تفسير القرطبي [تفسير سُورَةُ الْأَحْقَافِ]
سُورَةُ الْأَحْقَافِ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جميعهم. وهي أربع
وثلاثون آية، وقيل خمس.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحقاف (46): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ
كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
قَوْلِهِ تَعَالَى:" حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" تَقَدَّمَ «3» " مَا خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ"
تَقَدَّمَ أَيْضًا «4»." وَأَجَلٍ مُسَمًّى" يَعْنِي
الْقِيَامَةَ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ
الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض. وقيل: إنه هو الأجل
__________
(1). آية 20 سورة السجدة.
(2). راجع ج 12 ص 153.
(3). راجع ص 156 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 10 ص 53.
(16/178)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ
الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي
بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
الْمَقْدُورُ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ."
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا" خوفوه" مُعْرِضُونَ"
مولون لا هون غير مستعدين له. ويجوز أَنْ تَكُونَ" مَا"
مَصْدَرِيَّةً، أَيْ عَنْ إِنْذَارِهِمْ ذلك اليوم.
[سورة الأحقاف (46): آية 4]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي
مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ
أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ
أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ" أَيْ مَا
تَعْبُدُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ مِنْ دُونِ
اللَّهِ." أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ" أَيْ هَلْ
خَلَقُوا شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ" أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ" أَيْ
نَصِيبٌ" فِي السَّماواتِ" أَيْ في خلق السموات مَعَ اللَّهِ."
ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا" أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا
الْقُرْآنِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوْ أَثارَةٍ
مِنْ عِلْمٍ". قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" أَوْ أَثَارَةٍ"
بِأَلِفٍ بَعْدَ الثَّاءِ. قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هُوَ خَطٌّ
كَانَتْ تَخُطُّهُ الْعَرَبُ فِي الْأَرْضِ [، ذَكَرَهُ
الْمَهْدَوِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَلَمْ يَصِحْ. وَفِي مَشْهُورِ الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] كَانَ نَبِيٌّ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ
[وَلَمْ يَصِحْ أَيْضًا. قُلْتُ: هُوَ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ
مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وَأَسْنَدَ النَّحَّاسُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
(يُعْرَفُ بِالْجَرَايِجِيِّ) «1» قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ بُنْدَارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ" أَوْ
أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" قَالَ] الْخَطُّ [وَهَذَا صَحِيحٌ
أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَاخْتَلَفُوا فِي
تَأْوِيلِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَاءَ لِإِبَاحَةِ
الضَّرْبِ، لِأَنَّ بَعْضَ الأنبياء كان يفعله.
__________
(1). اضطربت الأصول في كتابة هذه النسبة.
(16/179)
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ جَاءَ لِلنَّهْيِ
عَنْهُ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:]
فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ [وَلَا سَبِيلَ إِلَى
مَعْرِفَةِ طَرِيقِ النبي الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ، فَإِذًا لَا
سَبِيلَ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ. قَالَ:
لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَا ... وَلَا
زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ «1»
وَحَقِيقَتُهُ عِنْدَ أَرْبَابِهِ تَرْجِعُ إِلَى صُوَرِ
الْكَوَاكِبِ، فَيَدُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى مَا
تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَوَاكِبُ مِنْ سَعْدٍ أَوْ نَحْسٍ
يَحِلُّ بِهِمْ، فَصَارَ ظَنًّا مَبْنِيًّا عَلَى ظَنٍّ،
وَتَعَلُّقًا بِأَمْرٍ غَائِبٍ قَدْ دُرِسَتْ طَرِيقُهُ
وَفَاتَ تَحْقِيقُهُ، وَقَدْ نَهَتِ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ،
وَأَخْبَرَتْ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ،
وَقَطَعَهُ عَنِ الْخَلْقِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ قَبْلَ
ذَلِكَ أَسْبَابٌ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا فِي دَرْكِ
الْأَشْيَاءِ الْمُغَيَّبَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ قد رفع تلك
الأسباب وطمس تيك الْأَبْوَابَ وَأَفْرَدَ نَفْسَهُ بِعِلْمِ
الْغَيْبِ، فَلَا يَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا
يَحِلُّ لِأَحَدٍ دَعْوَاهُ. وَطَلَبَهُ عَنَاءٌ لَوْ لَمْ
يَكُنْ فِيهِ نَهْيٌ، فَإِذْ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ
فَطَلَبُهُ مَعْصِيَةٌ أَوْ كُفْرٌ بِحَسْبِ قَصْدِ
الطَّالِبِ. قُلْتُ: مَا اخْتَارَهُ هُوَ قَوْلُ
الْخَطَّابِيِّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: «2» [فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ [هَذَا
يَحْتَمِلُ الزَّجْرَ إِذْ كَانَ ذَلِكَ عَلَمًا لِنُبُوَّتِهِ
وَقَدِ انْقَطَعَتْ، فَنُهِينَا عَنِ التَّعَاطِي لِذَلِكَ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْأَظْهَرُ مِنَ اللَّفْظِ خِلَافُ
هَذَا، وَتَصْوِيبُ خَطِّ مَنْ يُوَافِقُ خَطَّهُ، لَكِنْ مِنْ
أَيْنَ تُعْلَمُ الْمُوَافَقَةُ وَالشَّرْعُ مَنَعَ مِنْ
التَّخَرُّصِ وَادِّعَاءِ الْغَيْبِ جُمْلَةً- فَإِنَّمَا
مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ الَّذِي
يَجِدُونَ إِصَابَتَهُ، لَا أَنَّهُ يُرِيدُ إِبَاحَةَ ذَلِكَ
لِفَاعِلِهِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ. وَحَكَى
مَكِّيٌّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:] كَانَ نَبِيٌّ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ [أَنَّهُ كَانَ يَخُطُّ «3»
بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فِي الرَّمْلِ ثُمَّ
يَزْجُرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ]
وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ [: هُوَ الْخَطُّ الَّذِي
يَخُطُّهُ الْحَازِي»
فَيُعْطَى حُلْوَانًا فَيَقُولُ: اقْعُدْ حَتَّى أَخُطَّ لَكَ،
وَبَيْنَ يَدَيِ الْحَازِي غُلَامٌ مَعَهُ مِيلٌ ثُمَّ يَأْتِي
إِلَى أَرْضٍ رِخْوَةٍ فَيَخُطُّ الْأُسْتَاذُ خُطُوطًا
مُعَجَّلَةً لِئَلَّا يَلْحَقَهَا الْعَدَدُ، ثُمَّ يَرْجِعُ
فَيَمْحُو عَلَى مَهَلٍ خَطَّيْنِ خَطَّيْنِ، فَإِنْ بَقِيَ
خَطَّانِ فَهُوَ عَلَامَةُ النَّجْحِ، وَإِنْ بَقِيَ خَطٌّ
فَهُوَ عَلَامَةُ الْخَيْبَةِ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ
الْأَسْحَمَ وَهُوَ مَشْئُومٌ عندهم.
__________
(1). البيت للبيد. والرواية فيه:" الطوارق" بدل" الضوارب".
والطرق: الضرب بالحصا. والطوارق المنكهنات.
(2). ما بين المربعين ساقط من ك هـ.
(3). جملة: أنه كان يخط ساقطة من ل ز.
(4). الحازي: الكاهن.
(16/180)
الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبْقِ مِنَ الْأَسْبَابِ
الدَّالَّةِ عَلَى الْغَيْبِ الَّتِي أَذِنَ فِي التَّعَلُّقِ
بِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا إِلَّا الرُّؤْيَا، فَإِنَّهُ
أَذِنَ فِيهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ
وَكَذَلِكَ الْفَأْلُ، وَأَمَّا الطِّيَرَةُ وَالزَّجْرُ
فَإِنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا. وَالْفَأْلُ: هُوَ الِاسْتِدْلَالُ
بِمَا يَسْمَعُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُرِيدُ من الامر
إذا كان حسنا، فإن سَمِعَ مَكْرُوهًا فَهُوَ تَطَيُّرٌ،
أَمَرَهُ الشَّرْعُ بِأَنْ يَفْرَحَ بِالْفَأْلِ وَيَمْضِيَ
عَلَى أَمْرِهِ مَسْرُورًا. وَإِذَا سَمِعَ الْمَكْرُوهَ
أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يَرْجِعْ لِأَجْلِهِ، وَقَدْ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] اللَّهُمَّ
لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ
وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ [. وَقَدْ رَوَى بَعْضُ الْأُدَبَاءِ:
الْفَأْلُ وَالزَّجْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمُ ...
مُضَلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالُ
وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ، إِلَّا فِي الْفَأْلِ فَإِنَّ
الشَّرْعَ اسْتَثْنَاهُ وَأَمَرَ بِهِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ
هَذَا الشَّاعِرِ مَا نَظَمَهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ
بِجَهْلٍ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَصْدَقُ وَأَعْلَمُ
وَأَحْكَمُ. قُلْتُ: قَدْ مَضَى فِي الطِّيَرَةِ وَالْفَأْلِ
وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَا يَكْفِي فِي (الْمَائِدَةِ)
«1» وَغَيْرِهَا. وَمَضَى فِي (الْأَنْعَامِ) «2» أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُنْفَرِدٌ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّ
أَحَدًا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا مَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ،
أَوْ يَجْعَلُ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً عَادِيَّةً يُعْلَمُ
بِهَا مَا يَكُونُ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ، وَقَدْ
يَخْتَلِفُ. مِثَالُهُ إِذَا رَأَى نَخْلَةً قَدْ أَطْلَعَتْ
فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا سَتُثْمِرُ، وَإِذَا رَآهَا قَدْ
تَنَاثَرَ طَلْعُهَا عَلِمَ أَنَّهَا لَا تُثْمِرُ. وَقَدْ
يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهَا آفَةٌ تُهْلِكُ ثَمَرَهَا
فَلَا تُثْمِرُ، كَمَا أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ
النَّخْلَةُ الَّتِي تَنَاثَرَ طَلْعُهَا يُطْلِعُ اللَّهُ
فِيهَا طَلْعًا ثَانِيًا فَتُثْمِرُ. وَكَمَا أَنَّهُ جَائِزٌ
أَيْضًا أَلَّا يَلِيَ شَهْرَهُ شَهْرٌ وَلَا يَوْمَهُ يَوْمٌ
إِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِفْنَاءَ الْعَالَمِ ذَلِكَ الْوَقْتَ.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي (الْأَنْعَامِ)
بَيَانُهُ. الرَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ:
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" يُرِيدُ
الْخَطَّ. وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكُمُ
بِالْخَطِّ إِذَا عَرَفَ الشَّاهِدُ خَطَّهُ. وَإِذَا عَرَفَ
الْحَاكِمُ خَطَّهُ أَوْ خَطَّ مَنْ كَتَبَ إِلَيْهِ حَكَمَ
بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ ظَهَرَ فِي النَّاسِ مَا
ظَهَرَ مِنَ الْحِيَلِ وَالتَّزْوِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ:] يُحْدِثُ النَّاسُ فُجُورًا فَتَحْدُثُ لَهُمْ
أَقْضِيَةٌ [. فَأَمَّا إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى
الْخَطِّ الْمَحْكُومِ بِهِ، مِثْلُ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ
هَذَا خَطُّ الْحَاكِمِ وَكِتَابُهُ، أَشْهَدَنَا عَلَى
__________
(1). راجع ج 6 ص 59 وما بعدها.
(2). راجع ج 7 ص 2
(16/181)
مَا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا مَا فِي
الْكِتَابِ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ أَوْ خَطُّ الرَّجُلِ
بِاعْتِرَافِهِ بِمَالٍ لِغَيْرِهِ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ
خَطُّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ- فلا يختلف مذهبه أنه يَحْكُمَ بِهِ.
وَقِيلَ:" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" أَوْ بَقِيَّةٍ مِنْ
عِلْمٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ وَأَبُو بَكْرِ
بْنُ عَيَّاشٍ وَغَيْرُهُمْ. وَفِي الصِّحَاحِ" أَوْ أَثارَةٍ
مِنْ عِلْمٍ" بَقِيَّةٍ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ الْأَثَرَةُ
(بِالتَّحْرِيكِ). وَيُقَالُ: سَمِنَتِ الْإِبِلُ عَلَى
أَثَارَةٍ، أَيْ بَقِيَّةُ شَحْمٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَنْشَدَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ قَوْلَ
الرَّاعِي:
وَذَاتَ أَثَارَةٍ أَكَلَتْ عَلَيْهَا ... نَبَاتًا فِي
أَكِمَّتِهِ فَفَارَا
وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: وَالْأَثَارَةُ وَالْأَثَرُ:
الْبَقِيَّةُ، يُقَالُ: مَا ثَمَّ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ.
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَتَادَةُ:" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ"
خَاصَّةً مِنْ عِلْمٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رِوَايَةٌ
تَأْثُرُونَهَا عَمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ
وَمُقَاتِلٌ: رِوَايَةٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ
الْقُرَظِيُّ: هُوَ الْإِسْنَادُ. الْحَسَنُ: الْمَعْنَى
شَيْءٌ يُثَارُ أَوْ يُسْتَخْرَجُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" أَوْ
أَثارَةٍ" أَيْ عَلَامَةٍ. وَالْأَثَارَةُ مَصْدَرٌ
كَالسَّمَاحَةِ وَالشَّجَاعَةِ. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ
الْأَثَرِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ، يُقَالُ: أَثَرْتُ الْحَدِيثَ
آثُرُهُ أَثْرًا وَأَثَارَةً وَأُثْرَةً فَأَنَا آثِرٌ، إِذَا
ذَكَرْتُهُ عَنْ غَيْرِكَ. وَمِنْهُ قِيلَ: حَدِيثٌ مَأْثُورٌ،
أَيْ نَقَلَهُ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ. قَالَ الْأَعْشَى:
إِنَّ الَّذِي فِيهِ تَمَارَيْتُمَا ... بُيِّنَ لِلسَّامِعِ
وَالْآثِرِ
وَيُرْوَى" بين" وقرى" أَوْ أُثْرَةٍ" بِضَمِّ الْهَمْزَةِ
وَسُكُونِ الثَّاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ
بَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ
شَيْئًا مَأْثُورًا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ.
وَالْمَأْثُورُ: مَا يُتَحَدَّثُ بِهِ مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ
عَمَّنْ تُحَدِّثُ بِهِ عَنْهُ «1». وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ
وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ
مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، أَيْ خَاصَّةً مِنْ عِلْمٍ أُوتِيتُمُوهَا
أَوْ أُوثِرْتُمْ بِهَا عَلَى غَيْرِكُمْ. وَرُوِيَ عَنِ
الْحَسَنِ أَيْضًا وَطَائِفَةٍ" أَثْرَةٍ" مَفْتُوحَةُ
الْأَلِفِ سَاكِنَةُ الثَّاءِ، ذَكَرَ الْأُولَى
الثَّعْلَبِيُّ وَالثَّانِيَةُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَحَكَى
الثَّعْلَبِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَوْ مِيرَاثٍ مِنْ عِلْمٍ."
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ". الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ
عِلْمٍ" فِيهِ بَيَانُ مَسَالِكَ الْأَدِلَّةِ بِأَسْرِهَا،
فَأَوَّلُهَا المعقول، وهو قوله تعالى:"
__________
(1). كلمة عنه ساقطة من ز ل. [ ..... ]
(16/182)
وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ
(5)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ
لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ" وَهُوَ احْتِجَاجٌ بِدَلِيلِ
الْعَقْلِ فِي أَنَّ الْجَمَادَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُدْعَى مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. ثُمَّ
قَالَ:" ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا" فِيهِ بَيَانُ
أَدِلَّةِ السَّمْعِ" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ".
[سورة الأحقاف (46): آية 5]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ
دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ أَضَلُّ" أَيْ لَا أَحَدَ أضل
وأجهل" مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ" وَهِيَ
الْأَوْثَانُ." وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ" يَعْنِي لَا
يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ، فَأَخْرَجَهَا وَهِيَ جَمَادٌ
مَخْرَجَ ذُكُورِ بَنِي آدَمَ، إِذْ قَدْ مَثَّلَتْهَا
عَبَدَتُهَا بِالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الَّتِي تخدم.
[سورة الأحقاف (46): آية 6]
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا
بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ" يُرِيدُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ." كانُوا لَهُمْ أَعْداءً" أَيْ هَؤُلَاءِ
الْمَعْبُودُونَ أَعْدَاءُ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فَالْمَلَائِكَةُ أَعْدَاءُ الْكُفَّارِ، وَالْجِنُّ
وَالشَّيَاطِينُ يَتَبَرَّءُونَ غَدًا مِنْ عَبَدَتْهُمْ،
وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
الْأَصْنَامُ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ عَبَدُوهَا أَعْدَاءً،
عَلَى تَقْدِيرِ خَلْقِ الْحَيَاةِ لَهَا، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا
يَعْبُدُونَ" «1» [القصص: 63]. وَقِيلَ: عَادَوْا
مَعْبُودَاتِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَبَبُ هَلَاكِهِمْ،
وَجَحَدَ الْمَعْبُودُونَ عِبَادَتَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ"
وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ".
[سورة الأحقاف (46): آية 7]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
__________
(1). آية 63 سورة القصص.] [
(16/183)
أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ
كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ" يَعْنِي الْقُرْآنَ." قالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ
مُبِينٌ".
[سورة الأحقاف (46): آية 8]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا
تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما
تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ" الْمِيمُ
صِلَةٌ، التَّقْدِيرُ: أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ، أَيْ
تَقَوَّلَهُ مُحَمَّدٌ. وَهُوَ إِضْرَابٌ عَنْ ذِكْرِ
تَسْمِيَتِهِمُ الْآيَاتِ سِحْرًا. وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ فِي"
أَمِ" الْإِنْكَارُ وَالتَّعَجُّبُ، كَأَنَّهُ قَالَ: دَعْ
هَذَا وَاسْمَعْ قَوْلَهُمُ الْمُسْتَنْكَرَ الْمَقْضِيُّ
مِنْهُ الْعَجَبُ. وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ لَا
يَقْدِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُولَهُ وَيَفْتَرِيَهُ عَلَى
اللَّهِ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ دُونَ أُمَّةِ الْعَرَبِ
لَكَانَتْ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ مُعْجِزَةٌ لِخَرْقِهَا
الْعَادَةَ، وَإِذَا كَانَتْ مُعْجِزَةً كَانَتْ تَصْدِيقًا
مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَالْحَكِيمُ لَا يُصَدِّقُ الْكَاذِبَ
فَلَا يَكُونُ مُفْتَرِيًا، وَالضَّمِيرُ لِلْحَقِّ،
وَالْمُرَادُ بِهِ الْآيَاتِ." قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ" عَلَى
سَبِيلِ الْفَرْضِ." فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ
شَيْئاً" أَيْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَرُدُّوا عَنِّي
عَذَابَ اللَّهِ، فَكَيْفَ أَفْتَرِي عَلَى اللَّهِ
لِأَجْلِكُمْ." هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ" أَيْ
تَقُولُونَهُ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: تَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ
التَّكْذِيبِ. وَالْإِفَاضَةُ فِي الشَّيْءِ: الْخَوْضُ فِيهِ
وَالِانْدِفَاعُ. أَفَاضُوا فِي الْحَدِيثِ أَيِ انْدَفَعُوا
فِيهِ. وَأَفَاضَ الْبَعِيرُ أَيْ دَفَعَ جِرَّتَهُ مِنْ
كِرْشِهِ فَأَخْرَجَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وأفضن بعد كظومهن بجرة «1»
__________
(1). هذا عجز بيت للراعي، وصدره كما في معجم البلدان لياقوت
في" حقيل":
من ذي الابارق إذ رعين حقيلا
وذو الابارق وحقيل: موضع واحد. يقول: كن كظوما من العطش
(والكاظم من الإبل الذي أمسك عن الجرة)، فلما ابتل ما في
بطونها أفضن بجرة.
(16/184)
قُلْ مَا كُنْتُ
بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا
بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا
إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
وَأَفَاضَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَاتَ إِلَى
مِنًى أَيْ دُفِعُوا، وَكُلُّ دَفْعَةٍ إِفَاضَةٌ." كَفى بِهِ
شَهِيداً" نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ." بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ"
أَيْ هُوَ يَعْلَمُ صِدْقِي وَأَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ." وَهُوَ
الْغَفُورُ" لِمَنْ تاب" الرَّحِيمُ" بعباده المؤمنين.
[سورة الأحقاف (46): آية 9]
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى
إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ"
أَيْ أَوَّلُ مَنْ أُرْسِلَ، قَدْ كَانَ قَبْلِي رُسُلٌ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَالْبِدْعُ: الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ
عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ" بِدَعًا" بِفَتْحِ الدَّالِ، عَلَى
تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُ
صَاحِبَ بِدَعٍ. وَقِيلَ: بِدْعٌ وَبَدِيعٌ بِمَعْنًى، مِثْلُ
نِصْفٍ وَنَصِيفٍ. وَأَبْدَعَ الشَّاعِرُ: جاء بالبديع. وشئ
بِدْعٌ (بِالْكَسْرِ) أَيْ مُبْتَدَعٌ. وَفُلَانٌ بِدْعٌ فِي
هَذَا الْأَمْرِ أَيْ بَدِيعٌ. وَقَوْمٌ أَبْدَاعٌ، عَنِ
الْأَخْفَشِ. وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ قَوْلَ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
فَلَا أَنَا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِثَ تَعْتَرِي ... رِجَالًا غدت
من بعد بؤسى بأسعد «1»
" وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" يُرِيدُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ
وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُ
نَبِيًّا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ وَلَا بِنَا،
وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْنَا، وَلَوْلَا أَنَّهُ
ابْتَدَعَ الَّذِي يَقُولُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ
لَأَخْبَرَهُ الَّذِي بَعَثَهُ بِمَا يَفْعَلُ بِهِ،
فَنَزَلَتْ" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ" «2» [الفتح: 2] فَنَسَخَتْ هَذِهِ
الْآيَةَ، وَأَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَ الْكُفَّارِ. وَقَالَتِ
الصَّحَابَةُ: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ
بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ مَا يَفْعَلُ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
فَلَيْتَ شِعْرَنَا مَا هُوَ فَاعِلٌ بِنَا؟ فَنَزَلَتْ"
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" «3» [الفتح: 5] الْآيَةَ.
وَنَزَلَتْ" وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ
اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً" «4» [الأحزاب: 47]. قَالَهُ أَنَسٌ
وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ
وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٌ مِنَ
الْأَنْصَارِ: اقتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان
__________
(1). هذا رواية البيت كما في نسخ الأصل. والذي في شعراء
النصرانية: فلست
بمن يخشى حوادث تعتري ... رجالا فبادروا بعد بؤس وأسعد
(2). آية 2 سورة الفتح.
(3). آية 5 سورة الفتح.
(4). آية 47 سورة الأحزاب.
(16/185)
ابن مَظْعُونِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ،
فَأَنْزَلْنَاهُ أَبْيَاتَنَا فَتُوُفِّيَ، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ! إِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] وَمَا
يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ [؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي
وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَنْ؟ قَالَ:] أَمَّا هُوَ
فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَمَا رَأَيْنَا إِلَّا خَيْرًا
فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْجَنَّةَ وَوَاللَّهِ
إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي
وَلَا بِكُمْ [. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي بَعْدَهُ
أَحَدًا أَبَدًا. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ، وَقَالَ:
وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ لَمْ يَعْلَمْ بِغُفْرَانِ
ذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَنْبَهُ فِي
غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ.
قُلْتُ: حَدِيثُ أُمِّ الْعَلَاءِ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ،
وَرِوَايَتِي فِيهِ:" وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ" لَيْسَ
فِيهِ" بِي وَلا بِكُمْ" وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَالْآيَةُ ليست
بمنسوخة، لِأَنَّهَا خَبَرٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: مُحَالٌ أَنْ
يَكُونَ فِي هَذَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ مِنْ جِهَتَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خَبَرٌ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ
السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ
وَاحْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ هَذَا أَيْضًا خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا كَانَ
قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُشْرِكِينَ" مَا
أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ
يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ
مَبْعَثِهِ إِلَى مَمَاتِهِ يُخْبِرُ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى
الْكُفْرِ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى
الْإِيمَانِ وَاتَّبَعَهُ وَأَطَاعَهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ،
فَقَدْ رَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُفْعَلُ
بِهِ وَبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ
لَهُمْ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي
الْآخِرَةِ، فَيَقُولُونَ كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَأَنْتَ لَا
تَدْرِي أَتَصِيرُ إِلَى خَفْضٍ وَدَعَةٍ أَمْ إِلَى عَذَابٍ
وَعِقَابٍ. وَالصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ قَوْلُ الْحَسَنِ، كَمَا
قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَفْصٍ عَنْ
يُوسُفَ بْنِ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ عَنِ الْحَسَنَ" وَما
أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ فِي الدُّنْيَا" قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلٍ وَأَحْسَنُهُ، لَا
يَدْرِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلْحَقُهُ
وَإِيَّاهُمْ مِنْ مَرَضٍ وَصِحَّةٍ وَرُخْصٍ وَغَلَاءٍ
وَغِنًى وَفَقْرٍ. وَمِثْلُهُ" وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ
الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ
السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ" «1» [الأعراف:
188]. وذكر الواحدي وغيره عن الكلبي عن أبي صالح عن
__________
(1). آية 188 سورة الأعراف.] [
(16/186)
ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا اشْتَدَّ
الْبَلَاءُ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ
إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ وَشَجَرٍ وَمَاءٍ، فَقَصَّهَا عَلَى
أَصْحَابِهِ فَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ، وَرَأَوْا فِيهَا
فَرَجًا مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ
إِنَّهُمْ مَكَثُوا بُرْهَةً لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى نُهَاجِرُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي
رَأَيْتَ؟ فَسَكَتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما أَدْرِي مَا
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" أَيْ لَا أَدْرِي أَأَخْرُجُ إِلَى
الْمَوْضِعِ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي أَمْ لَا. ثُمَّ
قَالَ:] إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي مَا
أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [أَيْ لَمْ يُوحَ إِلَيَّ
مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَعَلَى هَذَا
لَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا أَدْرِي مَا
يُفْرَضُ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ. وَاخْتَارَ
الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا أَدْرِي مَا
يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ فِي الدُّنْيَا،
أَتُؤْمِنُونَ أَمْ تَكْفُرُونَ، أَمْ تُعَاجَلُونَ
بِالْعَذَابِ أَمْ تُؤَخَّرُونَ. قُلْتُ: وَهُوَ مَعْنَى
قَوْلِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ
الْحَسَنُ: مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي
الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَمَعَاذَ اللَّهِ! قَدْ
عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ حِينَ أَخَذَ مِيثَاقَهُ فِي
الرُّسُلِ، وَلَكِنْ قَالَ «1» مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي
فِي الدُّنْيَا أَأَخْرُجُ كَمَا أُخْرِجَتِ الْأَنْبِيَاءُ
قَبْلِي، أَوْ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَتِ الْأَنْبِيَاءُ
قَبْلِي، وَلَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِكُمْ، أَأُمَّتِي
الْمُصَدِّقَةُ أَمِ الْمُكَذِّبَةُ، أَمْ أُمَّتِي
الْمَرْمِيَّةُ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ قَذْفًا، أَوْ
مَخْسُوفٌ بِهَا خَسْفًا، ثُمَّ نَزَلَتْ" هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" «2» [التوبة: 33]. يَقُولُ:
سَيُظْهِرُ دِينُهُ عَلَى الْأَدْيَانِ. ثُمَّ قَالَ فِي
أُمَّتِهِ:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ
فِيهِمْ" «3» [الأنفال: 33] فَأَخْبَرَهُ تَعَالَى بِمَا
يَصْنَعُ بِهِ وَبِأُمَّتِهِ، وَلَا نَسْخَ عَلَى هَذَا
كُلِّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا:"
مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" أَيْ مَا
تُؤْمَرُونَ بِهِ وَتُنْهَوْنَ عَنْهُ. وَقِيلَ: أَمَرَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ
لِلْمُؤْمِنِينَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ
فِي الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي
قَوْلِهِ:" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ" [الفتح: 2] وَبَيَّنَ فِيمَا بَعْدَ
ذَلِكَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ
الْكَافِرِينَ. قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ،
إِلَّا أَنَّهُ أُطْلِقَ فِيهِ النَّسْخُ بِمَعْنَى
الْبَيَانِ، وَأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ
لِلْمُؤْمِنِينَ، والصحيح ما ذكرناه عن الحسن وغيره. و" ما"
في" ما يُفْعَلُ" يجوز أن
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ن.
(2). آية 33 سورة التوبة.
(3). آية 33 سورة الأنفال.
(16/187)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (10)
تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَأَنْ تَكُونَ
اسْتِفْهَامِيَّةً مَرْفُوعَةً." إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا
يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ" وقرى"
يُوحِي" أَيِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. تَقَدَّمَ فِي غير موضع.
[سورة الأحقاف (46): آية 10]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ
بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ" يَعْنِي الْقُرْآنَ." وَكَفَرْتُمْ بِهِ" قال
الشَّعْبِيُّ: الْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ." وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ" قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ
وَمُجَاهِدٌ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، شَهِدَ عَلَى
الْيَهُودِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ: وَنَزَلَتْ
فِيَّ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، نَزَلَتْ فِيَّ" وَشَهِدَ
شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ". وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ"
الرَّعْدِ" «1». وَقَالَ مَسْرُوقٌ: هُوَ مُوسَى
وَالتَّوْرَاةُ، لَا ابْنُ سَلَامٍ، لِأَنَّهُ أَسْلَمَ
بِالْمَدِينَةِ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ: وَقَوْلُهُ"
وَكَفَرْتُمْ بِهِ" مُخَاطَبَةٌ لِقُرَيْشٍ. الشَّعْبِيُّ:
هُوَ مَنْ آمَنَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمُوسَى
وَالتَّوْرَاةِ، لِأَنَّ ابْنَ سَلَامٍ إِنَّمَا أَسْلَمَ
قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِعَامَيْنِ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:
وَمَنْ قَالَ الشَّاهِدُ مُوسَى قَالَ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ،
وَأَسْلَمَ ابْنُ سَلَامٍ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامَيْنِ «2». وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَتُوضَعُ فِي
سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ، فَإِنَّ الْآيَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ
فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ضَعُوهَا فِي سُورَةِ كَذَا. وَالْآيَةُ فِي مُحَاجَّةِ
الْمُشْرِكِينَ، وَوَجْهُ الْحُجَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا
يُرَاجِعُونَ الْيَهُودَ فِي أَشْيَاءٍ، أَيْ شَهَادَتُهُمْ
لَهُمْ وَشَهَادَةُ نَبِيِّهِمْ لِي مِنْ أَوْضَحِ الْحُجَجِ.
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ فِي مُحَاجَّةِ
الْيَهُودِ، وَلَمَّا جَاءَ ابْنُ سَلَامٍ مُسْلِمًا مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَعْلَمَ الْيَهُودَ بِإِسْلَامِهِ قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْنِي حَكَمًا بَيْنَكَ وَبَيْنَ
الْيَهُودِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ:] أَيُّ رَجُلٍ هُوَ فِيكُمْ
[قَالُوا: سَيِّدُنَا وَعَالِمُنَا. فَقَالَ:] إِنَّهُ قَدْ
آمَنَ بِي [فأساءوا القول فيه ... الحديث،
__________
(1). راجع ج 9 ص 335
(2). ما بين المربعين ساقط من ك.
