223 من هذا الجزء.
(5). برجان (بفتح الياء وتشديد الراء): هو عبد السلام ابن عبد
الرحمن بن أبى الرحال محمد بن عبد الرحمن أبو الحكم اللخمي
الإفريقي ثم الإشبيلي الصوفي المفسر. مات بمراكش سنة 536 (عن
طبقات المفسرين).
(7/327)
ذِكْرُهُ فِي الْأَخْبَارِ، وَعَنِ
السَّلَفِ الْأَخْيَارِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ
وَيُدْعَى، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ وَلَا يُدْعَى،
وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ وَلَا يُدْعَى. حَسَبَ
مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ.
وَهُنَاكَ يَتَبَيَّنُ لَكَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ
فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) 180
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
يُلْحِدُونَ 180" الْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ وَتَرْكُ الْقَصْدِ،
يُقَالُ: أَلْحَدَ الرَّجُلُ فِي الدِّينِ. وَأَلْحَدَ إِذَا
مَالَ. وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ، لِأَنَّهُ فِي
ناحيته. وقرى" يَلْحَدُونَ" لُغَتَانِ وَالْإِلْحَادُ يَكُونُ
بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: بِالتَّغْيِيرِ فِيهَا كَمَا
فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَلُوا بِهَا
عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فَسَمَّوْا بِهَا أَوْثَانَهُمْ،
فَاشْتَقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللَّهِ، وَالْعُزَّى مِنَ
الْعَزِيزِ، وَمَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ. الثَّانِي- بِالزِّيَادَةِ فِيهَا.
الثَّالِثُ- بِالنُّقْصَانِ مِنْهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ
الْجُهَّالُ الَّذِينَ يَخْتَرِعُونَ أَدْعِيَةً يُسَمُّونَ
فِيهَا اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ أَسْمَائِهِ، وَيَذْكُرُونَ
بِغَيْرِ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَفْعَالِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:"
فَحَذَارِ مِنْهَا، وَلَا يَدْعُوَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا بِمَا
فِي كِتَابِ اللَّهِ وَالْكُتُبِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ
وَالنَّسَائِيُّ. فَهَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي يَدُورُ
الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا، وَقَدْ دَخَلَ فِيهَا مَا فِي
الْمُوَطَّأِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّصَانِيفِ، وَذَرُوا مَا
سِوَاهَا، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ أَخْتَارُ دُعَاءَ
كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدِ اخْتَارَ لَهُ وَأَرْسَلَ
بِذَلِكَ إِلَى الْخَلْقِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. الثَّانِيَةُ- مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي
الْأَسْمَاءِ التَّشْبِيهُ، وَالنُّقْصَانُ التَّعْطِيلُ.
فَإِنَّ الْمُشَبِّهَةَ وَصَفُوهُ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ،
وَالْمُعَطِّلَةَ سَلَبُوهُ مَا اتَّصَفَ بِهِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: إِنَّ دِينَنَا طَرِيقٌ بَيْنَ
طَرِيقَيْنِ، لَا بِتَشْبِيهٍ وَلَا بتعطيل. وسيل الشَّيْخُ
أَبُو الْحَسَنِ الْبُوشَنْجِيُّ عَنِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ:
إِثْبَاتُ ذَاتٍ غَيْرِ مُشَبَّهَةٍ بِالذَّوَاتِ، وَلَا
مُعَطَّلَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ 180" مَعْنَاهُ
اتْرُكُوهُمْ وَلَا تُحَاجُّوهُمْ وَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ.
فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ، قَالَهُ
ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى:" ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
(7/328)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
وَحِيداً
»
" وَقَوْلُهُ:" ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا «2» ".
وَهُوَ الظَّاهِرُ من الآية، لقول تَعَالَى: سَيُجْزَوْنَ مَا
كانُوا يَعْمَلُونَ 180. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة الأعراف (7): آية 181]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ (181)
فِي الْخَبَرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (هُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ). وَرُوِيَ أَنَّهُ
قَالَ: (هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ قَوْمَ مُوسَى
مِثْلَهَا) وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ:" إِنَّ مِنْ
أُمَّتِي قَوْمًا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَنْزِلَ عيسى ابن
مَرْيَمَ". فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ لَا يُخَلِّي الدُّنْيَا فِي وَقْتٍ مِنَ الأوقات من
داع يدعو إلى الحق.
[سورة الأعراف (7): آية 182]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ
حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أَنَّهُ
سَيَسْتَدْرِجُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ
مَكَّةَ. وَالِاسْتِدْرَاجُ هُوَ الْأَخْذُ بِالتَّدْرِيجِ،
مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ. وَالدَّرَجُ: لَفُّ الشَّيْءِ،
يُقَالُ: أَدْرَجْتُهُ وَدَرَّجْتُهُ. وَمِنْهُ أُدْرِجَ
الْمَيِّتُ فِي أَكْفَانِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الدَّرَجَةِ،
فَالِاسْتِدْرَاجُ أَنْ يَحُطَّ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ
إِلَى الْمَقْصُودِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كُلَّمَا جَدَّدُوا
لَنَا مَعْصِيَةً جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَةً. وَقِيلَ لِذِي
النُّونِ: ما أقصى ما يخدع به العبد؟ قَالَ: بِالْأَلْطَافِ
وَالْكَرَامَاتِ، لِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:"
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ" نُسْبِغُ
عَلَيْهِمُ النِّعَمَ وَنُنْسِيهِمُ الشُّكْرَ، وَأَنْشَدُوا:
أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ ... وَلَمْ
تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ
وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا ... وَعِنْدَ
صفو الليالي يحدث الكدر
[سورة الأعراف (7): آية 183]
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأُمْلِي لَهُمْ) أَيْ أُطِيلُ لَهُمُ
الْمُدَّةَ وَأُمْهِلُهُمْ وَأُؤَخِّرُ عُقُوبَتَهُمْ. (إِنَّ
كَيْدِي) أَيْ مَكْرِي. (مَتِينٌ) أَيْ شَدِيدٌ قَوِيٌّ.
وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَتْنِ، وَهُوَ اللحم الغليظ الذي عن جانب
__________
(1). راجع ج 19 ص 69.
(2). راجع ج 10 ص 2. [ ..... ]
(7/329)
أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ
إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
الصُّلْبِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي
الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْ قُرَيْشٍ قَتَلَهُمُ اللَّهُ فِي
لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ أَنْ أَمْهَلَهُمْ مُدَّةً.
نَظِيرُهُ" حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ
بَغْتَةً «1» ". وقد تقدم.
[سورة الأعراف (7): آية 184]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ
هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) أَيْ فِيمَا جَاءَهُمْ
بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْوَقْفُ عَلَى" يَتَفَكَّرُوا" حَسَنٌ. ثُمَّ قَالَ:" مَا
بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ" رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ:" يَا أَيُّهَا
الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «2»
". وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً عَلَى الصَّفَا
يَدْعُو قُرَيْشًا، فَخْذًا فَخْذًا، فَيَقُولُ:" يَا بَنِي
فُلَانٍ". يُحَذِّرُهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ. فَقَالَ
قَائِلُهُمْ: إِنَّ صَاحِبَهُمْ هَذَا لَمَجْنُونٌ، بَاتَ
يُصَوِّتُ حتى الصباح.
[سورة الأعراف (7): آية 185]
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ
قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ
يُؤْمِنُونَ (185)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) عَجَبٌ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ
النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ، لِيَعْرِفُوا كَمَالَ قُدْرَتِهِ،
حَسَبَ مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ (الْبَقَرَةِ «3»).
وَالْمَلَكُوتُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ ومعناه الملك
العظيم. وقد تقدم «4». الثَّانِيَةُ- اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ
الْآيَةِ- وَمَا كَانَ مِثْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:"
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «5» 10:
101" وَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى
السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها «6» 50: 6" وقوله:
__________
(1). راجع ج 6 ص 425.
(2). راجع ج 10 ص 4.
(3). راجع ج 1 ص 185.
(4). راجع ص 23 من هذا الجزء.
(5). راجع ج 8 ص 386.
(6). راجع ج 17 ص 5.
(7/330)
" أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ
كَيْفَ خُلِقَتْ «1» " الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ:" وَفِي
أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ «2» "- مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ
النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَخْلُوقَاتِهِ.
قَالُوا: وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَنْظُرْ،
وَسَلَبَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِحَوَاسِّهِمْ فَقَالَ:" لَهُمْ
قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها" الْآيَةَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي أَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ، هَلْ هُوَ النَّظَرُ
وَالِاسْتِدْلَالُ، أَوِ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ
التَّصْدِيقُ الْحَاصِلُ فِي الْقَلْبِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ
شَرْطِ صِحَّتِهِ الْمَعْرِفَةُ. فَذَهَبَ الْقَاضِي
وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ النَّظَرُ
وَالِاسْتِدْلَالُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا
يُعْلَمُ ضَرُورَةً، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ
وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي نَصَبَهَا
لِمَعْرِفَتِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ حَيْثُ بَوَّبَ فِي كِتَابِهِ (بَابُ الْعِلْمِ قَبْلَ
الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:"
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ «3») ". قَالَ
الْقَاضِي: مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِاللَّهِ فَهُوَ
جَاهِلٌ، وَالْجَاهِلُ بِهِ كَافِرٌ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي
مُقَدِّمَاتِهِ: وَلَيْسَ هَذَا بِالْبَيِّنِ، لِأَنَّ
الْإِيمَانَ يَصِحُّ بِالْيَقِينِ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ
لِمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِالتَّقْلِيدِ، وَبِأَوَّلِ وَهْلَةٍ
مِنَ الِاعْتِبَارِ بِمَا أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَى
الِاعْتِبَارِ بِهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ. قَالَ: وَقَدِ
اسْتَدَلَّ الْبَاجِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ النَّظَرَ
وَالِاسْتِدْلَالَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى تَسْمِيَةِ
الْعَامَّةِ وَالْمُقَلِّدِ مُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَلَوْ كَانَ
مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ صَحِيحًا لَمَا صَحَّ أَنْ يُسَمَّى
مُؤْمِنًا إِلَّا مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالنَّظَرِ
وَالِاسْتِدْلَالِ. قَالَ: وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ
لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ
لَجَازَ لِلْكُفَّارِ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ
أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ قَتْلُنَا، لِأَنَّ
مِنْ دِينِكُمْ أَنَّ الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال
فَأَخِّرُونَا حَتَّى نَنْظُرَ وَنَسْتَدِلَّ. قَالَ: وَهَذَا
يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَأَلَّا
يُقْتَلُوا حَتَّى ينظروا يستدلوا. قُلْتُ: هَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ
النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ
عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا
بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ". وَتَرْجَمَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِ الْأَشْرَافِ (ذِكْرُ صِفَةِ كَمَالِ
الْإِيمَانِ) أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ: أشهد أن
__________
(1). راجع ج 20 ص 34.
(2). راجع ج 17 ص 40.
(3). راجع ج 16 ص 241.
