تفسير القرطبي ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا
كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
الجزء السابع عشر
[تفسير سورة ق-]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ ق مَكِّيَّةٌ
كُلُّهَا، وَهِيَ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ
كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ
وَجَابِرٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: إِلَّا آيَةً،
وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما
مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ
هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: لَقَدْ
كَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا سَنَتَيْنِ- أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ
سَنَةٍ- وَمَا أَخَذْتُ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إِلَّا
عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى
الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ
اللَّيْثِيَّ مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟
فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِ (ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ) وَ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ). وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي
الْفَجْرِ بِ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وَكَانَتْ صَلَاتُهُ
بَعْدُ تَخْفِيفًا.
[سورة ق (50): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ
مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ
عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ
حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ
مَرِيجٍ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ
عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ
هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ
رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ
مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قَرَأَ
الْعَامَّةُ (قَافْ) بِالْجَزْمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ
أَبِي إِسْحَاقَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ (قَافِ) بِكَسْرِ
الْفَاءِ، لِأَنَّ الْكَسْرَ أَخُو الْجَزْمِ، فَلَمَّا سكن
(17/1)
آخِرُهُ حَرَّكُوهُ بِحَرَكَةِ الْخَفْضِ.
وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ بِفَتْحِ الْفَاءِ حَرَّكَهُ
إِلَى أَخَفِّ الْحَرَكَاتِ. وَقَرَأَ هرون ومحمد بن السميقع
(قَافُ) بِالضَّمِّ، لِأَنَّهُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ حَرَكَةُ
الْبِنَاءِ نَحْوُ مُنْذُ وَقَطُّ وَقَبْلُ وَبَعْدُ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى (ق) مَا هُوَ؟ فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ
وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ جَبَلٌ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ
مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ اخْضَرَّتِ السَّمَاءُ مِنْهُ،
وَعَلَيْهِ طَرَفَا السَّمَاءِ وَالسَّمَاءُ عَلَيْهِ
مُقْبِيَّةٌ، وَمَا أَصَابَ النَّاسَ مِنْ زُمُرُّدٍ كَانَ
مِمَّا تَسَاقَطَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ. وَرَوَاهُ أَبُو
الْجَوْزَاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ
الْفَرَّاءُ: كَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَظْهَرَ
الْإِعْرَابُ فِي (ق)، لِأَنَّهُ اسْمٌ وَلَيْسَ بِهِجَاءٍ.
قَالَ: وَلَعَلَّ الْقَافَ وحدها ذكرت من اسمه، كقوله
الْقَائِلِ:
قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ
أَيْ أَنَا وَاقِفَةٌ. وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَوَّلَ (الْبَقَرَةِ) «1». وَقَالَ وَهْبٌ: أَشْرَفَ ذُو
الْقَرْنَيْنِ عَلَى جَبَلِ قَافٍ فَرَأَى تَحْتَهُ جِبَالًا
صِغَارًا، فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا قَافٌ،
قَالَ: فَمَا هَذِهِ الْجِبَالُ حَوْلَكَ؟ قَالَ: هِيَ
عُرُوقِي وَمَا مِنْ مَدِينَةٍ إِلَّا وَفِيهَا عِرْقٌ مِنْ
عُرُوقِي، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُزَلْزِلَ مَدِينَةً
أَمَرَنِي فَحَرَّكْتُ عِرْقِي ذَلِكَ فَتَزَلْزَلَتْ تِلْكَ
الْأَرْضُ، فَقَالَ لَهُ: يَا قَافٌ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ مِنْ
عَظَمَةِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ شَأْنَ رَبِّنَا لَعَظِيمٌ،
وَإِنَّ وَرَائِي أَرْضًا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فِي
خَمْسِمِائَةِ عَامٍ مِنْ جِبَالِ ثَلْجٍ يُحَطِّمُ بَعْضُهَا
بَعْضًا، لَوْلَا هِيَ لَاحْتَرَقْتُ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ.
[فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَهَنَّمَ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهَا، وَأَيْنَ هِيَ
مِنَ الْأَرْضِ «2»]. قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَرْعَدُ
فَرَائِصُهُ، يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ رَعْدَةٍ مِائَةَ
أَلْفِ مَلَكٍ، فَأُولَئِكَ الْمَلَائِكَةُ وُقُوفٌ بَيْنَ
يَدَيِ الله تعالى منكسو رُؤُوسُهُمْ، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ
لَهُمْ فِي الْكَلَامِ قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) «3» يَعْنِي قَوْلَ: لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ (ق)
أَيْ قُضِيَ الْأَمْرُ، كَمَا قِيلَ فِي (حم) أَيْ حُمَّ
الْأَمْرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (ق) اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ
اسْمٌ من أسماء
__________
(1). راجع ج 1 ص (155)
(2). الزيادة من حاشية الجمل عن القرطبي.
(3). راجع ج 19 ص 184
(17/2)
الْقُرْآنِ. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ.
وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: افْتِتَاحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
قَدِيرٌ وَقَاهِرٌ وَقَرِيبٌ وَقَاضٍ وَقَابِضٌ. وَقَالَ
الشَّعْبِيُّ: فَاتِحَةُ السُّورَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
الْوَرَّاقُ: مَعْنَاهُ قِفْ عِنْدَ أَمْرِنَا وَنَهْيِنَا
وَلَا تَعْدُهُمَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَاصِمٍ
الْأَنْطَاكِيُّ: هُوَ قُرْبُ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ،
بَيَانُهُ (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ). وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: أَقْسَمَ اللَّهُ
بِقُوَّةِ قَلْبِ حَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، حَيْثُ حَمَلَ الْخِطَابَ وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ
فِيهِ لِعُلُوِّ حَالِهِ. (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أَيِ
الرَّفِيعُ الْقَدْرِ. وَقِيلَ: الْكَرِيمُ، قَالَهُ
الْحَسَنُ. وَقِيلَ: الْكَثِيرُ، مَأْخُوذٌ مِنْ كَثْرَةِ
الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ لَا مِنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ، مِنْ
قَوْلِهِمْ: كَثِيرُ فُلَانٍ فِي النُّفُوسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ
الْعَرَبِ فِي الْمَثَلِ السَّائِرِ: (فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ،
وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ) «1» (وَالْعَفَارُ). أَيِ
اسْتَكْثَرَ هَذَانِ النَّوْعَانِ من النار فزادا على سائر
الشجر، قال ابْنُ بَحْرٍ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ قِيلَ هُوَ:
(قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) عَلَى
إِرَادَةِ اللَّامِ، أَيْ لَقَدْ عَلِمْنَا. وَقِيلَ: هُوَ
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) وَهُوَ اخْتِيَارُ التِّرْمِذِيِّ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: (ق) قَسَمٌ بِاسْمٍ هُوَ
أَعْظَمُ الْأَسْمَاءِ الَّتِي خَرَجَتْ إِلَى الْعِبَادِ
وَهُوَ الْقُدْرَةُ، وَأَقْسَمَ أَيْضًا بِالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ، ثُمَّ اقْتَصَّ ما خرج من القدرة من خلق السموات
وَالْأَرَضِينَ وَأَرْزَاقِ الْعِبَادِ، وَخَلْقِ
الْآدَمِيِّينَ، وَصِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ
وَالنَّارِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ
كانَ لَهُ قَلْبٌ) فَوَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى هَذِهِ
الْكَلِمَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: (ق) أَيْ بِالْقُدْرَةِ
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أَقْسَمْتُ أَنَّ فِيمَا اقْتَصَصْتُ
فِي هَذِهِ السُّورَةِ (لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ:
جَوَابُهُ (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ). وَقَالَ أَهْلُ
الْكُوفَةِ: جَوَابُ هَذَا الْقَسَمِ (بَلْ عَجِبُوا). وَقَالَ
الْأَخْفَشُ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قَالَ: (ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) لَتُبْعَثُنَّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ
(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً). قوله تعالى: (بَلْ عَجِبُوا
أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) (أَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
عَلَى تَقْدِيرِ لِأَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، يَعْنِي
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالضَّمِيرُ
لِلْكُفَّارِ. وَقِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ
جَمِيعًا. ثُمَّ مَيَّزَ بَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(فَقالَ الْكافِرُونَ) وَلَمْ يَقُلْ فَقَالُوا، بَلْ قَبَّحَ
حَالَهُمْ وَفِعْلَهُمْ وَوَصَفَهُمْ بِالْكُفْرِ، كَمَا
تَقُولُ: جَاءَنِي فُلَانٌ فَأَسْمَعَنِي المكروه، وقال لي
الفاسق
__________
(1). المرخ والعفار: شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر،
ويسوى من أغصانهما الزناد فيقتدح بها.
(17/3)
أَنْتَ كَذَا وَكَذَا. (هَذَا شَيْءٌ
عَجِيبٌ) الْعَجِيبُ الْأَمْرُ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْهُ،
وَكَذَلِكَ الْعُجَابُ بِالضَّمِّ، وَالْعُجَّابُ
بِالتَّشْدِيدِ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْأُعْجُوبَةُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: عَجَبُهُمْ أَنْ دُعُوا إِلَى إِلَهٍ
وَاحِدٍ. وَقِيلَ: مِنْ إِنْذَارِهِمْ بِالْبَعْثِ
وَالنُّشُورِ. وَالَّذِي نَصَّ عليه القرآن أولى. قوله تعالى:
(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) نُبْعَثُ، فَفِيهِ
إِضْمَارٌ. (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) الرَّجْعُ الرَّدُّ أَيْ
هُوَ رَدٌّ بَعِيدٌ أَيْ مُحَالٌ. يُقَالُ: رَجَعْتُهُ
أَرْجِعُهُ رَجْعًا، وَرَجَعَ هُوَ يَرْجِعُ رُجُوعًا، وَفِيهِ
إِضْمَارٌ آخَرُ، أَيْ وَقَالُوا أَنُبْعَثُ إِذَا مِتْنَا.
وَذِكْرُ الْبَعْثِ وإن لم يجرها هنا فَقَدْ جَرَى فِي
مَوَاضِعَ، وَالْقُرْآنُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ. وَأَيْضًا
ذِكْرُ الْبَعْثِ مُنْطَوٍ تَحْتَ قَوْلِهِ: (بَلْ عَجِبُوا
أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) لِأَنَّهُ إِنَّمَا ينذر
بالعقاب والحساب في الآخرة. أَيْ مَا تَأْكُلُ مِنْ
أَجْسَادِهِمْ فَلَا يَضِلُّ عنا شي حَتَّى تَتَعَذَّرَ
عَلَيْنَا الْإِعَادَةُ. وَفِي التَّنْزِيلِ: (قالَ فَما بالُ
الْقُرُونِ الْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ
لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) «1» وَفِي الصَّحِيحِ: (كُلُّ
ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ
مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يركب) وقد تقدم. وثبت أن لأنبياء
وَالْأَوْلِيَاءَ وَالشُّهَدَاءَ لَا تَأْكُلُ الْأَرْضُ
أَجْسَادَهُمْ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ
أَجْسَادَهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ
(التَّذْكِرَةِ) وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي هَذَا الْكِتَابِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: النَّقْصُ هُنَا الْمَوْتُ يَقُولُ قَدْ
عَلِمْنَا مِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ وَمَنْ يَبْقَى، لِأَنَّ مَنْ
مَاتَ دُفِنَ فَكَأَنَّ الْأَرْضَ تَنْقُصُ مِنَ النَّاسِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ. (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أَيْ
بِعِدَّتِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى
فَاعِلٍ. وَقِيلَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ أَيْ مَحْفُوظٌ مِنَ
الشَّيَاطِينِ أَوْ مَحْفُوظٌ فِيهِ كُلُّ شي. وَقِيلَ:
الْكِتَابُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ وَالْإِحْصَاءِ، كَمَا
تَقُولُ: كَتَبْتُ عَلَيْكَ هَذَا أَيْ حَفِظْتُهُ، وَهَذَا
تَرْكُ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَقِيلَ: أَيْ
وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ لِأَعْمَالِ بَنِي آدَمَ
لِنُحَاسِبَهُمْ عليها. قوله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ) أَيِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، حَكَاهُ
الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: بِالْحَقِّ
الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ. وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)
__________
(1). راجع ج 11 ص 205
(17/4)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ
الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ
(10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا
كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
أَيْ مُخْتَلِطٍ. يَقُولُونَ مَرَّةً
سَاحِرٌ وَمَرَّةً شَاعِرٌ وَمَرَّةً كَاهِنٌ، قَالَهُ
الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُخْتَلِفٌ.
