تفسير القرطبي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفتح (48): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)
اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْفَتْحِ مَا هُوَ؟ فَفِي الْبُخَارِيِّ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ
قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ
أَنَسٍ" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً" قَالَ:
الْحُدَيْبِيَةُ. وَقَالَ جَابِرٌ: مَا كُنَّا نَعُدُّ فَتْحَ
مَكَّةَ إِلَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ
«2»: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ وَقَدْ
كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ
بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، كُنَّا نُعَدُّ
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ مِائَةٍ «3»، وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ:" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً"
بِغَيْرِ قِتَالٍ. وَكَانَ الصُّلْحُ مِنَ الْفَتْحِ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: هُوَ مَنْحَرُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَحَلْقِهِ
رَأْسَهُ. وَقَالَ: كَانَ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ آيَةً
عَظِيمَةً، نُزِحَ مَاؤُهَا فَمَجَّ فِيهَا فَدَرَّتْ
بِالْمَاءِ حَتَّى شَرِبَ جَمِيعُ مَنْ كَانَ مَعَهُ. وَقَالَ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ مُنْصَرَفِهِمْ
مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ: مَا هَذَا بِفَتْحٍ، لَقَدْ صَدُّونَا
عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْفُتُوحِ قَدْ رَضِيَ
الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَدْفَعُوكُمْ عن بلادهم بالراح ويسألكم
الْقَضِيَّةَ وَيَرْغَبُوا إِلَيْكُمْ فِي الْأَمَانِ وَقَدْ
رَأَوْا مِنْكُمْ مَا كَرِهُوا [. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً"
قَالَ: هُوَ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، لَقَدْ أَصَابَ بِهَا مَا
لَمْ يُصِبْ فِي غَزْوَةٍ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَبُويِعَ بيعة الرضوان،
__________
(1). آية 9 سورة الأحقاف.
(2). في تفسير الطبري:" البراء". [ ..... ]
(3). في تفسير الطبري:" خمس مائة".
(16/260)
لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
وَأُطْعِمُوا نَخْلَ خَيْبَرَ، وَبَلَغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ،
فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى
الْمَجُوسِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَقَدْ كَانَ
الْحُدَيْبِيَةُ أَعْظَمَ الْفُتُوحِ، وَذَلِكَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَيْهَا
فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمَّا وَقَعَ الصُّلْحُ
مَشَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَعَلِمُوا وَسَمِعُوا
عَنِ اللَّهِ، فَمَا أَرَادَ أَحَدٌ الْإِسْلَامَ إِلَّا
تَمَكَّنَ مِنْهُ، فَمَا مَضَتْ تِلْكَ السَّنَتَانِ إِلَّا
وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ جَاءُوا إِلَى مَكَّةَ فِي عَشْرَةِ
آلَافٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أيضا والعوفي: هو فتح خبير.
وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، وَخَيْبَرُ إِنَّمَا كَانَتْ وَعْدًا
وُعِدُوهُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى:" سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ"
«1» [الفتح: 10] وَقَوْلُهُ" وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ
كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ" «2» [الفتح:
20]. وَقَالَ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ- وَكَانَ أَحَدَ
الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ-: شَهِدْنَا
الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا إِذَا النَّاسُ
يَهُزُّونَ «3» الْأَبَاعِرَ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ
لِبَعْضٍ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالُوا: أَوْحَى اللَّهِ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ:
فَخَرَجْنَا نُوجِفُ «4» فَوَجَدْنَا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ «5»،
فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً"
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَوَفَتْحٌ هُوَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ:] نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ
لَفَتْحٌ [. فَقُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ
الْحُدَيْبِيَةِ، لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ شَهِدَ
الْحُدَيْبِيَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى" فَتْحاً"
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً»
، لِأَنَّ اسْمَ الْفَتْحِ لَا يَقَعُ مُطْلَقًا إِلَّا عَلَى
مَا فُتِحَ عَنْوَةً. هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الِاسْمِ. وَقَدْ
يُقَالُ: فُتِحَ الْبَلَدُ صُلْحًا، فَلَا يُفْهَمُ الصُّلْحُ
إِلَّا بِأَنْ يُقْرَنَ بِالْفَتْحِ، فَصَارَ الْفَتْحُ فِي
الصُّلْحِ مَجَازًا. وَالْأَخْبَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا
فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَقَدْ مَضَى القول فيها «7»، ويأتي.
[سورة الفتح (48): الآيات 2 الى 3]
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً
مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
__________
(1). آية 15 من هذه السورة.
(2). آية 20 من هذه السورة.
(3). في ك: يهرعون.
(4). الإيجاف: سرعة السير.
(5). كراع الغميم: موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة.
(6). أي فتحت بالقتال، قوتل أهلها حتى غلبوا عليها.
(7). راجع ج 8 ص 2
(16/261)
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فَتْحاً
مُبِيناً غَيْرَ تَامٍّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ" لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ" مُتَعَلِّقٌ بِالْفَتْحِ. كَأَنَّهُ
قَالَ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِكَيْ
يَجْمَعَ اللَّهُ لَكَ مَعَ الْفَتْحِ الْمَغْفِرَةَ،
فَيَجْمَعُ اللَّهُ لَكَ بِهِ مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ
السِّجِسْتَانِيُّ: هِيَ لَامُ الْقَسَمِ. وَهَذَا خَطَأٌ،
لِأَنَّ لَامَ الْقَسَمِ لَا تُكْسَرُ وَلَا يُنْصَبُ بِهَا،
وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ: لِيَقُومَ زَيْدٌ، بِتَأْوِيلِ
لَيَقُومَنَّ زَيْدٌ. الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ
جُعِلَ فَتْحُ مَكَّةَ عِلَّةً لِلْمَغْفِرَةِ؟ قُلْتُ: لَمْ
يُجْعَلْ عِلَّةً لِلْمَغْفِرَةِ، وَلَكِنْ لِاجْتِمَاعِ مَا
عُدِّدَ مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ:
الْمَغْفِرَةُ، وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ، وَهِدَايَةُ
الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالنَّصْرُ الْعَزِيزُ. كَأَنَّهُ
قَالَ: يَسَّرْنَا لَكَ فَتْحَ مَكَّةَ وَنَصَرْنَاكَ عَلَى
عَدُوِّكَ لِيُجْمَعَ لَكَ عِزُّ الدَّارَيْنِ وَأَعْرَاضُ
الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَتْحُ مَكَّةَ
مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جِهَادٌ لِلْعَدُوِّ سَبَبًا
لِلْغُفْرَانِ وَالثَّوَابِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ" مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:]
لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى
وَجْهِ الْأَرْضِ [. ثُمَّ قَرَأَهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: هنيئا
مريئا يا وسول اللَّهِ، لَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ مَاذَا
يَفْعَلُ بِكَ، فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا؟ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ"
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ- حَتَّى بَلَغَ- فَوْزاً عَظِيماً"
قَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح. وفية عن مجمع ابن جَارِيَةَ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى" لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ"
فَقِيلَ:" مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ" قَبْلَ الرِّسَالَةِ."
وَما تَأَخَّرَ" بَعْدَهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَنَحْوَهُ
قَالَ الطَّبَرِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، قَالَ
الطَّبَرِيُّ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى" إِذا
جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ- إلى قوله- تَوَّاباً" «1»
[النصر: 3 - 1]." لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ" قَبْلَ الرِّسَالَةِ" وَما تَأَخَّرَ" إِلَى وَقْتِ
نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ:"
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ" مَا
عَمِلْتَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوحَى
إِلَيْكَ." وَما تَأَخَّرَ" كُلُّ شَيْءٍ لَمْ تَعْمَلْهُ،
وَقَالَهُ الْوَاحِدِيُّ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي
جَرَيَانِ الصَّغَائِرِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ"
الْبَقَرَةِ" «2»، فَهَذَا قَوْلٌ. وقيل:
__________
(1). راجع ج 20 ص 229.
(2). راجع ج 1 ص 308 طبعه ثانية أو ثالثة.
(16/262)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا
إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
" مَا تَقَدَّمَ" قَبْلَ الْفَتْحِ." وَما
تَأَخَّرَ" بَعْدَ الْفَتْحِ. وَقِيلَ:" مَا تَقَدَّمَ" قَبْلَ
نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ." وَما تَأَخَّرَ" بَعْدَهَا. وَقَالَ
عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ:" مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ"
يَعْنِي مِنْ ذَنْبِ أَبَوَيْكَ آدَمَ وَحَوَّاءَ." وَما
تَأَخَّرَ" مِنْ ذُنُوبِ أُمَّتِكَ. وَقِيلَ: مِنْ ذَنْبِ
أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ." وَما تَأَخَّرَ" مِنْ ذُنُوبِ
النَّبِيِّينَ. وَقِيلَ:" مَا تَقَدَّمَ" مِنْ ذَنْبِ يَوْمِ
بَدْرٍ." وَما تَأَخَّرَ" مِنْ ذَنْبِ يَوْمِ حُنَيْنٍ.
وَذَلِكَ أَنَّ الذَّنْبَ الْمُتَقَدِّمَ يَوْمَ بَدْرٍ،
أَنَّهُ جَعَلَ يَدْعُو وَيَقُولُ:" اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ
هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا"
وَجَعَلَ يُرَدِّدُ هَذَا الْقَوْلَ دَفَعَاتٍ، فَأَوْحَى
اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ أَيْنَ تَعْلَمُ أَنِّي لَوْ أَهْلَكْتُ
هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا أُعْبَدُ أَبَدًا، فَكَانَ هَذَا
الذَّنْبُ الْمُتَقَدِّمُ. وَأَمَّا الذَّنْبُ الْمُتَأَخِّرُ
فَيَوْمَ حُنَيْنٍ، لَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ قَالَ لِعَمِّهِ
الْعَبَّاسِ وَلِابْنِ عَمِّهِ أَبِي سُفْيَانِ:] نَاوِلَانِي
كَفًّا مِنْ حَصْبَاءِ الْوَادِي [فَنَاوَلَاهُ فَأَخَذَهُ
بِيَدِهِ وَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ:]
شَاهَتِ الْوُجُوهُ. حم. لَا يُنْصَرُونَ [فَانْهَزَمَ
الْقَوْمُ عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا
امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ رَمْلًا وَحَصْبَاءَ. ثُمَّ نَادَى فِي
أَصْحَابِهِ فَرَجَعُوا فَقَالَ لَهُمْ عِنْدَ رُجُوعِهِمْ:]
لَوْ لَمْ أَرْمِهِمْ لَمْ يَنْهَزِمُوا [فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ" وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ
رَمى " «1» [الأنفال: 17] فَكَانَ هَذَا هُوَ الذَّنْبُ
الْمُتَأَخِّرُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ:
يَقُولُ لَوْ كَانَ لَكَ ذَنْبٌ قَدِيمٌ أَوْ حَدِيثٌ
لَغَفَرْنَاهُ لَكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ
" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْجَنَّةِ. وَقِيلَ:
بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ. وَقِيلَ: بِفَتْحِ مَكَّةَ
وَالطَّائِفِ وَخَيْبَرَ. وَقِيلَ: بِخُضُوعِ مَنِ اسْتَكْبَرَ
وَطَاعَةِ مَنْ تَجَبَّرَ." وَيَهْدِيَكَ صِراطاً
مُسْتَقِيماً" أَيْ يُثَبِّتُكَ عَلَى الْهُدَى إِلَى أَنْ
يَقْبِضَكَ إِلَيْهِ." وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً"
أَيْ غَالِبًا مَنِيعًا لَا يتبعه ذل.
[سورة الفتح (48): آية 4]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ
عَلِيماً حَكِيماً (4)
__________
(1). آية 17 سورة الأنفال.
(16/263)
لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ
فَوْزًا عَظِيمًا (5)
" السَّكِينَةُ": السُّكُونُ
وَالطُّمَأْنِينَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ سَكِينَةٍ
فِي الْقُرْآنِ هِيَ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَّا الَّتِي فِي"
الْبَقَرَةِ" «1». وَتَقَدَّمَ مَعْنَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ
فِي" آل عمران" «2». وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: بُعِثَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمَّا صَدَّقُوهُ فِيهَا زَادَهُمُ
الصَّلَاةَ، فَلَمَّا صَدَّقُوهُ زَادَهُمُ الزَّكَاةَ،
فَلَمَّا صَدَّقُوهُ زَادَهُمُ الصِّيَامَ، فَلَمَّا
صَدَّقُوهُ زَادَهُمُ الْحَجَّ، ثُمَّ أَكْمَلَ لَهُمْ
دِينَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:" لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ
إِيمانِهِمْ" أَيْ تَصْدِيقًا بِشَرَائِعِ الْإِيمَانِ مَعَ
تَصْدِيقِهِمْ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ:
خَشْيَةً مَعَ خَشْيَتِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَقِينًا
مَعَ يَقِينِهِمْ." وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْمَلَائِكَةَ
وَالْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ وَالْإِنْسَ" وَكانَ اللَّهُ
عَلِيماً" بِأَحْوَالِ خَلْقِهِ" حَكِيماً" فيما يريده.
[سورة الفتح (48): آية 5]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً
عَظِيماً (5)
أَيْ أَنْزَلَ السَّكِينَةَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا. ثُمَّ
تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِسَبَبِ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ.
وَقِيلَ: اللَّامُ فِي" لِيُدْخِلَ" يَتَعَلَّقُ بِمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ:" لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ"." وَكانَ ذلِكَ" أي ذلك الوعد من دخول مكة وغفران
الذنوب." عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً" أي نجاة من كل غم،
وظفرا بكل مطلوب. وَقِيلَ: لَمَّا قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ" لِيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ"
قَالُوا: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَاذَا لَنَا؟
فَنَزَلَ" لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ
جَنَّاتٍ" وَلَمَّا قَرَأَ" وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ"
قَالُوا: هَنِيئًا لَكَ، فَنَزَلَتْ" وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي" «3» [المائدة: 3] فَلَمَّا قَرَأَ" وَيَهْدِيَكَ
صِراطاً مُسْتَقِيماً" نَزَلَ فِي حق الامة" وَيَهْدِيَكُمْ
صِراطاً مُسْتَقِيماً" «4» [الفتح: 2]. ولما قال" وَيَنْصُرَكَ
اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً" [الفتح: 3] نزل" كانَ حَقًّا
عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
__________
(1). راجع ج 3 ص (248)
(2). راجع ج 4 ص (280)
(3). آية 3 سورة المائدة. [ ..... ]
(4). آية 20 من هذه السورة.
(16/264)
وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
(6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
" «1» [الروم: 47]. وَهُوَ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً" «2».] الأحزاب: 56]. ثم قال:" هُوَ
الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ" «3» [الأحزاب: 43] ذكره القشيري.
[سورة الفتح (48): الآيات 6 الى 7]
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ
عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً
(6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ
عَزِيزاً حَكِيماً (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ
وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ" أَيْ
بِإِيصَالِ الْهُمُومِ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ عُلُوِّ كَلِمَةِ
الْمُسْلِمِينَ، وَبِأَنْ يُسَلِّطَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَتْلًا وَأَسْرًا وَاسْتِرْقَاقًا." الظَّانِّينَ
بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ" يَعْنِي ظَنَّهُمْ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْجِعُ
إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا أَحَدَ مِنْ أَصْحَابِهِ حِينَ
خَرَجَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ
يَسْتَأْصِلُونَهُمْ. كَمَا قَالَ:" بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ
يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ
أَبَداً" [الفتح: 12]. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ:"
السَّوْءِ" هُنَا الْفَسَادُ." عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ"
فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْأَسْرِ، وَفِي
الْآخِرَةِ جَهَنَّمُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو
عَمْرٍو" دائِرَةُ السَّوْءِ" بِالضَّمِّ. وَفَتَحَ
الْبَاقُونَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: سَاءَهُ يَسُوءُهُ سَوْءًا
(بِالْفَتْحِ) وَمَسَاءَةً وَمَسَايَةً، نقيض سره، والاسم
السوء (بالضم). وقرى" عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السُّوءِ" يَعْنِي
الْهَزِيمَةَ وَالشَّرَّ. وَمَنْ فَتَحَ فَهُوَ مِنَ
الْمَسَاءَةِ." وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً. وَلِلَّهِ
جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً
حَكِيماً" تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ جَمِيعُهُ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: لَمَّا جَرَى صُلْحُ
الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ: أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ
أَنَّهُ إِذَا صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ أَوْ فَتَحَهَا لَا
يَبْقَى لَهُ عَدُوٌّ، فَأَيْنَ فَارِسُ وَالرُّومُ! فَبَيَّنَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أن جنود السموات وَالْأَرْضِ أَكْثَرُ
مِنْ فَارِسَ وَالرُّومِ. وَقِيلَ: يَدْخُلُ فيه
__________
(1). آية 47 سورة الروم.
(2). آية 56 سورة الأحزاب.
(3). آية 43 سورة الأحزاب.
(16/265)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ:" وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ" الْمَلَائِكَةُ.
وَجُنُودُ الْأَرْضِ الْمُؤْمِنُونَ. وَأَعَادَ لِأَنَّ
الَّذِي سَبَقَ عُقَيْبَ ذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ،
وَهَذَا عُقَيْبُ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَسَائِرِ
الْمُشْرِكِينَ. وَالْمُرَادُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ
التَّخْوِيفُ وَالتَّهْدِيدُ. فَلَوْ أَرَادَ إِهْلَاكَ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ لَمْ يُعْجِزْهُ ذَلِكَ،
وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلى أجل مسمى.
[سورة الفتح (48): الآيات 8 الى 9]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8)
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً" قَالَ
قَتَادَةُ: عَلَى أُمَّتِكَ بِالْبَلَاغِ. وَقِيلَ: شَاهِدًا
عَلَيْهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ.
وَقِيلَ: مُبَيِّنًا لَهُمْ مَا أَرْسَلْنَاكَ بِهِ
إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: شَاهِدًا عَلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. فَهُوَ شَاهِدُ أَفْعَالِهِمُ الْيَوْمَ،
وَالشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ مَضَى
فِي" النِّسَاءِ" عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ «1» هَذَا
الْمَعْنَى مُبَيَّنًا." وَمُبَشِّراً" لِمَنْ أَطَاعَهُ
بِالْجَنَّةِ." وَنَذِيراً" مِنَ النَّارِ لِمَنْ عَصَى،
قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ"
اشْتِقَاقُ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَمَعْنَاهُمَا «2».
وَانْتَصَبَ" شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" عَلَى
الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ. حَكَى سِيبَوَيْهِ: مَرَرْتُ
بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا، فَالْمَعْنَى:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ مُقَدِّرِينَ بِشَهَادَتِكَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. وَعَلَى هَذَا تَقُولُ: رَأَيْتُ عَمْرًا
قَائِمًا غَدًا." لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ" قَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو عَمْرٍو"
لِيُؤْمِنُوا" بِالْيَاءِ، وَكَذَلِكَ" يُعَزِّرُوهُ
وَيُوَقِّرُوهُ وَيُسَبِّحُوهُ" كُلُّهُ بِالْيَاءِ عَلَى
الْخَبَرِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ لِذِكْرِ
الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهِ، فَأَمَّا قَبْلُهُ
فَقَوْلُهُ" لِيُدْخِلَ" وَأَمَّا بَعْدُهُ فَقَوْلُهُ" إِنَّ
الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ" [الفتح: 10] الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ
عَلَى الْخِطَابِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ."
وَتُعَزِّرُوهُ" أَيْ تُعَظِّمُوهُ وَتُفَخِّمُوهُ، قَالَهُ
الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ. والتعزير: التَّعْظِيمُ
وَالتَّوْقِيرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَنْصُرُوهُ وَتَمْنَعُوا
مِنْهُ. وَمِنْهُ التَّعْزِيرُ فِي الْحَدِّ. لِأَنَّهُ
مَانِعٌ. قَالَ القطامي:
__________
(1). يلاحظ أن الذي مضى في سورة النساء هو: سعيد بن المسيب.
راجع ج 5 ص 197 وما بعدها.
(2). راجع ج 1 ص 184، 238 طبعه ثانية أو ثالثة.
(16/266)
إِنَّ الَّذِينَ
يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى
نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
أَلَا بَكَرَتْ مَيٌّ بِغَيْرِ سَفَاهَةٍ
... تُعَاتِبُ وَالْمَوْدُودُ يَنْفَعُهُ الْعَزْرُ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: تُقَاتِلُونَ مَعَهُ
بِالسَّيْفِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: تُطِيعُوهُ."
وَتُوَقِّرُوهُ" أَيْ تُسَوِّدُوهُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ.
وَقِيلَ تُعَظِّمُوهُ. وَالتَّوْقِيرُ: التَّعْظِيمُ
وَالتَّرْزِينُ أَيْضًا. وَالْهَاءُ فِيهِمَا لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُنَا وَقْفٌ تَامٌّ،
ثُمَّ تَبْتَدِئُ" وَتُسَبِّحُوهُ" أَيْ تُسَبِّحُوا اللَّهَ"
بُكْرَةً وَأَصِيلًا" أَيْ عَشِيًّا. وَقِيلَ: الضَّمَائِرُ
كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَأْوِيلُ"
تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ" أَيْ تُثْبِتُوا لَهُ صِحَّةَ
الرُّبُوبِيَّةِ وَتَنْفُوا عَنْهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
أَوْ شَرِيكٌ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْقُشَيْرِيُّ.
وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الضَّحَّاكِ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ بَعْضُ
الْكَلَامِ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَهُوَ" وَتُسَبِّحُوهُ" مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. وَبَعْضُهُ
رَاجِعًا إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ" وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ" أَيْ تَدْعُوهُ
بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ لا بالاسم والكنية. وفي"
تُسَبِّحُوهُ" وجهان: أحدهما- تَسْبِيحُهُ بِالتَّنْزِيهِ لَهُ
سُبْحَانَهُ مِنْ كُلِّ قَبِيحٍ. وَالثَّانِي- هُوَ فِعْلُ
الصَّلَاةِ الَّتِي فِيهَا التَّسْبِيحُ." بُكْرَةً
وَأَصِيلًا" أَيْ غُدْوَةً وَعَشِيًّا. وَقَدْ مَضَى القول «1»
فيه. وقال الشاعر:
لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ...
وَأَجْلِسُ فِي أفيائه بالاصائل «2»
[سورة الفتح (48): آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما
يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ
اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ"
بِالْحُدَيْبِيَةِ يَا مُحَمَّدُ." إِنَّما يُبايِعُونَ
اللَّهَ" بَيَّنَ أَنَّ بَيْعَتَهُمْ لِنَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هِيَ بَيْعَةُ اللَّهِ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى:" مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ
اللَّهَ" «3» [النساء: 80]. وَهَذِهِ الْمُبَايَعَةُ هِيَ
بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهَا فِي
هَذِهِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى." يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ" قِيلَ: يَدُهُ فِي الثَّوَابِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ فِي الْوَفَاءِ، وَيَدُهُ فِي الْمِنَّةِ
عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فِي الطَّاعَةِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ نِعْمَةُ اللَّهِ عليهم فوق
ما صنعوا
__________
(1). راجع ج 14 ص (198)
(2). البيت لابي ذؤيب.
(3). آية 80 سورة النساء.
(16/267)
سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا
وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ
مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ
اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ
بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
(11)
مِنَ الْبَيْعَةِ. وَقَالَ ابْنُ
كَيْسَانَ: قُوَّةُ اللَّهِ وَنُصْرَتُهُ فَوْقَ قُوَّتِهِمْ
وَنُصْرَتِهِمْ." فَمَنْ نَكَثَ" بَعْدَ الْبَيْعَةِ."
فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ" أَيْ يَرْجِعُ ضَرَرَ
النَّكْثِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ حَرَمَ نَفْسَهُ الثَّوَابَ
وَأَلْزَمَهَا الْعِقَابَ." وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ
عَلَيْهُ اللَّهَ" قِيلَ فِي الْبَيْعَةِ. وَقِيلَ فِي
إِيمَانِهِ." فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً" يَعْنِي فِي
الْجَنَّةِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالزُّهْرِيُّ" عَلَيْهُ"
بِضَمِّ الْهَاءِ. وَجَرَّهَا الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ
وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ" فَسَنُؤْتِيهِ" بِالنُّونِ.
وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَأَبُو مُعَاذٍ. وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ
وَأَبِي حَاتِمٍ، لقرب اسم الله منه.
[سورة الفتح (48): آية 11]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا
أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ
يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ
ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ
الْأَعْرابِ" قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي
أَعْرَابَ غِفَارٍ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ
وَأَشْجَعَ وَالدِّيلِ، وَهُمُ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ كَانُوا
حَوْلَ الْمَدِينَةِ، تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ السَّفَرَ إِلَى
مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ اسْتَنْفَرَهُمْ
لِيَخْرُجُوا مَعَهُ حَذَرًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَحْرَمَ
بِعُمْرَةٍ وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ
أَنَّهُ لَا يُرِيدُ حَرْبًا فَتَثَاقَلُوا عَنْهُ
وَاعْتَلُّوا بِالشُّغْلِ، فَنَزَلَتْ. وَإِنَّمَا قَالَ:"
الْمُخَلَّفُونَ" لِأَنَّ اللَّهَ خَلَّفَهُمْ عَنْ صُحْبَةِ
نَبِيِّهِ. وَالْمُخَلَّفُ المتروك. وقد مضى في" براءة" «1»."
شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا" أَيْ لَيْسَ لَنَا مَنْ
يَقُومُ بِهِمَا." فَاسْتَغْفِرْ لَنا" جَاءُوا يَطْلُبُونَ
الِاسْتِغْفَارَ وَاعْتِقَادُهُمْ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِمْ،
فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:" يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ" وَهَذَا هُوَ
النِّفَاقُ الْمَحْضُ." قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ
اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا" قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ" ضُرًّا" بِضَمِّ الضَّادِ هُنَا فَقَطْ، أَيْ
أَمْرًا يَضُرُّكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الهزيمة.
__________
(1). راجع ج 8 ص 216
(16/268)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ
لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى
أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ مَصْدَرُ
ضَرَرْتُهُ ضَرًّا. وَبِالضَّمِّ اسْمٌ لِمَا يَنَالُ
الْإِنْسَانُ مِنَ الْهُزَالِ وَسُوءِ الْحَالِ. وَالْمَصْدَرُ
يُؤَدِّي عَنِ الْمَرَّةِ وَأَكْثَرُ. وَاخْتَارَهُ أَبُو
عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، قَالَا: لِأَنَّهُ قَابَلَهُ
بِالنَّفْعِ وَهُوَ ضِدُّ الضَّرِّ. وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ
بِمَعْنًى، كَالْفَقْرِ وَالْفُقْرِ وَالضَّعْفِ وَالضُّعْفِ."
أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً" أَيْ نَصْرًا وَغَنِيمَةً.
وَهَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ حِينَ ظَنُّوا أَنَّ التَّخَلُّفَ
عَنِ الرَّسُولِ يدفع عنهم الضر ويعجل لهم النفع.
[سورة الفتح (48): آية 12]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ
وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ
فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ
قَوْماً بُوراً (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ
الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً" وذلك
أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةُ
«1» رَأْسٍ لَا يَرْجِعُونَ." وَزُيِّنَ ذلِكَ" أَيِ
النِّفَاقُ." فِي قُلُوبِكُمْ" وَهَذَا التَّزْيِينُ مِنَ
الشَّيْطَانِ، أَوْ يَخْلُقُ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ."
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ" أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُ
رَسُولَهُ." وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً" أَيْ هَلْكَى، قَالَهُ
مُجَاهِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَاسِدِينَ لَا يَصْلُحُونَ
لِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْبُورُ:
الرَّجُلُ الْفَاسِدُ الْهَالِكُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ:
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا
فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ
وَامْرَأَةٌ بُورٌ أَيْضًا، حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَوْمٌ
بُورٌ هَلْكَى. قَالَ تَعَالَى:" وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً"
وَهُوَ جَمْعُ بَائِرٍ، مِثْلُ حَائِلٍ وَحُولٍ. وَقَدْ بَارَ
فُلَانٌ أَيْ هَلَكَ. وَأَبَارَهُ اللَّهُ أَيْ أَهْلَكَهُ.
وَقِيلَ:" بُوراً" أَشْرَارًا، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقَالَ
حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
لَا يَنْفَعُ الطُّولُ مِنْ نُوكِ الرِّجَالِ وَقَدْ ...
يَهْدِي الْإِلَهُ سَبِيلَ الْمَعْشَرِ الْبُورِ «2»
أي الهالك.
__________
(1). أي هم قليل يشبعهم رأس واحد.
(2). ورد هذا البيت في الأصول محرفا.
(16/269)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
سَعِيرًا (13)
[سورة الفتح (48): آية 13]
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا
أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)
وَعِيدٌ لَهُمْ، وَبَيَانٌ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بالنفاق.
[سورة الفتح (48): آية 14]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً
رَحِيماً (14)
أَيْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا ابْتَلَاهُمْ
بِالتَّكْلِيفِ لِيُثِيبَ مَنْ آمَنَ وَيُعَاقِبَ مَنْ كَفَرَ
وعصى.
[سورة الفتح (48): آية 15]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ
لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ
قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا
بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا
انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها" يَعْنِي مَغَانِمَ
خَيْبَرَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ أَهْلَ
الْحُدَيْبِيَةِ فَتْحَ خَيْبَرَ، وَأَنَّهَا لَهُمْ خَاصَّةً
مَنْ غَابَ مِنْهُمْ وَمَنْ حَضَرَ. وَلَمْ يَغِبْ مِنْهُمْ
عَنْهَا غَيْرُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَسَمَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسَهْمِ
مَنْ حَضَرَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الْمُتَوَلِّي
لِلْقِسْمَةِ بِخَيْبَرَ جَبَّارَ بْنَ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيَّ
مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ مِنْ بَنِي
النَّجَّارِ، كَانَا حَاسِبَيْنِ قَاسِمَيْنِ." ذَرُونَا
نَتَّبِعْكُمْ" أَيْ دَعُونَا. تَقُولُ: ذَرْهُ، أَيْ دَعْهُ.
وَهُوَ يَذَرُهُ، أَيْ يَدَعُهُ. وَأَصْلُهُ وَذِرَهُ يَذَرُهُ
مِثَالُ وَسِعَهُ يَسَعُهُ. وَقَدْ أُمِيتَ صَدْرُهُ «1»، لَا
يُقَالُ: وَذَرَهُ وَلَا وَاذِرَ، وَلَكِنْ تَرَكَهُ وَهُوَ
تَارِكٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: تَخَلَّفُوا عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى
مَكَّةَ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ واخذ قوما
__________
(1). هذه العبارة الأصل وصحاح الجوهري. وعبارة اللسان:" والعرب
قد أماتت المصدر من" يذر" والفعل الماضي، فلا يقال ... " إلخ.
(16/270)
وَوَجَّهَ بِهِمْ قَالُوا ذَرُونَا
نَتَّبِعْكُمْ فَنُقَاتِلْ مَعَكُمْ." يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ" أَيْ يُغَيِّرُوا. قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى" فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ
فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا
مَعِيَ عَدُوًّا" «1» [التوبة: 83] الْآيَةَ. وَأَنْكَرَ هَذَا
الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، بِسَبَبِ أَنَّ غَزْوَةَ
تَبُوكٍ كَانَتْ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَبَعْدَ فَتْحِ
مَكَّةَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يُرِيدُونَ أَنْ يُغَيِّرُوا
وَعْدَ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ،
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُمْ غَنَائِمَ
خَيْبَرَ عِوَضًا عَنْ فَتْحِ مَكَّةَ إِذْ رَجَعُوا مِنَ
الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى صُلْحٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ،
وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ
التَّأْوِيلِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" كَلِمَ"
بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ اللَّامِ جَمْعُ كَلِمَةٍ،
نَحْوَ سَلِمَةٍ وَسَلِمَ. الْبَاقُونَ" كَلَامَ" عَلَى
الْمَصْدَرِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ،
اعتبارا بِقَوْلِهِ" إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ
بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي" «2» [الأعراف: 144]. وَالْكَلَامُ:
مَا اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ مِنَ الْجُمَلِ. قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: الْكَلَامُ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى
الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَالْكَلِمُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ
مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ لِأَنَّهُ جَمْعُ كَلِمَةٍ، مِثْلُ
نَبِقَةٍ وَنَبِقٍ. وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: (هَذَا بَابُ
عِلْمِ مَا الْكَلِمُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ) وَلَمْ يَقُلْ مَا
الْكَلَامُ، لِأَنَّهُ أَرَادَ نَفْسَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءٍ:
الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَالْحَرْفُ، فَجَاءَ بِمَا لَا يَكُونُ
إِلَّا جَمْعًا، وَتَرَكَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ عَلَى
الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ. وَتَمِيمٌ تَقُولُ: هِيَ كِلْمَةٌ،
بِكَسْرِ الْكَافِ، وَقَدْ مَضَى فِي" بَرَاءَةٌ" الْقَوْلُ
فِيهَا «3»." كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ" أَيْ مِنْ
قَبْلِ رُجُوعِنَا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِنَّ غَنِيمَةَ
خَيْبَرَ لِمَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ خَاصَّةً."
فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا" أَنْ نُصِيبَ مَعَكُمْ
مِنَ الْغَنَائِمِ. وَقِيلَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،] إِنْ خَرَجْتُمْ لَمْ
أَمْنَعْكُمْ إِلَّا أَنَّهُ لَا سَهْمَ لَكُمْ [. فَقَالُوا:
هَذَا حَسَدٌ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: قَدْ أَخْبَرَنَا
اللَّهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ بِمَا سَيَقُولُونَهُ وَهُوَ
قَوْلُهُ تعالى" فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا" فقال الله
تعالى" بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا" يَعْنِي
لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا أَمْرَ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: لَا
يَفْقَهُونَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ إِلَّا قَلِيلًا، وَهُوَ ترك
القتال.
__________
(1). آية 83 سورة التوبة. [ ..... ]
(2). آية 144 سورة الأعراف.
(3). راجع ج 8 ص 149]]
(16/271)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ
مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا
يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
(16)
[سورة الفتح (48): آية 16]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ
يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً
حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ" أَيْ قُلْ
لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ."
سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ" قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ
أَبِي لَيْلَى وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هُمْ فَارِسُ.
وَقَالَ كَعْبٌ وَالْحَسَنُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي
لَيْلَى: الرُّومُ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: فَارِسُ
وَالرُّومُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هَوَازِنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَوَازِنُ
وَغَطَفَانُ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ
وَمُقَاتِلٌ: بَنُو حَنِيفَةَ أَهْلُ الْيَمَامَةِ أَصْحَابُ
مُسَيْلِمَةَ. وَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ
كُنَّا نَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَا مَضَى" سَتُدْعَوْنَ
إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ" فَلَا نَعْلَمُ مَنْ هُمْ
حَتَّى دَعَانَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ
فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ هُمْ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ
تَأْتِ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَرُدُّهُ.
الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ
إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَعَاهُمْ إِلَى قِتَالِ بَنِي
حَنِيفَةَ، وَعُمَرَ دَعَاهُمْ إِلَى قِتَالِ فَارِسَ
وَالرُّومِ. وَأَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ إِنَّ
ذَلِكَ فِي هَوَازِنَ وَغَطَفَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَا،
لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي لَهُمُ
الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ قَالَ" لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا"
«1» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّاعِي غَيْرُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْلُومٌ
أَنَّهُ لَمْ يَدْعُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بَعْدَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ
صَحَّ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ فَالْمَعْنَى لَنْ تَخْرُجُوا
مَعِيَ أَبَدًا مَا دُمْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
مَرَضِ الْقُلُوبِ وَالِاضْطِرَابِ فِي الدِّينِ.
__________
(1). آية 83 سورة التوبة.
(16/272)
لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى
الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
أَوْ عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ كَانَ
الْمَوْعِدُ أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مُتَطَوِّعِينَ لَا
نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْمَغْنَمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ «1».
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ
يُسْلِمُونَ" هَذَا حُكْمُ مَنْ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمُ
الْجِزْيَةُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى" تُقاتِلُونَهُمْ" أَيْ
يَكُونُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا الْمُقَاتَلَةُ وَإِمَّا
الْإِسْلَامُ، لَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ"
أَوْ يُسْلِمُوا" بِمَعْنَى حَتَّى يُسْلِمُوا، كَمَا تَقُولُ:
كُلْ أو تشبع، أي حتى تشبع. قَالَ:
فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا ... نُحَاوِلُ
مُلْكًا أَوْ نَمُوتُ فَنُعْذَرَا «2»
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ" أَوْ يُسْلِمُونَ" لِأَنَّ
الْمَعْنَى أَوْ هُمْ يُسْلِمُونَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ.
وَهَذَا فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ لَا فِي أَهْلِ
الْكِتَابِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ
تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً" الْغَنِيمَةَ
وَالنَّصْرَ فِي الدُّنْيَا، وَالْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ."
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ" عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ." يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً" وهو عذاب
النار.
[سورة الفتح (48): آية 17]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ
وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً
(17)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ" وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً
أَلِيماً" قَالَ أَهْلُ الزَّمَانَةِ: كَيْفَ بِنَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ فَنَزَلَتْ" لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ
وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ"
أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ
لِعَمَاهُمْ وَزَمَانَتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ. وَقَدْ مَضَى فِي"
بَرَاءَةٌ" وَغَيْرِهَا الْكَلَامُ فِيهِ مُبَيَّنًا «3».
وَالْعَرَجُ: آفَةٌ تَعْرِضُ لِرِجْلٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ مُؤَثِّرًا فَخَلَلُ الرِّجْلَيْنِ أَوْلَى أَنْ
يُؤَثِّرَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ أهل الزمانة
__________
(1). زيادة من ب ز ك ن.
(2). البيت لامرئ القيس.
(3). راجع ج 8 ص 226 وج 12 ص 312
(16/273)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ
عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ
كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
(19)
الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ
الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ عَذَرَهُمْ. أَيْ مَنْ شَاءَ أَنْ
يَسِيرَ مِنْهُمْ مَعَكُمْ إِلَى خَيْبَرَ فَلْيَفْعَلْ."
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" فِيمَا أَمَرَهُ."
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ"
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ" نُدْخِلْهُ" بِالنُّونِ عَلَى
التَّعْظِيمِ. الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو
عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِتَقَدُّمِ اسْمِ اللَّهِ
أَوَّلًا." وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً".
[سورة الفتح (48): الآيات 18 الى 19]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ
السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18)
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً
حَكِيماً (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ" هَذِهِ
بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَكَانَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَهَذَا
خَبَرُ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى اخْتِصَارٍ: وَذَلِكَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ
مُنْصَرَفَهُ مِنْ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي شَوَّالٍ،
وَخَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مُعْتَمِرًا، وَاسْتَنْفَرَ
الْأَعْرَابَ الَّذِينَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ فَأَبْطَأَ عَنْهُ
أَكْثَرُهُمْ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَجَمِيعُهُمْ نَحْوُ
أَلْفٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ. وَقِيلَ: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ.
وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا، عَلَى مَا يَأْتِي. وَسَاقَ مَعَهُ
الْهَدْيَ، فَأَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ
لِحَرْبٍ، فَلَمَّا بَلَغَ خُرُوجَهُ قُرَيْشًا خَرَجَ
جَمْعُهُمْ صَادِّينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَدُخُولِ
مَكَّةَ، وَإِنَّهُ إِنْ قَاتَلَهُمْ قَاتَلُوهُ دُونَ ذَلِكَ،
وَقَدَّمُوا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي خَيْلٍ إِلَى
(كُرَاعِ الْغَمِيمِ) «1» فَوَرَدَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
(بِعُسْفَانَ) «2» وَكَانَ الْمُخْبِرُ لَهُ بِشْرُ بْنُ
سُفْيَانَ الْكَعْبِيُّ، فَسَلَكَ طَرِيقًا يَخْرُجُ بِهِ فِي
ظُهُورِهِمْ، وَخَرَجَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ
مَكَّةَ، وَكَانَ دَلِيلُهُ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ،
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ خَيْلَ قُرَيْشٍ الَّتِي مَعَ خالد،
جرت إلى قريش تعلمهم بذلك،
__________
(1). لسمم موضع بين مكة والمدينة.
(2). عسفان (بضم أوله وسكون ثانيه): منهلة من مناهل الطريق بين
الحجفة ومكة. وقيل: على مرحلتين من مكة على طريق المدينة.
(معجم البلدان).
(16/274)
فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ «1»
بَرَكَتْ نَاقَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
النَّاسُ: خَلَأَتْ! خَلَأَتْ! «2» فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَا خَلَأَتْ وَمَا هُوَ لَهَا
بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكَّةَ،
لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي
فِيهَا صِلَةَ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا [.
ثُمَّ نَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَاكَ،
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ بِهَذَا الْوَادِي
مَاءٌ! فَأَخْرَجَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَهْمًا
مِنْ كِنَانَتِهِ فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَنَزَلَ فِي قَلِيبٍ مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ فَغَرَزَهُ فِي
جَوْفِهِ فَجَاشَ بِالْمَاءِ الرَّوَّاءِ»
حَتَّى كَفَى جَمِيعَ الْجَيْشِ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي
نَزَلَ بِالسَّهْمِ فِي الْقَلِيبِ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبِ
بْنِ عُمَيْرٍ الْأَسْلَمِيُّ وَهُوَ سَائِقُ بُدْنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ.
وَقِيلَ: نَزَلَ بِالسَّهْمِ فِي الْقَلِيبِ الْبَرَاءُ بْنُ
عَازِبٍ، ثُمَّ جَرَتِ السُّفَرَاءُ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كُفَّارِ
قُرَيْشٍ، وَطَالَ التَّرَاجُعُ وَالتَّنَازُعُ إِلَى أن جاءه
سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعَامِرِيُّ، فَقَاضَاهُ عَلَى أَنْ
يَنْصَرِفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَامَهُ ذَلِكَ،
فَإِذَا كَانَ مِنْ قَابِلٍ أَتَى مُعْتَمِرًا وَدَخَلَ هُوَ
وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، حَاشَا السُّيُوفِ
فِي قُرُبِهَا فَيُقِيمُ بِهَا ثَلَاثًا وَيَخْرُجُ، وَعَلَى
أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ صُلْحٌ عَشَرَةَ
أَعْوَامٍ، يَتَدَاخَلُ فِيهَا النَّاسُ وَيَأْمَنُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا، وَعَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى
الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمًا مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ رُدَّ
إِلَى الْكُفَّارِ، وَمَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى
الْكُفَّارِ مُرْتَدًّا لَمْ يَرُدُّوهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ،
فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى كَانَ
لِبَعْضِهِمْ فِيهِ كَلَامٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ
مِنْ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ لِلْمُسْلِمِينَ فَرَجًا، فَقَالَ
لِأَصْحَابِهِ.] اصْبِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ هَذَا
الصُّلْحَ سَبَبًا إِلَى ظُهُورِ دِينِهِ [فَأَنِسَ النَّاسُ
إِلَى قَوْلِهِ هَذَا بَعْدَ نِفَارٍ مِنْهُمْ، وَأَبَى
سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أَنْ يَكْتُبَ فِي صَدْرِ صَحِيفَةِ
الصُّلْحِ: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَالُوا لَهُ:
لَوْ صَدَّقْنَاكَ بِذَلِكَ مَا دَفَعْنَاكَ عَمَّا تُرِيدُ!
فَلَا بُدَّ أَنْ تَكْتُبَ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ. فَقَالَ
لِعَلِيٍّ وَكَانَ يَكْتُبُ صَحِيفَةَ الصُّلْحِ:] امْحُ يَا
عَلِيُّ، وَاكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ [فَأَبَى عَلِيٌّ
أَنْ يَمْحُوَ بِيَدِهِ" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:]
اعْرِضْهُ عَلَيَّ [فَأَشَارَ إِلَيْهِ فَمَحَاهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ،
وَأَمَرَهُ أن
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ك.
(2). خلات الناقة: حزنت وبركت من غير علة.
(3). الرواء: الكثير.
(16/275)
يَكْتُبَ] مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ [. وَأَتَى أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ يَوْمئِذٍ
بِأَثَرِ كِتَابِ الصُّلْحِ وَهُوَ يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ،
فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى أَبِيهِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ أَبَا جَنْدَلٍ] أَنَّ اللَّهَ
سَيَجْعَلُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا [. وَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الصُّلْحِ
قَدْ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى مَكَّةَ رَسُولًا،
فَجَاءَ خَبَرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَتَلُوهُ، فَدَعَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ إِلَى
الْمُبَايَعَةِ لَهُ عَلَى الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ لِأَهْلِ
مَكَّةَ، فَرُوِيَ أَنَّهُ بَايَعَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ بَايَعَهُمْ عَلَى أَلَّا يَفِرُّوا. وَهِيَ
بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، الَّتِي أَخْبَرَ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ رَضِيَ عَنِ الْمُبَايِعِينَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَحْتَهَا. وَأَخْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ النَّارَ.
وَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بيمينه على شِمَالِهِ لِعُثْمَانَ، فَهُوَ كَمَنْ شَهِدَهَا.
وَذَكَرَ وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ
أَبُو سُفْيَانَ الْأَسَدِيُّ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعُمِائَةٍ، فَبَايَعْنَاهُ
وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَهِيَ سَمُرَةُ
«1»، وَقَالَ: بَايَعْنَاهُ عَلَى أَلَّا نَفِرَّ وَلَمْ
نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ
جَابِرًا يَسْأَلُ: كَمْ كَانُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟
قَالَ: كُنَّا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، فَبَايَعْنَاهُ
وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَهِيَ سَمُرَةُ،
فَبَايَعْنَاهُ، غَيْرَ جَدِّ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ
اخْتَبَأَ تَحْتَ بَطْنِ بَعِيرِهِ. وَعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ
أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ. فَقَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ
لَكَفَانَا، كُنَّا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ:
كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ أَلْفًا
وَثَلَاثمِائَةٍ، وَكَانَتْ أَسْلَمُ ثُمُنَ الْمُهَاجِرِينَ.
وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ قُلْتُ لِسَلَمَةَ:
عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ:
عَلَى الْمَوْتِ. وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ:
كَتَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصُّلْحَ بَيْنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ
الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَكَتَبَ: هَذَا مَا
كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ] صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فَقَالُوا:
__________
(1). السمرة: شجر الطلح.
(16/276)
لَا تَكْتُبْ رَسُولَ اللَّهِ، فَلَوْ
نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ. فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ:]
امْحُهُ [. فَقَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَمَحَاهُ «1»،
فَمَحَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِيَدِهِ. وَكَانَ فِيمَا اشْتَرَطُوا: أَنْ يَدْخُلُوا
مَكَّةَ فَيُقِيمُوا فِيهَا ثَلَاثًا، وَلَا يَدْخُلُهَا
بِسِلَاحٍ إِلَّا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ.] قُلْتُ لِأَبِي
إِسْحَاقَ: وَمَا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ؟ قَالَ: «2»
[الْقِرَابُ وَمَا فِيهِ. وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ قُرَيْشًا
صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ:] اكْتُبْ بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فَقَالَ سُهَيْلُ بن عمرو:
أما باسم «3» اللَّهِ، فَمَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ! وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ:
بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ. فَقَالَ:] اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ
رَسُولِ اللَّهِ [قَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُهُ
لَاتَّبَعْنَاكَ! وَلَكِنِ اكْتُبَ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:]
اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ [فَاشْتَرَطُوا
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ
مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ
جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا. فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَنَكْتُبُ هَذَا! قَالَ:] نَعَمْ إِنَّهُ
مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَمَنْ
جَاءَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا
وَمَخْرَجًا [. وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَامَ سَهْلُ بْنُ
حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ،
اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ
وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، وَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ
الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ. فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ]
بَلَى [قَالَ. أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ
وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ] بَلَى [قَالَ فَفِيمَ
نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا
يَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ] يَا بْنَ
الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي
اللَّهُ أَبَدًا [قَالَ: فَانْطَلَقَ عُمَرُ، فَلَمْ يَصْبِرْ
مُتَغَيِّظًا فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ،
أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ بَلَى،
قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي
النَّارِ؟ قَالَ بَلَى. قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ
فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يَا بْنَ الْخَطَّابِ، إِنَّهُ رَسُولُ
اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا. قَالَ: فَنَزَلَ
القرآن على رسول الله صلى
__________
(1). أمحاه: لغة في أمحوه.
(2). زيادة عن مسلم. [ ..... ]
(3). قوله:" أما باسم الله ... " أي فنحن ندريه. وأما البسملة
التي تذكرها بتمامها فما ندريها.
(16/277)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ
مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْحِ،
فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أو
فتح هُوَ؟ قَالَ] نَعَمْ [. فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ" مِنَ
الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ وَقَتَادَةُ: مِنَ الرِّضَا بِأَمْرِ الْبَيْعَةِ
عَلَى أَلَّا يَفِرُّوا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْ كَرَاهَةِ
الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُ عَلَى الْمَوْتِ."
فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ" حَتَّى بَايَعُوا
وَقِيلَ:" فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ" مِنَ الْكَآبَةِ
بِصَدِّ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ وَتَخَلُّفِ رُؤْيَا النبي
صلى الله على وسلم عنهم، إذا رَأَى أَنَّهُ يَدْخُلُ
الْكَعْبَةَ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِنَّمَا ذَلِكَ رُؤْيَا مَنَامٍ [.
وَقَالَ الصِّدِّيقُ: لَمْ يَكُنْ فِيهَا الدُّخُولُ فِي هَذَا
الْعَامِ. وَالسَّكِينَةُ: الطُّمَأْنِينَةُ وَسُكُونُ
النَّفْسِ إِلَى صِدْقِ الْوَعْدِ. وَقِيلَ الصَّبْرُ."
وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً" قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي
لَيْلَى: فتح خيبر. وقيل فتح مكة. وقرى" وَآتَاهُمْ""
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها" يَعْنِي أَمْوَالَ
خَيْبَرَ، وَكَانَتْ خَيْبَرُ ذَاتَ عَقَارٍ وَأَمْوَالٍ،
وَكَانَتْ بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَكَّةَ. فَ" مَغانِمَ"
عَلَى هَذَا بَدَلٌ مِنْ" فَتْحاً قَرِيباً" وَالْوَاوُ
مُقْحَمَةٌ. وَقِيلَ:" وَمَغانِمَ" فارس والروم.
[سورة الفتح (48): آية 20]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها
فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً
مُسْتَقِيماً (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً
تَأْخُذُونَها" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. إِنَّهَا
الْمَغَانِمُ الَّتِي تَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مَغَانِمُ خَيْبَرَ." فَعَجَّلَ
لَكُمْ هذِهِ" أَيْ خَيْبَرَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجَّلَ لَكُمْ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ."
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ" يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ،
كَفَّهُمْ عَنْكُمْ بِالصُّلْحِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَفَّ
أَيْدِي الْيَهُودِ عَنِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ خُرُوجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْحُدَيْبِيَةِ وَخَيْبَرَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ،
لِأَنَّ كَفَّ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ
مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ" وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ" «1» [الفتح: 24]. وقال ابن
__________
(1). آية 24 من هذه السورة.
(16/278)
وَأُخْرَى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
عَبَّاسٍ: فِي" كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ
عَنْكُمْ" يَعْنِي عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الْفَزَارِيَّ
وَعَوْفَ بْنَ مَالِكٍ النَّضْرِيَّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا،
إِذْ جَاءُوا لِيَنْصُرُوا أَهْلَ خَيْبَرَ وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَاصِرٌ لَهُمْ،
فَأَلْقَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
وَكَفَّهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ" وَلِتَكُونَ آيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ" أَيْ وَلِتَكُونَ هَزِيمَتُهُمْ
وَسَلَامَتُكُمْ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ يَحْرُسُهُمْ فِي مَشْهَدِهِمْ وَمَغِيبِهِمْ. وقيل:
أي ولتكون كَفُّ أَيْدِيهِمْ عَنْكُمْ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَقِيلَ: أَيْ وَلِتَكُونَ هَذِهِ الَّتِي عَجَّلَهَا لَكُمْ
آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِدْقِكَ حَيْثُ وَعَدْتَهُمْ
أَنْ يُصِيبُوهَا. وَالْوَاوُ فِي" وَلِتَكُونَ" مُقْحَمَةٌ
عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: عَاطِفَةٌ
عَلَى مُضْمَرٍ، أَيْ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ
لِتَشْكُرُوهُ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ."
وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً" أَيْ يَزِيدُكُمْ هُدًى،
أَوْ يُثَبِّتُكُمْ عَلَى الهداية.
[سورة الفتح (48): آية 21]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأُخْرى "" أُخْرَى" مَعْطُوفَةٌ عَلَى"
هذِهِ"، أَيْ فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ الْمَغَانِمَ
وَمَغَانِمَ أُخْرَى." لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ
اللَّهُ بِها" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْفُتُوحُ الَّتِي
فُتِحَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، كَأَرْضِ فَارِسَ وَالرُّومِ،
وَجَمِيعِ مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ
إِسْحَاقَ: هِيَ خَيْبَرُ، وَعَدَهَا اللَّهُ نَبِيَّهُ قَبْلَ
أَنْ يَفْتَحَهَا، وَلَمْ يَكُونُوا يَرْجُونَهَا حَتَّى
أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ بِهَا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا
وَقَتَادَةَ: هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
حُنَيْنٌ، لِأَنَّهُ قَالَ" لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها".
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ مُحَاوَلَةٍ لَهَا وَفَوَاتِ
دَرْكِ الْمَطْلُوبِ فِي الْحَالِ كَمَا كَانَ فِي مَكَّةَ،
قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مَا يَكُونُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَعْنَى" قَدْ أَحاطَ اللَّهُ
بِها" أَيْ أَعَدَّهَا لَكُمْ، فَهِيَ كَالشَّيْءِ الَّذِي
قَدْ أُحِيطَ بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ، فَهُوَ مَحْصُورٌ لَا
يَفُوتُ، فَأَنْتُمْ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا فِي
الْحَالِ فَهِيَ مَحْبُوسَةٌ عَلَيْكُمْ لَا تَفُوتُكُمْ.
وَقِيلَ:" أَحاطَ اللَّهُ بِها" عَلِمَ أَنَّهَا سَتَكُونُ
لَكُمْ، كَمَا قَالَ" وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عِلْماً" «1» [الطلاق: 12]. وَقِيلَ: حَفِظَهَا اللَّهُ
عَلَيْكُمْ. لِيَكُونَ فَتْحُهَا لَكُمْ." وَكانَ اللَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً".
__________
(1). آية 12 سورة الطلاق.] [
(16/279)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا
يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)
[سورة الفتح (48): الآيات 22 الى 23]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ
ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ
اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ" قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي كُفَّارَ
قُرَيْشٍ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. وَقِيلَ:" وَلَوْ قاتَلَكُمُ"
غَطَفَانُ وَأَسَدٌ وَالَّذِينَ أَرَادُوا نُصْرَةَ أَهْلِ
خَيْبَرَ، لَكَانَتِ الدَّائِرَةُ عَلَيْهِمْ." ثُمَّ لَا
يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ" يعني طريقة الله وعادته السَّالِفَةُ
نَصْرُ أَوْلِيَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ. وَانْتَصَبَ"
سُنَّةَ"
عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ:" سُنَّةَ اللَّهِ" أَيْ كَسُنَّةِ
اللَّهِ. وَالسُّنَّةُ الطَّرِيقَةُ وَالسِّيرَةُ. قَالَ:
فَلَا تَجْزَعَنَّ مِنْ سِيرَةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ...
فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا «1»
وَالسُّنَّةُ أَيْضًا: ضَرْبٌ مِنْ تَمْرِ المدينة." وَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا".
[سورة الفتح (48): آية 24]
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ
عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ" وَهِيَ
الْحُدَيْبِيَةُ." مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ"
رَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا
مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ جَبَلِ التَّنْعِيمِ «2»
مُتَسَلِّحِينَ يُرِيدُونَ غِرَّةَ «3» النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَأَخَذْنَاهُمْ
«4» سِلْمًا
__________
(1). البيت لخالد بن عتبة الهذلي.
(2). التنعيم: موضع بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف.
(3). الغرة (بالكسر): الغفلة، أي يريدون أن يصادفوا منه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن أصحابه غفلة من التأهب لهم.
(4). رواية مسلم:" فأخذهم سلما فاستحياهم". وقوله" سلما" قال
ابن الأثير:" يروي بكسر السين وفتحها، وهما لغتان في الصلح،
وهو المراد في الحديث على ما فسره الحميدي في غريبه. وقال
الخطابي: إنه السلم، بفتح السين واللام، يريد الاستسلام
والإذعان .... وهذا هو الأشبه بالقضية، فإنهم لم يؤخذوا عن صلح
وإنما أخذوا قهرا وأسلموا أنفسهم عجزا ... ".
(16/280)
فَاسْتَحْيَيْنَاهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى" وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةَ فِي أَصْلِ
الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، فَبَيْنَا
نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا
عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ فَثَارُوا فِي وُجُوهِنَا فَدَعَا
عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخَذَ اللَّهُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هَلْ جِئْتُمْ
فِي عَهْدِ أَحَدٍ أَوْ هَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا [.
قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ. فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى:" وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ" الْآيَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ عَنْ وَكِيعٍ:
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ جَاءَ مِنْهُمْ نَحْوُ سَبْعِينَ
رَجُلًا أَوْ ثَمَانِينَ رَجُلًا لِلْإِيقَاعِ
بِالْمُسْلِمِينَ وَانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ فِي أَطْرَافِهِمْ،
فَفَطِنَ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ فَأَخَذُوهُمْ أَسَرَى،
وَكَانَ ذَلِكَ وَالسُّفَرَاءُ يَمْشُونَ بَيْنَهُمْ فِي
الصُّلْحِ، فَأَطْلَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمُ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ
الْعُتَقَاءَ، وَمِنْهُمْ مُعَاوِيَةُ وَأَبُوهُ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: أَقْبَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُعْتَمِرًا، إِذْ أَخَذَ أَصْحَابُهُ نَاسًا مِنَ
الْحَرَمِ غَافِلِينَ فَأَرْسَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ الْإِظْفَارُ بِبَطْنِ
مَكَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُقَالُ لَهُ زُنَيْمٌ، اطَّلَعَ الثَّنِيَّةَ مِنَ
الْحُدَيْبِيَةِ فَرَمَاهُ الْمُشْرِكُونَ بِسَهْمٍ
فَقَتَلُوهُ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَيْلًا فَأَتَوْا بِاثْنَيْ عَشَرَ فَارِسًا مِنَ
الْكُفَّارِ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هَلْ لَكُمْ عَلَيَّ ذِمَّةٌ [؟ قَالُوا
لَا؟ فَأَرْسَلَهُمْ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ أَبْزَى
وَالْكَلْبِيُّ: هُمْ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، كَفَّ اللَّهُ
أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى وَقَعَ الصُّلْحُ،
وَكَانُوا خَرَجُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَقَصَدُوا الْمُسْلِمِينَ،
وَكَفَّ أَيْدِيَ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَانَ فِي خَيْلِ
الْمُشْرِكِينَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ «1»: فَهَذِهِ
رِوَايَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَدْ
قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: كَانُوا فِي أَمْرِ
الصُّلْحِ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ، فَإِذَا الْوَادِي
يَسِيرُ بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ، قَالَ: فَجِئْتُ بِسِتَّةٍ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَسُوقُهُمْ مُتَسَلِّحِينَ لَا
يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، فَأَتَيْتُ
بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ عُمَرُ قَالَ فِي الطَّرِيقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
نَأْتِي قَوْمًا حَرْبًا وَلَيْسَ مَعَنَا سِلَاحٌ وَلَا
كُرَاعٌ؟ فَبَعَثَ
__________
(1). وجد في هامش ك بخط الناسخ ما نصه: حاشية تعقب بعضهم هذا
الكلام وقال: هذا باطل وإنما أسلم خالد بن وليد بعد الحديبية
بزمن كثير. قال: وإن كان ابن عبد البر ذكر أنه كان على خيل
المسلمين بالحديبية فإنه وهم. قال بعضهم: حاشا ابن عبد البر أن
يظن به هذا وقد تقدم بورقتين: أنه كان على خيل المشركين يومئذ
وهذا أمر معلوم ولكن القشيري ليس هذا من علمه والمؤلف ينقل ما
وجد وخالد أسلم بعد الحديبية بستة أشهر.
(16/281)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الطَّرِيقِ فَأَتَوْهُ
بِكُلِّ سِلَاحٍ وَكُرَاعٍ كَانَ فِيهَا، وَأُخْبِرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِكْرِمَةَ
بْنَ أَبِي جَهْلٍ خرج إليك فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ:] هَذَا ابْنُ عَمِّكَ أَتَاكَ فِي
خَمْسِمِائَةٍ [. فَقَالَ خَالِدٌ: أَنَا سَيْفُ اللَّهِ
وَسَيْفُ رَسُولِهِ، فَيَوْمئِذٍ سُمِّيَ بِسَيْفِ اللَّهِ،
فَخَرَجَ وَمَعَهُ خَيْلٌ وَهَزَمَ الْكُفَّارَ وَدَفَعَهُمْ
إِلَى حَوَائِطِ مَكَّةَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ،
وَكَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ
بِالنَّبْلِ وَالظُّفْرِ «1». وَقِيلَ: أَرَادَ بِكَفِّ
الْيَدِ أَنَّهُ شَرَطَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مَنْ جَاءَنَا
مِنْهُمْ فَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ أَقْوَامٌ مِنْ
مَكَّةَ مُسْلِمُونَ وَخَافُوا أَنْ يَرُدَّهُمُ الرَّسُولُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فلحقوا
بِالسَّاحِلِ، وَمِنْهُمْ أَبُو بَصِيرٍ، وَجَعَلُوا
يُغِيرُونَ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَأْخُذُونَ عِيرَهُمْ، حَتَّى
جَاءَ كِبَارُ قُرَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: اضْمُمْهُمْ إِلَيْكَ حَتَّى
نَأْمَنَ، فَفَعَلَ. وَقِيلَ: هَمَّتْ غَطَفَانُ وَأَسَدٌ
مَنْعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ، لِأَنَّهُمْ
كَانُوا حُلَفَاءَهُمْ فَمَنَعَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ،
فَهُوَ كَفُّ الْيَدِ." بِبَطْنِ مَكَّةَ" فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا- يُرِيدُ بِهِ مَكَّةَ. الثَّانِي-
الْحُدَيْبِيَةَ، لِأَنَّ بَعْضَهَا مُضَافٌ إِلَى الْحَرَمِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ" مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ" بِفَتْحِ مكة. تكون هَذِهِ نَزَلَتْ
بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ
فُتِحَتْ صُلْحًا، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ". قُلْتُ:
الصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي
الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، حَسْبَ مَا
قَدَّمْنَاهُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ
حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ
عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ ثَمَانِينَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ جَبَلِ
التَّنْعِيمِ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ
يَقْتُلُوهُ، فَأُخِذُوا أَخْذًا فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى:" وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ" الْآيَةَ. قَالَ أَبُو
عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا فَتْحُ مَكَّةَ فَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ
الْأَخْبَارُ أَنَّهَا إِنَّمَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَقَدْ
مَضَى الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي" الْحَجِّ" «2» وَغَيْرِهَا."
وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً".
__________
(1). الظفر (بالضم): طرف القوس.
(2). راجع ج 12 ص 33
(16/282)
هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا
رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ
أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ
عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (25)
[سورة الفتح (48): آية 25]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ
وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ
مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ
مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ
عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ". فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا" يَعْنِي
قُرَيْشًا، مَنَعُوكُمْ دُخُولَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أَحْرَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ بِعُمْرَةٍ، وَمَنَعُوا
الْهَدْي وَحَبَسُوهُ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. وَهَذَا
كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَلَكِنَّهُ حَمَلَتْهُمُ
الْأَنَفَةُ وَدَعَتْهُمْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى
أَنْ يَفْعَلُوا مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ دِينًا،
فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ،
وَأَدْخَلَ الْأُنْسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِهِ وَوَعْدِهِ. الثَّانِيَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً" أَيْ مَحْبُوسًا.
وَقِيلَ مَوْقُوفًا «1». وَقَالَ أَبُو عمرو ابن الْعَلَاءِ:
مَجْمُوعًا. الْجَوْهَرِيُّ: عَكْفُهُ أَيْ حَبْسُهُ
وَوَقْفُهُ، يَعْكِفُهُ وَيَعْكُفُهُ عَكْفًا، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً"، يُقَالُ: مَا
عَكَفَكَ عَنْ كَذَا. وَمِنْهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ
وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ." أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ" أَيْ
مَنْحَرَهُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَرَمُ. وَكَذَا قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الْمُحْصَرُ مَحِلُّ
هَدْيِهِ الْحَرَمُ. وَالْمَحِلُّ (بِكَسْرِ الْحَاءِ):
غَايَةُ الشَّيْءِ. (وَبِالْفَتْحِ): هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي
يَحِلُّهُ النَّاسُ. وَكَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ بَدَنَةً،
وَلَكِنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَهُ
مَحِلًّا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا عَلَى مَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي" الْبَقَرَةِ" عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى" فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ" «2» وَالصَّحِيحُ مَا
ذَكَرْنَاهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ
عن جابر
__________
(1). في الأصول:" واقفا".
(2). راجع ج 2 ص 371 طبعه ثانية.
(16/283)
ابن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ
عَنْ سَبْعَةٍ. وَعَنْهُ قَالَ: اشْتَرَكْنَا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ. فَقَالَ رَجُلٌ
لِجَابِرٍ: أَيَشْتَرِكُ فِي الْبَدَنَةِ مَا يَشْتَرِكُ فِي
الْجَزُورِ؟ قَالَ: مَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْبُدْنِ. وَحَضَرَ
جَابِرٌ الْحُدَيْبِيَةَ قَالَ: وَنَحَرْنَا يَوْمئِذٍ
سَبْعِينَ بَدَنَةً، اشْتَرَكْنَا كُلُّ سَبْعَةٍ فِي
بَدَنَةٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُعْتَمِرِينَ، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ
الْبَيْتِ، فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَدَنَةً وَحَلَقَ رَأْسَهُ. قِيلَ: إِنَّ الَّذِي
حَلَقَ رَأْسَهُ يَوْمئِذٍ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي
الْعِيصِ الْخُزَاعِيُّ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْحَرُوا
وَيَحِلُّوا، فَفَعَلُوا بَعْدَ تَوَقُّفٍ كَانَ مِنْهُمْ
أَغْضَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ: لَوْ نَحَرْتَ لَنَحَرُوا،
فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هَدْيَهُ وَنَحَرُوا بِنَحْرِهِ، وَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ وَدَعَا
لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً.
وَرَأَى كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ وَالْقَمْلُ يَسْقُطُ عَلَى
وَجْهِهِ، فَقَالَ:] أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ [؟ قَالَ نَعَمْ،
فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةَ. خَرَّجَهُ
الْبُخَارِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَدْ مَضَى فِي"
الْبَقَرَةِ" «1». الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَالْهَدْيَ" الهدى والهدى لغتان. وقرى" حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ" بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ،
الْوَاحِدَةُ هَدِيَّةٌ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «2»
أَيْضًا. وَهُوَ معطوف على الكاف والميم من" صَدُّوكُمْ". و"
مَعْكُوفاً" حَالٌ، وَمَوْضِعُ" أَنْ" مِنْ قَوْلِهِ" أَنْ
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ" نُصِبَ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَمْلِ عَلَى"
صَدُّوكُمْ" أَيْ صَدُّوكُمْ وَصَدُّوا الْهَدْيَ عَنْ أَنْ
يَبْلُغَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، كَأَنَّهُ
قَالَ: وَصَدُّوا الْهَدْيَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَبْلُغَ
مَحِلَّهُ. أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى
الْعَكْفِ، لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ" عَكَفَ" جَاءَ
مُتَعَدِّيًا، وَمَجِيءُ" مَعْكُوفاً" فِي الْآيَةِ يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ لَمَّا
كَانَ حَبْسًا حُمِلَ الْمَعْنَى على ذلك، كما حما الرَّفَثُ
عَلَى مَعْنَى الْإِفْضَاءِ فَعُدِّيَ بِإِلَى، فَإِنْ حُمِلَ
عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَوْضِعُهُ نَصْبًا عَلَى قياس قول سيبويه،
وجرا على قياس
__________
(1). راجع ج 2 ص 383 طبعه ثانية.
(2). ج 2 ص 378. [ ..... ]
(16/284)
قَوْلِ الْخَلِيلِ. أَوْ يَكُونُ
مَفْعُولًا لَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَحْبُوسًا كَرَاهِيَةَ
أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. وَيَجُوزُ تَقْدِيرُ الْجَرِّ فِي"
أَنْ" لِأَنَّ عَنْ تَقَدَّمَتْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَصَدُّوا
الْهَدْيَ" عَنْ" أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. وَمِثْلُهُ مَا
حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ عَنْ يُونُسَ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ إِنْ
زَيْدٍ وَإِنْ عَمْرٍو، فَأُضْمِرَ الْجَارُّ لِتَقَدُّمِ
ذِكْرِهِ. قوله تعالى:" وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ
مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ
مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ" فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ"
يَعْنِي الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ
وَسَطَ الْكُفَّارِ، كَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ وَعَيَّاشِ بْنِ
أَبِي رَبِيعَةَ أبي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ،
وَأَشْبَاهِهِمْ." لَمْ تَعْلَمُوهُمْ" أَيْ تَعْرِفُوهُمْ.