(7/331)
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَا
جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَأَبْرَأُ مِنْ كُلِّ دِينٍ
يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ- وَهُوَ بَالِغٌ صَحِيحٌ
الْعَقْلِ- أَنَّهُ مُسْلِمٌ. وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ
وَأَظْهَرَ الْكُفْرَ كَانَ مُرْتَدًّا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا
يَجِبُ عَلَى الْمُرْتَدِّ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ
الزِّنْجَانِيُّ وَكَانَ شَيْخَنَا الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّمَنَانِيُّ يَقُولُ: أَوَّلُ
الْوَاجِبَاتِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ
وَبِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، ثُمَّ النَّظَرُ
وَالِاسْتِدْلَالُ الْمُؤَدِّيَانِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ
تَعَالَى، فَيَتَقَدَّمُ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ
تَعَالَى عِنْدَهُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ. قَالَ:
وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ وَأَرْفَقُ بِالْخَلْقِ،
لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الْمَعْرِفَةِ
وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ أَوَّلَ
الْوَاجِبَاتِ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ لَأَدَّى إِلَى
تَكْفِيرِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ وَالْعَدَدِ الْكَثِيرِ،
وَأَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا آحَادُ النَّاسِ،
وَذَلِكَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَطَعَ بِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ
أُمَّتُهُ، وَأَنَّ أُمَمَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ صَفٌّ
وَاحِدٌ وَأُمَّتُهُ ثَمَانُونَ صَفًّا. وَهَذَا بَيِّنٌ لَا
إِشْكَالَ فِيهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثَةُ- ذَهَبَ
بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ
الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ
تَعَالَى بِالطُّرُقِ الَّتِي طَرَقُوهَا وَالْأَبْحَاثِ
الَّتِي حَرَّرُوهَا لَمْ يَصِحَّ إِيمَانُهُ وَهُوَ كَافِرٌ،
فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا تَكْفِيرُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ،
وَأَوَّلُ مَنْ يَبْدَأُ بِتَكْفِيرِهِ آبَاؤُهُ وَأَسْلَافُهُ
وَجِيرَانُهُ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى بَعْضِهِمْ هَذَا فَقَالَ:
لَا تُشَنِّعُ عَلَيَّ بِكَثْرَةِ أَهْلِ النَّارِ. أَوْ كَمَا
قَالَ. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ
جَاهِلٍ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، لِأَنَّهُ
ضَيَّقَ رَحْمَةَ اللَّهِ الْوَاسِعَةَ عَلَى شِرْذِمَةٍ
يَسِيرَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاقْتَحَمُوا في تكفير
عامة المسلمين. أي هَذَا مِنْ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي
كَشَفَ عَنْ فَرْجِهِ لِيَبُولَ، وَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ
ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
لَقَدْ حَجَرْتَ وَاسِعًا". خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ. أَتُرَى
هَذَا الْأَعْرَابِيَّ عَرَفَ اللَّهَ بِالدَّلِيلِ
وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ؟ وَأَنَّ رَحْمَتَهُ
وسعت كل شي، وَكَمْ مِنْ مِثْلِهِ مَحْكُومٌ لَهُ
بِالْإِيمَانِ. بَلِ اكْتَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ بِالنُّطْقِ
بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَحَتَّى إِنَّهُ اكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ
فِي ذَلِكَ. أَلَا تَرَاهُ لَمَّا قَالَ لِلسَّوْدَاءِ:"
أَيْنَ اللَّهُ"؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ:" مَنْ
أَنَا"؟ قَالَتْ:
(7/332)
أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ:"
أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ". وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
نَظَرٌ وَلَا اسْتِدْلَالٌ، بَلْ حَكَمَ بِإِيمَانِهِمْ مِنْ
أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عَنِ النَّظَرِ
وَالْمَعْرِفَةِ غَفْلَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ-
وَلَا يَكُونُ النَّظَرُ أَيْضًا وَالِاعْتِبَارُ فِي
الْوُجُوهِ الْحِسَانِ مِنَ الْمُرْدِ وَالنِّسْوَانِ. قَالَ
أَبُو الْفَرْجِ الْجَوْزِيُّ: قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ بَلَغَنِي عَنْ هَذِهِ
الطَّائِفَةِ الَّتِي تَسْمَعُ السَّمَاعَ أَنَّهَا تُضِيفُ
إِلَيْهِ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ، وَرُبَّمَا
زَيَّنَتْهُ بِالْحُلِيِّ وَالْمُصَبَّغَاتِ مِنَ الثِّيَابِ،
وَتَزْعُمُ أَنَّهَا تَقْصِدُ بِهِ الِازْدِيَادَ فِي
الْإِيمَانِ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ
بِالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ. وَهَذِهِ النِّهَايَةُ فِي
مُتَابَعَةِ الْهَوَى وَمُخَادَعَةِ الْعَقْلِ وَمُخَالَفَةِ
الْعِلْمِ. قَالَ أَبُو الْفَرْجِ: وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو
الْوَفَاءِ بْنُ عُقَيْلٍ لَمْ يُحِلِ الله النظر إلا على صور
لَا مَيْلَ لِلنَّفْسِ إِلَيْهَا، وَلَا حَظَّ لِلْهَوَى
فِيهَا، بَلْ عِبْرَةٌ لَا يُمَازِجُهَا شَهْوَةٌ، وَلَا
يُقَارِنُهَا لَذَّةٌ. وَلِذَلِكَ مَا بَعَثَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ امْرَأَةً بِالرِّسَالَةِ، وَلَا جَعَلَهَا
قَاضِيًا وَلَا إِمَامًا وَلَا مُؤَذِّنًا، كُلُّ ذَلِكَ
لِأَنَّهَا مَحَلُّ شَهْوَةٍ وَفِتْنَةٍ. فَمَنْ قَالَ: أَنَا
أَجِدُ «1» مِنَ الصُّوَرِ الْمُسْتَحْسَنَةِ عِبَرًا
كَذَّبْنَاهُ. وَكُلُّ مَنْ مَيَّزَ نَفْسَهُ بِطَبِيعَةٍ
تُخْرِجُهُ عَنْ طِبَاعِنَا كَذَّبْنَاهُ، وَإِنَّمَا هَذِهِ
خُدَعُ الشَّيْطَانِ لِلْمُدَّعِينَ. وَقَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ: كُلُّ شي فِي الْعَالَمِ الْكَبِيرِ لَهُ
نَظِيرٌ فِي الْعَالَمِ الصَّغِيرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ
تَعَالَى:" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ «2»
تَقْوِيمٍ" وَقَالَ:" وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ
«3» ". وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ التَّمْثِيلِ فِي أَوَّلِ"
الْأَنْعَامِ «4» ". فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى
نَفْسِهِ ومتفكر فِي خَلْقِهِ مِنْ حِينِ كَوْنِهِ مَاءً
دَافِقًا إِلَى كَوْنِهِ خَلْقًا سَوِيًّا، يُعَانُ
بِالْأَغْذِيَةِ وَيُرَبَّى بِالرِّفْقِ، وَيُحْفَظُ
بِاللِّينِ حَتَّى يَكْتَسِبَ الْقُوَى، وَيَبْلُغَ
الْأَشُدَّ. وَإِذَا هُوَ قَدْ قَالَ: أَنَا، وَأَنَا،
وَنَسِيَ حِينَ أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ
يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَسَيَعُودُ مَقْبُورًا، فَيَا
وَيْحَهُ إِنْ كَانَ مَحْسُورًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى"
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ.
ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ"- إِلَى
قَوْلِهِ-" تُبْعَثُونَ «5» " فَيَنْظُرُ أَنَّهُ عَبْدٌ
مَرْبُوبٌ مُكَلَّفٌ، مُخَوَّفٌ بِالْعَذَابِ إِنْ قَصَّرَ،
مُرْتَجِيًا «6» بِالثَّوَابِ إِنِ ائْتَمَرَ «7»، فَيُقْبِلُ
عَلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ (فَإِنَّهُ «8») وَإِنْ كان لا يراه
يراه
و (لا «9») يخشى الناس
__________
(1). في ى: آخذ
(2). راجع ج 20 ص 113.
(3). راجع ج 17 ص 40.
(4). راجع ج 6 ص 387.
(5). راجع ج 12 ص 108. [ ..... ]
(6). من ز. وفى ى: فرحا.
(7). في ع: إن شمر.
(8). من ع
(9). في ع: إن شمر.
(7/333)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ (186)
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَخْشَاهُ، وَلَا
يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ
مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْذَارٍ، مَشْحُونٌ مِنْ أَوْضَارٍ «1»،
صَائِرٌ إِلَى جَنَّةٍ إِنْ أَطَاعَ أَوْ إِلَى نَارٍ. وَقَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ شُيُوخُنَا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ
يَنْظُرَ الْمَرْءُ فِي الْأَبْيَاتِ الْحِكَمِيَّةِ الَّتِي
جَمَعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافَ العلمية:
كَيْفَ يَزْهُو مَنْ رَجِيعُهُ «2» ... أَبَدَ الدَّهْرِ
ضَجِيعُهُ
فَهُوَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ ... وَأَخُوهُ وَرَضِيعُهُ
وَهْوَ يَدْعُوهُ إلى الحش ... «3» بصغر فيعطيه
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)
مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ وَفِيمَا خَلَقَ اللَّهُ
مِنَ الْأَشْيَاءِ. (وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ
أَجَلُهُمْ) أَيْ وَفِي آجَالِهِمُ الَّتِي عَسَى أَنْ تَكُونَ
قَدْ قَرُبَتْ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى
مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِاقْتِرَابِ
الْأَجَلِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أَيْ بِأَيِّ قُرْآنٍ غَيْرَ مَا جَاءَ
بِهِ مُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4»)
يُصَدِّقُونَ. وَقِيلَ: الْهَاءُ لِلْأَجَلِ، عَلَى مَعْنَى
بِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ يُؤْمِنُونَ حِينَ لَا
يَنْفَعُ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ ليست بدار تكليف.
[سورة الأعراف (7): آية 186]
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
بَيَّنَ أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُمْ.
وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. (وَيَذَرُهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ) بالرفع على الاستئناف. وقرى بِالْجَزْمِ حَمْلًا
عَلَى مَوْضِعِ الْفَاءِ وَمَا بَعْدَهَا. (يَعْمَهُونَ) أَيْ
يَتَحَيَّرُونَ. وَقِيلَ: يَتَرَدَّدُونَ. وَقَدْ مَضَى في أول
البقرة «5» مستوفى.
__________
(1). الزيادة عن ابن العربي. والأوضار: الأوساخ.
(2). الرجيع: العذرة والروث.
(3). الحش بالتثليث: النخل المجتمع، ويكنى به عن بيت الخلاء،
لما كان من عادتهم التغوط في البساتين. في ع: بعلم. وفى ى:
بحصر.
(4). من ع.
(5). راجع ج 1 ص 209.
(7/334)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا
عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ
ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ
إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
[سورة الأعراف (7): آية 187]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما
عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ
ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ
بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما
عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ (187)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ
مُرْساها) " أَيَّانَ" سُؤَالٌ عَنِ الزَّمَانِ، مِثْلَ مَتَى.
قَالَ الرَّاجِزُ:
أَيَّانَ تَقْضِي حَاجَتِي أَيَّانَا ... أَمَا تَرَى
لِنَجْحِهَا أَوَانَا
وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَأَخْبِرْنَا عَنِ
السَّاعَةِ مَتَى تَقُومُ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ
قَالُوا ذَلِكَ لِفَرْطِ الإنكار. و" مُرْساها" فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَبَرُ"
أَيَّانَ". وَهُوَ ظَرْفٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، بُنِيَ
لأن فيه معنى الاستفهام. و" مُرْساها" بِضَمِّ الْمِيمِ، مِنْ
أَرْسَاهَا اللَّهُ، أَيْ أَثْبَتَهَا، أَيْ مَتَى
مُثْبَتُهَا، أَيْ مَتَى وُقُوعُهَا. وَبِفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ
رَسَتْ، أَيْ ثَبَتَتْ وَوَقَفَتْ، وَمِنْهُ" وَقُدُورٍ
راسِياتٍ «1» ". قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ ثَابِتَاتٌ. (قُلْ
إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ
لَمْ يُبَيِّنْهَا لِأَحَدٍ، حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ أَبَدًا
عَلَى حَذَرٍ (لَا يُجَلِّيها) أَيْ لَا يُظْهِرُهَا."
لِوَقْتِها" أَيْ فِي وَقْتِهَا" إِلَّا هُوَ"
وَالتَّجْلِيَةُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ، يُقَالُ: جَلَّا لِي
فُلَانٌ الْخَبَرَ إذا أظهره وأوضحه. ومعنى (ثَقُلَتْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خَفِيَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). وَكُلُّ مَا خَفِيَ، عِلْمُهُ
فَهُوَ ثَقِيلٌ عَلَى الْفُؤَادِ. وَقِيلَ: كَبُرَ مَجِيئُهَا
عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَنِ الْحَسَنِ
وَغَيْرِهِ. ابْنُ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيُّ: عَظُمَ وَصْفُهَا
«2» عَلَى أَهْلِ السماوات والأرض. وقال قتادة: وغيره: المعنى
تُطِيقُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لِعِظَمِهَا: لِأَنَّ
السَّمَاءَ تَنْشَقُّ وَالنُّجُومَ تَتَنَاثَرُ وَالْبِحَارَ
تَنْضُبُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى ثَقُلَتِ الْمَسْأَلَةُ «3»
عَنْهَا. (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أَيْ فجأة، مصدر
في موضع الحال (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ)
__________
(1). راجع ج 14 ص 376.
(2). في ع: وقعها.
(3). في ز: غم.