الْحَسَنُ: مُلْتَبِسٌ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: فَاسِدٌ، وَمِنْهُ مَرِجَتْ أَمَانَاتُ
النَّاسِ أَيْ فَسَدَتْ، وَمَرِجَ الدِّينُ وَالْأَمْرُ
اخْتَلَطَ، قَالَ أبو دواد:
مَرِجَ الدِّينُ فَأَعْدَدْتُ لَهُ ... مُشْرِفَ الْحَارِكِ
مَحْبُوكَ الْكَتَدْ «1»
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَرِيجُ الْأَمْرُ الْمُنْكَرُ.
وَقَالَ عَنْهُ عِمْرَانُ بْنُ أَبِي عَطَاءٍ: (مَرِيجٍ)
مُخْتَلِطٌ. وَأَنْشَدَ «2»:
فَجَالَتْ فَالْتَمَسْتُ بِهِ حَشَاهَا ... فَخَرَّ كَأَنَّهُ
خُوطٌ مَرِيجٌ
الْخُوطُ الْغُصْنُ. وَقَالَ عَنْهُ الْعَوْفِيُّ: فِي أَمْرِ
ضَلَالَةٍ وَهُوَ قَوْلُهُمْ سَاحِرٌ شَاعِرٌ مَجْنُونٌ
كَاهِنٌ. وَقِيلَ: مُتَغَيِّرٌ. وَأَصْلُ الْمَرَجِ
الِاضْطِرَابُ وَالْقَلَقُ، يُقَالُ: مَرِجَ أَمْرُ النَّاسِ
وَمَرِجَ أَمْرُ الدِّينِ وَمَرِجَ الْخَاتَمُ فِي إِصْبَعِي
إِذَا قَلِقَ مِنَ الْهُزَالِ. وَفِي الْحَدِيثِ: (كَيْفَ بِكَ
يَا عَبْدَ اللَّهِ «3» إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ قَدْ مَرِجَتْ
عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا
وَهَكَذَا) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُدُ وقد ذكرناه في كتاب (التذكرة).
[سورة ق (50): الآيات 6 الى 11]
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها
رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا
مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ
وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ
نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)
__________
(1). الحارك الكاهل. والكتد مجمع الكتفين من الإنسان والفرس.
(2). البيت للداخل الهذلي، ويروى فرافت بدل فجالت والضمير
للبقرة. وبه أي بالهم.
(3). هو عبد الله بن عمرو بن العاص كما في مسند أبى داود.
(17/5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) نَظَرَ اعْتِبَارٍ وَتَفَكُّرٍ،
وَأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِيجَادِهَا قَادِرٌ عَلَى
الْإِعَادَةِ. (كَيْفَ بَنَيْناها) فَرَفَعْنَاهَا بِلَا
عَمَدٍ (وَزَيَّنَّاها) بِالنُّجُومِ (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ)
جَمْعُ فَرْجٍ وَهُوَ الشَّقُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ
القيس:
تَسُدُّ بِهِ فَرْجَهَا مِنْ دُبُرْ «1»
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَيْسَ فِيهَا تَفَاوُتٌ وَلَا
اخْتِلَافٌ وَلَا فُتُوقٌ. (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها
وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) تَقَدَّمَ فِي (الرَّعْدِ) «2»
بَيَانُهُ. (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أَيْ مِنْ
كُلِّ نَوْعٍ مِنَ النَّبَاتِ (بَهِيجٍ) أَيْ حَسَنٍ يَسُرُّ
النَّاظِرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (الْحَجِّ) «3»
بَيَانُهُ. (تَبْصِرَةً) أَيْ جَعَلْنَا ذَلِكَ تَبْصِرَةً
لِنَدُلَّ بِهِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِنَا. وَقَالَ أَبُو
حَاتِمٍ: نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، يَعْنِي جَعَلْنَا ذَلِكَ
تبصيرا وتنبيها على قدرتنا (وَذِكْرى) مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ.
(لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) رَاجِعٌ إِلَى الله تعالى مفكر في
قدرته. قوله تعالى: (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ) أَيْ مِنَ
السَّحَابِ (مَاءً مُبارَكاً) أَيْ كَثِيرَ الْبَرَكَةِ.
(فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ)
التَّقْدِيرُ: وَحَبُّ النَّبْتِ الْحَصِيدُ وَهُوَ كُلُّ مَا
يُحْصَدُ. هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ
الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى
نَفْسِهِ، كَمَا يُقَالُ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ وَرَبِيعُ
الْأَوَّلِ وحق اليقين وحبل الوريد ونحوها، قاله الْفَرَّاءُ.
وَالْأَصْلُ الْحَبُّ الْحَصِيدُ فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ
وَاللَّامُ وَأُضِيفَ الْمَنْعُوتُ إِلَى النَّعْتِ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: حَبُّ الْحَصِيدِ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ.
وَقِيلَ: كُلُّ حَبٍّ يُحْصَدُ وَيُدَّخَرُ وَيُقْتَاتُ.
(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ «4» رَدًّا
عَلَى قَوْلِهِ: (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) وَ (باسِقاتٍ) حَالٌ.
وَالْبَاسِقَاتُ الطِّوَالُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: بُسُوقُهَا
اسْتِقَامَتُهَا في الطول. وقال سعيد بن جبير:
__________
(1). البيت في وصف فرنه، وصدره:
لها ذنب مثل ذيل العروس
(2). راجع ج 9 ص 280.
(3). راجع ج 12 ص 14. [ ..... ]
(4). هكذا في الأصول، ولعل صواب العبارة أن تكون كما قال
السمين: (وَالنَّخْلَ) منصوب على العطف أي وأنبتنا النخل، و
(باسِقاتٍ) حال.
(17/6)
مُسْتَوِيَاتٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ
وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا وَالْفَرَّاءُ: مَوَاقِيرُ حَوَامِلُ،
يُقَالُ لِلشَّاةِ بَسَقَتْ إِذَا وَلَدَتْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَمَّا تَرَكْنَا الدَّارَ ظَلَّتْ مُنِيفَةً ... بِقُرَّانَ
فِيهِ الْبَاسِقَاتُ الْمَوَاقِرُ
وَالْأَوَّلُ فِي اللُّغَةِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ، [يُقَالُ]
بَسَقَ النَّخْلُ بُسُوقًا إِذَا طَالَ. قَالَ:
لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ ... وَلَكِنْ مِنْ
نِتَاجِ الْبَاسِقَاتِ
كِرَامٌ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولًا ... وَفَاتَ
ثِمَارُهَا أَيْدِي الْجُنَاةِ
وَيُقَالُ: بَسَقَ فُلَانٌ عَلَى أَصْحَابِهِ أَيْ عَلَاهُمْ،
وَأَبْسَقَتِ النَّاقَةُ إِذَا وَقَعَ فِي ضَرْعِهَا اللَّبَنُ
«1» قَبْلَ النِّتَاجِ فَهِيَ مُبْسِقٌ وَنُوقٌ مَبَاسِيقٌ.
وَقَالَ قُطْبَةُ بْنُ مَالِكٍ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ (بَاصِقَاتٍ) بِالصَّادِ،
ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. قُلْتُ: الَّذِي فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّيْتُ
وَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَرَأَ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) حَتَّى قَرَأَ
(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) قَالَ فَجَعَلْتُ أُرَدِّدُهَا وَلَا
أَدْرِي مَا قَالَ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْدَالُ
الصَّادِ مِنَ السِّينِ لِأَجْلِ الْقَافِ. (لَها طَلْعٌ
نَضِيدٌ) الطَّلْعُ هُوَ أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرِ
النَّخْلِ، يُقَالُ: طَلَعَ الطَّلْعُ طُلُوعًا وَأَطْلَعَتِ
النَّخْلَةُ، وَطَلْعُهَا كُفُرَّاهَا قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ.
(نَضِيدٌ) أَيْ مُتَرَاكِبٌ قَدْ نَضَدَ بَعْضُهُ عَلَى
بَعْضٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ (النَّضِيدُ) الْكُفُرَّى مَا
دَامَ فِي أَكْمَامِهِ وَمَعْنَاهُ مَنْضُودٌ بَعْضُهُ عَلَى
بَعْضٍ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَكْمَامِهِ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ.
(رِزْقاً لِلْعِبادِ) أَيْ رَزَقْنَاهُمْ رِزْقًا، أَوْ عَلَى
مَعْنَى أَنْبَتْنَاهَا رِزْقًا، لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ فِي
مَعْنَى الرِّزْقِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ
أَنْبَتْنَاهَا لِرِزْقِهِمْ، وَالرِّزْقُ مَا كَانَ مُهَيَّأً
لِلِانْتِفَاعِ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ»
. (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ)
أَيْ مِنَ الْقُبُورِ أَيْ كَمَا أَحْيَا اللَّهُ هَذِهِ
الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ فَكَذَلِكَ يُخْرِجُكُمْ أَحْيَاءً
بَعْدَ مَوْتِكُمْ، فَالْكَافُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى
الِابْتِدَاءِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ «3». وَقَالَ (مَيْتاً) لِأَنَّ المقصود المكان ولو
قال ميتة لجاز.
__________
(1). في ح، ز، ى: اللبأ وهو وزان عنب، أول اللبن عند الولادة.
(2). راجع ج 1 ص 177 وص 211
(3). راجع ج 1 ص 177 وص 211
(17/7)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ
وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
(14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي
لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ
يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ
بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
[سورة ق (50): الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ
وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13)
وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ
الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أَيْ
كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ فَكَذَلِكَ كَذَّبَ أُولَئِكَ فَحَلَّ
بِهِمُ الْعِقَابُ، ذَكَّرَهُمْ نَبَأَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ
مِنَ الْمُكَذِّبِينَ وَخَوَّفَهُمْ مَا أَخَذَهُمْ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا قَصَصَهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ.
(كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ
الْمُكَذِّبَةِ. (فَحَقَّ وَعِيدِ) أَيْ فَحَقَّ عَلَيْهِمْ
وَعِيدِي وعقابي. قوله تعالى: (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ
الْأَوَّلِ) أَيْ أَفَعَيِينَا بِهِ فَنَعْيَا بِالْبَعْثِ.
وَهَذَا تَوْبِيخٌ لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ وَجَوَابُ
قَوْلِهِمْ: (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ). يُقَالُ: عَيِيتَ
بِالْأَمْرِ إِذَا لَمْ تَعْرِفْ وَجْهَهُ. (بَلْ هُمْ فِي
لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أَيْ فِي حَيْرَةٍ مِنَ الْبَعْثِ
مِنْهُمْ مُصَدِّقٌ وَمِنْهُمْ مُكَذِّبٌ، يُقَالُ: لَبَسَ
عليه الامر يلبسه لبسا.
[سورة ق (50): الآيات 16 الى 19]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ
بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ
الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ
سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ
تَحِيدُ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يَعْنِي
النَّاسَ، وَقِيلَ آدَمُ. (وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ
نَفْسُهُ) أَيْ مَا يَخْتَلِجُ فِي سِرِّهِ وَقَلْبِهِ
وَضَمِيرِهِ، وَفِي هَذَا زَجْرٌ عَنِ الْمَعَاصِي الَّتِي
يَسْتَخْفِي بِهَا. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ
بِالْإِنْسَانِ آدَمُ، فَالَّذِي وَسْوَسَتْ بِهِ نَفْسُهُ
هُوَ الْأَكْلُ مِنَ الشَّجَرَةِ، ثُمَّ هُوَ عَامٌّ
لِوَلَدِهِ. وَالْوَسْوَسَةُ حَدِيثُ النَّفْسِ بِمَنْزِلَةِ
الْكَلَامِ الْخَفِيِّ. قَالَ الْأَعْشَى:
(17/8)
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا
انْصَرَفَتْ ... كَمَا اسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ «1»
وَقَدْ مَضَى فِي (الْأَعْرَافِ «2»). (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) هُوَ حَبْلُ الْعَاتِقِ
وَهُوَ مُمْتَدٌّ مِنْ نَاحِيَةِ حَلْقِهِ إِلَى عَاتِقِهِ،
وَهُمَا وَرِيدَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ. رُوِيَ مَعْنَاهُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي
اللُّغَةِ. وَالْحَبْلُ هُوَ الْوَرِيدُ فَأُضِيفَ إِلَى
نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
الْوَرِيدُ الْوَتِينُ وَهُوَ عِرْقٌ مُعَلَّقٌ بِالْقَلْبِ.
وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْقُرْبِ، أَيْ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ، وَلَيْسَ عَلَى
وَجْهِ قُرْبِ الْمَسَافَةِ. وَقِيلَ: أَيْ وَنَحْنُ أَمْلَكُ
بِهِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ مَعَ اسْتِيلَائِهِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: أَيْ وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا تُوَسْوِسُ بِهِ
نَفْسُهُ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ نَفْسِهِ،
لِأَنَّهُ عِرْقٌ يُخَالِطُ الْقَلْبَ، فَعِلْمُ الرَّبِّ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ، رُوِيَ مَعْنَاهُ
عَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: الْوَرِيدُ عِرْقٌ يُخَالِطُ الْقَلْبَ،
وَهَذَا الْقُرْبُ قُرْبُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ،
وَأَبْعَاضُ الْإِنْسَانِ يَحْجُبُ البعض البعض ولا يحجب علم
الله شي. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ)
أَيْ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ حِينَ
يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ، وَهُمَا الْمَلَكَانِ
الْمُوَكَّلَانِ بِهِ، أَيْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِهِ
فَلَا نَحْتَاجُ إِلَى مَلَكٍ يُخْبِرُ، وَلَكِنَّهُمَا
وُكِّلَا بِهِ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ، وَتَوْكِيدًا
لِلْأَمْرِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ
وَقَتَادَةُ: (الْمُتَلَقِّيانِ) مَلَكَانِ يَتَلَقَّيَانِ
عَمَلَكَ: أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ يَكْتُبُ حَسَنَاتِكَ،
وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ يَكْتُبُ سَيِّئَاتِكَ. قَالَ
الْحَسَنُ: حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَةُ عَمَلِكَ
وَقِيلَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى
بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) «3» عَدَلَ وَاللَّهِ
عَلَيْكَ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
وَكَّلَ اللَّهُ بِالْإِنْسَانِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِهِ
مَلَكَيْنِ بِاللَّيْلِ وَمَلَكَيْنِ بِالنَّهَارِ يَحْفَظَانِ
عَمَلَهُ، وَيَكْتُبَانِ أَثَرَهُ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ:
أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَالْآخَرُ
عَنْ شِمَالِهِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ).
وَقَالَ سُفْيَانُ: بَلَغَنِي أَنَّ كَاتِبَ الْحَسَنَاتِ
أَمِينٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئَاتِ فَإِذَا أَذْنَبَ [العبد]
قال
__________
(1). عشرق كز برج: شجر ينفرش على الأرض عريض الورق وليس له
شوك، وثمرته قشرة إذا هبت الريح فلقت تلك القشرة فتخشخشت فسمعت
للوادي الذي تكون به زجلا ولجة تفزع الإبل.
(2). راجع ج 7 ص (177)
(3). راجع ج 10 ص 230
(17/9)
لَا تَعْجَلْ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ. وَرُوِيَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ،
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(كَاتِبُ الْحَسَنَاتِ عَلَى يَمِينِ الرَّجُلِ وَكَاتِبُ
السَّيِّئَاتِ عَلَى يَسَارِهِ وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِينٌ
عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئَاتِ فَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً
كَتَبَهَا صَاحِبُ الْيَمِينِ عَشْرًا وَإِذَا عَمِلَ
سَيِّئَةً قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ
دَعْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ لَعَلَّهُ يُسَبِّحُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ
(. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
(إِنَّ مَقْعَدَ مَلَكَيْكَ عَلَى ثَنِيَّتِكَ) «1» (لِسَانُكَ
قَلَمُهُمَا وَرِيقُكَ مِدَادُهُمَا وَأَنْتَ تَجْرِي فِيمَا
لَا يَعْنِيكَ فَلَا تَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ وَلَا مِنْهُمَا).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَجْلِسُهُمَا تَحْتَ الثَّغْرِ. عَلَى
الْحَنَكِ. وَرَوَاهُ عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: وَكَانَ
الْحَسَنُ يُعْجِبُهُ أَنْ يُنَظِّفَ عَنْفَقَتَهُ. وَإِنَّمَا
قَالَ: (قَعِيدٌ) وَلَمْ يَقُلْ قَعِيدَانِ وَهُمَا اثْنَانِ،
لِأَنَّ الْمُرَادَ عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنِ الشِّمَالِ
قَعِيدٌ فَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ.
قَالَهُ سِيبَوَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2».
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ
وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفٌ
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
إِنِّي ضَمِنْتُ لِمَنْ أَتَانِي مَا جَنَى ... وَأَبَى
فَكَانَ وَكُنْتُ غَيْرَ غَدُورِ
وَلَمْ يَقُلْ رَاضِيَانِ وَلَا غَدُورَيْنِ. وَمَذْهَبُ
الْمُبَرِّدِ: أَنَّ الَّذِي فِي التِّلَاوَةِ أَوَّلٌ أخرا
تساعا، وَحُذِفَ الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ.
وَمَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ: أَنَّ الَّذِي فِي
التِّلَاوَةِ يُؤَدِّي عَنِ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَلَا
حَذْفَ فِي الْكَلَامِ. وَ (قَعِيدٌ) بِمَعْنَى قَاعِدٍ
كَالسَّمِيعِ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالشَّهِيدِ.
وَقِيلَ: (قَعِيدٌ) بِمَعْنَى مُقَاعِدٍ مِثْلُ أَكِيلٌ
وَنَدِيمٌ بمعنى مواكل وَمُنَادِمٍ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
فَعِيلٌ وَفَعُولٌ مِمَّا يَسْتَوِي فيه الواحد والاثنان
والجمع، كقوله تعالى: ِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ)
«3» وَقَوْلُهُ: (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ «4» ظَهِيرٌ).
وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي الْجَمْعِ، أَنْشَدَهُ الثَّعْلَبِيُّ:
أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو ... لِ أَعْلَمُهُمْ
بِنَوَاحِي الخبر «5»
__________
(1). في رواية أخرى عن على رضى الله عنه: (ان الملكين قاعدان
على ناجذي العبد ... إلخ).
(2). هو قيس بن الخطيم.
(3). راجع ج 13 ص (39)
. (4). راجع ج 18 ص 5 (191)
(5). الكنى إليها: أرسلني إليها، والأصل في الكنى ألئكنى فحولت
كسرة إلى اللام وحذفت الهمزة.
(17/10)
والمراد بالقعيد ها هنا الْمُلَازِمُ
الثَّابِتُ لَا ضِدَّ الْقَائِمِ. قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا
يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أَيْ
مَا يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ، مَأْخُوذٌ
مِنْ لَفْظِ الطَّعَامِ وَهُوَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْفَمِ.
وَفِي الرَّقِيبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ
الْمُتَّبِعُ لِلْأُمُورِ. الثَّانِي أَنَّهُ الْحَافِظُ،
قَالَهُ السُّدِّيُّ. الثَّالِثُ أَنَّهُ الشَّاهِدُ، قَالَهُ
الضَّحَّاكُ. وَفِي الْعَتِيدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ
الْحَاضِرُ الَّذِي لَا يَغِيبُ. الثَّانِي أَنَّهُ الْحَافِظُ
الْمُعَدُّ إِمَّا لِلْحِفْظِ وَإِمَّا لِلشَّهَادَةِ. قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: الْعَتِيدُ الشَّيْءُ الْحَاضِرُ
الْمُهَيَّأُ، وَقَدْ عَتَّدَهُ تَعْتِيدًا وَأَعْتَدَهُ
إِعْتَادًا أَيْ أَعَدَّهُ لِيَوْمٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) «1» وَفَرَسٌ
عَتَدٌ وَعَتِدٌ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا الْمُعَدُّ
لِلْجَرْيِ. قُلْتُ وَكُلُّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى
الْحُضُورِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَئِنْ كُنْتَ مِنِّي في العيان مغيبا ... فذ كرك عِنْدِي فِي
الْفُؤَادِ عَتِيدُ
قَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شي
حَتَّى الْأَنِينُ فِي مَرَضِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يكتب
إلا ما يو جربه أَوْ يُؤْزَرُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: يُكْتَبُ
عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ
النَّهَارِ مُحِيَ عَنْهُ مَا كَانَ مُبَاحًا، نَحْوُ
انْطَلِقْ اقْعُدْ كُلْ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَجْرٌ
وَلَا وِزْرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ حَافِظَيْنِ يَرْفَعَانِ إِلَى
اللَّهِ مَا حَفِظَا فَيَرَى اللَّهُ فِي أَوَّلِ الصَّحِيفَةِ
خَيْرًا وَفِي آخِرِهَا خَيْرًا إِلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
لِمَلَائِكَتِهِ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي مَا
بَيْنَ طَرَفَيِ الصَّحِيفَةِ (. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ:) إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً مَعَهُمْ صُحُفٌ
بِيضٌ فَأَمْلُوا فِي أَوَّلِهَا وَفِي آخِرِهَا خَيْرًا
يُغْفَرُ لَكُمْ مَا بَيْنَ ذَلِكَ (وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ
الْحَافِظُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ
قَالَ حَدَّثَنَا جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ قال حدثنا سهيل
ابن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يُحَدِّثُ
عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ
الْحَافِظَيْنِ إِذَا نَزَلَا عَلَى الْعَبْدِ أَوِ الامة
منهما كِتَابٌ مَخْتُومٌ فَيَكْتُبَانِ مَا يَلْفِظُ بِهِ
الْعَبْدُ أَوِ الْأَمَةُ فَإِذَا أَرَادَا أَنْ يَنْهَضَا
قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فُكَّ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ
الَّذِي مَعَكَ فَيَفُكُّهُ لَهُ فَإِذَا فِيهِ مَا كَتَبَ
سَوَاءٌ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ
__________
(1). راجع ج 9 ص 178
(17/11)
إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ غَرِيبٌ
مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدٍ، لَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ
إِلَّا سُهَيْلٌ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ نَبِيَّ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ
اللَّهَ وَكَّلَ بِعَبْدِهِ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ عَمَلَهُ
فَإِذَا مَاتَ قَالَا رَبَّنَا قَدْ مَاتَ فُلَانٌ فَأْذَنْ
لَنَا أَنْ نَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ فَيَقُولُ اللَّهُ تعالى
إن سمواتي مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَلَائِكَتِي يُسَبِّحُونَنِي
فَيَقُولَانِ رَبَّنَا نُقِيمُ فِي الْأَرْضِ فَيَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ أَرْضِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ خَلْقِي
يُسَبِّحُونَنِي فَيَقُولَانِ يَا رَبِّ فَأَيْنَ نَكُونُ
فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كُونَا عَلَى قَبْرِ عَبْدِي
فَكَبِّرَانِي وَهَلِّلَانِي وَسَبِّحَانِي «1» وَاكْتُبَا
ذَلِكَ لِعَبْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (. قَوْلُهُ
تَعَالَى:) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) أَيْ
غَمْرَتُهُ وَشِدَّتُهُ، فَالْإِنْسَانُ ما دام حيا تكتب عليه
أقواله وأفعاله لِيُحَاسَبَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَجِيئُهُ
الْمَوْتُ وَهُوَ مَا يَرَاهُ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ مِنْ
ظُهُورِ الْحَقِّ فِيمَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُ
وَأَوْعَدَهُ. وَقِيلَ: الْحَقُّ هُوَ الْمَوْتُ سُمِّيَ
حَقًّا إِمَّا لِاسْتِحْقَاقِهِ وَإِمَّا لِانْتِقَالِهِ إِلَى
دَارِ الْحَقِّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ
تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ
الْحَقِّ بِالْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ
وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لِأَنَّ
السَّكْرَةَ هِيَ الْحَقُّ فَأُضِيفَتْ إِلَى نَفْسِهَا
لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْحَقُّ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى،
أَيْ جَاءَتْ سَكْرَةُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَوْتِ.
وَقِيلَ: الْحَقُّ هُوَ الْمَوْتُ وَالْمَعْنَى وَجَاءَتْ
سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْمَوْتِ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ.