وَقِيلَ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ." أَنْ
تَطَؤُهُمْ" بِالْقَتْلِ وَالْإِيقَاعِ بِهِمْ، يُقَالُ:
وَطِئْتُ الْقَوْمَ، أَيْ أوقعت بهم. و" أن" يَجُوزَ أَنْ
يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ" رِجَالٍ، وَنِسَاءٍ"
كَأَنَّهُ قَالَ وَلَوْلَا وَطْؤُكُمْ رِجَالًا مُؤْمِنِينَ
وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى
الْبَدَلِ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي" تَعْلَمُوهُمْ"،
فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَمْ تَعْلَمُوا وَطْأَهُمْ، وَهُوَ
فِي الْوَجْهَيْنِ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ." لَمْ تَعْلَمُوهُمْ"
نَعْتٌ لِ" رجال" و" نساء". وجواب" لَوْلا" مَحْذُوفٌ،
وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ أَنْ تَطَئُوا رِجَالًا مُؤْمِنِينَ
وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لَأَذِنَ اللَّهُ
لَكُمْ فِي دُخُولِ مَكَّةَ، وَلَسَلَّطَكُمْ عَلَيْهِمْ،
وَلَكِنَّا صُنَّا من كان فيها يكتم إيمانه خوفا. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: لَوْلَا مَنْ فِي أَصْلَابِ الْكُفَّارِ
وَأَرْحَامِ نِسَائِهِمْ مِنْ رِجَالٍ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءٍ
مُؤْمِنَاتٍ لَمْ تَعْلَمُوا أَنْ تَطَئُوا آبَاءَهُمْ
فَتُهْلَكُ أَبْنَاؤُهُمْ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ"
الْمَعَرَّةُ الْعَيْبُ، وَهِيَ مَفْعَلَةٌ مِنَ الْعُرِّ
وَهُوَ الْجَرَبُ، أَيْ يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ قَتَلُوا
أَهْلَ دِينِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يُصِيبُكُمْ مِنْ
قَتْلِهِمْ مَا يَلْزَمُكُمْ مِنْ أَجْلِهِ كَفَّارَةُ قَتْلِ
الْخَطَأِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَوْجَبَ عَلَى
قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ
هَاجَرَ مِنْهَا وَلَمْ يُعْلَمْ بِإِيمَانِهِ الْكَفَّارَةَ
دُونَ الدِّيَةِ فِي قَوْلِهِ:" فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ
عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ" [النساء: 92] قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ
وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ مَضَى
(16/285)
فِي" النِّسَاءِ" الْقَوْلُ فِيهِ «1».
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:" مَعَرَّةٌ" إِثْمٌ. وَقَالَ
الْجَوْهَرِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ: غُرْمُ الدِّيَةِ.
قُطْرُبٌ: شِدَّةٌ. وَقِيلَ غَمٌّ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" بِغَيْرِ عِلْمٍ" تَفْضِيلٌ لِلصَّحَابَةِ
وَإِخْبَارٌ عَنْ صِفَتِهِمُ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْعِفَّةِ
عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالْعِصْمَةِ عَنِ التَّعَدِّي، حَتَّى
لَوْ أَنَّهُمْ أَصَابُوا مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا لَكَانَ عَنْ
غَيْرِ قَصْدٍ. وَهَذَا كَمَا وَصَفَتِ النَّمْلَةُ عَنْ
جُنْدِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهَا:" لَا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ" «2» [النمل: 18]. قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِيُدْخِلَ
اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا" فِيهِ
أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ" اللَّامُ فِي"
لِيُدْخِلَ" مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ لَوْ
قَتَلْتُمُوهُمْ لَأَدْخَلَهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْإِيمَانِ. وَلَا تُحْمَلُ
عَلَى مُؤْمِنِينَ دُونَ مُؤْمِنَاتٍ وَلَا عَلَى مُؤْمِنَاتٍ
دُونَ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَدْخُلُونَ فِي
الرَّحْمَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ
لَكُمْ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ لِيُسْلِمَ بَعْدَ
الصُّلْحِ مَنْ قَضَى أَنْ يُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ،
وَكَذَلِكَ كَانَ أَسْلَمَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ وَحَسُنَ
إِسْلَامُهُ، وَدَخَلُوا فِي رَحْمَتِهِ، أَيْ جَنَّتَهُ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَوْ تَزَيَّلُوا" أَيْ
تَمَيَّزُوا، قَالَهُ الْقُتَبِيُّ. وَقِيلَ: لَوْ
تَفَرَّقُوا، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ: لَوْ زَالَ
الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ الْكُفَّارِ لَعُذِّبَ
الْكُفَّارُ بِالسَّيْفِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَدْفَعُ بِالْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ" لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا" فَقَالَ:] هُمُ
الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَجْدَادِ نَبِيِّ اللَّهِ وَمَنْ كَانَ
بَعْدَهُمْ وَفِي عَصْرِهِمْ كَانَ فِي أَصْلَابِهِمْ قَوْمٌ
مُؤْمِنُونَ فَلَوْ تَزَيَّلَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْ أَصْلَابِ
الْكَافِرِينَ لَعَذَّبَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَافِرِينَ
عَذَابًا أَلِيمًا [. الثَّالِثَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ
عَلَى مُرَاعَاةِ الْكَافِرِ فِي حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ، إذ لا
يمكن أذائه الْكَافِرِ إِلَّا بِأَذِيَّةِ الْمُؤْمِنِ. قَالَ
أَبُو زَيْدٍ قُلْتُ لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ لَوْ
أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي حِصْنٍ مِنْ
حُصُونِهِمْ، حَصَرَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَفِيهِمْ قَوْمٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُسَارَى في أيديهم،
__________
(1). راجع ج 5 ص (323)
(2). آية 18 سورة النمل.] [
(16/286)
أَيُحْرَقُ هَذَا الْحِصْنُ أَمْ لَا؟
قَالَ: سَمِعْتُ مالكا وسيل عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
فِي مَرَاكِبِهِمْ أَنَرْمِي فِي مَرَاكِبِهِمْ بِالنَّارِ
وَمَعَهُمُ الْأُسَارَى فِي مَرَاكِبِهِمْ؟ قَالَ: فَقَالَ
مَالِكٌ لَا أَرَى ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأَهْلِ
مَكَّةَ:" لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً". وَكَذَلِكَ لَوْ تَتَرَّسَ
كَافِرٌ بِمُسْلِمٍ لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُ. وَإِنْ فَعَلَ
ذَلِكَ فَاعِلٌ فَأَتْلَفَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا
فَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا
عَلِمُوا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْمُوا، فَإِذَا فَعَلُوهُ
صَارُوا قَتَلَةَ خَطَأٍ وَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ.
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا فَلَهُمْ أَنْ يَرْمُوا. وَإِذَا
أُبِيحُوا الْفِعْلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِمْ
فِيهَا تِبَاعَةٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَقَدْ قَالَ
جَمَاعَةٌ إِنَّ مَعْنَاهُ لَوْ تَزَيَّلُوا عَنْ بُطُونِ
النِّسَاءِ وَأَصْلَابِ الرِّجَالِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ
مَنْ فِي الصُّلْبِ أَوْ فِي الْبَطْنِ لَا يُوطَأُ وَلَا
تُصِيبُ مِنْهُ معرة. وهو سبحانه قد صرح فقال:" وَلَوْلا
رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ
أَنْ تَطَؤُهُمْ" وَذَلِكَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَنْ فِي
بَطْنِ الْمَرْأَةِ وَصُلْبِ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا
يَنْطَلِقُ عَلَى مِثْلِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ،
وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ،
وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ:
وَقَدْ حَاصَرْنَا مَدِينَةَ الرُّومَ فَحُبِسَ عَنْهُمُ
الْمَاءُ، فَكَانُوا يُنْزِلُونَ الْأُسَارَى يَسْتَقُونَ
لَهُمُ الْمَاءَ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَمْيِهِمْ
بِالنَّبْلِ، فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْمَاءُ بِغَيْرِ
اخْتِيَارِنَا. وَقَدْ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
وَالثَّوْرِيُّ الرَّمْي فِي حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ
كَانَ فِيهِمْ أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطْفَالِهِمْ.
وَلَوْ تَتَرَّسَ كَافِرٌ بِوَلَدٍ مُسْلِمٍ رُمِيَ
الْمُشْرِكُ، وَإِنْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا
دِيَةَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: فِيهِ
الْكَفَّارَةُ وَلَا دِيَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
بِقَوْلِنَا. وَهَذَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ التَّوَصُّلَ إِلَى
الْمُبَاحِ بِالْمَحْظُورِ لَا يَجُوزُ، سِيَّمَا بِرُوحِ
الْمُسْلِمِ، فَلَا قَوْلَ إِلَّا مَا قَالَهُ مَالِكٌ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ." قُلْتُ: قَدْ يَجُوزُ
قَتْلُ التُّرْسِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ اخْتِلَافٌ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً
كُلِّيَّةً قَطْعِيَّةً. فَمَعْنَى كَوْنِهَا ضَرُورِيَّةً،
أَنَّهَا لَا يَحْصُلُ الْوُصُولُ إِلَى الْكُفَّارِ إِلَّا
بِقَتْلِ التُّرْسِ. وَمَعْنَى أَنَّهَا كُلِّيَّةٌ، أَنَّهَا
قَاطِعَةٌ لِكُلِّ الْأُمَّةِ، حَتَّى يَحْصُلَ مِنْ قَتْلِ
التُّرْسِ مَصْلَحَةُ كُلِّ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ
يُفْعَلْ قَتَلَ الْكُفَّارُ التُّرْسَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى
كُلِّ الْأُمَّةِ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا
(16/287)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ
اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
قَطْعِيَّةً، أَنَّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ
حَاصِلَةٌ مِنْ قَتْلِ التُّرْسِ قَطْعًا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا:
وَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ بِهَذِهِ الْقُيُودِ لَا يَنْبَغِي
أَنْ يُخْتَلَفَ فِي اعْتِبَارِهَا، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ
التُّرْسَ مَقْتُولٌ قَطْعًا، فَإِمَّا بِأَيْدِي الْعَدُوِّ
فَتَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي هِيَ
اسْتِيلَاءُ الْعَدُوِّ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ. وَإِمَّا
بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَيَهْلِكُ الْعَدُوُّ وَيَنْجُو
الْمُسْلِمُونَ أَجْمَعُونَ. وَلَا يَتَأَتَّى لِعَاقِلٍ أَنْ
يَقُولَ: لَا يُقْتَلُ التُّرْسُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ
بِوَجْهٍ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ ذَهَابُ التُّرْسِ
وَالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ
هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ غَيْرَ خَالِيَةٍ مِنَ الْمَفْسَدَةِ،
نَفَرَتْ مِنْهَا نَفْسُ مَنْ لَمْ يُمْعِنَ النَّظَرَ فِيهَا،
فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما حصل مِنْهَا عَدَمٌ أَوْ
كَالْعَدَمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- قِرَاءَةُ
الْعَامَّةِ" لَوْ تَزَيَّلُوا" إِلَّا أَبَا حَيْوَةَ
فَإِنَّهُ قَرَأَ" تَزَايَلُوا" وَهُوَ مِثْلُ" تَزَيَّلُوا"
فِي المعنى. والتزايل: التباين. و" تزيلوا" تَفَعَّلُوا، مِنْ
زِلْتُ. وَقِيلَ: هِيَ تَفَيْعَلُوا." لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ
كَفَرُوا" قِيلَ: اللَّامُ جَوَابٌ لِكَلَامَيْنِ،
أَحَدِهِمَا:" لَوْلا رِجالٌ" والثاني-" لَوْ تَزَيَّلُوا".
وقيل جواب" لَوْلا" مَحْذُوفٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ." ولَوْ
تَزَيَّلُوا" ابْتِدَاءُ كَلَامٍ.
[سورة الفتح (48): آية 26]
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ
حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
الْعَامِلُ فِي" إِذْ" قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَعَذَّبْنَا" أَيْ
لَعَذَّبْنَاهُمْ إِذْ جَعَلُوا هَذَا. أَوْ فِعْلٌ مُضْمَرٌ
تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرُوا." الْحَمِيَّةَ" فَعِيلَةُ وَهِيَ
الْأَنَفَةُ. يُقَالُ: حَمِيتُ عَنْ كَذَا حَمِيَّةً
(بِالتَّشْدِيدِ) وَمَحْمِيَّةً إِذَا أَنِفْتَ مِنْهُ
وَدَاخَلَكَ عَارٌ وَأَنَفَةٌ أَنْ تَفْعَلَهُ. وَمِنْهُ
قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ:
أَلَا إِنَّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِي عِرْضُهُمْ ... كَذِي
الْأَنْفِ يَحْمِي أَنْفَهُ أَنْ يُكَشَّمَا «1»
أَيْ يَمْنَعُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَمِيَّتُهُمْ
أَنَفَتُهُمْ مِنَ الْإِقْرَارِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ
__________
(1). الكشم: قطع الأنف باستيصال.
(16/288)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ
تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
وَالِاسْتِفْتَاحِ بِبِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَمَنْعِهِمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ.
وَكَانَ الَّذِي امْتَنَعَ مِنْ كِتَابَةِ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ: سُهَيْلُ
بْنُ عَمْرٍو، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ:
حَمِيَّتُهُمْ عَصَبِيَّتُهُمْ لِآلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا
يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَنَفَةُ
مِنْ أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَهَا. وَقِيلَ:" حَمِيَّةَ
الْجاهِلِيَّةِ" إِنَّهُمْ قَالُوا: قَتَلُوا أَبْنَاءَنَا
وَإِخْوَانَنَا ثُمَّ يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا فِي مَنَازِلِنَا،
وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا يَدْخُلُهَا أَبَدًا." فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ" أَيِ الطُّمَأْنِينَةَ وَالْوَقَارَ."
عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ". وَقِيلَ: ثَبَّتَهُمْ
عَلَى الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، وَلَمْ يُدْخِلْ قُلُوبَهُمْ
مَا أَدْخَلَ قُلُوبَ أُولَئِكَ مِنَ الْحَمِيَّةِ."
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى " قِيلَ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ. رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ
قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَمْرِو
بْنِ مَيْمُونٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ
وَالضَّحَّاكِ، وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ وَعُبَيْدِ بْنِ
عُمَيْرٍ وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، وَالرَّبِيعِ
وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَهُ عَطَاءٌ
الْخُرَاسَانِيُّ، وَزَادَ" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ".
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَيْضًا هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي
رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. يَعْنِي أَنَّ
الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُقِرُّوا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَخَصَّ
اللَّهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ. و" كَلِمَةَ التَّقْوى " هِيَ
الَّتِي يُتَّقَى بِهَا مِنَ الشِّرْكِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ
أَيْضًا أَنَّ" كَلِمَةَ التَّقْوى " الْإِخْلَاصُ." وَكانُوا
أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها" أَيْ أَحَقَّ بِهَا مِنْ كُفَّارِ
مَكَّةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَهُمْ لِدِينِهِ
وَصُحْبَةِ نَبِيِّهِ." وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيماً".
[سورة الفتح (48): آية 27]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا
تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ
ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يَدْخُلُ
مَكَّةَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَمَّا صَالَحَ قُرَيْشًا
بِالْحُدَيْبِيَةِ ارْتَابَ الْمُنَافِقُونَ حَتَّى قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(16/289)
إِنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى" لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا
بِالْحَقِّ" فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ سَيَدْخُلُونَ فِي
غَيْرِ ذَلِكَ الْعَامِ، وَأَنَّ رُؤْيَاهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ
الَّذِي قَالَ إِنَّ الْمَنَامَ لَمْ يَكُنْ مُؤَقَّتًا
بِوَقْتٍ، وَأَنَّهُ سَيَدْخُلُ. وَرُوِيَ أَنَّ الرُّؤْيَا
كَانَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ
حَقٌّ. وَالرُّؤْيَا أَحَدُ وُجُوهِ الْوَحْيِ إِلَى
الْأَنْبِيَاءِ." لَتَدْخُلُنَّ" أَيْ فِي الْعَامِ
الْقَابِلِ" الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ" قَالَ
ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهُ حِكَايَةُ مَا قِيلَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ، خُوطِبَ فِي
مَنَامِهِ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ
عَنْ رَسُولِهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَلِهَذَا اسْتَثْنَى،
تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ تَعَالَى:"
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللَّهُ" «1» [الكهف: 24 - 23]. وَقِيلَ: خَاطَبَ
اللَّهُ الْعِبَادَ بِمَا يُحِبُّ أَنْ يقولوه، كما قال" وَلا
تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ
يَشاءَ اللَّهُ". وَقِيلَ: اسْتَثْنَى فِيمَا يَعْلَمُ
لِيَسْتَثْنِيَ الْخَلْقُ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، قَالَهُ
ثَعْلَبٌ. وَقِيلَ: كَانَ اللَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يُمِيتُ
بَعْضَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ
فَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ لِهَذَا الْمَعْنَى، قَالَهُ
الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ"
آمِنِينَ"، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْعِبَادِ
عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَقِيلَ: مَعْنَى" إِنْ
شاءَ اللَّهُ" إِنْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِالدُّخُولِ. وَقِيلَ:
أَيْ إِنْ سَهَّلَ اللَّهُ. وَقِيلَ:" إِنْ شاءَ اللَّهُ" أَيْ
كَمَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:" إِنْ"
بِمَعْنَى" إِذْ"، أَيْ إِذْ شَاءَ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى" اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" «2» [البقرة: 278] أَيْ إِذْ
كُنْتُمْ. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ" إِذْ" فِي الْمَاضِي مِنَ
الْفِعْلِ، وَ" إِذَا" فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا
الدُّخُولُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَوَعَدَهُمْ دُخُولَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَعَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْمَشِيئَةِ،
وَذَلِكَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ
بِذَلِكَ فَاسْتَبْشَرُوا، ثُمَّ تَأَخَّرَ ذَلِكَ عَنِ
الْعَامِ الَّذِي طَمِعُوا فِيهِ فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ
وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ وَصَالَحَهُمْ وَرَجَعَ، ثُمَّ أَذِنَ
اللَّهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ" لَقَدْ
صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ". وَإِنَّمَا
قِيلَ لَهُ فِي الْمَنَامِ" لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ" فَحَكَى فِي التَّنْزِيلِ مَا
قِيلَ لَهُ فِي الْمَنَامِ، فَلَيْسَ هُنَا شَكٌّ كَمَا زَعَمَ
بَعْضُهُمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَدُلُّ عَلَى الشَّكِّ،
والله تعالى لا يشك، و" لَتَدْخُلُنَّ" تحقيق فكيف يكون شك. ف"
إن" بمعنى" إذا"." آمِنِينَ" أي من العدو."
__________
(1). آية 23 سورة الكهف.
(2). آية 278 سورة البقرة.
(16/290)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ"
وَالتَّحْلِيقُ وَالتَّقْصِيرُ جَمِيعًا لِلرِّجَالِ،
وَلِذَلِكَ غَلَّبَ الْمُذَكَّرَ عَلَى الْمُؤَنَّثِ.
وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ، وَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ إِلَّا
التَّقْصِيرُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي"
الْبَقَرَةِ" «1». وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَخَذَ
مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ. وَهَذَا كَانَ فِي الْعُمْرَةِ
لَا فِي الْحَجِّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَلَقَ فِي حَجَّتِهِ." لَا تَخافُونَ" حَالٌ مِنَ
الْمُحَلِّقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: غَيْرَ
خَائِفِينَ." فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا" أَيْ عَلِمَ مَا
فِي تَأْخِيرِ الدُّخُولِ مِنَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مَا
لَمْ تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمَّا رَجَعَ مَضَى مِنْهَا إِلَى خَيْبَرَ
فَافْتَتَحَهَا، وَرَجَعَ بِأَمْوَالِ خَيْبَرَ وَأَخَذَ مِنَ
الْعُدَّةِ وَالْقُوَّةِ أَضْعَافَ مَا كَانَ فِيهِ فِي ذَلِكَ
الْعَامِ، وَأَقْبَلَ إِلَى مَكَّةَ عَلَى أُهْبَةٍ وَقُوَّةٍ
وَعُدَّةٍ بِأَضْعَافِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ
عَلِمَ أَنَّ دُخُولَهَا إِلَى سَنَةٍ وَلَمْ تَعْلَمُوهُ
أَنْتُمْ. وَقِيلَ: عَلِمَ أَنَّ بِمَكَّةَ رِجَالًا
مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ."
فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً" أَيْ مِنْ دُونِ
رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحَ
خَيْبَرَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ فَتْحُ
مَكَّةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ،
وَقَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا
فَتَحَ اللَّهُ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ صُلْحِ
الْحُدَيْبِيَةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ الْقِتَالُ حِينَ
تَلْتَقِي النَّاسُ، فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ وَضَعَتِ
الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَأَمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا،
فَالْتَقَوْا وَتَفَاوَضُوا الْحَدِيثَ وَالْمُنَاظَرَةَ.
فَلَمْ يُكَلَّمْ أَحَدٌ بِالْإِسْلَامِ يَعْقِلُ شَيْئًا
إِلَّا دَخَلَ فِيهِ، فَلَقَدْ دخل تَيْنِكَ السَّنَتَيْنِ فِي
الْإِسْلَامِ مِثْلُ مَا كَانَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ
وَأَكْثَرُ. يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا سَنَةَ
سِتٍّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ،
وَكَانُوا بَعْدَ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ ثمان في عشرة
آلاف.
[سورة الفتح (48): آية 28]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ
شَهِيداً (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ" يَعْنِي
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بِالْهُدى
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" أَيْ
يُعْلِيهِ عَلَى كُلِّ الْأَدْيَانِ. فَالدِّينُ اسْمٌ
بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ،
__________
(1). راجع ج 2 ص 381 طبعه ثانية.
(16/291)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ
مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ
فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
وَيَسْتَوِي لَفْظُ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ
فِيهِ. وَقِيلَ: أَيْ لِيُظْهِرَ رَسُولَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ، أَيْ عَلَى الدِّينِ الَّذِي هُوَ شَرَعَهُ
بِالْحُجَّةِ ثُمَّ بِالْيَدِ وَالسَّيْفِ، وَنَسَخَ مَا
عَدَاهُ." وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً"" شَهِيداً" نُصِبَ عَلَى
التَّفْسِيرِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ كَفَى اللَّهُ
شَهِيدًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَشَهَادَتُهُ لَهُ تُبَيِّنُ صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ
بِالْمُعْجِزَاتِ. وَقِيلَ:" شَهِيداً" عَلَى مَا أُرْسِلَ
بِهِ، لِأَنَّ الكفار أبو اأن يَكْتُبُوا: هَذَا مَا صَالَحَ
عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
[سورة الفتح (48): آية 29]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً
سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى
عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"" مُحَمَّدٌ" مُبْتَدَأٌ وَ"
رَسُولُ" خَبَرُهُ. وَقِيلَ:" مُحَمَّدٌ" ابْتِدَاءٌ وَ"
رَسُولُ اللَّهِ" نَعْتُهُ." وَالَّذِينَ مَعَهُ" عَطْفٌ عَلَى
الْمُبْتَدَأِ، وَالْخَبَرُ فِيمَا بَعْدَهُ، فَلَا يُوقَفُ
عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عَلَى" رَسُولُ اللَّهِ". وَعَلَى
الْأَوَّلِ يُوقَفُ عَلَى" رَسُولُ اللَّهِ"، لِأَنَّ
صِفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَزِيدُ عَلَى مَا وَصَفَ به
أصحابه، فيكون" محمد" ابتداء و" رَسُولُ اللَّهِ" الخبر"
وَالَّذِينَ مَعَهُ" ابتداء ثان. و" أَشِدَّاءُ" خبره و"
رُحَماءُ" خَبَرٌ ثَانٍ. وَكَوْنُ الصِّفَاتِ فِي جُمْلَةِ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ
الْأَشْبَهُ. قال ابن عباس: أهل الحديبية أشداء على الكفار، أي
غلاظ عليهم كالأسد على فريسته. وقيل: المراد ب" الَّذِينَ
مَعَهُ" جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ." رُحَماءُ بَيْنَهُمْ" أَيْ
يَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقِيلَ:
(16/292)
مُتَعَاطِفُونَ مُتَوَادُّونَ. وَقَرَأَ
الْحَسَنُ" أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ"
بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِينَ
مَعَهُ فِي حَالِ شِدَّتِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ
وَتَرَاحُمِهِمْ بَيْنَهُمْ." تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً"
إِخْبَارٌ عَنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ." يَبْتَغُونَ فَضْلًا
مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً" أَيْ يَطْلُبُونَ الْجَنَّةَ
وَرِضَا اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ" السِّيمَا
الْعَلَامَةُ، وَفِيهَا لُغَتَانِ: الْمَدُّ وَالْقَصْرُ، أَيْ
لَاحَتْ عَلَامَاتُ التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَأَمَارَاتُ
السَّهَرِ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ: حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
ثَابِتُ بْنُ مُوسَى أَبُو يَزِيدَ عَنْ شَرِيكٍ عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَنْ
كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ
[. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَدَسَّهُ قَوْمٌ فِي حَدِيثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ
الْغَلَطِ، وَلَيْسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهِ ذِكْرٌ بِحَرْفٍ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ
عَنْ مَالِكٍ" سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ" ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِجِبَاهِهِمْ مِنَ
الْأَرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَّى صَبِيحَةَ إِحْدَى
وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَقَدْ وَكَفَ «1» الْمَسْجِدَ
وَكَانَ عَلَى عَرِيشٍ، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ وَعَلَى جَبْهَتِهِ
وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: هُوَ بَيَاضٌ يَكُونُ فِي الْوَجْهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. وَقَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا،
وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَهُ
الزُّهْرِيُّ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَفِيهِ:] حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ
الْعِبَادِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ
مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا
مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا
مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَقُولُ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ
بِأَثَرِ السُّجُودِ تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ آدَمَ إِلَّا
أَثَرَ السُّجُودِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ
تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ [. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ:
يَكُونُ مَوْضِعُ السُّجُودِ مِنْ وُجُوهِهِمْ كَالْقَمَرِ
ليلة البدر. وقال ابن عباس ومجاهد: السيماء فِي الدُّنْيَا
وَهُوَ السَّمْتُ الْحَسَنُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أيضا: هو الخشوع
والتواضع. قال
__________
(1). أي قطر سقفه.
(16/293)
مَنْصُورٌ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ
قَوْلِهِ تَعَالَى" سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ" أَهُوَ أَثَرٌ
يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيِ الرَّجُلِ؟ قَالَ لَا، رُبَّمَا
يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيِ الرَّجُلِ مِثْلُ رُكْبَةِ الْعَنْزِ
وَهُوَ أَقْسَى قَلْبًا مِنَ الْحِجَارَةِ! وَلَكِنَّهُ نُورٌ
فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ الْخُشُوعِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
هُوَ الْوَقَارُ وَالْبَهَاءُ. وَقَالَ شِمْرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
هُوَ صُفْرَةُ الْوَجْهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. قَالَ
الْحَسَنُ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ مَرْضَى وَمَا
هُمْ بِمَرْضَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ
بِالنَّدْبِ فِي وُجُوهِهِمْ وَلَكِنَّهُ الصُّفْرَةُ. وَقَالَ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ فَإِذَا
أصبحوا رؤي ذَلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ
بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ [. وَقَدْ مَضَى
الْقَوْلُ فِيهِ آنِفًا. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ:
دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ مَنْ حَافَظَ عَلَى
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الْإِنْجِيلِ" قَالَ الْفَرَّاءُ: فِيهِ وَجْهَانِ، إِنْ
شِئْتَ قُلْتَ الْمَعْنَى ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَفِي الْإِنْجِيلِ أَيْضًا، كَمَثَلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ،
فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى" الْإِنْجِيلِ" وَإِنْ شِئْتَ
قُلْتَ: تَمَامُ الكلام ذلك مثلهم في التوراة، ثم ابتداء
فَقَالَ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُمَا مَثَلَانِ، أَحَدُهُمَا فِي
التَّوْرَاةِ وَالْآخَرُ فِي الْإِنْجِيلِ، فَيُوقَفُ عَلَى
هَذَا عَلَى" التَّوْراةِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَثَلٌ
وَاحِدٌ، يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ صِفَتُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ، فَلَا يُوقَفُ عَلَى" التَّوْراةِ" عَلَى
هَذَا، وَيُوقَفُ عَلَى" الْإِنْجِيلِ". وَيَبْتَدِئُ"
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ" عَلَى مَعْنَى وهم كزرع. و"
شَطْأَهُ" يَعْنِي فِرَاخَهُ وَأَوْلَادَهُ، قَالَهُ ابْنُ
زَيْدٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ نَبْتٌ وَاحِدٌ،
فَإِذَا خَرَجَ مَا بَعْدَهُ فَقَدْ شَطَأَهُ. قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: شَطْءُ الزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ فِرَاخُهُ،
وَالْجَمْعُ أَشْطَاءٌ. وَقَدْ أَشْطَأَ الزَّرْعُ خَرَجَ
شَطْؤُهُ. قَالَ الْأَخْفَشُ فِي قَوْلِهِ" أَخْرَجَ شَطْأَهُ"
أَيْ طَرَفَهُ. وَحَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَشْطَأَ الزَّرْعُ فَهُوَ مُشْطِئٌ
إِذَا خَرَجَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَخْرَجَ الشَّطْءُ عَلَى وَجْهِ الثَّرَى ... وَمِنَ
الْأَشْجَارِ أَفْنَانُ الثَّمَرْ
الزَّجَّاجُ: أَخْرَجَ شَطْأَهُ أَيْ نَبَاتَهُ. وَقِيلَ:
إِنَّ الشَّطْءَ شَوْكُ السُّنْبُلِ، وَالْعَرَبُ أَيْضًا
تُسَمِّيهِ: السَّفَا، وَهُوَ شَوْكُ الْبُهْمَى «1»، قَالَهُ
قُطْرُبٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُ السُّنْبُلُ، فيخرج من الحبة
__________
(1). البهمى: نبت تجد الغنم وجدا شديدا ما دام أخضر.
(16/294)
عشر سنبلات وتسع وثمان، قاله الْفَرَّاءُ،
حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ
ذَكْوَانَ" شَطَأَهُ" بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَأَسْكَنَ
الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ أَنَسٌ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَابْنُ
وَثَّابٍ" شَطَاهُ" مِثْلُ عَصَاهُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ
وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ" شَطَهُ" بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَكُلُّهَا
لُغَاتٌ فِيهَا. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى
لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
يَعْنِي أَنَّهُمْ يَكُونُونَ قَلِيلًا ثُمَّ يَزْدَادُونَ
وَيَكْثُرُونَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ بَدَأَ بِالدُّعَاءِ إِلَى دِينِهِ ضَعِيفًا
فَأَجَابَهُ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ حَتَّى قَوِيَ
أَمْرُهُ، كَالزَّرْعِ يَبْدُو بَعْدَ الْبَذْرِ ضَعِيفًا
فَيَقْوَى حَالًا بَعْدَ حَالٍ حَتَّى يَغْلُظَ نَبَاتُهُ
وَأَفْرَاخُهُ. فَكَانَ هَذَا مِنْ أَصَحِّ مَثَلٍ وَأَقْوَى
بَيَانٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَثَلُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبٌ
أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ قَوْمٍ يَنْبُتُونَ نَبَاتَ
الزَّرْعِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ." فَآزَرَهُ" أَيْ قَوَّاهُ وَأَعَانَهُ
وَشَدَّهُ، أَيْ قَوَّى الشَّطْءُ الزَّرْعَ. وَقِيلَ
بِالْعَكْسِ، أَيْ قَوَّى الزَّرْعُ الشَّطْءَ. وَقِرَاءَةُ
الْعَامَّةِ" آزَرَهُ" بِالْمَدِّ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ
وَأَبُو حَيْوَةَ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ" فَأَزَرَهُ"
مَقْصُورَةٌ، مِثْلُ فَعَلَهُ. وَالْمَعْرُوفُ الْمَدُّ. قَالَ
امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بِمَحْنِيَةٍ «1» قَدْ آزَرَ الضَّالَّ نَبْتُهَا ... مَجَرَّ
جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيَّبِ
" فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ" عَلَى عُودِهِ الَّذِي يَقُومُ
عَلَيْهِ فَيَكُونُ سَاقًا لَهُ. وَالسُّوقُ: جَمْعُ
السَّاقِ." يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ" أَيْ يُعْجِبُ هَذَا
الزَّرْعُ زُرَّاعَهُ. وَهُوَ مَثَلٌ كَمَا بَيَّنَّا،
فَالزَّرْعُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَالشَّطْءُ أَصْحَابُهُ، كَانُوا قَلِيلًا فَكَثُرُوا،
وَضُعَفَاءَ فَقَوُوا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ."
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ" اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ
بِمَحْذُوفٍ، أَيْ فَعَلَ اللَّهُ هَذَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا" أَيْ وَعَدَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
أَعْمَالُهُمْ صالحة." مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً" أي
ثوابا لا ينقطع وهو الجنة. وليست" مِنْ" فِي قَوْلِهِ"
مِنْهُمْ" مُبَعِّضَةٌ لِقَوْمٍ مِنَ الصحابة دون قوم، ولكنها
عامة
__________
(1). المحنية (بالتخفيف): واحدة المحاني، وهي معاطف الأودية.
والضال (بتخفيف اللام): شجرة السدر.
(16/295)
مُجَنِّسَةٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:"
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ" «1» [الحج: 30] لَا
يَقْصِدُ لِلتَّبْعِيضِ لَكِنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى الْجِنْسِ،
أَيْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَوْثَانِ، إِذْ
كَانَ الرِّجْسُ يَقَعُ مِنْ أَجْنَاسٍ شَتَّى، مِنْهَا
الزِّنَى وَالرِّبَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْكَذِبِ،
فَأَدْخَلَ" مِنْ" يُفِيدُ بِهَا الْجِنْسَ وَكَذَا"
مِنْهُمْ"، أَيْ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، يَعْنِي جِنْسَ
الصَّحَابَةِ. وَيُقَالُ: أَنْفِقْ نَفَقَتَكَ مِنَ
الدَّرَاهِمِ، أَيِ اجْعَلْ نَفَقَتَكَ هَذَا الْجِنْسَ.