(16/188)
وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا
سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
رَضِيَتِ الْيَهُودُ بِحُكْمِ ابْنِ سَلَامٍ، وَقَالَتْ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ يَشْهَدْ
لَكَ آمَنَّا بِكَ، فَسُئِلَ فَشَهِدَ ثُمَّ أَسْلَمَ." عَلى
مِثْلِهِ" أَيْ عَلَى مِثْلِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، فَشَهِدَ
مُوسَى عَلَى التَّوْرَاةِ وَمُحَمَّدٌ عَلَى الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ." مِثْلِ" صِلَةٌ، أَيْ وَشَهِدَ
شَاهِدٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ." فَآمَنَ" أَيْ
هَذَا الشَّاهِدُ." وَاسْتَكْبَرْتُمْ" أَنْتُمْ عَنِ
الْإِيمَانِ. وَجَوَابُ" إِنْ كانَ" محذوف تقديره: فآمن
أتؤمنون، قاله الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ:" فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ" أَلَيْسَ قَدْ ظَلَمْتُمْ، يُبَيِّنُهُ"
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" وقيل:"
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ" أفتأمنون عذاب الله. و"
أَرَأَيْتُمْ" لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلسُّؤَالِ
وَالِاسْتِفْهَامِ، وَلِذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مَفْعُولًا.
وَحَكَى النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ فِي الْآيَةِ
تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَتَقْدِيرُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَآمَنَ هُوَ وَكَفَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يهدي القوم الظالمين.
[سورة الأحقاف (46): آية 11]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ
خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ" اخْتُلِفَ
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى سِتَّةِ «1» أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ- أَنَّ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ دَعَاهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ فَأَجَابَ، وَاسْتَجَارَ بِهِ قَوْمُهُ
فَأَتَاهُ زَعِيمُهُمْ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ دَعَاهُمُ الزَّعِيمُ
فَأَسْلَمُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا فَقَالُوا: غِفَارٌ
الْحُلَفَاءُ لَوْ كَانَ هَذَا خَيْرًا مَا سَبَقُونَا
إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَهُ أَبُو
الْمُتَوَكِّلِ. الثَّانِي- أَنَّ زِنِّيرَةَ «2» أَسْلَمَتْ
فَأُصِيبَ بَصَرُهَا فَقَالُوا لَهَا: أَصَابَكِ اللَّاتُ
وَالْعُزَّى، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا. فَقَالَ
عُظَمَاءُ قُرَيْشٍ: لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ
خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ زِنِّيرَةُ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَهُ عُرْوَةُ بن
الزبير.
__________
(1). كذا في نسخ الأصل. ويلاحظ أن المؤلف رحمه الله ذكر خمسة
أقوال.
(2). زنيرة (بكسر الزاي وتشديد النون المكسورة): رومية، وكانت
من السابقات إلى الإسلام، وممن يعذب في الله، وكان أبو جهل
يعذبها، وهي من السبعة الذين اشتراهم أبو بكر الصديق وأنقذهم
من التعذيب. [ ..... ]
(16/189)
وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ
لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى
لِلْمُحْسِنِينَ (12)
الثَّالِثُ- أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ
بَنُو عَامِرٍ وَغَطَفَانُ وَتَمِيمٌ وَأَسَدٌ وَحَنْظَلَةُ
وَأَشْجَعُ، قَالُوا لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ غِفَارٍ وَأَسْلَمَ
وَجُهَيْنَةَ وَمُزَيْنَةَ وَخُزَاعَةَ: لَوْ كَانَ مَا جَاءَ
بِهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ رُعَاةُ
الْبُهْمِ إِذْ نَحْنُ أَعَزُّ مِنْهُمْ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ
وَالزَّجَّاجُ، وَحَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ عن ابن عباس. وَقَالَ
قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، قَالُوا: لَوْ
كَانَ مَا يَدْعُونَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا
سَبَقَنَا إِلَيْهِ بِلَالٌ وَصُهَيْبٌ وَعَمَّارٌ وَفُلَانٌ
وفلان. وهو القول الرابع. القول الْخَامِسُ- أَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا يَعْنِي
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَأَصْحَابَهُ: لَوْ كَانَ دِينُ
مُحَمَّدٍ حَقًّا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ، قَالَهُ أَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ:
إِنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا
إِلَيْهِ الْيَهُودُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَهَذِهِ
الْمُعَارَضَةُ مِنَ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ
خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ مِنْ أَكْبَرِ
الْمُعَارَضَاتِ بِانْقِلَابِهَا عَلَيْهِمْ لِكُلِّ مَنْ
خَالَفَهُمْ، حَتَّى يُقَالَ لَهُمْ: لَوْ كَانَ مَا أَنْتُمْ
عليه خيرا ما عدلنا عنه، لو كَانَ تَكْذِيبُكُمْ لِلرَّسُولِ
«1» خَيْرًا مَا سَبَقْتُمُونَا إِلَيْهِ، ذَكَرَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ. ثُمَّ قِيلَ: قَوْلُهُ" مَا سَبَقُونا
إِلَيْهِ" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ
لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى
الْخُرُوجِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى" حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ
بِهِمْ" «2» [يونس: 22]." وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ"
يَعْنِي الْإِيمَانَ. وَقِيلَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ مُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." فَسَيَقُولُونَ هَذَا
إِفْكٌ قَدِيمٌ" أَيْ لَمَّا لَمْ يُصِيبُوا الْهُدَى
بِالْقُرْآنِ وَلَا بِمَنْ جَاءَ بِهِ عَادَوْهُ وَنَسَبُوهُ
إِلَى الْكَذِبِ، وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ، كَمَا
قَالُوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ:
هَلْ فِي الْقُرْآنِ: مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ؟ فَقَالَ
نَعَمْ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ" وَمِثْلُهُ" بَلْ
كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ" «3» [يونس: 39].
[سورة الأحقاف (46): آية 12]
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ
مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
__________
(1). في ك: ولو كان تكذيب الرسول.
(2). آية 22 سورة يونس.
(3). آية 39 سورة يونس.
(16/190)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْ قَبْلِهِ" أَيْ
وَمِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ" كِتابُ مُوسى " أَيِ التَّوْرَاةَ"
إِماماً" يُقْتَدَى بما فيه و" وَرَحْمَةً" من الله. وفي
الكلام حذف، أي فلم تهتدوا به. وذلك أنه كان في التوراة نعت
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والايمان به فتركوا
ذلك. و" إِماماً" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى:
وَتَقَدَّمَهُ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا." وَرَحْمَةً"
مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ،
أَيْ أَنْزَلْنَاهُ إِمَامًا وَرَحْمَةً. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:
عَلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ كِتَابَ مُوسَى مَعْرِفَةٌ
بِالْإِضَافَةِ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَتْ أَوْ
أُضِيفَتْ أَوْ أُدْخِلَ عَلَيْهَا أَلِفٌ وَلَامٌ صَارَتْ
مَعْرِفَةً «1»." وَهذا كِتابٌ" يَعْنِي الْقُرْآنَ"
مُصَدِّقٌ" يَعْنِي لِلتَّوْرَاةِ وَلِمَا قَبْلَهُ مِنَ
الْكُتُبِ. وَقِيلَ: مُصَدِّقٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." لِساناً عَرَبِيًّا" مَنْصُوبٌ عَلَى
الْحَالِ، أَيْ مُصَدِّقٌ لِمَا قَبْلَهُ عَرَبِيًّا، و"
لِساناً" تَوْطِئَةٌ لِلْحَالِ أَيْ تَأْكِيدٌ، كَقَوْلِهِمْ:
جَاءَنِي زَيْدٌ رَجُلًا صَالِحًا، فَتَذْكُرُ رَجُلًا
تَوْكِيدًا. وَقِيلَ: نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ:
وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ أَعْنِي لِسَانًا عَرَبِيًّا.
وَقِيلَ: نُصِبَ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْخَفْضِ تَقْدِيرُهُ:
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ. وَقِيلَ: إِنَّ لِسَانًا مَفْعُولٌ
وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَيْ وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مُعْجِزَتُهُ،
وَالتَّقْدِيرُ: مُصَدِّقٌ ذَا لِسَانٍ عَرَبِيٍّ.
فَاللِّسَانُ مَنْصُوبٌ بِمُصَدِّقٍ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ
اللِّسَانُ الْقُرْآنَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ يُصَدِّقُ
نَفْسَهُ." لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا" قِرَاءَةُ
الْعَامَّةِ" لِيُنْذِرَ" بِالْيَاءِ خبرا عَنِ الْكِتَابِ،
أَيْ لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ
وَالْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ
وَالْبَزِّيُّ بِالتَّاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ
وَأَبُو حَاتِمٍ، عَلَى خِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرٌ" «2» [الرعد: 7]." وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ"" بُشْرى
" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ وَهُوَ بُشْرَى. وَقِيلَ: عَطْفًا
عَلَى الْكِتَابِ، أَيْ وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ وَبُشْرَى.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِسْقَاطِ حَرْفِ
الْخَفْضِ، أَيْ لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَلِلْبُشْرَى،
فَلَمَّا حُذِفَ الْخَافِضُ نُصِبَ. وَقِيلَ: عَلَى
الْمَصْدَرِ، أَيْ وَتُبَشِّرُ الْمُحْسِنِينَ بُشْرَى،
فَلَمَّا جُعِلَ مَكَانٌ وَتُبَشِّرُ بُشْرَى أَوْ بِشَارَةً
نُصِبَ، كَمَا تَقُولُ: أَتَيْتُكَ لِأَزُورَكَ، وَكَرَامَةً
لَكَ وَقَضَاءً لِحَقِّكَ، يَعْنِي لِأَزُورَكَ وَأُكْرِمَكَ
وَأَقْضِيَ حَقَّكَ، فَنَصَبَ الكرامة بفعل مضمر
__________
(1). راجع ما ذكره الصبان (باب النكرة والمعرفة).
(2). راجع ج 9 ص 285.
.
(16/191)
إِنَّ الَّذِينَ
قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
[سورة الأحقاف (46): الآيات 13 الى 14]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ
أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ
ثُمَّ اسْتَقامُوا" الْآيَةَ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا «1».
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ. والآية تعم." جزاء" نصب على المصدر.
[سورة الأحقاف (46): آية 15]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ
ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ
وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (15)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً" بَيَّنَ
اخْتِلَافَ حَالِ الْإِنْسَانِ مَعَ أَبَوَيْهِ، فَقَدْ
يُطِيعُهُمَا وَقَدْ يُخَالِفُهُمَا، أَيْ فَلَا يَبْعُدُ
مِثْلُ هَذَا فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَوْمِهِ حَتَّى يَسْتَجِيبَ لَهُ الْبَعْضُ
وَيَكْفُرَ الْبَعْضُ. فَهَذَا وَجْهُ اتِّصَالِ الْكَلَامِ
بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، قَالَهُ القشيري. الثانية- قوله تعالى:"
حسنا" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" حُسْنًا" وَكَذَا هُوَ فِي
مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكُوفِيُّونَ" إِحْساناً"
وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ (الانعام وبني
إسرائيل):" وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً" «2» [الانعام: 151]
وَكَذَا هُوَ فِي مَصَاحِفِ الْكُوفَةِ. وَحُجَّةُ
الْقِرَاءَةِ الاولى قول تَعَالَى فِي سُورَةِ
الْعَنْكَبُوتِ:" وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
حُسْناً" «3» [العنكبوت: 8]
__________
(1). راجع ج 15 ص (357)
(2). آية 151 سورة الانعام، 23 سورة الاسراء.
(3). آية 8
(16/192)
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهَا. وَالْحُسْنُ
خِلَافُ الْقُبْحِ. وَالْإِحْسَانُ خِلَافُ الْإِسَاءَةِ.
وَالتَّوْصِيَةُ الْأَمْرُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا
وَفِيمَنْ نَزَلَتْ «1». الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً" أَيْ
بِكُرْهٍ وَمَشَقَّةٍ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ
الْكَافِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ
لَفْظُ الْكَرْهِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ بِالْفَتْحِ إِلَّا
الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ
وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ" «2» [البقرة: 216] لِأَنَّ ذَلِكَ اسْمٌ
وَهَذِهِ كُلُّهَا مَصَادِرُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ"
كُرْهًا" بِالضَّمِّ. قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الضُّعْفِ
وَالضَّعْفِ وَالشُّهْدُ وَالشَّهْدُ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ،
وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ جَمِيعِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ أَيْضًا وَالْفَرَّاءُ فِي الْفَرْقِ
بَيْنَهُمَا: إِنَّ الْكُرْهَ (بِالضَّمِّ) مَا حَمَلَ
الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِالْفَتْحِ مَا حمل على غيره،
أي قهرا وغصبا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ:
إِنَّ كَرْهًا (بِفَتْحِ الْكَافِ) لَحْنٌ. الرَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً"
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا حَمَلَتْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ
أَرْضَعَتْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَإِنْ حَمَلَتْ
سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا.
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ
وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ
عَلَيْهَا بِالْحَدِّ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً" وَقَالَ تَعَالَى:"
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كامِلَيْنِ" [البقرة: 233] فَالرَّضَاعُ أَرْبَعَةٌ
وَعِشْرُونَ شَهْرًا وَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَرَجَعَ
عُثْمَانُ عَنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يَحُدَّهَا. وَقَدْ مَضَى فِي"
الْبَقَرَةِ" «3». وَقِيلَ: لَمْ يَعُدَّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ
فِي ابْتِدَاءِ الْحَمْلِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ فِيهَا نُطْفَةٌ
وَعَلَقَةٌ وَمُضْغَةٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ ثِقَلٌ يُحَسُّ
بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلَمَّا تَغَشَّاها
حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ «4» بِهِ" [الأعراف:
189]. وَالْفِصَالُ الْفِطَامُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي"
لُقْمَانَ" «5» الْكَلَامُ فِيهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ
وَيَعْقُوبُ وَغَيْرُهُمَا" وَفَصْلُهُ" بِفَتْحِ الْفَاءِ
وَسُكُونِ الصَّادِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ فِي
ثَلَاثِينَ شَهْرًا، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ
وَأَرْضَعَتْهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ شَهْرًا. وَفِي الْكَلَامِ
إِضْمَارٌ،
__________
(1). راجع ج 13 ص (328)
(2). آية (216)
(3). راجع ج 3 ص 160 وما بعدها.
(4). آية 189 سورة الأعراف.
(5). راجع ج 14 ص 64 وما بعدها.
(16/193)
أَيْ وَمُدَّةُ حَمْلِهِ وَمُدَّةُ
فِصَالِهِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، وَلَوْلَا هَذَا الْإِضْمَارُ
لَنُصِبَ ثَلَاثُونَ عَلَى الظَّرْفِ وَتَغَيَّرَ الْمَعْنَى.
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى إِذا بَلَغَ
أَشُدَّهُ" قال ابن عباس: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ
فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَحِبَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ
ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَهُمْ يُرِيدُونَ
الشَّامَ لِلتِّجَارَةِ، فَنَزَلُوا مَنْزِلًا فِيهِ سِدْرَةٌ،
فَقَعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
ظِلِّهَا، وَمَضَى أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَاهِبٍ هُنَاكَ
فَسَأَلَهُ عَنِ الدِّينِ. فَقَالَ الرَّاهِبُ: مَنِ الرَّجُلَ
الَّذِي فِي ظِلِّ الشَّجَرَةِ؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله
ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ نَبِيٌّ،
وَمَا اسْتَظَلَّ أَحَدٌ تَحْتَهَا بَعْدَ عِيسَى. فَوَقَعَ
فِي قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ الْيَقِينُ وَالتَّصْدِيقُ، وَكَانَ
لَا يَكَادُ يُفَارِقُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ وَحَضَرِهِ. فَلَمَّا
نُبِّئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، صَدَّقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ:" رَبِّ أَوْزِعْنِي
أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى
والِدَيَّ" الْآيَةَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ:
الْأَشُدُّ الْحُلُمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ بُلُوغُ
الْأَرْبَعِينَ. وَعَنْهُ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ
مَضَى فِي" الْأَنْعَامِ" الْكَلَامُ «1» فِي الْآيَةِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ»
. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ مُرْسَلَةٌ نُزِلَتْ عَلَى
الْعُمُومِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي" أَيْ أَلْهِمْنِي." أَنْ
أَشْكُرَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ شُكْرَ
نِعْمَتِكَ" عَلَيَّ" أَيْ مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ مِنَ
الْهِدَايَةِ" وَعَلى والِدَيَّ" بِالتَّحَنُّنِ وَالشَّفَقَةِ
حَتَّى رَبَّيَانِي صَغِيرًا. وَقِيلَ: أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَعَلَى وَالِدَيَّ بِالْغِنَى
وَالثَّرْوَةِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ
الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ! أَسْلَمَ أَبَوَاهُ جَمِيعًا وَلَمْ
يَجْتَمِعْ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَنْ أَسْلَمَ «3»
أَبَوَاهُ غَيْرُهُ، فَأَوْصَاهُ اللَّهُ بِهِمَا وَلَزِمَ
ذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُ. وَوَالِدُهُ هو أبو قُحَافَةُ عُثْمَانُ
بْنُ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
تَيْمِ. وأمه
__________
(1). راجع ج 7 ص 134 وما بعدها. [ ..... ]
(2). راجع ج 13 ص 328 وج 14 ص 63
(3). زيادة يقتضيها السياق.
(16/194)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ
عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ
الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
أُمُّ الْخَيْرِ، وَاسْمُهَا سَلْمَى
بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ. وَأُمُّ
أَبِيهِ أَبِي قُحَافَةَ" قَيْلَةُ"" بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ
بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا". وَامْرَأَةُ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ اسْمُهَا" قُتَيْلَةُ"" بِالتَّاءِ الْمُعْجَمَةِ
بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقِهَا" بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى."
وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَأَجَابَهُ اللَّهُ فَأَعْتَقَ تِسْعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
يُعَذَّبُونَ فِي اللَّهِ مِنْهُمْ بِلَالٌ وَعَامِرُ بْنُ
فُهَيْرَةَ، وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا
أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَفِي الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ
صَائِمًا [؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. قَالَ:] فَمَنْ تَبِعَ
مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً [؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا.
قَالَ:] فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا [؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. قَالَ:] فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ
الْيَوْمَ مَرِيضًا [؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] ما
اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ [.
السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي" أَيِ اجْعَلْ ذُرِّيَّتِي صَالِحِينَ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمْ يَبْقَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ
وَلَا وَالِدَةٌ إِلَّا آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. وَلَمْ
يَكُنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْلَمَ هُوَ وَأَبَوَاهُ وَأَوْلَادُهُ
وَبَنَاتُهُ كُلُّهُمْ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ. وَقَالَ سَهْلُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْمَعْنَى اجْعَلْهُمْ لِي خَلَفَ
صِدْقً، وَلَكَ عَبِيدَ حَقٍّ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ:
اجْعَلْهُمْ أَبْرَارًا لِي مُطِيعِينَ لَكَ. وَقَالَ ابْنُ
عَطَاءٍ: وَفِّقْهُمْ لِصَالِحِ أَعْمَالٍ تَرْضَى بِهَا
عَنْهُمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا تَجْعَلْ
لِلشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ وَالْهَوَى عَلَيْهِمْ سَبِيلًا.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ: اشْتَكَى أَبُو مَعْشَرٍ
ابْنَهُ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، فَقَالَ: اسْتَعِنْ
عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَتَلَا" رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى
والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي
فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ"." إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ" قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: رَجَعْتُ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ."
وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" أي المخلصين بالتوحيد.
[سورة الأحقاف (46): آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا
عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ
الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)
(16/195)
وَالَّذِي قَالَ
لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ
وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ
اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ
مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ
الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا
خَاسِرِينَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ
سَيِّئاتِهِمْ" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بضم الياء فيهما. وقرى"
يَتَقَبَّلُ، وَيَتَجَاوَزُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالضَّمِيرُ
فِيهِمَا يَرْجِعُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَرَأَ حَفْصٌ
وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" نَتَقَبَّلُ، وَنَتَجَاوَزُ"
النُّونُ فِيهِمَا، أَيْ نَغْفِرُهَا وَنَصْفَحُ عَنْهَا.
وَالتَّجَاوُزُ أَصْلُهُ مِنْ جُزْتُ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ
تَقِفْ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا" وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ" إِلَى
آخِرِهَا مُرْسَلَةٌ نَزَلَتْ عَلَى الْعُمُومِ. وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ. وَمَعْنَى" نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ" أَيْ نَتَقَبَّلُ
مِنْهُمُ الْحَسَنَاتِ وَنَتَجَاوَزُ عَنِ السَّيِّئَاتِ.
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ- وَيَحْكِيهِ مَرْفُوعًا-:
إِنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا قُبِلَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَغُفِرَتْ
سَيِّئَاتُهُمْ. وَقِيلَ: الْأَحْسَنُ مَا يَقْتَضِي
الثَّوَابَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَلَيْسَ فِي الْحَسَنِ
الْمُبَاحِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى." فِي
أَصْحابِ الْجَنَّةِ"" فِي" بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ مَعَ
أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، تَقُولُ: أَكْرَمَكَ وَأَحْسَنَ
إِلَيْكَ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْبَلَدِ، أَيْ مَعَ
جَمِيعِهِمْ." وَعْدَ الصِّدْقِ" نُصِبَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ
مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ
الْإِيمَانِ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزَ
عَنْ مُسِيئِهِمْ وَعْدَ الصِّدْقِ. وَهُوَ مِنْ بَابِ
إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الصِّدْقَ هُوَ
ذَلِكَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُ الله، وهو كقوله تعالى:"
حَقُّ الْيَقِينِ" «1» [الواقعة: 95]. وَهَذَا عِنْدَ
الْكُوفِيِّينَ، فَأَمَّا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ
فَتَقْدِيرُهُ: وَعْدُ الْكَلَامِ الصِّدْقِ أَوِ الْكِتَابُ
الصِّدْقِ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي
غَيْرِ مَوْضِعٍ «2»." الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ" فِي
الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرسل، وذلك الجنة.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 17 الى 18]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ
أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما
يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ
حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
(17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18)
__________
(1). آية 95 سورة الواقعة.
(2). راجع ج 9 ص 356.
(16/196)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِي قالَ
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ" أَيْ
أَنْ أُبْعَثَ." وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي"
قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَحَفْصٍ وَغَيْرِهِمَا" أُفٍّ" مَكْسُورٌ
مُنَوَّنٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ
عَامِرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ" أُفٍّ" بِالْفَتْحِ مِنْ
غَيْرِ تَنْوِينٍ. الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ غَيْرِ مُنَوَّنٍ،
وَكُلُّهَا لُغَاتٌ، وَقَدْ مَضَى فِي" بَنِي إِسْرَائِيلَ"
«1». وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" أَتَعِدانِنِي" بِنُونَيْنِ
مُخَفَّفَتَيْنِ. وَفَتَحَ يَاءَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَمَكَّةَ. وَأَسْكَنَ الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ
وَالْمُغِيرَةُ وَهِشَامٌ" أَتَعِدَانِّي" بِنُونٍ وَاحِدَةٍ
مُشَدَّدَةٍ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ.
وَالْعَامَّةُ عَلَى ضَمِّ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ"
أَنْ أُخْرَجَ". وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَنَصْرٌ وَأَبُو
الْعَالِيَةِ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو مَعْمَرٍ بِفَتْحِ
الْأَلِفِ وَضَمِّ الرَّاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
وَكَانَ يَدْعُوهُ أَبَوَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ
فَيُجِيبُهُمَا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ
قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ أَيْضًا: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَكَانَ أَبُوهُ
وَأُمُّهُ أُمُّ رُومَانَ يَدْعُوَانِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ
وَيَعِدَانِهِ بِالْبَعْثِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمَا بِمَا
حَكَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُ
قَبْلَ إِسْلَامِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا أَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيْضًا: هِيَ
نَعْتُ عَبْدٍ كَافِرٍ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: كَيْفَ يُقَالُ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ
قَبْلَ إِسْلَامِهِ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:"
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ"
أَيِ الْعَذَابُ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ عَدَمُ الْإِيمَانِ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ،
فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدٍ كَافِرٍ عَاقٍّ
لِوَالِدَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ: كَتَبَ
مُعَاوِيَةُ إلى مروان ابن الْحَكَمِ حَتَّى يُبَايِعَ
النَّاسَ لِيَزِيدَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ: لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا هِرَقْلِيَّةَ «2»،
أَتُبَايِعُونَ لِأَبْنَائِكُمْ! فَقَالَ مَرْوَانُ: هُوَ
الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ فِيهِ" وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ
أُفٍّ لَكُما" الْآيَةَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ.
وَلَوْ شِئْتُ لَسَمَّيْتُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أَبَاكَ
وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ، فَأَنْتَ فَضَضٌ «3» مِنْ لَعْنَةِ
اللَّهِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ جَعَلَ الْآيَةَ فِي
عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ" أُولئِكَ
الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ"
__________
(1). راجع ج 10 ص 242.
(2). أراد أن البيعة لأولاد الملوك سنة ملوك الروم، وهرقل: اسم
ملك الروم.
(3). كل ما انقطع من شيء أو تفرق فهو فضض، أراد أنك قطعة
وطائفة منها.
(16/197)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ (19)
يُرَادُ بِهِ مَنِ اعْتَقَدَ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ خَاصٌّ وَآخِرُهَا عَامٌّ.
وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمَّا قَالَ" وَقَدْ
خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي" قَالَ مَعَ ذَلِكَ: فَأَيْنَ
عَبْدُ الله ابن جُدْعَانَ، وَأَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو،
وَأَيْنَ عَامِرُ بْنُ كَعْبٍ وَمَشَايِخُ قُرَيْشٍ حَتَّى
أَسْأَلَهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ. فَقَوْلُهُ" أُولئِكَ
الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ" يَرْجِعُ إِلَى
أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ. قُلْتُ: قَدْ مَضَى مِنْ خَبَرِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي سُورَةِ
(الْأَنْعَامِ) عِنْدَ قَوْلِهِ" لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ
إِلَى الْهُدَى" «1» [الانعام: 71] مَا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِ
هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ، إِذْ كَانَ كَافِرًا وَعِنْدَ
إِسْلَامِهِ وَفَضْلِهِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ" أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ"." وَهُما" يَعْنِي وَالِدَيْهِ." يَسْتَغِيثانِ
اللَّهَ" أَيْ يَدْعُوَانِ اللَّهَ لَهُ بِالْهِدَايَةِ. أَوْ
يَسْتَغِيثَانِ بِاللَّهِ مِنْ كُفْرِهِ، فَلَمَّا حَذَفَ
الْجَارَّ وَصَلَ الْفِعْلَ فَنُصِبَ. وَقِيلَ:
الِاسْتِغَاثَةُ الدُّعَاءُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَاءِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَغُوَاثَهُ."
وَيْلَكَ آمِنْ" أَيْ صَدِّقْ بِالْبَعْثِ." إِنَّ وَعْدَ
اللَّهِ حَقٌّ" أَيْ صِدْقٌ لَا خُلْفَ فِيهِ." فَيَقُولُ مَا
هَذَا" أَيْ مَا يَقُولُهُ وَالِدَاهُ." إِلَّا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ" أَيْ أَحَادِيثَهُمْ وَمَا سَطَرُوهُ مِمَّا
لَا أَصْلَ لَهُ." أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ" يَعْنِي الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمُ ابْنُ أَبِي
بَكْرٍ فِي قَوْلِهِ أَحْيُوا لِي مَشَايِخَ قُرَيْشٍ، وَهُمُ
الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ" وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ
قَبْلِي". فَأَمَّا ابْنُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ فِيهِ دُعَاءَ
أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ" وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي"
[الأحقاف: 15] على ما تقدم. ومعنى" حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ" أَيْ، وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، وَهِيَ
كَلِمَةُ اللَّهِ:] هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي
وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي [." فِي أُمَمٍ" أي
مع أمم" قَدْ خَلَتْ" تقدمت ومضت." مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ" الْكَافِرِينَ" إِنَّهُمْ" أَيْ تِلْكَ
الْأُمَمُ الْكَافِرَةُ" كانُوا خاسِرِينَ" لِأَعْمَالِهِمْ،
أَيْ ضَاعَ سعيهم وخسروا الجنة.
[سورة الأحقاف (46): آية 19]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ
أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)
__________
(1). راجع ج 7 ص 18
(16/198)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ
طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا
كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ"
أَيْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْكَافِرِينَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَرَاتِبٌ عِنْدَ
اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِهِمْ. قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: دَرَجَاتُ أَهْلِ النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
تَذْهَبُ سَفَالًا، وَدَرَجَ أَهْلُ الْجَنَّةِ عُلُوًّا."
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ" قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ
مُحَيْصِنٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالْيَاءِ
لِذِكْرِ اللَّهِ قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ" وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ.
الْبَاقُونَ بِالنُّونِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ" وَهُوَ اخْتِيَارُ
أَبِي عُبَيْدٍ." وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" أَيْ لا يزاد على
مسي ولا ينقص من محسن.
[سورة الأحقاف (46): آية 20]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ
أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ
الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَوْمَ يُعْرَضُ" أَيْ ذَكِّرْهُمْ يَا
مُحَمَّدُ يَوْمَ يُعْرَضُ." الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى
النَّارِ" أَيْ يُكْشَفُ الْغِطَاءُ فَيُقَرَّبُونَ مِنَ
النَّارِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا." أَذْهَبْتُمْ
طَيِّباتِكُمْ" أَيْ يُقَالُ لَهُمْ أَذْهَبْتُمْ، فَالْقَوْلُ
مُضْمَرٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَنَصْرٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ
وَيَعْقُوبُ وَابْنُ كَثِيرٍ" أَأَذْهَبْتُمْ" بِهَمْزَتَيْنِ
مُخَفَّفَتَيْنِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ أَبُو
حَيْوَةَ وَهِشَامٌ" آذْهَبْتُمْ" بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ
مُطَوَّلَةٍ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ
وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ عَلَى الْخَبَرِ، وَكُلُّهَا
لُغَاتٌ فَصِيحَةٌ وَمَعْنَاهَا التَّوْبِيخُ، وَالْعَرَبُ
تُوَبِّخُ بِالِاسْتِفْهَامِ وَبِغَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ تَرْكُ
الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ قِرَاءَةُ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ
السَّبْعَةِ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَحَمْزَةَ
وَالْكِسَائِيِّ، مَعَ مَنْ وَافَقَهُمْ شَيْبَةُ
وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي
شِهَابٍ وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى
بْنُ وَثَّابٍ وَغَيْرُهُمْ، فَهَذِهِ عَلَيْهَا جِلَّةُ
النَّاسِ. وَتَرْكُ الِاسْتِفْهَامِ أَحْسَنُ، لِأَنَّ
إِثْبَاتَهُ يُوهِمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، كَمَا
تَقُولُ: أَنَا ظَلَمْتُكَ؟ تُرِيدُ أَنَا لَمْ أَظْلِمْكَ.