وَقَدْ زَعَمَ مَنْ طَعَنَ عَلَى الْقُرْآنِ فَقَالَ:
أُخَالِفُ الْمُصْحَفَ كَمَا خَالَفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
فَقَرَأَ: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ.
فَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رُوِيَتْ عَنْهُ
رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا مُوَافِقَةٌ لِلْمُصْحَفِ
فَعَلَيْهَا الْعَمَلُ، وَالْأُخْرَى مَرْفُوضَةٌ تَجْرِي
مَجْرَى النِّسْيَانِ مِنْهُ إِنْ كَانَ قَالَهَا، أَوِ
الْغَلَطِ مِنْ بَعْضِ مَنْ نَقَلَ الْحَدِيثَ. قَالَ أَبُو
بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِسْحَاقَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ
مَسْرُوقٍ قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ أَبُو بَكْرٍ أَرْسَلَ
إِلَى عَائِشَةَ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَتْ: هَذَا
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وضاق بها الصدر «2»
__________
(1). في ا، ح، ن، هـ: (وإذ كرانى). [ ..... ]
(2). صدر البيت:
لعمرك ما يغنى الثراء ولا الغنى
(17/12)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا
سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا
فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ
(22)
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلَّا قُلْتِ كَمَا
قَالَ اللَّهُ: (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ
مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَالسَّكْرَةُ وَاحِدَةُ السَّكَرَاتِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ- أَوْ عُلْبَةٌ-
فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ،
فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ) ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ
فَجَعَلَ يَقُولُ: (فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى) حَتَّى قُبِضَ
وَمَالَتْ يَدُهُ. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَرُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(إِنَّ الْعَبْدَ الصَّالِحَ لَيُعَالِجُ الْمَوْتَ
وَسَكَرَاتَهُ وَإِنَّ مَفَاصِلَهُ لَيُسَلِّمُ بَعْضُهَا
عَلَى بَعْضٍ تَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكَ تُفَارِقُنِي
وَأُفَارِقُكَ إِلَى يوم القيامة (. وقال عيسى بن مَرْيَمَ:)
يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ ادْعُوَا اللَّهَ أَنْ
يُهَوِّنَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ السَّكْرَةَ) يَعْنِي سَكَرَاتِ
الْمَوْتِ. وَرُوِيَ: (إِنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبٍ
بِالسُّيُوفِ وَنَشْرٍ بِالْمَنَاشِيرِ وَقَرْضٍ
بِالْمَقَارِيضِ). (ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أَيْ
يُقَالُ لِمَنْ جَاءَتْهُ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ذَلِكَ مَا
كُنْتَ تَفِرُّ مِنْهُ وَتَمِيلُ عَنْهُ. يُقَالُ: حَادَ عَنِ
الشَّيْءِ يَحِيدُ حُيُودًا وَحَيْدَةً وَحَيْدُودَةً مَالَ
عَنْهُ وَعَدَلَ. وَأَصْلُهُ حَيَدُودَةٌ بِتَحْرِيكِ الْيَاءِ
فَسُكِّنَتْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فَعْلُولٌ
غَيْرُ صَعْفُوقٍ. وَتَقُولُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِكَ:
حِدْتُ عَنِ الشَّيْءِ أَحِيدُ حَيْدًا وَمَحِيدًا إِذَا
مِلْتُ عَنْهُ، قَالَ طَرَفَةُ:
أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْوَفَاءَ فَهِبْتَهُ ... وَحِدْتَ
كَمَا حَادَ الْبَعِيرُ عن الدحض
[سورة ق (50): الآيات 20 الى 22]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هِيَ النَّفْخَةُ
الْآخِرَةُ لِلْبَعْثِ (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) الَّذِي
وَعَدَهُ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِيهِ.
وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي النَّفْخِ فِي الصور مستوفى «1»
والحمد لله.
__________
(1). راجع ج 13 ص 239 وج 15 ص 279
(17/13)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ
مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) اخْتُلِفَ فِي السَّائِقِ
وَالشَّهِيدِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّائِقُ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ وَالشَّهِيدُ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْأَيْدِي
وَالْأَرْجُلُ، رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: السَّائِقُ الْمَلَكُ وَالشَّهِيدُ
الْعَمَلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْمَعْنَى سَائِقٌ
يَسُوقُهَا وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا. وَقَالَ
ابْنُ مُسْلِمٍ: السَّائِقُ قَرِينُهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ
سُمِّيَ سَائِقًا لِأَنَّهُ يَتْبَعُهَا وَإِنْ لَمْ
يَحُثَّهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: السَّائِقُ وَالشَّهِيدُ
ملكان. وعن عثمان ابن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ
مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) سَائِقٌ: مَلَكٌ يَسُوقُهَا إِلَى
أَمْرِ اللَّهِ، وَشَهِيدٌ: يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا.
قُلْتُ: هَذَا أَصَحُّ فَإِنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ ابْنَ آدَمَ لَفِي
غَفْلَةٍ عَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ إِنَّ
اللَّهَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِذَا أَرَادَ خَلْقَهُ قَالَ
لِلْمَلَكِ اكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَثَرَهُ وَأَجَلَهُ
وَاكْتُبْهُ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا ثُمَّ يَرْتَفِعُ ذَلِكَ
الْمَلَكُ وَيَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا آخَرَ فَيَحْفَظُهُ
حَتَّى يُدْرِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكَيْنِ
يَكْتُبَانِ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ فَإِذَا جَاءَهُ
الْمَوْتُ ارْتَفَعَ ذَلِكَ «1» الْمَلَكَانِ ثُمَّ جَاءَ
مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقْبِضُ رُوحَهُ
فَإِذَا أو دخل حُفْرَتَهُ رَدَّ الرُّوحَ فِي جَسَدِهِ ثُمَّ
يَرْتَفِعُ مَلَكُ الْمَوْتِ ثُمَّ جَاءَهُ مَلَكَا الْقَبْرِ
فَامْتَحَنَاهُ ثُمَّ يَرْتَفِعَانِ فَإِذَا قَامَتِ
السَّاعَةُ انْحَطَّ عَلَيْهِ مَلَكُ الْحَسَنَاتِ وَمَلَكُ
السَّيِّئَاتِ فَأَنْشَطَا «2» كِتَابًا مَعْقُودًا فِي
عُنُقِهِ ثُمَّ حَضَرَا مَعَهُ وَاحِدٌ سَائِقٌ وَالْآخَرُ
شَهِيدٌ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ). قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ
قَالَ:) حَالًا بَعْدَ حَالٍ) ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ قُدَّامَكُمْ أَمْرًا
عَظِيمًا فَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) خَرَّجَهُ
أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرٍ وَقَالَ فِيهِ: هَذَا
حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرٍ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ
تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ جَابِرُ الْجُعْفِيُّ وَعَنْهُ
الْمُفَضَّلُ. ثُمَّ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا
أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَهُوَ قَوْلُ
الْجُمْهُورِ. الثَّانِي أنها خاصة في الكافر، قاله الضحاك.
__________
(1). كذا في جميع الأصول والدر المنثور، والظاهر أن يكون
(ذانك).
(2). أنشط الكتاب: حل عقدته.
(17/14)
وَقَالَ قَرِينُهُ
هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ
كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ
(25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ
فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا
أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ
لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا
أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَيْ لَقَدْ كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ فِي غَفْلَةٍ
مِنَ الرِّسَالَةِ فِي قُرَيْشٍ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ
الْمُشْرِكُونَ أَيْ كَانُوا فِي غَفْلَةٍ مِنْ عَوَاقِبِ
أُمُورِهِمْ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ
الْمُرَادَ بِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ
الطَّبَرِيِّ. وَقِيلَ: أَيْ لَقَدْ كُنْتَ أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مَعَهَا
سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، لِأَنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا
بِالنُّصُوصِ الْإِلَهِيَّةِ. (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ)
أَيْ عَمَاكَ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا إِذْ
كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَوُلِدَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ.
الثَّانِي إِذَا كَانَ فِي الْقَبْرِ فَنُشِرَ. وَهَذَا
مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ وَقْتُ الْعَرْضِ
فِي الْقِيَامَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الرَّابِعُ أَنَّهُ
نُزُولُ الْوَحْيِ وَتَحَمُّلُ الرِّسَالَةِ. وَهَذَا مَعْنَى
قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ. (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) قِيلَ:
يُرَادُ بِهِ بَصَرُ الْقَلْبِ كَمَا يُقَالُ هُوَ بَصِيرٌ
بِالْفِقْهِ، فَبَصَرُ الْقَلْبِ وَبَصِيرَتُهُ تَبْصِرَتُهُ
شَوَاهِدَ الْأَفْكَارِ وَنَتَائِجَ الِاعْتِبَارِ، كَمَا
تُبْصِرُ الْعَيْنُ مَا قَابَلَهَا مِنَ الْأَشْخَاصِ
وَالْأَجْسَامِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ بَصَرُ الْعَيْنِ
وَهُوَ الظَّاهِرُ أَيْ بَصَرُ عَيْنِكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ،
أَيْ قَوِيٌّ نَافِذٌ يَرَى مَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْكَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) يَعْنِي
نَظَرَكَ إِلَى لِسَانِ مِيزَانِكَ حِينَ تُوزَنُ سَيِّئَاتُكَ
وَحَسَنَاتُكَ. وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: يُعَايِنُ مَا
يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ. وَهُوَ مَعْنَى
قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: يَعْنِي أَنَّ الْكَافِرَ
يحشر وبصره حديد ثم يزرق ويعمى. وقرى (لَقَدْ كُنْتَ) (عَنْكَ)
(فَبَصَرُكَ) بِالْكَسْرِ عَلَى خِطَابِ النفس.
[سورة ق (50): الآيات 23 الى 29]
وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي
جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً
آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ
قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ
بَعِيدٍ (27)
قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا
بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)
(17/15)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ قَرِينُهُ)
يَعْنِي الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِهِ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ
وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ. (هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) أَيْ
هَذَا مَا عِنْدِي مِنْ كِتَابَةِ عَمَلِهِ مُعَدٌّ مَحْفُوظٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُ هَذَا الَّذِي وَكَّلْتَنِي بِهِ
مِنْ بَنِي آدَمَ قَدْ أَحْضَرْتُهُ وَأَحْضَرْتُ دِيوَانَ
عَمَلِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى هَذَا مَا عِنْدِي مِنَ
الْعَذَابِ حَاضِرٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: قَرِينُهُ
الَّذِي قُيِّضَ لَهُ من الشياطين. وقال ابْنُ زَيْدٍ فِي
رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ: إِنَّهُ قَرِينُهُ مِنَ
الْإِنْسِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَرِينِهِ: (أَلْقِيا
فِي جَهَنَّمَ) قَالَ الْخَلِيلُ وَالْأَخْفَشُ: هَذَا كَلَامُ
الْعَرَبِ الْفَصِيحُ أَنْ تُخَاطِبَ الْوَاحِدَ بِلَفْظِ
الِاثْنَيْنِ فَتَقُولُ: وَيْلَكَ ارْحَلَاهَا وَازْجُرَاهَا،
وَخُذَاهُ وَأَطْلِقَاهُ لِلْوَاحِدِ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
تَقُولُ لِلْوَاحِدِ قُومَا عَنَّا، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ
أَدْنَى، أَعْوَانِ الرَّجُلِ فِي إِبِلِهِ وَغَنَمِهِ
وَرُفْقَتِهِ فِي سَفَرِهِ اثْنَانِ فَجَرَى كَلَامُ الرَّجُلِ
عَلَى صَاحِبَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلْوَاحِدِ فِي
الشِّعْرِ: خَلِيلَيَّ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا صاح. قال امرؤ
القيس:
خليلي مرابي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب
وَقَالَ أَيْضًا:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ ... بِسَقْطِ
اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
وَقَالَ آخر:
فإن تزجراني يا بن عَفَّانَ أَنْزَجِرْ ... وَإِنْ [تَدَعَانِي
«1»] أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعَا
وَقِيلَ: جَاءَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرِينَ يَقَعُ
لِلْجَمَاعَةِ وَالِاثْنَيْنِ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ:
قَوْلُهُ (أَلْقِيا) يَدُلُّ عَلَى أَلْقِ أَلْقِ. وَقَالَ
الْمُبَرِّدُ: هِيَ تَثْنِيَةٌ عَلَى التَّوْكِيدِ، الْمَعْنَى
أَلْقِ أَلْقِ فَنَابَ (أَلْقِيا) مَنَابَ التَّكْرَارِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَلْقِيا) تَثْنِيَةً عَلَى خِطَابِ
الْحَقِيقَةِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يُخَاطِبُ بِهِ
الْمَلَكَيْنِ. وَقِيلَ: هُوَ مُخَاطَبَةٌ لِلسَّائِقِ
وَالْحَافِظِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَصْلَ أَلْقِينَ بِالنُّونِ
الْخَفِيفَةِ تُقْلَبُ فِي الْوَقْفِ أَلِفًا فَحُمِلَ
الْوَصْلُ عَلَى الْوَقْفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ (أَلْقِينَ)
بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: (وَلَيَكُوناً مِنَ
الصَّاغِرِينَ) «2» وَقَوْلُهُ: (لَنَسْفَعاً) «3». (كُلَّ
كَفَّارٍ عَنِيدٍ)
__________
(1). في الأصول: (تدعواني) وما أثبتناه هو ما عليه الرواية في
تفسير الطبري والآلوسي والفراء وغيرها. لعل ما في الأصول رواية
أخرى.