وَقَدْ يُخَصَّصُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِوَعْدِ الْمَغْفِرَةِ تَفْضِيلًا لَهُمْ، وَإِنْ
وَعَدَ اللَّهُ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَغْفِرَةَ. وَفِي
الْآيَةِ جَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ" مِنْ" مُؤَكِّدَةٌ
لِلْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى وَعَدَهُمُ اللَّهُ كُلَّهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا. فَجَرَى مَجْرَى] قَوْلِ
[الْعَرَبِيِّ: قَطَعْتُ مِنَ الثَّوْبِ قَمِيصًا، يُرِيدُ
قَطَعْتُ الثَّوْبَ كُلَّهُ قَمِيصًا. وَ" مِنْ" لَمْ
يُبَعِّضْ شَيْئًا. وَشَاهِدُ هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ"
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ" «2» [الاسراء:
82] مَعْنَاهُ وَنُنَزِّلُ الْقُرْآنَ شِفَاءً، لِأَنَّ كُلَّ
حَرْفٍ مِنْهُ يَشْفِي، وَلَيْسَ الشِّفَاءُ مُخْتَصًّا بِهِ
بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ. عَلَى أَنَّ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ
يَقُولُ" مِنْ" مُجَنِّسَةٌ، تَقْدِيرُهَا نُنَزِّلُ
الشِّفَاءَ مِنْ جِنْسِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ جِهَةِ الْقُرْآنِ،
وَمِنْ نَاحِيَةِ الْقُرْآنِ. قَالَ زُهَيْرٌ:
أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَمْ تُكَلَّمِ «3»
أَرَادَ مِنْ نَاحِيَةِ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ، أَمْ مِنْ
مَنَازِلِهَا دِمْنَةٌ. وَقَالَ الْآخَرُ:
أَخُو رَغَائِبَ يُعْطِيهَا وَيَسْأَلُهَا ... يَأْبَى
الظُّلَامَةَ مِنْهُ النَّوْفَلُ الزَّفَرُ «4»
فَ" مِنْ" لَمْ تُبَعِّضْ شَيْئًا، إِذْ كَانَ الْمَقْصِدُ
يَأْبَى الظُّلَامَةَ لِأَنَّهُ نَوْفَلٌ زَفَرٌ.
وَالنَّوْفَلُ: الْكَثِيرُ الْعَطَاءِ. وَالزَّفَرُ: حَامِلُ
الْأَثْقَالِ وَالْمُؤَنِ عَنِ النَّاسِ. الْخَامِسَةُ- رَوَى
أَبُو عُرْوَةَ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ وَلَدِ الزُّبَيْرِ:
كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَذَكَرُوا رَجُلًا
يَنْتَقِصُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ مَالِكٌ هذه الآية"
__________
(1). آية 30 سورة الحج.
(2). آية 82 سورة الاسراء.
(3). الدمنة: آثار الناس وما سودوا بالرماد. لم تكلم: لم تبين،
والعرب تقول لكل ما بين من أثر وغيره: تكلم، أي ميز، فصار
بمنزلة المتكلم.
(4). البيت لأعشى باهلة.
(16/296)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ" حَتَّى بَلَغَ" يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ". فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ
فِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَصَابَتْهُ
هَذِهِ الْآيَةُ، ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ:
لَقَدْ أَحْسَنَ مَالِكٌ فِي مَقَالَتِهِ وَأَصَابَ فِي
تَأْوِيلِهِ. فَمَنْ نَقَّصَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ طَعَنَ
عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ فَقَدْ رَدَّ عَلَى اللَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، وَأَبْطَلَ شَرَائِعَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ" الْآيَةَ. وَقَالَ:"
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ" [الفتح: 18] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْآيِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ،
وَالشَّهَادَةَ لَهُمْ بِالصِّدْقِ وَالْفَلَاحِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ" «1» [الْأَحْزَابِ: 23]. وَقَالَ:" لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً-
إِلَى قوله- أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"»
[الحشر: 8]، ثم قال عز من قائل:" وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا
الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ- إِلَى قَوْلِهِ-
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" «3» [الحشر: 9]. وَهَذَا
كُلُّهُ مَعَ عِلْمِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِحَالِهِمْ
وَمَآلِ أَمْرِهِمْ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ [وَقَالَ:] لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ
أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا لَمْ يُدْرِكْ
مُدَّ أَحَدِهُمْ وَلَا نَصِيفَهُ [خَرَّجَهُمَا
الْبُخَارِيُّ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ:] فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ
أَنْفَقَ مَا فِي الْأَرْضِ لَمْ يُدْرِكْ مُدَّ أَحَدِهِمْ
وَلَا نَصِيفَهُ [. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ لَمْ
يُدْرِكْ مُدَّ أَحَدِهُمْ إِذَا تَصَدَّقَ بِهِ وَلَا نِصْفَ
الْمُدِّ، فَالنَّصِيفُ هُوَ النِّصْفُ هُنَا. وَكَذَلِكَ
يُقَالُ لِلْعُشْرِ عَشِيرٌ، وَلِلْخُمُسِ خَمِيسٌ،
وَلِلتُّسُعِ تَسِيعٌ، وَلِلثُّمُنِ ثَمِينٌ، وَلِلسُّبُعِ
سَبِيعٌ، وَلِلسُّدُسِ سَدِيسٌ، وَلِلرُّبُعِ رَبِيعٌ. وَلَمْ
تَقُلِ الْعَرَبُ لِلثُّلُثِ ثَلِيثٌ. وَفِي الْبَزَّارِ عَنْ
جَابِرٍ مَرْفُوعًا صَحِيحًا:] إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ
أَصْحَابِي عَلَى الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ
وَالْمُرْسَلِينَ وَاخْتَارَ لِي مِنْ أَصْحَابِي أَرْبَعَةً-
يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا-
فَجَعَلَهُمْ أَصْحَابِي [. وَقَالَ:] فِي أَصْحَابِي
كُلِّهِمْ خَيْرٌ [. وَرَوَى عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:]
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي
أَصْحَابِي فَجَعَلَ لِي مِنْهُمْ وُزَرَاءَ وَأَخْتَانًا
وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة
__________
(1). آية 23 سورة الأحزاب. [ ..... ]
(2). آية 8 سورة الحشر.
(3). آية 9 سورة الحشر.
(16/297)
اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ «1» صَرْفًا وَلَا عَدْلًا [. وَالْأَحَادِيثُ
بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، فَحَذَارِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي
أَحَدٍ مِنْهُمْ، كَمَا فَعَلَ مَنْ طَعَنَ فِي الدِّينِ
فَقَالَ: إِنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ،
وَمَا صَحَّ حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَثْبِيتِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي
جُمْلَةِ التَّنْزِيلِ إِلَّا عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ،
وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ضَعِيفٌ لَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ
عَلَيْهَا، فَرِوَايَتُهُ مُطْرَحَةٌ. وَهَذَا رَدٌّ لِمَا
ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِبْطَالٌ لِمَا
نَقَلَتْهُ لَنَا الصَّحَابَةُ مِنَ الْمِلَّةِ. فَإِنَّ
عُقْبَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ عِيسَى الْجُهَنِيَّ مِمَّنْ رَوَى
لَنَا الشَّرِيعَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ الْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا، فَهُوَ مِمَّنْ مَدَحَهُمُ اللَّهُ
وَوَصَفَهُمْ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَوَعَدَهُمْ مَغْفِرَةً
وَأَجْرًا عَظِيمًا. فَمَنْ نَسَبَهُ أَوْ وَاحِدًا مِنَ
الصَّحَابَةِ إِلَى كَذِبٍ فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الشَّرِيعَةِ،
مُبْطِلٌ لِلْقُرْآنِ طَاعِنٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَتَى أُلْحِقَ وَاحِدٌ
مِنْهُمْ تَكْذِيبًا فَقَدْ سُبَّ، لِأَنَّهُ لَا عَارَ وَلَا
عَيْبَ بَعْدَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ أَعْظَمُ مِنَ الْكَذِبِ،
وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَنْ سَبَّ أَصْحَابَهُ، فَالْمُكَذِّبُ
لِأَصْغَرِهِمْ- وَلَا صَغِيرَ فِيهِمْ- دَاخِلٌ فِي لَعْنَةِ
اللَّهِ الَّتِي شَهِدَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَلْزَمَهَا كُلَّ مَنْ سَبَّ وَاحِدًا
مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ طَعَنَ عَلَيْهِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ
حَبِيبٍ قَالَ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ هَارُونَ الرَّشِيدِ
فَجَرَتْ مَسْأَلَةٌ تَنَازَعَهَا الْحُضُورُ وَعَلَتْ
أَصْوَاتُهُمْ، فَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثٍ يَرْوِيهِ
أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَفَعَ بَعْضُهُمُ الْحَدِيثَ وَزَادَتِ
الْمُدَافَعَةُ وَالْخِصَامُ حَتَّى قَالَ قَائِلُونَ
مِنْهُمْ: لَا يُقْبَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ مُتَّهَمٌ فِيمَا يَرْوِيهِ، وَصَرَّحُوا
بِتَكْذِيبِهِ، وَرَأَيْتُ الرَّشِيدَ قَدْ نَحَا نَحْوَهُمْ
وَنَصَرَ قَوْلَهُمْ فَقُلْتُ أَنَا: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو
هُرَيْرَةَ صَحِيحُ النَّقْلِ صَدُوقٌ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ،
فَنَظَرَ إِلَيَّ الرَّشِيدُ نَظَرَ مُغْضَبٍ، وَقُمْتُ مِنَ
الْمَجْلِسِ فَانْصَرَفْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَلَمْ أَلْبَثْ
حَتَّى قِيلَ: صَاحِبُ الْبَرِيدِ بِالْبَابِ، فَدَخَلَ
فَقَالَ لِي: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِجَابَةَ
مَقْتُولٍ، وَتَحَنَّطْ وَتَكَفَّنْ! فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ
إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي دفعت عَنْ صَاحِبِ نَبِيِّكَ،
وَأَجْلَلْتُ نَبِيَّكَ أَنْ يُطْعَنَ على أصحابه،
__________
(1). الصرف: التوبة. وقيل النافلة. والعدل: الفدية. وقيل
الفريضة.
(16/298)
فَسَلِّمْنِي مِنْهُ. فَأُدْخِلْتُ عَلَى
الرَّشِيدِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ مِنْ ذَهَبٍ،
حَاسِرٌ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، بِيَدِهِ السَّيْفُ وَبَيْنَ
يَدَيْهِ النِّطْعُ «1»، فَلَمَّا بَصُرَ بِي قَالَ لِي: يَا
عُمَرُ بْنَ حَبِيبٍ مَا تَلَقَّانِي] أَحَدٌ [«2» مِنَ
الرَّدِّ وَالدَّفْعِ] لِقَوْلِي بِمِثْلِ [«3» مَا
تَلَقَّيْتَنِي بِهِ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
إِنَّ الَّذِي قُلْتَهُ وَجَادَلْتَ عَنْهُ فِيهِ ازْدِرَاءٌ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
وَعَلَى مَا جَاءَ بِهِ [«4»، إِذَا كَانَ أَصْحَابُهُ
كَذَّابِينَ فَالشَّرِيعَةُ بَاطِلَةٌ، وَالْفَرَائِضُ
وَالْأَحْكَامُ فِي الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالطَّلَاقِ
وَالنِّكَاحِ وَالْحُدُودِ كُلُّهُ مَرْدُودٌ غَيْرُ
مَقْبُولٍ، فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ:
أَحْيَيْتَنِي يَا عُمَرُ بْنَ حَبِيبٍ أَحْيَاكَ اللَّهُ!
وَأَمَرَ لِي بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ. قُلْتُ:
فَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ، أَوْلِيَاءُ اللَّهِ
تَعَالَى وَأَصْفِيَاؤُهُ، وَخِيَرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ بَعْدَ
أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ. هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ،
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ أَئِمَّةِ هَذِهِ
الْأُمَّةِ. وَقَدْ ذَهَبَتْ شِرْذِمَةٌ لَا مُبَالَاةَ بِهِمْ
إِلَى أَنَّ حَالَ الصَّحَابَةِ كَحَالِ غَيْرِهِمْ،
فَيَلْزَمُ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ
فَرَّقَ بَيْنَ حَالِهِمْ فِي بُدَاءَةِ الْأَمْرِ فَقَالَ:
إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْعَدَالَةِ إِذْ ذَاكَ، ثُمَّ
تَغَيَّرَتْ بِهِمُ الْأَحْوَالُ فَظَهَرَتْ فِيهِمُ
الْحُرُوبُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ.
وَهَذَا مَرْدُودٌ، فَإِنَّ خِيَارَ الصَّحَابَةِ
وَفُضَلَاءَهُمْ كَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ
وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِمَّنْ أَثْنَى اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَزَكَّاهُمْ وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ
وَوَعَدَهُمُ الْجَنَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى" مَغْفِرَةً
وَأَجْراً عَظِيماً". وَخَاصَّةً الْعَشَرَةَ الْمَقْطُوعُ
لَهُمْ بِالْجَنَّةِ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ هُمُ الْقُدْوَةُ
مَعَ عِلْمِهِمْ بِكَثِيرٍ مِنَ الْفِتَنِ وَالْأُمُورِ
الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ بِإِخْبَارِهِ
لَهُمْ بِذَلِكَ. وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْقِطٍ مِنْ
مَرْتَبَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، إِذْ كَانَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ
مَبْنِيَّةً عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ فِي سُورَةِ"
الحجرات" مبينة إن شاء الله تعالى.
__________
(1). النطع (بالكسر): بساط من الأديم.
(2). زيادة عن كتاب تاريخ بغداد في ترجمة عمر بن حبيب.
(3). زيادة عن كتاب تاريخ بغداد في ترجمة عمر بن حبيب.
(4). زيادة عن كتاب تاريخ بغداد في ترجمة عمر بن حبيب.
(16/299)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(1)
[تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ]
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ.
وَهِيَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة الحجرات (49): آيَةً 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (1)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ" قال العلماء: كان في العرب جَفَاءٌ
وَسُوءُ أَدَبٍ فِي خِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلْقِيبِ النَّاسِ. فَالسُّورَةُ فِي
الْأَمْرِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَرِعَايَةِ الْآدَابِ.
وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ:" لَا
تَقَدَّمُوا" بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ مِنَ التَّقَدُّمِ.
الْبَاقُونَ" تُقَدِّمُوا" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ
مِنَ التَّقْدِيمِ. وَمَعْنَاهُمَا ظَاهِرٌ، أَيْ لَا
تُقَدِّمُوا قَوْلًا وَلَا فِعْلًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَقَوْلِ رَسُولِهِ وَفِعْلِهِ فِيمَا سَبِيلُهُ أَنْ
تَأْخُذُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَمَنْ
قَدَّمَ قَوْلَهُ أَوْ فِعْلَهُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَدَّمَهُ عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى، لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِنَّمَا يَأْمُرُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا
عَلَى أَقْوَالٍ سِتَّةٍ: الْأَوَّلُ- مَا ذَكَرَهُ
الْوَاحِدِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: حَدَّثَنِي
ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ
أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرِ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ. وَقَالَ
عُمَرُ: أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ. فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي. وَقَالَ عُمَرُ: مَا
أَرَدْتُ خِلَافَكَ. فَتَمَادَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ
أَصْوَاتُهُمَا،
(16/300)
فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ:" يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا
حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ
الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، ذَكَرَهُ
الْمَهْدَوِيُّ أَيْضًا. الثَّانِي- مَا رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ
يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلًا إِذَا مَضَى إِلَى
خَيْبَرَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ،
فَنَزَلَ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ". ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ
أَيْضًا. الثَّالِثُ- مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ
الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ
أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنَ أَصْحَابِهِ إِلَى بَنِي
عَامِرٍ فَقَتَلُوهُمْ، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفؤا
«1» إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقُوا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي
سُلَيْمٍ فَسَأَلُوهُمَا عَنْ نَسَبِهِمَا فَقَالَا: مِنْ
بَنِي عَامِرٍ، لِأَنَّهُمْ أَعَزُّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ
فَقَتَلُوهُمَا، فَجَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا:
إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ عَهْدًا، وَقَدْ قُتِلَ مِنَّا
رَجُلَانِ، فَوَدَاهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمِائَةِ بَعِيرٍ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ
الْآيَةُ فِي قَتْلِهِمُ الرَّجُلَيْنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
إِنَّ نَاسًا كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ أُنْزِلَ فِيَّ كَذَا،
لَوْ أُنْزِلَ فِيَّ كَذَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. ابْنُ
عَبَّاسٍ: نُهُوا أَنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِ.
مُجَاهِدٌ: لَا تَفْتَاتُوا «2» عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لسان رسوله، ذكره البخاري أيضا.
الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ ذَبَحُوا قَبْلَ أَنْ
يُصَلِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ. ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا
تُقَدِّمُوا أَعْمَالَ الطَّاعَاتِ قَبْلَ وَقْتِهَا الَّذِي
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ الْخَمْسَةُ
الْمُتَأَخِّرَةُ ذَكَرَهَا الْقَاضِيَ أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْعَرَبِيِّ، وَسَرَدَهَا قَبْلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَالَ
الْقَاضِي: وَهِيَ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ تَدْخُلُ تَحْتَ
الْعُمُومِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا كَانَ السَّبَبُ
الْمُثِيرُ لِلْآيَةِ مِنْهَا، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ دُونَ
سَبَبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقَاضِي: إِذَا قُلْنَا
إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ الطَّاعَاتِ عَلَى
أَوْقَاتِهَا فَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ
مُؤَقَّتَةٍ بِمِيقَاتٍ لَا يجوز تقديمها
__________
(1). انكفأ القوم انكفاء: رجعوا وتبددوا.
(2). افتات الكلام: ابتدعه. وافتات عليه في الامر: حكم عليه.
وافتات برأيه: استبد به.
(16/301)
عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
وَالْحَجِّ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ. إِلَّا «1» أَنَّ الْعُلَمَاءَ
اخْتَلَفُوا فِي الزَّكَاةِ، لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةً
مَالِيَّةً وَكَانَتْ مَطْلُوبَةً لِمَعْنًى مَفْهُومٍ، وَهُوَ
سَدُّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْجَلَ مِنَ الْعَبَّاسِ
صَدَقَةَ عَامَيْنِ، وَلِمَا جَاءَ مِنْ جَمْعِ صَدَقَةِ
الْفِطْرِ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ حَتَّى تُعْطَى
لِمُسْتَحِقِّيهَا يَوْمَ الْوُجُوبِ وَهُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ،
فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ جَوَازَ تَقْدِيمِهَا الْعَامَ
وَالِاثْنَيْنِ. فَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْعَامِ وَالنِّصَابُ
بِحَالِهِ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا. وَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْعَامِ
وَقَدْ تَغَيَّرَ النِّصَابُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا صَدَقَةُ
تَطَوُّعٍ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى
الْحَوْلِ لَحْظَةً كَالصَّلَاةِ، وَكَأَنَّهُ طَرَدَ
الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ فَرَأَى أَنَّهَا إِحْدَى
دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ فَوَفَّاهَا حَقَّهَا فِي النِّظَامِ
وَحُسْنِ التَّرْتِيبِ. وَرَأَى سَائِرُ عُلَمَائِنَا أَنَّ
التَّقْدِيمَ الْيَسِيرَ فِيهَا جَائِزٌ، لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ
عَنْهُ فِي الشَّرْعِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ. وَمَا قَالَهُ
أَشْهَبُ أَصَحُّ، فَإِنَّ مُفَارَقَةَ الْيَسِيرِ الْكَثِيرَ
فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ لِمَعَانٍ
تَخْتَصُّ بِالْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ. فَأَمَّا فِي
مَسْأَلَتِنَا فَالْيَوْمُ فِيهِ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ
كَالسَّنَةِ. فَإِمَّا تَقْدِيمٌ كُلِّيٌّ كَمَا قَالَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِمَّا حِفْظُ الْعِبَادَةِ
عَلَى مِيقَاتِهَا كَمَا قَالَ أَشْهَبُ. الثَّالِثَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ"
أَصْلٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيجَابِ اتِّبَاعِهِ
وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ:] مُرُوا أَبَا
بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ [. فَقَالَتْ عَائِشَةٌ
لِحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا
بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ «2» وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامِكَ
لَا يُسْمِعُ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ
فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ «3».
مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ [. فَمَعْنَى
قَوْلِهِ] صَوَاحِبُ يُوسُفَ [الْفِتْنَةُ بِالرَّدِّ عَنِ
الْجَائِزِ إِلَى غير الجائز.
__________
(1). في الأصول:" وذلك أن العلماء ... " والتصويب عن ابن
العربي.
(2). سريع البكاء والحزن. وقيل: هو الرقيق.
(3). قال القسطلاني:" أي مثلهن في إظهار خلاف ما في الباطن،
فإن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الامامة عن الصديق لكونه
لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهو
ألا يتشاءم الناس به. وهذا مثل زليخا استدعت النسوة وأظهرت
الإكرام بالضيافة وغرضها أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في
محبته، فعبر بالجمع في قوله" انكن" والمراد عائشة فقط. وفي
قوله" صواحب" والمراد زليخا كذلك.
(16/302)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ
بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ
لَا تَشْعُرُونَ (2)
وربما احتج بغات الْقِيَاسِ بِهَذِهِ
الْآيَةِ. وَهُوَ بَاطِلٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ مَا قَامَتْ
دَلَالَتُهُ فَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ تَقْدِيمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى
وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ فِي فُرُوعِ الشَّرْعِ،
فَلَيْسَ إِذًا تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ." وَاتَّقُوا
اللَّهَ" يَعْنِي فِي التَّقَدُّمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ."
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ" لقولكم" عَلِيمٌ" بفعلكم.
[سورة الحجرات (49): آية 2]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ
وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" رَوَى الْبُخَارِيُّ
وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْأَقْرَعَ
بْنَ حَابِسٍ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
اسْتَعْمِلْهُ عَلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا
تَسْتَعْمِلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَتَكَلَّمَا عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ:
مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي. فَقَالَ عُمَرُ «1»: مَا
أَرَدْتُ خِلَافَكَ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ بَعْدَ
ذَلِكَ إِذَا تَكَلَّمَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسْمِعْ كَلَامَهُ حَتَّى
يَسْتَفْهِمَهُ. قَالَ: وَمَا ذَكَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
جَدَّهُ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ
حَسَنٌ. وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ مُرْسَلًا، لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. قُلْتُ: هُوَ الْبُخَارِيُّ، قَالَ:
عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ
يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا
عِنْدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا
بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ
الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ نَافِعٌ: لَا أَحْفَظُ
اسْمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا
خِلَافِي. فَقَالَ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ. فَارْتَفَعَتْ
أَصْوَاتُهُمَا
__________
(1). كلمة عمر ساقطة من أب هـ.
(16/303)
فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا
أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" الْآيَةَ. فَقَالَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ
الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ
أَبِيهِ «1»، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. وَذَكَرَ
الْمَهْدَوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَزَلَ
قَوْلُهُ" لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ" فِينَا لَمَّا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا أَنَا
وَجَعْفَرٌ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، نَتَنَازَعُ ابْنَةَ
حَمْزَةَ لَمَّا جَاءَ بِهَا زَيْدٌ مِنْ مَكَّةَ، فَقَضَى
بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِجَعْفَرٍ، لِأَنَّ خَالَتَهَا عِنْدَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
هَذَا الْحَدِيثُ فِي" آلِ عِمْرَانَ" «2» وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ
قَيْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْلَمُ
لَكَ عِلْمَهُ، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ
مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ:
شَرٌّ! كَانَ «3» يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ
كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ مُوسَى «4»: فَرَجَعَ إِلَيْهِ
الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَالَ:]
اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ [. لَفْظُ
الْبُخَارِيِّ. وَثَابِتٌ هَذَا هُوَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ
شَمَّاسٍ الْخَزْرَجِيُّ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ بِابْنِهِ
مُحَمَّدٍ. وَقِيلَ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قُتِلَ لَهُ
يَوْمَ الْحَرَّةِ «5» ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ: مُحَمَّدٌ،
وَيَحْيَى، وَعَبْدُ اللَّهِ. وَكَانَ خَطِيبًا بَلِيغًا
مَعْرُوفًا بِذَلِكَ، كَانَ يُقَالُ لَهُ خَطِيبُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا يُقَالُ
لِحَسَّانٍ شَاعِرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَلَمَّا قَدِمَ وَفْدُ تَمِيمٍ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبُوا
الْمُفَاخَرَةَ قَامَ خَطِيبُهُمْ فَافْتَخَرَ، ثُمَّ قَامَ
ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فَخَطَبَ خُطْبَةً بَلِيغَةً جَزِلَةً
فَغَلَبَهُمْ، وَقَامَ شَاعِرُهُمْ وَهُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ
حَابِسٍ فأنشد:
__________
(1). قوله" عن أبيه" يريد جده لامه أسماء. [ ..... ]
(2). راجع ج 4 ص 88.
(3). هذا التفات من الحاضر إلى الغائب، والأصل: كنت أرفع صوتي.
(4). هو ابن أنس، أحد رجال سند الحديث.
(5). الحرة: أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كبيرة، تعرف بحرة
واقم، وبها كانت الوقعة في سنة ثلاث وستين من الهجرة أيام يزيد
بن معاوية حين أنهب المدينة عسكره من أهل الشام الذين ندبهم
لقتال أهل المدينة من الصحابة والتابعين، وأمر عليهم مسلم بن
عقبة المري.
(16/304)
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... وإذا
خَالَفُونَا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ
وَإِنَّا رُءُوسُ النَّاسِ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ ... وَأَنْ
لَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ كَدَارِمِ
وَإِنَّ لَنَا الْمِرْبَاعَ فِي كُلِّ غارة ... تكون بنجد أو
بأرض التهايم «1»
فَقَامَ حَسَّانٌ فَقَالَ:
بَنِي دَارِمٍ لَا تَفْخَرُوا إِنَّ فَخْرَكُمْ ... يَعُودُ
وَبَالًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ
هَبِلْتُمْ عَلَيْنَا تَفْخَرُونَ وَأَنْتُمُ ... لَنَا خَوَلٌ
مِنْ بَيْنِ ظِئْرٍ وَخَادِمِ «2»
فِي أَبْيَاتٍ لَهُمَا. فَقَالُوا: خَطِيبُهُمْ أَخْطَبُ مِنْ
خَطِيبِنَا، وَشَاعِرُهُمْ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا،
فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:"
لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ". وَقَالَ عَطَاءٌ
الْخُرَاسَانِيُّ: حَدَّثَتْنِي ابْنَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ
قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" الْآيَةَ،
دَخَلَ أَبُوهَا بَيْتَهُ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ،
فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ مَا خَبَرُهُ، فَقَالَ: أَنَا
رَجُلٌ شَدِيدٌ الصَّوْتِ، أَخَافُ أَنْ يَكُونَ حَبِطَ
عَمَلِي. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:] لَسْتَ مِنْهُمْ بَلْ
تَعِيشُ بِخَيْرٍ وَتَمُوتُ بِخَيْرٍ [. قَالَ: ثُمَّ أَنْزَلَ
اللَّهُ" إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ"
«3» [لقمان: 18] فَأَغْلَقَ بَابَهُ وَطَفِقَ يَبْكِي،
فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّ الْجَمَالَ وَأُحِبُّ أَنْ أَسُودَ
قَوْمِي. فَقَالَ:] لَسْتَ مِنْهُمْ بَلْ تَعِيشُ حَمِيدًا
وَتُقْتَلُ شَهِيدًا وَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ [. قَالَتْ:
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ خَرَجَ مَعَ خَالِدِ بْنِ
الْوَلِيدِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ فَلَمَّا الْتَقَوُا
انْكَشَفُوا، فَقَالَ ثَابِتٌ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي
حُذَيْفَةَ: مَا هَكَذَا كُنَّا نُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ حَفَرَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ حُفْرَةً فَثَبَتَا وَقَاتَلَا
حَتَّى قُتِلَا، وَعَلَى ثَابِتٍ يَوْمئِذٍ دِرْعٌ لَهُ
نَفِيسَةٌ، فَمَرَّ به رجل من
__________
(1). في سيرة ابن هشام:" ... أو بأرض الأعاجم" والمرباع: ما
يأخذه الرئيس وهو ربع الغنيمة.
(2). هبلتم: فقدتم. والخول: حشم الرجل وأتباعه.
(3). آية 18 سورة لقمان.
(16/305)
الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذَهَا، فَبَيْنَا
رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَائِمٌ أَتَاهُ ثَابِتٌ فِي
مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: أُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ، فَإِيَّاكَ
أَنْ تَقُولَ هَذَا حُلْمٌ فَتُضَيِّعُهُ، إِنِّي لَمَّا
قُتِلْتُ أَمْسِ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فَأَخَذَ دِرْعِي وَمَنْزِلُهُ فِي أَقْصَى النَّاسِ، وَعِنْدَ
خِبَائِهِ فَرَسٌ يَسْتَنُّ «1» فِي طِوَلِهِ، وَقَدْ كَفَأَ
عَلَى الدِّرْعِ بُرْمَةً، وَفَوْقَ الْبُرْمَةِ رَحْلٌ،
فَأْتِ خَالِدًا فَمُرْهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى دِرْعِي
فَيَأْخُذُهَا، وَإِذَا قَدِمْتَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَلِيفَةُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْنِي
أَبَا بَكْرٍ- فَقُلْ لَهُ: إِنَّ عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ
كَذَا وَكَذَا، وَفُلَانٌ مِنْ رَقِيقِي عَتِيقٌ وَفُلَانٌ،
فَأَتَى الرَّجُلُ خَالِدًا فَأَخْبَرَهُ، فَبَعَثَ إِلَى
الدِّرْعِ فَأُتِيَ بِهَا وَحَدَّثَ أَبَا بَكْرٍ بِرُؤْيَاهُ
فَأَجَازَ وَصِيَّتَهُ. قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا
أُجِيزَتْ وَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ غَيْرَ ثَابِتٍ،
رَحِمَهُ اللَّهُ، ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي الِاسْتِيعَابِ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ" أَيْ لَا تُخَاطِبُوهُ: يَا مُحَمَّدُ، وَيَا
أَحْمَدُ. وَلَكِنْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَيَا رَسُولَ
اللَّهِ، تَوْقِيرًا لَهُ. وَقِيلَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ
يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَقْتَدِيَ بِهِمْ ضَعَفَةُ
الْمُسْلِمِينَ فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ ذَلِكَ.
وَقِيلَ:" لَا تَجْهَرُوا لَهُ" أَيْ لَا تَجْهَرُوا عَلَيْهِ،
كَمَا يُقَالُ: سَقَطَ لِفِيهِ، أَيْ عَلَى فِيهِ." كَجَهْرِ
بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ" الْكَافُ كَافُ التَّشْبِيهِ فِي مَحَلِّ
النَّصْبِ، أَيْ لَا تَجْهَرُوا لَهُ جَهْرًا مِثْلَ جَهْرِ
بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ] عَلَى [أَنَّهُمْ
لَمْ يُنْهَوْا عَنِ الْجَهْرِ مُطْلَقًا حَتَّى لَا يَسُوغَ
لَهُمْ إِلَّا أَنْ يُكَلِّمُوهُ بِالْهَمْسِ
وَالْمُخَافَتَةِ، وَإِنَّمَا نُهُوا عَنْ جَهْرٍ مَخْصُوصٍ
مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ، أَعْنِي الْجَهْرَ الْمَنْعُوتَ
بِمُمَاثَلَةِ مَا قَدِ اعْتَادُوهُ مِنْهُمْ فِيمَا
بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الْخُلُوُّ مِنْ مُرَاعَاةِ أُبَّهَةِ
النُّبُوَّةِ وَجَلَالَةِ مِقْدَارِهَا وَانْحِطَاطِ سَائِرِ
الرُّتَبِ وَإِنْ جَلَّتْ عَنْ رُتْبَتِهَا." أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ" أَيْ مِنْ أَجْلِ
أَنْ تَحْبَطَ، أَيْ تَبْطُلَ، هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَيْ لِئَلَّا تَحْبَطُ
أَعْمَالُكُمْ. الثَّالِثَةُ- مَعْنَى الْآيَةِ الْأَمْرُ
بِتَعْظِيمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَتَوْقِيرِهِ، وَخَفْضِ الصَّوْتِ بِحَضْرَتِهِ
وَعِنْدَ مُخَاطَبَتِهِ، أَيْ إِذَا نَطَقَ وَنَطَقْتُمْ
فَعَلَيْكُمْ ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد
__________
(1). استن الفرس: قمص وعدا إقبالا وإدبارا. والطول والطيل
(بالكسر): الحبل الطويل يشد أحد طرفيه في وتد أو غيره والطرف
الآخر، ليدور فيه ويرعى ولا يذهب لوجهه.
(16/306)
الَّذِي يَبْلُغُهُ بِصَوْتِهِ، وَأَنْ
تَغُضُّوا مِنْهَا بِحَيْثُ يَكُونُ كَلَامُهُ غَالِبًا
لِكَلَامِكُمْ، وَجَهْرُهُ بَاهِرًا لِجَهْرِكُمْ، حَتَّى
تَكُونَ مَزِيَّتُهُ عَلَيْكُمْ لَائِحَةً، وَسَابِقَتُهُ
وَاضِحَةً، وَامْتِيَازُهُ عَنْ جُمْهُورِكُمْ كَشِيَةِ
الْأَبْلَقِ. لَا أَنْ تَغْمُرُوا صَوْتَهُ بِلَغَطِكُمْ،
وَتَبْهَرُوا مَنْطِقَهُ بِصَخَبِكُمْ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ
مَسْعُودٍ" لَا تَرْفَعُوا بِأَصْوَاتِكُمْ" وَقَدْ كَرِهَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ قَبْرِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَفْعَ
الصَّوْتِ فِي مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، إِذْ
هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ. الرَّابِعَةُ- قَالَ الْقَاضِي
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: حُرْمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا،
وَكَلَامُهُ الْمَأْثُورُ بَعْدَ موته في الرفعة مِثَالُ
كَلَامِهِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَفْظِهِ، فَإِذَا قُرِئَ
كَلَامُهُ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ أَلَّا يَرْفَعَ
صَوْتَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ، كَمَا كَانَ
يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ.
وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى دَوَامِ الْحُرْمَةِ
الْمَذْكُورَةِ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا" «1» وَكَلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ، وَلَهُ مِنَ الحكمة مثل ما للقرآن،
إلا معاني مُسْتَثْنَاةً، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
الْخَامِسَةُ- وَلَيْسَ الْغَرَضُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَلَا
الْجَهْرِ مَا يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِخْفَافُ
وَالِاسْتِهَانَةُ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ وَالْمُخَاطَبُونَ
مُؤْمِنُونَ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ صَوْتٌ هُوَ فِي نَفْسِهِ
وَالْمَسْمُوعُ مِنْ جَرْسِهِ «2» غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِمَا
يُهَابُ به العظماء ويوقروا الْكُبَرَاءُ، فَيَتَكَلَّفُ
الْغَضَّ مِنْهُ وَرَدَّهُ إِلَى حَدٍّ يَمِيلُ بِهِ إِلَى مَا
يَسْتَبِينُ فِيهِ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنَ التَّعْزِيرِ
وَالتَّوْقِيرِ. وَلَمْ يَتَنَاوَلِ النَّهْيُ أَيْضًا رَفْعَ
الصَّوْتِ الَّذِي يَتَأَذَّى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَا كان منهم في الحرب
أَوْ مُجَادَلَةِ مُعَانِدٍ أَوْ إِرْهَابِ عَدُوٍّ أَوْ مَا
أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ عليه السلام
للعباس ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ
يَوْمَ حُنَيْنٍ:] اصْرُخْ بِالنَّاسِ [وَكَانَ الْعَبَّاسُ
أَجْهَرَ النَّاسِ صَوْتًا، يُرْوَى أَنَّ غَارَةً أَتَتْهُمْ
يَوْمًا فَصَاحَ الْعَبَّاسُ: يا صباحاه! فَأُسْقِطَتِ
الْحَوَامِلُ لِشِدَّةِ صَوْتِهِ، وَفِيهِ يَقُولُ نَابِغَةُ
بني جعدة:
__________
(1). آية 204 سورة الأعراف.