وَإِثْبَاتُهُ حَسَنٌ أَيْضًا، يَقُولُ الْقَائِلُ: ذَهَبْتَ
فَعَلْتَ كَذَا، يُوَبِّخُ وَيَقُولُ: أَذَهَبْتَ فَعَلْتَ!
كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَمَعْنَى
(16/199)
" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ" أَيْ
تَمَتَّعْتُمْ بِالطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا وَاتَّبَعْتُمُ
الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، يَعْنِي الْمَعَاصِيَ."
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ" أَيْ عَذَابَ
الْخِزْيِ وَالْفَضِيحَةِ. قَالَ مجاهد: الهون الهوان. قتادة:
بلغة قريش." بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ" أي تستعجلون عَلَى أَهْلِهَا بِغَيْرِ
اسْتِحْقَاقٍ." وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ" فِي
أَفْعَالِكُمْ بَغْيًا وَظُلْمًا. وَقِيلَ:" أَذْهَبْتُمْ
طَيِّباتِكُمْ" أَيْ أَفْنَيْتُمْ شَبَابَكُمْ فِي الْكُفْرِ
وَالْمَعَاصِي. قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الطَّيِّبَاتُ الشَّبَابُ
وَالْقُوَّةُ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: ذَهَبَ أَطْيَبَاهُ،
أَيْ شَبَابُهُ وَقُوَّتُهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:
وَوَجَدْتُ الضَّحَّاكَ قَالَهُ أَيْضًا. قُلْتُ: الْقَوْلُ
الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، رَوَى الْحَسَنُ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ
قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَقُولُ: لَأَنَا أَعْلَمُ بِخَفْضِ الْعَيْشِ، وَلَوْ
شِئْتُ لَجَعَلْتُ أَكْبَادًا وَصِلَاءً وَصِنَابًا
وَصَلَائِقَ، وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِيَ حَسَنَاتِي، فَإِنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ أَقْوَامًا فَقَالَ"
أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها" وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَدِيثِ
عُمَرَ: لَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ بِصَلَائِقَ وَصِنَابٍ
وَكَرَاكِرَ وَأَسْنِمَةٍ. وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ:
وَأَفْلَاذٍ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَغَيْرُهُ: الصِّلَاءُ
(بِالْمَدِّ وَالْكَسْرِ): الشِّوَاءُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ
لِأَنَّهُ يُصْلَى بِالنَّارِ. وَالصِّلَاءُ أَيْضًا: صِلَاءُ
النَّارِ، فَإِنْ فَتَحْتَ الصَّادَ قَصَرْتَ وَقُلْتَ: صَلَى
النَّارَ. وَالصِّنَابُ: الْأَصْبِغَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ
الْخَرْدَلِ وَالزَّبِيبِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَلِهَذَا
قِيلَ لِلْبِرْذَوْنِ: صِنَابِيٌّ، وَإِنَّمَا شُبِّهَ
لَوْنُهُ بِذَلِكَ. قَالَ: وَالسَّلَائِقُ (بِالسِّينِ) هُوَ
مَا يُسْلَقُ مِنَ الْبُقُولِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ:
هِيَ الصَّلَائِقُ بِالصَّادِ، قَالَ جَرِيرٍ:
تُكَلِّفُنِي مَعِيشَةَ آلِ زَيْدٍ ... وَمَنْ لِي
بِالصَّلَائِقِ وَالصِّنَابِ
وَالصَّلَائِقُ: الْخُبْزُ الرِّقَاقُ الْعَرِيضُ. وَقَدْ
مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي (الْأَعْرَافِ) «1». وَأَمَّا
الْكَرَاكِرُ فَكَرَاكِرُ الْإِبِلِ، وَاحِدَتُهَا كِرْكِرَةُ
وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَفِي
الصِّحَاحِ: وَالْكِرْكِرَةُ رَحَى زَوْرِ الْبَعِيرِ، وَهِيَ
إِحْدَى النِّفَثَاتِ الْخَمْسِ. وَالْكِرْكِرَةُ أَيْضًا
الجماعة من
__________
(1). راجع ج 7 ص 198
(16/200)
النَّاسِ. وَأَبُو مَالِكٍ عَمْرُو بْنُ
كِرْكِرَةَ رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ. قَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: وَأَمَّا الْأَفْلَاذُ فَإِنَّ وَاحِدَهَا فِلْذٌ،
وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْكَبِدِ. قَالَ أَعْشَى بَاهِلَةَ:
تَكْفِيهِ حُزَّةُ فِلْذٍ إِنْ أَلَمَّ بِهَا ... مِنَ
الشِّوَاءِ وَيُرْوِي شُرْبَهُ الْغُمَرُ «1»
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: لَوْ شِئْتُ كُنْتُ أَطْيَبَكُمْ طَعَامًا،
وَأَلْيَنَكُمْ لِبَاسًا، وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِي طَيِّبَاتِي
لِلْآخِرَةِ. وَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ صُنِعَ لَهُ
طَعَامٌ لَمْ يَرَ قَطُّ مِثْلَهُ قَالَ: هَذَا لَنَا! فَمَا
لِفُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا وَمَا شبعوا من
خبز الشعير! فقال خالد ابن الْوَلِيدِ: لَهُمُ الْجَنَّةُ،
فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا عُمَرَ بِالدُّمُوعِ وَقَالَ: لَئِنْ
كَانَ حَظُّنَا مِنَ الدُّنْيَا هَذَا الْحُطَامَ، وَذَهَبُوا
هُمْ فِي حَظِّهِمْ بِالْجَنَّةِ فَلَقَدْ بَايَنُونَا بَوْنًا
بَعِيدًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَشْرُبَتِهِ «2» حِينَ هَجَرَ
نِسَاءَهُ قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا يَرُدُّ
الْبَصَرَ إِلَّا أُهُبًا «3» جُلُودًا مَعْطُونَةً قَدْ
سَطَعَ رِيحُهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ
رَسُولُ اللَّهِ وَخِيَرَتُهُ، وَهَذَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي
الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ؟ قَالَ: فَاسْتَوَى جَالِسًا وقال:
(أفي شك أنت يا بن الْخَطَّابِ. أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ
لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا) فَقُلْتُ:
اسْتَغْفِرْ لِي! فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ). وَقَالَ
حَفْصُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ: كُنْتُ أَتَغَدَّى عِنْدَ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخُبْزَ
وَالزَّيْتَ، وَالْخُبْزَ وَالْخَلَّ، وَالْخُبْزَ
وَاللَّبَنَ، وَالْخُبْزَ وَالْقَدِيدَ، وَأَقَلَّ ذَلِكَ
اللَّحْمَ الْغَرِيضَ «4». وَكَانَ يَقُولُ: لَا تَنْخُلُوا
الدَّقِيقَ فَإِنَّهُ طَعَامٌ كله، فجئ بِخُبْزٍ مُتَفَلِّعٍ
«5» غَلِيظٍ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ: كُلُوا،
فَجَعَلْنَا لَا نَأْكُلُ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ لَا
تَأْكُلُونَ؟ فَقُلْنَا: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
نَرْجِعُ إِلَى طَعَامٍ أَلْيَنَ مِنْ طَعَامِكَ هَذَا،
فَقَالَ: يا بن أَبِي الْعَاصِ أَمَا تَرَى بِأَنِّي عَالِمٌ
أَنْ لَوْ أَمَرْتُ بِعَنَاقٍ «6» سَمِينَةٍ فَيُلْقَى عَنْهَا
شَعْرُهَا ثم تخرج مصلية «7» كأنها كذا وكذا،
__________
(1). الغمر (بضم الأول وفتح الثاني): القدح الصغير.
(2). المشربة (بفتح الميم والراء): الموضع الذي يشرب منه
الناس. (بضم الراء وفتحها): الغرفة.
(3). بضم الهمزة والهاء، وبفتحهما على غير قياس، جمع إهاب، وهو
الجلد.
(4). الغريض: الطري.
(5). في نسخة من الأصل:" متقلع" بالقاف. والمتفلع: المشقق. [
..... ]
(6). العناق: الأنثى من ولد المعز، والجمع أعنق وعنوق.
(7). الصلاء (بالكسر): الشواء.
(16/201)
أَمَا تَرَى بِأَنِّي عَالِمٌ أَنْ لَوْ
أَمَرْتُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ مِنْ زَبِيبٍ فَأَجْعَلُهُ
فِي سِقَاءٍ ثُمَّ أَشُنُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ فَيُصْبِحُ
كَأَنَّهُ دَمُ غَزَالٍ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَجَلْ «1»! مَا تَنْعَتُ الْعَيْشَ، قَالَ:
أَجَلْ! وَاللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَوْلَا
أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَنْقُصَ حَسَنَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ
لَشَارَكْنَاكُمْ فِي الْعَيْشِ! وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ لِأَقْوَامٍ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي
حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها"." فَالْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ" أَيِ الْهَوَانُ." بِما كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" أَيْ
تَتَعَظَّمُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعَلَى عِبَادِ
اللَّهِ." وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ" تَخْرُجُونَ عَنْ
طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ جَابِرٌ: اشْتَهَى أَهْلِي لَحْمًا
فَاشْتَرَيْتُهُ لَهُمْ فَمَرَرْتُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟
فَأَخْبَرْتُهُ، فقال: أو كلما اشْتَهَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا
جَعَلَهُ فِي بَطْنِهِ! أَمَا يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ
أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ:" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ"
الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا عِتَابٌ مِنْهُ
لَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِابْتِيَاعِ اللَّحْمِ وَالْخُرُوجِ
عَنْ جِلْفِ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ، فَإِنَّ تَعَاطِيَ
الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْحَلَالِ تَسْتَشْرِهُ لَهَا الطِّبَاعُ
وَتَسْتَمْرِئُهَا الْعَادَةُ فَإِذَا فَقَدَتْهَا
اسْتَسْهَلْتَ فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ حَتَّى تَقَعَ
فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ
وَاسْتِشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ
بِالسُّوءِ، فَأَخَذَ عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ أَوَّلِهِ
وَحَمَاهُ مِنَ ابْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ.
وَالَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ:
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ مَا وَجَدَ، طَيِّبًا كَانَ
أَوْ قَفَارًا «2»، وَلَا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ
وَيَتَّخِذُهُ عَادَةً، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْبَعُ إِذَا وَجَدَ، وَيَصْبِرُ
إِذَا عَدِمَ، وَيَأْكُلُ الْحَلْوَى إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا،
وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إِذَا اتَّفَقَ لَهُ، وَيَأْكُلُ
اللَّحْمَ إذا تيسر، ولا يعتمده أَصْلًا، وَلَا يَجْعَلُهُ
دَيْدَنًا. وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعْلُومَةٌ، وَطَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ مَنْقُولَةٌ،
فَأَمَّا الْيَوْمُ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ وَفَسَادِ
الْحُطَامِ فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ، وَاللَّهُ يَهَبُ
الْإِخْلَاصَ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ التَّوْبِيخَ وَاقِعٌ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ
لَا عَلَى تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ الْمُحَلَّلَةِ، وهو حسن،
فإن
__________
(1). في بعض نسخ الأصل:" أجاد".
(2). القفار (بالفتح): الطعام بلا أدم.
(16/202)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ
النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
تَنَاوُلَ الطَّيِّبِ الْحَلَالِ مَأْذُونٌ
فِيهِ، فَإِذَا تَرَكَ الشُّكْرَ عَلَيْهِ وَاسْتَعَانَ بِهِ
عَلَى مَا لَا يحل له فقد أذهبه. والله أعلم.
[سورة الأحقاف (46): آية 21]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ
وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاذْكُرْ أَخا عادٍ" هُوَ هُودُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ
أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ." إِذْ أَنْذَرَ
قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ" أَيِ اذْكُرْ لِهَؤُلَاءِ
الْمُشْرِكِينَ قِصَّةَ عَادٍ لِيَعْتَبِرُوا بِهَا. وَقِيلَ:
أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قِصَّةَ هُودٍ
لِيَقْتَدِيَ بِهِ، وَيُهَوِّنَ عَلَيْهِ تَكْذِيبَ قَوْمِهِ
لَهُ. وَالْأَحْقَافُ: دِيَارُ عَادٍ. وَهِيَ الرِّمَالُ
الْعِظَامُ، فِي قَوْلِ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ. وَكَانُوا
قَهَرُوا أَهْلَ الْأَرْضِ بِفَضْلِ قُوَّتِهِمْ.
وَالْأَحْقَافُ جَمْعُ حِقْفٍ، وَهُوَ مَا اسْتَطَالَ مِنَ
الرَّمْلِ الْعَظِيمِ وَاعْوَجَّ وَلَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَكُونَ
جَبَلًا، وَالْجَمْعُ حِقَافٌ وَأَحْقَافٌ] وَحُقُوفٌ [.
وَاحْقَوْقَفَ الرَّمْلُ وَالْهِلَالُ أَيِ اعْوَجَّ. وَقِيلَ:
الْحِقْفُ جَمَعُ حِقَافٌ. وَالْأَحْقَافُ جَمْعُ الْجَمْعِ.
وَيُقَالُ: حِقْفٌ أَحْقَفُ. قَالَ الْأَعْشَى:
بَاتَ إِلَى أَرْطَاةَ حِقْفٌ أَحْقَفَا «1»
أَيْ رَمْلٌ مُسْتَطِيلٌ مُشْرِفٌ. وَالْفِعْلُ مِنْهُ
احْقَوْقَفَ. قَالَ الْعَجَّاجُ:
طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفًا ... سَمَاوَةُ الْهِلَالِ
حَتَّى احْقَوْقَفَا
أَيْ انْحَنَى وَاسْتَدَارَ. وَقَالَ امْرُؤٌ الْقَيْسُ:
كَحِقْفٍ النَّقَا «2» يَمْشِي الْوَلِيدَانِ فَوْقَهُ ...
بِمَا احْتَسَبَا مِنْ لين مس وتسهال
وفيما أريد بالأحقاف ها هنا مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَقَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: هِيَ رِمَالٌ مُشْرِفَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ كَهَيْئَةِ
الْجِبَالِ، وَلَمْ تَبْلُغْ أَنْ تَكُونَ جِبَالًا،
وَشَاهِدُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هي جبال
__________
(1). هذا الرجز نسبه الطبري في تفسيره إلى العجاج، ولم نعثر
عليه في شعر الأعشى ولا في أراجيز العجاج. والأرطاة: جمعه
أرطي، وهو شجر من شجر الرمل.
(2). النقا: الكثيب من الرمل.
(16/203)
قَالُوا أَجِئْتَنَا
لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ
عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ
وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا
رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا
عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ
فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ
رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ
كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
مُشْرِفَةٌ بِالشِّحْرِ، وَالشِّحْرُ
قَرِيبٌ مِنْ عَدَنَ، يُقَالُ: شِحْرُ عُمَانَ وَشِحْرُ
عَمَّانَ، وَهُوَ سَاحِلُ الْبَحْرِ بَيْنَ عُمَانَ وَعَدَنَ.
وَعَنْهُ أَيْضًا: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عَادًا كَانُوا
أَحْيَاءَ بِالْيَمَنِ، أَهْلُ رَمْلٍ مُشْرِفِينَ عَلَى
الْبَحْرِ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: الشِّحْرُ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: هِيَ أَرْضٌ مِنْ حِسْمَى تُسَمَّى بِالْأَحْقَافِ.
وَحِسْمَى (بِكَسْرِ الْحَاءِ) اسْمُ أَرْضٍ بِالْبَادِيَةِ
فِيهَا جِبَالٌ شَوَاهِقُ مُلْسُ الْجَوَانِبِ لَا يَكَادُ
الْقَتَامُ يُفَارِقُهَا. قَالَ النَّابِغَةُ:
فَأَصْبَحَ عَاقِلًا بِجِبَالِ حِسْمَى ... دُقَاقَ التُّرْبِ
مُحْتَزِمَ الْقَتَامِ «1»
قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالضَّحَّاكُ: الْأَحْقَافُ جَبَلٌ بِالشَّامِ. وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَادٍ بَيْنَ عُمَانَ وَمَهْرَةَ. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: كَانَتْ مَنَازِلُ عَادٍ بِالْيَمَنِ فِي
حَضْرَمَوْتَ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ مَهْرَةُ، وَإِلَيْهِ
تُنْسَبُ الْإِبِلُ «2» الْمَهْرِيَّةُ، فَيُقَالُ: إِبِلٌ
مَهْرِيَّةٌ وَمَهَارِيٌّ. وَكَانُوا أَهْلَ عُمَدٍ سَيَّارَةٍ
فِي الرَّبِيعِ فَإِذَا هَاجَ «3» الْعُودُ رَجَعُوا إِلَى
مَنَازِلِهِمْ، وَكَانُوا مِنْ قَبِيلَةِ إِرَمَ. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: أَحْقَافُ الْجَبَلِ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ
زَمَانَ الْغَرَقِ، كَانَ يَنْضُبُ الْمَاءُ مِنَ الْأَرْضِ
وَيَبْقَى أَثَرُهُ. وَرَوَى الطُّفَيْلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ
وَادِيَيْنِ فِي النَّاسِ وَادٍ بِمَكَّةَ وَوَادٍ نَزَلَ بِهِ
آدَمُ بِأَرْضِ الْهِنْدِ. وَشَرُّ وَادِيَيْنِ فِي النَّاسِ
وَادٍ بِالْأَحْقَافِ وَوَادٍ بِحَضْرَمَوْتَ يُدْعَى
بَرَهُوتُ تُلْقَى فِيهِ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ. وَخَيْرُ
بِئْرٍ فِي النَّاسِ بِئْرُ زَمْزَمَ. وَشَرُّ بِئْرٍ فِي
النَّاسِ بِئْرُ بَرَهُوتَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْوَادِي
الَّذِي بِحَضْرَمَوْتَ." وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ" أَيْ
مَضَتِ الرُّسُلُ." مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ" أَيْ مِنْ قَبْلِ
هُودٍ." وَمِنْ خَلْفِهِ" أَيْ وَمِنْ بَعْدِهِ، قَالَهُ
الْفَرَّاءُ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ" مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ بَعْدِهِ"." أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
اللَّهَ" هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمُرْسَلِ، فَهُوَ كَلَامٌ
مُعْتَرِضٌ. ثُمَّ قَالَ هُودٌ" إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" وَقِيلَ" أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
اللَّهَ" مِنْ كَلَامِ هُودٍ، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 22 الى 25]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ
وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا
رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا
عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ
فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ
رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ
نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
__________
(1). قال ابن بري:" أي حسمى قد أحاط به القتام كالحزام له".
(2). في معجم البلدان لياقوت وكتب اللغة أن الإبل المهرية تنسب
إلى مهرة بن حيدان أبو قبيلة.
(3). هاج البقل: إذا أخذ في اليبس.
(16/204)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالُوا أَجِئْتَنا
لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا" فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا-
لِتُزِيلَنَا عَنْ عِبَادَتِهَا بِالْإِفْكِ. الثَّانِي-
لِتَصْرِفَنَا عَنْ آلِهَتِنَا بِالْمَنْعِ، قَالَهُ
الضَّحَّاكُ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ أُذَيْنَةَ:
إِنْ تَكُ عَنْ أحسن الصنيعة مأ ... فوكا ففي آخرين قد
أُفِكُوا
يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُوَفَّقْ لِلْإِحْسَانِ فَأَنْتَ فِي
قَوْمٍ قَدْ صُرِفُوا." فَأْتِنا بِما تَعِدُنا" هَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ قَدْ يُوضَعُ مَوْضِعُ الْوَعِيدِ."
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" أَنَّكَ نَبِيٌّ" قالَ
إِنَّمَا الْعِلْمُ" بِوَقْتِ مَجِيءِ الْعَذَابِ." عِنْدَ
اللَّهِ" لَا عِنْدِي." وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ"
عَنْ رَبِّكُمْ." وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ" فِي
سُؤَالِكُمُ اسْتِعْجَالُ الْعَذَابِ." فَلَمَّا رَأَوْهُ
عارِضاً" قَالَ الْمُبَرِّدُ: الضَّمِيرُ فِي" رَأَوْهُ"
يَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ:"
عارِضاً" فَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى السَّحَابِ، أَيْ
فَلَمَّا رَأَوُا السَّحَابَ عَارِضًا. ف" عارِضاً" نُصِبَ
عَلَى التَّكْرِيرِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَبْدُو فِي
عُرْضِ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ:
يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إِلَى قَوْلِهِ:" فَأْتِنا بِما تَعِدُنا"
فَلَمَّا رَأَوْهُ حَسِبُوهُ سَحَابًا يُمْطِرُهُمْ، وَكَانَ
الْمَطَرُ قَدْ أَبْطَأَ عَنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ"
مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ" اسْتَبْشَرُوا. وَكَانَ قَدْ
جَاءَهُمْ مِنْ وَادٍ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ مَا جَاءَ
مِنْهُ يَكُونُ غَيْثًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْعَارِضُ السَّحَابُ يَعْتَرِضُ فِي
الْأُفُقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" هَذَا عارِضٌ
مُمْطِرُنا" أَيْ مُمْطِرٌ لَنَا، لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِعَارِضٍ وَهُوَ نَكِرَةٌ.
وَالْعَرَبُ إِنَّمَا تَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا فِي الْأَسْمَاءِ
الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الْأَفْعَالِ دُونَ غَيْرِهَا. قَالَ
جَرِيرٌ:
يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبُكُمْ ... لَاقَى
مُبَاعَدَةً مِنْكُمْ وَحِرْمَانًا
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا رَجُلُ غُلَامِنَا. وَقَالَ
أَعْرَابِيٌّ بَعْدَ الْفِطْرِ: رُبَّ صَائِمَةٍ لَنْ
تَصُومَهُ وَقَائِمَةٌ لَنْ تَقُومَهُ، فَجَعَلَهُ نَعْتًا
لِلنَّكِرَةِ وَأَضَافَهُ إلى المعرفة.
(16/205)
قُلْتُ: قَوْلُهُ: (لَا يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ صِفَةً لِعَارِضٍ) خِلَافُ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ،
وَالْإِضَافَةُ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ، فَهِيَ إِضَافَةٌ
لَفْظِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، لِأَنَّهَا لَمْ تَفِدِ
الْأَوَّلَ تَعْرِيفًا، بَلِ الِاسْمُ نَكِرَةٌ عَلَى حَالِهِ،
فَلِذَلِكَ جَرَى نَعْتًا عَلَى النَّكِرَةِ. هَذَا قَوْلُ
النَّحْوِيِّينَ فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ. وَنَعْتُ
النَّكِرَةِ نَكِرَةٌ. وَ" رُبَّ" لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى
النَّكِرَةِ." بَلْ هُوَ" أَيْ قَالَ هُودٌ لَهُمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ" قَالَ هود بل
هو" وقرى" قُلْ بَلْ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ هِيَ رِيحٌ"
أَيْ قَالَ اللَّهُ قُلْ بَلْ هُوَ مَا استعجلتم به، يعني
قولهم:" فَأْتِنا بِما تَعِدُنا" ثم بين ما هو فقال:" رِيحٌ
فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ" وَالرِّيحُ الَّتِي عُذِّبُوا بِهَا
نَشَأَتْ مِنْ ذَلِكَ السَّحَابُ الَّذِي رَأَوْهُ، وَخَرَجَ
هُودٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَجَعَلَتْ تَحْمِلُ
الْفَسَاطِيطَ وَتَحْمِلُ الظَّعِينَةَ «1» فَتَرْفَعُهَا
كَأَنَّهَا جَرَادَةٌ، ثُمَّ تَضْرِبُ بِهَا الصُّخُورَ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ ما راو الْعَارِضَ قَامُوا فَمَدُّوا
أَيْدِيَهُمْ، فَأَوَّلُ مَا عَرَفُوا أَنَّهُ عَذَابٌ رَأَوْا
مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ دِيَارِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ
وَالْمَوَاشِي تَطِيرُ بِهِمُ الرِّيحُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ مِثْلَ الرِّيشِ، فَدَخَلُوا بُيُوتَهُمْ
وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَهُمْ، فَقَلَعَتِ الرِّيحُ الْأَبْوَابَ
وَصَرَعَتْهُمْ، وَأَمَرَ اللَّهُ الرِّيحَ فَأَمَالَتْ
عَلَيْهِمُ الرِّمَالَ، فَكَانُوا تَحْتَ الرِّمَالِ سَبْعَ
لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا «2»، ولهم أنين، ثم
أمر الله الريح فكشفت عَنْهُمُ الرِّمَالَ وَاحْتَمَلَتْهُمْ
فَرَمَتْهُمْ فِي الْبَحْرِ، فَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى فِيهَا:" تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها"
أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مَرَّتْ عَلَيْهِ مِنْ رِجَالِ عَادٍ
وَأَمْوَالِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ كُلُّ شَيْءٍ
بُعِثَتْ إِلَيْهِ. وَالتَّدْمِيرُ: الهلاك. وكذلك الدمار.
وقرى" يدمر كل شي" مِنْ دَمَرَ دَمَارًا. يُقَالُ: دَمَّرَهُ
تَدْمِيرًا وَدَمَارًا وَدَمَّرَ عَلَيْهِ بِمَعْنًى. وَدَمَرَ
يَدْمُرُ دُمُورًا دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَفِي الْحَدِيثِ:]
مَنْ سَبَقَ طَرْفُهُ اسْتِئْذَانَهُ فَقَدْ دَمَرَ [مُخَفَّفُ
الْمِيمِ. وَتَدْمُرُ: بَلَدٌ بِالشَّامِ. وَيَرْبُوعٌ
تُدْمُرِيٌّ إِذَا كَانَ صَغِيرًا قَصِيرًا." بِأَمْرِ
رَبِّها" بِإِذْنِ رَبِّهَا. وَفَى الْبُخَارِيِّ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا حَتَّى
أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتَهُ «3» إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ.
قَالَتْ: وكان إذا رأى غيما أو ريحا
__________
(1). الظعينة: الجمل يظعن عليه. والهودج فيه امرأة أم لا.
(2). الأيام الحسوم: الدائمة في البشر.
(3). جمع لهاة، وهي اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف
الفم.
(16/206)
عُرِفَ فِي وَجْهِهِ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ
أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ
عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ؟ فَقَالَ:] يَا عَائِشَةُ،
مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ عُذِّبَ قَوْمٌ
بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا هَذَا
عَارِضٌ مُمْطِرنَا [خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ،
وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:] نُصِرْتُ بِالصَّبَا «1»
وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ [. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ
أَنَّ الْقَائِلَ" هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا" مِنْ قَوْمِ
عَادٍ: بَكْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَلَمَّا رَأَى السَّحَابَ
قَالَ: إِنِّي لَأَرَى سَحَابًا مُرَمَّدًا، لَا تَدَعُ مِنْ
عَادٍ أَحَدًا «2». فَذَكَرَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونَ أَنَّهَا
كَانَتْ تَأْتِيهِمْ بِالرَّجُلِ الْغَائِبِ حَتَّى تَقْذِفَهُ
فِي نَادِيهِمْ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاعْتَزَلَ هُودٌ
وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَظِيرَةٍ، مَا
يُصِيبُهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْهَا إِلَّا مَا يُلِينُ أَعْلَى
ثِيَابِهِمْ. وَتَلْتَذُّ الْأَنْفُسُ بِهِ، وَإِنَّهَا
لَتَمُرُّ مِنْ عَادٍ بِالظَّعْنِ بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَتَدْمَغُهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى هَلَكُوا.
وَحَكَى الْكَلْبِيُّ أَنَّ شَاعِرَهُمْ قَالَ فِي ذَلِكَ:
فَدَعَا هُودٌ عَلَيْهِمْ ... دَعْوَةً أَضْحَوْا هُمُودًا
عَصَفَتْ رِيحٌ عَلَيْهِمْ ... تَرَكَتْ عَادًا خُمُودًا
سُخِّرَتْ سَبْعَ لَيَالٍ ... لَمْ تَدَعْ فِي الْأَرْضِ
عُودًا
وَعَمَّرَ هُودٌ فِي قَوْمِهِ بَعْدِهِمْ مِائَةً وَخَمْسِينَ
سَنَةً." فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ" قَرَأَ
عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ" لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ"
بِالْيَاءِ غَيْرَ مُسَمِّي الْفَاعِلَ. وَكَذَلِكَ رَوَى
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ إِلَّا أَنَّهُ
قَرَأَ" تُرَى" بِالتَّاءِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي
بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ. الْبَاقُونَ" تَرَى" بِتَاءٍ
مَفْتُوحَةٍ." مَساكِنُهُمْ" بِالنَّصْبِ، أَيْ لَا تَرَى يَا
مُحَمَّدُ إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ
قَرَأَ بِالتَّاءِ غَيْرَ مُسَمِّي الْفَاعِلَ فَعَلَى لَفْظِ
الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ الْمَسَاكِنُ الْمُؤَنَّثَةُ، وَهُوَ
قَلِيلٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَقَالَ أَبُو
حَاتِمٍ: لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا فِي اللُّغَةِ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ فِيهَا إِضْمَارٌ، كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ أَلَا
تُرَى النِّسَاءُ إِلَّا زَيْنَبُ. وَلَا يَجُوزُ لَا تُرَى
إِلَّا زَيْنَبُ.
__________
(1). الصبا (بالفتح): ريح الشمال. والدبور: ريح الجنوب.
(2). في نهاية ابن الأثير واللسان مادة (رمد) وتاريخ الطبري:"
خذها رمادا رمددا، لا تذر من عاد أحدا" والرمد (بالكسر):
المتناهي في الاحتراق والدقة. [ ..... ]
(16/207)
وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا
لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ
مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: مَعْنَاهُ لَا تَرَى
أَشْخَاصُهُمْ إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ. وَاخْتَارَ أَبُو
عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةَ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ. قَالَ
الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يُرَى شَيْءٌ إِلَّا
مَسَاكِنُهُمْ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا
تَقُولُ: مَا قَامَ إِلَّا هِنْدٌ، وَالْمَعْنَى مَا قَامَ
أَحَدٌ إِلَّا هِنْدٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يُرَى
النَّاسُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ الرَّمْلِ، وَإِنَّمَا
تُرَى مَسَاكِنُهُمْ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ." كَذلِكَ نَجْزِي
الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ" أَيْ مِثْلَ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ
نُعَاقِبُ بها المشركين.
[سورة الأحقاف (46): آية 26]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ
وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما
أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا
أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ
اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ
مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ" قِيلَ: إِنْ" إِنْ" زَائِدَةٌ،
تَقْدِيرُهُ وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ.
وَهَذَا قَوْلُ الْقُتَبِيِّ. وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ:
يُرَجِّي الْمَرْءُ مَا إِنْ لَا يَرَاهُ ... وتعرض دون أدناه
الخطوب
وقال آخر:
فَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنَ وَلَكِنْ ... مَنَايَانَا
وَدَوْلَةُ آخرينا «1»
وقيل: إن" ما" بمعنى الذي. و" إن" بِمَعْنَى مَا،
وَالتَّقْدِيرُ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الَّذِي مَا
مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَقِيلَ:
شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهَا مُضْمَرٌ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي مَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ
كَانَ بَغْيُكُمْ أَكْثَرَ وَعِنَادُكُمْ أَشَدَّ، وَتَمَّ
الْكَلَامُ. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ:" وَجَعَلْنا لَهُمْ
سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً" يَعْنِي قُلُوبًا
يَفْقَهُونَ بِهَا." فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا
أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ" مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ." إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ" يَكْفُرُونَ" بِآياتِ
اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ" أَحَاطَ بِهِمْ." مَا كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ".