(2). راجع ج 9 ص (184)
(3). راجع ج 20 ص 125
(17/16)
أَيْ مُعَانِدٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ
وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَنِيدُ الْمُعْرِضُ
عَنِ الْحَقِّ، يُقَالُ عَنَدَ يَعْنِدُ بِالْكَسْرِ عُنُودًا
أَيْ خَالَفَ وَرَدَّ الْحَقَّ وَهُوَ يَعْرِفُهُ فَهُوَ
عَنِيدٌ وَعَانِدٌ، وَجَمْعُ الْعَنِيدِ عُنُدٌ مِثْلُ رَغِيفٍ
وَرُغُفٌ. (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) يَعْنِي الزَّكَاةَ
الْمَفْرُوضَةَ وَكُلَّ حَقٍّ وَاجِبٍ. (مُعْتَدٍ) فِي
مَنْطِقِهِ وَسِيرَتِهِ وَأَمْرِهِ، ظَالِمٌ. (مُرِيبٍ) شَاكٍّ
فِي التَّوْحِيدِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. يُقَالُ:
أَرَابَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُرِيبٌ إِذَا جَاءَ بِالرِّيبَةِ.
وَهُوَ الْمُشْرِكُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ). وَقِيلَ:
نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَأَرَادَ
بِقَوْلِهِ: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ
بَنِي أَخِيهِ مِنَ الْإِسْلَامِ. (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ
الشَّدِيدِ) تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ. (قالَ قَرِينُهُ
رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ) يَعْنِي الشَّيْطَانَ الَّذِي
قُيِّضَ لِهَذَا الْكَافِرِ الْعَنِيدِ تَبَرَّأَ مِنْهُ
وَكَذَّبَهُ. (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عَنِ الْحَقِّ
وَكَانَ طَاغِيًا بِاخْتِيَارِهِ وَإِنَّمَا دَعَوْتُهُ
فَاسْتَجَابَ لِي. وَقَرِينُهُ هُنَا هُوَ شَيْطَانُهُ
بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ. حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَحَكَى
الثَّعْلَبِيُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: قَرِينُهُ
الْمَلَكُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ
يَقُولُ لِلْمَلَكِ الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ سَيِّئَاتِهِ:
رَبِّ إِنَّهُ أَعْجَلَنِي، فَيَقُولُ الْمَلَكُ: رَبَّنَا مَا
أَطْغَيْتُهُ أَيْ مَا أَعْجَلْتُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: يَقُولُ الْكَافِرُ رَبِّ إِنَّهُ زَادَ عَلَيَّ فِي
الْكِتَابَةِ، فَيَقُولُ الْمَلَكُ: رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ
أَيْ مَا زِدْتُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابَةِ، فَحِينَئِذٍ
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) يَعْنِي
الْكَافِرِينَ وَقُرَنَاءَهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ. قَالَ
الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَرِينَ
الشَّيْطَانُ. (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)
أَيْ أَرْسَلْتُ الرُّسُلَ. وَقِيلَ: هَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ
مَنِ اخْتَصَمَ. وَقِيلَ: هُوَ لِلِاثْنَيْنِ وَجَاءَ بِلَفْظِ
الْجَمْعِ. (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) قِيلَ هُوَ
قَوْلِهِ: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) «1»
وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُ: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) «2». وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
مَا يُكْذَبُ عِنْدِي أَيْ مَا يُزَادُ فِي الْقَوْلِ وَلَا
يُنْقَصُ لِعِلْمِي بِالْغَيْبِ. (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ) أَيْ مَا أَنَا بِمُعَذِّبٍ مَنْ لَمْ يُجْرِمْ،
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي مَعْنَاهُ
في (الحج) «3» وغيرها.
__________
(1). راجع ج 7 ص 150.
(2). راجع ج 14 ص 96.
(3). راجع ج 12 ص 16 وج 15 ص 370.
(17/17)
يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ
(30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
(31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ
خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ
مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
[سورة ق (50): الآيات 30 الى 35]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ
مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ
حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ
بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ (34)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ
امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قَرَأَ نَافِعٌ
وَأَبُو بَكْرٍ (يَوْمَ يَقُولُ) بِالْيَاءِ اعْتِبَارًا
بِقَوْلِهِ: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ). الْبَاقُونَ
بِالنُّونِ عَلَى الْخِطَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ
نُونُ الْعَظَمَةِ «1». وَقَرَأَ الْحَسَنُ (يَوْمَ أَقُولُ).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ (يَوْمَ يُقَالُ).
وَانْتَصَبَ (يَوْمَ) عَلَى مَعْنَى مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ
لَدَيَّ يَوْمَ. وَقِيلَ: بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مَعْنَاهُ:
وَأَنْذِرْهُمْ (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ)
لِمَا سَبَقَ مِنْ وَعْدِهِ إِيَّاهَا أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا.
وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّصْدِيقِ
لِخَبَرِهِ، وَالتَّحْقِيقِ لِوَعْدِهِ، وَالتَّقْرِيعِ
لِأَعْدَائِهِ، وَالتَّنْبِيهِ لِجَمِيعِ عِبَادِهِ.
(وَتَقُولُ) جَهَنَّمُ (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أَيْ مَا بَقِيَ
فِيَّ مَوْضِعٌ لِلزِّيَادَةِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ أَوْ
مَنْزِلٍ) أَيْ مَا تَرَكَ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ الْجَحْدُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى
الِاسْتِزَادَةِ، أَيْ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ فَأَزْدَادُ؟.
وَإِنَّمَا صَلَحَ هَذَا لِلْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ فِي
الِاسْتِفْهَامِ ضَرْبًا مِنَ الْجَحْدِ. وَقِيلَ: لَيْسَ
ثَمَّ قَوْلٌ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمِثْلِ، أَيْ
إِنَّهَا فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهَا بِمَنْزِلَةِ
النَّاطِقَةِ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي ... مَهْلًا رُوَيْدًا
قَدْ مَلَأْتَ بَطْنِي
وَهَذَا تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. أَيْ هَلْ فِيَّ مِنْ
مَسْلَكٍ قَدِ امْتَلَأْتُ. وَقِيلَ: يُنْطِقُ اللَّهُ
النَّارَ حَتَّى تَقُولَ هَذَا كَمَا تَنْطِقُ الْجَوَارِحُ.
وَهَذَا أَصَحُّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ
(الْفُرْقَانِ) «2». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ
وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
__________
(1). فِي ن، هـ: (التعظيم).
(2). راجع ج 13 ص 10.
(17/18)
(لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا
وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ
فِيهَا قَدَمَهُ فَيَنْزَوِي «1» بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ
وَتَقُولُ قَطْ قَطْ بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ وَلَا يَزَالُ فِي
الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا
فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ) لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (وَأَمَّا
النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا
رِجْلَهُ يَقُولُ لَهَا قَطْ قَطْ فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ
وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ
مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ
يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا (. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ
اللَّهُ: أَمَّا مَعْنَى الْقَدَمِ هُنَا فَهُمْ قَوْمٌ
يُقَدِّمُهُمُ اللَّهُ إِلَى النَّارِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي
عِلْمِهِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَكَذَلِكَ
الرِّجْلُ وَهُوَ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ
وَغَيْرِهِمْ، يُقَالُ: رَأَيْتُ رِجْلًا مِنَ النَّاسِ
وَرِجْلًا مِنْ جَرَادٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَرَّ بِنَا رِجْلٌ مِنَ النَّاسِ وَانْزَوَى ... إِلَيْهِمْ
مِنَ الْحَيِّ الْيَمَانِينَ أَرْجُلُ
قَبَائِلُ مِنْ لَخْمٍ وَعُكْلٍ وَحِمْيَرٍ ... عَلَى ابْنَيْ
نِزَارٍ بِالْعَدَاوَةِ أَحْفَلُ
وَيُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّهُ قَالَ: مَا فِي النَّارِ بَيْتٌ وَلَا سِلْسِلَةٌ
وَلَا مِقْمَعٌ وَلَا تَابُوتٌ إِلَّا وَعَلَيْهِ اسْمُ
صَاحِبِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَزَنَةِ يَنْتَظِرُ
صَاحِبَهُ الَّذِي قَدْ عَرَفَ اسْمَهُ وَصِفَتَهُ، فَإِذَا
اسْتَوْفَى [كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ «2»] مَا أُمِرَ بِهِ
وَمَا يَنْتَظِرُهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَالَ
الْخَزَنَةُ: قَطْ قَطْ حَسْبُنَا حَسْبُنَا أَيِ اكْتَفَيْنَا
اكْتَفَيْنَا، وَحِينَئِذٍ تَنْزَوِي جَهَنَّمُ عَلَى مَنْ
فِيهَا وَتَنْطَبِقُ إِذْ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَنْتَظِرُ.
فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْجَمْعِ الْمُنْتَظِرِ بِالرِّجْلِ
وَالْقَدَمِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ فِي
نَفْسِ الْحَدِيثِ: (وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ
حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ
الْجَنَّةِ) وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا
وَمَهَّدْنَاهُ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنَ
الْكِتَابِ الْأَسْنَى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ النَّضْرُ
بْنُ شُمَيْلٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ) أَيْ مَنْ سَبَقَ
فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ
بَعِيدٍ) أي فربت مِنْهُمْ. وَقِيلَ: هَذَا قَبْلَ الدُّخُولِ
فِي الدُّنْيَا، أَيْ قُرِّبَتْ مِنْ قُلُوبِهِمْ حِينَ قِيلَ
لَهُمُ اجتنبوا المعاصي. وقيل: بعد الدخول
__________
(1). ينزوي بعضها إلى بعض: أي تنقبض على من فيها، وتشتغل
بعذابهم، وتكف عن سؤال هل من مزيد. (هامش مسلم).