(2). الجرس (بفتح الجيم وكسرها): الصوت.
(16/307)
إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
زَجْرُ أَبِي عُرْوَةَ «1» السِّبَاعَ
إِذَا ... أَشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بِالْغَنَمِ
زَعَمَتِ الرُّوَاةُ أَنَّهُ كَانَ يَزْجُرُ السِّبَاعَ عَنِ
الْغَنَمِ فَيُفْتِقُ مَرَارَةَ السَّبُعِ فِي جَوْفِهِ.
السَّادِسَةُ- قَالَ الزَّجَّاجُ:" أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ" التَّقْدِيرُ لِأَنْ تَحْبَطَ، أَيْ فَتَحْبَطُ
أَعْمَالُكُمْ، فَاللَّامُ الْمُقَدَّرَةُ لَامُ
الصَّيْرُورَةِ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ:" أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ" بِمُوجِبٍ أَنْ
يَكْفُرَ الْإِنْسَانُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَكَمَا لَا
يَكُونُ الْكَافِرُ مُؤْمِنًا إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ
الْإِيمَانَ عَلَى الْكُفْرِ، كَذَلِكَ لَا يَكُونُ
الْمُؤْمِنُ كَافِرًا مِنْ حَيْثُ لَا يَقْصِدُ إِلَى
الْكُفْرِ وَلَا يَخْتَارُهُ بِإِجْمَاعٍ. كَذَلِكَ لَا
يَكُونُ الْكَافِرُ كَافِرًا مِنْ حَيْثُ لا يعلم.
[سورة الحجرات (49): آية 3]
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ" أَيْ يُخْفِضُونَ أَصْوَاتَهُمْ
عِنْدَهُ إِذَا تَكَلَّمُوا إِجْلَالًا لَهُ، أَوْ كَلَّمُوا
غَيْرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِجْلَالًا لَهُ. قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ" لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ"
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ لَا
أَرْفَعُ صَوْتِي إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ «2». وَذَكَرَ
سُنَيْدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: لَمَّا
نَزَلَتْ" لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"
[الحجرات: 1] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ لَا أُكَلِّمُكَ بَعْدَ هَذَا إِلَّا كَأَخِي
السِّرَارِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمَّا
نَزَلَتْ" لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ" مَا حَدَّثَ عُمَرُ
عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
ذَلِكَ فَسُمِعَ كَلَامُهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ مِمَّا
يُخْفِضُ، فَنَزَلَتْ" إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ
أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ
امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ". قَالَ
الْفَرَّاءُ: أَيْ أَخْلَصَهَا لِلتَّقْوَى. وَقَالَ
الْأَخْفَشُ: أَيِ اخْتَصَّهَا لِلتَّقْوَى. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ:" امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى "
طَهَّرَهُمْ مِنْ كُلِّ قَبِيحٍ، وَجَعَلَ فِي قلوبهم الخوف من
الله
__________
(1). أبو عروة: كنية العباس.
(2). السرار (بالكسر): المسارة، أي كصاحب السرار، أو كمثل
المساررة لخفض صوته، والكاف صفة لمصدر محذوف.
(16/308)
إِنَّ الَّذِينَ
يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ (4)
وَالتَّقْوَى. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: أَذْهَبَ عَنْ قُلُوبِهِمُ الشَّهَوَاتِ.
وَالِامْتِحَانُ افْتِعَالٌ مِنْ مَحَنْتُ الْأَدِيمَ مَحْنًا
حَتَّى أَوْسَعْتُهُ. فَمَعْنَى امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
لِلتَّقْوَى وَسَّعَهَا وَشَرَحَهَا لِلتَّقْوَى. وَعَلَى
الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ: امْتَحَنَ قُلُوبَهُمْ
فَأَخْلَصَهَا، كَقَوْلِكَ: امْتَحَنْتُ الْفِضَّةَ أَيِ
اخْتَبَرْتُهَا حَتَّى خَلُصَتْ. فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ
يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ. وَقَالَ
أَبُو عَمْرٍو: كُلُّ شَيْءٍ جَهَدْتُهُ فَقَدْ مَحَنْتُهُ.
وَأَنْشَدَ:
أَتَتْ رَذَايَا بَادِيًا كَلَالُهَا ... قَدْ مَحَنَتْ
وَاضْطَرَبَتْ آطالها «1»
" لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً".
[سورة الحجرات (49): آية 4]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابِ بَنِي
تَمِيمٍ، قَدِمَ الْوَفْدُ مِنْهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ
وَنَادَوُا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
وَرَاءِ حُجْرَتِهِ أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا، فَإِنَّ مَدْحَنَا
زَيْنٌ وَذَمَّنَا شَيْنٌ. وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا
قَدَّمُوا الْفِدَاءَ ذَرَارِيَ لَهُمْ، وَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ لِلْقَائِلَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ الَّذِي نَادَى الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ،
وَأَنَّهُ الْقَائِلُ: إِنَّ مَدْحِي زَيْنٌ وَإِنْ ذَمِّي
شَيْنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] ذَاكَ اللَّهُ [. ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَيْضًا. وَرَوَى زَيْدُ بْنُ
أَرْقَمَ فَقَالَ: أَتَى أُنَاسٌ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا
بِنَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ يَكُنْ نَبِيًّا فَنَحْنُ
أَسْعَدُ النَّاسِ بِاتِّبَاعِهِ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا
نَعِشْ فِي جِنَابِهِ «2». فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلُوا يُنَادُونَهُ وَهُوَ
فِي حُجْرَتِهِ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا
مِنْ بَنِي تَمِيمٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا تِسْعَةَ
عَشَرَ: قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ، وَالزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ،
وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَسُوَيْدَ بْنَ هَاشِمٍ،
وَخَالِدَ بْنَ مَالِكٍ، وَعَطَاءَ بْنَ حَابِسٍ،
وَالْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ، ووكيع بن وكيع، وعيينة بن حصن
__________
(1). الرذايا: جمع رذية، وهي الناقة المهزولة من السير.
والكلال: الإعياء. والآطال: جمع إطل، وهو الخاصرة.
(2). في الطبري:" في جناحه". [ ..... ]
(16/309)
وَلَوْ أَنَّهُمْ
صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وَهُوَ الْأَحْمَقُ الْمُطَاعُ، وَكَانَ
مِنَ الْجَرَّارِينَ يَجُرُّ عَشَرَةَ آلَافِ قَنَاةٍ، أَيْ
يَتْبَعُهُ، وَكَانَ اسْمُهُ حُذَيْفَةَ وَسُمِّيَ عُيَيْنَةَ
لِشَتَرٍ «1» كَانَ فِي عَيْنَيْهِ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
فِي عُيَيْنَةَ هَذَا أَنَّهُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ" وَلا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا" «2» [الكهف:
28]. وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ" الْأَعْرَافِ" مِنْ قَوْلِهِ
لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ «3»،
ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ وَفَدُوا وَقْتَ
الظَّهِيرَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَاقِدٌ، فَجَعَلُوا يُنَادُونَهُ: يَا مُحَمَّدُ
يَا مُحَمَّدُ، اخْرُجْ إلينا، فاستيقظ وخرج، ونزلت. وسيل رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:] هُمْ جُفَاةُ
بَنِي تَمِيمٍ لَوْلَا أَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ
قِتَالًا لِلْأَعْوَرِ الدَّجَّالِ لَدَعَوْتُ اللَّهَ عليهم
أن يهلكهم [. والحجرات جمع الحجرة، كَالْغُرُفَاتِ جَمْعِ
غُرْفَةٍ، وَالظُّلُمَاتِ جَمْعِ ظُلْمَةٍ. وَقِيلَ:
الْحُجُرَاتُ جَمْعُ الْحُجَرِ، وَالْحُجَرُ جَمْعُ حُجْرَةٍ،
فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَفِيهِ لُغَتَانِ ضَمُّ الْجِيمِ
وَفَتْحُهَا «4». قَالَ:
وَلَمَّا رَأَوْنَا بَادِيًا رُكَبَاتُنَا ... عَلَى مَوْطِنٍ
لَا نَخْلِطُ الْجِدَّ بِالْهَزْلِ
وَالْحُجْرَةُ: الرُّقْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَحْجُورَةِ
بِحَائِطٍ يُحَوِّطُ عَلَيْهَا. وَحَظِيرَةُ الْإِبِلِ
تُسَمَّى الْحُجْرَةُ، وَهِيَ فُعْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ" الْحُجَرَاتِ"
بِفَتْحِ الْجِيمِ استثقالا للضمتين. وقرى" الْحُجْرَاتِ"
بِسُكُونِ الْجِيمِ تَخْفِيفًا. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ
الْمَنْعُ. وَكُلُّ مَا مَنَعْتَ أَنْ يُوصَلَ إِلَيْهِ فَقَدْ
حَجَرْتَ عَلَيْهِ. ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُنَادِي
بَعْضًا مِنَ الْجُمْلَةِ فَلِهَذَا قَالَ:" أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ" أَيْ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ جُمْلَةِ
قوم الغالب عليهم الجهل.
[سورة الحجرات (49): آية 5]
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ
خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
أَيْ لَوِ انتظروا خروجك لكان أصلح لهم فِي دِينِهِمْ
وَدُنْيَاهُمْ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
يَحْتَجِبُ عَنِ النَّاسِ إِلَّا فِي أوقات يشتغل فيها
بِمُهِمَّاتِ نَفْسِهِ، فَكَانَ إِزْعَاجُهُ فِي تِلْكَ
الْحَالَةِ
__________
(1). الشتر (بفتحتين): انقلاب في جفن العين.
(2). آية 28 سورة الكهف.
(3). راجع ج 7 ص (347)
(4). وفية لغة ثالثة: سكون الجيم.
(16/310)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ. وَقِيلَ: كَانُوا
جَاءُوا شُفَعَاءَ فِي أُسَارَى بَنِي عَنْبَرٍ فَأَعْتَقَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نِصْفَهُمْ، وَفَادَى عَلَى النِّصْفِ. وَلَوْ صَبَرُوا
لَأَعْتَقَ جَمِيعَهُمْ بِغَيْرِ فِدَاءٍ." وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ"
[سورة الحجرات (49): آية 6]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا
عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ"
قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ
عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ
سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ
مُصَدِّقًا»
إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ أَقْبَلُوا
نَحْوَهُ فَهَابَهُمْ- فِي رِوَايَةٍ: لِإِحْنَةٍ كَانَتْ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ-، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ قَدِ
ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ. فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنِ الْوَلِيدِ
وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَلَا يَعْجَلَ، فَانْطَلَقَ
خَالِدٌ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا، فَبَعَثَ عُيُونَهُ
فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُمْ
مُتَمَسِّكُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَمِعُوا أَذَانَهُمْ
وَصَلَاتَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَتَاهُمْ خَالِدٌ وَرَأَى
صِحَّةَ مَا ذَكَرُوهُ، فَعَادَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ، فَكَانَ يَقُولُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ
مِنَ الشَّيْطَانِ [. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى بَنِي
الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ
رَكِبُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ خَافَهُمْ،
فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ هَمُّوا
بِقَتْلِهِ، وَمَنَعُوا صَدَقَاتِهِمْ. فَهَمَّ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَزْوِهِمْ،
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ قَدِمَ وَفْدُهُمْ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْنَا بِرَسُولِكَ فَخَرَجْنَا
إِلَيْهِ لِنُكْرِمَهُ، وَنُؤَدِّيَ إِلَيْهِ مَا قِبَلَنَا
مِنَ الصَّدَقَةِ، فَاسْتَمَرَّ رَاجِعًا، وَبَلَغَنَا أَنَّهُ
يَزْعُمُ لِرَسُولِ اللَّهِ أَنَّا خَرَجْنَا لِنُقَاتِلَهُ،
وَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا لِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَسُمِّيَ الْوَلِيدُ فَاسِقًا أي
كاذبا. قال
__________
(1). المصدق (بتخفيف الصاد وتشديد الدال) العامل الذي يجبى
الصدقات.
(16/311)
ابْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ وَسَهْلُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ: الْفَاسِقُ الْكَذَّابُ. وَقَالَ أَبُو
الْحَسَنِ «1» الْوَرَّاقِ: هُوَ الْمُعْلِنُ بِالذَّنْبِ.
وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: الَّذِي لَا يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" فَتَثَبَّتُوا" مِنَ
التَّثَبُّتِ. الْبَاقُونَ" فَتَبَيَّنُوا" مِنَ التَّبْيِينِ"
أَنْ تُصِيبُوا" أَيْ لِئَلَّا تُصِيبُوا، فَ" أَنْ" فِي
مَحَلِّ نَصْبٍ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ." قَوْماً بِجَهالَةٍ"
أَيْ بخطإ." فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ" عَلَى
الْعَجَلَةِ وَتَرْكِ التَّأَنِّي الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ
الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ
عَدْلًا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ فِيهَا بِالتَّثَبُّتِ
عِنْدَ نَقْلِ خَبَرِ الْفَاسِقِ. وَمَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ
بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْأَخْبَارِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ
الْخَبَرَ أَمَانَةٌ وَالْفِسْقُ قَرِينَةٌ يُبْطِلُهَا.
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْإِجْمَاعُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا
يَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى وَالْجُحُودِ، وَإِثْبَاتِ حَقٍّ
مَقْصُودٍ عَلَى الْغَيْرِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا
عَبْدِي، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَإِذَا قَالَ: قَدْ
أَنْفَذَ فُلَانٌ هَذَا لَكَ هَدِيَّةً، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ
ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ فِي مِثْلِهِ خَبَرُ الْكَافِرِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِحَقٍّ عَلَى نَفْسِهِ
فَلَا يَبْطُلُ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا فِي الْإِنْشَاءِ عَلَى
غَيْرِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يَكُونُ
وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ومالك: يكون
وليا، لأنه يلي ما لها فَيَلِي بُضْعَهَا. كَالْعَدْلِ، وَهُوَ
وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ إِلَّا أَنَّ غَيْرَتَهُ
مُوَفَّرَةٌ وَبِهَا يَحْمِي الْحَرِيمَ، وَقَدْ يَبْذُلُ
الْمَالَ وَيَصُونُ الْحُرْمَةَ، وَإِذَا وَلِيَ الْمَالَ
فَالنِّكَاحُ أَوْلَى. الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُجَوِّزَ الشَّافِعِيُّ
وَنُظَرَاؤُهُ إِمَامَةَ الْفَاسِقِ. وَمَنْ لَا يُؤْتَمَنُ
عَلَى حَبَّةِ مَالٍ] كَيْفَ [«2» يَصِحُّ أَنْ يُؤْتَمَنَ
عَلَى قِنْطَارِ دِينٍ. وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ أَصْلُهُ أَنَّ
الْوُلَاةَ الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ لَمَّا
فَسَدَتْ أَدْيَانُهُمْ وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ الصَّلَاةِ
وَرَاءَهُمْ، وَلَا اسْتُطِيعَتْ إِزَالَتُهُمْ صُلِّيَ
مَعَهُمْ وَوَرَاءَهُمْ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ: الصَّلَاةُ
أَحْسَنُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنُوا
فَأَحْسِنْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ.
ثُمَّ كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا صَلَّى مَعَهُمْ
تَقِيَّةً أَعَادُوا الصَّلَاةَ لِلَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
كَانَ يجعلها صلاته. وبوجوب الإعادة أقول،
__________
(1). في بعض النسخ:" أبو الحسين".
(2). زيادة عن ابن العربي.
(16/312)
وَاعْلَمُوا أَنَّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ
الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ
الصَّلَاةَ مَعَ مَنْ لَا يَرْضَى مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ
يُعِيدُ سِرًّا فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُؤْثِرُ ذَلِكَ عِنْدَ
غَيْرِهِ. الرَّابِعَةُ- وَأَمَّا أَحْكَامُهُ إِنْ كَانَ
وَالِيًا فَيُنَفِّذُ مِنْهَا مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَيَرُدُّ
مَا خَالَفَهُ، وَلَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ الَّذِي أَمْضَاهُ
بِحَالٍ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ
مِنْ رِوَايَةٍ] تُؤْثَرُ [«1» أَوْ قَوْلٍ يُحْكَى، فَإِنَّ
الْكَلَامَ كَثِيرٌ وَالْحَقُّ ظَاهِرٌ. الْخَامِسَةُ- لَا
خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونُ رَسُولًا عَنْ
غَيْرِهِ فِي قَوْلٍ يُبَلِّغُهُ أَوْ شَيْءٍ يُوَصِّلُهُ،
أَوْ إِذْنٍ يُعْلِمُهُ، إِذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَقِّ
الْمُرْسِلِ وَالْمُبَلَّغِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ
لِغَيْرِهِمَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. وَهَذَا جَائِزٌ
لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ
يَتَصَرَّفْ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي إِلَّا
الْعُدُولُ لَمْ يَحْصُلْ منها «2» شي لِعَدَمِهِمْ فِي
ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- وَفِي الآية دليل
على فساد قول مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلُّهُمْ
عُدُولٌ حَتَّى تَثْبُتَ الْجُرْحَةُ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَلَا
مَعْنَى لِلتَّثَبُّتِ بَعْدَ إِنْفَاذِ الْحُكْمِ، فَإِنْ
حَكَمَ الْحَاكِمُ قَبْلَ التَّثَبُّتِ فَقَدْ أَصَابَ
الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِجَهَالَةٍ. السَّابِعَةُ- فَإِنْ
قَضَى بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
عَمَلًا بِجَهَالَةٍ، كَالْقَضَاءِ بِالشَّاهِدَيْنِ
الْعَدْلَيْنِ، وَقَبُولِ قَوْلِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ.
وَإِنَّمَا الْعَمَلُ بِالْجَهَالَةِ قَبُولُ قَوْلِ مَنْ لَا
يَحْصُلُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِقَبُولِهِ. ذَكَرَ هذه المسألة
القشيري، والذي قبلها المهدوي.
[سورة الحجرات (49): الآيات 7 الى 8]
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ
فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ
أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ
وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
__________
(1). زيادة عن ابن العربي.
(2). في ابن العربي:" منهم".] [
(16/313)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاعْلَمُوا أَنَّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ" فَلَا تَكْذِبُوا، فَإِنَّ اللَّهَ
يُعْلِمُهُ أَنْبَاءَكُمْ فَتَفْتَضِحُونَ." لَوْ يُطِيعُكُمْ
فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ" أَيْ لَوْ تَسَارَعَ
إِلَى مَا أَرَدْتُمْ قَبْلَ وُضُوحِ الْأَمْرِ لَنَالَكُمْ
مَشَقَّةٌ وَإِثْمٌ، فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ الْقَوْمَ
الَّذِينَ سَعَى بِهِمُ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ إِلَيْهِ
لَكَانَ خَطَأً، وَلَعَنِتَ مَنْ أَرَادَ إِيقَاعَ الْهَلَاكَ
بِأُولَئِكَ الْقَوْمِ لِعَدَاوَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ. وَمَعْنَى طَاعَةِ الرَّسُولِ لَهُمُ:
الِائْتِمَارُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنِ
النَّاسِ وَالسَّمَاعِ مِنْهُمْ. وَالْعَنَتُ الْإِثْمُ،
يُقَالُ: عَنِتَ الرَّجُلُ. وَالْعَنَتُ أَيْضًا الْفُجُورُ
وَالزِّنَى، كَمَا فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ" «1». وَالْعَنَتُ
أَيْضًا الْوُقُوعُ فِي أَمْرٍ شَاقٍّ، وَقَدْ مَضَى فِي
آخِرِ" بَرَاءَةٌ" الْقَوْلُ فِي" عَنِتُّمْ" [التوبة: 128]
بِأَكْثَرِ مِنْ هَذَا «2»." وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ
إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ" هَذَا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ لَا يُكَذِّبُونَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُخْبِرُونَ بِالْبَاطِلِ،
أَيْ جَعَلَ الْإِيمَانَ أَحَبَّ الْأَدْيَانِ إِلَيْكُمْ."
وَزَيَّنَهُ" بِتَوْفِيقِهِ." فِي قُلُوبِكُمْ" أَيْ حَسَّنَهُ
إِلَيْكُمْ حَتَّى اخْتَرْتُمُوهُ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى
الْقَدَرِيَّةِ وَالْإِمَامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، حَسْبَ مَا
تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ
الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ ذَوَاتِ الْخَلْقِ وَخَلْقِ
أَفْعَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِهِمْ
وَأَلْوَانِهِمْ، لَا شَرِيكَ لَهُ." وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يُرِيدُ بِهِ الْكَذِبَ خَاصَّةً. وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
وَقِيلَ: كُلُّ مَا خَرَّجَ عَنِ الطَّاعَةِ، مُشْتَقٌّ مِنْ
فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا. وَالْفَأْرَةُ
مِنْ جُحْرِهَا. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" الْقَوْلُ
فِيهِ مُسْتَوْفًى «3». وَالْعِصْيَانُ جمع المعاصي. ثم انتقل
من الخطاب إلى الخبر فقال" أُولئِكَ" يَعْنِي هُمُ الَّذِينَ
وَفَّقَهُمُ اللَّهُ فَحَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ
وَكَرَّهَ إِلَيْهِمُ الْكُفْرَ أَيْ قَبَّحَهُ عِنْدَهُمُ"
هُمُ الرَّاشِدُونَ" كقول تَعَالَى:" وَما آتَيْتُمْ مِنْ
زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُضْعِفُونَ" «4» [الروم: 39]. قَالَ النَّابِغَةُ:
يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ
وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَمَدِ
وَالرُّشْدُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ
تَصَلُّبٍ فِيهِ، مِنَ الرشاد وهي الصخرة.
__________
(1). راجع ج 5 ص (137)
(2). راجع ج 8 ص (302)
(3). راجع ج 1 ص 4 (245)
(4). آية 39 سورة الروم.
(16/314)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
قَالَ أَبُو الْوَازِعِ: كُلُّ صَخْرَةٍ
رَشَادَةٌ. وَأَنْشَدَ:
وَغَيْرُ مُقَلَّدٍ وَمُوَشَّمَاتٍ ... صَلِينَ الضَّوْءَ مِنْ
صُمِّ الرَّشَادِ «1»
" فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً" أَيْ فَعَلَ اللَّهُ
ذَلِكَ بِكُمْ فَضْلًا، أَيِ الْفَضْلَ وَالنِّعْمَةَ، فَهُوَ
مَفْعُولٌ لَهُ." وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"" عَلِيمٌ" بما
يصلحكم" حَكِيمٌ" في تدبيركم.
[سورة الحجرات (49): آية 9]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى
الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (9)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما" رَوَى الْمُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قُلْتُ: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ، لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ؟
فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَرَكِبَ حِمَارًا وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ
يَمْشُونَ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِلَيْكَ
عَنِّي! فَوَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتَنُ حِمَارِكَ. فَقَالَ
رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا
مِنْكَ. فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ،
وَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ
بَيْنَهُمْ حَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ،
فَبَلَغَنَا أَنَّهُ أُنْزِلَ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: تَقَاتَلَ حَيَّانِ مِنَ الْأَنْصَارِ
بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَمِثْلُهُ
عَنْ سعيد ابن جُبَيْرٍ: أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانَ
بَيْنَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتال
__________
(1). في شرح شواهد الكشاف للمرحوم الأستاذ أبي عليان:" الظاهر
أن الشاعر يصف الديار بأنها لم يبق فيها غير وتد الحبال المقلد
بالحبل وغير الأثافي المغير لونها بالنار. والوشم والتوشيم
تغيير اللون، أي التي احترقت بضوئها أي حرها. و" من صم الرشاد"
بيان لها. والصم: جمع صماء، أي صلبة. وقيل: يصف مطايا بأنها
مطبوعة على العمل غير محتاجة للزمام، وأنها غيرها أثر السير،
قوية بحيث يظهر الشرر من شدة وقع خفافها على الصخر الصلب". [
..... ]
(16/315)
بِالسَّعَفِ وَالنِّعَالِ وَنَحْوِهُ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهِمْ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَتْ
بَيْنَهُمَا مُدَارَأَةٌ «1» فِي حَقٍّ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ
أَحَدُهُمَا: لَآخُذَنَّ حَقِّي عَنْوَةً، لِكَثْرَةِ
عَشِيرَتِهِ. وَدَعَاهُ الْآخَرُ إِلَى أَنْ يُحَاكِمَهُ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى
أَنْ يَتْبَعَهُ، فَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا حَتَّى
تَوَاقَعَا وَتَنَاوَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْأَيْدِي
وَالنِّعَالِ وَالسُّيُوفِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي حَرْبِ سُمَيْرٍ وَحَاطِبٍ
«2»، وَكَانَ سُمَيْرٌ قَتَلَ حَاطِبًا، فَاقْتَتَلَ الْأَوْسُ
وَالْخَزْرَجُ حَتَّى أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ. وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ
يُصْلِحُوا بَيْنَهُمَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتِ
امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا:" أُمُّ زَيْدٍ"
تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ الْأَنْصَارِ، فَتَخَاصَمَتْ مَعَ
زَوْجِهَا، أَرَادَتْ أَنْ تَزُورَ قَوْمَهَا فَحَبَسَهَا
زَوْجُهَا وَجَعَلَهَا فِي عِلِّيَّةٍ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا
أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ بَعَثَتْ إِلَى
قَوْمِهَا، فَجَاءَ قَوْمُهَا فَأَنْزَلُوهَا لِيَنْطَلِقُوا
بِهَا، فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَاسْتَغَاثَ أَهْلَهُ فَخَرَجَ
بَنُو عَمِّهِ لِيَحُولُوا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَهْلِهَا،
فَتَدَافَعُوا وَتَجَالَدُوا «3» بِالنِّعَالِ، فَنَزَلَتِ
الْآيَةُ. وَالطَّائِفَةُ تَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ
وَالْجَمْعَ وَالِاثْنَيْنِ، فَهُوَ مِمَّا حُمِلَ عَلَى
الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ فِي
مَعْنَى الْقَوْمِ وَالنَّاسِ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ
اللَّهِ" حَتَّى يَفِيئُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ
فَاءُوا فَخُذُوا بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ". وَقَرَأَ ابْنُ
أَبِي عَبْلَةَ" اقْتَتَلَتَا" عَلَى لَفْظِ الطَّائِفَتَيْنِ.
وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ" بَرَاءَةٌ" الْقَوْلُ فِيهِ «4».
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ"
وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" «5»
[الروم: 2] قَالَ: الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ، وَالطَّائِفَةُ
مِنَ الشَّيْءِ الْقِطْعَةُ مِنْهُ." فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما"
بِالدُّعَاءِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لَهُمَا أَوْ
عَلَيْهِمَا." فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى "
تَعَدَّتْ وَلَمْ تُجِبْ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ.
وَالْبَغْيُ: التَّطَاوُلُ وَالْفَسَادُ." فَقاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ" أَيْ تَرْجِعَ
إِلَى كِتَابِهِ." فَإِنْ فاءَتْ" رَجَعَتْ" فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ" أَيِ احْمِلُوهُمَا عَلَى الانصاف."
وَأَقْسِطُوا" أيها الناس فلا تقتتلوا. قيل: أَقْسِطُوا أَيِ
اعْدِلُوا." إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" أي
العادلين المحقين.
__________
(1). تدارأ القوم: تدافعوا في الخصومة ونحوها واختلفوا.
(2). راجع خبر حربهما في كتاب الكامل لابن الأثير ج 1 ص 494
طبع أوربا.
(3). تجالدوا: تضاربوا.
(4). راجع ج 8 ص 5 (294)
(5). آية 2 سورة النور.
(16/316)
الثَّانِيَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا
تَخْلُو الْفِئَتَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي
اقْتِتَالِهِمَا، إِمَّا أَنْ يَقْتَتِلَا عَلَى سبيل البغي
منهما جميعا أولا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْوَاجِبُ فِي
ذَلِكَ أَنْ يُمْشَى بَيْنَهُمَا بِمَا يُصْلِحُ ذَاتَ
الْبَيْنِ وَيُثَمِّرُ الْمُكَافَّةَ وَالْمُوَادَعَةَ. فَإِنْ
لَمْ يَتَحَاجَزَا وَلَمْ يَصْطَلِحَا وَأَقَامَتَا عَلَى
الْبَغْيِ صِيرَ إِلَى مُقَاتَلَتِهِمَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ
الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا بَاغِيَةً عَلَى
الْأُخْرَى، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُقَاتَلَ فِئَةُ الْبَغْيِ
إِلَى أَنْ تَكُفَّ وَتَتُوبَ، فَإِنْ فَعَلَتْ أُصْلِحَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَبْغِيِّ عَلَيْهَا بِالْقِسْطِ
وَالْعَدْلِ. فَإِنِ الْتَحَمَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا
لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِمَا وَكِلْتَاهُمَا عِنْدَ
أَنْفُسِهِمَا مُحِقَّةٌ، فَالْوَاجِبُ إِزَالَةُ الشُّبْهَةِ
بِالْحُجَّةِ النَّيِّرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَلَى
مَرَاشِدِ الْحَقِّ. فَإِنْ رَكِبَتَا مَتْنَ اللَّجَاجِ
وَلَمْ تَعْمَلَا عَلَى شَاكِلَةِ مَا هُدِيَتَا إِلَيْهِ
وَنُصِحَتَا بِهِ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ بَعْدَ وُضُوحِهِ
لَهُمَا فَقَدْ لَحِقَتَا بالفئتين الباغيتين. والله أعلم.
الثالثة- في هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ
الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ الْمَعْلُومُ بَغْيُهَا عَلَى
الْإِمَامِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى
فَسَادِ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:] قِتَالُ
الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ [. وَلَوْ كَانَ قِتَالُ الْمُؤْمِنِ
الْبَاغِي كُفْرًا لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ
بِالْكُفْرِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ! وَقَدْ قَاتَلَ
الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ تَمَسَّكَ
بِالْإِسْلَامِ وَامْتَنَعَ مِنَ الزَّكَاةِ، وَأَمَرَ أَلَّا
يُتْبَعَ مُوَلٍّ، وَلَا يُجْهَزَ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَمْ
تُحَلَّ أَمْوَالُهُمْ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ فِي الْكُفَّارِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ
اخْتِلَافٍ يَكُونُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْهَرَبُ مِنْهُ
وَلُزُومُ الْمَنَازِلِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ وَلَا أُبْطِلَ
بَاطِلٌ، وَلَوَجَدَ أَهْلُ النِّفَاقِ وَالْفُجُورِ سَبِيلًا
إِلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ وَسَفْكِ
دِمَائِهِمْ، بِأَنْ يَتَحَزَّبُوا عَلَيْهِمْ، وَيَكُفَّ
الْمُسْلِمُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:] خُذُوا عَلَى أَيْدِي
سُفَهَائِكُمْ [. الرَّابِعَةُ- قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ
بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي قِتَالِ
الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُمْدَةُ فِي حَرْبِ الْمُتَأَوِّلِينَ،
وَعَلَيْهَا عَوَّلَ الصَّحَابَةُ، وَإِلَيْهَا لَجَأَ
الْأَعْيَانُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ، وَإِيَّاهَا عَنَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ:]
تَقْتُلُ عَمَّارًا «1» الْفِئَةُ الباغية [. وقوله عليه
السلام في شأن
__________
(1). هو عمار بن ياسر: (راجع خبره في كتب الصحابة).
(16/317)
الْخَوَارِجِ:] يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ
فُرْقَةٍ أَوْ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ [، وَالرِّوَايَةُ
الْأُولَى أَصَحُّ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:]
تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ [.
وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ
كَانَ مَعَهُ. فَتَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ
وَثَبَتَ بِدَلِيلِ الدِّينِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ كَانَ إِمَامًا، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ
باغ وأن قتاله واجب حتى يفئ إِلَى الْحَقِّ وَيَنْقَادَ إِلَى
الصُّلْحِ، لِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُتِلَ
وَالصَّحَابَةُ بُرَآءٌ مِنْ دَمِهِ، لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ
قِتَالِ مَنْ ثَارَ عَلَيْهِ وَقَالَ: لَا أَكُونُ أَوَّلَ
مَنْ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في أُمَّتِهِ بِالْقَتْلِ، فَصَبَرَ عَلَى
الْبَلَاءِ، وَاسْتَسْلَمَ لِلْمِحْنَةِ وَفَدَى بِنَفْسِهِ
الْأُمَّةَ. ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ النَّاسِ سُدًى،
فَعُرِضَتْ عَلَى بَاقِي الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ]
عُمَرُ [«1» فِي الشُّورَى، وَتَدَافَعُوهَا، وَكَانَ عَلِيٌّ
كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا،
فَقِبَلَهَا حَوْطَةً «2» عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُسْفَكَ
دِمَاؤُهَا بِالتَّهَارُجِ وَالْبَاطِلِ، أَوْ يَتَخَرَّقَ
أَمْرُهَا إِلَى مَا لَا يَتَحَصَّلُ. فَرُبَّمَا تَغَيَّرَ
الدِّينُ وَانْقَضَّ عَمُودُ الْإِسْلَامِ. فَلَمَّا بُويِعَ
لَهُ طَلَبَ أَهْلُ الشَّامِ فِي شَرْطِ الْبَيْعَةِ
التَّمَكُّنَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَخْذَ الْقَوَدِ
مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
ادْخُلُوا فِي الْبَيْعَةِ وَاطْلُبُوا الْحَقَّ تَصِلُوا
إِلَيْهِ. فَقَالُوا: لَا تَسْتَحِقُّ بَيْعَةً وَقَتَلَةُ
عُثْمَانَ مَعَكَ تَرَاهُمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً. فَكَانَ
عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ رَأْيًا وَأَصْوَبَ قِيلًا،
لِأَنَّ عَلِيًّا لَوْ تَعَاطَى الْقَوَدَ مِنْهُمْ
لَتَعَصَّبَتْ لَهُمْ قَبَائِلُ وَصَارَتْ حَرْبًا ثَالِثَةً،
فَانْتَظَرَ بِهِمْ أَنْ يَسْتَوْثِقَ الْأَمْرُ «3»
وَتَنْعَقِدَ الْبَيْعَةُ، وَيَقَعَ الطَّلَبُ مِنَ
الْأَوْلِيَاءِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَيَجْرِيَ الْقَضَاءُ
بِالْحَقِّ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ
لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ إِذَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى
إِثَارَةِ الْفِتْنَةِ أَوْ تَشْتِيتِ الْكَلِمَةِ. وَكَذَلِكَ
جَرَى لِطَلْحَةِ وَالزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُمَا مَا خَلَعَا
عَلِيًّا مِنْ وِلَايَةٍ وَلَا اعْتَرَضَا عَلَيْهِ فِي
دِيَانَةٍ، وَإِنَّمَا رَأَيَا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِقَتْلِ
أَصْحَابِ عُثْمَانَ أَوْلَى. قُلْتُ: فَهَذَا قَوْلٌ فِي
سَبَبِ الْحَرْبِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ جِلَّةٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْوَقْعَةَ بِالْبَصْرَةِ بَيْنَهُمْ
كَانَتْ عَلَى غَيْرِ عَزِيمَةٍ مِنْهُمْ عَلَى الْحَرْبِ بَلْ
فَجْأَةً، وَعَلَى سَبِيلِ دَفْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِظَنِّهِ أَنَّ الْفَرِيقَ
الْآخَرَ قَدْ غَدَرَ بِهِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ كان قد انتظم
بينهم،
__________
(1). زيادة عن ابن العربي.