__________
(1). البيت لفروة بن مسيك المرادي. والطب: الشأن والعادة
والشهوة والإرادة.
(16/208)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
[سورة الأحقاف (46): آية 27]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا
الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ
الْقُرى " يُرِيدُ حِجْرَ ثَمُودَ وَقُرَى لُوطٍ وَنَحْوَهُمَا
مِمَّا كَانَ يُجَاوِرُ بِلَادَ الْحِجَازِ، وَكَانَتْ
أَخْبَارُهُمْ مُتَوَاتِرَةً عِنْدَهُمْ." وَصَرَّفْنَا
الْآياتِ" يَعْنِي الْحُجَجَ وَالدَّلَالَاتِ وَأَنْوَاعَ
الْبَيِّنَاتِ وَالْعِظَاتِ، أَيْ بَيَّنَّاهَا لِأَهْلِ
تِلْكَ الْقُرَى." لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" فَلَمْ
يَرْجِعُوا. وَقِيلَ: أَيْ صَرَّفْنَا آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي
الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْقَصَصِ وَالْإِعْجَازِ لَعَلَّ
هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يرجعون.
[سورة الأحقاف (46): آية 28]
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ
وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)
قوله تعالى:" فَلَوْلا نَصَرَهُمُ"" فَلَوْلا" بِمَعْنَى
هَلَّا، أَيْ هَلَّا نَصَرَهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي
تَقَرَّبُوا بِهَا بِزَعْمِهِمْ إِلَى اللَّهِ لِتَشْفَعَ
لَهُمْ حيث قالوا:" هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ" «1»
[يونس: 18] وَمَنَعَتْهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ الْوَاقِعِ بِهِمْ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْقُرْبَانُ كُلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ طَاعَةٍ وَنَسِيكَةٍ، وَالْجَمْعُ
قَرَابِينَ، كَالرُّهْبَانِ وَالرَّهَابِينَ. وَأَحَدُ
مَفْعُولَيِ اتَّخَذَ الرَّاجِعُ «2» إِلَى الَّذِينَ المحذوف،
والثاني" آلِهَةً". و" قُرْباناً" حَالٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ
يَكُونَ" قُرْباناً" مَفْعُولًا ثانيا. و" آلِهَةً" بدل منه
لفساد المعنى، قاله الزمخشري. وقرى" قُرُبَانًا" بِضَمِّ
الرَّاءِ." بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ" أَيْ هَلَكُوا عَنْهُمْ.
وَقِيلَ:" بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ" أَيْ ضَلَّتْ عَنْهُمْ
آلِهَتُهُمْ لِأَنَّهَا لَمْ يُصِبْهَا مَا أَصَابَهُمْ، إِذْ
هِيَ جَمَادٌ. وَقِيلَ: ضَلُّوا عَنْهُمْ، أَيْ تَرَكُوا
الْأَصْنَامَ وَتَبَرَّءُوا مِنْهَا." وَذلِكَ إِفْكُهُمْ"
أَيْ وَالْآلِهَةُ الَّتِي ضَلَّتْ عَنْهُمْ هِيَ إِفْكُهُمْ
فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" إِفْكُهُمْ" بِكَسْرِ
الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، أَيْ كَذِبُهُمْ.
وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ، وَكَذَلِكَ الْأَفِيكَةُ، وَالْجَمْعُ
الْأَفَائِكُ. وَرَجُلٌ أَفَّاكٌ أَيْ كَذَّابٌ. وَقَرَأَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ الزُّبَيْرِ" وَذَلِكَ
أَفَكَهُمْ" بِفَتْحِ الهمزة
__________
(1). آية 18 سورة يونس.
(2). الضمير الراجع.
(16/209)
وَإِذْ صَرَفْنَا
إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ
فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ
وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
وَالْفَاءِ وَالْكَافِ، عَلَى الْفِعْلِ،
أَيْ ذَلِكَ الْقَوْلُ صَرَفَهُمْ عَنِ التَّوْحِيدِ.
وَالْأَفْكُ" بِالْفَتْحِ" مَصْدَرُ قَوْلِكَ: أَفَكَهُ
يَأْفِكُهُ أَفْكًا، أَيْ قَلَبَهُ وَصَرَفَهُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ" أَفَّكَهُمْ" بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ عَلَى
التَّأْكِيدِ وَالتَّكْثِيرِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يَعْنِي
قَلَبَهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ. وَذَكَرَ
الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا" آفِكَهُمْ"
بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْفَاءِ، بِمَعْنَى صَارِفَهُمْ. وَعَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ"
آفَكَهُمْ" بِالْمَدِّ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلَهُمْ،
أَيْ أَصَارَهُمْ إِلَى الْإِفْكِ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ
فَاعَلَهُمْ كَخَادَعَهُمْ. وَدَلِيلُ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ"
إِفْكُهُمْ" قَوْلُهُ" وَما كانُوا يَفْتَرُونَ" أَيْ
يَكْذِبُونَ. وَقِيلَ" إِفْكُهُمْ" مِثْلُ" أَفَكَهُمْ".
الْإِفْكُ وَالْأَفَكُ كَالْحِذْرِ والحذر، قاله المهدوي.
[سورة الأحقاف (46): آية 29]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا
قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِّ" هَذَا تَوْبِيخٌ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، أَيْ إِنَّ
الْجِنَّ سَمِعُوا الْقُرْآنَ فَآمَنُوا بِهِ وَعَلِمُوا
أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ. وَمَعْنَى" صَرَفْنا" وَجَّهْنَا
إِلَيْكَ وَبَعَثْنَا. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ صُرِفُوا عَنِ
اسْتِرَاقِ السَّمْعِ مِنَ السَّمَاءِ بِرُجُومِ الشُّهُبِ-
عَلَى مَا يَأْتِي- وَلَمْ يَكُونُوا بَعْدَ عِيسَى قَدْ
صُرِفُوا عَنْهُ إِلَّا عِنْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ:
لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ إِلَى الطَّائِفِ يَلْتَمِسُ مِنْ
ثَقِيفٍ النُّصْرَةَ فَقَصَدَ عَبْدَ يَالِيلَ وَمَسْعُودًا
وَحَبِيبًا وَهُمْ إِخْوَةٌ- بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ-
وَعِنْدَهُمُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ،
فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَسَأَلَهُمْ أَنْ يَنْصُرُوهُ
عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ يَمْرُطُ «1» ثِيَابَ
الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ! وَقَالَ الْآخَرُ:
مَا وَجَدَ اللَّهُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرُكَ! وَقَالَ
الثَّالِثُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً أَبَدًا، إِنْ
كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ كَمَا تَقُولُ فَأَنْتَ أَعْظَمُ
خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ الْكَلَامَ، وَإِنْ كُنْتَ
تَكْذِبُ فَمَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ. ثُمَّ أغروا
به سفهاءهم
__________
(1). يمرط: ينزع.
(16/210)
وَعَبِيدَهُمْ يَسُبُّونَهُ وَيَضْحَكُونَ
بِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَأَلْجَئُوهُ إِلَى
حَائِطٍ لِعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ. فَقَالَ
لِلْجُمَحِيَّةِ:] مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِكِ [؟ ثُمَّ
قَالَ:] اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي
وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ
رَبِّي، لِمَنْ تَكِلُنِي! إِلَى عَبْدٍ»
يَتَجَهَّمُنِي «2»، أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي!
إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي،
وَلَكِنْ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوَذُ بِنُورِ
وَجْهِكَ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أَوْ يَحِلَّ
عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ [. فَرَحِمَهُ ابْنَا
رَبِيعَةَ وَقَالَا لِغُلَامٍ لَهُمَا نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ
لَهُ عَدَّاسٌ: خُذْ قِطْفًا مِنَ الْعِنَبِ وَضَعْهُ فِي
هَذَا الطَّبَقِ ثُمَّ ضَعْهُ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الرَّجُلِ،
فَلَمَّا وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِاسْمِ اللَّهِ) ثُمَّ أَكَلَ، فَنَظَرَ
عَدَّاسٌ إِلَى وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا
الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ! فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَنْ أَيِّ
الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ وَمَا دِينُكَ [؟ قَالَ: أَنَا
نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أَمِنْ قَرْيَةِ
الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسِ بْنِ مَتَّى [؟ فَقَالَ: وَمَا
يدريك ما يونس ابن مَتَّى؟ قَالَ:] ذَاكَ أَخِي كَانَ نَبِيًّا
وَأَنَا نَبِيٌّ [فَانْكَبَّ عَدَّاسٌ حَتَّى قَبَّلَ رَأْسَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدَيْهِ
وَرِجْلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ ابْنَا رَبِيعَةَ: لِمَ فَعَلْتَ
هَكَذَا!؟ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي مَا فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ
مِنْ هَذَا، أَخْبَرَنِي بِأَمْرٍ مَا يَعْلَمُهُ إِلَّا
نَبِيٌّ. ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، حَتَّى إِذَا
كَانَ بِبَطْنِ نَخْلَةٍ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي
فَمَرَّ بِهِ نَفَرٌ مِنْ جِنِّ أَهْلِ نَصِيبِينَ. وَكَانَ
سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ
السَّمْعَ، فَلَمَّا حُرِسَتِ السَّمَاءُ وَرُمُوا بِالشُّهُبِ
قَالَ إِبْلِيسُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي حَدَثَ فِي السَّمَاءِ
لَشَيْءٌ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ، فَبَعَثَ سَرَايَاهُ
لِيَعْرِفَ الْخَبَرَ، أَوَّلُهُمْ رَكْبُ نَصِيبِينَ وَهُمْ
أَشْرَافُ الْجِنِّ إِلَى تِهَامَةَ، فَلَمَّا بَلَغُوا بَطْنَ
نَخْلَةٍ سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِبَطْنِ نَخْلَةَ
وَيَتْلُو الْقُرْآنَ، فَاسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا:
أَنْصِتُوا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ أَمَرَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ ينذر
__________
(1). في سيرة ابن هشام:" بعيد".
(2). أي يلقاني بالغلظة والوجه الكريه.
(16/211)
الْجِنَّ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى وَيَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَصَرَفَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ
مِنْ نِينَوَى وَجَمَعَهُمْ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى الْجِنِّ اللَّيْلَةَ
فَأَيُّكُمْ يَتَّبِعُنِي [؟ فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ قَالَ
الثَّانِيَةَ فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ
فَأَطْرَقُوا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَهُ
أَحَدٌ غَيْرِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا
بِأَعْلَى مَكَّةَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْبًا يُقَالُ لَهُ (شِعْبُ
الْحَجُونِ) وَخَطَّ لِي خَطًّا وَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِسَ
فِيهِ وَقَالَ:] لَا تَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى أَعُودَ
إِلَيْكَ [. ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَامَ فَافْتَتَحَ
الْقُرْآنَ، فَجَعَلْتُ أَرَى أَمْثَالَ النُّسُورِ
تَهْوِي وَتَمْشِي فِي رَفْرَفِهَا، وسمعت لغطا وغمغة
حَتَّى خِفْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَغَشِيَتْهُ أَسْوِدَةٌ «1» كَثِيرَةٌ حَالَتْ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى مَا أَسْمَعُ صَوْتَهُ، ثُمَّ
طَفِقُوا يَتَقَطَّعُونَ مِثْلَ قِطَعِ السَّحَابِ
ذَاهِبِينَ، فَفَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ الْفَجْرِ فَقَالَ:] أَنِمْتَ [؟ قُلْتُ:
لَا وَاللَّهِ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ مِرَارًا أَنْ
أَسْتَغِيثَ بِالنَّاسِ حَتَّى سَمِعْتُكَ تَقْرَعُهُمْ
بِعَصَاكَ تَقُولُ اجْلِسُوا، فَقَالَ:] لَوْ خَرَجْتَ
لَمْ آمَنْ عَلَيْكَ أَنْ يَخْطَفَكَ بَعْضُهُمْ [ثُمَّ
قَالَ:] هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا [؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ رِجَالًا سُودًا مُسْتَثْفِرِي
«2» ثِيَابًا بِيضًا، فَقَالَ:] أُولَئِكَ جِنُّ
نَصِيبِينَ سَأَلُونِي الْمَتَاعَ وَالزَّادَ
فَمَتَّعْتُهُمْ بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ «3» وَرَوْثَةٍ
وَبَعْرَةٍ [. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَقْذَرُهَا
النَّاسُ عَلَيْنَا. فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ
وَالرَّوْثِ. قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِي
ذَلِكَ عَنْهُمْ! قَالَ:] إِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَظْمًا
إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ يَوْمَ أُكِلَ، وَلَا
رَوْثَةَ إِلَّا وَجَدُوا فِيهَا حَبَّهَا يَوْمَ أُكِلَ
[فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ سَمِعْتُ لَغَطًا
شَدِيدًا؟ فَقَالَ:] إِنَّ الْجِنَّ تَدَارَأَتْ «4» فِي
قَتِيلٍ بَيْنَهُمْ فَتَحَاكَمُوا إِلَيَّ فَقَضَيْتُ
بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [. ثُمَّ تَبَرَّزَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَانِي
فَقَالَ:] هَلْ مَعَكَ مَاءٌ [، فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ
اللَّهِ، مَعِي إِدَاوَةٌ «5» فِيهَا شَيْءٌ مِنْ نَبِيذِ
التَّمْرِ فَصَبَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضَّأَ
فَقَالَ:] تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ [. رَوَى
مَعْنَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ وَشُعْبَةَ أَيْضًا
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وليس
__________
(1). أسودة (جمع السواد) والسواد والاسودات والأساود:
جماعة الناس. وقيل هم الضروب المتفرقون.
(2). الاستثفار: أن يدخل الإنسان إزاره بين فخذيه ملويا ثم
يخرجه.
(3). العظم الحائل: المتغير، قد غيره البلى.
(4). تدارأ: اختلف.
(5). الإداوة: إناء صغير من جلد.
(16/212)
فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ ذِكْرُ نَبِيذِ
التَّمْرِ. رُوِيَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ
أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَبْصَرَ زُطًّا «1» فَقَالَ: مَا
هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الزُّطُّ. قَالَ: مَا
رَأَيْتُ شَبَهَهُمْ إِلَّا الْجِنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ
فَكَانُوا مُسْتَفِزِّينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ حَنَشٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَضَّأَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ
الْجِنِّ بِنَبِيذٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ وَقَالَ:] شَرَابٌ
وَطَهُورٌ [. ابْنُ لَهِيعَةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.
وَبِهَذَا السَّنَدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ خَرَجَ
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أَمَعَكَ مَاءٌ يَا بْنَ
مَسْعُودٍ [؟ فَقَالَ: مَعِي نَبِيذٌ فِي إِدَاوَةٍ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] صُبَّ عَلَيَّ مِنْهُ [. فَتَوَضَّأَ
وَقَالَ:] هُوَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ [تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ
لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. قَالَ
الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقِيلَ إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ
يَشْهَدْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ. كَذَلِكَ رَوَاهُ عَلْقَمَةُ
بْنُ قَيْسٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا شَهِدْتُ
لَيْلَةَ الْجِنِّ. حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ
صَاعِدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ حَدَّثَنَا بِشْرُ
بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ
عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ قُلْتُ
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَشَهِدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ لَيْلَةَ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ؟ قَالَ لَا.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَا
يُخْتَلَفُ فِي عَدَالَةِ رَاوِيهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ
مُرَّةَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: حَضَرَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ لَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْجِنُّ سَبْعَةَ نَفَرٍ
مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ فَجَعَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ.
وَقَالَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: كَانُوا تِسْعَةً أَحَدُهُمْ
زَوْبَعَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ
نِينَوَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مِنْ جَزِيرَةِ الْمَوْصِلِ. وَقِيلَ:
إِنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً، ثَلَاثَةٌ مِنْ أَهْلِ
نَجْرَانَ وَأَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ. وَرَوَى
ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَذَكَرَ
فِيهِ نَصِيبِينَ فَقَالَ:] رُفِعَتْ إِلَيَّ حَتَّى
رَأَيْتُهَا فَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُكْثِرَ مَطَرَهَا
وَيُنْضِرَ شَجَرَهَا وَأَنْ يَغْزُوَ نَهَرَهَا [.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَيُقَالُ كَانُوا سَبْعَةً،
وَكَانُوا يَهُودًا فَأَسْلَمُوا، وَلِذَلِكَ قَالُوا"
أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ". وَقِيلَ في أسمائهم: شاصر
«2» وماصر ومنشي
__________
(1). الزط: جيل أسود من السند. وقيل: إعراب" جت" بالهندية،
وهم جيل من أهل الهند.
(2). في كتاب اللغة:" شصار" ككتاب.
(16/213)
وَمَاشِي وَالْأَحْقَبُ، ذَكَرَ هَؤُلَاءِ
الْخَمْسَةَ ابْنُ دُرَيْدٍ. وَمِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ
جَابِرٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ سَلَّامٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ أَشْيَاخِهِ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودَ أَنَّهُ كَانَ فِي نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشُونَ
فَرُفِعَ لَهُمْ إِعْصَارٌ ثُمَّ جَاءَ إِعْصَارٌ أَعْظَمُ
مِنْهُ فَإِذَا حَيَّةُ قَتِيلٍ، فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنَّا
إِلَى رِدَائِهِ فَشَقَّهُ وَكَفَّنَ الْحَيَّةَ
بِبَعْضِهِ وَدَفَنَهَا، فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ إِذَا
امْرَأَتَانِ تَسْأَلَانِ: أَيُّكُمْ دَفَنَ عَمْرَو بْنَ
جَابِرٍ؟ فَقُلْنَا: مَا نَدْرِي مَنْ عَمْرُو بْنُ
جَابِرٍ! فَقَالَتَا: إِنْ كُنْتُمُ ابْتَغَيْتُمُ
الْأَجْرَ «1» فَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ، إِنَّ فَسَقَةَ
الْجِنِّ اقْتَتَلُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَقُتِلَ
عَمْرٌو، وَهُوَ الْحَيَّةُ الَّتِي رَأَيْتُمْ، وَهُوَ
مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ
وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. وَذَكَرَ ابْنُ
سَلَّامٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الَّذِي كَفَّنَهُ هُوَ
صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ. قُلْتُ: وَذَكَرَ هَذَا
الْخَبَرَ الثَّعْلَبِيُّ بِنَحْوِهِ فَقَالَ: وَقَالَ
ثَابِتُ بْنُ قُطْبَةَ جَاءَ أُنَاسٌ إِلَى ابْنِ
مَسْعُودٍ فَقَالُوا: إنا كنا في سقر فَرَأَيْنَا حَيَّةً
مُتَشَحِّطَةً فِي دِمَائِهَا، فَأَخَذَهَا رَجُلٌ مِنَّا
فَوَارَيْنَاهَا، فَجَاءَ أُنَاسٌ فَقَالُوا: أَيُّكُمْ
دَفَنَ عَمْرًا؟ قُلْنَا: وَمَا عَمْرٌو! قَالُوا
الْحَيَّةُ الَّتِي دَفَنْتُمْ فِي مَكَانِ كَذَا، أَمَا
إِنَّهُ كَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ سَمِعُوا
الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَكَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْجِنِّ
مُسْلِمِينَ وَكَافِرِينَ قِتَالٌ فَقُتِلَ. فَفِي هَذَا
الْخَبَرِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ فِي سَفَرٍ
وَلَا حَضَرَ الدَّفْنَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ
ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ رَجُلٍ مِنَ التَّابِعِينَ
سَمَّاهُ: أَنَّ حَيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي خِبَائِهِ
تَلْهَثُ عَطَشًا فَسَقَاهَا ثُمَّ أَنَّهَا مَاتَتْ
فَدَفَنَهَا، فَأُتِيَ مِنَ اللَّيْلِ فَسُلِّمَ عَلَيْهِ
وَشُكِرَ، وأخبر أن تلك الحية كانت رجلا عن جِنِّ
نَصِيبِينَ اسْمُهُ زَوْبَعَةُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ:
وَبَلَغَنَا في فضائل عمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ
طَاهِرٍ الْأَشْبِيلِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ كَانَ يَمْشِي بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، فَإِذَا
حَيَّةٌ مَيِّتَةٌ فَكَفَّنَهَا بِفَضْلَةٍ مِنْ رِدَائِهِ
وَدَفَنَهَا، فَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ: يَا سُرَّقُ،
أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:] سَتَمُوتُ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ
فَيُكَفِّنُكَ رَجُلٌ صَالِحٌ [. فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتَ
يَرْحَمُكَ اللَّهُ! فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ
الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَبْقَ مِنْهُمْ
إِلَّا أَنَا وَسُرَّقٌ، وَهَذَا سُرَّقٌ قد مات. وقد قتلت
__________
(1). كلمة الأجر ساقطة من ل. [ ..... ]
(16/214)
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَيَّةً
رَأَتْهَا فِي حُجْرَتِهَا تَسْتَمِعُ وَعَائِشَةُ
تَقْرَأُ، فَأُتِيَتْ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهَا:
إِنَّكَ قَتَلْتِ رَجُلًا مُؤْمِنًا مِنَ الْجِنِّ
الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا مَا
دَخَلَ عَلَى حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهَا: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ
إِلَّا وَأَنْتِ مُتَقَنِّعَةً «1»، وَمَا جَاءَ إِلَّا
لِيَسْتَمِعَ الذِّكْرَ. فَأَصْبَحَتْ عَائِشَةُ فَزِعَةً،
وَاشْتَرَتْ رِقَابًا فَأَعْتَقَتْهُمْ. قَالَ
السُّهَيْلِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَسْمَاءٍ
هَؤُلَاءِ الْجِنِّ مَا حَضَرَنَا، فَإِنْ كَانُوا
سَبْعَةً فَالْأَحْقَبُ مِنْهُمْ وَصْفٌ لِأَحَدِهِمْ،
وَلَيْسَ بِاسْمِ عَلَمٍ، فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي
ذَكَرْنَاهَا آنِفًا ثَمَانِيَةٌ بِالْأَحْقَبِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ: هَامَّةَ بْنَ الْهَيْمِ «2»
بْنِ الْأَقْيَسِ بْنِ إِبْلِيسَ، قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ
مُؤْمِنِي الْجِنِّ وَمِمَّنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمه سورة" إِذا وَقَعَتِ
الْواقِعَةُ" [الواقعة: 1] و" الْمُرْسَلاتِ" [المرسلات:
1] و" عَمَّ يَتَساءَلُونَ" [النبأ: 1] و" إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ" [التكوير: 1] و" الْحَمْدُ" [الفاتحة: 1] و"
المعوذتين" [الفلق: 1 - والناس: 1]. وَذُكِرَ أَنَّهُ
حَضَرَ قَتْلَ هَابِيلَ وَشَرِكَ فِي دَمِهِ وَهُوَ
غُلَامٌ ابْنُ أَعْوَامٍ، وَأَنَّهُ لَقِيَ نُوحًا وَتَابَ
عَلَى يَدَيْهِ، وَهُودًا وَصَالِحًا وَيَعْقُوبَ
وَيُوسُفَ وَإِلْيَاسَ وَمُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَعِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَدْ ذَكَرَ
الْمَاوَرْدِيُّ أَسْمَاءَهُمْ عَنْ مُجَاهِدٍ فَقَالَ:
حَسَّى وَمَسَّى وَمُنَشَّى وَشَاصِرٌ وَمَاصِرٌ
وَالْأَرَدُ وَأَنِيَّانُ وَالْأَحْقَمُ. وَذَكَرَهَا
أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ السَّمَّاكِ قَالَ: حدثنا محمد ابن الْبَرَاءِ
قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: كَانَ
حَمْزَةُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍّ يُسَمِّي جِنَّ
نَصِيبِينَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: حَسَّى ومسي
وشاصر وماصر والأفخر والأرد وإنيان «3». قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَلَمَّا حَضَرُوهُ" أَيْ حَضَرُوا النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ
تَلْوِينِ الْخِطَابِ. وَقِيلَ: لَمَّا حَضَرُوا
الْقُرْآنَ وَاسْتِمَاعَهُ." قالُوا أَنْصِتُوا" أَيْ
قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اسْكُتُوا لِاسْتِمَاعِ
الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَبَطُوا عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). فِي ز ل: منقبة.
(2). في بعض الأصول:" الأهيم".
(3). لم نوفق لتحقيق هذه الأسماء. والأصول والمصادر التي
بين أيدينا مضطربة فيها.
(16/215)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا
إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا
دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ
نَخْلَةَ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ" قالُوا أَنْصِتُوا" قَالُوا
صَهٍ. وَكَانُوا سَبْعَةً: أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ
نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا
حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا" الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:"
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" [الأحقاف: 32]. وَقِيلَ:" أَنْصِتُوا"
لِسَمَاعِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ." فَلَمَّا قُضِيَ"
وَقَرَأَ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ وَخُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ" فَلَمَّا قُضِيَ" بِفَتْحِ
الْقَافِ وَالضَّادِ، يَعْنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الصَّلَاةِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
خَرَجُوا حِينَ حُرِسَتِ السَّمَاءُ مِنَ اسْتِرَاقِ
السَّمْعِ لِيَسْتَخْبِرُوا مَا أَوْجَبَ ذَلِكَ؟
فَجَاءُوا وَادِي نَخْلَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ،
وَكَانُوا سَبْعَةً، فَسَمِعُوهُ وَانْصَرَفُوا إِلَى
قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ:
بَلْ أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يُنْذِرَ الْجِنَّ وَيَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ،
فَصَرَفَ اللَّهُ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ
لِيَسْتَمِعُوا مِنْهُ وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، فَلَمَّا
تَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَفَرَغَ انْصَرَفُوا
بِأَمْرِهِ قَاصِدِينَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ
مِنَ الْجِنِّ، مُنْذِرِينَ لَهُمْ مُخَالَفَةَ الْقُرْآنِ
وَمُحَذِّرِينَ إِيَّاهُمْ بَأْسَ اللَّهِ إِنْ لَمْ
يُؤْمِنُوا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَنَّهُ أَرْسَلَهُمْ. وَيَدُلُّ عَلَى هذا قولهم:" يَا
قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ"
[الأحقاف: 31] وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَنْذَرُوا
قَوْمَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُمْ
رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَعَلَى هَذَا لَيْلَةُ
الْجِنِّ لَيْلَتَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى
مُسْتَوْفًى. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا يَدُلُّ عَلَى
ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" قُلْ أُوحِيَ
إِلَيَّ" «1» [الجن: 1]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
مَعْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَأَلْتُ مَسْرُوقًا
مَنْ آذَنَ «2» النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟
فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ- يَعْنِي ابْنُ مَسْعُودٍ-
أنه آذنته بهم شجرة.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 30 الى 31]
قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ
مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ
عَذابٍ أَلِيمٍ (31)
__________
(1). راجع ج 19 ص 1.
(2). آذن: أعلم.
(16/216)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالُوا يَا قَوْمَنا
إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى "
أَيِ الْقُرْآنَ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمُوسَى. قَالَ
عَطَاءٌ: كَانُوا يَهُودًا فَأَسْلَمُوا، وَلِذَلِكَ
قَالُوا:" أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ". وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ الْجِنَّ لَمْ تَكُنْ سَمِعَتْ بِأَمْرِ
عِيسَى، فَلِذَلِكَ قَالَتْ:" أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى
"." مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ" يَعْنِي ما قبله من
التوراة." يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ" دِينِ الْحَقِّ."
وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ" دِينُ اللَّهِ القويم." يا
قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ" يَعْنِي مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَى
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ مَا
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أُعْطِيَتْ خَمْسًا لَمْ
يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ
إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ
وَأَسْوَدَ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ
لِأَحَدٍ قَبْلِي وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَيِّبَةً
طَهُورًا وَمَسْجِدًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ
الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ
بَيْنَ يَدَيْ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَأُعْطِيَتُ الشَّفَاعَةَ
[. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ: الْجِنُّ
وَالْإِنْسُ. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ" وَبُعِثْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ
بِي النَّبِيُّونَ"." وَآمِنُوا بِهِ" أَيْ بِالدَّاعِي،
وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ:" بِهِ" أَيْ بِاللَّهِ، لِقَوْلِهِ:" يَغْفِرْ
لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ سَبْعُونَ رَجُلًا،
فَرَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَوَافَقُوهُ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَرَأَ
عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ.
مَسْأَلَةٌ- هَذِهِ الْآيُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ
كَالْإِنْسِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ
وَالْعِقَابِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لِمُؤْمِنِي
الْجِنِّ ثَوَابٌ غَيْرَ نَجَاتِهِمْ مِنَ النَّارِ،
يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَغْفِرْ لَكُمْ
مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ".
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: لَيْسَ ثَوَابُ
الْجِنِّ إِلَّا أَنْ يُجَارُوا مِنَ النَّارِ، ثُمَّ
يُقَالُ لَهُمْ: كُونُوا تُرَابًا مِثْلَ الْبَهَائِمِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمْ كما يعاقبون
(16/217)
وَمَنْ لَا يُجِبْ
دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
فِي الْإِسَاءَةِ يُجَازَوْنَ فِي
الْإِحْسَانِ مِثْلُ الْإِنْسِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَدْ قَالَ
الضَّحَّاكُ: الْجِنُّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ
بِشَيْءٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. قُلْتُ: قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا" «1»
[الانعام: 132] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُثَابُونَ
وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، لِأَنَّهُ قال في أول
الآية:"امَعْشَرَ
«2» ْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي- إِلَى أَنْ قَالَ-
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا" [الانعام: 132 -
130]. وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا فِي
سُورَةِ" الرَّحْمَنِ" «3» مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
[سورة الأحقاف (46): آية 32]
وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي
الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ
فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ" أَيْ لَا يَفُوتُ
اللَّهَ وَلَا يَسْبِقُهُ" وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءُ" أَيْ أَنْصَارٌ يَمْنَعُونَهُ مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ." أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ".
[سورة الأحقاف (46): آية 33]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" الرُّؤْيَةُ
هُنَا بِمَعْنَى العلم. و" أَنَّ" وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا
سَدَّتْ مَسَدَّ مَفْعُولَيِ الرُّؤْيَةِ." وَلَمْ يَعْيَ
بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى "
احتجاج على منكري البعث. وَمَعْنَى" لَمْ يَعْيَ" يَعْجَزُ
وَيَضْعُفُ عَنْ إِبْدَاعِهِنَّ. يُقَالُ: عَيَّ
بِأَمْرِهِ وَعَيِيَ إِذَا لَمْ يَهْتَدِ لِوَجْهِهِ،
وَالْإِدْغَامُ أَكْثَرُ. وَتَقُولُ فِي الْجَمْعِ عَيُوا،
مخففا، وعيوا أيضا بالتشديد. قال:
__________
(1). آية 132 سورة الانعام.
(2). آية 130 سورة الانعام.