(2). الزيادة من ن. [ ..... ]
(17/19)
قُرِّبَتْ لَهُمْ مَوَاضِعُهُمْ فِيهَا
فَلَا تَبْعُدُ. (غَيْرَ بَعِيدٍ) أَيْ مِنْهُمْ وَهَذَا
تَأْكِيدٌ. (هَذَا مَا تُوعَدُونَ) أَيْ وَيُقَالُ لَهُمْ
هَذَا الْجَزَاءُ الَّذِي وُعِدْتُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى
أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (تُوعَدُونَ)
بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ
بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ أَتَى بَعْدَ ذِكْرِ
الْمُتَّقِينَ. (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) أَوَّابٍ أَيْ
رَجَّاعٌ إِلَى اللَّهِ عَنِ الْمَعَاصِي، ثُمَّ يَرْجِعُ
يُذْنِبُ ثُمَّ يَرْجِعُ، هَكَذَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ
وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: الْأَوَّابُ
الْمُسَبِّحُ مِنْ قَوْلِهِ: (يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ)
«1». وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: هُوَ الذَّاكِرُ
لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْخَلْوَةِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ
وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ فِي الْخَلْوَةِ
فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
مَسْعُودٍ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: هُوَ الَّذِي لَا
يَجْلِسُ مَجْلِسًا حَتَّى يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ تَعَالَى
فِيهِ. وَعَنْهُ قَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ الْأَوَّابَ
الْحَفِيظَ الَّذِي إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ قَالَ
سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي
أَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا أَصَبْتُ فِي مَجْلِسِي هَذَا. وَفِي
الْحَدِيثِ: (مَنْ قَالَ إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا
كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ (. وَهَكَذَا كَانَ النَّبِيُّ
صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ. وَقَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقُولَ
أَسْتَغْفِرُكَ وَأَسْأَلُكَ التَّوْبَةَ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ
أَقُولَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلَّا عَلَى حَقِيقَتِهِ. قُلْتُ:
هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَاتِّبَاعُ الْحَدِيثِ أَوْلَى. وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: هُوَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ
فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ: هُوَ
الَّذِي لَا يَشْتَغِلُ إِلَّا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(حَفِيظٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الَّذِي حَفِظَ
ذُنُوبَهُ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ:
حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ ونعمته
وأتمنه عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ
الْحَافِظُ لِأَمْرِ اللَّهِ. مُجَاهِدٌ: هُوَ الْحَافِظُ
لِحَقِ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاعْتِرَافِ وَلِنِعَمِهِ
بِالشُّكْرِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْحَافِظُ لِوَصِيَّةِ
اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَبُولِ. وَرَوَى مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ
مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ كَانَ أَوَّابًا حَفِيظًا) ذَكَرَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ
بِالْغَيْبِ) (مَنْ) فِي مَحَلِّ خَفْضٍ عَلَى البدل من قوله:
(لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) أوفي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ
(أَوَّابٍ). وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الاستئناف، والخبر
__________
(1). راجع ج 14 ص 264
(17/20)
(ادْخُلُوها) عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ
جَوَابِ الشَّرْطِ وَالتَّقْدِيرُ فَيُقَالُ لَهُمُ:
(ادْخُلُوها). وَالْخَشْيَةُ بِالْغَيْبِ أَنْ تَخَافَهُ
وَلَمْ تَرَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي
فِي الْخَلْوَةِ حِينَ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
إِذَا أَرْخَى السِّتْرَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ. (وَجاءَ
بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) مُقْبِلٍ عَلَى الطَّاعَةِ. وَقِيلَ:
مُخْلِصٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: عَلَامَةُ
الْمُنِيبِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا لِحُرْمَتِهِ وَمُوَالِيًا
لَهُ، مُتَوَاضِعًا لِجَلَالِهِ تَارِكًا لِهَوَى نَفْسِهِ.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ الْمُنِيبُ
الْقَلْبَ السَّلِيمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا مَنْ
أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ «1»،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (ادْخُلُوها) أَيْ يُقَالُ لِأَهْلِ
هَذِهِ الصِّفَاتِ: (ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ) أَيْ بِسَلَامَةٍ مِنَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ:
بِسَلَامٍ مِنَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ:
بِسَلَامَةٍ مِنْ زَوَالِ النِّعَمِ. وَقَالَ: (ادْخُلُوها)
وَفِي أَوَّلِ الْكَلَامِ (مَنْ خَشِيَ)، لِأَنَّ (مَنْ)
تَكُونُ بِمَعْنَى الْجَمْعِ. قَوْلُهُ تعالى: (لَهُمْ ما
يَشاؤُنَ فِيها) يَعْنِي مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ
وَتَلَذُّ أَعْيُنُهُمْ. (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) مِنَ النِّعَمِ
مِمَّا لَمْ يَخْطِرْ عَلَى بَالِهِمْ. وَقَالَ أَنَسٌ
وَجَابِرٌ: الْمَزِيدُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ
تَعَالَى بِلَا كَيْفٍ. وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي أَخْبَارٍ
مَرْفُوعَةٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
الْحُسْنى) «2» (وَزِيادَةٌ) قَالَ: الزِّيَادَةُ النَّظَرُ
إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ
وَيَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا الْمَسْعُودِيُّ
عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ
عبد الله ابن عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
تَسَارَعُوا إِلَى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل
الْجَنَّةِ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ
أَبْيَضَ فَيَكُونُونَ مِنْهُ فِي الْقُرْبِ. قَالَ ابن
المبارك: على قدر تسارعهم إلى الجمعة فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: لِمُسَارَعَتِهِمْ إِلَى الْجُمَعِ فِي
الدُّنْيَا، وَزَادَ (فَيُحْدِثُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ
الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ).
قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ غَيْرَ الْمَسْعُودِيِّ يزيد فيه
قوله تعالى: (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ).
__________
(1). راجع ج 13 ص 114.
(2). راجع ج 8 ص 330.
(17/21)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
قُلْتُ: قَوْلُهُ (فِي كَثِيبٍ) يُرِيدُ
أَهْلَ الْجَنَّةِ، أَيْ وَهُمْ عَلَى كُثُبٍ، كَمَا فِي
مُرْسَلِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ
يَنْظُرُونَ رَبَّهُمْ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى
كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي
كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ). وَقِيلَ: إِنَّ الْمَزِيدَ مَا
يُزَوَّجُونَ بِهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، رَوَاهُ أَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَرْفُوعًا.
[سورة ق (50): الآيات 36 الى 38]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ
مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ
(36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ
قَرْنٍ) أَيْ كَمْ أَهْلَكْنَا يَا مُحَمَّدُ قَبْلَ قَوْمِكَ
مِنْ أُمَّةٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَقُوَّةً.
(فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أَيْ سَارُوا فِيهَا طَلَبًا
لِلْمَهْرَبِ. وَقِيلَ: أَثَّرُوا فِي الْبِلَادِ، قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ضَرَبُوا وَطَافُوا.
وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: دَوَّرُوا. وَقَالَ
قَتَادَةُ: طَوَّفُوا. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ تَبَاعَدُوا،
وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ
الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ
ثُمَّ قِيلَ: طَافُوا فِي أَقَاصِي الْبِلَادِ طَلَبًا
لِلتِّجَارَاتِ، وَهَلْ وَجَدُوا مِنَ الْمَوْتِ مَحِيصًا؟.
وَقِيلَ: طَوَّفُوا فِي البلاد يلتمسون محيصا من الموت. قال
الحرث بْنُ حِلِّزَةَ: نَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ مِنْ حَذَرِ
الموت وَجَالُوا فِي الْأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ وَقَرَأَ
الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ (فَنَقَبُوا) بِفَتْحِ
الْقَافِ وَتَخْفِيفِهَا. وَالنَّقْبُ هُوَ الْخَرْقُ
وَالدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ. وَقِيلَ: النَّقْبُ الطَّرِيقُ
فِي الْجَبَلِ، وَكَذَلِكَ الْمَنْقَبُ وَالْمَنْقَبَةُ، عَنِ
ابْنِ السِّكِّيتِ. وَنَقَبَ الْجِدَارَ نَقْبًا، وَاسْمُ
تِلْكَ النَّقْبَةِ نَقْبٌ أَيْضًا، وَجَمْعُ النَّقْبِ
النُّقُوبُ، أَيْ خَرَقُوا الْبِلَادَ وَسَارُوا فِي
نُقُوبِهَا. وَقِيلَ: أَثَّرُوا فِيهَا كَتَأْثِيرِ الْحَدِيدِ
فِيمَا يَنْقُبُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ
(فَنَقِّبُوا) بِكَسْرِ الْقَافِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى
الْأَمْرِ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، أَيْ طُوفُوا
الْبِلَادَ وسيروا
(17/22)
فِيهَا فَانْظُرُوا (هَلْ مِنْ) الْمَوْتِ
(مَحِيصٍ) وَمَهْرَبٌ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَحَكَى
الْقُشَيْرِيُّ (فَنَقِبُوا) بِكَسْرِ الْقَافِ مَعَ
التَّخْفِيفِ، أَيْ أَكْثَرُوا السَّيْرَ فِيهَا حَتَّى
نَقِبَتْ دَوَابُّهُمْ الْجَوْهَرِيُّ: وَنَقِبَ الْبَعِيرُ
بِالْكَسْرِ إِذَا رَقَّتْ أَخْفَافُهُ، وَأَنْقَبَ الرَّجُلُ
إِذَا نَقِبَ بَعِيرُهُ، وَنَقِبَ الْخُفُّ الْمَلْبُوسُ أَيْ
تَخَرَّقَ. وَالْمَحِيصُ مَصْدَرُ حَاصَ عَنْهُ يَحِيصُ
حَيْصًا وَحُيُوصًا وَمَحِيصًا وَمَحَاصًا وَحَيَصَانًا، أَيْ
عَدَلَ وَحَادَ. يُقَالُ: مَا عَنْهُ مَحِيصٌ أَيْ مَحِيدٌ
وَمَهْرَبٌ. وَالِانْحِيَاصُ مِثْلُهُ، يُقَالُ
لِلْأَوْلِيَاءِ: حَاصُوا عَنِ الْعَدُوِّ وَلِلْأَعْدَاءِ
انْهَزَمُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى)
أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَذْكِرَةٌ
وَمَوْعِظَةٌ (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أَيْ عَقْلٌ
يَتَدَبَّرُ بِهِ، فَكَنَّى بِالْقَلْبِ عَنِ الْعَقْلِ
لِأَنَّهُ مَوْضِعُهُ، قَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ.
وَقِيلَ: لِمَنْ كَانَ لَهُ حَيَاةٌ وَنَفْسٌ مُمَيِّزَةٌ،
فَعَبَّرَ عَنِ النَّفْسِ الْحَيَّةِ بِالْقَلْبِ، لِأَنَّهُ
وَطَنُهَا وَمَعْدِنُ حَيَاتِهَا، كَمَا قَالَ امْرُؤُ
الْقَيْسِ:
أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي ... وَأَنَّكِ
مَهْمَا تَأْمُرِي الْقَلْبَ يَفْعَلِ
وَفِي التَّنْزِيلِ: (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) «1».
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْقَلْبُ قَلْبَانِ، قَلْبٌ
مُحْتَشٍ بِأَشْغَالِ الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَمْرٌ
مِنَ الْأُمُورِ الْآخِرَةِ لَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ،
وَقَلْبٌ قَدِ احْتَشَى بِأَهْوَالِ الْآخِرَةِ حَتَّى إِذَا
حَضَرَ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَمْ يَدْرِ مَا
يَصْنَعُ لِذَهَابِ قَلْبِهِ فِي الْآخِرَةِ. (أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ) أَيِ اسْتَمَعَ الْقُرْآنَ. تَقُولُ الْعَرَبُ:
أَلْقِ إِلَيَّ سَمْعَكَ أَيِ اسْتَمِعْ. وَقَدْ مَضَى فِي
(طه) «2» كَيْفِيَّةُ الِاسْتِمَاعِ وَثَمَرَتُهُ. (وَهُوَ
شَهِيدٌ) أَيْ شَاهِدُ الْقَلْبِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ
قَلْبُهُ حَاضِرٌ فِيمَا يَسْمَعُ. وَقَالَ سُفْيَانُ: أَيْ
لَا يَكُونُ حَاضِرًا وَقَلْبُهُ غَائِبٌ. ثُمَّ قِيلَ:
الْآيَةُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهَا فِي الْيَهُودِ والنصارى خاصة.
وقال محمد ابن كَعْبٍ وَأَبُو صَالِحٍ: إِنَّهَا فِي أَهْلِ
الْقُرْآنِ خَاصَّةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) تَقَدَّمَ فِي (الْأَعْرَافِ) «3»
وَغَيْرِهَا. وَاللُّغُوبُ التعب والإعياء، تقول منه: لغب
__________
(1). راجع ج 15 ص (55)
(2). راجع ج 11 ص (176)
(3). راجع ج 7 ص 218
(17/23)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا
يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
يَلْغُبُ بِالضَّمِّ لُغُوبًا، وَلَغِبَ
بِالْكَسْرِ يَلْغَبُ لُغُوبًا لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ فِيهِ.
وَأَلْغَبْتُهُ أَنَا أَيْ أَنْصَبْتُهُ. قَالَ قَتَادَةُ
وَالْكَلْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي يَهُودِ
الْمَدِينَةِ، زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السموات
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، أَوَّلُهَا يَوْمُ
الْأَحَدِ وَآخِرُهَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَاسْتَرَاحَ يَوْمَ
السَّبْتِ، فَجَعَلُوهُ راحة، فأكذبهم الله تعالى في ذلك.