(7/335)
قُلْ لَا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ
الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ
وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
عَنْهَا) أَيْ عَالِمٌ بِهَا كَثِيرُ
السُّؤَالِ عَنْهَا. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْحَفِيُّ
الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ. وَالْحَفِيُّ الْمُسْتَقْصِي فِي
السُّؤَالِ. قَالَ الْأَعْشَى:
فَإِنْ تَسْأَلِي عني فيأرب سائل ... خفي عَنِ الْأَعْشَى بِهِ
حَيْثُ أَصْعَدَا
يُقَالُ: أَحْفَى فِي الْمَسْأَلَةِ وَفِي الطَّلَبِ، فَهُوَ
مُحْفٍ وَحَفِيٌّ عَلَى التَّكْثِيرِ، مِثْلَ مُخْصِبٍ
وَخَصِيبٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: الْمَعْنَى
يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهَا،
أَيْ مُلِحٌّ. يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ
تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ:
هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْمَعْنَى:
يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهِمْ أَيْ حَفِيٌّ
بِبِرِّهِمْ وَفَرِحٌ بِسُؤَالِهِمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ
قَالُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ قَرَابَةٌ فَأَسِرَّ إِلَيْنَا
بِوَقْتِ السَّاعَةِ. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ليس هذا تكريرا،
ولكن أحد المسلمين لوقوعها والآخر لكنهها.
[سورة الأعراف (7): آية 188]
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا
شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ
مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا
ضَرًّا) أَيْ لَا أَمْلِكُ أَنْ أَجْلِبَ إِلَى نَفْسِي
خَيْرًا وَلَا أَدْفَعَ عَنْهَا شَرًّا، فَكَيْفَ أَمْلِكُ
عِلْمَ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي الْهُدَى
وَالضَّلَالَ. (إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
بِالِاسْتِثْنَاءِ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَا شاء الله أن
يملكني يمكنني مِنْهُ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَلُ «1»
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ
الْخَيْرِ) الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَا يُرِيدُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنِّي مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعَرِّفَنِيهِ
لَفَعَلْتُهُ. وَقِيلَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَتَى يَكُونُ
لِيَ النَّصْرُ فِي الْحَرْبِ لَقَاتَلْتُ فَلَمْ أُغْلَبْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ سَنَةَ
الْجَدْبِ لَهَيَّأْتُ لَهَا فِي زَمَنِ الْخَصْبِ مَا
يَكْفِينِي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ
التِّجَارَةَ التي تنفق لاشتريتها وقت كسادها. وقيل:
__________
(1). عجز بيت للأسود بن يعفر: والبيت:
ألا هل لهذا الدهر من متعلل ... عن الناس مهما
. إلخ.
(7/336)
هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا
لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا
خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ
رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ
شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ (190)
الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَتَى
أَمُوتُ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، عَنِ
الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُ
أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَأَجَبْتُ عَنْ كُلِّ مَا أُسْأَلُ
عَنْهُ. وَكُلُّهُ مُرَادٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَما
مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هَذَا اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ، أَيْ
لَيْسَ بِي جُنُونٌ، لِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ.
وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى لَوْ عَلِمْتُ
الْغَيْبَ لَمَا مَسَّنِي سُوءٌ وَلَحَذِرْتُ،" وَدَلَّ عَلَى
هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ
«1» ".
[سورة الأعراف (7): الآيات 189 الى 190]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها
زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ
حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا
اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ
شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
(190)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) قَالَ جُمْهُورُ
الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمُ.
(وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) يَعْنِي حَوَّاءَ. (لِيَسْكُنَ
إِلَيْها) لِيَأْنَسَ بِهَا وَيَطْمَئِنَّ، وكان هذا كله في
الجنة. ثُمَّ ابْتَدَأَ بِحَالَةٍ أُخْرَى هِيَ فِي الدُّنْيَا
بَعْدَ هُبُوطِهِمَا فَقَالَ: (فَلَمَّا تَغَشَّاها) كِنَايَةً
عَنِ الْوِقَاعِ. (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً) كُلُّ مَا كَانَ
فِي بَطْنٍ أَوْ عَلَى رَأْسِ شَجَرَةٍ فَهُوَ حَمْلٌ
بِالْفَتْحِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرٍ أَوْ عَلَى رَأْسٍ
فَهُوَ حِمْلٌ بِالْكَسْرِ. وَقَدْ حَكَى يَعْقُوبُ فِي حَمْلِ
النَّخْلَةِ الْكَسْرَ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ:
يُقَالُ فِي حَمْلِ الْمَرْأَةِ حَمْلٌ وجمل، يُشَبَّهُ
مَرَّةً لِاسْتِبْطَانِهِ بِحَمْلِ الْمَرْأَةِ، وَمَرَّةً
لِبُرُوزِهِ وَظُهُورِهِ بِحِمْلِ الدَّابَّةِ. وَالْحَمْلُ
أَيْضًا مَصْدَرُ حَمَلَ عَلَيْهِ يَحْمِلُ حَمْلًا إِذَا
صَالَ. (فَمَرَّتْ بِهِ) يَعْنِي الْمَنِيَّ، أَيِ
اسْتَمَرَّتْ بِذَلِكَ الْحَمْلِ الْخَفِيفِ. يَقُولُ: تَقُومُ
وَتَقْعُدُ وَتَقَلَّبُ، وَلَا تَكْتَرِثُ بِحَمْلِهِ إِلَى
أَنْ ثَقُلَ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا. وقيل:
__________
(1). من ج. وفى ب: إن أنا إلا نذير وبشير. [ ..... ]
(7/337)
الْمَعْنَى فَاسْتَمَرَّ بِهَا الْحَمْلُ،
فَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، كَمَا تَقُولُ: أَدْخَلْتُ
الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ" فَمَارَتْ بِهِ" بِأَلِفٍ وَالتَّخْفِيفِ، مِنْ مَارَ
يَمُورُ إِذَا ذَهَبَ وَجَاءَ وَتَصَرَّفَ. وَقَرَأَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ" فَمَرَتْ بِهِ" خَفِيفَةً
مِنَ الْمِرْيَةِ، أَيْ شَكَّتْ فِيمَا أَصَابَهَا، هَلْ هُوَ
حَمْلٌ أَوْ مَرَضٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) صَارَتْ ذَاتَ
ثِقْلٍ، كَمَا تَقُولُ: أَثْمَرَ النَّخْلُ. وَقِيلَ: دَخَلَتْ
فِي الثِّقْلِ، كَمَا تَقُولُ: أَصْبَحَ وَأَمْسَى. (دَعَوَا
اللَّهَ رَبَّهُما) الضَّمِيرُ فِي" دَعَوَا" عَائِدٌ عَلَى
آدَمَ وَحَوَّاءَ. وَعَلَى هَذَا القول رُوِيَ فِي قَصَصِ
هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ حَوَّاءَ لَمَّا حَمَلَتْ أَوَّلَ
حَمْلٍ لَمْ تَدْرِ مَا هُوَ. وَهَذَا يُقَوِّي قِرَاءَةَ مَنْ
قَرَأَ" فَمَرَتْ بِهِ" بِالتَّخْفِيفِ. فَجَزِعَتْ بِذَلِكَ،
فَوَجَدَ إِبْلِيسُ السَّبِيلَ إِلَيْهَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ:
إِنَّ إِبْلِيسَ أَتَى حَوَّاءَ فِي صُورَةِ رَجُلٍ لَمَّا
أَثْقَلَتْ فِي أَوَّلِ مَا حَمَلَتْ فَقَالَ: مَا هَذَا
الَّذِي فِي بَطْنِكِ؟ قَالَتْ: مَا أَدْرِي! قَالَ: إِنِّي
أَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَهِيمَةً. فَقَالَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَلَمْ يَزَالَا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا فَقَالَ: هُوَ مِنَ اللَّهِ
بِمَنْزِلَةٍ، فَإِنْ دَعَوْتُ اللَّهَ فَوَلَدْتِ إِنْسَانًا
أَفَتُسَمِّينَهُ «1» بِي؟ قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي
أَدْعُو اللَّهَ. فَأَتَاهَا وَقَدْ وَلَدَتْ فَقَالَ:
سَمِّيهِ بِاسْمِي. فَقَالَتْ: وَمَا اسْمُكَ؟ قَالَ:
الْحَارِثُ- وَلَوْ سَمَّى لَهَا نَفْسَهُ لَعَرَفَتْهُ-
فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ. وَنَحْوَ هَذَا مَذْكُورٌ مِنْ
ضَعِيفِ الْحَدِيثِ، فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ. وَفِي
الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ كَثِيرٌ لَيْسَ لَهَا ثَبَاتٌ، فَلَا
يعول عليها من لم قَلْبٌ، فَإِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَإِنْ غَرَّهُمَا بِاللَّهِ
الْغَرُورُ فَلَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ
مَرَّتَيْنِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُطِّرَ وَكُتِبَ. قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
خَدَعَهُمَا مَرَّتَيْنِ (خَدَعَهُمَا) فِي الْجَنَّةِ
وَخَدَعَهُمَا فِي الْأَرْضِ". وَعُضِّدَ هَذَا بِقِرَاءَةِ
السُّلَمِيِّ" أَتُشْرِكُونَ" بِالتَّاءِ. وَمَعْنَى
(صَالِحًا) يُرِيدُ وَلَدًا سَوِيًّا. (فَلَمَّا آتاهُما
صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) 190 وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ الشِّرْكِ الْمُضَافِ إِلَى آدَمَ
وَحَوَّاءَ، وَهِيَ: الثَّالِثَةُ- قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
كَانَ شركا في التسمية والصفة، لا في العباد
وَالرُّبُوبِيَّةِ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّهُمَا
لَمْ يَذْهَبَا إِلَى أَنَّ الْحَارِثَ رَبُّهُمَا
بِتَسْمِيَتِهِمَا وَلَدَهُمَا عَبْدَ الحارث،
__________
(1). في الأصول فتسميه.
(7/338)
لَكِنَّهُمَا قَصَدَا إِلَى أَنَّ
الْحَارِثَ كَانَ سَبَبَ نَجَاةِ الْوَلَدِ فَسَمَّيَاهُ بِهِ
كَمَا يُسَمِّي الرَّجُلُ نَفْسَهُ عَبْدَ ضَيْفِهِ عَلَى
جِهَةِ الْخُضُوعِ لَهُ، لَا عَلَى أَنَّ الضَّيْفَ رَبُّهُ،
كَمَا قَالَ حَاتِمٌ:
وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًا ... وَمَا
فِيَّ إِلَّا تِيكَ مِنْ شِيمَةِ الْعَبْدِ
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى جِنْسِ
الْآدَمِيِّينَ وَالتَّبْيِينِ عَنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ
ذُرِّيَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ الَّذِي
يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. فَقَوْلُهُ:" جَعَلا لَهُ 190" يَعْنِي
الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى الْكَافِرَيْنِ، ويعنى به الجنسان.
وَدَلَّ عَلَى هَذَا (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
وَلَمْ يَقُلْ يُشْرِكَانِ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ"
مِنْ هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَشَكْلٍ وَاحِدٍ" وَجَعَلَ مِنْها
زَوْجَها" أَيْ مِنْ جِنْسِهَا" فَلَمَّا تَغَشَّاها" يَعْنِي
الْجِنْسَيْنِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ لِآدَمَ
وَحَوَّاءَ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ، فَإِذَا آتَاهُمَا الْوَلَدَ
صَالِحًا سَلِيمًا سَوِيًّا كَمَا أَرَادَاهُ صَرَفَاهُ عَنِ
الْفِطْرَةِ إِلَى الشِّرْكِ، فَهَذَا فِعْلُ الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" مَا مِنْ مَوْلُودٍ
إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ- فِي رِوَايَةٍ (عَلَى هذه
«1») الملة- أبواه يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ
وَيُمَجِّسَانِهِ". قَالَ عِكْرِمَةُ: لَمْ يَخُصَّ بِهَا
آدَمَ، وَلَكِنْ جَعَلَهَا عَامَّةً لِجَمِيعِ الْخَلْقِ
بَعْدَ آدَمَ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: وَهَذَا
أَعْجَبُ إِلَى أَهْلِ النَّظَرِ، لِمَا فِي الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ مِنَ الْمُضَافِ مِنَ الْعَظَائِمِ بِنَبِيِّ
اللَّهِ آدَمَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ"
شِرْكًا" عَلَى التَّوْحِيدِ. وَأَبُو عَمْرٍو وَسَائِرُ
أَهْلِ الْكُوفَةِ بِالْجَمْعِ، عَلَى مِثْلِ فُعَلَاءَ،
جَمْعُ شَرِيكٍ. وَأَنْكَرَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ الْقِرَاءَةَ
الْأُولَى، وَهِيَ صَحِيحَةٌ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ
جَعَلَا لَهُ ذَا شِرْكٍ، مِثْلَ" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ"
فَيَرْجِعُ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ
شُرَكَاءَ. الرَّابِعَةُ- وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ
الْحَمْلَ مَرَضٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ. رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ
وَيَحْيَى عَنْ مَالِكٍ قَالَ: أَوَّلُ الْحَمْلِ يُسْرٌ»
وَسُرُورٌ، وَآخِرُهُ مَرَضٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ. وَهَذَا
الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ:" إِنَّهُ مَرَضٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ"
يُعْطِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ:" دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما"
وَهَذِهِ الْحَالَةُ مُشَاهَدَةٌ فِي الْحُمَّالِ، وَلِأَجْلِ
عِظَمِ الْأَمْرِ وَشِدَّةِ الْخَطْبِ جُعِلَ مَوْتُهَا
شَهَادَةً، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «3».