(2). الحوطة والحيطة: الاحتياط.
(3). في ابن العربي:" الأمن".
(16/318)
وَتَمَّ الصُّلْحُ وَالتَّفَرُّقُ عَلَى
الرِّضَا. فَخَافَ قَتَلَةُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
مِنَ التَّمْكِينِ مِنْهُمْ وَالْإِحَاطَةِ بِهِمْ،
فَاجْتَمَعُوا وَتَشَاوَرُوا وَاخْتَلَفُوا، ثُمَّ اتَّفَقَتْ
آرَاؤُهُمْ عَلَى أَنْ يَفْتَرِقُوا فَرِيقَيْنِ، وَيَبْدَءُوا
بِالْحَرْبِ سُحْرَةً فِي الْعَسْكَرَيْنِ، وَتَخْتَلِفَ
السِّهَامُ بَيْنَهُمْ، وَيَصِيحُ الْفَرِيقُ الَّذِي فِي
عَسْكَرِ عَلِيٍّ: غَدَرَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ،
وَالْفَرِيقُ الَّذِي فِي عَسْكَرِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ:
غَدَرَ عَلِيٌّ. فَتَمَّ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَا دَبَّرُوهُ،
وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ، فَكَانَ كُلَّ فَرِيقٍ دَافِعًا
لِمَكْرَتِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَمَانِعًا مِنَ الْإِشَاطَةِ
«1» بِدَمِهِ. وَهَذَا صَوَابٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَطَاعَةٌ
لِلَّهِ تَعَالَى، إِذْ وَقَعَ الْقِتَالُ وَالِامْتِنَاعُ
مِنْهُمَا عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ
الْمَشْهُورُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللَّهِ" أَمْرٌ بِالْقِتَالِ. وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى
الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ
الْبَاقِينَ، وَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، كَسَعْدِ
بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ومحمد بن
سلمة وَغَيْرِهِمْ. وَصَوَّبَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ لَهُمْ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
بِعُذْرٍ قَبِلَهُ، مِنْهُ. وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَفْضَى إِلَيْهِ الْأَمْرُ
عَاتَبَ سَعْدًا عَلَى مَا فَعَلَ، وَقَالَ لَهُ: لَمْ تَكُنْ
مِمَّنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ حِينَ اقْتَتَلَا،
وَلَا مِمَّنْ قَاتَلَ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ. فَقَالَ لَهُ
سَعْدٌ: نَدِمْتُ عَلَى تَرْكِي قِتَالَ الْفِئَةِ
الْبَاغِيَةِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْكُلِّ
دَرَكٌ «2» فِيمَا فَعَلَ، وَإِنَّمَا كَانَ تَصَرُّفًا
بِحُكْمِ الِاجْتِهَادِ وَإِعْمَالًا بِمُقْتَضَى الشرع. والله
أعلم. السادسة- قوله تَعَالَى:" فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ" وَمِنَ العدل في صلحهم ألا يطالبون
بِمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ، فَإِنَّهُ
تَلَفٌ عَلَى تَأْوِيلٍ. وَفِي طَلَبِهِمْ تَنْفِيرٌ لَهُمْ
عَنِ الصُّلْحِ وَاسْتِشْرَاءٌ «3» فِي الْبَغْيِ. وَهَذَا
أَصْلٌ فِي الْمَصْلَحَةِ. وَقَدْ قَالَ لِسَانُ الْأُمَّةِ:
إِنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَرْبِ الصَّحَابَةِ
التَّعْرِيفُ مِنْهُمْ لِأَحْكَامِ قِتَالِ أَهْلِ
التَّأْوِيلِ، إِذْ كَانَ أَحْكَامُ قِتَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ
قَدْ عُرِفَتْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله.
__________
(1). الإشاطة: الإهلاك. يقال: أشاط فلان دم فلان إذا عرضه
للهلاك.
(2). الدرك (بفتح الراء وسكونها): التبعة.
(3). استشرى الرجل في الامر: لج. والأمور: تفاقمت وعظمت.
(16/319)
السَّابِعَةُ- إِذَا خَرَجَتْ عَلَى
الْإِمَامِ الْعَدْلِ خَارِجَةٌ بَاغِيَةٌ وَلَا حُجَّةَ
لَهَا، قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ بِالْمُسْلِمِينَ كافة أو بمن
فيه الكفاية، وَيَدْعُوهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَى الطَّاعَةِ
وَالدُّخُولِ فِي الجماعة، فإن أبو امن الرُّجُوعِ وَالصُّلْحِ
قُوتِلُوا. وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ وَلَا يُتْبَعُ
مُدْبِرُهُمْ وَلَا يُذَفَّفُ «1» عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَا
تُسْبَى ذَرَارِيهِمْ وَلَا أَمْوَالُهُمُ. وَإِذَا قَتَلَ
الْعَادِلُ الْبَاغِيَ أَوِ الْبَاغِي الْعَادِلَ وَهُوَ
وَلِيُّهُ لَمْ يَتَوَارَثَا. وَلَا يَرِثُ قَاتِلٌ عَمْدًا
عَلَى حَالٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَادِلَ يَرِثُ الْبَاغِي،
قِيَاسًا عَلَى الْقِصَاصِ. الثَّامِنَةُ- وَمَا اسْتَهْلَكَهُ
الْبُغَاةُ وَالْخَوَارِجُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ تَابُوا
لَمْ يُؤَاخَذُوا بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُونَ.
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ إِتْلَافٌ بِعُدْوَانٍ فَيَلْزَمُ الضَّمَانُ.
وَالْمُعَوِّلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي حُرُوبِهِمْ لَمْ يَتْبَعُوا
مُدْبِرًا وَلَا ذَفَّفُوا عَلَى جَرِيحٍ وَلَا قَتَلُوا
أَسِيرًا وَلَا ضَمِنُوا نَفْسًا وَلَا مَالًا، وَهُمُ
الْقُدْوَةُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَدْرِي
كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
[؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ:] لَا
يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا ولا يطلب
هاربها ولا يقسم فيئها [. فَأَمَّا مَا كَانَ قَائِمًا رُدَّ
بِعَيْنِهِ. هَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ خَرَجَ بِتَأْوِيلٍ
يُسَوِّغُ لَهُ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ:
إِنْ كَانَتِ الْبَاغِيَةُ مِنْ قِلَّةَ الْعَدَدِ بِحَيْثُ
لَا مَنَعَةَ لَهَا ضَمِنَتْ بَعْدَ الْفَيْئَةِ مَا جَنَتْ،
وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً ذَاتَ مَنَعَةٍ وَشَوْكَةٍ لَمْ
تَضْمَنْ، إِلَّا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ
اللَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِأَنَّ الضَّمَانَ
يَلْزَمُهَا إِذَا فَاءَتْ. وَأَمَّا قَبْلَ التَّجَمُّعِ
وَالتَّجَنُّدِ أَوْ حِينَ تَتَفَرَّقُ عِنْدَ وَضْعِ
الْحَرْبِ أَوْزَارِهَا، فَمَا جَنَتْهُ ضَمِنَتْهُ عِنْدَ
الْجَمِيعِ. فَحَمْلُ الْإِصْلَاحِ بِالْعَدْلِ فِي قَوْلِهِ"
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ" عَلَى مَذْهَبِ
مُحَمَّدٍ وَاضِحٌ مُنْطَبِقٌ عَلَى لَفْظِ التَّنْزِيلِ.
وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ وَجْهُهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَوْنِ
الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ قَلِيلَةَ العدد. والذي ذكروا أن الغرض
إماتة لضغائن وَسَلُّ الْأَحْقَادِ دُونَ ضَمَانِ
الْجِنَايَاتِ، لَيْسَ بِحُسْنِ الطِّبَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ
مِنْ أَعْمَالِ الْعَدْلِ وَمُرَاعَاةِ الْقِسْطِ. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَرَنَ بِالْإِصْلَاحِ
الثَّانِي الْعَدْلَ دُونَ الْأَوَّلِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ
الْمُرَادَ بِالِاقْتِتَالِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنْ
يَقْتَتِلَا باغيين أو راكبتي شبهة، وأيتهما كانت
__________
(1). تذفيف الجريح: الإجهاز عليه وتحرير قتله.
(16/320)
فَالَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ فِي شَأْنِهِمَا إِصْلَاحُ ذَاتِ
الْبَيْنِ وَتَسْكِينُ الدَّهْمَاءِ بِإِرَاءَةِ «1» الْحَقِّ
وَالْمَوَاعِظِ الشَّافِيَةِ وَنَفْيِ الشُّبْهَةِ، إِلَّا إذا
صرنا فَحِينَئِذٍ تَجِبُ الْمُقَاتَلَةُ، وَأَمَّا الضَّمَانُ
فَلَا يَتَّجِهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا بَغَتْ إِحْدَاهُمَا،
فَإِنَّ الضَّمَانَ مُتَّجِهٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ
الْمَذْكُورَيْنِ. التَّاسِعَةُ- وَلَوْ تَغَلَّبُوا عَلَى
بَلَدٍ فَأَخَذُوا الصَّدَقَاتِ وَأَقَامُوا الْحُدُودَ،
وَحَكَمُوا فِيهِمْ بِالْأَحْكَامِ، لَمْ تُثَنَّ عَلَيْهِمُ
الصَّدَقَاتُ وَلَا الحدود، ولا ينقص مِنْ أَحْكَامِهِمْ
إِلَّا مَا كَانَ خِلَافًا لِلْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ
الْإِجْمَاعِ، كَمَا تُنْقَضُ أَحْكَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ
وَالسُّنَّةِ، قَالَهُ مُطَّرِفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا تَجُوزُ بِحَالٍ. وَرُوِيَ عَنْ
أَصْبَغَ أَنَّهُ جَائِزٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ مِمَّنْ لَا
تَجُوزُ تَوْلِيَتُهُ. فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ لَمْ
يَكُونُوا بُغَاةً. وَالْعُمْدَةُ لَنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ
أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لَمَّا انْجَلَتِ
الْفِتْنَةُ وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِالْهُدْنَةِ
وَالصُّلْحِ، لَمْ يَعْرِضُوا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ لَا
يَصْلُحُ، لِأَنَّ الْفِتْنَةَ لَمَّا انْجَلَتْ كَانَ
الْإِمَامُ هُوَ الْبَاغِي، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ
يَعْتَرِضُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ- لَا يَجُوزُ
أَنْ يُنْسَبَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خَطَأٌ
مَقْطُوعٌ بِهِ، إِذْ كَانُوا كُلَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِيمَا
فَعَلُوهُ وَأَرَادُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمْ
كُلُّهُمْ لَنَا أَئِمَّةٌ، وَقَدْ تَعَبَّدْنَا بِالْكَفِّ
عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَلَّا نَذْكُرَهُمْ إِلَّا
بِأَحْسَنَ الذِّكْرِ، لِحُرْمَةِ الصُّحْبَةِ وَلِنَهْيِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبِّهِمْ،
وَأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُمْ، وَأَخْبَرَ بِالرِّضَا
عَنْهُمْ. هَذَا مَعَ مَا قَدْ وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ مِنْ
طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ طَلْحَةَ شَهِيدٌ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ، فَلَوْ كَانَ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَرْبِ
عِصْيَانًا لَمْ يَكُنْ بِالْقَتْلِ فِيهِ شَهِيدًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ خَطَأً فِي
التَّأْوِيلِ وَتَقْصِيرًا فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ
الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِقَتْلٍ فِي طَاعَةٍ،
فَوَجَبَ حَمْلُ أَمْرِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَمِمَّا
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدْ صَحَّ وَانْتَشَرَ مِنْ
أَخْبَارِ عَلِيٍّ بِأَنَّ قَاتِلَ الزُّبَيْرِ في النار.
وقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ:] بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ
بِالنَّارِ [. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ
طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ
__________
(1). في ز: وتسكين: الدماء بإبانة الحق. [ ..... ]
(16/321)
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
غَيْرُ عَاصِيَيْنِ وَلَا آثِمَيْنِ
بِالْقِتَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلْحَةَ:]
شَهِيدٌ [. وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّ قَاتِلَ الزُّبَيْرِ فِي
النَّارِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَعَدَ غَيْرَ مُخْطِئٍ فِي
التَّأْوِيلِ. بَلْ صواب أراهم اللَّهُ الِاجْتِهَادَ. وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَعْنَهُمْ وَالْبَرَاءَةَ
مِنْهُمْ وَتَفْسِيقَهُمْ، وَإِبْطَالَ فَضَائِلِهِمْ
وَجِهَادَهُمْ، وَعَظِيمَ غِنَائِهِمْ فِي الدِّينِ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُهُمِ عَنِ الدِّمَاءِ
الَّتِي أُرِيقَتْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ:" تِلْكَ أُمَّةٌ
قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا
تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ" «1» [البقرة: 141].
وسيل بَعْضُهُمْ عَنْهَا أَيْضًا فَقَالَ: تِلْكَ دِمَاءٌ
طَهَّرَ اللَّهُ مِنْهَا يَدِي، فَلَا أُخَضِّبُ بِهَا
لِسَانِي. يَعْنِي فِي التَّحَرُّزِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي
خَطَأٍ، وَالْحُكْمِ عَلَى بَعْضِهِمْ بِمَا لَا يَكُونُ
مُصِيبًا فِيهِ. قَالَ ابْنُ فَوْرِكٍ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا
مَنْ قَالَ إِنَّ سَبِيلَ مَا جَرَتْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ مِنَ
الْمُنَازَعَاتِ كَسَبِيلِ مَا جَرَى بَيْنَ إِخْوَةِ يُوسُفَ
مَعَ يُوسُفَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا بِذَلِكَ عَنْ
حَدِّ الْوَلَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ
فِيمَا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ:
فَأَمَّا الدِّمَاءُ فَقَدْ أَشْكَلَ عَلَيْنَا الْقَوْلُ
فِيهَا بِاخْتِلَافِهِمْ. وَقَدْ سُئِلَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ عَنْ قِتَالِهِمْ فَقَالَ: قِتَالٌ شَهِدَهُ
أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَغِبْنَا، وَعَلِمُوا وَجَهِلْنَا، وَاجْتَمَعُوا
فَاتَّبَعْنَا، وَاخْتَلَفُوا فَوَقَفْنَا. قَالَ
الْمُحَاسِبِيُّ: فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ،
وَنَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا دَخَلُوا
فِيهِ مِنَّا، وَنَتَّبِعُ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَنَقِفُ
عِنْدَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلَا نَبْتَدِعُ رَأْيًا
مِنَّا، وَنَعْلَمُ أَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا وَأَرَادُوا اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ كَانُوا غَيْرَ مُتَّهَمِينَ فِي الدين،
ونسأل الله التوفيق.
[سورة الحجرات (49): آية 10]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" أَيْ فِي الدِّينِ
وَالْحُرْمَةِ لَا فِي النَّسَبِ، وَلِهَذَا قِيلَ: أُخُوَّةُ
الدِّينِ أَثْبَتُ مِنْ أُخُوَّةِ النَّسَبِ، فَإِنَّ أخوة
النسب تنقطع بمخالفة الدين،
__________
(1). (134) سورة البقرة.
(16/322)
وَأُخُوَّةَ الدِّينِ لَا تَنْقَطِعُ
بِمُخَالَفَةِ النَّسَبِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لَا تَحَاسَدُوا وَلَا
تَبَاغَضُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا
تَنَاجَشُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا [«1». وَفِي
رِوَايَةٍ:] لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا
تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى
بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا،
الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا
يَخْذُلُهُ ولا يحقره، التقوى ها هنا- وَيُشِيرُ إِلَى
صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبَ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ
أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى
الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضِهِ [لَفْظُ
مُسْلِمٍ. وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:]
الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَعِيبُهُ
وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَتَطَاوَلُ عَلَيْهِ فِي الْبُنْيَانِ
فَيَسْتُرُ عَلَيْهِ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا
يُؤْذِيهِ بِقُتَارِ قِدْرِهِ إِلَّا أَنْ يَغْرِفَ لَهُ
غَرْفَةً وَلَا يَشْتَرِيَ لِبَنِيهِ الْفَاكِهَةَ
فَيَخْرُجُونَ بِهَا إِلَى صِبْيَانِ جَارِهِ وَلَا
يُطْعِمُونَهُمْ مِنْهَا [. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] احْفَظُوا وَلَا يَحْفَظُ
مِنْكُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ" أَيْ بَيْنَ كُلِّ
مُسْلِمَيْنِ تَخَاصَمَا. وَقِيلَ: بَيْنَ الْأَوْسِ
وَالْخَزْرَجِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ:
أَرَادَ بِالْأَخَوَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، لِأَنَّ لَفْظَ
التَّثْنِيَةِ يَرِدُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ، كقوله
تعالى:" بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ" «2» [المائدة: 64].
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ أَصْلِحُوا بَيْنَ كُلِّ
أَخَوَيْنِ، فَهُوَ آتٍ عَلَى الْجَمِيعِ. وَقَرَأَ ابْنُ
سِيرِينَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ
وَالْجَحْدَرِيُّ وَيَعْقُوبُ" بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ"
بِالتَّاءِ عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ"
إِخْوَانِكُمْ". الْبَاقُونَ" أَخَوَيْكُمْ" بِالْيَاءِ عَلَى
التَّثْنِيَةِ. الثَّالِثَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي
قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَغْي لَا يُزِيلُ اسْمَ
الْإِيمَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُمْ إِخْوَةً
مُؤْمِنِينَ مَعَ كَوْنِهِمْ بَاغِينَ. قَالَ الْحَارِثُ
الْأَعْوَرُ: سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الْقُدْوَةُ عَنْ قِتَالِ أَهْلِ
الْبَغْيِ مِنْ أَهْلِ الجمل وصفين: أمشركون هم؟
__________
(1). التحسس (بالحاء): الاستماع لحديث القوم. والتناجش: أن
تزيد في ثمن سلعة ولا رغبة لك في شرائها. وقيل: هو تحريض الغير
على الشراء.
(2). آية 64 سورة المائدة.
(16/323)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ
يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى
أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ
بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (11)
قَالَ: لَا، مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا.
فَقِيلَ: أَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: لَا، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. قِيلَ لَهُ: فَمَا
حَالُهُمْ؟ قَالَ: إخواننا بغوا علينا.
[سورة الحجرات (49): آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ
عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ
عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً
مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً
مِنْهُنَّ" فيه أربع مسائل: الاولى-:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا
خَيْراً مِنْهُمْ" قِيلَ عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ" خَيْراً
مِنْهُمْ" أَيْ مُعْتَقَدًا وَأَسْلَمَ بَاطِنًا.
وَالسُّخْرِيَةُ الِاسْتِهْزَاءُ. سَخِرْتُ مِنْهُ أَسْخَرُ
سَخَرًا (بِالتَّحْرِيكِ) وَمَسْخَرًا وَسُخْرًا (بِالضَّمِّ).
وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ سَخِرْتُ بِهِ، وَهُوَ أَرْدَأُ
اللُّغَتَيْنِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: سَخِرْتُ مِنْهُ
وَسَخِرْتُ بِهِ، وَضَحِكْتُ مِنْهُ وَضَحِكْتُ بِهِ،
وَهَزِئْتُ مِنْهُ وَهَزِئْتُ بِهِ، كل يقال. والاسم السخرية
والسخري، وقرى بِهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِيَتَّخِذَ
بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا" [الزخرف: 32] وَقَدْ تَقَدَّمَ
«1». وَفُلَانٌ سُخْرَةٌ، يُتَسَخَّرُ فِي الْعَمَلِ. يُقَالُ:
خَادِمُ سُخْرَةٍ. وَرَجُلُ سُخْرَةٍ أَيْضًا يُسْخَرُ مِنْهُ.
وَسُخَرَةٌ (بِفَتْحِ الْخَاءِ) يَسْخَرُ مِنَ النَّاسِ.
الثَّانِيَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ
شَمَّاسٍ كَانَ فِي أُذُنِهِ وَقْرٌ، فَإِذَا سَبَقُوهُ إِلَى
مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوْسَعُوا لَهُ إِذَا أَتَى حَتَّى يَجْلِسَ إِلَى جَنْبِهِ
لِيَسْمَعَ مَا يَقُولُ، فَأَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ
فَاتَتْهُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ رَكْعَةٌ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ
أَصْحَابُهُ مجالسهم منه،
__________
(1). آية 32 سورة الزخرف. راجع ص 83 من هذا الجزء. وج 12 ص 154
وج 15 ص 225
(16/324)
فَرَبَضَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ
بِمَجْلِسِهِ، وَعَضُّوا «1» فِيهِ فَلَا يَكَادُ يُوَسِّعُ
أَحَدٌ لِأَحَدٍ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَجِدُ
مَجْلِسًا فَيَظَلُّ قَائِمًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ ثَابِتٌ
مِنَ الصَّلَاةِ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَيَقُولُ:
تَفَسَّحُوا تَفَسَّحُوا، فَفَسَحُوا لَهُ حَتَّى انْتَهَى
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: تَفَسَّحْ.
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: قَدْ وَجَدْتَ مَجْلِسًا فَاجْلِسْ!
فَجَلَسَ ثَابِتٌ مِنْ خَلْفِهِ مُغْضَبًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ
هَذَا؟ قَالُوا فُلَانٌ، فَقَالَ ثَابِتٌ: ابْنُ فُلَانَةٍ!
يُعَيِّرُهُ بِهَا، يَعْنِي أُمًّا لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
فَاسْتَحْيَا الرَّجُلُ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
نَزَلَتْ فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ الَّذِي تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُمْ فِي أَوَّلِ" السُّورَةِ" «2» اسْتَهْزَءُوا
بِفُقَرَاءِ الصَّحَابَةِ، مِثْلِ عَمَّارٍ وَخَبَّابٍ وَابْنِ
فُهَيْرَةَ وَبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَسَلْمَانَ وَسَالِمٍ
مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِمْ، لَمَّا رَأَوْا مِنْ
رَثَاثَةِ حَالِهِمْ، فَنَزَلَتْ فِي الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ سُخْرِيَةُ الْغَنِيِّ مِنَ
الْفَقِيرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا يَسْخَرُ مَنْ سَتَرَ
اللَّهُ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ مِمَّنْ كَشَفَهُ اللَّهُ،
فَلَعَلَّ إِظْهَارَ ذُنُوبِهِ فِي الدُّنْيَا خَيْرٌ لَهُ فِي
الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عِكْرِمَةِ بْنِ أَبِي
جَهْلٌ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُسْلِمًا، وَكَانَ
الْمُسْلِمُونَ إِذَا رَأَوْهُ قَالُوا ابْنَ فِرْعَوْنِ
هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَيَنْبَغِي أَلَّا يَجْتَرِئَ أَحَدٌ عَلَى
الِاسْتِهْزَاءِ بِمَنْ يَقْتَحِمُهُ بِعَيْنِهِ إِذَا رَآهُ
رَثَّ الْحَالِ أَوْ ذَا عَاهَةٍ فِي بَدَنِهِ أَوْ غَيْرِ
لَبِيقٍ «3» فِي مُحَادَثَتِهِ، فَلَعَلَّهُ أَخْلَصُ ضَمِيرًا
وَأَنْقَى «4» قَلْبًا مِمَّنْ هُوَ عَلَى ضِدِّ صِفَتِهِ،
فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ بِتَحْقِيرِ مَنْ وَقَّرَهُ اللَّهُ،
وَالِاسْتِهْزَاءِ بِمَنْ عَظَّمَهُ اللَّهُ. وَلَقَدْ بَلَغَ
بِالسَّلَفِ إِفْرَاطُ تَوَقِّيهِمْ وَتَصَوُّنِهِمْ مِنْ
ذَلِكَ أَنْ قَالَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلٍ: لَوْ رَأَيْتُ
رَجُلًا يُرْضِعُ عنزا فضحكت منه لخشيت أَصْنَعَ مِثْلَ
الَّذِي صَنَعَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ:
الْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْقَوْلِ، لَوْ سَخِرْتُ من كلب لخشيت
أن أحول كلبا. و" قَوْمٌ" فِي اللُّغَةِ لِلْمُذَكَّرِينَ
خَاصَّةً. قَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ
حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وَسُمُّوا قَوْمًا لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَعَ دَاعِيهِمْ فِي
الشَّدَائِدِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ جَمْعٌ قَائِمٌ، ثُمَّ
اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ جَمَاعَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا
قَائِمِينَ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْقَوْمِ النِّسَاءُ مجازا،
وقد مضى في" البقرة"»
بيانه.
__________
(1). عض فلان الشيء: لزمه واستمسك به.
(2). راجع ص 300 وص 304.
(3). رجل لبق ولبيق: حاذق رفيق بكل عمل.
(4). في أب ز: وأتقى بالتاء بدل النون.
(5). راجع ج 1 ص 400 طبعه ثانية أو ثالثة.
(16/325)
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا
نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ"
أَفْرَدَ النِّسَاءَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ السُّخْرِيَةَ
مِنْهُنَّ أَكْثَرُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّا
أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ" «1» [نوح: 1] فَشَمِلَ
الْجَمِيعَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ فِي
امْرَأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَخِرَتَا مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَذَلِكَ
أَنَّهَا رَبَطَتْ خَصْرَيْهَا بِسَبِيبَةٍ- وَهُوَ ثَوْبٌ
أَبْيَضُ، وَمِثْلُهَا السِّبُّ- وَسَدَلَتْ طَرَفَيْهَا
خَلْفَهَا فَكَانَتْ تَجُرُّهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةٌ
لِحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: انْظُرِي! مَا تَجُرُّ
خَلْفَهَا كَأَنَّهُ لِسَانُ كَلْبٍ، فَهَذِهِ كَانَتْ
سُخْرِيَتُهُمَا. وَقَالَ أَنَسٌ وَابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي
نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
عَيَّرْنَ أُمَّ سَلَمَةَ بِالْقِصَرِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي
عَائِشَةَ، أَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، يَا
نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهَا لَقَصِيرَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ
أَخْطَبَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النِّسَاءَ
يُعَيِّرْنَنِي، وَيَقُلْنَ لِي يَا يَهُودِيَّةُ بِنْتَ
يَهُودِيَّيْنِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هَلَّا قُلْتِ إِنَّ أَبِي هَارُونُ
وَإِنَّ عَمِّي مُوسَى وَإِنَّ زَوْجِي مُحَمَّدٌ [.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. الرَّابِعَةُ- فِي
صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَكَيْتُ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا «2»،
فَقَالَ:] مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا وَأَنَّ لِي
كَذَا وَكَذَا [. قَالَتْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ- وَقَالَتْ بِيَدِهَا «3» -
هَكَذَا، يَعْنِي أَنَّهَا قَصِيرَةٌ. فَقَالَ:] لَقَدْ
مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مُزِجَ بِهَا الْبَحْرُ لَمُزِجَ [.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ:
نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْفُسِ.
وَقَالَ:] لِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ
الْفَحْلِ ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا [. وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِنَّ اللَّهَ لَا
يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ
إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ [. وَهَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَلَّا يُقْطَعَ بِعَيْبِ أَحَدٍ لِمَا
يُرَى عَلَيْهِ مِنْ صُوَرِ أَعْمَالِ الطَّاعَةِ أَوِ
الْمُخَالَفَةِ، فَلَعَلَّ مَنْ يُحَافِظُ عَلَى الْأَعْمَالِ
الظَّاهِرَةِ يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ وَصْفًا
مَذْمُومًا لا تصح
__________
(1). أول سورة نوح.
(2). حكيت فلانا وحاكيته: فعلت مثل فعله.
(3). العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال وتطلقه على غير
الكلام واللسان، على المجاز والاتساع.
(16/326)
مَعَهُ تِلْكَ الْأَعْمَالُ. وَلَعَلَّ
مَنْ رَأَيْنَا عَلَيْهِ تَفْرِيطًا أَوْ مَعْصِيَةً يَعْلَمُ
اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ وَصْفًا مَحْمُودًا يَغْفِرُ لَهُ
بِسَبَبِهِ. فَالْأَعْمَالُ أَمَارَاتٌ ظَنِّيَّةٌ لَا
أَدِلَّةً قَطْعِيَّةً. وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عَدَمُ
الْغُلُوِّ فِي تَعْظِيمِ مَنْ رَأَيْنَا عَلَيْهِ أَفْعَالًا
صَالِحَةً، وَعَدَمُ الِاحْتِقَارِ لِمُسْلِمٍ رَأَيْنَا
عَلَيْهِ أَفْعَالًا سَيِّئَةً. بَلْ تُحْتَقَرُ وَتُذَمُّ
تِلْكَ الْحَالَةُ السَّيِّئَةُ، لَا تِلْكَ الذَّاتُ
الْمُسِيئَةُ. فَتَدَبَّرْ هَذَا، فَإِنَّهُ نَظَرٌ دَقِيقٌ،
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا
تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ" فيه ثلاث مسائل: قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ" اللَّمْزُ: الْعَيْبُ، وَقَدْ
مَضَى فِي" بَرَاءَةٌ" عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ
مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ" «1» [التوبة: 58]. وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ اللَّمْزُ بِالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَاللِّسَانِ
وَالْإِشَارَةِ. وَالْهَمْزُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللِّسَانِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مثل قوله تعالى:" وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ" «2» [النساء: 29] أَيْ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ،
فَكَأَنَّهُ بِقَتْلِ أَخِيهِ قَاتَلَ نَفْسَهُ. وكقوله
تعالى:" فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ" «3» [النور: 61]
يَعْنِي يُسَلِّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَالْمَعْنَى: لَا
يَعِبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا
يَطْعَنْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا
يَلْعَنْ بَعْضُكُمْ بعضا. وقرى:" وَلَا تَلْمُزُوا"
بِالضَّمِّ. وَفِي قَوْلِهِ" أَنْفُسَكُمْ" تَنْبِيهٌ عَلَى
أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَعِيبُ نَفْسَهُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يَعِيبَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ كَنَفْسِهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] الْمُؤْمِنُونَ كَجَسَدٍ وَاحِدٍ إِنِ
اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ
بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى [. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْظُرَ
الْعُيُوبَ جَمَّةً فَتَأَمَّلْ عَيَّابًا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا
يَعِيبُ النَّاسَ بِفَضْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْعَيْبِ. وَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ
الْقَذَاةَ «4» فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَيَدَعُ الْجِذْعَ فِي
عَيْنِهِ [وَقِيلَ: مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يَشْتَغِلَ
بِعُيُوبِ نَفْسِهِ عَنْ عُيُوبِ غَيْرِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
الْمَرْءُ إِنْ كَانَ عَاقِلًا وَرِعًا ... أَشْغَلَهُ عَنْ
عُيُوبِهِ وَرَعُهُ
كَمَا السَّقِيمُ الْمَرِيضُ يَشْغَلُهُ ... عَنْ وَجَعِ
النَّاسِ كلهم وجعه
__________
(1). راجع ج 8 ص (166)
(2). آية 29 سورة النساء. [ ..... ]
(3). آية 61 سورة النور.
(4). القذاة: هو ما يقع في العين والماء والتراب من تراب أو
تبن أو وسخ أو غير ذلك.
(16/327)
وَقَالَ آخَرُ:
لَا تَكْشِفَنَّ «1» مَسَاوِي النَّاسَ مَا سَتَرُوا ...
فَيَهْتِكُ اللَّهُ سِتْرًا عَنْ مَسَاوِيكَا
وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إِذَا ذُكِرُوا ... وَلَا
تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تَنابَزُوا
بِالْأَلْقابِ" النَّبَزُ (بِالتَّحْرِيكِ) اللَّقَبُ،
وَالْجَمْعُ الْأَنْبَازُ. وَالنَّبْزُ (بِالتَّسْكِينِ)
الْمَصْدَرُ، تَقُولُ: نَبَزَهُ يَنْبِزُهُ نَبْزًا، أَيْ
لَقَّبَهُ. وَفُلَانٌ يُنَبِّزُ بِالصِّبْيَانِ أَيْ
يُلَقِّبُهُمْ، شَدَّدَ لِلْكَثْرَةِ. وَيُقَالُ النَّبَزُ
وَالنَّزَبُ لَقَبُ السُّوءِ. وَتَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ:
أَيْ لَقَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ
أَبِي جُبَيْرَةَ بْنِ الضَّحَّاكِ قال: كان الرجل منا يكون له
الاسمين وَالثَّلَاثَةُ فَيُدْعَى بِبَعْضِهَا فَعَسَى أَنْ
يَكْرَهَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" وَلا تَنابَزُوا
بِالْأَلْقابِ". قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَبُو
جُبَيْرَةَ هَذَا هُوَ أَخُو ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ بْنِ
خَلِيفَةَ الْأَنْصَارِيِّ. وَأَبُو زَيْدٍ «2» سَعِيدُ بْنُ
الرَّبِيعِ صَاحِبُ الْهَرَوِيِّ ثِقَةً. وَفِي مُصَنَّفِ
أَبِي دَاوُدَ عَنْهُ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
فِي بَنِي سَلَمَةَ" وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ
الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ" قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مِنَّا
رَجُلٌ إِلَّا وَلَهُ اسْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، فَجَعَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
يَا فُلَانُ فَيَقُولُونَ مَهْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ
يَغْضَبُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ"
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ". فَهَذَا قَوْلٌ. وَقَوْلٌ
ثَانٍ- قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: كَانَ الرَّجُلُ
يُعَيَّرُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ بِكُفْرِهِ يَا يَهُودِيُّ يَا
نَصْرَانِيُّ، فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي
الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ قَوْلُ
الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ يَا فَاسِقُ يَا مُنَافِقُ. وَقَالَهُ
مجاهد والحسن أيضا." بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ
الْإِيمانِ" أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه
وتوبته، قاله ابن زيد. وقيل: المعنى أن من لقب أخاه أو سخر منه
فهو فاسق. وفي الصحيح] من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها
أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه [. فمن فعل ما نهى الله
عنه من السخرية والهمز والنبز فذلك فسوق، وذلك لا يجوز. وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنازعه
__________
(1). في أدب الدنيا والدين:" لا تلمس من مساوي".