[سورة ق (50): الآيات 39 الى 40]
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ
اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ) خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا
يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ، أَيْ هَوِّنْ أَمْرَهُمْ عَلَيْكَ.
وَنَزَلَتْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ.
وَقِيلَ: هُوَ ثَابِتٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَاصْبِرْ عَلَى
مَا يَقُولُهُ الْيَهُودُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ
اسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) قِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ»
بِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ
صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
مَرْفُوعًا، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ
لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: (أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ
رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي
رُؤْيَتِهِ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى
صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا-
يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ-
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) «2» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ
لِمُسْلِمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَبْلَ الْغُرُوبِ)
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ)
يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءَيْنِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ
تَسْبِيحُهُ بِالْقَوْلِ تَنْزِيهًا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ
وَأَبُو الْأَحْوَصِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي
قَوْلِهِ: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) قَالَ رَكْعَتَيِ
الْفَجْرِ (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ
الْمَغْرِبِ، وَقَالَ ثُمَامَةُ
__________
(1). في ح، هـ ن: (يراد).
(2). راجع ج 11 ص 261.
(17/24)
ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ: كَانَ
ذَوُو الْأَلْبَابِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ
الْمَغْرِبِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ
لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ «1»
فَرَكَعُوا رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ
لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَحْسَبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ
صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا. وَقَالَ
قَتَادَةُ: مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ
إِلَّا أَنَسًا وَأَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) فِيهِ أَرْبَعَةُ
أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- هُوَ تسبيح الله تعالى في الليل، قال
أَبُو الْأَحْوَصِ. الثَّانِي- أَنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ
كُلِّهِ، قال مُجَاهِدٌ. الثَّالِثُ- أَنَّهَا رَكْعَتَا
الْفَجْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الرَّابِعُ- أَنَّهَا
صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَنْ قَالَ إِنَّهُ التَّسْبِيحُ فِي
اللَّيْلِ فَيَعْضُدُهُ الصَّحِيحُ (مَنْ تَعَارَّ) «2» (مِنَ
اللَّيْلِ فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كل
شي قَدِيرٌ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا
قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ (. وَأَمَّا
مَنْ قَالَ إِنَّهَا الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ فَإِنَّ
الصَّلَاةَ تُسَمَّى تَسْبِيحًا لِمَا فِيهَا مِنْ تَسْبِيحِ
اللَّهِ، وَمِنْهُ سُبْحَةُ الضُّحَى. وَأَمَّا مَنْ قَالَ
إِنَّهَا صَلَاةُ الْفَجْرِ أَوِ الْعِشَاءِ فَلِأَنَّهُمَا
مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَالْعِشَاءُ أَوْضَحُهُ.
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَدْبارَ السُّجُودِ)
قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ
عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ
وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ: أَدْبَارَ
السُّجُودِ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَأَدْبَارَ
النُّجُومِ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَرَوَاهُ
الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رَفَعَهُ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ
أَدْبَارُ السُّجُودِ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَلَفْظُ
الْمَاوَرْدِيِّ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ
لَيْلَةً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى
الصلاة فقال: (يا بن عَبَّاسٍ رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ
أَدْبَارُ النُّجُومِ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ
أَدْبَارُ السُّجُودِ). وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النبي صلى الله
__________
(1). ابتدروا السواري: أي سارعوا إليها، والسواري جمع السارية
وهى العمود، أي يقف كل مصل خلف العمود لئلا يقع المرور بين
يديه في صلاته منفردا.
(2). تعار: استيقظ.
(17/25)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ
يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ
(42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ
(43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ
حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ
كُتِبَتْ صَلَاتُهُ فِي عِلِّيِّينَ). قَالَ أَنَسٌ فَقَرَأَ
فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ)
وَفِي الثَّانِيَةِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) قَالَ
مُقَاتِلٌ: وَوَقْتُهَا مَا لَمْ يَغْرُبِ الشَّفَقُ
الْأَحْمَرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ الْوَتْرُ.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ النَّوَافِلُ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ،
رَكْعَتَانِ بَعْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، قَالَ
النَّحَّاسُ: وَالظَّاهِرُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا إِلَّا أَنَّ
الْأَوْلَى اتِّبَاعُ الْأَكْثَرِ وَهُوَ صَحِيحٌ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه. وَقَالَ أَبُو
الْأَحْوَصِ: هُوَ التَّسْبِيحُ فِي أَدْبَارِ السُّجُودِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ الْأَقْوَى فِي النَّظَرِ.
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ
الْمَكْتُوبَةِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كل
شي قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا
مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ
الْجَدُّ «1» (وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالْفَرَائِضِ
فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا خَمْسُ صَلَوَاتٍ، نَقَلَ
ذَلِكَ الْجَمَاعَةُ. الْخَامِسَةُ- قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ
كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ (وَإِدْبَارَ السُّجُودِ) بِكَسْرِ
الْهَمْزَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ أَدْبَرَ الشَّيْءُ
إِدْبَارًا إِذَا وَلَّى. الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا جَمْعُ
دُبُرٍ. وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ،
وَمِثَالُهَا طُنُبٌ وَأَطْنَابٌ، أَوْ دُبْرٌ كَقُفْلٍ
وَأَقْفَالٍ. وَقَدِ اسْتَعْمَلُوهُ ظَرْفًا نَحْوَ جِئْتُكَ
فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ. وَلَا
خِلَافَ فِي آخِرِ (وَالطُّورِ). (وَإِدْبَارَ النُّجُومِ)
أَنَّهُ بِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ، وَهُوَ ذَهَابُ ضَوْئِهَا إِذَا
طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُنْشَقُّ
مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ.
[سورة ق (50): الآيات 41 الى 45]
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا
الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً
ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
__________
(1). (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي لا ينفع ذا الغنى منك غنا
(هـ وانما ينفعه الايمان والطاعة.) النهاية لاين الأثير (.)
(17/26)
قوله تعالى: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ
الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) مَفْعُولُ الِاسْتِمَاعِ
مَحْذُوفٌ، أَيِ اسْتَمِعِ النِّدَاءَ وَالصَّوْتَ أَوِ
الصَّيْحَةَ وَهِيَ صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ النَّفْخَةُ
الثَّانِيَةُ، وَالْمُنَادِي جِبْرِيلُ. وَقِيلَ:
إِسْرَافِيلُ. الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ إِسْرَافِيلُ
يَنْفُخُ وَجِبْرِيلُ يُنَادِي، فَيُنَادِي بِالْحَشْرِ
وَيَقُولُ: هَلُمُّوا إِلَى الْحِسَابِ فَالنِّدَاءُ عَلَى
هَذَا فِي الْمَحْشَرِ. وَقِيلَ: وَاسْتَمِعْ نِدَاءَ
الْكُفَّارِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ،
أَيْ يَسْمَعُ الْجَمِيعُ فَلَا يَبْعُدُ أَحَدٌ عَنْ ذَلِكَ
النِّدَاءِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: يُنَادِي مُنَادِي الرَّحْمَنِ
فَكَأَنَّمَا يُنَادِي فِي آذَانِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَكَانُ
الْقَرِيبُ صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَيُقَالُ: إِنَّهَا
وَسَطُ الْأَرْضِ وَأَقْرَبُ الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ
بِاثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا. وَقَالَ كَعْبٌ: بِثَمَانِيَةَ
عَشَرَ مِيلًا، ذَكَرَ الْأَوَّلَ الْقُشَيْرِيُّ
وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَالثَّانِي الْمَاوَرْدِيُّ. فَيَقِفُ
جِبْرِيلُ أَوْ إِسْرَافِيلُ عَلَى الصَّخْرَةِ فَيُنَادِي
بِالْحَشْرِ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ، والأوصال
المقتطعة، وَيَا عِظَامًا نَخِرَةً، وَيَا أَكْفَانًا
فَانِيَةً، وَيَا قُلُوبًا خَاوِيَةً، وَيَا أَبْدَانًا
فَاسِدَةً، وَيَا عُيُونًا سَائِلَةً، قُومُوا لِعَرْضِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ إِسْرَافِيلُ صَاحِبُ
الصُّورِ. (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ)
يَعْنِي صَيْحَةَ الْبَعْثِ. وَمَعْنَى (الْخُرُوجِ)
الِاجْتِمَاعُ إِلَى الْحِسَابِ. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ)
أَيْ يَوْمُ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ. (إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ) نُمِيتُ الْأَحْيَاءَ وَنُحْيِي
الْمَوْتَى، أَثْبَتَ هُنَا الْحَقِيقَةَ (يَوْمَ تَشَقَّقُ
الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) إِلَى الْمُنَادِي صَاحِبِ
الصُّورِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا
يَسِيرٌ) أَيْ هَيِّنٌ سَهْلٌ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ
(تَشَقَّقُ) بِتَخْفِيفِ الشِّينِ عَلَى حَذْفِ التَّاءِ
الْأُولَى. الْبَاقُونَ بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الشِّينِ.
وَأَثْبَتَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ
يَاءَ (الْمُنَادِي) فِي الْحَالَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ،
وَأَثْبَتَهَا نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو فِي الْوَصْلِ لَا
غَيْرَ، وَحَذَفَ الْبَاقُونَ فِي الْحَالَيْنِ. قُلْتُ:
وَقَدْ زَادَتِ السُّنَّةُ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانًا، فَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ
ذَكَرَهُ، قَالَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ فَقَالَ:
(مِنْ ها هنا إلى ها هنا تُحْشَرُونَ رُكْبَانًا وَمُشَاةً
وَتُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى
أَفْوَاهِكُمُ الْفِدَامُ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ
خَيْرُهُمْ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّ أَوَّلَ مَا
يُعْرِبُ عَنْ أَحَدِكُمْ فَخِذُهُ) فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى
(فَخِذُهُ وَكَفُّهُ) وَخَرَّجَ عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ:
(17/27)
ثُمَّ يَقُولُ- يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى-
لِإِسْرَافِيلَ: (انْفُخْ نَفْخَةَ الْبَعْثِ فَيَنْفُخُ
فَتَخْرُجُ الْأَرْوَاحُ كَأَمْثَالِ النَّحْلِ قَدْ مَلَأَتْ
مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَيَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ
إِلَى جَسَدِهِ فَتَدْخُلُ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَرْضِ إِلَى
الْأَجْسَادِ ثُمَّ تَدْخُلُ فِي الْخَيَاشِيمِ فَتَمْشِي فِي
الْأَجْسَادِ مَشْيَ السُّمِّ فِي اللَّدِيغِ ثُمَّ تَنْشَقُّ
الْأَرْضُ عَنْكُمْ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ
الْأَرْضُ فَتَخْرُجُونَ مِنْهَا شَبَابًا كُلُّكُمْ أَبْنَاءَ
ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَاللِّسَانُ يَوْمَئِذٍ
بِالسُّرْيَانِيَّةِ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
جَمِيعَ هَذَا وَغَيْرَهُ فِي (التَّذْكِرَةِ) مُسْتَوْفًى
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَحْنُ أَعْلَمُ
بِما يَقُولُونَ) أَيْ مِنْ تَكْذِيبِكَ وَشَتْمِكَ. (وَما
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أَيْ بِمُسَلَّطٍ تُجْبِرُهُمْ
عَلَى الْإِسْلَامِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً
بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. وَالْجَبَّارُ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ
وَالتَّسَلُّطِ إِذْ لَا يُقَالُ جَبَّارٌ بِمَعْنَى مُجْبِرٍ،
كَمَا لَا يُقَالُ خَرَّاجٌ بِمَعْنَى مُخْرِجٍ، حَكَاهُ
الْقُشَيْرِيُّ. النَّحَّاسُ: وَقِيلَ مَعْنَى جَبَّارٍ لَسْتَ
تُجْبِرُهُمْ، وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فَعَّالٌ
مِنْ أَفَعَلَ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ: وَقَالَ ثَعْلَبٌ قَدْ
جَاءَتْ أَحْرُفُ فَعَّالٍ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ وَهِيَ
شَاذَّةٌ، جَبَّارٌ بِمَعْنَى مُجْبِرٍ، وَدَرَّاكٌ بِمَعْنَى
مُدْرِكٍ، وَسَرَّاعٌ بِمَعْنَى مُسْرِعٍ، وَبَكَّاءٌ
بِمَعْنَى مُبْكٍ، وَعَدَّاءٌ بمعنى معد. وقد قرئ (وما أهداكم
إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَّادِ) «1» بِتَشْدِيدِ الشِّينِ
بِمَعْنَى الْمُرْشِدِ وَهُوَ مُوسَى. وَقِيلَ: هُوَ اللَّهُ.