(3). راجع ج 17 ص 167.
(16/218)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا
بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
عَيُّوا بِأَمْرِهِمْ كَمَا ... عَيَّتْ
بِبَيْضَتِهَا الْحَمَامَةُ «1»
وَعَيِيتُ بِأَمْرِي إِذَا لَمْ تَهْتَدِ لِوَجْهِهِ.
وَأَعْيَانِي هُوَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" وَلَمْ يَعِي"
بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَهُوَ قَلِيلٌ
شَاذٌّ، لَمْ يَأْتِ إِعْلَالُ الْعَيْنِ وَتَصْحِيحُ
اللَّامِ إِلَّا فِي أَسْمَاءٍ قَلِيلَةٍ، نَحْوُ غَايَةٍ
وَآيَةٍ. وَلَمْ يَأْتِ فِي الْفِعْلِ سِوَى بَيْتٍ
أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَكَأَنَّهَا بَيْنَ النِّسَاءِ سَبِيكَةٌ ... تَمْشِي
بِسُدَّةِ «2» بَيْتِهَا فَتُعِيُّ
" بِقادِرٍ" قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ:
الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ كَالْبَاءِ فِي
قَوْلِهِ:" وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً" «3» [النساء: 166]،
وقوله:" تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ" «4» [المؤمنون: 20].
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ:
الْبَاءُ فِيهِ خَلَفَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْجَحْدِ فِي
أَوَّلِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْعَرَبُ
تُدْخِلُهَا مَعَ الْجَحْدِ تَقُولُ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ
زَيْدًا بِقَائِمٍ. وَلَا تَقُولُ: ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا
بِقَائِمٍ. وَهُوَ لِدُخُولِ" مَا" وَدُخُولِ" أَنَّ"
لِلتَّوْكِيدِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَلَيْسَ اللَّهُ
بِقَادِرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ" «5» [يس: 81].
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْرَجُ وَالْجَحْدَرِيُّ
وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ" يَقْدِرُ"
وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ، لِأَنَّ دُخُولَ الْبَاءِ فِي
خَبَرِ" أَنَّ" قَبِيحٌ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ
قِرَاءَةَ الْعَامَّةِ، لِأَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عبد
الله" خلق السموات والأرض قادر" بغير باء. والله أعلم.
[سورة الأحقاف (46): آية 34]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ
أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ
فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَلَى النَّارِ" أَيْ ذَكِّرْهُمْ يَوْمَ يُعْرَضُونَ
فَيُقَالُ لَهُمْ:" أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى
وَرَبِّنا" فَيَقُولُ لَهُمُ الْمُقَرَّرُ:" فَذُوقُوا
الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" أي بكفركم.
__________
(1). البيت لعبيد بن الأبرص.
(2). السدة: الفناء.
(3). راجع ج 5 ص 287.
(4). آية 20 سورة المؤمنون.
(5). آية 81 سورة يس.
(16/219)
فَاصْبِرْ كَمَا
صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا
تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا
يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ
بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ
(35)
[سورة الأحقاف (46): آية 35]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ
وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا
يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ
بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ
(35)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا
الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَوُو
الْحَزْمِ وَالصَّبْرِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ خَمْسَةٌ:
نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ
عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهُمْ أَصْحَابُ
الشَّرَائِعِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِنَّ أُولِي
الْعَزْمِ: نُوحٌ، وَهُودٌ، وَإِبْرَاهِيمُ. فَأَمَرَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ رَابِعَهُمْ. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: هُمْ سِتَّةٌ «1»: إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى،
وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ،
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقِيلَ:
نُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبُ، وَلُوطٌ،
وَمُوسَى، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ عَلَى النَّسَقِ فِي
سورة" الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ". وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ مُدَّةً.
وَإِبْرَاهِيمُ صَبَرَ عَلَى النَّارِ. وَإِسْحَاقُ صَبَرَ
عَلَى الذَّبْحِ. وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى فَقْدِ
الْوَلَدِ وَذَهَابِ الْبَصَرِ. وَيُوسُفُ صَبَرَ عَلَى
الْبِئْرِ وَالسِّجْنِ. وَأَيُّوبُ صَبَرَ عَلَى الضُّرِّ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّ مِنْهُمْ إِسْمَاعِيلَ
وَيَعْقُوبَ وَأَيُّوبَ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ يُونُسُ وَلَا
سُلَيْمَانُ وَلَا آدَمُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ
وَالْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُمُ الَّذِينَ
أُمِرُوا بِالْقِتَالِ فَأَظْهَرُوا الْمُكَاشَفَةَ
وَجَاهَدُوا الْكَفَرَةَ. وَقِيلَ: هُمْ نُجَبَاءُ
الرُّسُلُ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ" الْأَنْعَامِ" «2»
وَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ: إِبْرَاهِيمُ، وَإِسْحَاقُ،
وَيَعْقُوبُ، وَنُوحٌ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ،
وَأَيُّوبُ، وَيُوسُفُ، وَمُوسَى، وَهَارُونُ،
وَزَكَرِيَّاءُ، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَإِلْيَاسُ،
وَإِسْمَاعِيلُ، وَالْيَسَعُ، وَيُونُسُ، وَلُوطٌ.
وَاخْتَارَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ لِقَوْلِهِ فِي
عَقِبِهِ:" أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ
اقْتَدِهْ" «3» [الانعام: 90] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
أَيْضًا: كُلُّ الرُّسُلِ كَانُوا أُولِي عَزْمٍ.
وَاخْتَارَهُ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ، قَالَ:
وَإِنَّمَا دَخَلَتْ" مِنْ" لِلتَّجْنِيسِ لَا
لِلتَّبْعِيضِ، كَمَا تَقُولُ: اشْتَرَيْتُ أَرْدِيَةً
مِنَ الْبَزِّ وَأَكْسِيَةً مِنَ الْخَزِّ. أَيِ اصْبِرْ
كَمَا صَبَرَ الرُّسُلُ. وَقِيلَ: كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ
أُولُو عَزْمٍ إِلَّا يُونُسَ بن متي، ألا ترى أن
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ب ل ن. [ ..... ]
(2). راجع ج 7 ص 35.
(3). آية 90 سورة الانعام.
(16/220)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، لِخِفَّةٍ
وَعَجَلَةٍ ظَهَرَتْ مِنْهُ حِينَ وَلَّى مُغَاضِبًا
لِقَوْمِهِ، فَابْتَلَاهُ اللَّهُ بِثَلَاثٍ: سَلَّطَ
عَلَيْهِ الْعَمَالِقَةَ حَتَّى أَغَارُوا عَلَى أَهْلِهِ
وَمَالِهِ، وَسَلَّطَ الذِّئْبَ عَلَى وَلَدِهِ
فَأَكَلَهُ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ الحوت فابتلعه، قاله أَبُو
الْقَاسِمِ الْحَكِيمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
أُولُو الْعَزْمِ اثْنَا عَشَرَ نَبِيًّا أُرْسِلُوا إِلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالشَّامِ فَعَصَوْهُمْ، فَأَوْحَى
اللَّهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنِّي مُرْسِلٌ عَذَابِي
إِلَى عُصَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمُ اخْتَارُوا
لِأَنْفُسِكُمْ، إِنْ شِئْتُمْ أَنْزَلْتُ بِكُمُ
الْعَذَابَ وَأَنْجَيْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنْ
شِئْتُمْ نَجَّيْتُكُمْ وَأَنْزَلْتُ الْعَذَابَ بِبَنِي
إِسْرَائِيلَ، فَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ فَاجْتَمَعَ
رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابَ
وَيُنَجِّيَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَنْجَى
اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْزَلَ بِأُولَئِكَ
الْعَذَابَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مُلُوكَ
الْأَرْضِ، فَمِنْهُمْ مَنْ نُشِرَ بِالْمَنَاشِيرِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ سُلِخَ جِلْدَةُ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ صُلِبَ عَلَى الْخَشَبِ حَتَّى مَاتَ،
وَمِنْهُمْ مَنْ حُرِّقَ بِالنَّارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: أُولُو الْعَزْمِ أَرْبَعَةٌ:
إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَدَاوُدُ، وَعِيسَى، فَأَمَّا
إِبْرَاهِيمُ فَقِيلَ لَهُ:" أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ
لِرَبِّ الْعالَمِينَ" «1» [البقرة: 131] ثُمَّ ابْتُلِيَ
فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَوَطَنِهِ وَنَفْسِهِ، فَوُجِدَ
صَادِقًا وَافِيًا فِي جَمِيعِ مَا ابْتُلِيَ بِهِ.
وَأَمَّا مُوسَى فَعَزْمُهُ حِينَ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ:"
إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي
سَيَهْدِينِ" «2» [الشعراء: 62 - 61]. وَأَمَّا دَاوُدُ
فَأَخْطَأَ خَطِيئَتَهُ فَنُبِّهَ عَلَيْهَا، فَأَقَامَ
يَبْكِي أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى نَبَتَتْ مِنْ
دُمُوعِهِ شَجَرَةٌ، فَقَعَدَ تَحْتَ ظِلِّهَا. وَأَمَّا
عِيسَى فَعَزْمُهُ أَنَّهُ لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى
لَبِنَةٍ وَقَالَ:" إِنَّهَا مَعْبَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا
وَلَا تُعَمِّرُوهَا". فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ
لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْبِرْ،
أَيْ كُنْ صَادِقًا فِيمَا ابْتُلِيَتَ بِهِ مِثْلُ صِدْقِ
إِبْرَاهِيمَ، وَاثِقًا بِنُصْرَةِ مَوْلَاكَ مِثْلُ
ثِقَةِ مُوسَى، مُهْتَمًّا بِمَا سَلَفَ مِنْ هَفَوَاتِكَ
مِثْلُ اهْتِمَامِ دَاوُدَ، زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا
مِثْلُ زُهْدِ عِيسَى. ثُمَّ قِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ
بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: مُحْكَمَةٌ، وَالْأَظْهَرُ
أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ.
وَذَكَرَ مُقَاتِلٌ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
أُحُدٍ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصْبِرَ
عَلَى مَا أَصَابَهُ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ
الرُّسُلِ، تَسْهِيلًا عَلَيْهِ وَتَثْبِيتًا له. والله
أعلم." وَلا تَسْتَعْجِلْ" قال مقاتل: بالدعاء
__________
(1). آية 131 سورة البقرة.
(2). آية 61 سورة الشعراء.
(16/221)
عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: فِي إِحْلَالِ
الْعَذَابِ «1» بِهِمْ، فَإِنَّ أَبْعَدَ غَايَاتِهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَفْعُولُ الِاسْتِعْجَالِ
مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الْعَذَابُ." كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ" قَالَ يَحْيَى: مِنَ الْعَذَابِ.
النَّقَّاشُ: مِنَ الْآخِرَةِ." لَمْ يَلْبَثُوا" أَيْ فِي
الدُّنْيَا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعَذَابُ، وَهُوَ مُقْتَضَى
قَوْلِ يَحْيَى. وَقَالَ النَّقَّاشُ: فِي قُبُورِهِمْ
حَتَّى بُعِثُوا لِلْحِسَابِ." إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ"
يَعْنِي فِي جَنْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ:
نَسَّاهُمْ هَوْلَ مَا عَايَنُوا مِنَ الْعَذَابِ طول
لبثهم في الدنيا. ثم قال:" بَلاغٌ" أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ
بَلَاغٌ، قَالَهُ الْحَسَنُ. ف" بَلاغٌ" رُفِعَ عَلَى
إِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ، دَلِيلُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى:"
هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ" «2»
[إبراهيم: 52]، وَقَوْلُهُ:" إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً
لِقَوْمٍ عابِدِينَ" «3» [الأنبياء: 106]. وَالْبَلَاغُ
بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ. وَقِيلَ: أَيْ إِنَّ ذَلِكَ
اللُّبْثَ بَلَاغٌ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى، فَيُوقَفُ عَلَى
هَذَا عَلَى" بَلَاغٍ" وَعَلَى" نَهَارٍ". وَذَكَرَ أَبُو
حَاتِمٍ أَنَّ بَعْضَهُمْ وَقَفَ عَلَى" وَلا
تَسْتَعْجِلْ" ثُمَّ ابْتَدَأَ" لَهُمْ" عَلَى مَعْنَى
لَهُمْ بَلَاغٌ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا
خَطَأٌ، لِأَنَّكَ قَدْ فَصَلْتَ بَيْنَ الْبَلَاغِ
وَبَيْنَ اللَّامِ،- وَهِيَ رَافِعَةٌ- بِشَيْءٍ لَيْسَ
مِنْهُمَا. وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: بَلَاغًا
وَبَلَاغٌ، النَّصْبُ عَلَى مَعْنَى إِلَّا سَاعَةً
بَلَاغًا، عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى النَّعْتِ
لِلسَّاعَةِ. وَالْخَفْضُ عَلَى مَعْنَى مِنْ نَهَارٍ
بَلَاغٌ. وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ
وَالْحَسَنُ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ" بَلِّغْ"
عَلَى الْأَمْرِ، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ
الْوَقْفُ عَلَى" مِنْ نَهارٍ" ثُمَّ يَبْتَدِئُ"
بَلاغٌ"." فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ"
أَيِ الْخَارِجُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ" فَهَلْ
يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ" عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ
إِلَى الْقَوْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا عَسِرَ
عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَدُهَا تَكْتُبُ هَاتَيْنِ
الْآيَتَيْنِ وَالْكَلِمَتَيْنِ فِي صَحِيفَةٍ ثُمَّ
تُغَسَّلُ وَتُسْقَى مِنْهَا، وَهِيَ: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهُ
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ" كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ
يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً «4» أَوْ ضُحاها" [النازعات:
46]." كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ
يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ
يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ" صَدَقَ اللَّهُ
الْعَظِيمُ. وَعَنْ قتادة: لا يهلك الله»
إلا هالك مشرك «6». وَقِيلَ: هَذِهِ أَقْوَى آيَةٍ فِي
الرَّجَاءِ. وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1). في ب ك ل: العقاب.
(2). آخر سورة إبراهيم.
(3). آية 106 سورة الأنبياء.
(4). آخر سورة النازعات.
(5). لفظ الجلالة ساقط من ب ك ل.
(6). في تفسير الطبري:" تعلموا ما يهلك على الله الا هالك
ولي الإسلام ظهره، أو منافق صدق بلسانه وخالف بعمله".
(16/222)
الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
[تفسير سورة محمد]
سُورَةُ الْقِتَالِ، وَهِيَ سُورَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:
فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ إِلَّا ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ
فَإِنَّهُمَا قَالَا: إِلَّا آيَةً مِنْهَا نَزَلَتْ
عَلَيْهِ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ خَرَجَ مِنْ
مَكَّةَ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ وَهُوَ
يَبْكِي حُزْنًا عَلَيْهِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ" وَكَأَيِّنْ
مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ" «1»
[محمد: 13]. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ،
وَحَكَاهُ ابْنُ هِبَةِ الله عن الضحاك وسعيد ابن
جُبَيْرٍ. وَهِيَ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً «2». وَقِيلَ
ثَمَانٍ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة محمد (47): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ
كَفَرُوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَصَدُّوا أَنْفُسَهُمْ
وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ
بِنَهْيِهِمْ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَقَالَهُ
السُّدِّيُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:" عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ"
عَنْ بَيْتِ اللَّهِ بِمَنْعِ قَاصِدِيهِ. وَمَعْنَى"
أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ" أَبْطَلَ كَيْدَهُمْ وَمَكْرَهُمْ
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ
الدَّائِرَةَ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ:
أَبْطَلَ مَا عَمِلُوهُ فِي كُفْرِهِمْ بِمَا كَانُوا
يُسَمُّونَهُ مَكَارِمَ، مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَفَكِّ
الْأُسَارَى وَقِرَى الْأَضْيَافِ وَحِفْظِ الْجِوَارِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ
بِبَدْرٍ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رجلا: أبو جهل، والحارث
ابن هِشَامٍ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ،
وَأُبَيٌّ وَأُمَيَّةُ ابْنَا خَلَفٍ، وَمُنَبِّهٌ
وَنُبَيْهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَأَبُو الْبُخْتَرِيِّ
بْنُ هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَحَكِيمُ
بْنُ حِزَامٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ.
[سورة محمد (47): آية 2]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا
بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ
بالَهُمْ (2)
__________
(1). آية 13
(2). من ب ل ن.
(16/223)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى
مُحَمَّدٍ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هُمُ
الْأَنْصَارُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّهَا نَزَلَتْ
خَاصَّةً فِي نَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: هُمَا عامتان
فيمن كفروا وَآمَنَ. وَمَعْنَى" أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ"
أَبْطَلَهَا. وَقِيلَ: أَضَلَّهُمْ عَنِ الْهُدَى بِمَا
صَرَفَهُمْ عَنْهُ مِنَ التَّوْفِيقِ." وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ" مَنْ قَالَ إِنَّهُمُ الْأَنْصَارُ فَهِيَ
الْمُوَاسَاةُ فِي مَسَاكِنِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَمَنْ
قَالَ إِنَّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ فَهِيَ الْهِجْرَةُ. وَمَنْ
قَالَ بِالْعُمُومِ فَالصَّالِحَاتُ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ
الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى." وَآمَنُوا بِما
نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ" لَمْ يُخَالِفُوهُ في شي، قَالَهُ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَقِيلَ: صَدَّقُوا مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ."
وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ" يُرِيدُ أَنَّ
إِيمَانَهُمْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: أَيْ
إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، نَسَخَ
بِهِ مَا قَبْلَهُ" كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ" أَيْ
مَا مَضَى مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ قَبْلَ الْإِيمَانِ."
وَأَصْلَحَ بالَهُمْ" أَيْ شَأْنَهُمْ، عَنْ مُجَاهِدٍ
وَغَيْرِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَالُهُمْ. ابْنُ
عَبَّاسٍ: أُمُورُهُمْ. وَالثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ
وَهِيَ مُتَأَوَّلَةٌ عَلَى إِصْلَاحِ مَا تَعَلَّقَ
بِدُنْيَاهُمْ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ الْمَعْنَى
أَصْلَحَ نِيَّاتِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَإِنْ تُقْبِلِي بِالْوُدِّ أُقْبِلْ بِمِثْلِهِ ...
وَإِنْ تُدْبِرِي أَذْهَبْ إِلَى حَالٍ بَالِيًا
وَهُوَ عَلَى هَذَا التَّأَوُّلِ مَحْمُولٌ عَلَى صَلَاحِ
دِينِهِمْ." وَالْبَالُ" كَالْمَصْدَرِ، وَلَا يُعْرَفُ
مِنْهُ فِعْلٌ، وَلَا تَجْمَعُهُ الْعَرَبُ إِلَّا فِي
ضَرُورَةِ الشِّعْرِ فَيَقُولُونَ فِيهِ: بَالَاتٌ.
الْمُبَرِّدُ: قَدْ يَكُونُ الْبَالُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ
بِمَعْنَى الْقَلْبِ، يُقَالُ: مَا يَخْطِرُ فُلَانٌ عَلَى
بَالِي، أَيْ عَلَى قَلْبِي. الْجَوْهَرِيُّ: وَالْبَالُ
رَخَاءُ النَّفْسِ، «1» يُقَالُ فُلَانٌ رَخِيُّ الْبَالِ.
وَالْبَالُ: الْحَالُ، يُقَالُ مَا بَالُكَ. وَقَوْلُهُمْ:
لَيْسَ هَذَا مِنْ بَالِي، أَيْ مِمَّا أُبَالِيهِ.
وَالْبَالُ: الْحُوتُ الْعَظِيمُ مِنْ حِيتَانِ الْبَحْرِ،
وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ. وَالْبَالَةُ: وِعَاءُ الطيب، فارسي
معرب، وأصله بالفارسية پيلة. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
كَأَنَّ عَلَيْهَا بَالَةً لَطَمِيَّةً ... لها من خلال
الدأيتين أريج «2»
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ك.
(2). اللطمية: العنبرة التي لطمت بالمسك فتفتقت به حتى
نشبت رائحتها. والداي: فقر الكاهل والظهر. [ ..... ]
(16/224)
ذَلِكَ بِأَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
[سورة محمد (47): آية 3]
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ
وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ
رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ
أَمْثالَهُمْ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ"" ذَلِكَ" فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ، أَوْ ذَلِكَ
الْإِضْلَالُ وَالْهُدَى الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمَا
سَبَبُهُ هَذَا. فَالْكَافِرُ اتَّبَعَ الْبَاطِلَ،
وَالْمُؤْمِنُ اتَّبَعَ الْحَقَّ. وَالْبَاطِلُ:
الشِّرْكُ. وَالْحَقُّ: التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ."
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ" أَيْ
كَهَذَا الْبَيَانِ الَّذِي بُيِّنَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لِلنَّاسِ أَمْرَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ.
وَالضَّمِيرُ فِي" أَمْثالَهُمْ" يَرْجِعُ إِلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا وَالَّذِينَ آمَنُوا.
[سورة محمد (47): آية 4]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ
حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ
لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ
بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ
يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ"
لَمَّا مَيَّزَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَمَرَ بِجِهَادِ
الْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكُفَّارُ
الْمُشْرِكُونَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ. وَقِيلَ: كُلُّ
مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ مُشْرِكٍ أَوْ
كِتَابِيٍّ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ عَهْدٍ وَلَا
ذِمَّةٍ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ
الْآيَةِ فِيهِ." فَضَرْبَ الرِّقابِ" مَصْدَرٌ. قَالَ
الزَّجَّاجُ أَيْ فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا. وَخَصَّ
الرِّقَابَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْقَتْلَ أَكْثَرُ مَا
يَكُونُ بِهَا. وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ. قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ كَقَوْلِكَ يَا نَفْسُ صَبْرًا.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ
(16/225)
اقْصِدُوا ضَرْبَ الرِّقَابِ. وَقَالَ:"
فَضَرْبَ الرِّقابِ" وَلَمْ يَقُلْ فَاقْتُلُوهُمْ،
لِأَنَّ فِي الْعِبَارَةِ بِضَرْبِ الرِّقَابِ مِنَ
الْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِ
الْقَتْلِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَصْوِيرِ الْقَتْلِ
بِأَشْنَعِ صُوَرِهِ، وَهُوَ حَزُّ الْعُنُقِ «1»
وَإِطَارَةِ الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْبَدَنِ
وَعُلُوُّهُ وَأَوْجَهُ أَعْضَائِهِ. الثَّانِيَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ" أَيْ
أَكْثَرْتُمُ الْقَتْلَ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْفَالِ"
عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى:" حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ"
«2» [الأنفال: 67]." فَشُدُّوا الْوَثاقَ" أَيْ إِذَا
أَسَرْتُمُوهُمْ. وَالْوَثَاقُ اسْمٌ مِنَ الْإِيثَاقِ،
وَقَدْ يَكُونُ مَصْدَرًا، يُقَالُ: أَوْثَقْتُهُ
إِيثَاقًا وَوَثَاقًا. وَأَمَّا الْوِثَاقُ (بِالْكَسْرِ)
فَهُوَ اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ
كَالرِّبَاطِ، قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: وَأَوْثَقَهُ فِي الْوَثَاقِ أَيْ
شَدَّهُ، وَقَالَ تَعَالَى:" فَشُدُّوا الْوَثاقَ".
وَالْوِثَاقُ (بِكَسْرِ الْوَاوِ) لُغَةٌ فِيهِ.
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِشَدِّ الْوَثَاقَ لِئَلَّا
يَفْلِتُوا." فَإِمَّا مَنًّا" عَلَيْهِمْ بِالْإِطْلَاقِ
مِنْ غَيْرِ فدية" وَإِمَّا فِداءً". ولم يذكر القتل ها
هنا اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَتْلِ فِي صَدْرِ
الكلام، و" مَنًّا" و" فِداءً" نصب بإضمار فعل. وقرى"
فَدًى" بِالْقَصْرِ مَعَ فَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ فَإِمَّا
أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ مَنًّا، وَإِمَّا أَنْ
تُفَادُوهُمْ فِدَاءً. رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ
قَالَ: كُنْتُ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِ الْحَجَّاجِ حِينَ
أُتِيَ بِالْأَسْرَى مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ الْأَشْعَثِ وَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ
وَثَمَانمِائَةٍ فَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ
آلَافٍ حَتَّى قُدِّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ
فَقَالَ: يَا حَجَّاجُ، لَا جَازَاكَ اللَّهُ عَنِ
السُّنَّةِ وَالْكَرَمِ خَيْرًا! قَالَ: وَلِمَ ذَلِكَ؟
قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ" فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً" فِي حَقِّ الَّذِينَ كَفَرُوا،
فَوَاللَّهِ! مَا مَنَنْتَ وَلَا فَدَيْتَ؟ وَقَدْ قَالَ
شَاعِرُكُمْ فِيمَا وَصَفَ بِهِ قَوْمَهُ مِنْ مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ:
وَلَا نَقْتُلُ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ ... إِذَا
أَثْقَلَ الْأَعْنَاقَ حِمْلُ الْمَغَارِمِ
فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أُفٌّ لِهَذِهِ الْجِيَفِ! أَمَا
كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ!؟
خَلُّوا سَبِيلَ مَنْ بَقِيَ. فَخُلِّيَ يَوْمئِذٍ عَنْ
بَقِيَّةِ الْأَسْرَى، وَهُمْ زُهَاءُ أَلْفَيْنِ،
بِقَوْلِ ذَلِكَ الرجل.
__________
(1). في ح ل: جز العنق بالجيم.
(2). راجع ج 8 ص 45 وما بعدها.
(16/226)
الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلِ- أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَهِيَ فِي أَهْلِ
الْأَوْثَانِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَادُوا وَلَا يُمَنُّ
عَلَيْهِمْ. وَالنَّاسِخُ لَهَا عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ
تعالى:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ" «1» [التوبة: 5] وَقَوْلُهُ:" فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
خَلْفَهُمْ" «2» [الأنفال: 57] وقوله:" وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً" «3» [التوبة: 36] الآية، قاله
قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ
وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ كَثِيرٌ
مِنَ الْكُوفِيِّينَ. وَقَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ
الْجَوْزِيُّ: كُتِبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فِي أَسِيرٍ
أُسِرَ، فَذَكَرُوا أَنَّهُمُ الْتَمَسُوهُ بِفِدَاءِ
كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، لَقَتْلُ رَجُلٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا.
الثَّانِي- أَنَّهَا فِي الْكُفَّارِ جَمِيعًا. وَهِيَ
مَنْسُوخَةٌ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ
وَأَهْلِ النَّظَرِ، مِنْهُمْ قتادة ومجاهد. قالوا: إذ
أُسِرَ الْمُشْرِكُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ،
وَلَا أَنْ يُفَادَى بِهِ فَيُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ،
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَادَى عِنْدَهُمْ إِلَّا
بِالْمَرْأَةِ، لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ. وَالنَّاسِخُ
لَهَا" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ" [التوبة: 5] إِذْ كَانَتْ بَرَاءَةٌ
آخِرُ مَا نَزَلَتْ بِالتَّوْقِيفِ، فَوَجَبَ أَنْ
يُقْتَلُ كُلُّ مُشْرِكٍ إِلَّا مَنْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ
عَلَى تَرْكِهِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَمَنْ
يُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ
مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، خِيفَةَ أَنْ يَعُودُوا حَرْبًا
لِلْمُسْلِمِينَ. ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِداءً" قَالَ نَسَخَهَا" فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
خَلْفَهُمْ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نسخها" فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" [التوبة: 5]. وهو
قول الحكم. الثالث- أنها ناسخة، قاله الضَّحَّاكُ
وَغَيْرُهُ. رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ
الضحاك" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ" [التوبة: 5] قَالَ نَسَخَهَا" فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً". وَقَالَ ابْنُ
الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ" فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً" فَلَا يُقْتَلُ
الْمُشْرِكُ وَلَكِنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ وَيُفَادَى، كَمَا
قال الله عز وجل. قال أَشْعَثُ: كَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُ
أَنْ يُقْتَلَ الْأَسِيرُ، وَيَتْلُو" فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً". وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: فِي
الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
فَضَرْبُ الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزَارَهَا. ثُمَّ قَالَ:" حَتَّى إِذا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ".
__________
(1). آية 5 سورة التوبة.
(2). آية 57 سورة الأنفال.
(3). آية 36 سورة التوبة.
(16/227)
وَزُعِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ إِذَا
حَصَلَ الْأَسِيرُ فِي يَدَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ،
لَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ: إِمَّا
أَنْ يَمُنَّ، أَوْ يُفَادِيَ، أَوْ يَسْتَرِقَّ.
الرَّابِعِ- قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَا يَكُونُ
فِدَاءٌ وَلَا أَسْرٌ إِلَّا بَعْدَ الْإِثْخَانِ
وَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا كانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ" «1» [الأنفال: 67]. فَإِذَا أُسِرَ بَعْدَ
ذَلِكَ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا رَآهُ مِنْ
قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ. الْخَامِسِ- أَنَّ الْآيَةَ
مُحْكَمَةٌ، وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ حَالٍ،
رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَقَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ ابْنُ
عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي
عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدِينَ فَعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ،
قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ
يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا، وَفَادَى سَائِرَ أُسَارَى بَدْرٍ،
وَمَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ الْحَنَفِيِّ وَهُوَ
أَسِيرٌ فِي يَدِهِ، وَأَخَذَ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ
الْأَكْوَعِ جَارِيَةً فَفَدَى بِهَا أُنَاسًا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَهَبَطَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَخَذَهُمُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ،
وَقَدْ مَنَّ عَلَى سَبْيِ هَوَازِنَ. وَهَذَا كُلُّهُ
ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ مَضَى جَمِيعُهُ فِي
(الْأَنْفَالِ) «2» وَغَيْرِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ مُحْكَمَتَانِ مَعْمُولٌ
بِهِمَا، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ النَّسْخَ
إِنَّمَا يَكُونُ لِشَيْءٍ قَاطِعٍ، فَإِذَا أَمْكَنَ
الْعَمَلُ بِالْآيَتَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ
بِالنَّسْخِ، إِذَا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ
التَّعَبُّدُ إِذَا لَقِينَا الَّذِينَ كَفَرُوا
قَتَلْنَاهُمْ، فَإِذَا كَانَ الْأَسْرُ جَازَ الْقَتْلُ
وَالِاسْتِرْقَاقُ وَالْمُفَادَاةُ وَالْمَنُّ، عَلَى مَا
فِيهِ الصَّلَاحُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الْقَوْلُ
يُرْوَى عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي
عُبَيْدٍ، وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ مَذْهَبًا عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ،
وَبِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ التَّوْفِيقُ. الرَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها"
قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ خُرُوجُ عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: أَنَّ
الْمَعْنَى حَتَّى لَا يَكُونَ دِينٌ إِلَّا دِينَ
الْإِسْلَامِ، فَيُسْلِمُ كُلُّ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ
وَصَاحِبِ مِلَّةٍ، وَتَأْمَنُ الشَّاةُ مِنَ الذِّئْبِ.
ونحوه
__________
(1). آية 67 سورة الأنفال.
(2). راجع ج 8 ص 45 وما بعدها.