(2). أبو زيد من رجال سند هذا الحديث.
(16/328)
رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرٍّ: يَا
ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَا ترى ها هنا أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ مَا
أَنْتَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ [يَعْنِي بِالتَّقْوَى، وَنَزَلَتْ"
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ
عَمِلَ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابَ، فَنَهَى اللَّهُ أَنْ
يُعَيَّرَ بِمَا سَلَفَ. يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] مَنْ
عَيَّرَ مُؤْمِنًا بِذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ كَانَ حَقًّا عَلَى
اللَّهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُ بِهِ وَيَفْضَحَهُ فِيهِ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [. الثَّالِثَةُ- وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ
مُسْتَثْنًى مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ
كَالْأَعْرَجِ وَالْأَحْدَبِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ كَسْبٌ
يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ عَلَيْهِ، فَجَوَّزَتْهُ
الْأُمَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَى قَوْلِهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ وَرَدَ لَعَمْرُ اللَّهِ
مِنْ ذَلِكَ فِي كتبهم ما لا أرضاه في صالح «1» جزرة،
لِأَنَّهُ صَحَّفَ" خَرَزَةً" فَلُقِّبَ بِهَا. وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُمْ فِي مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيِّ:
مُطَيَّنٌ، لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي طِينٍ. وَنَحْوُ ذَلِكَ
مِمَّا غَلَبَ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَا أَرَاهُ
سَائِغًا فِي الدِّينِ. وَقَدْ كَانَ مُوسَى بْنُ عُلَيِّ بْنِ
رَبَاحٍ الْمِصْرِيُّ يَقُولُ: لَا أَجْعَلُ أَحَدًا صَغَّرَ
اسْمَ أَبِي] فِي حِلٍّ [، وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى اسْمِهِ
التَّصْغِيرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ. وَالَّذِي يَضْبِطُ هَذَا
كُلَّهُ، أن كل ما يكرهه الْإِنْسَانُ إِذَا نُودِيَ بِهِ
فَلَا يَجُوزُ لِأَجْلِ الاذاية. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ-
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي (كِتَابِ الْأَدَبِ) مِنَ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ.
فِي (بَابِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ نَحْوَ
قَوْلِهِمُ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ لَا يُرَادُ بِهِ شَيْنُ
الرَّجُلِ) قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ [قَالَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ
الْمَنْعَ مِنْ تَلْقِيبِ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُ،
وَيَجُوزُ تَلْقِيبُهُ بِمَا يُحِبُّ، أَلَا تَرَى أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَّبَ عُمَرَ
بِالْفَارُوقِ، وَأَبَا بَكْرٍ بِالصِّدِّيقِ، وَعُثْمَانَ
بِذِي النُّورَيْنِ، وَخُزَيْمَةَ بِذِي الشَّهَادَتَيْنِ،
وَأَبَا هُرَيْرَةَ بِذِي الشِّمَالَيْنِ وَبِذِي الْيَدَيْنِ،
فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ.
__________
(1). هو صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب أبو علي البغدادي
الحافظ. روى الخطيب البغدادي بسنده ... سمعت صالحا- يعني جزرة-
يقول: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام، فقرأت أنا عليه: حدثكم
جرير بن عثمان قال: كان لابي أمامة خرزة يرقى بها المريض،
فصحفت" الخرزة" فقلت: كان لابي أمامة" جزرة" وإنما هي" خرزة".
راجع تاريخ بغداد في المجلد التاسع ص 322 في ترجمة صالح هذا.
(16/329)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ
أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
الزَّمَخْشَرِيُّ:" رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ
عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُسَمِّيَهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ
إِلَيْهِ [. وَلِهَذَا كَانَتِ التَّكْنِيَةُ مِنَ السُّنَّةِ
وَالْأَدَبِ الْحَسَنِ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَشِيعُوا الْكُنَى فَإِنَّهَا مُنَبِّهَةٌ. وَلَقَدْ لُقِّبَ
أَبُو بَكْرٍ بِالْعَتِيقِ وَالصِّدِّيقِ، وَعُمَرُ
بِالْفَارُوقِ، وَحَمْزَةُ بِأَسَدِ اللَّهِ، وَخَالِدٌ
بِسَيْفِ اللَّهِ. وَقَلَّ مِنَ الْمَشَاهِيرِ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَنْ لَيْسَ لَهُ لَقَبٌ.
وَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الْأَلْقَابُ الْحَسَنَةُ فِي الْأُمَمِ
كُلِّهَا- مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ- تَجْرِي فِي
مُخَاطَبَاتِهِمْ وَمُكَاتَبَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا مُسْتَحِبُّ الْأَلْقَابِ
وَمُسْتَحْسِنُهَا فَلَا يُكْرَهُ. وَقَدْ وَصَفَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَدًا مِنْ
أَصْحَابِهِ بِأَوْصَافٍ صَارَتْ لَهُمْ مِنْ أَجَلِّ
الْأَلْقَابِ. قُلْتُ- فَأَمَّا مَا يَكُونُ ظَاهِرُهَا
الْكَرَاهَةُ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الصِّفَةُ لَا الْعَيْبُ
فَذَلِكَ كَثِيرٌ. وَقَدْ سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ عَنِ الرَّجُلِ يَقُولُ: حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ،
وَسُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، وَحُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ،
وَمَرْوَانُ الْأَصْغَرُ، فَقَالَ: إِذَا أَرَدْتَ صِفَتَهُ
وَلَمْ تُرِدْ عَيْبَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: رَأَيْتُ
الْأَصْلَعَ- يَعْنِي عُمَرَ- يُقَبِّلُ الْحَجَرَ. فِي
رِوَايَةٍ الْأُصَيْلِعَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ لَمْ
يَتُبْ" أَيْ عَنْ هَذِهِ الْأَلْقَابِ الَّتِي يَتَأَذَّى
بِهَا السَّامِعُونَ." فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" لأنفسهم
بارتكاب هذه المناهي.
[سورة الحجرات (49): آية 12]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ
الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا
يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ
الظَّنِّ" قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اغْتَابَا رَفِيقَهُمَا. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
(16/330)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا
سَافَرَ ضَمَّ الرَّجُلَ الْمُحْتَاجَ إِلَى الرَّجُلَيْنِ
الْمُوسِرَيْنِ فَيَخْدُمُهُمَا. فَضَمَّ سَلْمَانَ إِلَى
رَجُلَيْنِ، فَتَقَدَّمَ سَلْمَانُ إِلَى الْمَنْزِلِ فغلبته
عيناه فنام ولم يهي لَهُمَا شَيْئًا، فَجَاءَا فَلَمْ يَجِدَا
طَعَامًا وَإِدَامًا، فَقَالَا لَهُ: انْطَلِقْ فَاطْلُبْ
لَنَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طَعَامًا وَإِدَامًا، فَذَهَبَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «1» [اذْهَبْ إِلَى أُسَامَةَ
بْنِ زَيْدٍ فَقُلْ لَهُ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَضْلٌ مِنْ
طَعَامٍ فَلْيُعْطِكَ [وَكَانَ أُسَامَةُ خَازِنَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ،
فَقَالَ أُسَامَةُ: مَا عِنْدِي شي، فَرَجَعَ إِلَيْهِمَا
فَأَخْبَرَهُمَا، فَقَالَا: قَدْ كَانَ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ
بَخِلَ. ثُمَّ بَعَثَا سَلْمَانَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ شَيْئًا، فَقَالَا:
لَوْ بَعَثْنَا سَلْمَانَ إِلَى بِئْرِ سُمَيْحَةَ «2» لَغَارَ
مَاؤُهَا. ثُمَّ انْطَلَقَا يَتَجَسَّسَانِ هَلْ عِنْدَ
أُسَامَةَ شي، فَرَآهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ:] مالي أَرَى خُضْرَةَ اللَّحْمِ فِي
أَفْوَاهِكُمَا [فَقَالَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا
أَكَلْنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا لَحْمًا وَلَا غَيْرَهُ.
فَقَالَ:] وَلَكِنَّكُمَا ظَلْتُمَا تَأْكُلَانِ لَحْمَ
سَلْمَانَ وَأُسَامَةَ [فَنَزَلَتْ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ" ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. أَيْ لَا تَظُنُّوا
بِأَهْلِ الْخَيْرِ سُوءًا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ
ظَاهِرِ أَمْرِهِمُ الْخَيْرَ. الثَّانِيَةُ- ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ
فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا
تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا
تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ
إِخْوَانًا [لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا:
فَالظَّنُّ هُنَا وَفِي الْآيَةِ هُوَ التُّهْمَةُ. وَمَحَلُّ
التَّحْذِيرِ وَالنَّهْيِ إِنَّمَا هُوَ تُهْمَةٌ لَا سَبَبَ
لَهَا يُوجِبُهَا، كَمَنْ يُتَّهَمُ بِالْفَاحِشَةِ أَوْ
بِشُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مَا
يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَدَلِيلُ كَوْنِ الظَّنِّ هُنَا بمعنى
التهمة قول تَعَالَى:" وَلا تَجَسَّسُوا" وَذَلِكَ أَنَّهُ
قَدْ يَقَعُ لَهُ خَاطِرُ التُّهْمَةِ ابْتِدَاءً وَيُرِيدُ
أَنْ يَتَجَسَّسَ خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقق مَا
وَقَعَ لَهُ مِنْ تِلْكَ التُّهْمَةِ. فَنَهَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ. وَإِنْ شِئْتَ
قُلْتَ: وَالَّذِي يُمَيِّزُ الظُّنُونَ الَّتِي يَجِبُ
اجْتِنَابُهَا عَمَّا سِوَاهَا، أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ تُعْرَفْ
لَهُ أَمَارَةٌ صَحِيحَةٌ وَسَبَبٌ ظَاهِرٌ كان حراما واجب
الاجتناب.
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ك.
(2). بئر قديمة بالمدينة غزيرة الماء.
(16/331)
وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَظْنُونُ بِهِ
مِمَّنْ شُوهِدَ مِنْهُ السَّتْرَ وَالصَّلَاحَ، وَأُونِسَتْ
مِنْهُ الْأَمَانَةُ فِي الظَّاهِرِ، فَظَنُّ الْفَسَادِ بِهِ
وَالْخِيَانَةِ مُحَرَّمٌ، بِخِلَافِ مَنِ اشْتَهَرَهُ
النَّاسُ بِتَعَاطِي الرَّيْبَ وَالْمُجَاهَرَةِ
بِالْخَبَائِثِ. وَعَنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ] إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِ دَمَهُ
وَعِرْضَهُ وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنُّ السُّوءِ [. وَعَنِ
الْحَسَنَ: كُنَّا فِي زَمَنٍ الظَّنُّ بِالنَّاسِ فِيهِ
حَرَامٌ، وَأَنْتَ الْيَوْمَ فِي زَمَنِ اعْمَلْ وَاسْكُتْ
وَظُنَّ فِي النَّاسِ مَا شِئْتَ. الثَّالِثَةُ- لِلظَّنِّ
حَالَتَانِ: حَالَةٌ تُعْرَفُ وَتَقْوَى بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ
الْأَدِلَّةِ فَيَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا، وَأَكْثَرُ أَحْكَامِ
الشَّرِيعَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ،
كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قِيَمِ
الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ. وَالْحَالَةُ
الثَّانِيَةُ- أَنْ يَقَعَ فِي النَّفْسِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ
دَلَالَةٍ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ ضِدِّهِ، فَهَذَا
هُوَ الشَّكُّ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ، وَهُوَ
الْمَنْهِيُّ عَنْهُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ
أَنْكَرَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ تَعَبُّدَ اللَّهِ
بِالظَّنِّ وَجَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ، تَحَكُّمًا فِي الدِّينِ
وَدَعْوَى فِي الْمَعْقُولِ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَصْلٌ
يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى لَمْ يَذُمَّ
جَمِيعَهُ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الذَّمَّ فِي بَعْضِهِ.
وَرُبَّمَا تَعَلَّقُوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ]
إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ [فَإِنَّ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ،
لِأَنَّ الظَّنَّ فِي الشَّرِيعَةِ قِسْمَانِ: مَحْمُودٌ
وَمَذْمُومٌ، فَالْمَحْمُودُ مِنْهُ مَا سَلِمَ مَعَهُ دِينُ
الظَّانِّ وَالْمَظْنُونِ بِهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ.
وَالْمَذْمُومُ ضِدَّهُ، بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:"
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ"، وقوله:" لَوْلا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ
بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً" «1» [النور: 12]، وَقَوْلُهُ:"
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً" «2»
[الفتح: 12] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ
فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ كَذَا وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ
أَحَدًا [. وَقَالَ:] إِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تَحَقَّقْ وَإِذَا
حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ [خَرَّجَهُ
أَبُو دَاوُدَ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ
الْقَبِيحَ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْخَيْرُ لَا يَجُوزُ، وَأَنَّهُ
لَا حَرَجَ فِي الظن القبيح بمن ظاهره القبح، قَالَهُ
الْمَهْدَوِيُّ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا
تَجَسَّسُوا قَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ بِاخْتِلَافٍ
وَغَيْرُهُمَا" وَلَا تَحَسَّسُوا" بِالْحَاءِ. وَاخْتُلِفَ
هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أو بمعنيين، فقال الأخفش: ليس
__________
(1). آية 12 سورة النور.
(2). آية 12 سورة الفتح.
(16/332)
تَبْعُدُ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى،
لِأَنَّ التَّجَسُّسَ الْبَحْثُ عَمَّا يُكْتَمُ عَنْكَ.
وَالتَّحَسُّسُ] بِالْحَاءِ [طَلَبُ الْأَخْبَارِ وَالْبَحْثُ
عَنْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّجَسُّسَ] بِالْجِيمِ [هُوَ
الْبَحْثُ، وَمِنْهُ قِيلَ: رَجُلٌ جَاسُوسٌ إِذَا كَانَ
يَبْحَثُ عَنِ الْأُمُورِ. وَبِالْحَاءِ: هُوَ مَا أَدْرَكَهُ
الْإِنْسَانُ بِبَعْضِ حَوَاسِّهِ. وَقَوْلٌ ثَانٍ فِي
الْفَرْقِ: أَنَّهُ بِالْحَاءِ تَطَلُّبُهُ لِنَفْسِهِ،
وَبِالْجِيمِ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا لِغَيْرِهِ، قَالَهُ
ثَعْلَبٌ. وَالْأَوَّلُ أَعْرَفُ. جَسَسْتُ الْأَخْبَارَ
وَتَجَسَّسْتُهَا أَيْ تَفَحَّصْتُ عَنْهَا، وَمِنْهُ
الْجَاسُوسُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: خُذُوا مَا ظَهَرَ وَلَا
تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا يَبْحَثُ
أَحَدُكُمْ عَنْ عَيْبِ أَخِيهِ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَيْهِ
بَعْدَ أَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ
عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:] إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ
عَوْرَاتِ الناس أفسدتهم أو كدت أن تُفْسِدُهُمْ [فَقَالَ
أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَعَهُ
اللَّهُ تَعَالَى بِهَا. وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ معدي يكرب
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:] إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ
فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ [. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ
قَالَ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقِيلَ: هَذَا فُلَانٌ
تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّا
قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ
لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذُ بِهِ. وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ
الْأَسْلَمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ
وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا
الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّ مَنِ
اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ
يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ [.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابن عَوْفٍ: حَرَسْتُ لَيْلَةً
مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِالْمَدِينَةِ إِذْ تَبَيَّنَ لَنَا سِرَاجٌ فِي بَيْتٍ
بَابُهُ مُجَافٍ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ أَصْوَاتٌ مُرْتَفِعَةٌ
وَلَغَطٌ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا بَيْتُ رَبِيعَةَ بْنِ
أُمَيَّةِ بْنِ خَلَفٍ، وَهُمُ الْآنَ شُرَّبٌ فَمَا تَرَى!؟
قُلْتُ: أَرَى أَنَّا قَدْ أَتَيْنَا مَا نَهَى اللَّهُ
عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تَجَسَّسُوا" وَقَدْ
تَجَسَّسْنَا، فَانْصَرَفَ عُمَرُ وَتَرَكَهُمْ. وَقَالَ أَبُو
قِلَابَةَ: حُدِّثَ عُمَرُ ابن الْخَطَّابِ أَنَّ أَبَا
مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ يَشْرَبُ الْخَمْرَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ
فِي بَيْتِهِ، فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ،
فَإِذَا لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا رَجُلٌ، فَقَالَ أَبُو
مِحْجَنٍ: إِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ! قَدْ نَهَاكَ اللَّهُ
عَنِ التَّجَسُّسِ، فَخَرَجَ عُمَرُ وَتَرَكَهُ. وَقَالَ
زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: خَرَجَ عُمَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
يَعُسَّانِ،
(16/333)
إِذْ تَبَيَّنَتْ لَهُمَا نَارٌ
فَاسْتَأْذَنَا فَفُتِحَ الْبَابُ، فَإِذَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ
تُغَنِّي وَعَلَى يَدِ الرَّجُلِ قَدَحٌ، فَقَالَ عُمَرُ:
وَأَنْتَ بِهَذَا يَا فُلَانُ؟ فَقَالَ: وَأَنْتَ بِهَذَا يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ عُمَرُ: فَمَنْ هَذِهِ مِنْكَ؟
قَالَ امْرَأَتِي، قَالَ فَمَا فِي هَذَا الْقَدَحِ؟ قَالَ
مَاءٌ زُلَالٌ، فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: وَمَا الَّذِي
تُغَنِّينَ؟ فَقَالَتْ:
تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ ...
وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا خَلِيلَ أُلَاعِبُهْ
فَوَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ أَنِّي أُرَاقِبُهْ ...
لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ
وَلَكِنَّ عَقْلِي وَالْحَيَاءَ يَكُفُّنِي ... وَأُكْرِمُ
بَعْلِي أَنْ تُنَالَ مَرَاكِبُهْ
ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: مَا بِهَذَا أُمِرْنَا يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تَجَسَّسُوا".
قَالَ صَدَقْتَ. قُلْتُ: لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ
أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ غَيْرَ زَوْجَةِ الرَّجُلِ، لِأَنَّ
عُمَرَ لَا يُقِرُّ عَلَى الزِّنَى، وَإِنَّمَا غَنَّتْ
بِتِلْكَ الْأَبْيَاتِ تَذْكَارًا لِزَوْجِهَا، وَأَنَّهَا
قَالَتْهَا فِي مَغِيبِهِ عَنْهَا «1». وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ لَهُ أُخْتٌ فَاشْتَكَتْ، فَكَانَ يَعُودُهَا
فَمَاتَتْ فَدَفَنَهَا. فَكَانَ هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِي
قَبْرِهَا، فَسَقَطَ مِنْ كُمِّهِ كِيسٌ فِيهِ دَنَانِيرُ،
فَاسْتَعَانَ بِبَعْضِ أَهْلِهِ فَنَبَشُوا قَبْرَهَا فَأَخَذَ
الْكِيسَ ثُمَّ قَالَ: لَأَكْشِفَنَّ حَتَّى أَنْظُرَ مَا آلَ
حَالُ أُخْتِي إِلَيْهِ، فَكَشَفَ عَنْهَا فَإِذَا الْقَبْرُ
مُشْتَعِلٌ نَارًا، فَجَاءَ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ:
أَخْبِرِينِي مَا كَانَ عَمَلُ أُخْتِي؟ فَقَالَتْ: قَدْ
مَاتَتْ أُخْتُكَ فَمَا سُؤَالُكَ عَنْ عَمَلِهَا! فَلَمْ
يَزَلْ بِهَا حَتَّى قَالَتْ لَهُ: كَانَ مِنْ عَمَلِهَا
أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا،
وَكَانَتْ إِذَا نَامَ الْجِيرَانُ قَامَتْ إِلَى بُيُوتِهِمْ
فَأَلْقَمَتْ أُذُنَهَا أَبْوَابَهُمْ، فَتَجَسَّسَ عَلَيْهِمْ
وَتُخْرِجُ أَسْرَارَهُمْ، فَقَالَ: بِهَذَا هَلَكَتْ!
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ
بَعْضاً" نَهَى عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْغِيبَةِ، وَهِيَ أَنْ
تَذْكُرَ الرَّجُلَ بِمَا فِيهِ، فَإِنْ ذَكَرْتَهُ بِمَا
لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ الْبُهْتَانُ. ثَبَتَ مَعْنَاهُ فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] أَتَدْرُونَ مَا
الْغِيبَةُ [؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:]
ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ [قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ
كان في أخي ما أقول؟
__________
(1). راجع هذه القصة في ج 3 ص 108 من هذا الكتاب.
(16/334)
قَالَ:] إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ
فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ
[. يُقَالُ: اغْتَابَهُ اغْتِيَابًا إِذَا وَقَعَ فِيهِ،
وَالِاسْمُ الْغِيبَةُ، وَهِيَ ذِكْرُ الْعَيْبِ بِظَهْرِ
الْغَيْبِ «1». قَالَ الْحَسَنُ: الْغِيبَةُ ثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ كُلُّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: الْغِيبَةُ
وَالْإِفْكُ وَالْبُهْتَانُ. فَأَمَّا الْغِيبَةُ فَهُوَ أَنْ
تَقُولَ فِي أَخِيكَ مَا هُوَ فِيهِ. وَأَمَّا الْإِفْكُ
فَأَنْ تَقُولَ فِيهِ مَا بَلَغَكَ عَنْهُ. وَأَمَّا
الْبُهْتَانُ فَأَنْ تَقُولَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ. وَعَنْ
شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ لِي مُعَاوِيَةُ- يَعْنِي ابْنَ
قُرَّةَ-: لَوْ مَرَّ بِكَ رَجُلٌ أَقْطَعُ، فَقُلْتُ هَذَا
أَقْطَعُ كَانَ غِيبَةً. قَالَ شُعْبَةُ: فَذَكَرْتُهُ لِأَبِي
إِسْحَاقَ فَقَالَ صدق. وروى أبو هريرة أن الأسلمي ما عزا
جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَى فَرَجَمَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَسَمِعَ نَبِيُّ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ
أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: انْظُرْ إِلَى
هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ
نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ، فَسَكَتَ عَنْهُمَا.
ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ
بِرِجْلِهِ فَقَالَ:] أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ [؟ فَقَالَا:
نَحْنُ ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:] انْزِلَا فَكُلَا
مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ [فَقَالَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ
وَمَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا! قَالَ:] فَمَا نِلْتُمَا مِنْ
عِرْضِ أَخِيكُمَا أَشَدُّ مِنَ الْأَكْلِ مِنْهُ وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ
يَنْغَمِسُ فِيهَا [. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً"
مَثَّلَ اللَّهُ الْغِيبَةَ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّ
الْمَيِّتَ لَا يَعْلَمُ بِأَكْلِ لَحْمِهِ كَمَا أَنَّ
الْحَيَّ لَا يَعْلَمُ بِغِيبَةِ مَنِ اغْتَابَهُ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا ضَرَبَ اللَّهُ هَذَا الْمَثَلَ
لِلْغِيبَةِ لِأَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْمَيِّتِ حَرَامٌ
مُسْتَقْذَرٌ، وَكَذَا الْغِيبَةُ حَرَامٌ فِي الدِّينِ
وَقَبِيحٌ فِي النُّفُوسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَمَا
يَمْتَنِعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيِّتًا
كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ غِيبَتِهِ حَيًّا.
وَاسْتَعْمَلَ أَكْلَ اللَّحْمِ مَكَانَ الْغِيبَةِ لِأَنَّ
عَادَةَ الْعَرَبِ بِذَلِكَ جَارِيَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومَهُمْ ... وَإِنْ
هَدَمُوا مجدي بنيت لهم مجدا «2»
__________
(1). الظهر: ما غاب عنك.
(2). البيت للمقنع الكندي، واسمه محمد بن عميرة.
(16/335)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] مَا صَامَ مَنْ ظَلَّ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ
[. فَشَبَّهَ الْوَقِيعَةَ فِي النَّاسِ بِأَكْلِ لُحُومِهِمْ.
فَمَنْ تَنَقَّصَ مُسْلِمًا أَوْ ثَلَمَ عِرْضَهُ فَهُوَ
كَالْآكِلِ لَحْمِهِ حَيًّا، وَمَنِ اغْتَابَهُ فَهُوَ
كَالْآكِلِ لَحْمِهِ مَيِّتًا. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ
بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ
وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا
جِبْرِيلُ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ
النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ [. وَعَنِ
الْمُسْتَوْرِدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ
أَكْلَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا مِنْ جَهَنَّمَ
وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّ اللَّهَ
يَكْسُوهُ مِثْلَهُ مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ أَقَامَ بِرَجُلٍ
مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ
مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [. وَقَدْ
تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] يَا
مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ
قَلْبَهُ لَا تغتابوا المسلمين [. وقوله للرجلين:] مالي أَرَى
خُضْرَةَ اللَّحْمِ فِي أَفْوَاهِكُمَا [. وَقَالَ أَبُو
قِلَابَةَ الرَّقَاشِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَقُولُ: مَا
اغْتَبْتُ أَحَدًا مُذْ عَرَفْتُ مَا فِي الْغِيبَةِ. وَكَانَ
مَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ لَا يَغْتَابُ أَحَدًا، وَلَا يَدَعُ
أَحَدًا يَغْتَابُ أَحَدًا عِنْدَهُ، يَنْهَاهُ فَإِنِ
انْتَهَى وَإِلَّا قَامَ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ مِنْ عِنْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوْا فِي
قِيَامِهِ عَجْزًا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
أَعْجَزَ فُلَانًا! فَقَالَ:] أَكَلْتُمْ لَحْمَ أَخِيكُمْ
وَاغْتَبْتُمُوهُ [. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ:
أَدْنَى الْغِيبَةِ أَنْ تَقُولَ إِنَّ فُلَانًا جَعْدٌ قَطَطٌ
«1»، إِلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَذِكْرَ
النَّاسِ فَإِنَّهُ دَاءٌ، وَعَلَيْكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ
فَإِنَّهُ شِفَاءٌ. وَسَمِعَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا رَجُلًا يَغْتَابُ آخَرَ، فَقَالَ: إِيَّاكَ
وَالْغِيبَةَ فَإِنَّهَا إِدَامُ كِلَابٍ النَّاسِ. وَقِيلَ
لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: لَقَدْ وَقَعَ فِيكَ فُلَانٌ حَتَّى
رَحِمْنَاكَ، قَالَ: إِيَّاهُ فَارْحَمُوا. وَقَالَ رَجُلٌ
لِلْحَسَنِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَغْتَابُنِي! فَقَالَ: لَمْ
يَبْلُغْ قَدْرُكَ عِنْدِي أَنْ أُحَكِّمَكَ في حسناتي.
__________
(1). الجعد في صفات الرجال يكون مدحا وذما، فالمدح أن يكون
معناه شديد الأسر (القوة) والخلق. أو يكون جعد الشعر، وهو ضد
السبط. وأما الذم فهو القصير المتردد الخلق. وقد يطلق على
البخيل أيضا، يقال: رجل جعد اليدين. والقطط: القصير الجعد من
الشعر.
(16/336)
السَّابِعَةُ- ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ
الْغِيبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الدِّينِ وَلَا تَكُونُ فِي
الْخِلْقَةِ وَالْحَسَبِ. وَقَالُوا: ذَلِكَ فِعْلُ اللَّهِ
بِهِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى عَكْسِ هَذَا فَقَالُوا: لَا
تَكُونُ الْغِيبَةُ إِلَّا فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ
وَالْحَسَبِ. وَالْغِيبَةُ فِي الْخَلْقِ أَشَدُّ، لِأَنَّ
مَنْ عَيَّبَ صَنْعَةً فَإِنَّمَا عَيَّبَ صَانِعَهَا. وَهَذَا
كُلُّهُ مَرْدُودٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَرُدُّهُ حَدِيثُ
عَائِشَةَ حِينَ قَالَتْ فِي صَفِيَّةَ: إِنَّهَا امْرَأَةٌ
قَصِيرَةٌ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَ بِهَا
الْبَحْرُ لَمَزَجَتْهُ [. خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ
فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَمَا كَانَ
فِي مَعْنَاهُ حَسَبُ مَا تَقَدَّمَ. وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ
قَدِيمًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غِيبَةٌ إِذَا أُرِيدَ بِهِ
الْعَيْبُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَمَرْدُودٌ أَيْضًا عِنْدَ
جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَوَّلِ
الدَّهْرِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ لَمْ تَكُنِ
الْغِيبَةُ عِنْدَهُمْ فِي شَيْءٍ أَعْظَمَ مِنَ الْغِيبَةِ
فِي الدِّينِ، لِأَنَّ عَيْبَ الدِّينِ أَعْظَمُ الْعَيْبِ،
فَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَكْرَهُ أَنْ يُذْكَرَ فِي دِينِهِ أَشَدَّ
مِمَّا يَكْرَهُ فِي بَدَنِهِ. وَكَفَى رَدًّا لِمَنْ قَالَ
هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:] إِذَا قُلْتَ
فِي أَخِيكَ مَا يَكْرَهُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ... [الْحَدِيثَ.
فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِغِيبَةٍ فَقَدْ رَدَّ مَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصًّا.
وَكَفَى بِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَأَعْرَاضُكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ [وَذَلِكَ عَامٌّ لِلدِّينِ والدنيا.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَنْ
كانت عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ
فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ [. فَعَمَّ كُلَّ عِرْضٍ، فَمَنْ
خَصَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ فَقَدْ عَارَضَ ما قال
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّامِنَةُ- لَا
خِلَافَ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ مَنِ
اغْتَابَ أَحَدًا عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ. وَهَلْ يَسْتَحِلُّ الْمُغْتَابُ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ،
فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِحْلَالُهُ،
وَإِنَّمَا هِيَ خَطِيئَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ.
وَاحْتَجَّتْ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَالِهِ وَلَا
أَصَابَ مِنْ بَدَنِهِ مَا يُنْقِصُهُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ
بِمَظْلَمَةٍ يَسْتَحِلُّهَا مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْمَظْلَمَةُ
مَا يَكُونُ مِنْهُ الْبَدَلُ وَالْعِوَضُ فِي الْمَالِ
وَالْبَدَنِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مَظْلَمَةٌ،
وَكَفَّارَتُهَا الِاسْتِغْفَارُ لِصَاحِبِهَا الَّذِي
اغْتَابَهُ. وَاحْتَجَّتْ بِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ
قَالَ: كَفَّارَةُ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنِ
اغْتَبْتَهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مَظْلَمَةٌ وَعَلَيْهِ
الِاسْتِحْلَالُ مِنْهَا. وَاحْتَجَّتْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَنْ كانت
(16/337)
لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ
أَوْ مَالٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ هُنَاكَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ
يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ
أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَزِيدَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ
[. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ وسول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ
لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٌ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ
الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يَكُونَ لَهُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ
إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ
مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ
سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ [. وَقَدْ تَقَدَّمَ
هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ" آلِ عِمْرَانَ" عِنْدَ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ" «1» [آل عمران: 169]. وَقَدْ
رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ
عَلَيْهَا فَلَمَّا قَامَتْ قَالَتِ امْرَأَةٌ: مَا أَطْوَلَ
ذَيْلَهَا! فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: لَقَدِ اغْتَبْتِيهَا
فَاسْتَحِلِّيهَا. فَدَلَّتِ الْآثَارُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا مَظْلَمَةٌ يَجِبُ عَلَى
الْمُغْتَابِ اسْتِحْلَالُهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ:
إِنَّمَا الْغِيبَةُ فِي الْمَالِ وَالْبَدَنِ، فَقَدْ
أَجْمَعَتِ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْقَاذِفِ
لِلْمَقْذُوفِ مَظْلَمَةً يَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ حَتَّى
يُقِيمَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ وَلَا فِي
الْمَالِ، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ فِي
الْعِرْضِ وَالْبَدَنِ وَالْمَالِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْقَاذِفِ:" فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ
فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ" «2» [النور:
13]. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] مَنْ بَهَتَ مُؤْمِنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ
حَبَسَهُ اللَّهُ فِي طِينَةِ الْخَبَالِ [«3». وَذَلِكَ
كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمَالِ وَالْبَدَنِ. وَأَمَّا مَنْ
قَالَ: إِنَّهَا مَظْلَمَةٌ، وَكَفَّارَةُ الْمَظْلَمَةِ أَنْ
يَسْتَغْفِرَ لِصَاحِبِهَا، فَقَدْ نَاقَضَ إِذْ سَمَّاهَا
مَظْلَمَةً ثُمَّ قَالَ كَفَّارَتُهَا أَنْ يَسْتَغْفِرَ
لِصَاحِبِهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ مَظْلَمَةٌ تُثْبِتُ ظُلَامَةَ
الْمَظْلُومِ، فَإِذَا ثَبَتَتِ الظُّلَامَةُ لَمْ يُزِلْهَا
عَنِ الظَّالِمِ إِلَّا إِحْلَالُ الْمَظْلُومِ لَهُ. وَأَمَّا
قَوْلُ الْحَسَنِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ
أَخِيهِ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أَوْ مَالٍ فَلِيَتَحَلَّلْهَا
مِنْهُ [. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَرْكِ التَّحْلِيلِ
لِمَنْ سَأَلَهُ، وَرَأَى أَنَّهُ لَا يُحِلُّ
مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَا أُحَلِّلُ مَنْ ظَلَمَنِي. وَقِيلَ
لِابْنِ سِيرِينَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا رَجُلٌ
__________
(1). راجع ج 4 ص 268. [ ..... ]
(2). آية 13 سورة النور.
(3). الخبال: الفساد، ويكون في الافعال والأبدان والعقول. و"
طينة الخبال": عصارة أهل النار.
(16/338)
سَأَلَكَ أَنْ تُحَلِّلَهُ مِنْ مَظْلَمَةٍ
هِيَ لَكَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُحَرِّمْهَا
عَلَيْهِ فَأُحِلُّهَا، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْغِيبَةَ
عَلَيْهِ، وَمَا كُنْتُ لِأُحِلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ أَبَدًا. وَخَبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْلِيلِ، وَهُوَ
الْحُجَّةُ وَالْمُبَيِّنُ. وَالتَّحْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى
الرَّحْمَةِ وَهُوَ مِنْ وَجْهِ الْعَفْوُ، وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى:" فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ"
«1» [الشوري: 40]. التَّاسِعَةُ- لَيْسَ «2» مِنْ هَذَا
الْبَابِ غِيبَةُ الْفَاسِقِ الْمُعْلِنُ بِهِ الْمُجَاهِرُ،
فَإِنَّ فِي الْخَبَرِ] مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ
فَلَا غِيبَةَ لَهُ [. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ
النَّاسُ [. فَالْغِيبَةُ إِذًا فِي الْمَرْءِ الَّذِي
يَسْتُرُ نَفْسَهُ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أنه قال: ثلاثة
ليست لَهُمْ حُرْمَةٌ: صَاحِبُ الْهَوَى، وَالْفَاسِقُ
الْمُعْلِنُ، وَالْإِمَامُ الْجَائِرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ
لَمَّا مَاتَ الْحَجَّاجُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَتَّهُ
فَاقْطَعْ عَنَّا سُنَّتَهُ- وَفِي رِوَايَةٍ شَيْنَهُ-
فَإِنَّهُ أَتَانَا أُخَيْفِشَ أُعَيْمِشَ، يَمُدُّ بِيَدٍ
قَصِيرَةِ «3» الْبَنَانِ، وَاللَّهِ مَا عَرِقَ فِيهَا
غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُرَجِّلُ جُمَّتَهُ وَيَخْطِرُ
فِي مِشْيَتِهِ، وَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَهْدِرُ حَتَّى
تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ. لَا مِنَ اللَّهِ يَتَّقِي، وَلَا مِنَ
النَّاسِ يَسْتَحِي، فَوْقَهُ اللَّهُ وَتَحْتَهُ مِائَةُ
أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، لَا يَقُولُ لَهُ قَائِلٌ: الصَّلَاةُ
أَيُّهَا الرَّجُلُ. ثُمَّ يَقُولُ الْحَسَنُ: هَيْهَاتَ!