__________
(1). من هـ وى.
(2). في ج وا ول وز: بشر.
(3). في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الشهادة سبع
سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد والغريق شهيد وصاحب ذات
الجنب شهيد والمبطلون شهيد وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت
الهدم شهيد والمرأة تموت يجمع شهيدة" أي تموت وفى بطنها ولد.
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حيان والحكم.
(7/339)
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا مِنْ ظَاهِرِ
الْآيَةِ فَحَالُ الْحَامِلِ حَالُ الْمَرِيضِ فِي
أَفْعَالِهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ
أَنَّ فِعْلَ الْمَرِيضِ فِيمَا يَهَبُ وَيُحَابِي فِي
ثُلُثِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ:
وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْحَامِلِ بِحَالِ الطَّلْقِ،
فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَمْلَ
عَادَةٌ وَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ. قُلْنَا: كَذَلِكَ
أَكْثَرُ الْأَمْرَاضِ غَالِبُهُ السَّلَامَةُ، وَقَدْ يَمُوتُ
مَنْ لَمْ يَمْرَضْ. الْخَامِسَةُ- قَالَ مَالِكٌ: إِذَا
مَضَتْ لِلْحَامِلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ حَمَلَتْ
لَمْ يَجُزْ لَهَا قَضَاءٌ فِي مَالِهَا إِلَّا فِي الثُّلُثِ.
وَمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ طَلَاقًا بَائِنًا
فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَرَادَ
ارْتِجَاعَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا مَرِيضَةٌ
ونكاح المريضة لا يصح. السادسة- قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ
مَالِكًا يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَحْضُرُ الْقِتَالَ: إِنَّهُ
إِذَا زَحَفَ فِي الصَّفِّ لِلْقِتَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ
يَقْضِيَ فِي ما له شَيْئًا إِلَّا فِي الثُّلُثِ، وَإِنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ الْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ الْمَخُوفُ عَلَيْهِ مَا
كَانَ بِتِلْكَ الْحَالِ. وَيُلْتَحَقُ بِهَذَا الْمَحْبُوسُ
لِلْقَتْلِ فِي قِصَاصٍ. وَخَالَفَ فِي هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَإِذَا اسْتَوْعَبْتَ النَّظَرَ لَمْ تُرَتِّبْ فِي أَنَّ
الْمَحْبُوسَ عَلَى الْقَتْلِ أَشَدُّ حَالًا مِنَ الْمَرِيضِ،
وَإِنْكَارُ ذَلِكَ غَفْلَةٌ فِي النَّظَرِ، فَإِنَّ سَبَبَ
الْمَوْتِ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمَا، كَمَا أَنَّ الْمَرَضَ
سَبَبُ الْمَوْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ
رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ". وَقَالَ رُوَيْشِدُ
الطَّائِيُّ:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سَائِلٌ
بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ «1»
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ...
قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِذْ
جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ
زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «2»
10". فَكَيْفَ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ:
الْحَالُ الشَّدِيدَةُ إِنَّمَا هِيَ الْمُبَارَزَةُ، وَقَدْ
أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ مُقَاوَمَةِ «3»
الْعَدُوِّ وَتَدَانِي الْفَرِيقَيْنِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ
الْعُظْمَى مِنْ بُلُوغِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ، وَمِنْ
سُوءِ الظُّنُونِ بِاللَّهِ، ومن زلزلة القلوب واضطرابها،
__________
(1). الصوت: الجرس، مذكر. وإنما أنثه هنا لأنه أراد به الضوضاء
والجلبة، على معنى الصيحة أو الاستغاثة.
(2). راجع ج 14 ص 144.
(3). في ج: مقاربة.
(7/340)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا
يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
هَلْ هَذِهِ حَالَةٌ تُرَى عَلَى
الْمَرِيضِ أَمْ لَا؟ هَذَا مَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مُنْصِفٌ،
وَهَذَا لِمَنْ ثَبَتَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَجَاهَدَ فِي
اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَشَاهَدَ الرَّسُولَ وَآيَاتِهِ،
فَكَيْفَ بِنَا؟ السَّابِعَةُ- وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا
فِي رَاكِبِ الْبَحْرِ وَقْتَ الْهَوْلِ، هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ
الصَّحِيحِ أَوِ الْحَامِلِ. فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ:
حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ:
حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَامِلِ إِذَا بَلَغَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَوْلُهُمَا أَقْيَسُ،
لِأَنَّهَا حَالَةُ خَوْفٍ عَلَى النَّفْسِ كَإِثْقَالِ
الْحَمْلِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَابْنُ الْقَاسِمِ لَمْ
يَرْكَبِ الْبَحْرَ، وَلَا رَأَى دُودًا عَلَى عُودٍ. وَمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُوقِنَ بِاللَّهِ أَنَّهُ الْفَاعِلُ وَحْدَهُ
لَا فَاعِلَ مَعَهُ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ ضَعِيفَةٌ لَا
تَعَلُّقَ لِمُوقِنٍ بِهَا، ويتحقق التوكل والتفويض فليركب
البحر.
[سورة الأعراف (7): الآيات 191 الى 192]
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
(191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ
يَنْصُرُونَ (192)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً)
أَيْ أَيَعْبُدُونَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ.
(وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أَيِ الْأَصْنَامُ مَخْلُوقَةٌ.
وَقَالَ:" يُخْلَقُونَ" بِالْوَاوِ وَالنُّونِ لِأَنَّهُمُ
اعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ تَضُرُّ وَتَنْفَعُ،
فَأُجْرِيَتْ مَجْرَى النَّاسِ، كَقَوْلِهِ:" فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ «1» ". وقوله:" يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
«2» مَساكِنَكُمْ". (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا
أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أَيْ إِنَّ الأصنام، لا تنصر ولا
تنتصر.
[سورة الأعراف (7): آية 193]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ
عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا
يَتَّبِعُوكُمْ) قَالَ الْأَخْفَشُ: أي وإن تدعو الْأَصْنَامَ
إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ
أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) قال أحمد
__________
(1). راجع ج 11 ص 286 وج 15 ص 32.
(2). راجع ج 13 ص 169.
(7/341)
إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ
فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ
لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ
ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ
يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
ابن يَحْيَى: لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ.
يُرِيدُ أَنَّهُ قَالَ:" أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ" وَلَمْ
يَقُلْ أَمْ صَمَتُّمْ. وَصَامِتُونَ وَصَمَتُّمْ عِنْدَ
سِيبَوَيْهَ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ سَبَقَ فِي
عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. وقرى" لَا
يَتَّبِعُوكُمْ" مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا" لُغَتَانِ
بِمَعْنًى. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ:" أَتْبَعَهُ"-
مُخَفَّفًا- إِذَا مَضَى خَلْفَهُ وَلَمْ يُدْرِكْهُ. وَ"
اتَّبَعَهُ"- مُشَدَّدًا- إِذَا مضى خلفه فأدركه.
[سورة الأعراف (7): الآيات 194 الى 196]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ
أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها
أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ
ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ
يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) حَاجَّهُمْ فِي عِبَادَةِ
الْأَصْنَامِ." تَدْعُونَ" تَعْبُدُونَ. وَقِيلَ: تَدْعُونَهَا
آلِهَةً." مِنْ دُونِ اللَّهِ" أَيْ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ.
وَسُمِّيَتِ الْأَوْثَانُ عباد الأنها مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ
مُسَخَّرَةٌ. الْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَنَّ الْأَصْنَامَ مخلوقة
أمثالكم. وَلَمَّا اعْتَقَدَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ
الْأَصْنَامَ تَضُرُّ وَتَنْفَعُ أَجْرَاهَا مَجْرَى النَّاسِ
فَقَالَ: (فَادْعُوهُمْ)
وَلَمْ يَقُلْ فَادْعُوهُنَّ. وَقَالَ:" عِبَادٌ"، وَقَالَ:"
إِنَّ الَّذِينَ" وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الَّتِي. وَمَعْنَى"
فَادْعُوهُمْ" أَيْ «1» فَاطْلُبُوا منهم النفع والضر. أن
عبادة الأصنام تنفع. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى فَادْعُوهُمْ
فَاعْبُدُوهُمْ. ثُمَّ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَسَفَّهَ
عُقُولَهُمْ فَقَالَ:" أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ
لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها"
الْآيَةَ. أَيْ أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْهُمْ فَكَيْفَ
تَعْبُدُونَهُمْ. وَالْغَرَضُ بَيَانُ جَهْلِهِمْ، لِأَنَّ
الْمَعْبُودَ يَتَّصِفُ بِالْجَوَارِحِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ:" إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
عِبَادٌ اأمثالكم" بتخفيف" إن" وكسرها لالتقاء الساكنين، ونصب"
عباد ا" بِالتَّنْوِينِ،" أَمْثَالَكُمْ" بِالنَّصْبِ.
وَالْمَعْنَى: مَا الَّذِينَ تَدْعُونَ من دون الله عباد
اأمثالكم، أَيْ هِيَ حِجَارَةٌ وَخَشَبٌ، فَأَنْتُمْ
تَعْبُدُونَ مَا أنتم أشرف منه.
__________
(1). من ج.
(7/342)
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ لَا
يَنْبَغِي أَنْ يقرأ بها من ثلاث جهات: أحدها: أَنَّهَا
مُخَالِفَةٌ لِلسَّوَادِ. وَالثَّانِيَةُ- أَنَّ سِيبَوَيْهَ
يَخْتَارُ الرَّفْعَ فِي خَبَرِ إِنْ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى
مَا، فَيَقُولُ: إِنْ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، لِأَنَّ عَمَلَ" مَا"
ضَعِيفٌ، وَ" إِنْ" بِمَعْنَاهَا فَهِيَ أَضْعَفُ مِنْهَا.
وَالثَّالِثَةُ- أَنَّ الْكِسَائِيَّ زَعَمَ أَنَّ" إِنْ" لَا
تَكَادُ تَأْتِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى" مَا"،
إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا إِيجَابٌ، كَمَا قَالَ عَزَّ
وَجَلَّ:" إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ «1» "."
فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ" الْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ
مَكْسُورَةً، فَحُذِفَتِ الْكَسْرَةُ لِثِقَلِهَا. ثُمَّ
قِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، الْمَعْنَى: فَادْعُوهُمْ إِلَى
أَنْ يَتَّبِعُوكُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ أَنَّهُمْ آلِهَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ
وَشَيْبَةُ" أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطُشُونَ بِهَا" بِضَمِّ
الطَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ. وَالْيَدُ والرجل الإذن مُؤَنَّثَاتُ
يُصَغَّرْنَ بِالْهَاءِ. وَتُزَادُ فِي الْيَدِ يَاءٌ فِي
التَّصْغِيرِ، تُرَدُّ إِلَى أَصْلِهَا فَيُقَالُ: يُدَيَّةٌ
بِالتَّشْدِيدِ لِاجْتِمَاعِ الْيَاءَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أَيِ الْأَصْنَامُ. (ثُمَّ
كِيدُونِ) أَنْتُمْ وَهِيَ. (فَلَا تُنْظِرُونِ) أَيْ فَلَا
تُؤَخِّرُونِ. وَالْأَصْلُ" كِيدُونِي" حُذِفَتِ الْيَاءُ
لِأَنَّ الْكَسْرَةَ تَدُلُّ عَلَيْهَا. وَكَذَا" فَلَا
تُنْظِرُونِ". وَالْكَيْدُ الْمَكْرُ. وَالْكَيْدُ الْحَرْبُ،
يُقَالُ: غَزَا فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. (إِنَّ وَلِيِّيَ
اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) أَيِ الَّذِي يَتَوَلَّى
نَصْرِي وَحِفْظِي اللَّهُ. وَوَلِيُّ الشَّيْءِ: الَّذِي
يَحْفَظُهُ وَيَمْنَعُ عَنْهُ الضَّرَرَ. وَالْكِتَابُ:
الْقُرْآنُ. (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أَيْ
يَحْفَظُهُمْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَارًا غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُولُ:" أَلَا
إِنَّ آلَ أَبِي- يَعْنِي «2» فُلَانًا- لَيْسُوا لِي
بِأَوْلِيَاءَ إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ". وقال الأخفش: وقرى" إِنَّ وَلِيَّ اللَّهِ
الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ" يَعْنِي جِبْرِيلَ. النَّحَّاسُ.
هِيَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ. وَالْقِرَاءَةُ الأولى
أبين، لقوله:" وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ".
__________
(1). راجع ج 18 ص 218.
(2). في شرح النوري على صحيح مسلم:" هذه الكناية بقوله: يعنى
فلانا، هي من بعض الرواة خشي أن يسميه فيترتب عليه مفسدة
وفتنة، إما في حق نفسه، وإما في حقه وحق غيره فكنى عنه ... قال
القاضي عياض رضى الله عنه قيل: إن المكنى عنه ها هنا هو الحكم
بن أبى العاص والله أعلم".
(7/343)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا
أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
[سورة الأعراف (7): الآيات 197 الى 198]
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ
تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ)
كَرَّرَهُ لَيُبَيِّنُ أَنَّ مَا يَعْبُدُونَهُ لَا يَنْفَعُ
وَلَا يَضُرُّ. (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) شَرْطٌ،
والجواب (لا يَسْمَعُوا). (وَتَراهُمْ) مستأنف. (يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. يَعْنِي الْأَصْنَامَ.
وَمَعْنَى النَّظَرِ فتح العينين الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ،
وَتَرَاهُمْ كَالنَّاظِرِينَ إِلَيْكَ. وَخَبَّرَ عَنْهُمْ
بِالْوَاوِ وَهِيَ جَمَادٌ لَا تُبْصِرُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ
جَرَى عَلَى فِعْلِ مَنْ يَعْقِلُ. وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُمْ
أَعْيُنٌ مِنْ جَوَاهِرَ مَصْنُوعَةٍ فَلِذَلِكَ قَالَ"
وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ" وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ
الْمُشْرِكُونَ، أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا
يُبْصِرُونَ حِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بأبصارهم.
[سورة الأعراف (7): آية 199]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجاهِلِينَ (199)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ
ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ، تَضَمَّنَتْ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ فِي
الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ. فَقَوْلُهُ: (خُذِ
الْعَفْوَ) دَخَلَ فِيهِ صِلَةُ الْقَاطِعِينَ، وَالْعَفْوُ
عَنِ الْمُذْنِبِينَ، وَالرِّفْقُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُطِيعِينَ وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ:
(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) صِلَةُ الْأَرْحَامِ، وَتَقْوَى
اللَّهِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَغَضُّ الْأَبْصَارِ،
وَالِاسْتِعْدَادُ لِدَارِ الْقَرَارِ. وَفِي قَوْلِهِ
(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) الْحَضُّ عَلَى التَّعَلُّقِ
بِالْعِلْمِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ أَهْلِ الظُّلْمِ،
وَالتَّنَزُّهُ عَنْ مُنَازَعَةِ السُّفَهَاءِ، وَمُسَاوَاةِ
الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ
الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالْأَفْعَالِ الرَّشِيدَةِ.
قُلْتُ: هَذِهِ الْخِصَالُ تَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ، وَقَدْ
جَمَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِجَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ. قَالَ جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ أَبُو
جُرَيٍّ: رَكِبْتُ قَعُودِي ثُمَّ أَتَيْتُ إِلَى مَكَّةَ
فَطَلَبْتُ رَسُولَ اللَّهِ
(7/344)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَنَخْتُ قَعُودِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَدَلُّونِي عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا
هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ بُرْدٌ مِنْ صُوفٍ فِيهِ طَرَائِقُ
حُمْرٍ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَالَ:" وَعَلَيْكَ السَّلَامُ". فَقُلْتُ: إِنَّا مَعْشَرُ
أَهْلِ الْبَادِيَةِ، قَوْمٌ فِينَا الْجَفَاءُ، فَعَلِّمْنِي
كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا. قَالَ:" ادْنُ"
ثَلَاثًا، فَدَنَوْتُ فَقَالَ:" أَعِدْ عَلَيَّ" فَأَعَدْتُ
عَلَيْهِ فَقَالَ: (اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ
الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَأَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ
مُنْبَسِطٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ
الْمُسْتَسْقِي وَإِنِ امْرُؤٌ سَبَّكَ بِمَا لَا يَعْلَمُ
مِنْكَ فَلَا تَسُبُّهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ
جَاعِلٌ لَكَ أَجْرًا وَعَلَيْهِ وِزْرًا وَلَا تَسُبَّنَّ
شَيْئًا مِمَّا خَوَّلَكَ اللَّهُ تَعَالَى (. قَالَ أَبُو
جُرَيٍّ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ
شَاةً وَلَا بَعِيرًا. أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ
فِي مُسْنَدِهِ بِمَعْنَاهُ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:"
إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ
يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ".
وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ
الْآيَةَ إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَرَوَى
الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ:"
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ" قَالَ: مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ.
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ
قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ"؟
فَقَالَ:" لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ" فِي
رِوَايَةٍ" لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّيَ" فَذَهَبَ
فَمَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ:" إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ
وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ". فَنَظَمَهُ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
مَكَارِمُ الأخلاق في ثلاثة ... وممن كَمُلَتْ فِيهِ فَذَلِكَ
الْفَتَى «1»
إِعْطَاءُ مَنْ تَحْرِمُهُ وَوَصْلُ مَنْ ... تَقْطَعُهُ
وَالْعَفْوُ عَمَّنِ اعْتَدَى
وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ
بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي
الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ
هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخلاق). وقال الشاعر:
__________
(1). في ك، ع، هـ: وفى ا، ز: الغنى.
(7/345)
كُلُّ الْأُمُورِ تَزُولُ عَنْكَ
وَتَنْقَضِي ... إِلَّا الثَّنَاءَ فَإِنَّهُ لَكَ بَاقِي
وَلَوْ أَنَّنِي خُيِّرْتُ كُلَّ فَضِيلَةٍ ... مَا اخْتَرْتُ
غَيْرَ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى
بطور سيناء. قيل له: بأي شي أَوْصَاكَ؟ قَالَ: بِتِسْعَةِ
أَشْيَاءَ، الْخَشْيَةُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ،
وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَالْقَصْدُ
فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ مَنْ
قَطَعَنِي، وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنِي، وَأَعْفُوَ عَمَّنْ
ظَلَمَنِي، وَأَنْ يَكُونَ نُطْقِي ذِكْرًا، وَصَمْتِي
فِكْرًا، وَنَظَرِي عِبْرَةً. قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ، (أَمَرَنِي رَبِّي
بِتِسْعٍ الْإِخْلَاصِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ
وَالْعَدْلِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْقَصْدِ فِي
الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَأَنْ أَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي
وَأَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنِي وَأَنْ
يكون نطقي ذكرا وصمتي فكرا نظري عِبْرَةً (. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:" خُذِ الْعَفْوَ" أَيِ الزَّكَاةُ،
لِأَنَّهَا يَسِيرٌ مِنْ كَثِيرٍ. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ
مِنْ عَفَا إِذَا دَرَسَ. وَقَدْ يُقَالُ: خُذِ الْعَفْوَ
مِنْهُ، أَيْ لَا تُنْقِصْ عَلَيْهِ وَسَامِحْهُ. وَسَبَبُ
النُّزُولِ يَرُدُّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنَّهُ لَمَّا
أَمَرَهُ بِمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ دَلَّهُ عَلَى مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ، فَإِنَّهَا سَبَبُ جَرِّ الْمُشْرِكِينَ إِلَى
الْإِيمَانِ. أَيِ اقْبَلْ مِنَ النَّاسِ مَا عَفَا لَكَ مِنْ
أَخْلَاقِهِمْ وَتَيَسَّرَ، تَقُولُ: أَخَذْتُ حَقِّي عَفْوًا
صَفْوًا، أَيْ سَهْلًا. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أَيْ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَرَأَ عِيسَى
بْنُ عُمَرَ" الْعُرُفِ" بِضَمَّتَيْنِ، مِثْلَ الْحُلُمِ،
وَهُمَا لُغَتَانِ. وَالْعُرْفُ وَالْمَعْرُوفُ
وَالْعَارِفَةُ: كُلُّ خَصْلَةٍ حَسَنَةٍ تَرْتَضِيهَا
الْعُقُولُ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا النُّفُوسُ. قَالَ
الشَّاعِرُ:
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازِيَهُ ... لَا
يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ
وَقَالَ عَطَاءٌ:" وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ" يَعْنِي بِلَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَعْرِضْ
عَنِ الْجاهِلِينَ) أَيْ إِذَا أَقَمْتَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ
وَأَمَرْتَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فَجَهِلُوا عَلَيْكَ فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ، صِيَانَةً لَهُ عَلَيْهِمْ وَرَفْعًا لِقَدْرِهِ
عَنْ مُجَاوَبَتِهِمْ. وَهَذَا وَإِنْ
(7/346)
وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
كَانَ خِطَابًا لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَهُوَ تَأْدِيبٌ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ. وَقَالَ
ابْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ
حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ
بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ
يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابُ مَجَالِسِ
عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا.
فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يا بن أَخِي، هَلْ لَكَ
وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَتَسْتَأْذِنُ لِي عَلَيْهِ.
قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، فاستأذن لعيينة. فلما دخل
قال: يا بن الْخَطَّابِ، وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ،
وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ! قَالَ: فَغَضِبَ عُمَرُ
حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ. فَقَالَ الْحُرُّ، يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وَإِنَّ هَذَا مِنَ
الْجَاهِلِينَ. فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ
تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا «1» عِنْدَ كِتَابِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قُلْتُ: فَاسْتِعْمَالُ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَاسْتِدْلَالُ الْحُرِّ
بِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَا مَنْسُوخَةٌ.
وَكَذَلِكَ اسْتَعْمَلَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ. وَإِذَا كَانَ الْجَفَاءُ عَلَى السُّلْطَانِ
تَعَمُّدًا وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ فَلَهُ تَعْزِيرُهُ.
وَإِذَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَالْإِعْرَاضُ وَالصَّفْحُ
وَالْعَفْوُ، كَمَا فَعَلَ الْخَلِيفَةُ العدل.
[سورة الأعراف (7): آية 200]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ
تَعَالَى: (خُذِ الْعَفْوَ) قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:"
كَيْفَ يَا رَبِّ وَالْغَضَبُ" فَنَزَلَتْ:" وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ 200" وَنَزْغُ الشَّيْطَانِ: وَسَاوِسُهُ.
وَفِيهِ لُغَتَانِ: نَزْغٌ وَنَغْزٌ، يُقَالُ: إِيَّاكَ
وَالنَّزَّاغَ وَالنَّغَّازَ، وَهُمُ الْمُوَرِّشُونَ «2».
الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون، ومن
__________
(1). أي لا يتجاوز حكمه. [ ..... ]
(2). التوريش: التحريش، يقال: ورش بين القوم وأرش.
(7/347)
الشَّيْطَانِ أَدْنَى وَسْوَسَةٍ. قَالَ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا
وَكَانَ بَيْنَهُمَا نَزْغٌ مِنَ الشَّيْطَانِ فَمَا أَبْقَى
وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ شَيْئًا، ثُمَّ لَمْ يَبْرَحَا
حَتَّى اسْتَغْفَرَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ.