(16/228)
عَنِ الْحَسَنِ وَالْكَلْبِيِّ
وَالْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ. قَالَ الْكِسَائِيُّ:
حَتَّى يُسْلِمَ الْخَلْقُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَتَّى
يُؤْمِنُوا وَيَذْهَبَ الْكُفْرُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
حَتَّى يَظْهَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: حَتَّى لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.
وَقِيلَ: مَعْنَى الْأَوْزَارِ السِّلَاحُ، فَالْمَعْنَى
شُدُّوا الْوَثَاقَ حَتَّى تَأْمَنُوا وَتَضَعُوا
السِّلَاحَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ،
أَيِ الْأَعْدَاءُ الْمُحَارَبُونَ أَوْزَارَهُمْ، وَهُوَ
سِلَاحُهُمْ بِالْهَزِيمَةِ أَوِ الْمُوَادَعَةِ.
وَيُقَالُ لِلْكُرَاعِ أَوْزَارٌ. قَالَ الْأَعْشَى:
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا ... رِمَاحًا
طِوَالًا وَخَيْلًا ذُكُورَا
وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ يُحْدَى بِهَا ... عَلَى أَثَرِ
الْحَيِّ عِيرًا فَعِيرَا «1»
وَقِيلَ:" حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها" أَيْ
أَثْقَالُهَا. وَالْوِزْرُ الثِّقَلُ، وَمِنْهُ وَزِيرُ
الْمَلِكِ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْأَثْقَالَ.
وَأَثْقَالُهَا السِّلَاحُ لِثِقَلِ حَمْلِهَا. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: فِي
الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، الْمَعْنَى فَضَرْبَ
الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَإِذَا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ، وَلَيْسَ
لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأَسِيرَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ
الْحَجَّاجِ أَنَّهُ دَفَعَ أَسِيرًا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ لِيَقْتُلَهُ فَأَبَى وَقَالَ: لَيْسَ بِهَذَا
أَمَرَنَا اللَّهُ، وَقَرَأَ" حَتَّى إِذَا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ". قُلْنَا: قَدْ
قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَفَعَلَهُ، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِ اللَّهِ
لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَقَدْ
بَيَّنَ اللَّهُ فِي الزِّنَى حُكْمَ الْجَلْدِ، وَبَيَّنَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَ
الرَّجْمِ، وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ
يَدِ الْحَجَّاجِ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَالَ، وَرَبُّكَ
أَعْلَمُ". قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ
اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ"" ذَلِكَ" فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ
الَّذِي ذَكَرْتُ وَبَيَّنْتُ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ
عَلَى مَعْنَى افْعَلُوا ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
مُبْتَدَأً، الْمَعْنَى ذَلِكَ حُكْمُ الْكُفَّارِ. وَهِيَ
كَلِمَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا الْفَصِيحُ عِنْدَ الْخُرُوجِ
مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تعالى:"
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ" «2» [ص: 55].
أَيْ هَذَا حَقٌّ وَأَنَا أُعَرِّفُكُمْ أَنَّ
لِلظَّالِمِينَ كَذَا. وَمَعْنَى" لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ"
أَيْ أَهْلَكَهُمْ بِغَيْرِ قتال. وقال
__________
(1). هذه رواية البيت في الأصول. وروايته في كتاب"
الاعشين":
وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ مَوْضُونَةٌ ... تُسَاقُ مَعَ
الْحَيِّ عيرا فعيرا
والموضونة: الدرع المنسوجة. وفي شعراء النصرانية:
... على أثر العيس ...
(2). آية 55 سورة ص.
(16/229)
سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)
ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَهْلَكَهُمْ بِجُنْدٍ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ." وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ
بِبَعْضٍ" أَيْ أَمَرَكُمْ بِالْحَرْبِ لِيَبْلُوَ
وَيَخْتَبِرَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ فَيَعْلَمُ
الْمُجَاهِدِينَ وَالصَّابِرِينَ، كَمَا فِي السُّورَةِ
نَفْسِهَا." وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
يريد قتلى أحد من المؤمنين" فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ"
قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" قَاتَلُوا" وَهِيَ اخْتِيَارُ
أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ"
قُتِلُوا" بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَكَذَلِكَ
قَرَأَ الْحَسَنُ إِلَّا أَنَّهُ شَدَّدَ التَّاءَ عَلَى
التَّكْثِيرِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى بْنُ
عُمَرَ وَأَبُو حَيْوَةَ" قَتَلُوا" بِفَتْحِ الْقَافِ
وَالتَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، يَعْنِي الَّذِينَ
قَتَلُوا الْمُشْرِكِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا
أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ،
وَقَدْ فَشَتْ فِيهِمُ الْجِرَاحَاتُ وَالْقَتْلُ، وَقَدْ
نَادَى الْمُشْرِكُونَ: اعْلُ هُبَلُ. وَنَادَى
الْمُسْلِمُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. وَقَالَ
الْمُشْرِكُونَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ
سِجَالٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (قُولُوا لَا سَوَاءَ. قَتْلَانَا أَحْيَاءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ
يُعَذَّبُونَ). فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ لَنَا
الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ:
اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذلك في (آل عمران) «1».
[سورة محمد (47): آية 5]
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5)
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو" قُتِلُوا"
بَعِيدَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بالَهُمْ" وَالْمَقْتُولُ لَا يُوصَفُ بِهَذَا.
قَالَ غَيْرُهُ: يَكُونُ الْمَعْنَى سَيَهْدِيهِمْ إِلَى
الْجَنَّةِ، أَوْ سَيَهْدِي مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، أَيْ
يُحَقِّقُ لَهُمُ الْهِدَايَةَ. وَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ:
سَيَهْدِيهِمْ إِلَى مُحَاجَّةِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي
الْقَبْرِ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَقَدْ تَرِدُ
الْهِدَايَةُ وَالْمُرَادُ بِهَا إِرْشَادُ الْمُؤْمِنِينَ
إِلَى مَسَالِكِ الْجِنَانِ وَالطُّرُقِ الْمُفْضِيَةِ
إِلَيْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ
الْمُجَاهِدِينَ: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ.
سَيَهْدِيهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاهْدُوهُمْ
إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ" «2» [الصافات: 23] معناه فاسلكوا
بهم إليها.
[سورة محمد (47): آية 6]
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)
__________
(1). راجع ج 4 ص (234)
(2). آية 23 سورة الصافات.
(16/230)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
أَيْ إِذَا دَخَلُوهَا يُقَالُ لَهُمْ
تَفَرَّقُوا «1» إِلَى مَنَازِلِكُمْ، فَهُمْ أَعْرَفُ
بِمَنَازِلِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ إِذَا
انْصَرَفُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ. قَالَ مَعْنَاهُ
مُجَاهِدٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَفِي
الْبُخَارِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَخْلُصُ
الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى
قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ] فَيُقَصُّ
لِبَعْضِهِمْ مِنْ بعض مظالم [كانت بينهم في الدنيا «2»
[حتى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ
الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ] مِنْهُ
«3» [بِمَنْزِلِهِ فِي الدُّنْيَا (. وَقِيلَ:" عَرَّفَها
لَهُمْ" أَيْ بَيَّنَهَا لَهُمْ حَتَّى عَرَفُوهَا مِنْ
غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ. قَالَ الْحَسَنُ: وَصَفَ اللَّهُ
تَعَالَى لَهُمُ الْجَنَّةَ فِي الدُّنْيَا، فَلَمَّا
دَخَلُوهَا عَرَفُوهَا بِصِفَتِهَا. وَقِيلَ: فِيهِ
حَذْفٌ، أَيْ عَرَّفَ طُرُقَهَا وَمَسَاكِنَهَا
وَبُيُوتَهَا لَهُمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. وَقِيلَ: هَذَا
التَّعْرِيفُ بِدَلِيلٍ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ
بِعَمَلِ الْعَبْدِ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَتْبَعُهُ
الْعَبْدُ حَتَّى يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَنْزِلَهُ،
وَيُعَرِّفَهُ الْمَلَكُ جَمِيعَ مَا جُعِلَ لَهُ فِي
الْجَنَّةِ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
يَرُدُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ" عَرَّفَها لَهُمْ"
أَيْ طَيَّبَهَا لَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَلَاذِ، مَأْخُوذٌ
مِنَ الْعَرْفِ، وَهُوَ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ.
وَطَعَامٌ مُعَرَّفٌ أَيْ مُطَيَّبٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ:
عَرَّفْتَ الْقِدْرَ إِذَا طَيَّبْتَهَا بِالْمِلْحِ
وَالْأَبْزَارِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ يُخَاطِبُ رَجُلًا
ويمدحه:
عرفت كاتب عرفته اللطائم «4»
يقول: كَمَا عُرِّفَ الْإِتْبُ، وَهُوَ الْبَقِيرُ
وَالْبَقِيرَةُ، وَهُوَ قَمِيصٌ لَا كُمَّيْنِ لَهُ
تَلْبَسُهُ النِّسَاءُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ وَضْعِ
الطَّعَامُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ مِنْ كَثْرَتِهِ،
يُقَالُ: حَرِيرٌ مُعَرَّفٌ، أَيْ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ،
وَهُوَ مِنَ الْعُرْفِ الْمُتَتَابِعِ كَعُرْفِ الْفَرَسِ.
وَقِيلَ:" عَرَّفَها لَهُمْ" أَيْ وَفَّقَهُمْ لِلطَّاعَةِ
حَتَّى اسْتَوْجَبُوا الْجَنَّةَ. وَقِيلَ: عَرَّفَ أَهْلَ
السَّمَاءِ أَنَّهَا لَهُمْ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ
فِيهَا. وَقِيلَ: عَرَّفَ المطيعين أنها لهم.
[سورة محمد (47): آية 7]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ
يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)
__________
(1). في أز ل: تقربوا.
(2). زيادة عن صحيح البخاري.
(3). زيادة عن صحيح البخاري. [ ..... ]
(4). اللطائم (جمع لطيمة): قطعة مسك.
(16/231)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا
فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ"
أَيْ إِنْ تَنْصُرُوا دِينَ اللَّهِ يَنْصُرُكُمْ عَلَى
الْكُفَّارِ. نَظِيرُهُ" وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ" [الحج: 40] وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». وَقَالَ
قُطْرُبٌ: إِنْ تَنْصُرُوا نَبِيَّ اللَّهِ يَنْصُرْكُمُ
اللَّهُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ." وَيُثَبِّتْ
أَقْدامَكُمْ" أَيْ عِنْدَ الْقِتَالِ. وَقِيلَ عَلَى
الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ عَلَى الصِّرَاطِ. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ تَثْبِيتُ الْقُلُوبِ بِالْأَمْنِ، فَيَكُونُ
تَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ عِبَارَةً عَنِ النَّصْرِ
وَالْمَعُونَةِ فِي مَوْطِنِ الْحَرْبِ. وَقَدْ مَضَى فِي"
الْأَنْفَالِ" «2» هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ هُنَاكَ:"
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ
فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا" «3» [الأنفال: 12]
فَأَثْبَتَ هُنَاكَ وَاسِطَةً وَنَفَاهَا هُنَا «4»،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ
الْمَوْتِ" «5» [السجدة: 11] ثُمَّ نَفَاهَا بِقَوْلِهِ:"
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ" «6» [الروم: 40]." الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَياةَ" «7» [الملك: 2] وَمَثَلُهُ كَثِيرٌ، فَلَا
فَاعِلَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ.
[سورة محمد (47): آية 8]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ
أَعْمالَهُمْ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا" يَحْتَمِلُ
الرَّفْعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبَ بِمَا
يُفَسِّرُهُ" فَتَعْساً لَهُمْ" كَأَنَّهُ قَالَ: أَتْعَسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا. وَ" تَعْسًا لَهُمْ" نُصِبَ عَلَى
الْمَصْدَرِ بِسَبِيلِ الدُّعَاءِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ،
مِثْلُ سَقْيًا لَهُ وَرَعْيًا. وَهُوَ نَقِيضُ لَعًا «8»
لَهُ. قَالَ الْأَعْشَى:
فَالتَّعْسُ أَوْلَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعًا «9»
وَفِيهِ عَشْرَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- بُعْدًا لَهُمْ،
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ. الثَّانِي-
حُزْنًا لَهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. الثَّالِثُ- شَقَاءٌ
لَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الرَّابِعُ- شَتْمًا لَهُمْ
مِنَ اللَّهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. الْخَامِسُ- هَلَاكًا
لَهُمْ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ. السَّادِسُ- خَيْبَةٌ لَهُمْ،
قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ. السَّابِعُ- قُبْحًا
لَهُمْ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ. الثَّامِنُ- رغما لهم، قاله
الضحاك أيضا. التاسع-
__________
(1). راجع ج 12 ص (72)
(2). راجع ج 7 ص (371 377)
(3). راجع ج 7 ص (371 377)
(4). ما بين المربعين ساقط من ز ك ل.
(5). آية 11 سورة السجدة.
(6). آية 40 سورة الروم.
(7). آية 2 سورة الملك.
(8). لعا: كلمة يدعى بها للعاثر معناه الارتفاع.
(9). في اللسان وكتاب الاعشين:" أدنى" بدل" أولى". وصدره:
بذات لوث عفرناة إذا عثرت
واللوث (بالفتح): القوة". عفرناة: قرية.
(16/232)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
(9)
شَرًّا لَهُمْ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ أَيْضًا.
الْعَاشِرُ- شِقْوَةٌ لَهُمْ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّ التَّعْسَ الِانْحِطَاطُ وَالْعِثَارُ.
قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: التَّعْسُ أَنْ يَخِرَّ عَلَى
وَجْهِهِ. وَالنَّكْسُ أَنْ يَخِرَّ عَلَى رَأْسِهِ.
قَالَ: وَالتَّعْسُ أَيْضًا الْهَلَاكُ. قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: وَأَصْلُهُ الْكَبُّ، وَهُوَ ضِدُّ
الِانْتِعَاشِ. وَقَدْ تَعَسَ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ)
يَتْعَسُ تَعْسًا، وَأَتْعَسَهُ اللَّهُ. قَالَ مُجَمِّعُ
بْنُ هِلَالٍ:
تَقُولُ وَقَدْ أَفْرَدْتُهَا مِنْ خَلِيلِهَا ...
تَعِسْتَ كَمَا أَتْعَسْتِنِي يَا مُجَمِّعُ
يُقَالُ: تَعْسًا لِفُلَانٍ، أَيْ أَلْزَمَهُ اللَّهُ
هَلَاكًا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَجَوَّزَ قَوْمٌ تَعِسَ
(بِكَسْرِ الْعَيْنِ). قُلْتُ: وَمِنْهُ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ
وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ «1» إِنْ
أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ"
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا
الْحَدِيثِ" تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا
انْتَقَشَ" «2» خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ" أَيْ أَبْطَلَهَا
لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ. وَدَخَلَتِ
الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَتَعْساً" لِأَجْلِ الْإِبْهَامِ
الَّذِي فِي" الَّذِينَ"، وَجَاءَ" وَأَضَلَّ
أَعْمالَهُمْ" عَلَى الْخَبَرِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ
الَّذِينَ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ فِي اللَّفْظِ، فَدُخُولُ
الْفَاءِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَأَضَلَّ حَمْلًا
عَلَى اللفظ.
[سورة محمد (47): آية 9]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)
أَيْ ذَلِكَ الْإِضْلَالُ وَالْإِتْعَاسُ، لِأَنَّهُمْ"
كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ" مِنَ الْكُتُبِ
وَالشَّرَائِعِ." فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ" أَيْ مَا
لَهُمْ مِنْ صُوَرِ الْخَيْرَاتِ، كَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ
وَقِرَى الضَّيْفِ وَأَصْنَافِ الْقُرَبِ، وَلَا يَقْبَلُ
اللَّهُ الْعَمَلَ إِلَّا مِنْ مُؤْمِنٍ. وَقِيلَ: أحبط
أعمالهم أي عبادة الصنم.
[سورة محمد (47): آية 10]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10)
__________
(1). القطيفة: دثار. والخميصة: كساء أسود مربع له أعلام
وخطوط.
(2). قوله" شيك" أي أصابته شوكة. و" فلا انتقش" أي فلا
خرجت شوكته بالمنقاش.
(16/233)
ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ
لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
بَيَّنَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِ
وَالْكَافِرِ تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ
وَصَلَ هَذَا بِالنَّظَرِ، أَيْ أَلَمْ يَسْرِ هَؤُلَاءِ
فِي أَرْضِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ
لِيَعْتَبِرُوا بِهِمْ" فَيَنْظُرُوا" بِقُلُوبِهِمْ"
كَيْفَ كانَ" آخِرُ أَمْرِ الْكَافِرِينَ قَبْلَهُمْ."
دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" أَيْ أَهْلَكَهُمْ
وَاسْتَأْصَلَهُمْ. يُقَالُ: دَمَّرَهُ تَدْمِيرًا،
وَدَمَّرَ عَلَيْهِ بِمَعْنًى. ثُمَّ تَوَاعَدَ مُشْرِكِي
مَكَّةَ فَقَالَ" وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها" أَيْ
أَمْثَالَ هَذِهِ الْفَعْلَةِ، يَعْنِي التَّدْمِيرَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالطَّبَرِيُّ: الْهَاءُ تَعُودُ
عَلَى الْعَاقِبَةِ، أَيْ وَلِلْكَافِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ
أَمْثَالُ عَاقِبَةِ تَكْذِيبِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ
إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.
[سورة محمد (47): آية 11]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ
الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ (11)
أَيْ وَلِيَّهُمْ وَنَاصِرَهُمْ. وَفِي حَرْفِ ابْنِ
مَسْعُودٍ" ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ
آمَنُوا". فالمولى: الناصر ها هنا، قاله ابن عباس وغيره.
قال:
فَغَدَتْ كِلَا الْفَرْجَيْنِ تَحْسِبُ أَنَّهُ ...
مَوْلَى الْمَخَافَةِ خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا»
قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ، إِذْ
صَاحَ الْمُشْرِكُونَ: يَوْمٌ بِيَوْمٍ، لَنَا الْعُزَّى
ولا عزى لكم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى
لَكُمْ [وَقَدْ تَقَدَّمَ «2»." وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا
مَوْلى لَهُمْ" أَيْ لَا ينصرهم أحد من الله.
[سورة محمد (47): آية 12]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما
تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)
__________
(1). البيت من معلقة لبيد. ويروى" فعدت" بالعين المهملة.
أخبر أنها (أي البقرة) خائفة من كلا جانبيها من خلفها
وأمامها. والفرج: الواسع من الأرض. والفرج: الثغر المخوف،
وهو موضع المخافة.
(2). راجع ص 230 من هذا الجزء. [ ..... ]
(16/234)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي
أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ
يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" تَقَدَّمَ
فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ" وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يَتَمَتَّعُونَ" فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُمْ أَنْعَامٌ،
لَيْسَ لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا بُطُونَهُمْ وَفُرُوجَهُمْ،
سَاهُونَ عَمَّا فِي غَدِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ فِي
الدُّنْيَا يَتَزَوَّدُ، وَالْمُنَافِقُ يَتَزَيَّنُ،
وَالْكَافِرُ يَتَمَتَّعُ." وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ"
أَيْ مَقَامٌ ومنزل.
[سورة محمد (47): آية 13]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ
قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا
ناصِرَ لَهُمْ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ" تَقَدَّمَ
الْكَلَامُ في" كأين" في (آل عمران) «1». وهي ها هنا
بِمَعْنَى كَمْ، أَيْ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ. وَأَنْشَدَ
الْأَخْفَشُ قَوْلَ لَبِيدٍ:
وَكَائِنْ رَأَيْنَا مِنْ مُلُوكٍ وَسُوقَةٍ ...
وَمِفْتَاحِ قَيْدٍ لِلْأَسِيرِ الْمُكَبَّلِ
فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ." هِيَ
أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ"
أَيْ أَخْرَجَكَ أَهْلُهَا." فَلا ناصِرَ لَهُمْ" قَالَ
قَتَادَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى
الْغَارِ الْتَفَتَ إِلَى مَكَّةَ وَقَالَ:] اللَّهُمَّ
أَنْتِ أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ وَأَنْتِ أَحَبُّ
الْبِلَادِ إِلَيَّ وَلَوْلَا الْمُشْرِكُونَ أَهْلَكِ
أَخْرَجُونِي لَمَا خَرَجْتُ مِنْكِ [. فَنَزَلَتِ
الْآيَةُ «2»، ذَكَرَهُ الثعلبي، وهو حديث صحيح.
[سورة محمد (47): آية 14]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ" الْأَلِفُ أَلِفُ تَقْرِيرٍ. وَمَعْنَى" عَلى
بَيِّنَةٍ" أَيْ عَلَى ثَبَاتٍ وَيَقِينٍ، قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ. أَبُو الْعَالِيَةِ: وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْبَيِّنَةُ: الْوَحْيُ."
كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ" أَيْ عِبَادَةَ
الْأَصْنَامِ، وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ وَالْكُفَّارُ.
__________
(1). راجع ج 4 ص 228
(2). ساقط من ك.
(16/235)
مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ
غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ
طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ
هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا
فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
" وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ" أَيْ مَا
اشْتَهَوْا. وَهَذَا التَّزْيِينُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ
خَلْقًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ
دُعَاءٌ وَوَسْوَسَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ
الْكَافِرِ، أَيْ زَيَّنَ لِنَفْسِهِ سُوءَ عَمَلِهِ
وَأَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ" سُوءُ" عَلَى لَفْظِ"
من"" وَاتَّبَعُوا" على معناه.
[سورة محمد (47): آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها
أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ
لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ
فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ
كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً
فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ" لَمَّا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّ
اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ" [الحج: 14] وَصَفَ تِلْكَ
الْجَنَّاتِ، أَيْ صِفَةُ الْجَنَّةِ الْمُعَدَّةِ
لِلْمُتَّقِينَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي"
الرَّعْدِ" «1». وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ"
مِثَالُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ"." فِيها
أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ" أَيْ غَيْرَ مُتَغَيِّرِ
الرَّائِحَةِ. وَالْآسِنُ مِنَ الْمَاءِ مِثْلُ الْآجِنِ.
وَقَدْ أَسَنَ الماء يأسن ويأسن] أسنا و [أسونا إِذَا
تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ. وَكَذَلِكَ أَجَنَ الْمَاءُ
يَأْجُنُ وَيَأْجِنُ أَجْنًا وَأُجُونًا. وَيُقَالُ
بِالْكَسْرِ فِيهِمَا: أَجِنَ وَأَسِنَ يَأْسَنُ
وَيَأْجَنُ أَسْنًا وَأَجْنًا، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ.
وَأَسِنَ الرَّجُلُ أَيْضًا يَأْسَنُ (بِالْكَسْرِ «2» لَا
غَيْرَ) إِذَا دَخَلَ الْبِئْرَ فَأَصَابَتْهُ رِيحٌ
مُنْتِنَةٌ مِنْ رِيحِ الْبِئْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
فَغُشِيَ عَلَيْهِ أَوْ دَارَ رَأْسُهُ، قَالَ زُهَيْرٌ:
قَدْ أَتْرُكُ «3» الْقَرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ...
يَمِيدُ فِي الرُّمْحِ مَيْدَ الْمَائِحِ الْأَسِنْ
وَيُرْوَى" الْوَسِنِ". وَتَأَسَّنَ الْمَاءُ تَغَيَّرَ.
أَبُو زَيْدٍ: تَأَسَّنَ عَلَيَّ تَأَسُّنًا اعْتَلَّ
وَأَبْطَأَ. أَبُو عَمْرٍو: تَأَسَّنَ الرَّجُلُ أَبَاهُ
أَخَذَ أَخْلَاقَهُ. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: إِذَا
نَزَعَ إِلَيْهِ فِي الشَّبَهِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ"
آسِنٍ" بِالْمَدِّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحُمَيْدٌ"
أَسِنَ" بِالْقَصْرِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلُ حَاذِرٍ
وَحَذِرِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَسِنَ لِلْحَالِ، وَآسِنٌ
(مِثْلُ فاعل) يراد به الاستقبال."
__________
(1). راجع ج 9 ص (324)
(2). أي في الماضي.
(3). وفية رواية أخرى:" يغادر القرن".
(16/236)
وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ
طَعْمُهُ" أَيْ لَمْ يَحْمُضْ بِطُولِ الْمَقَامِ كَمَا
تَتَغَيَّرُ أَلْبَانُ الدُّنْيَا إِلَى الْحُمُوضَةِ."
وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ" أَيْ لَمْ
تُدَنِّسْهَا الْأَرْجُلُ وَلَمْ تُرَنِّقْهَا «1»
الْأَيْدِي كَخَمْرِ الدُّنْيَا، فَهِيَ لَذِيذَةُ
الطَّعْمِ طَيِّبَةُ الشُّرْبِ لَا يَتَكَرَّهُهَا
الشَّارِبُونَ. يُقَالُ: شَرَابٌ لَذَّ وَلَذِيذٌ
بِمَعْنًى. وَاسْتَلَذَّهُ عَدَّهُ لَذِيذًا." وَأَنْهارٌ
مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى" الْعَسَلُ مَا يَسِيلُ مِنْ لُعَابِ
النَّحْلِ." مُصَفًّى" أَيْ مِنَ الشَّمْعِ وَالْقَذَى،
خَلَقَهُ اللَّهُ كَذَلِكَ لَمْ يُطْبَخْ عَلَى نَارٍ
وَلَا دَنَّسَهُ النَّحْلُ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ
حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] إِنَّ فِي
الْجَنَّةِ بَحْرُ الْمَاءِ وَبَحْرُ الْعَسَلِ وَبَحْرُ
اللَّبَنِ وَبَحْرُ الْخَمْرِ ثُمَّ تُشَقَّقُ
الْأَنْهَارُ بَعْدُ [. قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ
وَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ
[. وَقَالَ كَعْبٌ: نَهْرُ دِجْلَةَ نَهْرُ مَاءِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ، وَنَهْرُ الْفُرَاتِ نَهْرُ لَبَنِهِمْ،
وَنَهْرُ مِصْرَ نَهْرُ خَمْرِهِمْ، وَنَهْرُ سَيْحَانَ
نَهْرُ عَسَلِهِمْ. وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ
تَخْرُجُ مِنْ نَهْرِ الْكَوْثَرِ. وَالْعَسَلُ: يُذَكَّرُ
وَيُؤَنَّثُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" مِنْ عَسَلٍ
مُصَفًّى" أَيْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بُطُونِ النَّحْلِ."
وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ"" مِنْ" زَائِدَةٌ
لِلتَّأْكِيدِ." وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ" أَيْ
لِذُنُوبِهِمْ." كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ" قَالَ
الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَفَمَنْ يَخْلُدُ فِي هَذَا
النَّعِيمِ كَمَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: أَيْ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ وَأُعْطِيَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ.
فَقَوْلُهُ" كَمَنْ" بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ" أَفَمَنْ
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ" [فاطر: 8]. وَقَالَ ابْنُ
كَيْسَانَ: مَثَلُ هَذِهِ الْجَنَّةِ الَّتِي فِيهَا
الثِّمَارُ وَالْأَنْهَارُ كَمَثَلِ النَّارِ الَّتِي
فِيهَا الْحَمِيمُ وَالزَّقُّومُ. وَمَثَلُ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فِي النَّعِيمِ المقيم كميل أَهْلِ النَّارِ
فِي الْعَذَابِ الْمُقِيمِ." وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً" أي
حارا شديد الغليان، إذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة
رؤوسهم، فَإِذَا شَرِبُوهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ
وَأَخْرَجَهَا مِنْ دُبُورِهِمْ. وَالْأَمْعَاءُ: جَمْعُ
مِعًى، وَالتَّثْنِيَةُ مِعَيَانِ، وَهُوَ جَمِيعُ ما في
البطن من الحوايا.
__________
(1). رنق الماء: كدره.
(16/237)
وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ
قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا
زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
[سورة محمد (47): الآيات 16 الى 17]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا
مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا
قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ"
أَيْ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ
وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ، وَزُيِّنَ
لَهُمْ سُوءُ عَمَلِهِمْ قَوْمٌ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ
وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ: عَبْدُ اللَّهِ بن أبي ابن
سَلُولٍ وَرِفَاعَةُ بْنُ التَّابُوتِ وَزَيْدُ بْنُ
الصَّلِيتِ «1» وَالْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو وَمَالِكُ بْنُ
دَخْشَمٍ، كَانُوا يَحْضُرُونَ الْخُطْبَةَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ فَإِذَا سَمِعُوا ذِكْرَ الْمُنَافِقِينَ
فِيهَا أَعْرَضُوا عَنْهُ، فَإِذَا خَرَجُوا سَأَلُوا
عَنْهُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ:
كَانُوا يَحْضُرُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ،
فَيَسْتَمِعُونَ مِنْهُ مَا يَقُولُ، فَيَعِيَهُ
الْمُؤْمِنُ وَلَا يَعِيَهُ الْكَافِرُ." حَتَّى إِذا
خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ" أَيْ إِذَا فَارَقُوا
مَجْلِسَكَ." قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ" قَالَ
عِكْرِمَةُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ مِمَّنْ يُسْأَلُ، أَيْ كُنْتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مَسْعُودٍ. وَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ:
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقَالَ الْقَاسِمُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هُوَ أَبُو الدَّرْدَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُمُ الصَّحَابَةُ." مَاذَا
قالَ آنِفاً" أَيِ الْآنَ، عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ.
أَيْ أَنَا لَمْ أَلْتَفِتْ إِلَى قوله. و" آنِفاً"
يُرَادُ بِهِ السَّاعَةَ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ
الْأَوْقَاتِ إِلَيْكَ، مِنْ قَوْلِكَ: اسْتَأْنَفْتُ
الشَّيْءَ إِذَا ابْتَدَأْتَ بِهِ. وَمِنْهُ أَمْرٌ
أُنُفٌ، وَرَوْضَةٌ أُنُفٌ، أَيْ لَمْ يَرْعَهَا أَحَدٌ.
وَكَأْسٌ أُنُفٌ: إِذَا لَمْ يشرب منها شي، كَأَنَّهُ
اسْتُؤْنِفَ شُرْبُهَا مِثْلُ رَوْضَةٍ أُنُفٍ. قَالَ
الشاعر: «2»
وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَأْكُلُ
جَارُهُمْ أَنْفَ القصاع
__________
(1). كذا في الأصول. وفي سيرة ابن هشام وابن الأثير طبع
أوربا:" اللصيت" بالتاء المثناة من فوق. وفي تاريخ الطبري
(طبع أوربا قسم أول ص 1699:" اللصيب" بالباء الموحدة.
(2). هو الحطيئة.
(16/238)
وقال آخر «1»:
إِنَّ الشِّوَاءَ وَالنَّشِيلَ وَالرُّغُفَ ...
وَالْقَيْنَةَ الْحَسْنَاءَ وَالْكَأْسَ الْأُنُفَ
لِلطَّاعِنِينَ الْخَيْلَ وَالْخَيْلُ قُطُفٌ «2»
وَقَالَ امْرُؤُ القيس:
قد غدا يحملني في أنفه «3»
أَيْ فِي أَوَّلِهِ. وَأَنْفُ كُلِّ شَيْءٍ أَوَّلُهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ:
النَّاسُ رَجُلَانِ: رَجُلٌ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ
فَانْتَفَعَ بِمَا سَمِعَ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْقِلْ وَلَمْ
يَنْتَفِعْ بِمَا سَمِعَ. وَكَانَ يُقَالُ: النَّاسُ
ثَلَاثَةٌ: فَسَامِعٌ عَامِلٌ، وَسَامِعٌ عَاقِلٌ،
وَسَامِعٌ غَافِلٌ تَارِكٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ
الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ" فَلَمْ
يُؤْمِنُوا." وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ" فِي الْكُفْرِ."