حَالَ دُونَ ذَلِكَ السَّيْفُ وَالسَّوْطُ. وَرَوَى الرَّبِيعُ
بْنُ صُبَيْحٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ لِأَهْلِ
الْبِدَعِ غِيبَةٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُكَ لِلْقَاضِي
تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أَخْذِ حَقِّكَ مِمَّنْ ظَلَمَكَ
فَتَقُولُ: فُلَانٌ ظَلَمَنِي أَوْ غَضِبَنِي أَوْ خَانَنِي
أَوْ ضَرَبَنِي أَوْ قَذَفَنِي أَوْ أَسَاءَ إِلَيَّ، لَيْسَ
بِغِيبَةٍ. وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ مُجْمِعَةٌ.
وَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
ذَلِكَ:] لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ [. وَقَالَ:] مَطْلُ
الْغَنِيِّ ظُلْمٌ [وَقَالَ:] لَيُّ الْوَاجِدِ «4» يُحِلُّ
عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ [. وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِفْتَاءُ،
كَقَوْلِ هِنْدً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا
يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي أَنَا وَوَلَدِي، فَآخُذُ مِنْ
غَيْرِ عِلْمِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] نَعَمْ فَخُذِي [. فَذَكَرَتْهُ بِالشُّحِّ
وَالظُّلْمِ لَهَا وَلِوَلَدِهَا، وَلَمْ يَرَهَا مُغْتَابَةً،
لِأَنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهَا، بَلْ أَجَابَهَا عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْفُتْيَا لَهَا. وَكَذَلِكَ إِذَا
كَانَ فِي ذِكْرِهِ بِالسُّوءِ فَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1). آية 40 سورة الشورى.
(2). في ل: ليس يدخل في هذا ...
(3). في ل: بيد واحدة قصيرة.
(4). الواجد: القادر على قضاء دينه
(16/339)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ
لَهُ وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ «1» فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ
عَاتِقِهِ]. فَهَذَا جَائِزٌ، وَكَانَ مَقْصُودُهُ أَلَّا
تَغْتَرَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ «2» بِهِمَا. قَالَ
جَمِيعَهُ الْمُحَاسِبِيُّ رَحِمَهُ الله. العاشرة- قول
تعالى:" مَيْتاً" وقرى" مَيِّتًا" وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى
الْحَالِ مِنَ اللَّحْمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى
الْأَخِ، وَلَمَّا قَرَّرَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّ أَحَدًا
مِنْهُمْ لَا يَجِبُ أَكْلُ جِيفَةِ أَخِيهِ عَقَّبَ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَكَرِهْتُمُوهُ" وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا- فَكَرِهْتُمْ أَكْلَ الْمَيْتَةِ فَكَذَلِكَ
فَاكْرَهُوا الْغِيبَةَ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ.
الثَّانِي- فَكَرِهْتُمْ أَنْ يَغْتَابَكُمُ النَّاسُ
فَاكْرَهُوا غِيبَةَ النَّاسِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ
فَقَدْ كَرِهْتُمُوهُ فَلَا تَفْعَلُوهُ. وَقِيلَ: لَفْظُهُ
خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ، أَيِ أكرهوه." اتَّقُوا اللَّهَ"
عَطْفٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ:"
اجْتَنِبُوا. وَلا تَجَسَّسُوا"." إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ
رَحِيمٌ".
[سورة الحجرات (49): آية 13]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى "
يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ. وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَبِي
هِنْدٍ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي (الْمَرَاسِيلِ)،
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ وَكَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ
قَالَا حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنِي
الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي بَيَاضَةَ أَنْ يُزَوِّجُوا أَبَا
هِنْدٍ امْرَأَةً مِنْهُمْ، فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نزوج
__________
(1). هو ابن حذيفة بن غانم القرشي. وقوله:" لا يضع عصاه" أي
أنه ضراب للنساء. وقيل: هو كناية عن كثرة أسفاره، لان المسافر
يحمل عصاه في سفره.
(2). هي أخت الضحاك بن قيس، كانت من المهاجرات الأول، وكانت
ذات جمال وعقل وكمال، وكانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة
فطلقها فخطبها معاوية وأبو جهم، فاستشارت النبي عليه السلام
فيهما فأشار عليها بأسامة بن زيد فتزوجته.
(16/340)
بَنَاتَنَا مَوَالِينَا؟ «1» فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً" الْآيَةَ. قَالَ
الزُّهْرِيُّ: نَزَلَتْ فِي أَبِي هِنْدٍ خَاصَّةً. وَقِيلَ:
إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ.
وَقَوْلُهُ فِي الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَتَفَسَّحْ لَهُ:
ابْنُ فُلَانَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:] مَنْ الذَّاكِرُ فُلَانَةَ [؟ قَالَ ثَابِتٌ:
أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] انْظُرْ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ
[فَنَظَرَ، فَقَالَ:] مَا رَأَيْتَ [؟ قَالَ رَأَيْتُ أَبْيَضَ
وَأَسْوَدَ وَأَحْمَرَ، فَقَالَ:] فَإِنَّكَ لَا تَفْضُلُهُمْ
إِلَّا بِالتَّقْوَى [فَنَزَلَتْ فِي ثَابِتٍ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَنَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَتَفَسَّحْ لَهُ:" يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي
الْمَجالِسِ" «2» [المجادلة: 11] الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا حَتَّى
عَلَا عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ فَأَذَّنَ، فَقَالَ عَتَّابُ
بْنُ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
قَبَضَ أَبِي حَتَّى لا يرى هذا اليوم. وقال الْحَارِثُ بْنُ
هِشَامٍ: مَا وَجَدَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ هَذَا الْغُرَابِ
الْأَسْوَدِ مُؤَذِّنًا. وَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: إِنْ
يُرِدِ اللَّهُ شَيْئًا يُغَيِّرْهُ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
إِنِّي لَا أَقُولُ شَيْئًا أَخَافُ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ رَبُّ
السَّمَاءِ، فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالُوا، فَدَعَاهُمْ
وَسَأَلَهُمْ عَمَّا قَالُوا فَأَقَرُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. زَجَرَهُمْ عَنِ التَّفَاخُرِ
بِالْأَنْسَابِ، وَالتَّكَاثُرِ بِالْأَمْوَالِ،
وَالِازْدِرَاءِ بِالْفُقَرَاءِ، فَإِنَّ الْمَدَارَ عَلَى
التَّقْوَى. أَيِ الْجَمِيعُ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، إِنَّمَا
الْفَضْلُ بِالتَّقْوَى. وَفِي التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَطَبَ بِمَكَّةَ فَقَالَ:] يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إن الله قد أذهب عنكم عيبة الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا
بِآبَائِهَا. فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: رَجُلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ
كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى
اللَّهِ. وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ
تُرَابٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ
شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [.
خَرَّجَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَالِدِ
عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، ضَعَّفَهُ يَحْيَى
بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ خَرَّجَ الطَّبَرِيُّ فِي
كِتَابِ] آدَابِ النُّفُوسِ [وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا
سَعِيدُ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي
أَوْ حَدَّثَنَا من
__________
(1). من معاني المولى: لعبد.
(2). آية 11 سورة المجادلة.
(16/341)
شَهِدَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى فِي وَسَطِ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ وَهُوَ على بعير فقال:] يا أَيُّهَا النَّاسُ
أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ
أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا عَجَمِيٍّ
عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ وَلَا
لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلَّا بِالتَّقْوَى أَلَا هَلْ
بَلَّغْتُ؟ - قَالُوا نَعَمْ قَالَ- ليبلغ الشاهد الغائب [.
وفية عن أبو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِنَّ اللَّهَ
لَا يَنْظُرُ إِلَى أَحْسَابِكُمْ وَلَا إِلَى أَنْسَابِكُمْ
وَلَا إِلَى أَجْسَامِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ
يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ فَمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ صَالِحٌ
تَحَنَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ
وَأَحَبُّكُمْ إِلَيْهِ أَتْقَاكُمْ [. وَلِعَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ مَشْهُورٌ مِنْ
شِعْرِهِ:
النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ أَكِفَاءُ ... أَبُوهُمُ
آدَمُ وَالْأُمُّ حَوَّاءُ
نَفْسٌ كَنَفْسٍ وَأَرْوَاحٌ مُشَاكَلَةٌ ... وَأَعْظُمٌ
خُلِقَتْ فِيهِمْ وَأَعْضَاءُ
فَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ مِنْ أَصْلِهِمْ حَسَبٌ ... يُفَاخِرُونَ
بِهِ فَالطِّينُ وَالْمَاءُ
مَا الْفَضْلُ إِلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّهُمُ ... عَلَى
الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلَّاءُ
وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ ...
وَلِلرِّجَالِ عَلَى الْأَفْعَالِ سِيمَاءُ
وَضِدُّ كُلِّ امْرِئٍ مَا كَانَ يَجْهَلُهُ ...
وَالْجَاهِلُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءُ
الثَّانِيَةُ- بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ
أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى،
وَكَذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ" النِّسَاءِ" «1». وَلَوْ
شَاءَ لَخَلَقَهُ دُونَهُمَا كَخَلْقِهِ لِآدَمَ، أَوْ دُونَ
ذَكَرٍ كَخَلْقِهِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ دُونَ
أُنْثَى كَخَلْقِهِ حَوَّاءَ مِنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ.
وَهَذَا الْجَائِزُ فِي الْقُدْرَةِ لَمْ يَرِدْ بِهِ
الْوُجُودَ. وَقَدْ جَاءَ أَنَّ آدَمَ خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ
حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعٍ انْتَزَعَهَا مِنْ أَضْلَاعِهِ،
فَلَعَلَّهُ هَذَا الْقِسْمُ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ.
الثَّالِثَةُ- خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ
وَالْأُنْثَى أَنْسَابًا وَأَصْهَارًا وَقَبَائِلَ وَشُعُوبًا،
وَخَلَقَ لَهُمْ مِنْهَا التَّعَارُفَ، وَجَعَلَ لَهُمْ بِهَا
التَّوَاصُلَ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا وَهُوَ أَعْلَمُ
بِهَا، فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ يَحُوزُ نَسَبَهُ، فَإِذَا
نَفَاهُ رَجُلٌ عَنْهُ اسْتَوْجَبَ الْحَدَّ بِقَذْفِهِ،
مِثْلُ أن ينفيه عن رهطه وحسبه،
__________
(1). راجع ج 5 ص 1 وما بعدها.
(16/342)
بِقَوْلِهِ لِلْعَرَبِيِّ: يَا عَجَمِيُّ،
وَلِلْعَجَمِيِّ: يَا عَرَبِيُّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا
يَقَعُ بِهِ النَّفْيُ حَقِيقَةً. انْتَهَى. الرَّابِعَةُ-
ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْأَوَائِلِ إِلَى أَنَّ الْجَنِينَ
إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ، وَيَتَرَبَّى
فِي رَحِمِ الْأُمِّ، وَيَسْتَمِدُّ مِنَ الدَّمِ الَّذِي
يَكُونُ فِيهِ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَلَمْ
نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ
مَكِينٍ" «1» [المرسلات: 21]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ
جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ"»
[السجدة: 8]. وَقَوْلُهُ:" أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ
يُمْنى " «3» [القيامة: 37]. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ
مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخَلْقَ إِنَّمَا
يَكُونُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِهَذِهِ
الْآيَةِ، فَإِنَّهَا نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ
بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ" «4» [الطارق: 6] وَالْمُرَادُ
مِنْهُ أَصْلَابُ الرِّجَالِ وَتَرَائِبُ النِّسَاءِ، عَلَى
مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ فَلَيْسَ
فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ خَلْقَ
الْإِنْسَانِ مِنَ الْمَاءِ وَالسُّلَالَةِ وَالنُّطْفَةِ
وَلَمْ يُضِفْهَا إِلَى أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ دُونَ الْآخَرِ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ وَالسُّلَالَةَ لَهُمَا
وَالنُّطْفَةَ مِنْهُمَا بِدَلَالَةِ مَا ذَكَرْنَا. وَبِأَنَّ
الْمَرْأَةَ تُمْنِي كَمَا يُمْنِي الرَّجُلُ، وَعَنْ ذَلِكَ
يَكُونُ الشَّبَهُ، حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آخِرِ"
الشُّورَى" «5». وَقَدْ قَالَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ" فَالْتَقَى
الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ" «6» [القمر: 12] وَإِنَّمَا
أَرَادَ مَاءَ السَّمَاءِ وَمَاءَ الْأَرْضِ، لِأَنَّ
الِالْتِقَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اثْنَيْنِ، فَلَا
يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ" ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ
مِنْ ماءٍ مَهِينٍ" [السجدة: 8]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" أَلَمْ
نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ" [المرسلات: 21] وَيُرِيدُ
مَاءَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا"
الشُّعُوبُ رُءُوسُ الْقَبَائِلِ، مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ
وَالْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَاحِدُهَا" شَعْبٌ" بفتح الشين،
سموا به
__________
(1). آية 20، 21 سورة المرسلات.
(2). آية 8 سورة السجدة.
(3). آية 37 سورة القيامة. [ ..... ]
(4). آية 6، 7 سورة الطارق.
(5). راجع ص 50 من هذا الجزء.
(6). آية 12 سورة القمر.
(16/343)
لِتَشَعُّبِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ كَشَعْبِ
أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ. وَالشَّعْبُ مِنَ الْأَضْدَادِ،
يُقَالُ شَعَّبْتُهُ إِذَا جَمَعْتُهُ، وَمِنْهُ الْمِشْعَبُ
(بِكَسْرِ الْمِيمِ) وَهُوَ الْإِشْفَى، لِأَنَّهُ يُجْمَعُ
بِهِ وَيُشَعَّبُ. قَالَ:
فَكَابٍ عَلَى حُرِّ الْجَبِينِ وَمُتَّقٍ ... بِمَدْرِيَةٍ
كَأَنَّهُ ذَلْقُ مِشْعَبِ «1»
وَشَعَبْتَهُ إِذَا فَرَّقْتَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ
الْمَنِيَّةُ شَعُوبًا لِأَنَّهَا مُفَرِّقَةٌ. فَأَمَّا
الشِّعْبُ (بِالْكَسْرِ) فَهُوَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ،
وَالْجَمْعُ الشِّعَابُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشِّعْبُ: مَا
تَشَعَّبَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَالْجَمْعُ
الشُّعُوبُ. وَالشُّعُوبِيَّةُ: فِرْقَةٌ لَا تُفَضِّلُ
الْعَرَبَ عَلَى الْعَجَمِ. وَأَمَّا الَّذِي فِي الْحَدِيثِ
أَنَّ رَجُلًا مِنَ الشُّعُوبِ أَسْلَمَ «2»، فَإِنَّهُ
يَعْنِي مِنَ الْعَجَمِ. وَالشَّعْبُ: الْقَبِيلَةُ
الْعَظِيمَةُ، وَهُوَ أَبُو الْقَبَائِلِ الَّذِي يُنْسَبُونَ
إِلَيْهِ، أَيْ يَجْمَعُهُمْ وَيَضُمُّهُمْ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: الشُّعُوبُ الْجُمْهُورُ «3»، مِثْلُ مُضَرَ.
وَالْقَبَائِلُ الْأَفْخَاذُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشُّعُوبُ
الْبَعِيدُ مِنَ النَّسَبِ، وَالْقَبَائِلُ دُونَ ذَلِكَ.
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الشُّعُوبَ النَّسَبُ الْأَقْرَبُ.
وَقَالَهُ قَتَادَةُ. ذَكَرَ الْأَوَّلَ عَنْهُ
الْمَهْدَوِيُّ، وَالثَّانِي الْمَاوَرْدِيُّ. قَالَ الشاعر
«4»:
رَأَيْتُ سُعُودًا مِنْ شُعُوبٍ كَثِيرَةٍ ... فَلَمْ أَرَ
سَعْدًا مِثْلَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ
وَقَالَ آخَرُ:
قَبَائِلُ مِنْ شُعُوبٍ لَيْسَ فِيهِمْ ... كَرِيمٌ قَدْ
يُعَدُّ وَلَا نَجِيبُ
وَقِيلَ: إِنَّ الشُّعُوبَ عَرَبُ الْيَمَنِ مِنْ قَحْطَانَ،
وَالْقَبَائِلُ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَسَائِرِ عَدْنَانَ.
وَقِيلَ: إِنَّ الشُّعُوبَ بُطُونُ الْعَجَمِ، وَالْقَبَائِلُ
بُطُونُ الْعَرَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ:
إِنَّ الشُّعُوبَ الْمَوَالِي، وَالْقَبَائِلُ الْعَرَبَ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَعَلَى هَذَا فَالشُّعُوبُ مَنْ لَا
يُعْرَفُ لَهُمْ أَصْلُ نَسَبٍ كَالْهِنْدِ وَالْجَبَلِ «5»
وَالتُّرْكِ، وَالْقَبَائِلُ من العرب. الماوردي: ويحتمل أن
__________
(1). قوله:"
فكاب على حر الجبين
" أي خار على وجهه. و" المدرية": القرن، وهي المدري والمدراة،
والجمع مدار ومداري. و" ذلق" ذلق كل شي: حده. و" مشعب" مثقب.
(2). تمام الحديث كما في اللسان:" فكانت تؤخذ منه الجزية، فأمر
عمر ألا تؤخذ منه".
(3). هذا القول منسوب إلى ابن جبير. والمأثور عن ابن عباس أن"
الشعوب الجماع" والجماع (بضم الجيم وتشديد الميم): مجتمع أصل
كل شي .. أراد: منشأ النسب واصل المولد. وقيل: أراد به الفرق
المختلفة من الناس.
(4). هو طرفة بن العبد.
(5). الجبل: الامة من الخلق والجماعة من الناس، وفية لغات
كثيرة. راجع ج 15 ص 47 من هذا التفسير.
(16/344)
الشُّعُوبَ هُمُ الْمُضَافُونَ إِلَى
النَّوَاحِي وَالشِّعَابِ، وَالْقَبَائِلُ هُمُ
الْمُشْتَرِكُونَ فِي الْأَنْسَابِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَتَفَرَّقُوا شُعَبًا فَكُلُّ جَزِيرَةٍ ... فِيهَا أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْبَرُ
وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ:
الشَّعْبُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَبِيلَةِ ثُمَّ الْفَصِيلَةُ
ثُمَّ الْعِمَارَةُ ثُمَّ الْبَطْنُ ثُمَّ الْفَخِذُ. وَقِيلَ:
الشَّعْبُ ثُمَّ الْقَبِيلَةُ ثُمَّ الْعِمَارَةُ ثُمَّ
الْبَطْنُ ثُمَّ الْفَخِذُ ثُمَّ الْفَصِيلَةُ ثُمَّ
الْعَشِيرَةُ، وَقَدْ نَظَمَهَا بَعْضُ الْأُدَبَاءِ فَقَالَ:
اقْصِدِ الشَّعْبَ فَهُوَ أَكْثَرُ حَيٍّ ... عَدَدًا فِي
الْحَوَاءِ ثُمَّ الْقَبِيلَهْ
ثُمَّ تَتْلُوهَا الْعِمَارَةُ ثُمَّ الْ ... بَطْنُ
وَالْفَخِذُ بَعْدَهَا وَالْفَصِيلَهْ
ثُمَّ مِنْ بَعْدِهَا الْعَشِيرَةُ لَكِنْ ... هِيَ فِي جَنْبِ
مَا ذَكَرْنَاهُ قَلِيلَهْ
وَقَالَ آخَرُ:
قَبِيلَةٌ قَبْلَهَا شَعْبٌ وَبَعْدَهُمَا ... عِمَارَةٌ ثُمَّ
بَطْنٌ تِلْوَهُ فَخِذُ
وَلَيْسَ يُؤْوِي الْفَتَى إِلَّا فصيلته ... ولا سداد لسهم
ماله قذذ «1»
السادسة- قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقاكُمْ" وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ"
الزُّخْرُفِ" عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى:" وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ
وَلِقَوْمِكَ" «2» [الزخرف: 44]. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا
يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى هِيَ الْمُرَاعَى عِنْدَ
اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ رسوله دون الحسب والنسب. وقرى" أن"
بالفتح. كأنه قيل: لم لا يَتَفَاخَرْ بِالْأَنْسَابِ؟ قِيلَ:
لِأَنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ لَا
أَنْسَبُكُمْ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:]
الْحَسَبُ الْمَالُ وَالْكَرَمُ التَّقْوَى [. قَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقاكُمْ"، وَقَدْ جَاءَ مَنْصُوصًا عَنْهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:] مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ
فَلْيَتَّقِ اللَّهَ [. وَالتَّقْوَى معناها مُرَاعَاةُ
حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرًا وَنَهْيًا، وَالِاتِّصَافُ
بِمَا أَمَرَكَ أَنْ تَتَّصِفَ بِهِ، وَالتَّنَزُّهُ عَمَّا
نَهَاكَ عَنْهُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
وَفِي الْخَبَرِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنِّي جَعَلْتُ نسبا
وجعلتم
__________
(1). القذذ (جمع قذة): ريش السهم.
(2). راجع ص 93 من هذا الجزء.
(16/345)
نَسَبًا فَجَعَلْتُ أَكْرَمَكُمْ
أَتْقَاكُمْ وَأَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تقولوا فلان بن فُلَانٍ
وَأَنَا الْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ أَنْسَابَكُمْ
أَيْنَ الْمُتَّقُونَ أَيْنَ الْمُتَّقُونَ [. وَرَوَى
الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] إِنَّ
أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ
نَسَبٌ أَقْرَبَ مِنْ نَسَبٍ يَأْتِي النَّاسُ بِالْأَعْمَالِ
وَتَأْتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ
تَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ هَكَذَا وَهَكَذَا [.
وَأَعْرَضَ فِي كُلٍّ عِطْفَيْهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ
حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَارًا غَيْرَ
سِرٍّ يَقُولُ:] إِنَّ آلَ أَبِي لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ
إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟
فَقَالَ: «يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ» قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ:
«فَأَكْرَمَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ» فَقَالُوا:
لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، فَقَالَ: «عَنْ مَعَادِنِ
الْعَرَبِ؟
خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهِمْ فِي الْإِسْلَامِ
إِذَا فَقَهُوا» وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:
مَا يَصْنَعُ الْعَبْدُ بِعِزِّ الْغِنَى ... وَالْعِزُّ كُلُّ
الْعِزِّ للمتّقى
من عرف الله فلم تفنه ... مَعْرِفَةُ اللَّهِ فَذَاكَ الشَّقِي
السَّابِعَةُ- ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ حَدَّثَنِي «1» عُمَرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْحَاقَ
الْعَطَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا مَنْدَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ
ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ:
تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ امْرَأَةً فَطُعِنَ
عَلَيْهَا فِي حَسَبِهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي لَمْ
أَتَزَوَّجْهَا لِحَسَبِهَا إِنَّمَا تَزَوَّجْتُهَا
لِدِينِهَا وَخُلُقِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَضُرُّكَ أَلَّا تَكُونَ مِنْ آلِ
حَاجِبِ «2» بْنِ زُرَارَةَ». ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى جَاءَ بِالْإِسْلَامِ فَرَفَعَ بِهِ الْخَسِيسَةَ
وَأَتَمَّ بِهِ النَّاقِصَةَ وَأَذْهَبَ بِهِ اللَّوْمَ فَلَا
لَوْمَ عَلَى مُسْلِمٍ إِنَّمَا اللَّوْمُ لَوْمُ
الْجَاهِلِيَّةِ». وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ
لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي» وَلِذَلِكَ كَانَ
أَكْرَمَ الْبَشَرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا الَّذِي لَحَظَ مَالِكٌ فِي
الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ عَنْ
مَالِكٍ: يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ، وَاحْتَجَّ
بِهَذِهِ الْآيَةِ. وقال أبو حنيفة والشافعي:
__________
(1). في ح ون: «عمرو».
(2). سيد من سادات العرب في الجاهلية. أدرك الإسلام وأسلم.
(16/346)
يُرَاعَى الْحَسَبُ وَالْمَالُ. وَفِي
الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ
عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ- وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَبَنَّى
سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ هِنْدًا «1» بنت أخيه الوليد بن عتبة
ابن رَبِيعَةَ، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ،
وَضُبَاعَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ كَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ
«2» بْنِ الْأَسْوَدِ.
قُلْتُ: وَأُخْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَانَتْ
تَحْتَ بِلَالٍ. وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ كَانَتْ تَحْتَ
زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ
الْمَوَالِي الْعَرَبِيَّةَ، وَإِنَّمَا تُرَاعَى الْكَفَاءَةُ
فِي الدِّينِ.
والديل عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ فِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: «مَا
تَقُولُونَ فِي هَذَا»؟ فَقَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ
يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ
يُسْمَعَ. قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ
الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ:
«مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ
أَلَّا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ، وَإِنْ
قَالَ أَلَّا يُسْمَعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ
الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُنْكَحُ
الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا- وَفِي
رِوَايَةٍ- وَلِحَسَبِهَا فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ
تَرِبَتْ يَدَاكَ» وَقَدْ خَطَبَ سَلْمَانُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ
ابْنَتَهُ فَأَجَابَهُ، وخطب إلى عمرا بنته فَالْتَوَى
عَلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ
سَلْمَانُ. وَخَطَبَ بِلَالٌ بِنْتَ الْبُكَيْرِ فَأَبَى
إخوتها، فقال بِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاذَا لَقِيتُ
مِنْ بَنِي الْبُكَيْرِ، خَطَبْتُ إِلَيْهِمْ أُخْتَهُمْ
فَمَنَعُونِي وَآذَوْنِي، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجلال جلال، فَبَلَغَهُمُ
الْخَبَرُ فَأَتَوْا أُخْتَهُمْ فَقَالُوا: مَاذَا لَقِينَا بك
مِنْ سَبَبِكِ؟ فَقَالَتْ أُخْتُهُمْ: أَمْرِي بِيَدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَوَّجُوهَا.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
أَبِي هِنْدٍ حِينَ حَجَمَهُ: «أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ
وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِ». وَهُوَ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا هِنْدٍ مَوْلَى بَنِي
بَيَاضَةَ كَانَ حَجَّامًا فَحَجَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ
صَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى
أَبِي هِنْدٍ».
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَنْكِحُوهُ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِ». قَالَ الْقُشَيْرِيُّ
أَبُو نَصْرٍ:
__________
(1). وتسمى فاطمة.
(2). اسم أبيه عمرو بن ثعلبة، وتبناه الأسود بن عبد يغوث وهو
أحد السبعة الذين كانوا أوّل من أظهر الإسلام. [ ..... ]
(16/347)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا
وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ
تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ
أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
وقد يعتبرا لنسب فِي الْكَفَاءَةِ فِي
النِّكَاحِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِشَجَرَةِ النُّبُوَّةِ أَوْ
بِالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ
بِالْمَرْمُوقِينَ فِي الزُّهْدِ وَالصَّلَاحِ. وَالتَّقِيُّ
الْمُؤْمِنُ أَفْضَلُ مِنَ الْفَاجِرِ النَّسِيبِ، فَإِنْ
كَانَا تَقِيَّيْنِ فحينئذ يقدّم النسيب منهما، كما يقدّم
الشَّابُّ عَلَى الشَّيْخِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا اسْتَوَيَا في
التقوى.
[سورة الحجرات (49): آية 14]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ
قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا
يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (14)
نَزَلَتْ في أعراب م نبنى أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ قَدِمُوا
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
سَنَةٍ جَدْبَةٍ وَأَظْهَرُوا الشَّهَادَتَيْنِ وَلَمْ
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فِي السِّرِّ. وَأَفْسَدُوا طُرُقَ
الْمَدِينَةِ بِالْعَذِرَاتِ وَأَغْلَوْا أَسْعَارَهَا،
وَكَانُوا يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتيناك بالأثقال والعيال ولم تقاتلك كَمَا
قَاتَلَكَ بَنُو فُلَانٍ فَأَعْطِنَا مِنَ الصَّدَقَةِ،
وَجَعَلُوا يَمُنُّونَ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ
فِي أَعْرَابٍ أَرَادُوا أَنْ يَتَسَمَّوْا بِاسْمِ
الْهِجْرَةِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرُوا، فَأَعْلَمَ اللَّهُ
أَنَّ لَهُمْ أَسْمَاءَ الْأَعْرَابِ لَا أَسْمَاءَ
الْمُهَاجِرِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي
الْأَعْرَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ:
أَعْرَابِ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ
وَالدِّيلِ وَأَشْجَعَ، قَالُوا آمَنَّا لِيَأْمَنُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا اسْتُنْفِرُوا إِلَى
الْمَدِينَةِ تَخَلَّفُوا، فَنَزَلَتْ. وَبِالْجُمْلَةِ
فَالْآيَةُ خَاصَّةٌ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ، لِأَنَّ مِنْهُمْ
مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا وَصَفَ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَعْنَى «وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا» أَيِ اسْتَسْلَمْنَا
خَوْفَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَهَذِهِ صِفَةُ
الْمُنَافِقِينَ؟
لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا فِي ظاهر إيمانهم ولم نؤمن
قُلُوبُهُمْ، وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ
بِالْقَلْبِ. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَقَبُولُ مَا أَتَى بِهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ،
وَذَلِكَ يَحْقِنُ الدَّمَ. وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يَعْنِي إِنْ تُخْلِصُوا الْإِيمَانَ لَا
يَلِتْكُمْ أَيْ لَا يُنْقِصُكُمْ. مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً
لأنه يلينه ويلونه: نَقَصَهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «لَا
يَأْلِتُكُمْ» بِالْهَمْزَةِ، من ألت يألت
(16/348)
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ
أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
ألتا، وهو اختيار أى حَاتِمٍ، اعْتِبَارًا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ «1» قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبْلِغْ بَنِي ثُعَلٍ عَنِّي مُغَلْغَلَةً ... جَهْدَ
الرِّسَالَةِ لَا أَلْتًا وَلَا كَذِبَا
وَاخْتَارَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ رُؤْبَةُ:
وَلَيْلَةٍ ذَاتَ نَدًى سَرَيْتُ ... وَلَمْ يَلِتْنِي عَنْ
سُرَاهَا لَيْتُ
أَيْ لَمْ يَمْنَعْنِي عَنْ سُرَاهَا مَانِعٌ، وَكَذَلِكَ
أَلَاتَهُ عَنْ وَجْهِهِ، فَعَلَ وَأَفْعَلَ بِمَعْنًى.
وَيُقَالُ أَيْضًا: مَا أَلَاتَهُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْئًا، أَيْ
مَا نَقَصَهُ، مِثْلُ أَلَتَهُ، قاله الفراء. وأنشد:
وَيَأْكُلْنَ مَا أَعَنَى الْوَلِيُّ فَلَمْ يَلِتْ ...
كَأَنَّ بِحَافَّاتِ النِّهَاءِ الْمَزَارِعَا «2»
قَوْلُهُ: فَلَمْ «يَلِتْ» أَيْ لم ينقص منه شيئا. و «أعنى»
بِمَعْنَى أَنْبَتَ، يُقَالُ:
مَا أَعْنَتَ الْأَرْضُ شَيْئًا، أى ما أنبتت. و «الوليّ»
المعطر بَعْدَ الْوَسْمِيِّ «3»، سُمِّيَ وَلِيًّا لِأَنَّهُ
يَلِي الْوَسْمِيَّ، وَلَمْ يَقُلْ، لَا يَأْلِتَاكُمْ،
لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تعالى طاعة الرسول.
[سورة الحجرات (49): الآيات 15 الى 16]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أَيْ صَدَّقُوا
وَلَمْ يَشُكُّوا وَحَقَّقُوا ذَلِكَ بِالْجِهَادِ
وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ فِي
إِيمَانِهِمْ، لَا مَنْ أَسْلَمَ خَوْفَ الْقَتْلِ وَرَجَاءَ
الْكَسْبِ. فَلَمَّا نَزَلَتْ حَلَفَ الْأَعْرَابُ أنهم مؤمنون
في السر
__________
(1). راجع به ج 17 ص 66.
(2). البيت لعدي بن زيد.
(3). الوسمي: مطر الربيع الأوّل، سمى به لأنه يسم الأرض
بالنبات.
(16/349)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ
بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ (18)
وَالْعَلَانِيَةِ وَكَذَّبُوا، فَنَزَلَتْ.
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ الَّذِي أَنْتُمْ
عَلَيْهِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
[سورة الحجرات (49): الآيات 17 الى 18]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا
عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا
إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: جِئْنَاكَ بِالْأَثْقَالِ
وَالْعِيَالِ.
وَ «أَنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ لِأَنْ
أَسْلَمُوا. قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أَيْ
بِإِسْلَامِكُمْ. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَداكُمْ لِلْإِيمانِ «أَنْ» مَوْضِعُ نَصْبٍ، تَقْدِيرُهُ
بِأَنْ. وَقِيلَ: لأن. وفي مصحف عبد الله «إذا هداكم». إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ أَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ «إِنْ هَدَاكُمْ» بِالْكَسْرِ، وَفِيهِ
بُعْدٌ، لِقَوْلِهِ: «إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». وَلَا
يُقَالُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ يَهْدِيَكُمْ إِنْ
صَدَقْتُمْ. وَالْقِرَاءَةُ الظَّاهِرَةُ «أَنْ هَدَاكُمْ».
وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ،
لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: إِنْ آمَنْتُمْ فَذَلِكَ
مِنَّةُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو عَمْرٍو
بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: «قَالَتِ
الْأَعْرَابُ». الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الخطاب.
وجد في «ز» ما يأتى: «والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع
والمآب، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وهو حسبي ونعم الوكيل».
4 محرم سنة 1385 5 مايو سنة 1965
حققه أحمد عبد العليم البردونى
ثم بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى الْجُزْءُ السَّادِسَ عَشَرَ
مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ، يَتْلُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى الجزء السابع عشر، وأوّله:
«سورة (ق)»
(16/350)
|