وَمَعْنَى (يَنْزَغَنَّكَ) 200: يُصِيبَنَّكَ وَيَعْرِضُ لَكَ
عِنْدَ الْغَضَبِ وَسْوَسَةٌ بِمَا لَا يَحِلُّ. (فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ) 200 أَيِ اطْلُبِ النَّجَاةَ مِنْ ذَلِكَ
بِاللَّهِ. فأمر تعالى أن يدفع الْوَسْوَسَةُ بِالِالْتِجَاءِ
إِلَيْهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ
الْأَعْلَى. فَلَا يُسْتَعَاذُ مِنَ الْكِلَابِ إِلَّا بِرَبِّ
الْكِلَابِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ
قَالَ لِتِلْمِيذِهِ: مَا تَصْنَعُ بِالشَّيْطَانِ إِذَا
سَوَّلَ لَكَ الْخَطَايَا؟ قَالَ: أُجَاهِدُهُ. قَالَ: فَإِنْ
عَادَ؟ قَالَ: أُجَاهِدُهُ. قَالَ: فَإِنْ عَادَ؟ قَالَ:
أُجَاهِدُهُ. قَالَ: هَذَا يَطُولُ، أَرَأَيْتَ لَوْ مَرَرْتَ
بِغَنَمٍ فنبحك كلبها ومنع مِنَ الْعُبُورِ مَا تَصْنَعُ؟
قَالَ: أُكَابِدُهُ وَأَرُدُّهُ جَهْدِي. قَالَ: هَذَا يَطُولُ
عَلَيْكَ، وَلَكِنِ اسْتَغِثْ بِصَاحِبِ الْغَنَمِ يَكُفُّهُ
عَنْكَ. الثَّانِيَةُ- النَّغْزُ وَالنَّزْغُ وَالْهَمْزُ
وَالْوَسْوَسَةُ سَوَاءٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَقُلْ
رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ «1» "
وَقَالَ:" مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ «2» ". وَأَصْلُ
النَّزْغِ الْفَسَادُ، يُقَالُ: نَزَغَ بَيْنَنَا، أَيْ
أَفْسَدَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:" نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي
وَبَيْنَ إِخْوَتِي «3» " أَيْ أَفْسَدَ. وَقِيلَ: النَّزْغُ
الْإِغْوَاءُ وَالْإِغْرَاءُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ.
قُلْتُ: وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ
فَيَقُولُ لَهُ مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا حَتَّى يَقُولَ لَهُ
مَنْ خَلَقَ رَبُّكَ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ
بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ (. وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
الْوَسْوَسَةِ قَالَ:) تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ (. وَفِي
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:) ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ)
وَالصَّرِيحُ الْخَالِصُ. وَهَذَا لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ،
إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْوَسْوَسَةُ نَفْسُهَا هِيَ
الْإِيمَانَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْيَقِينُ، وَإِنَّمَا
الْإِشَارَةُ إِلَى مَا وَجَدُوهُ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى أَنْ يُعَاقَبُوا عَلَى مَا وَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ.
فَكَأَنَّهُ قَالَ جَزَعُكُمْ مِنْ هَذَا هُوَ مَحْضُ
الْإِيمَانِ وَخَالِصُهُ، لِصِحَّةِ إِيمَانِكُمْ،
وَعِلْمِكُمْ بِفَسَادِهَا. فَسَمَّى الْوَسْوَسَةَ إِيمَانًا
لَمَّا كَانَ دَفْعُهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا والرد لها وعدم
قبولها
__________
(1). راجع ج 12 ص 148.
(2). راجع ج 20 ص 261.
(3). راجع ج 9 ص 264.
(7/348)
إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
وَالْجَزَعُ مِنْهَا صَادِرًا عَنِ
الْإِيمَانِ. وَأَمَّا أَمْرُهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ فَلِكَوْنِ
تِلْكَ الْوَسَاوِسِ مِنْ آثَارِ الشَّيْطَانِ. وَأَمَّا
الْأَمْرُ بِالِانْتِهَاءِ فَعَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهَا
وَالِالْتِفَاتِ نَحْوَهَا. فَمَنْ كَانَ صَحِيحَ الْإِيمَانِ
وَاسْتَعْمَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ وَنَبِيُّهُ نَفَعَهُ
وَانْتَفَعَ بِهِ. وَأَمَّا مَنْ خَالَجَتْهُ الشُّبْهَةُ
وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْحِسُّ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى
الِانْفِكَاكِ عَنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ مُشَافَهَتِهِ
بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي خَالَطَتْهُ شُبْهَةُ الْإِبِلِ
الْجُرْبِ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" لَا عَدْوَى". وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: فَمَا بَالُ
الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ
فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ أَجْرَبَهَا؟
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فَمَنْ أَعْدَى
الْأَوَّلَ" فَاسْتَأْصَلَ الشُّبْهَةَ مِنْ أَصْلِهَا.
فَلَمَّا يَئِسَ الشَّيْطَانُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِغْرَاءِ وَالْإِضْلَالِ
أَخَذَ يُشَوِّشُ عَلَيْهِمْ أَوْقَاتَهُمْ بِتِلْكَ
الْأُلْقِيَاتِ. وَالْوَسَاوِسُ: التُّرَّهَاتُ، فَنَفَرَتْ
عَنْهَا قُلُوبُهُمْ وَعَظُمَ عَلَيْهِمْ وُقُوعُهَا
عِنْدَهُمْ فَجَاءُوا- كَمَا فِي الصَّحِيحِ- فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا
يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ:" أو قد
وَجَدْتُّمُوهُ"؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: (ذَلِكَ صَرِيحُ
الْإِيمَانِ رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ حَسَبَ مَا نَطَقَ بِهِ
الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ:" إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1» ". فَالْخَوَاطِرُ الَّتِي لَيْسَتْ
بِمُسْتَقِرَّةٍ وَلَا اجْتَلَبَتْهَا الشُّبْهَةُ فَهِيَ
الَّتِي تُدْفَعُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَعَلَى مِثْلِهَا
يُطْلَقُ اسْمُ الْوَسْوَسَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
مَضَى فِي آخِرِ الْبَقَرَةِ «2» هَذَا الْمَعْنَى،
وَالْحَمْدُ لله.
[سورة الأعراف (7): الآيات 201 الى 202]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ
الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا
يُقْصِرُونَ (202)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ
الَّذِينَ اتَّقَوْا) 20 يُرِيدُ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ.
(إِذَا مَسَّهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) هَذِهِ قِرَاءَةُ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ" طَائِفٌ". وَرُوِيَ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ" طَيِّفٌ" بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. قَالَ
النَّحَّاسُ: كَلَامُ الْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذَا" طَيْفٌ"
بِالتَّخْفِيفِ، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ طَافَ يَطِيفُ.
قال الكسائي:
__________
(1). راجع ج 10 ص 38 وص 28 فما بعدها.
(2). راجع ج 3 ص 428.، فما بعد.
(7/349)
هُوَ مُخَفَّفٌ مِنْ" طَيِّفٍ" مِثْلُ
مَيِّتٍ وَمَيْتٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَعْنَى" طَيْفٌ" فِي
اللُّغَةِ مَا يُتَخَيَّلُ فِي الْقَلْبِ أَوْ يُرَى فِي
النَّوْمِ، وَكَذَا مَعْنَى طَائِفٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ:
سَأَلْتُ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ طَيْفٍ، فَقَالَ: لَيْسَ فِي
الْمَصَادِرِ فَيْعَلٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ هُوَ
بِمَصْدَرٍ، وَلَكِنْ يَكُونُ بِمَعْنَى طَائِفٍ. وَالْمَعْنَى
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوُا المعاصي إذا لحقهم شي تَفَكَّرُوا
فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي إِنْعَامِهِ
عَلَيْهِمْ فَتَرَكُوا الْمَعْصِيَةَ، وَقِيلَ: الطَّيْفُ
وَالطَّائِفُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ فَالْأَوَّلُ-
التَّخَيُّلُ. وَالثَّانِي- الشَّيْطَانُ نَفْسُهُ.
فَالْأَوَّلُ مَصْدَرُ طَافَ الْخَيَالُ يَطُوفُ طَيْفًا،
وَلَمْ يَقُولُوا مِنْ هَذَا طَائِفٌ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: لِأَنَّهُ تَخَيُّلٌ لَا حَقِيقَةَ
لَهُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ:" فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ
رَبِّكَ «1» " فَلَا يُقَالُ فِيهِ: طَيْفٌ، لِأَنَّهُ اسْمُ
فَاعِلٍ حَقِيقَةً، وَيُقَالُ: إِنَّهُ جِبْرِيلُ. قَالَ
الزَّجَّاجُ: طُفْتُ عَلَيْهِمْ أَطُوفُ، وَطَافَ الْخَيَالُ
يَطِيفُ. وَقَالَ حَسَّانُ:
فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفٍ ... يُؤَرِّقُنِي إِذَا
ذَهَبَ الْعِشَاءُ
مُجَاهِدٌ: الطَّيْفُ الْغَضَبُ. وَيُسَمَّى الْجُنُونُ
وَالْغَضَبُ وَالْوَسْوَسَةُ طَيْفًا، لِأَنَّهُ لَمَّةٌ مِنَ
الشَّيْطَانِ تُشَبَّهُ بِلَمَّةِ «2» الْخَيَالِ. (فَإِذَا
هُمْ مُبْصِرُونَ) أَيْ مُنْتَهُونَ. وَقِيلَ: فَإِذَا هُمْ
عَلَى بَصِيرَةٍ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:"
تَذَكَّرُوا 20" بِتَشْدِيدِ الذَّالِ. وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي
الْعَرَبِيَّةِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. الثَّانِيَةُ- قَالَ
عِصَامُ بْنُ الْمُصْطَلِقِ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فَرَأَيْتُ
الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَأَعْجَبَنِي
سَمْتُهُ وَحُسْنُ رُوَائِهِ، فَأَثَارَ مِنِّي الْحَسَدُ مَا
كَانَ يُجِنُّهُ صَدْرِي لِأَبِيهِ مِنَ الْبُغْضِ، فَقُلْتُ:
أَنْتَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ! قَالَ نَعَمْ. فَبَالَغْتُ فِي
شَتْمِهِ وَشَتْمِ أَبِيهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ نَظْرَةَ عَاطِفٍ
رَءُوفٍ، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" خُذِ
الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ"
فَقَرَأَ إِلَى قَوْلِهِ:" فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ 20" ثُمَّ
قَالَ لِي: خَفِّضْ عَلَيْكَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكَ
إِنَّكَ لو استعنتنا أعناك، ولو استرفدتنا أرفدناك،
__________
(1). راجع ج 18 ص 238 فما بعد.
(2). الله الخطرة بالقلب.
(7/350)
وَلَوِ اسْتَرْشَدْتَنَا أَرْشَدْنَاكَ.
فَتَوَسَّمَ فِيَّ النَّدَمَ عَلَى مَا فَرَطَ مِنِّي
فَقَالَ:" لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «1» " أَمِنْ
أَهْلِ الشَّأْمِ أَنْتَ؟ قُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ:
شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمَ «2»
حَيَّاكَ اللَّهُ وَبَيَّاكَ، وَعَافَاكَ، وَآدَاكَ «3»،
انْبَسِطْ «4» إِلَيْنَا فِي حَوَائِجِكَ وَمَا يَعْرِضُ لَكَ،
تَجِدْنَا عِنْدَ أَفْضَلِ ظَنِّكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ
عِصَامٌ: فَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ،
وَوَدِدْتُ أَنَّهَا سَاخَتْ بِي، ثُمَّ تَسَلَّلْتُ مِنْهُ
لِوَاذًا «5»، وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِخْوانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) 20 قِيلَ:
الْمَعْنَى وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ وَهُمُ الْفُجَّارُ مِنْ
ضُلَّالِ الْإِنْسِ تَمُدُّهُمُ الشَّيَاطِينُ فِي الْغَيِّ.
وَقِيلَ لِلْفُجَّارِ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ لِأَنَّهُمْ
يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ. وَقَدْ سبق فهذه الْآيَةِ ذِكْرُ
الشَّيْطَانِ. هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ
قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَمَعْنَى" لَا
يُقْصِرُونَ 20" أَيْ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ،
وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا
يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ
يَنْصُرُونَ، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ،
لِأَنَّ الْكُفَّارَ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ. وَمَعْنَى
الْآيَةِ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَسَّهُ طَيْفٌ مِنَ
الشَّيْطَانِ تَنَبَّهَ عَنْ قُرْبٍ، فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ
فَيَمُدُّهُمُ الشَّيْطَانُ. وَ" لَا يُقْصِرُونَ 20" قِيلَ:
يَرْجِعُ إِلَى الْكُفَّارِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا.
وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الشَّيْطَانِ. قَالَ
قَتَادَةُ: الْمَعْنَى ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ عَنْهُمْ وَلَا
يَرْحَمُونَهُمْ. وَالْإِقْصَارُ: الِانْتِهَاءُ عَنِ
الشَّيْءِ، أَيْ لَا تُقْصِرُ الشَّيَاطِينُ فِي مَدِّهِمُ
الْكُفَّارَ بِالْغَيِّ. وَقَوْلُهُ:" فِي الغَيِّ 20" يَجُوزُ
أَنْ يكون متصلا بقوله:
__________
(1). راجع ج 9 ص 255 فما بعد.
(2). الشنشة (بكسر الشين): العادة والطبيعة. قال الأصمعي: وهذا
بيت رجز تمثل به لأبى أخزم الطائي وهو:
إن بنى زملوني بالدم ... شنشة أعرفها من أخزم
من يلق آساد الرجال يكلم
قال ابن برى: وكان أخزم عاقا لأبيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم
وضربوه وأدموه، فقال ذلك، أي إنهم أشبهوا أباهم في العقوق.
(3). قوله: حباك الله وبياك، أي ملك واعتمدك بالتحية. وبياك:
معناه وبواك منزلا، إلا أنها لما جاءت مع حياك تركت همزتها
وقلبت واوها ياء ... وآداك: فواك وأعانك.
(4). الانبساط: ترك الاحتشام.
(5). اللواذ: الاستتار.
(7/351)
وَإِذَا لَمْ
تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ
إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا
بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (203)
" يَمُدُّونَهُمْ 20" وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْإِخْوَانِ. وَالْغَيُّ: الْجَهْلُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ" يُمِدُّونَهُمْ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ
الْمِيمِ. وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ.
وَهُمَا لُغَتَانِ مَدَّ وَأَمَدَّ. وَمَدَّ أَكْثَرُ،
بِغَيْرِ الْأَلِفِ، قَالَهُ مَكِّيٌّ. النَّحَّاسُ:
وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُنْكِرُونَ قِرَاءَةَ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مِنْهُمْ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو
عُبَيْدٍ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا أَعْرِفُ لَهَا وَجْهًا،
إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَزِيدُونَهُمْ فِي الْغَيِّ.
وَحَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ أَبُو
عُبَيْدٍ أَنَّهُ يُقَالُ إِذَا كَثَّرَ شي شَيْئًا بِنَفْسِهِ
مَدَّهُ، وَإِذَا كَثَّرَهُ «1» بِغَيْرِهِ قِيلَ أَمَدَّهُ،
نَحْو" يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ «2» مُسَوِّمِينَ". وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ احْتَجَّ لِقِرَاءَةِ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ قَالَ: يُقَالُ مَدَدْتُ لَهُ فِي كَذَا أَيْ
زَيَّنْتُهُ لَهُ واستدعيته أن يفعله. وأمددته فكذا أَيْ
أَعَنْتُهُ بِرَأْيٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ مَكِّيٌّ:
وَالِاخْتِيَارُ الْفَتْحُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَدَدْتُ فِي
الشَّرِّ، وَأَمْدَدْتُ فِي الْخَيْرِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «3» ".
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْفَتْحِ فِي هَذَا الْحَرْفِ،
لِأَنَّهُ فِي الشَّرِّ، وَالْغَيُّ هُوَ الشَّرُّ، وَلِأَنَّ
الْجَمَاعَةَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ"
يُمَادُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ". وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ"
يَقْصُرُونَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الصاد وتخفيف القاف.
الباقون" يقصرون" بضده، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ امْرُؤُ
الْقَيْسِ:
سَمَا لَكَ شوق بعد ما كان أقصرا
[سورة الأعراف (7): آية 203]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها
قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا
بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (203)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) 20 أي
تقرؤها عليهم. (قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها) 20 لَوْلَا
بِمَعْنَى هَلَّا، وَلَا يَلِيهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى
إِلَّا الْفِعْلُ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِيهَا فِي الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى «4». وَمَعْنَى"
اجْتَبَيْتَها 20" اخْتَلَقْتَهَا مِنْ نَفْسِكَ.
فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الآيات من قبل الله
__________
(1). في الأصول: مده. [ ..... ]
(2). راجع ج 4 ص 160.
(3). راجع ج 1 ص 207.
(4). راجع ج 2 ص 91.
(7/352)
وَإِذَا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (204)
عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ لَا يَقْرَأُ
عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ. يُقَالُ:
اجْتَبَيْتَ الْكَلَامَ أَيِ ارْتَجَلْتَهُ وَاخْتَلَقْتَهُ
وَاخْتَرَعْتَهُ إِذَا جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ.
(قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) 20
أَيْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِي. (هَذَا
بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) 20 يَعْنِي الْقُرْآنَ، جَمْعُ
بَصِيرَةٍ، هِيَ الدَّلَالَةُ وَالْعِبْرَةُ. أَيْ هَذَا
الَّذِي دَلَلْتُكُمْ بِهِ عَلَى أن وَجَلَّ وَاحِدٌ.
بَصَائِرُ، أَيْ يُسْتَبْصَرُ بِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:"
بَصائِرُ 10" أَيْ طُرُقٌ. وَالْبَصَائِرُ طُرُقُ الدِّينِ.
قَالَ الْجُعْفِيُّ:
رَاحُوا بَصَائِرُهُمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ ... وَبَصِيرَتِي
يَعْدُو بِهَا عَتِد وَأَيَّ «1»
" وَهُدىً" رُشْدٌ وَبَيَانٌ." وَرَحْمَةٌ" أي ونعمة.
[سورة الأعراف (7): آية 204]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا
قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) 20 قِيلَ:
إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي الصَّلَاةِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَالزَّهْرِيِّ
وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. قَالَ سَعِيدٌ: كَانَ
الْمُشْرِكُونَ يَأْتُونَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذا صَلَّى، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
بِمَكَّةَ:" لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا
فِيهِ «2» ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ جَوَابًا
لَهُمْ" وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا 20". وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي
الْخُطْبَةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ
وَعَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ
وَالْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ
وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِيهَا قَلِيلٌ،
وَالْإِنْصَاتُ يَجِبُ فِي جَمِيعِهَا، قَالَهُ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ. النَّقَّاشُ: وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ
يَكُنْ بِمَكَّةَ خُطْبَةٌ وَلَا جُمُعَةٌ. وَذَكَرَ
الطَّبَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا أَنَّ هَذَا
فِي الْإِنْصَاتِ يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ
وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفِيمَا يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ
فَهُوَ عَامٌّ. وهو الصحيح
__________
(1). راجع ص 57 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 15 ص 355.
(7/353)
لِأَنَّهُ يَجْمَعُ جَمِيعَ مَا
أَوْجَبَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ السُّنَّةِ فِي
الْإِنْصَاتِ. قَالَ النَّقَّاشُ: أَجْمَعَ أَهْلُ
التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِمَاعَ فِي الصَّلَاةِ
الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ. النَّحَّاسُ: وَفِي
اللُّغَةِ يجب أن يكون في كل شي، إلا أن يدل دليل على اختصاص
شي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" فَاسْتَمِعُوا
لَهُ وَأَنْصِتُوا 20" اعْمَلُوا بِمَا فِيهِ وَلَا
تُجَاوِزُوهُ. وَالْإِنْصَاتُ: السُّكُوتُ لِلِاسْتِمَاعِ
وَالْإِصْغَاءِ وَالْمُرَاعَاةِ. أَنْصَتَ يُنْصِتُ
إِنْصَاتًا، وَنَصَتَ أَيْضًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
قَالَ الْإِمَامُ عَلَيْكُمْ أَمْرُ سَيِّدِكُمْ ... فَلَمْ
نُخَالِفْ وَأَنْصَتْنَا كَمَا قَالَا
وَيُقَالُ: أَنْصِتُوهُ وَأَنْصِتُوا لَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا قَالَتْ حَذَامُ فَأَنْصِتُوهَا ... فَإِنَّ الْقَوْلَ
مَا قَالَتْ حَذَامُ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ" فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا 20": كَانَ هَذَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصًّا لِيَعِيَهُ عَنْهُ
أَصْحَابُهُ. قُلْتُ: هَذَا فِيهِ بُعْدٌ، وَالصَّحِيحُ
الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ، لِقَوْلِهِ:" لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ" وَالتَّخْصِيصُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَقَالَ
عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ فِي فَوَائِدِ الْقُرْآنِ
لَهُ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُكْثِرُونَ اللَّغَطَ
وَالشَّغَبَ تفنتا وَعِنَادًا، عَلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ
عَنْهُمْ:" وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا
الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ".
فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ حَالَةَ أَدَاءِ الْوَحْيِ
أَنْ يَكُونُوا عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَأَنْ
يَسْتَمِعُوا، وَمَدَحَ الْجِنَّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ:"
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ «1» " الْآيَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ
الْقُرَظِيُّ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ أَجَابَهُ مَنْ
وَرَاءَهُ، إِذَا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، قَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِ، حَتَّى يَقْضِيَ
فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَالسُّورَةِ. فَلَبِثَ بِذَلِكَ مَا
شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ، فَنَزَلَ:" وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ 20" فَأَنْصِتُوا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْمَعْنِيَّ بِالْإِنْصَاتِ تَرْكُ الْجَهْرِ عَلَى مَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ مُجَاوَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ: كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ
فَيَسْأَلُهُمْ كَمْ صَلَّيْتُمْ، كَمْ بَقِيَ، فَأَنْزَلَ
اللَّهِ تَعَالَى:" وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ وَأَنْصِتُوا 20".
__________
(1). راجع ج 16 ص 210.
(7/354)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي
نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ
الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ
الْغَافِلِينَ (205)
وعن مجاهد هذا أَيْضًا: كَانُوا
يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ بِحَاجَتِهِمْ، فَنَزَلَ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ". وَقَدْ مَضَى
فِي الْفَاتِحَةِ الِاخْتِلَافُ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ
خَلْفَ الْإِمَامِ. وَيَأْتِي فِي" الْجُمُعَةِ «1» " حُكْمُ
الْخُطْبَةِ، إِنْ شَاءَ الله تعالى.
[سورة الأعراف (7): آية 205]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ
الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ
مِنَ الْغافِلِينَ (205)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ
تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) 20 نَظِيرُهُ" ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً «2» " وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي مَعْنَى"
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ 20" أَنَّهُ فِي الدُّعَاءِ.
قُلْتُ: قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَعْنِي
بِالذِّكْرِ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
اقْرَأِ الْقُرْآنَ بِتَأَمُّلٍ وَتَدَبُّرٍ." تَضَرُّعاً"
مَصْدَرٌ، وَقَدْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ." وَخِيفَةً"
مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَجَمْعُ خِيفَةٍ خِوَفٌ، لِأَنَّهُ
بِمَعْنَى الْخَوْفِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَأَصْلُ خِيفَةٍ
خِوْفَةٌ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا
قَبْلَهَا. خَافَ الرَّجُلُ يَخَافُ خَوْفًا وَخِيفَةً
وَمَخَافَةً، فَهُوَ خَائِفٌ، وَقَوْمٌ خُوَّفٌ عَلَى
الْأَصْلِ، وَخُيَّفٌ عَلَى اللَّفْظِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ
أَنَّهُ يُقَالُ أَيْضًا فِي جمع خيفة خيف. قال الجوهري:
والجيفة الْخَوْفُ، وَالْجَمْعُ خِيَفٌ، وَأَصْلُهُ الْوَاوُ.
(وَدُونَ الْجَهْرِ) 20 أَيْ دُونَ الرَّفْعِ فِي الْقَوْلِ.
أَيْ أَسْمِعْ نَفْسَكَ، كَمَا قَالَ:" وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ
سَبِيلًا «3» 110" أَيْ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ.
وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ
مَمْنُوعٌ. عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
(بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) 20 قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ:
الْآصَالُ الْعَشِيَّاتُ. وَالْغُدُوُّ جَمْعُ غدوة. وقرا أبو
مجلز" بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ 20" وَهُوَ مَصْدَرُ آصَلْنَا،
أَيْ دَخَلْنَا فِي الْعَشِيِّ. وَالْآصَالُ جَمْعُ أُصُلٍ،
مِثْلَ طُنُبٍ وَأَطْنَابٍ، فَهُوَ جمع الجمع، والواحد أصيل،
جميع على أصل، عن الزجاج.