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا" أَيْ لِلْإِيمَانِ زَادَهُمُ
اللَّهُ هُدًى. وَقِيلَ: زَادَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُدًى. وَقِيلَ: مَا
يَسْتَمِعُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ هُدًى. أَيْ يَتَضَاعَفُ
يَقِينُهُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: زَادَهُمْ إِعْرَاضُ
الْمُنَافِقِينَ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ هُدًى. وَقِيلَ:
زَادَهُمْ نُزُولُ النَّاسِخِ هُدًى. وَفِي الْهُدَى
الَّذِي زَادَهُمْ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا-
زَادَهُمْ عِلْمًا، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.
الثَّانِي- أَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا سَمِعُوا وَعَمِلُوا
بِمَا عَلِمُوا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الثَّالِثُ-
زَادَهُمْ بَصِيرَةً فِي دِينِهِمْ وَتَصْدِيقًا
لِنَبِيِّهِمْ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. الرَّابِعُ- شَرَحَ
صُدُورَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ."
وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ" أَيْ أَلْهَمَهُمْ إِيَّاهَا.
وَقِيلَ: فِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا- آتَاهُمُ
الْخَشْيَةَ، قَالَهُ الرَّبِيعُ. الثَّانِي- ثَوَابُ
تَقْوَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ.
الثَّالِثُ- وَفَّقَهُمْ لِلْعَمَلِ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْهِمْ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. الرَّابِعُ- بَيَّنَ
لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ، قَالَهُ ابْنُ زِيَادٍ
وَالسُّدِّيُّ أَيْضًا. الْخَامِسُ- أَنَّهُ تَرْكُ
الْمَنْسُوخِ وَالْعَمَلُ بِالنَّاسِخِ، قَالَهُ عطية.
الماوردي: ويحتمل. سادسا-
__________
(1). هو لقيط بن زرارة. والنشيل: ما طبخ من اللحم بغير
تأبل. والرغف جمع رغيف. ويقال: أرغفة ورغفان.
(2). في الأصول:" حنف" والتصويب عن اللسان مادة" قطف". وقد
ورد هذا الشطر في اللسان مادة" نشل":" للضاربين الهام
والخيل قطف". وقطفت الدابة: أساءت السير وأبطأت.
(3). تمامه:
لا حق الأيطل محبوك ممر
(16/239)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ
جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ
ذِكْرَاهُمْ (18)
أنه ترك الرخص والأخذ بالعزائم. وقرى"
وَأَعْطَاهُمْ" بَدَلَ" وَآتاهُمْ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
هَذِهِ نَزَلَتْ فيمن آمن من أهل الكتاب.
[سورة محمد (47): آية 18]
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا
جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ
أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً" أَيْ فَجْأَةً. وَهَذَا
وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ." فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها" أَيْ
أَمَارَاتِهَا وَعَلَامَاتِهَا. وكانوا قد قرءوا في كتبهم
أن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ
الْأَنْبِيَاءِ، فَبَعْثُهُ مِنْ أَشْرَاطِهَا
وَأَدِلَّتِهَا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ. وَفِي
الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] بُعِثْتُ أَنَا
وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ [وَضَمَّ السَّبَّابَةَ
وَالْوُسْطَى، لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَيُرْوَى] بُعِثْتُ
وَالسَّاعَةُ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ [. وَقِيلَ: أَشْرَاطُ
السَّاعَةِ أَسْبَابُهَا الَّتِي هِيَ دُونَ مُعْظَمِهَا.
وَمِنْهُ يُقَالُ لِلدُّونِ مِنَ النَّاسِ: الشَّرَطُ.
وَقِيلَ: يَعْنِي عَلَامَاتِ السَّاعَةِ انْشِقَاقَ
الْقَمَرِ وَالدُّخَانِ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا.
وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: كَثْرَةُ الْمَالِ وَالتِّجَارَةُ
وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَقَطْعُ الْأَرْحَامِ، وَقِلَّةُ
الْكِرَامِ وَكَثْرَةُ اللِّئَامِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى
هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابٍ" التَّذْكِرَةِ" مُسْتَوْفًى
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَوَاحِدُ الْأَشْرَاطِ شَرَطٌ،
وَأَصْلُهُ الْأَعْلَامُ. وَمِنْهُ قِيلَ الشُّرَطُ،
لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَامَةً
يُعْرَفُونَ بِهَا. وَمِنْهُ الشَّرْطُ فِي الْبَيْعِ
وَغَيْرِهِ. قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
فَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ بِالصُّرْمِ بَيْنَنَا ...
فَقَدْ جَعَلْتِ أَشْرَاطَ أَوَّلِهِ تَبْدُو
وَيُقَالُ: أَشْرَطَ فُلَانٌ نَفْسَهُ فِي عَمَلِ كَذَا
أَيْ أَعْلَمَهَا وَجَعَلَهَا لَهُ. قَالَ أَوْسُ بْنُ
حَجَرٍ يَصِفُ رَجُلًا تَدَلَّى بِحَبْلٍ مِنْ رَأْسِ
جَبَلٍ إِلَى نَبْعَةٍ «1» يَقْطَعُهَا لِيَتَّخِذَ
مِنْهَا قَوْسًا:
فَأَشْرَطَ نَفْسَهُ فِيهَا وَهُوَ مُعْصِمٌ ... وَأَلْقَى
بِأَسْبَابٍ لَهُ وتوكلا
__________
(1). النبعة (واحدة النبع): شجرة من أشجار الجبال يتخذ
منها القسي.
(16/240)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
" أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً"" أَنْ"
بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ" السَّاعَةَ" نحو قوله:" أَنْ
تَطَؤُهُمْ" من قوله:" رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ
مُؤْمِناتٌ" «1». وقرى" بَغَتَّةً" بِوَزْنِ جَرَبَّةً
«2»، وَهِيَ غَرِيبَةٌ لَمْ تَرِدْ فِي الْمَصَادِرِ
أُخْتُهَا،، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو.
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا أَخْوَفَنِي أَنْ تَكُونَ
غَلْطَةً مِنَ الرَّاوِي عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَنْ
يَكُونَ الصَّوَابُ" بَغَتَةً" بِفَتْحِ الْغَيْنِ مِنْ
غَيْرِ تَشْدِيدٍ، كقراءة الحسن. وروى عن أبو جعفر الرؤاس،
وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ" إِنْ تَأْتِهِمْ
بَغْتَةً". قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ" إِنْ
تَأْتِهِمْ بَغْتَةً" كَانَ الْوَقْفُ عَلَى" السَّاعَةَ"
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الشَّرْطَ. وَمَا يَحْتَمِلُهُ
الْكَلَامُ مِنَ الشَّكِّ مَرْدُودٌ إِلَى الْخَلْقِ،
كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ شَكُّوا فِي مَجِيئِهَا" فَقَدْ
جاءَ أَشْراطُها". قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَنَّى لَهُمْ
إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ"" ذِكْراهُمْ" ابتداء و"
فَأَنَّى لَهُمْ" الْخَبَرُ. وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ
فِي" جاءَتْهُمْ" لِلسَّاعَةِ، التَّقْدِيرُ: فَمِنْ
أَيْنَ لَهُمُ التَّذَكُّرُ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ،
قَالَ مَعْنَاهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: فَكَيْفَ
لَهُمْ بِالنَّجَاةِ إِذَا جَاءَتْهُمُ الذِّكْرَى عِنْدَ
مَجِيءِ السَّاعَةِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَفِي
الذِّكْرَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- تَذْكِيرُهُمْ بِمَا
عَمِلُوهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. الثَّانِي- هُوَ
دُعَاؤُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ تَبْشِيرًا وَتَخْوِيفًا،
رَوَى أَبَانٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] أَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ
فَإِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا
فُلَانُ قُمْ إِلَى نُورِكَ يَا فُلَانُ قُمْ لَا نُورَ لك
[ذكره الماوردي.
[سورة محمد (47): آية 19]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا
اللَّهُ" قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِيهِ- وَإِنْ كَانَ
الرَّسُولُ عَالِمًا بِاللَّهِ- ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
يَعْنِي اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَكَ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ. الثَّانِي- مَا عَلِمْتَهُ اسْتِدْلَالًا
فَاعْلَمْهُ خَبَرًا يَقِينًا. الثَّالِثُ- يَعْنِي
فَاذْكُرْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، فعبر عن الذكر
بالعلم
__________
(1). آية 25 سورة الفتح.
(2). الجربة (بالفتح والتشديد): القطيع من حمر الوحش. وقد
يقال للأقوياء من الناس إذا كانوا جماعة متساوين: جربه. [
..... ]
(16/241)
لِحُدُوثِهِ عَنْهُ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَضْلِ الْعِلْمِ فَقَالَ:
أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ حِينَ بَدَأَ بِهِ" فَاعْلَمْ
أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ" فَأُمِرَ بِالْعَمَلِ بَعْدَ الْعِلْمِ
وَقَالَ:" اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ- إِلَى قَوْلِهِ- سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ" «1» [الحديد: 21 - 20] وقال:" وَاعْلَمُوا
أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ"
«2» [الأنفال: 28]. ثم قال بعد:" فَاحْذَرُوهُمْ" «3»
[التغابن: 14]. وَقَالَ تَعَالَى:" وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ" «4»
[الأنفال: 41]. ثُمَّ أَمَرَ بِالْعَمَلِ بَعْدُ. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ" يَحْتَمِلُ
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- يَعْنِي اسْتَغْفِرِ اللَّهَ
أَنْ يَقَعَ مِنْكَ ذَنْبٌ. الثَّانِي- اسْتَغْفِرِ
اللَّهَ لِيَعْصِمَكَ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقِيلَ: لَمَّا
ذَكَرَ لَهُ حَالَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ
أَمَرَهُ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، أَيِ اثْبُتْ
عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ
وَالْإِخْلَاصِ وَالْحَذَرِ عَمَّا تَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى
اسْتِغْفَارٍ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ بِهِ
الْأُمَّةُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تُوجِبُ الْآيَةُ
اسْتِغْفَارَ الْإِنْسَانِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقِيلَ: كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَضِيقُ صَدْرُهُ مِنْ
كُفْرِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، فَنَزَلَتِ
الْآيَةُ. أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا كَاشِفَ يَكْشِفُ
مَا بِكَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا تُعَلِّقْ قَلْبَكَ
بِأَحَدٍ سِوَاهُ. وَقِيلَ: أُمِرَ بِالِاسْتِغْفَارِ
لِتَقْتَدِيَ بِهِ الْأُمَّةُ." وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ" أَيْ وَلِذُنُوبِهِمْ. وَهَذَا أَمْرٌ
بِالشَّفَاعَةِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَاصِمٍ
الْأَحْوَلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسٍ
الْمَخْزُومِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْتُ مِنْ طَعَامِهِ
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ!
فَقَالَ لَهُ صَاحِبِي: هَلِ اسْتَغْفَرَ لَكَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نِعْمَ،
وَلَكَ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ" وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ" ثُمَّ
تَحَوَّلْتُ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ
كَتِفَيْهِ، جُمْعًا «5» [عَلَيْهِ «6» [خِيلَانٌ
كَأَنَّهُ الثَّآلِيلُ." وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ" فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا- يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ فِي تَصَرُّفِكُمْ
وَإِقَامَتِكُمْ. الثَّانِي-" مُتَقَلَّبَكُمْ" فِي
أَعْمَالِكُمْ نَهَارًا" وَمَثْواكُمْ" فِي لَيْلِكُمْ
نياما. وقيل
__________
(1). آية 20 سورة الحديد.
(2). آية 28 سورة الأنفال.
(3). فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا
لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ" آية 14 سورة التغابن.
(4). آية 41 سورة الأنفال.
(5). يريد مثل جمع الكف، وهو أن يجمع الأصابع ويضمها.
(6). زيادة عن صحيح مسلم. والخيلان: جمع خال، وهو الشامة
في الجسد. والثآليل: وهو ثؤلول، وهي حبيبات تعلو الجسد.
(16/242)
وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى
لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ
الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
(21)
" مُتَقَلَّبَكُمْ" فِي الدُّنْيَا."
وَمَثْواكُمْ" فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:"
مُتَقَلَّبَكُمْ" فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِلَى أَرْحَامِ
الْأُمَّهَاتِ." وَمَثْواكُمْ" مَقَامُكُمْ فِي الْأَرْضِ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ:" مُتَقَلَّبَكُمْ" من ظهر إلى
بطن إلى الدُّنْيَا." وَمَثْواكُمْ" فِي الْقُبُورِ.
قُلْتُ: وَالْعُمُومُ يَأْتِي عَلَى هَذَا كُلِّهِ، فَلَا
يَخْفَى عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ مِنْ حَرَكَاتِ بَنِي
آدَمَ وَسَكَنَاتِهِمْ، وَكَذَا جَمِيعُ خَلْقِهِ. فَهُوَ
عَالِمٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ قَبْلَ كَوْنِهِ جُمْلَةً
وَتَفْصِيلًا أُولَى وَأُخْرَى. سُبْحَانَهُ! لَا إله إلا
هو.
[سورة محمد (47): الآيات 20 الى 21]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ
فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا
الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ
الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ
فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ
خَيْراً لَهُمْ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا" أَيِ
الْمُؤْمِنُونَ المخلصون." لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ"
اشْتِيَاقًا لِلْوَحْيِ وَحِرْصًا عَلَى الْجِهَادِ
وثوابه. ومعنى" لَوْلا" هَلَّا." فَإِذا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ" لَا نَسْخَ فِيهَا. قَالَ قَتَادَةُ:
كُلُّ سُورَةٍ ذُكِرَ فِيهَا الْجِهَادُ فَهِيَ
مُحْكَمَةٌ، وَهِيَ أَشَدُّ الْقُرْآنِ عَلَى
الْمُنَافِقِينَ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" فَإِذَا
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْدَثَةٌ" أَيْ مُحْدَثَةُ
النُّزُولِ." وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ" أي فرض فيها
الجهاد. وقرى" فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ وَذَكَرَ فِيهَا
الْقِتَالَ" عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ
الْقِتَالِ." رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ"
أَيْ شَكٌّ وَنِفَاقٌ." يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ
الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ" أَيْ نَظَرُ
مَغْمُوصِينَ مُغْتَاظِينَ بِتَحْدِيدٍ وَتَحْدِيقٍ،
كَمَنْ يَشْخَصُ بَصَرُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ
لِجُبْنِهِمْ عَنِ الْقِتَالِ جَزَعًا وَهَلَعًا،
وَلِمَيْلِهِمْ فِي السِّرِّ إِلَى الْكُفَّارِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَأَوْلى لَهُمْ. طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ""
فَأَوْلَى لهم" قال الجوهري: وقولهم: أولى لك، تهدد
وَوَعِيدٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى ... وَهَلْ
لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ
(16/243)
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَعْنَاهُ قَارَبَهُ
مَا يُهْلِكُهُ، أَيْ نَزَلَ بِهِ. وَأَنْشَدَ:
فَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا ... وَأَوْلَى أَنْ
يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ
أَيْ قَارَبَ أَنْ يَزِيدَ. قَالَ ثَعْلَبٌ: وَلَمْ يَقُلْ
أَحَدٌ في" فَأَوْلى " أَحْسَنَ مِمَّا قَالَ
الْأَصْمَعِيُّ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِمَنْ
هَمَّ بِالْعَطَبِ ثُمَّ أَفْلَتَ: أَوْلَى لَكَ، أَيْ
قَارَبْتَ الْعَطَبَ. كَمَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا
كان يوالي رمي الصيد فيفلت منه ليقول: أَوْلَى لَكَ. ثُمَّ
رَمَى صَيْدًا فَقَارَبَهُ ثُمَّ أَفْلَتَ مِنْهُ فَقَالَ:
فَلَوْ كَانَ أَوْلَى يُطْعِمُ الْقَوْمَ صِدْتُهُمْ ...
وَلَكِنَّ أَوْلَى يَتْرُكُ الْقَوْمَ جُوَّعَا
وَقِيلَ: هُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: يَا
مَحْرُومُ، أَيُّ شَيْءٍ فَاتَكَ! وَقَالَ
الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَيْلِ، فَهُوَ
أَفْعَلُ، وَلَكِنْ فِيهِ قَلْبٌ، وَهُوَ أَنَّ عَيْنَ
الْفِعْلِ وَقَعَ مَوْقِعَ اللَّامِ. وَقَدْ تَمَّ
الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ:" فَأَوْلى لَهُمْ". قَالَ
قَتَادَةُ: كَأَنَّهُ قَالَ الْعِقَابَ أَوْلَى لَهُمْ.
وَقِيلَ: أَيْ وَلِيَهُمُ الْمَكْرُوهُ. ثُمَّ قَالَ:"
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ" أَيْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ أَمْثَلُ وَأَحْسَنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ
سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ. وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ
أَمْرُنَا طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، فَحَذَفَ
الْمُبْتَدَأَ فَيُوقَفُ عَلَى" فَأَوْلى لَهُمْ". وَكَذَا
مَنْ قَدَّرَ يَقُولُونَ مِنَّا طَاعَةً. وَقِيلَ: إِنَّ
الْآيَةَ الثَّانِيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِالْأُولَى.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ" لَهُمْ" بِمَعْنَى الْبَاءِ،
أَيِ الطَّاعَةُ أَوْلَى وَأَلْيَقُ بِهِمْ، وَأَحَقُّ
لَهُمْ مِنْ تَرْكِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ. وَهِيَ
قِرَاءَةُ أُبَيٍّ" يَقُولُونَ طاعَةٌ". وَقِيلَ: إِنَّ"
طَاعَةٌ" نعت ل" سورة"، عَلَى تَقْدِيرِ: فَإِذَا
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ذَاتُ طَاعَةٍ، فَلَا يُوقَفُ عَلَى
هَذَا عَلَى" فَأَوْلى لَهُمْ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
إِنَّ قَوْلَهُمْ" طَاعَةٌ" إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ عَنِ الْمُنَافِقِينَ. وَالْمَعْنَى لَهُمْ
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، قِيلَ وُجُوبُ الْفَرَائِضِ
عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أُنْزِلَتِ الْفَرَائِضُ شَقَّ
عَلَيْهِمْ نُزُولُهَا. فَيُوقَفُ عَلَى هَذَا عَلَى"
فَأَوْلى ". قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ"
أَيْ جَدَّ الْقِتَالُ، أَوْ وجب فرض القتال، كرهوه.
فكرهوه جواب" فَإِذا" وَهُوَ مَحْذُوفٌ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى فَإِذَا عَزَمَ أَصْحَابُ الامر." فَلَوْ
صَدَقُوا اللَّهَ" أَيْ فِي الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ."
لَكانَ خَيْراً لَهُمْ" من المعصية والمخالفة.
(16/244)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ
(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
[سورة محمد (47): الآيات 22 الى 24]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ
الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى
أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ
عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:"
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ" اخْتُلِفَ فِي
مَعْنَى" إِنْ تَوَلَّيْتُمْ" فَقِيلَ: هُوَ مِنَ
الْوِلَايَةِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمَعْنَى
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمُ الْحُكْمَ
فَجُعِلْتُمْ حُكَّامًا أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
بِأَخْذِ الرِّشَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَمْرَ الْأُمَّةِ أَنْ
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ. وَقَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: الْمَعْنَى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
تَوَلَّيْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ أَنْ تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بِالْمَعَاصِي وَقَطْعِ الْأَرْحَامِ. وَقَالَ
كَعْبٌ: الْمَعْنَى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمُ
الْأَمْرَ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَقِيلَ:
مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الشَّيْءِ. قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ كِتَابِ
اللَّهِ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِسَفْكِ
الدِّمَاءِ الْحَرَامِ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ.
وَقِيلَ:" فَهَلْ عَسَيْتُمْ" أَيْ فَلَعَلَّكُمْ إِنْ
أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْقُرْآنِ وَفَارَقْتُمْ أَحْكَامَهُ
أَنْ تُفْسِدُوا في الأرض فتعودوا إلى جاهليتكم. وقرى
بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا. وَقَدْ مَضَى فِي"
الْبَقَرَةِ" الْقَوْلُ فِيهِ مُسْتَوْفًى «1». وَقَالَ
بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي
الْحَرُورِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ، وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا عُنِيَ بِهَا
الْمُنَافِقُونَ. وَقَالَ ابْنُ حَيَّانَ: قُرَيْشٌ.
وَنَحْوَهُ قَالَ الْمُسَيَّبُ بْنُ شَرِيكٍ
وَالْفَرَّاءُ، قَالَا: نَزَلَتْ فِي بَنِي أُمَيَّةَ
وَبَنِي هَاشِمٍ، وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رَوَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:] فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ"- ثُمَّ قَالَ- هُمْ هَذَا الْحَيُّ مِنْ
قُرَيْشٍ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِنْ وَلُوا النَّاسَ
أَلَّا يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَلَا يَقْطَعُوا
أَرْحَامَهُمْ [. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ"
إِنْ تُوُلِّيتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ" بِضَمِّ
التَّاءِ وَالْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ. وَهِيَ قِرَاءَةُ
ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرَوَاهَا رُوَيْسٌ عَنْ
__________
(1). راجع ج 3 ص 244
(16/245)
يَعْقُوبَ. يَقُولُ: إِنْ وَلِيَتْكُمْ
وُلَاةٌ جَائِرَةٌ خَرَجْتُمْ مَعَهُمْ فِي الْفِتْنَةِ
وَحَارَبْتُمُوهُمْ." وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ"
بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالْقَتْلِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ
وَسَلَّامٌ وَعِيسَى وَأَبُو حَاتِمٍ" وَتُقَطِّعُوا"
بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، مِنَ الْقَطْعِ،
اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى" وَيَقْطَعُونَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ" «1» [البقرة: 27].
وَرَوَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ هَارُونُ عَنْ أَبَى عَمْرٍو.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ" وَتُقَطِّعُوا" مَفْتُوحَةَ
الْحُرُوفِ مُشَدَّدَةً، اعْتِبَارًا بقوله تعالى:"
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ" «2» [الأنبياء: 93].
الْبَاقُونَ" وَتُقَطِّعُوا" بِضَمِّ التَّاءِ مُشَدَّدَةَ
الطَّاءِ، مِنَ التَّقْطِيعِ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَهُوَ
اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ. وتقدم ذكر" عَسَيْتُمْ"
[البقرة: 246] فِي (الْبَقَرَةِ) «3». وَقَالَ الزَّجَّاجُ
فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ: لَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ" عَسِيَ"
بِالْكَسْرِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ عَسَيْتُ
أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، وَعَسِيتُ بالكسر. وقرى" فَهَلْ
عَسِيتُمْ" بِالْكَسْرِ. قُلْتُ: وَيَدُلُّ قَوْلُهُ هَذَا
عَلَى أَنَّهُمَا لُغَتَانِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ
فِي" الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى «4»." أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ" أَيْ طَرَدَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ
رَحْمَتِهِ." فَأَصَمَّهُمْ" عَنِ الْحَقِّ." وَأَعْمى
أَبْصارَهُمْ" أَيْ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْخَيْرِ.
فَأَتْبَعَ الْأَخْبَارَ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
حَقَّتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُ، وَسَلَبَهُ الِانْتِفَاعَ
بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ حَتَّى لَا يَنْقَادَ لِلْحَقِّ
وَإِنْ سَمِعَهُ، فَجَعَلَهُ كَالْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا
تَعْقِلُ. وَقَالَ:" فَهَلْ عَسَيْتُمْ" ثُمَّ قَالَ:"
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ" فَرَجَعَ مِنَ
الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي
ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ" أَيْ يَتَفَهَّمُونَهُ
فَيَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلَّذِينَ لَمْ
يَتَوَلَّوْا عَنِ الْإِسْلَامِ." أَمْ عَلى قُلُوبٍ
أَقْفالُها" أَيْ بَلْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالٌ
أَقْفَلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فَهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ. وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ
وَالْإِمَامِيَّةِ مَذْهَبَهُمْ. وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:] إِنَّ عَلَيْهَا أَقْفَالًا كَأَقْفَالِ
الْحَدِيدِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ يَفْتَحُهَا [.
وَأَصْلُ الْقَفْلِ الْيُبْسُ وَالصَّلَابَةُ. وَيُقَالُ
لِمَا يَبِسَ مِنَ الشَّجَرِ: الْقَفْلُ. وَالْقَفِيلُ
مِثْلُهُ. وَالْقَفِيلُ أَيْضًا نَبْتٌ. وَالْقَفِيلُ:
الصَّوْتُ. قَالَ الرَّاجِزُ:
لَمَّا أَتَاكَ يَابِسًا قِرْشَبَّا ... قُمْتَ إِلَيْهِ
بِالْقَفِيلِ ضَرْبَا
كَيْفَ قَرَيْتَ شَيْخَكَ الْأَزَبَّا «5»
__________
(1). آية 27 سورة البقرة.
(2). آية 93 سورة الأنبياء.
(3). راجع ج 1 ص 246 وج 3 ص 244.
(4). راجع ج 1 ص 246 وج 3 ص 244.
(5). ج 3 ص 4 (244) الأزب (بالفتح والتشديد): الكثير
الشعر.
(16/246)
الْقِرْشَبُّ (بِكَسْرِ الْقَافِ):
الْمُسِنُّ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ. وَأَقْفَلَهُ الصَّوْمُ
أَيْ أَيْبَسَهُ، قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ
وَالْجَوْهَرِيُّ. فَالْأَقْفَالُ ها هنا إشارة إلى ارتتاج
الْقَلْبِ وَخُلُوِّهِ عَنِ الْإِيمَانِ. أَيْ لَا
يَدْخُلُ قُلُوبَهُمُ الْإِيمَانُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا
الْكُفْرُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَبَعَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَقَالَ:" عَلى قُلُوبٍ" لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ
عَلَى قُلُوبِهِمْ لَمْ يَدْخُلْ قَلْبُ غَيْرِهِمْ فِي
هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَالْمُرَادُ أَمْ عَلَى قُلُوبِ
هَؤُلَاءِ وَقُلُوبِ مَنْ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ
أَقْفَالُهَا. الثَّالِثَةُ- فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ
الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ
فَقَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ
قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ
وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى قَالَ فَذَاكَ
لَكِ- ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ" فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ. أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ
أَقْفالُها" [. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهَا خِطَابٌ
لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ:
مَعْنَى الْآيَةِ فَلَعَلَّكُمْ، أَوْ يُخَافُ عَلَيْكُمْ،
إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ أَنْ تَعُودُوا إِلَى
الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ لِسَفْكِ الدِّمَاءِ. قَالَ
قَتَادَةُ: كَيْفَ رَأَيْتُمُ الْقَوْمَ حِينَ تَوَلَّوْا
عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى! أَلَمْ يَسْفِكُوا
الدِّمَاءَ الْحَرَامَ وَيَقْطَعُوا الْأَرْحَامَ
وَعَصَوُا الرَّحْمَنَ. فَالرَّحِمُ عَلَى هَذَا رَحِمُ
دِينِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، الَّتِي قَدْ سَمَّاهَا
اللَّهُ إِخْوَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" «1». وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ
أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي
أُمَيَّةَ، وَالْمُرَادُ مَنْ أَضْمَرَ مِنْهُمْ نِفَاقًا،
فَأَشَارَ بِقَطْعِ الرَّحِمِ إِلَى مَا كَانَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنَ الْقَرَابَةِ بِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقِتَالَ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالرَّحِمُ عَلَى وَجْهَيْنِ: عَامَّةٌ
وَخَاصَّةٌ، فَالْعَامَّةُ رَحِمُ الدين، ويجب
مُوَاصَلَتَهَا بِمُلَازَمَةِ الْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ
لِأَهْلِهِ وَنُصْرَتِهِمْ، وَالنَّصِيحَةِ وَتَرْكِ
مُضَارَّتِهِمْ وَالْعَدْلَ بَيْنَهُمْ، وَالنَّصَفَةَ فِي
مُعَامَلَتِهِمْ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمُ الْوَاجِبَةِ،
كَتَمْرِيضِ الْمَرْضَى وَحُقُوقِ الْمَوْتَى مِنْ
غُسْلِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَدَفْنِهِمْ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ] الْحُقُوقِ [الْمُتَرَتِّبَةِ
لَهُمْ. وَأَمَّا الرَّحِمُ الْخَاصَّةُ وَهِيَ رَحِمُ
الْقَرَابَةِ مِنْ طَرَفَيِ الرَّجُلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ،
فَتَجِبُ لَهُمُ الْحُقُوقُ الْخَاصَّةِ وَزِيَادَةٌ،
كَالنَّفَقَةِ وتفقد أحوالهم،
__________
(1). آية 10 سورة الحجرات.
(16/247)
وَتَرْكِ التَّغَافُلُ عَنْ تَعَاهُدِهِمْ
فِي أَوْقَاتِ ضَرُورَاتِهِمْ، وَتَتَأَكَّدُ فِي
حَقِّهِمْ حُقُوقُ الرَّحِمِ الْعَامَّةُ، حَتَّى إِذَا
تَزَاحَمَتِ الْحُقُوقُ بُدِئَ بِالْأَقْرَبِ
فَالْأَقْرَبِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ
الرَّحِمَ الَّتِي تَجِبُ صِلَتُهَا هِيَ كُلُّ رَحِمٍ
مَحْرَمٍ، وَعَلَيْهِ فَلَا تَجِبُ فِي بَنِي الْأَعْمَامِ
وَبَنِي الْأَخْوَالِ. وَقِيلَ: بَلْ هَذَا فِي كُلِّ
رَحِمٍ مِمَّنْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ ذَوِي
الْأَرْحَامِ فِي الْمَوَارِيثِ، مَحْرَمًا كَانَ أَوْ
غَيْرَ مَحْرَمٍ. فَيُخْرَجُ مِنْ هَذَا أَنَّ رَحِمَ
الْأُمِّ الَّتِي لَا يَتَوَارَثُ بِهَا لَا تَجِبُ
صِلَتُهُمْ وَلَا يَحْرُمُ قَطْعُهُمْ. وَهَذَا لَيْسَ
بِصَحِيحٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ مَا يَشْمَلُهُ
وَيَعُمُّهُ الرَّحِمُ تَجِبُ صِلَتُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ،
قُرْبَةً وَدِينِيَّةً، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا
والله أعلم. وقد رَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي
مُسْنَدِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ سَمِعْتُ
مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:] إِنَّ لِلرَّحِمِ لِسَانًا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ الْعَرْشِ يَقُولُ يَا رَبِّ
قُطِعْتُ يَا رَبِّ ظُلِمْتُ يَا رب أسئ إِلَيَّ
فَيُجِيبُهَا رَبُّهَا أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ
وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ [. وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ قَاطِعٌ [. قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ
سُفْيَانُ: يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ. وَرَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:] إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ
حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ ... [" خَلَقَ" بِمَعْنَى
اخْتَرَعَ وَأَصْلُهُ التَّقْدِيرُ، كَمَا تَقَدَّمَ «1».
وَالْخَلْقُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" هَذَا خَلْقُ اللَّهِ" «2» أَيْ
مَخْلُوقُهُ. وَمَعْنَى] فَرَغَ مِنْهُمْ [كَمَّلَ
خَلْقَهُمْ. لَا أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِهِمْ ثُمَّ فَرَغَ
مِنْ شُغْلِهِ بِهِمْ، إِذْ لَيْسَ. فِعْلُهُ
بِمُبَاشَرَةٍ وَلَا مُنَاوَلَةٍ، وَلَا خَلْقَهُ بِآلَةٍ
وَلَا مُحَاوَلَةٍ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ:]
قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ [يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى
أَقَامَ مَنْ يَتَكَلَّمُ عَنِ الرَّحِمِ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ فَيَقُولُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ وَكَّلَ
بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ مَنْ يُنَاضِلُ عَنْهَا وَيَكْتُبُ
ثَوَابَ مَنْ وَصَلَهَا وَوِزْرَ مَنْ قَطَعَهَا، كَمَا
وَكَّلَ اللَّهُ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ كِرَامًا
كَاتِبِينَ، وَبِمُشَاهَدَةِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ
ملائكة متعاقبين. وثانيهما- (هامش)
__________
(1). راجع ج 1 ص (226) [ ..... ]
(2). آية 11 سورة لقمان.
(16/248)
إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى
لَهُمْ (25)
أَنَّ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّقْدِيرِ
وَالتَّمْثِيلِ الْمُفْهِمِ لِلْإِعْيَاءِ وَشِدَّةِ
الِاعْتِنَاءِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَتِ الرَّحِمُ
مِمَّنْ يَعْقِلُ وَيَتَكَلَّمُ لَقَالَتْ هَذَا
الْكَلَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" لَوْ أَنْزَلْنا هذَا
الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ- ثُمَّ قَالَ- وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" «1».
وَقَوْلُهُ:] فَقَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ
مِنَ الْقَطِيعَةِ [مَقْصُودُ هَذَا الْكَلَامِ
الْإِخْبَارُ بِتَأَكُّدِ أَمْرِ صِلَةِ الرَّحِمِ،
وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ نَزَّلَهَا بِمَنْزِلَةِ
مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي
ذِمَّتِهِ وَخِفَارَتِهِ»
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَارُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْذُولٍ
وَعَهْدُهُ غَيْرُ مَنْقُوضٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ مُخَاطِبًا
لِلرَّحِمِ:] أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ
وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ [. وَهَذَا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:] وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ
اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِنْ
ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبُهُ بِذِمَّتِهِ
بِشَيْءٍ يُدْرِكُهُ ثُمَّ يَكُبُّهُ فِي النَّارِ على
وجهه [.
[سورة محمد (47): آية 25]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ
وَأَمْلى لَهُمْ (25)
قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ كُفَّارُ أَهْلِ الْكِتَابِ،
كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بعد ما عَرَفُوا نَعْتَهُ عِنْدَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ
جُرَيْجٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ
وَالسُّدِّيُّ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، قَعَدُوا عن القتال
بعد ما عَلِمُوهُ فِي الْقُرْآنِ." الشَّيْطانُ سَوَّلَ
لَهُمْ" أَيْ زَيَّنَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، قَالَهُ
الْحَسَنُ." وَأَمْلى لَهُمْ" أَيْ مَدَّ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ فِي الْأَمَلِ وَوَعَدَهُمْ طُولَ الْعُمُرِ،
عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا. وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْلَى
لَهُمْ فِي الْأَمَلِ وَمَدَّ فِي آجَالِهِمْ هُوَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْمُفَضَّلُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: إِنَّ مَعْنًى" أَمْلى
لَهُمْ" أَمْهَلَهُمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اللَّهُ
تَعَالَى أَمْلَى لَهُمْ بِالْإِمْهَالِ فِي عَذَابِهِمْ.
وَقَرَأَ أَبُو عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأَبُو
جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ" وَأَمْلى لَهُمْ" بِضَمِّ
الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، عَلَى
مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ
هُرْمُزٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ وَيَعْقُوبُ،
إِلَّا أَنَّهُمْ سَكَّنُوا الْيَاءَ عَلَى وَجْهِ
الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ
يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَنَا أُمْلِي
لَهُمْ. وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: لِأَنَّ فتح
الهمزة يوهم أن الشيطان
__________
(1). آية 21 سورة الحشر.
(2). الخفارة (بالضم والكسر): الذمام.
(16/249)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِسْرَارَهُمْ (26)
يُمْلِي لَهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ،
فَلِهَذَا عَدَلَ إِلَى الضَّمِّ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ:
وَمَنْ قَرَأَ" وَأَمْلَى لَهُمْ" فَالْفَاعِلُ اسْمُ
اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ الشَّيْطَانُ. وَاخْتَارَ أَبُو
عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ الْعَامَّةِ، قَالَ: لِأَنَّ
الْمَعْنَى مَعْلُومٌ، لِقَوْلِهِ:" لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ
وَتُسَبِّحُوهُ" «1» [الفتح: 9] رَدَّ التَّسْبِيحَ عَلَى
اسْمِ اللَّهِ، وَالتَّوْقِيرَ وَالتَّعْزِيرَ على اسم
الرسول.
[سورة محمد (47): آية 26]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ
اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا" أَيْ
ذَلِكَ الْإِمْلَاءُ لَهُمْ حَتَّى يَتَمَادَوْا فِي
الْكُفْرِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا، يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ
وَالْيَهُودَ." لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نزل الله" وَهُمْ
مُشْرِكُونَ" سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ" أَيْ
فِي مُخَالَفَةِ مُحَمَّدٍ وَالتَّظَاهُرِ عَلَى
عَدَاوَتِهِ، وَالْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ مَعَهُ
وَتَوْهِينِ أَمْرِهِ فِي السِّرِّ. وَهُمْ إِنَّمَا
قَالُوا ذَلِكَ سِرًّا فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ.
وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" أَسْرَارَهُمْ" بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ، جَمْعُ سِرٍّ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي
عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ
وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ" إِسْرارَهُمْ"
بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ، نَحْوُ قوله
تعالى:" وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً" «2» [نوح: 9] جمع
لاختلاف ضروب السر.
[سورة محمد (47): آية 27]
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَكَيْفَ" أَيْ فَكَيْفَ تَكُونُ
حَالُهُمْ." إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ
يَضْرِبُونَ" أَيْ ضَارِبِينَ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ
الْحَالِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ التَّخْوِيفُ
وَالتَّهْدِيدُ، أَيْ إِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
فَإِلَى انْقِضَاءِ العمر. وقد مضى في" الأنفال والنحل"
«3». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُتَوَفَّى أَحَدٌ عَلَى
مَعْصِيَةٍ إِلَّا بِضَرْبٍ شَدِيدٍ لِوَجْهِهِ وَقَفَاهُ.
وَقِيلَ: ذلك عند القتال نصرة لرسول الله
__________
(1). آية 9 سورة الفتح.
(2). آية 9 سورة نوح.
(3). راجع ج 8 ص 28 وج 10 ص 99
(16/250)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ
أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
بِضَرْبِ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ عِنْدَ الطَّلَبِ
وَأَدْبَارَهَمْ عِنْدَ الْهَرَبِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ في
القيامة عند سوقهم إلى النار.
[سورة محمد (47): آية 28]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ
وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ" أَيْ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ."
بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ" قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: هُوَ كِتْمَانُهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ
نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِنْ حُمِلَتْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَهُوَ إِشَارَةٌ
إِلَى مَا أَضْمَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ."
وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ" يَعْنِي الْإِيمَانَ." فَأَحْبَطَ
أَعْمالَهُمْ" أَيْ مَا عَمِلُوهُ مِنْ صَدَقَةٍ وَصِلَةِ
رَحِمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، على ما تقدم.
[سورة محمد (47): الآيات 29 الى 30]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ
يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ
لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ" نِفَاقٌ وَشَكٌّ، يَعْنِي
الْمُنَافِقِينَ." أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ
أَضْغانَهُمْ" الْأَضْغَانُ مَا يُضْمَرُ مِنَ
الْمَكْرُوهِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ
السُّدِّيُّ: غِشَّهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
حَسَدَهُمْ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: عَدَاوَتَهُمْ، وَأَنْشَدَ
قَوْلَ الشَّاعِرِ:
قُلْ لِابْنِ هِنْدٍ مَا أَرَدْتُ بِمَنْطِقٍ ... سَاءَ
الصَّدِيقَ وَشَيَّدَ الْأَضْغَانَا
وَقِيلَ: أَحْقَادُهُمْ. وَاحِدُهَا ضِغْنٌ. قَالَ:
وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
وَإِنَّ الضِّغْنَ بَعْدَ الضِّغْنِ يَفْشُو ... عَلَيْكَ
وَيُخْرِجُ الدَّاءَ الدَّفِينَا
(16/251)
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الضِّغْنُ
وَالضَّغِينَةُ: الْحِقْدُ. وَقَدْ ضَغِنَ عَلَيْهِ
(بِالْكَسْرِ) ضِغْنًا. وَتَضَاغَنَ الْقَوْمُ
وَاضْطَغَنُوا: أَبْطَنُوا عَلَى الْأَحْقَادِ.
وَاضْطَغَنْتَ الصَّبِيَّ إِذَا أَخَذْتَهُ تَحْتَ
حِضْنِكَ. وَأَنْشَدَ الْأَحْمَرُ:
كَأَنَّهُ مُضْطَغِنٌ صَبِيًّا
أَيْ حَامِلُهُ فِي حِجْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
إِذَا اضْطَغَنْتُ سِلَاحِي عِنْدَ مَغْرِضِهَا ...
وَمِرْفَقٍ كَرِئَاسِ السَّيْفِ إِذْ شَسَفَا «1»
وَفَرَسٌ ضَاغِنٌ لَا يُعْطِي مَا عِنْدَهُ مِنَ الْجَرْيِ
إِلَّا بِالضَّرْبِ. وَالْمَعْنَى: أَمْ حَسِبُوا أَنْ
لَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ عَدَاوَتَهُمْ وَحِقْدَهُمْ
لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ." وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ"
أَيْ لَعَرَّفْنَاكَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَدْ
عَرَّفَهُ إِيَّاهُمْ فِي سورة" براءة" «2». تَقُولُ
الْعَرَبُ: سَأُرِيكَ مَا أَصْنَعُ، أَيْ سَأُعْلِمُكَ،
ومنه قوله تعالى:" بِما أَراكَ «3» اللَّهُ" [النساء: 105]
أَيْ بِمَا أَعْلَمَكَ." فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ"
أَيْ بِعَلَامَاتِهِمْ. قَالَ أَنَسٌ. مَا خَفِيَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
هَذِهِ الْآيَةِ أَحَدٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ
يَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ. وَقَدْ كُنَّا فِي غَزَاةٍ
وَفِيهَا سَبْعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَشُكُّ فِيهِمُ
«4» النَّاسُ، فَأَصْبَحُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ وَعَلَى
جَبْهَةِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَكْتُوبٌ (هَذَا
مُنَافِقٌ) فَذَلِكَ سِيمَاهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
قَدَّرَ اللَّهُ إِظْهَارَهُمْ وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجُوا
مِنَ الْمَسْجِدِ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَتَمَسَّكُوا
بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ، فَحُقِنَتْ دِمَاؤُهُمْ
وَنَكَحُوا وَأُنْكِحُوا بِهَا." وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ الْقَوْلِ" أَيْ فِي فَحْوَاهُ وَمَعْنَاهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَخَيْرُ الْكَلَامِ مَا كَانَ لَحْنًا
أَيْ مَا عُرِفَ بِالْمَعْنَى وَلَمْ يُصَرَّحْ بِهِ.
مَأْخُوذٌ مِنَ اللَّحْنِ فِي الْإِعْرَابِ، وَهُوَ
الذَّهَابُ عَنِ الصَّوَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِنَّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ
أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ [أَيْ أَذْهَبُ بِهَا
فِي الْجَوَابِ لِقُوَّتِهِ عَلَى تَصْرِيفِ الْكَلَامِ.
أبو زيد:
__________
(1). المغرض: جانب البطن أسفل الأضلاع. و" رئاس السيف":
مقبضه. و" الشاسف": اليابس من الضمر والهزال.
(2). راجع ج 8 ص 196.
(3). آية 105 سورة النساء.
(4). في نسخ الأصل:" يشكونهم".
(16/252)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ
وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
لَحَنْتُ لَهُ (بِالْفَتْحِ) أَلْحَنُ
لَحْنًا إِذَا قُلْتَ لَهُ قَوْلًا يَفْهَمُهُ عَنْكَ
وَيَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ. وَلَحِنَهُ هُوَ عَنِّي
(بِالْكَسْرِ) يَلْحَنُهُ لَحْنًا أَيْ فَهِمَهُ.
وَأَلْحَنْتُهُ أَنَا إِيَّاهُ، وَلَاحَنْتُ النَّاسَ
فَاطَنْتُهُمْ، قَالَ الْفَزَارِيُّ:
وَحَدِيثٍ أَلَذُّهُ هُوَ مِمَّا ... يَنْعَتُ
النَّاعِتُونَ يُوزَنُ وَزْنَا
مَنْطِقٌ رَائِعٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا ... نًا وَخَيْرُ
الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنًا
يُرِيدُ أَنَّهَا تَتَكَلَّمُ] بِشَيْءٍ [وَهِيَ تُرِيدُ
غَيْرَهُ، وَتُعَرِّضُ فِي حَدِيثِهَا فَتُزِيلُهُ عَنْ
جِهَتِهِ مِنْ فِطْنَتِهَا وَذَكَائِهَا. وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى:" وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ".
وَقَالَ الْقَتَّالُ الْكِلَابِيُّ:
وَلَقَدْ وَحَيْتُ «1» لَكُمْ لِكَيْمَا تَفْهَمُوا ...
وَلَحَنْتُ لَحْنًا لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ
وَقَالَ مَرَّارٌ الْأَسَدِيُّ:
وَلَحَنْتُ لَحْنًا فِيهِ غِشٌّ وَرَابَنِي ... صُدُودُكِ
تُرْضِينَ الْوُشَاةَ الْأَعَادِيَا
قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بَعْدَ نُزُولِهَا
عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُنَافِقٌ إِلَّا عَرَفَهُ. وَقِيلَ: كَانَ
الْمُنَافِقُونَ يُخَاطِبُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلَامٍ تَوَاضَعُوهُ فِيمَا
بَيْنَهُمْ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسْمَعُ ذَلِكَ وَيَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ
الْمُعْتَادِ، فَنَبَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ،
فَكَانَ بَعْدَ هَذَا يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ إِذَا
سَمِعَ كَلَامَهُمْ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ يَخْفَ
مُنَافِقٌ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَرَّفَهُ اللَّهُ
ذَلِكَ بِوَحْيٍ أَوْ عَلَامَةٍ عَرَفَهَا بِتَعْرِيفِ
اللَّهِ إِيَّاهُ." وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ" أَيْ
لَا يخفى عليه شيء منها.
[سورة محمد (47): آية 31]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ
مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ" أَيْ
نَتَعَبَّدَكُمْ بِالشَّرَائِعِ وَإِنْ عَلِمْنَا
عَوَاقِبَ الْأُمُورِ. وَقِيلَ: لَنُعَامِلَنَّكُمْ
مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبَرِينَ." حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ" عَلَيْهِ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ:" حَتَّى نَعْلَمَ" حَتَّى نُمَيِّزَ.
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ." حَتَّى نَعْلَمَ"
حتى نرى. وقد مضى
__________
(1). في اللسان:" لحنت".
(16/253)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ
أَعْمَالَهُمْ (32)
في" البقرة" «1». وقراءة العامة بالنون في"
لَنَبْلُوَنَّكُمْ" و" نَعْلَمَ"" ونبلوا". وَقَرَأَ أَبُو
بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالْيَاءِ فِيهِنَّ. وَرَوَى
رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ إِسْكَانَ الْوَاوِ مِنْ"
نَبْلُو" عَلَى الْقَطْعِ مِمَّا قَبْلُ. وَنَصَبَ
الْبَاقُونَ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ:" حَتَّى نَعْلَمَ".
وَهَذَا الْعِلْمُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ
الْجَزَاءُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُجَازِيهِمْ
بِأَعْمَالِهِمْ لَا بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِمْ.
فَتَأْوِيلُهُ: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ عِلْمَ
شَهَادَةٍ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أُمِرُوا بِالْعَمَلِ
يَشْهَدُ مِنْهُمْ مَا عَمِلُوا، فَالْجَزَاءُ
بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ يَقَعُ عَلَى عِلْمِ
الشَّهَادَةِ." وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ" نَخْتَبِرُهَا
وَنُظْهِرُهَا. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ:
كَانَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ
الْآيَةَ بكى وقال: اللهم لا تبتلينا فإنك إذا بلوتنا
فضحتنا وهتكت أستارنا.
[سورة محمد (47): آية 32]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ
أَعْمالَهُمْ (32)
يَرْجِعُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَوْ إِلَى الْيَهُودِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمُطْعِمُونَ يَوْمَ
بَدْرٍ. نَظِيرُهَا" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" [الأنفال:
36] الْآيَةَ «2»." وَشَاقُّوا الرَّسُولَ" أَيْ عَادَوْهُ
وَخَالَفُوهُ." مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى
" أَيْ عَلِمُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ بِالْحُجَجِ
وَالْآيَاتِ." لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً"
بِكُفْرِهِمْ." وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ" أَيْ ثَوَابَ
مَا عملوه.
[سورة محمد (47): آية 33]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ" لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْكُفَّارِ أَمَرَ
الْمُؤْمِنِينَ بِلُزُومِ الطَّاعَةِ فِي أَوَامِرِهِ
وَالرَّسُولِ فِي سُنَنِهِ." وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ" أَيْ حَسَنَاتِكُمْ بِالْمَعَاصِي، قَالَهُ
الْحَسَنُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: بِالْكَبَائِرِ. ابْنُ
جريج: بالرياء والسمعة.
__________
(1). راجع ج 2 ص 156 طبعه ثانية.
(2). آية 36 سورة الأنفال.
(16/254)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا
وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالثُّمَالِيُّ:
بِالْمَنِّ، وَهُوَ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ يَمُنُّ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِإِسْلَامِهِ. وَكُلُّهُ مُتَقَارِبٌ، وَقَوْلُ الْحَسَنِ
يَجْمَعُهُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ
تُحْبِطُ الطَّاعَاتِ، وَالْمَعَاصِي تُخْرِجُ عَنِ
الْإِيمَانِ. الثَّانِيَةُ- احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا
وَغَيْرُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ التَّحَلُّلَ
مِنَ التَّطَوُّعِ- صَلَاةً كَانَ أَوْ صَوْمًا- بَعْدَ
التَّلَبُّسِ بِهِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالَ
الْعَمَلِ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ مَنْ
أَجَازَ ذَلِكَ- وَهُوَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ
وَغَيْرُهُ-: الْمُرَادُ بِذَلِكَ إِبْطَالُ ثَوَابِ
الْعَمَلِ الْمَفْرُوضِ، فَنَهَى الرَّجُلَ عَنْ إِحْبَاطِ
ثَوَابِهِ. فَأَمَّا مَا كَانَ نَفْلًا فَلَا، لِأَنَّهُ
لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ. فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ
اللَّفْظَ عَامٌّ فَالْعَامُّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ.
وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ أَنَّ النَّفْلَ تَطَوُّعٌ،
وَالتَّطَوُّعُ يَقْتَضِي تَخْيِيرًا. وَعَنْ أَبِي
الْعَالِيَةِ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ
الْإِسْلَامِ ذَنْبٌ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
فَخَافُوا الْكَبَائِرَ أَنْ تُحْبِطَ الْأَعْمَالَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا
عَصَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدْ أبطلتم أعمالكم.
[سورة محمد (47): آية 34]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَهُمْ (34)
بَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْرِ
يُوجِبُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ. وَقَدْ مَضَى فِي"
الْبَقَرَةِ" الْكَلَامُ «1» فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ
الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أصحاب القليب «2». وحكمها عام.
[سورة محمد (47): آية 35]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ
أَعْمالَكُمْ (35)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
فَلا تَهِنُوا" أَيْ تَضْعُفُوا عَنِ الْقِتَالِ.
وَالْوَهَنُ: الضَّعْفُ وَقَدْ وَهَنَ الْإِنْسَانُ
وَوَهَنَهُ غَيْرُهُ، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. قَالَ:
إنني لست بموهون فقر «3»
__________
(1). راجع ج 3 ص (48) [ ..... ]
(2). المراد به قليب بدر.
(3). هذا عجز بيت لطرفة، وصدره:
وإذا تلسنني ألسنها
(16/255)
ووهن أيضا (بالكسر) وهنا أي ضعف، وقرى"
فَما وَهَنُوا" بِضَمِّ الْهَاءِ وَكَسْرِهَا. وَقَدْ
مَضَى فِي (آلِ عِمْرَانَ) «1». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ" أَيِ الصُّلْحَ."
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ" أَيْ وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ
بِاللَّهِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
فِي الْحُجَّةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَأَنْتُمُ
الْغَالِبُونَ لِأَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ وَإِنْ غَلَبُوكُمْ
فِي الظَّاهِرِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: لَا تَكُونُوا أَوَّلَ الطَّائِفَتَيْنِ
ضَرَعَتْ إِلَى صَاحِبَتِهَا. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهَا، فَقِيلَ: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَها" «2» [الأنفال: 61]، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى مَنَعَ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الصُّلْحِ إِذَا
لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَى الصُّلْحِ.
وَقِيلَ: مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها". وَقِيلَ: هِيَ
مُحْكَمَةٌ. وَالْآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي وَقْتَيْنِ
مُخْتَلِفَيِ الْحَالِ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ" وَإِنْ
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها" مَخْصُوصٌ فِي قَوْمٍ
بِأَعْيَانِهِمْ، وَالْأُخْرَى عَامَّةٌ. فَلَا يَجُوزُ
مُهَادَنَةُ الْكُفَّارِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ،
وَذَلِكَ إِذَا عَجَزْنَا عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ لِضَعْفِ
الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى
مُسْتَوْفًى «3»." وَاللَّهُ مَعَكُمْ" أَيْ بِالنَّصْرِ
والمعونة، مثل" وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ"
«4» [العنكبوت: 69] " وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ"
أَيْ لَنْ يُنْقِصَكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
وَمِنْهُ الْمَوْتُورُ الَّذِي قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَلَمْ
يُدْرَكْ بِدَمِهِ، تَقُولُ مِنْهُ: وَتَرَهُ يَتِرُهُ
وَتْرًا وَتِرَةً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:] مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ
فَكَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ [أَيْ ذَهَبَ
بِهِمَا. وَكَذَلِكَ وَتَرَهُ حَقَّهُ أَيْ نَقَصَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ
" أَيْ لَنْ يَنْتَقِصَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ، كَمَا
تَقُولُ: دَخَلْتُ الْبَيْتَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ فِي
الْبَيْتِ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. الْفَرَّاءُ:" وَلَنْ
يَتِرَكُمْ" هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَتْرِ وَهُوَ
الْفَرْدُ، فَكَانَ الْمَعْنَى وَلَنْ يفردكم بغير ثواب.
__________
(1). راجع ج 4 ص (230)
(2). آية 61 سورة الأنفال
. (3). راجع ج 8 ص 69
(4). 39 سورة العنكبوت.
(16/256)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا
يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ
(36)
[سورة محمد (47): الآيات 36 الى 37]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ
تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا
يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها
فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)
قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ" تَقَدَّمَ فِي" الْأَنْعَامِ" «1»." وَإِنْ
تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ" شرط
وجوابه." وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ" أَيْ لَا
يَأْمُرُكُمْ بِإِخْرَاجِ جَمِيعِهَا فِي الزَّكَاةِ، بَلْ
أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْبَعْضِ، قَالَهُ ابْنُ عيينة وغيره.
وقيل:" لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ" لِنَفْسِهِ أَوْ
لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ
بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ لِيَرْجِعَ ثَوَابُهُ
إِلَيْكُمْ. وقيل:" لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ"
إِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَهُ، لِأَنَّهُ الْمَالِكُ
لَهَا وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِإِعْطَائِهَا. وَقِيلَ: وَلَا
يَسْأَلْكُمْ مُحَمَّدٌ أَمْوَالَكُمْ أَجْرًا عَلَى
تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. نَظِيرُهُ" قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ" «2» [الفرقان: 57] الآية." إِنْ
يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ" يُلِحُّ عَلَيْكُمْ،
يُقَالُ: أَحْفَى بِالْمَسْأَلَةِ وَأَلْحَفَ وَأَلَحَّ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالْحَفِيُّ الْمُسْتَقْصِي فِي
السُّؤَالِ، وَكَذَلِكَ الْإِحْفَاءُ الِاسْتِقْصَاءُ فِي
الْكَلَامِ وَالْمُنَازَعَةُ. وَمِنْهُ أَحْفَى شَارِبَهُ
أَيِ اسْتَقْصَى فِي أَخْذِهِ." تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ
أَضْغانَكُمْ" أَيْ يُخْرِجُ الْبُخْلُ أَضْغَانَكُمْ.
قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي سُؤَالِ
الْمَالِ خُرُوجَ الْأَضْغَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ" وَتَخْرُجُ"
بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ مَضْمُومَةٍ." أَضْغانَكُمْ"
بِالرَّفْعِ لِكَوْنِهِ الْفَاعِلَ. وَرَوَى الْوَلِيدُ
عَنْ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ" وَنُخْرِجُ" بِالنُّونِ.
وَأَبُو مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي
عَمْرٍو" وَيُخْرِجُ" بِالرَّفْعِ فِي الْجِيمِ عَلَى
الْقَطْعِ وَالِاسْتِئْنَافِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ"
وَيُخْرِجُ" كَسَائِرِ الْقُرَّاءِ، عَطْفٌ عَلَى مَا
تقدم.
[سورة محمد (47): آية 38]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ
فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ
وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
__________
(1). راجع ج 6 ص (414)
(2). آية 57 سورة الفرقان.
(16/257)
قوله تعالى:" ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
تُدْعَوْنَ" أي هأنتم هؤلاء أيها المؤمنون تُدْعَوْنَ"
لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" أَيْ فِي الْجِهَادِ
وَطَرِيقِ الْخَيْرِ." فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ
يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ" أَيْ عَلَى
نَفْسِهِ، أَيْ يَمْنَعُهَا الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ."
وَاللَّهُ الْغَنِيُّ" أَيْ إِنَّهُ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ
إِلَى أَمْوَالِكُمْ." وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ" إِلَيْهَا
«1»." وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً
غَيْرَكُمْ" أَيْ أَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْكُمْ. رَوَى
التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ قَالَ: تَلَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ
الْآيَةُ" وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً
غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ" قَالُوا:
وَمَنْ يُسْتَبْدَلُ بِنَا؟ قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْكِبِ
سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ:] هَذَا وَقَوْمُهُ. هَذَا
وَقَوْمُهُ [قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ فِي إِسْنَادِهِ
مَقَالٌ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ
نَجِيحٍ وَالِدُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَيْضًا هَذَا
الْحَدِيثَ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أبي هريرة قال: قال أناس مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ
إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا ثُمَّ لَا يَكُونُوا
أَمْثَالَنَا؟ قَالَ: وَكَانَ سَلْمَانُ جَنْبِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَخِذَ سَلْمَانَ، قَالَ:] هَذَا وَأَصْحَابُهُ.
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ
مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ
فَارِسَ [. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْعَجَمُ. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. قَالَ
الْمُحَاسِبِيُّ: فَلَا أحد بعد العرب مِنْ جَمِيعِ
أَجْنَاسِ الْأَعَاجِمِ أَحْسَنُ دِينًا، وَلَا كَانَتِ
الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ إِلَّا الْفُرْسُ. وَقِيلَ:
إِنَّهُمُ الْيَمَنُ، وَهُمُ الْأَنْصَارُ، قَالَهُ
شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
هُمُ الْأَنْصَارُ. وَعَنْهُ أَنَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
وَعَنْهُ هُمُ التَّابِعُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
إِنَّهُمْ مَنْ شَاءَ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ." ثُمَّ لا
يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ" قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَيْ فِي
الْبُخْلِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَحُكِيَ
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ فَرِحَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ:] هِيَ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا [. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
__________
(1). لفظة: إليها ساقطة من ل.
.
(16/258)
[تفسير سُورَةُ الْفَتْحِ]
سُورَةُ الْفَتْحِ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَهِيَ تِسْعٌ
وَعِشْرُونَ آيَةً. وَنَزَلَتْ لَيْلًا بَيْنَ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةَ فِي شَأْنِ الْحُدَيْبِيَةِ. رَوَى
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ
عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ
الْحَكَمِ، قَالَا: نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ بَيْنَ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ
أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَسِيرُ فِي بَعْضِ
أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ
لَيْلًا، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ
سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ
يُجِبْهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ثَكِلَتْ
أُمُّ عُمَرَ، نَزَرْتَ «1» رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ
لَمْ يُجِبْكَ، فَقَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي
ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ
يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَمَا نَشِبْتُ «2» أَنْ سَمِعْتُ
صَارِخًا يَصْرُخُ بِي، فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ
يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ،
فَقَالَ:] لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ
لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ
الشَّمْسُ- ثُمَّ قَرَأَ-" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً
مُبِيناً" [. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ" إِنَّا
فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ
مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً-
إِلَى قَوْلِهِ- فَوْزاً عَظِيماً" مَرْجِعَهُ مِنَ
الْحُدَيْبِيَةِ وَهُمْ يُخَالِطُهُمُ الْحُزْنُ
وَالْكَآبَةُ، وَقَدْ نَحَرَ الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَةِ،
فَقَالَ:] لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا [. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْيَهُودَ شَتَمُوا النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ
لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما أَدْرِي مَا
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" «3» [الأحقاف: 9] وَقَالُوا:
كَيْفَ نَتَّبِعُ رَجُلًا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ!
فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّا
فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ
مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ". وَنَحْوَهُ
قال مقاتل
__________
(1). أي ألححت عليه وبالغت في السؤال.
(2). أي ما لبثت وما تعلقت بشيء.
(3). راجع ص 185 من هذا الجزء.
(16/259)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحًا مُبِينًا (1)
ابن سُلَيْمَانَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما
أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" «1» [الأحقاف: 9]
فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا:
كَيْفَ نَتَّبِعُ رَجُلًا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ
وَلَا بِأَصْحَابِهِ، فنزلت بعد ما رَجَعَ مِنَ
الْحُدَيْبِيَةِ:" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً"
أَيْ قَضَيْنَا لَكَ قَضَاءً. فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
تِلْكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ مَا
يَسُرُّنِي بِهَا حُمْرُ النَّعَمِ [. وَقَالَ
الْمَسْعُودِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ
الْفَتْحِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فِي
صَلَاةِ التَّطَوُّعِ حَفِظَهُ اللَّهُ ذلك العام.
|