__________
(1). راجع ج 18 ص 97 فما بعد.
(2). راجع ص 223 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 10 ص 342 فما بعد.
(7/355)
إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
الْأَخْفَشُ: الْآصَالُ جَمْعُ أَصِيلٍ،
مِثْلَ يَمِينٍ وَأَيْمَانٍ. الْفَرَّاءُ: أُصُلٌ جَمْعُ
أَصِيلٍ، وَقَدْ يَكُونُ أُصُلٌ وَاحِدًا، كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ:
وَلَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا إِذْ دَنَا الْأُصُلُ
الْجَوْهَرِيُّ: الْأَصِيلُ الْوَقْتُ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى
الْمَغْرِبِ، وَجَمْعُهُ أُصُلٌ وَآصَالٌ وَأَصَائِلُ،
كَأَنَّهُ جَمْعُ أَصِيلَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ...
وَأَقْعُدُ فِي أَفْيَائِهِ بِالْأَصَائِلِ
وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أُصْلَانَ، مِثْلَ بَعِيرٍ
وَبُعْرَانَ، ثُمَّ صَغَّرُوا الْجَمْعَ فَقَالُوا
أُصَيْلَانُ، ثُمَّ أَبْدَلُوا مِنَ النُّونِ لَامًا فَقَالُوا
أُصَيْلَالُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةُ:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ
جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: لَقِيتُهُ أُصَيْلَالًا. (وَلَا
تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) أَيْ عَنِ الذكر.
[سورة الأعراف (7): آية 206]
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:
(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) 20 يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ
بِإِجْمَاعٍ. وَقَالَ:" عِنْدَ رَبِّكَ 20" وَاللَّهُ تَعَالَى
بِكُلِّ مَكَانٍ لِأَنَّهُمْ قَرِيبُونَ مِنْ رَحْمَتِهِ،
وَكُلُّ قَرِيبٍ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ
عِنْدَهُ، عَنِ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ غَيْرُهُ لِأَنَّهُمْ فِي
مَوْضِعٍ لَا يَنْفُذُ فِيهِ إِلَّا حُكْمُ اللَّهِ. وَقِيلَ:
لِأَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ، كَمَا يُقَالُ: عِنْدَ
الْخَلِيفَةِ جَيْشٌ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: هَذَا عَلَى جِهَةِ
التَّشْرِيفِ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ بِالْمَكَانِ الْمُكَرَّمِ،
فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قُرْبِهِمْ فِي الْكَرَامَةِ لَا فِي
الْمَسَافَةِ." وَيُسَبِّحُونَهُ 20" أَيْ وَيُعَظِّمُونَهُ
وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ." وَلَهُ يَسْجُدُونَ 20"
قِيلَ: يُصَلُّونَ. وَقِيلَ: يَذِلُّونَ، خِلَافَ أَهْلِ
الْمَعَاصِي.
(7/356)
الثَّانِيَةُ: وَالْجُمْهُورُ مِنَ
الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ هَذَا مَوْضِعُ سُجُودٍ لِلْقَارِئِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ سُجُودِ الْقُرْآنِ، فَأَقْصَى
مَا قِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ. أَوَّلُهَا خَاتِمَةُ
الْأَعْرَافِ، وَآخِرُهَا خَاتِمَةُ الْعَلَقِ. وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ حَبِيبٍ وَابْنِ وَهْبٍ- فِي رِوَايَةٍ- وَإِسْحَاقَ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ زَادَ سَجْدَةَ الْحِجْرِ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ" عَلَى مَا يَأْتِي «1»
بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ
سِتَّ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ، قَالَهُ ابْنُ
وَهْبٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ. فَأَسْقَطَ
ثَانِيَةَ الْحَجِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ
وَالصَّحِيحُ سُقُوطُهَا، لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ
بِثُبُوتِهَا. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُدَ فِي
سُنَنِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنَيْنٍ مِنْ بَنِي
عَبْدِ كُلَالٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي
الْمُفَصَّلِ، وَفِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ. وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُنَيْنٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ الْحَقِّ. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ
عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟. قَالَ:" نَعَمْ وَمَنْ
لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا". فِي إِسْنَادِهِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا.
وَأَثْبَتَهُمَا الشَّافِعِيُّ وَأَسْقَطَ سَجْدَةَ ص.
وَقِيلَ: إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً، وَأَسْقَطَ آخِرَةَ
الْحَجِّ وَثَلَاثَ الْمُفَصَّلِ. وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ
مَالِكٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ
وَغَيْرِهِمْ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَجَدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِيهَا
مِنَ الْمُفَصَّلِ شي، الْأَعْرَافُ وَالرَّعْدُ وَالنَّحْلُ
وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَرْيَمُ وَالْحَجُّ سَجْدَةٌ
وَالْفُرْقَانُ وَسُلَيْمَانُ سُورَةَ النَّمْلِ وَالسَّجْدَةُ
وَص وَسَجْدَةُ الْحَوَامِيمِ. وَقِيلَ: عَشْرٌ، وَأُسْقِطَ
آخِرَةَ الْحَجِّ وَص وَثَلَاثَ الْمُفَصَّلِ، ذُكِرَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ. وقيل: إنها أربع، سجدة آلم تنزيل وحم
تَنْزِيلٌ وَالنَّجْمُ وَالْعَلَقُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ
اخْتِلَافُ النَّقْلِ في الأحاديث والعمل، واختلافهم في الأم
الْمُجَرَّدِ بِالسُّجُودِ فِي الْقُرْآنِ، هَلِ الْمُرَادُ
بِهِ سُجُودُ التِّلَاوَةِ أَوْ سُجُودُ الْفَرْضِ فِي
الصَّلَاةِ؟ الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ سُجُودِ
التِّلَاوَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ
بِوَاجِبٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ وَاجِبٌ.
وَتَعَلَّقَ بِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ عَلَى
الْوُجُوبِ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" إِذَا قَرَأَ
ابْنُ آدَمَ سَجْدَةً فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي
يَقُولُ يَا وَيْلَهُ". وفي رواية
__________
(1). راجع ج 10 ص 63.
(7/357)
أَبِي كُرَيْبٍ" يَا وَيْلِي"،
وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِخْبَارًا عَنْ إِبْلِيسَ
لَعَنَهُ اللَّهُ:" أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ
فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ
النَّارُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهِ.
وَعَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ الثَّابِتِ-
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ- أَنَّهُ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ عَلَى
الْمِنْبَرِ (فَنَزَلَ «1») فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ
مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَهَا فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى
فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ:" أَيُّهَا
النَّاسُ عَلَى رِسْلِكُمْ! إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا
عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ". وَذَلِكَ بِمَحْضَرِ
الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ «2») مِنْ
الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ. فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ
أَحَدٌ فَثَبَتَ الْإِجْمَاعُ به في ذلك. وأما قول:" أُمِرَ
ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ" فَإِخْبَارٌ عَنِ السُّجُودِ
الْوَاجِبِ. وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ! وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ- وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ سُجُودَ الْقُرْآنِ
يَحْتَاجُ إِلَى مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الصَّلَاةُ مِنْ
طَهَارَةِ حَدَثٍ وَنَجَسٍ وَنِيَّةٍ وَاسْتِقْبَالِ قِبْلَةٍ
وَوَقْتٍ. إِلَّا مَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. وَذَكَرَهُ
ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَعَلَى قَوْلِ
الْجُمْهُورِ هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْرِيمٍ وَرَفْعِ
يَدَيْنِ عِنْدَهُ وَتَكْبِيرٍ وَتَسْلِيمٍ؟ اخْتَلَفُوا فِي
ذَلِكَ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إِلَى
أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ لِلتَّكْبِيرِ لَهَا. وَقَدْ
رُوِيَ فِي الْأَثَرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَجَدَ
كَبَّرَ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَفَعَ كَبَّرَ. وَمَشْهُورُ
مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يُكَبِّرُ لَهَا فِي الْخَفْضِ
وَالرَّفْعِ فِي الصَّلَاةِ. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي
التَّكْبِيرِ لَهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَبِالتَّكْبِيرِ
لِذَلِكَ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ، وَلَا سَلَامَ لَهَا
عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ
وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ يُسَلِّمُ مِنْهَا. وَعَلَى هَذَا
الْمَذْهَبِ يَتَحَقَّقُ أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهَا
لِلْإِحْرَامِ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُسَلِّمُ يَكُونُ
لِلسُّجُودِ فَحَسْبُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ:" مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ
وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ"
وَهَذِهِ عِبَادَةٌ لَهَا تَكْبِيرٌ، فَكَانَ لَهَا تَحْلِيلٌ
كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّهَا فِعْلٌ
وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ قَوْلٌ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ. الْخَامِسَةُ- وَأَمَّا وَقْتُهُ فَقِيلَ:
يَسْجُدُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ مُطْلَقًا، لِأَنَّهَا
صَلَاةٌ لِسَبَبٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ.
وَقِيلَ: مَا لَمْ يُسْفِرِ الصُّبْحُ، أَوْ مَا لَمْ
تَصْفَرَّ الشَّمْسُ بعد العصر «3».
__________
(1). من ابن عربي.
(2). من ك.
(3). من ك وع وفى هـ: بعد الصبح. وهو خطأ ناسخ.
(7/358)
وَقِيلَ: لَا يَسْجُدُ بَعْدَ الصُّبْحِ
وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ. وَقِيلَ: يَسْجُدُ بَعْدَ الصُّبْحِ
وَلَا يَسْجُدُ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ
الْأَقْوَالُ فِي مَذْهَبِنَا. وَسَبَبُ الْخِلَافِ
مُعَارَضَةُ مَا يَقْتَضِيهِ سَبَبُ قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ
مِنَ السُّجُودِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا لِعُمُومِ النَّهْيِ
عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ.
وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ نُهِيَ
عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- فَإِذَا سَجَدَ يَقُولُ فِي
سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ احْطُطْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا،
وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ
ذُخْرًا. رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ.
السَّابِعَةُ- فَإِنْ قَرَأَهَا فِي صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي
نَافِلَةٍ سَجَدَ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ
وَأَمِنَ التَّخْلِيطَ فِيهَا. وَإِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ لَا
يَأْمَنُ ذَلِكَ فِيهَا فَالْمَنْصُوصُ جَوَازُهُ. وَقِيلَ:
لَا يَسْجُدُ. وَأَمَّا فِي الْفَرِيضَةِ فَالْمَشْهُورُ عَنْ
مَالِكٍ النَّهْيُ عَنْهُ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ صَلَاةَ
سِرٍّ أَوْ جَهْرٍ، جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى. وَهُوَ مُعَلَّلٌ
بِكَوْنِهَا زِيَادَةً فِي أَعْدَادِ سُجُودِ الْفَرِيضَةِ.
وَقِيلَ: مُعَلَّلٌ بِخَوْفِ التَّخْلِيطِ عَلَى الْجَمَاعَةِ،
وَهَذَا أَشْبَهُ. وَعَلَى هَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ
الْفُرَادَى وَلَا الْجَمَاعَةُ الَّتِي يَأْمَنُ فِيهَا
التَّخْلِيطَ. الثَّامِنَةُ- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي
رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ،
فَقَرَأَ" إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ" فَسَجَدَ، فَقُلْتُ:
مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ
فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ. وَفِيهِ:"
وَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: الرَّجُلُ يَسْمَعُ
السَّجْدَةَ وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ
قَعَدَ لَهَا! كَأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ
سَلْمَانُ: مَا لِهَذَا غَدَوْنَا «1». وَقَالَ عُثْمَانُ «2»:
إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَهَا. وَقَالَ
الزُّهْرِيُّ: لَا يَسْجُدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا،
فَإِذَا سَجَدْتَ وَأَنْتَ فِي حَضَرٍ فَاسْتَقْبِلِ
الْقِبْلَةَ، فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا فَلَا عَلَيْكَ، حَيْثُ
كَانَ وَجْهُكَ. وَكَانَ السَّائِبُ لَا يسجد لسجود القاص «3»
" والله أعلم.
__________
(1). في ك وهـ: عدونا. [ ..... ]
(2). في ك:" عمر"
(3). القاص (بتشديد الصاد المهملة): الذي يقرأ القصص والأخبار
والمواعظ، لكونه ليس قاصدا لتلاوة القرآن. وفي ع: القصاص.
(7/359)
|