وَكَذَلِكَ قُرِئَ (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ
لِمَسَّاكِينَ) «2» يَعْنِي مُمْسِكِينَ. وَقَالَ أَبُو
حَامِدٍ الْخَارْزَنْجِيُّ «3»: تَقُولُ الْعَرَبُ: سَيْفٌ
سَقَّاطٌ بِمَعْنَى مُسْقِطٍ. وَقِيلَ: (بِجَبَّارٍ)
بِمُسَيْطِرٍ كَمَا فِي الْغَاشِيَةِ «4» (لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ). وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ مِنَ الْعَرَبِ
مَنْ يَقُولُ جَبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ أَيْ قَهَرَهُ،
فَالْجَبَّارُ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْقَهْرِ
صَحِيحٌ. قِيلَ: الْجَبَّارُ مِنْ قَوْلِهِمْ جَبَرْتُهُ عَلَى
الْأَمْرِ أَيْ أَجْبَرْتُهُ وَهِيَ لُغَةٌ كِنَانِيَّةٌ
وَهُمَا لُغَتَانِ. الْجَوْهَرِيُّ: وَأَجْبَرْتُهُ عَلَى
الْأَمْرِ أَكْرَهْتُهُ عَلَيْهِ، وَأَجْبَرْتُهُ أَيْضًا
نَسَبْتُهُ إِلَى [الْجَبْرِ، كَمَا تَقُولُ أَكْفَرْتُهُ
إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى الْكُفْرِ «5»]. (فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ خَوَّفْتَنَا فَنَزَلَتْ:
(فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أَيْ مَا
أَعْدَدْتُهُ لِمَنْ عَصَانِي مِنَ الْعَذَابِ، فَالْوَعِيدُ
الْعَذَابُ والوعد الثواب، قال الشاعر:
__________
(1). راجع ج 15 ص 310.
(2). راجع ج 11 ص 34.
(3). الخارزنجى: نسبة إلى خارزنج قرية بنواحي نيسابور. [ .....
]
(4). راجع ج 20 ص 37.
(5). الزيادة من الصحاح الجوهري.
(17/28)
وَالذَّارِيَاتِ
ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ
يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا
تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ
وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ
يَخَافُ وَعِيدَكَ وَيَرْجُو مَوْعِدَكَ. وَأَثْبَتَ الْيَاءَ
فِي (وَعِيدِي) يَعْقُوبُ فِي الْحَالَيْنِ، وَأَثْبَتَهَا
وَرْشٌ فِي الْوَصْلِ دُونَ الْوَقْفِ، وَحَذَفَ الْبَاقُونَ
فِي الْحَالَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. تَمَّ تَفْسِيرُ
سُورَةِ (ق) والحمد لله.
[تفسير سورة والذاريات]
سُورَةُ وَالذَّارِيَاتِ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ،
وَهِيَ سِتُّونَ آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الذاريات (51): الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2)
فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ
(6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) قَالَ أَبُو
بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
نَاجِيَةَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا
الْجُعَيْدُ بْنُ عبد الرحمن، عن يزيد ابن خُصَيْفَةَ، عَنِ
السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي مَرَرْتُ بِرَجُلٍ يَسْأَلُ عَنْ
تَفْسِيرِ مُشْكَلِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ عمر: اللهم أمكني منه،
فداخل الرجل على عمر يوما وهو لا بس ثِيَابًا وَعِمَامَةً
وَعُمَرُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ إِلَيْهِ
الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا
(الذَّارِياتِ ذَرْواً) فَقَامَ عُمَرُ فَحَسِرَ عَنْ
ذِرَاعَيْهِ وَجَعَلَ يَجْلِدُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلْبِسُوهُ
ثِيَابَهُ وَاحْمِلُوهُ عَلَى قَتَبٍ وَأَبْلِغُوا بِهِ
حَيَّهُ، ثُمَّ لْيَقُمْ خَطِيبًا فَلْيَقُلْ: إِنَّ صَبِيغًا
«1» طَلَبَ الْعِلْمَ فَأَخْطَأَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَضِيعًا
فِي قَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ سَيِّدًا فِيهِمْ. وَعَنْ
عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَ
عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ مَا (الذَّارِياتِ ذَرْواً) [قَالَ]: وَيْلَكَ
سَلْ تَفَقُّهًا وَلَا تَسْأَلْ تَعَنُّتًا (وَالذَّارِياتِ
ذَرْواً) الرِّيَاحُ (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) السَّحَابُ
(فَالْجارِياتِ يُسْراً) السُّفُنُ (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً)
الْمَلَائِكَةُ. وَرَوَى الحرث عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً)
__________
(1). هو صبيغ- كأمير- بن عسل- بكسر العين- كان يعنت الناس
بالغوامض والسؤالات من متشابه القرآن فنفاه عمر إلى البصرة بعد
ضربه، وكتب إلى واليها الا يؤويه، ونهى عن مجالسته (التاج).
(17/29)
قَالَ: الرِّيَاحُ (فَالْحامِلاتِ وِقْراً)
قَالَ: السَّحَابُ تَحْمِلُ الْمَاءَ كَمَا تَحْمِلُ ذَوَاتُ
الْأَرْبَعِ الْوِقْرَ (فَالْجارِياتِ يُسْراً) قَالَ:
السُّفُنُ مُوقَرَةٌ (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) قَالَ:
الْمَلَائِكَةُ تَأْتِي بِأَمْرٍ مُخْتَلِفٍ، جِبْرِيلُ
بِالْغِلْظَةِ، وَمِيكَائِيلُ صَاحِبُ الرَّحْمَةِ، وَمَلَكُ
الْمَوْتِ يَأْتِي بِالْمَوْتِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَقِيلَ
تَأْتِي بِأَمْرٍ مُخْتَلِفٍ مِنَ الْخِصْبِ وَالْجَدْبِ
وَالْمَطَرِ وَالْمَوْتِ وَالْحَوَادِثِ «1». وَيُقَالُ:
ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ تَذْرُوهُ ذَرْوًا وَتَذْرِيهِ
ذَرْيًا. ثُمَّ قِيلَ: (وَالذَّارِياتِ) وَمَا بَعْدَهُ
أَقْسَامٌ، وَإِذَا أَقْسَمَ الرَّبُّ بِشَيْءٍ أَثْبَتَ لَهُ
شَرَفًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَرَبِّ الذَّارِيَاتِ،
وَالْجَوَابُ (إِنَّما تُوعَدُونَ) أَيِ الَّذِي تُوعَدُونَهُ
من الخير والشر والثواب والعقاب (لَصادِقٌ) لأكذب فِيهِ،
وَمَعْنَى (لَصادِقٌ) لَصِدْقٌ، وَقَعَ الِاسْمُ مَوْقِعَ
الْمَصْدَرِ. (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) يَعْنِي الْجَزَاءُ
نَازِلٌ «2» بكم. ثم ابتدا أقسما آخَرَ فَقَالَ: (وَالسَّماءِ
ذاتِ الْحُبُكِ. إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) وقيل: إن
الذاريات النساء الولدات لِأَنَّ فِي ذِرَايَتِهِنَّ ذَرْوُ
الْخَلْقِ، لِأَنَّهُنَّ يَذْرِينَ الْأَوْلَادَ فَصِرْنَ
ذَارِيَاتٍ، وَأَقْسَمَ بِهِنَّ لِمَا فِي تَرَائِبِهِنَّ مِنْ
خِيرَةِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. وَخَصَّ النِّسَاءَ بِذَلِكَ
دُونَ الرِّجَالِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
ذَارِيًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُنَّ أَوْعِيَةٌ
دُونَ الرِّجَالِ، فَلِاجْتِمَاعِ الذَّرْوَيْنِ فِيهِنَّ
خُصِصْنَ بِالذِّكْرِ. الثَّانِي- أَنَّ الذَّرْوَ فِيهِنَّ
أَطْوَلُ زَمَانًا، وَهُنَّ بِالْمُبَاشَرَةِ أَقْرَبُ
عَهْدًا. (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) السَّحَابُ. وَقِيلَ:
الْحَامِلَاتُ من النساء إذا ثقلن بالحمل. والوقر بِكَسْرِ
الْوَاوِ ثِقْلُ الْحِمْلِ عَلَى ظَهْرٍ أَوْ فِي بَطْنٍ،
يُقَالُ: جَاءَ يَحْمِلُ وِقْرَهُ وَقَدْ أَوْقَرَ بَعِيرَهُ.
وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الْوِقْرُ فِي حَمْلِ الْبَغْلِ
وَالْحِمَارِ، وَالْوَسْقُ فِي حِمْلِ الْبَعِيرِ. وَهَذِهِ
امْرَأَةٌ مُوقَرَةٌ بِفَتْحِ الْقَافِ إِذَا حَمَلَتْ حَمْلًا
ثَقِيلًا. وَأَوْقَرَتِ النَّخْلَةُ كَثُرَ حَمْلُهَا،
يُقَالُ: نَخْلَةٌ مُوقِرَةٌ وَمُوقِرٌ وَمُوقَرَةٌ، وَحُكِيَ
مُوقَرٌ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ
لِلنَّخْلَةِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: مُوقِرٌ بِكَسْرِ الْقَافِ
عَلَى [قِيَاسِ «3»] قَوْلِكَ امْرَأَةٌ حَامِلٌ، لِأَنَّ
حَمْلَ الشَّجَرِ مُشَبَّهٌ بِحَمْلِ النِّسَاءِ، فَأَمَّا
مُوقَرٌ بِالْفَتْحِ فَشَاذٌّ، وَقَدْ رُوِيَ فِي قَوْلِ
لَبِيَدٍ يَصِفُ نَخِيلًا:
عَصَبٌ كَوَارِعُ فِي خَلِيجٍ مُحَلِّمٍ ... حَمَلَتْ
فَمِنْهَا مُوقَرٌ مَكْمُومُ
__________
(1). في ل، ن: (الخوارق).
(2). في ز، ل، ن: (النازل).
(3). الزيادة من كتب اللغة.
(17/30)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ
عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ
هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ
الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ (14)
وَالْجَمْعُ مَوَاقِرُ. فَأَمَّا الْوَقْرُ
بِالْفَتْحِ فَهُوَ ثِقَلُ الْأُذُنِ، وَقَدْ وَقِرَتْ
أُذُنُهُ تَوْقَرُ وَقْرًا أَيْ صَمَّتْ، وَقِيَاسُ مَصْدَرِهِ
التَّحْرِيكُ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ بِالتَّسْكِينِ وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي (الْأَنْعَامِ «1» الْقَوْلُ فِيهِ.)
فَالْجارِياتِ يُسْراً) السُّفُنُ تَجْرِي بِالرِّيَاحِ
يُسْرًا إِلَى حَيْثُ سُيِّرَتْ. وَقِيلَ: السَّحَابُ، وَفِي
جَرْيِهَا يُسْرًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا- إِلَى حَيْثُ يُسَيِّرُهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ
الْبِلَادِ وَالْبِقَاعِ. الثَّانِي- هُوَ سُهُولَةُ
تَسْيِيرِهَا، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، كَمَا
قَالَ الْأَعْشَى:
كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... مَشْيَ
السَّحَابَةِ لَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ
[سورة الذاريات (51): الآيات 7 الى 14]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11)
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) قِيلَ:
المراد بالسماء ها هنا السُّحُبُ الَّتِي تُظِلُّ الْأَرْضَ.
وَقِيلَ: السَّمَاءُ الْمَرْفُوعَةُ. ابْنُ عُمَرَ: هِيَ
السَّمَاءُ السَّابِعَةُ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ
وَالثَّعْلَبِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَفِي
(الْحُبُكِ) أَقْوَالٌ سَبْعَةٌ: الْأَوَّلُ- قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ: ذَاتُ
الْخَلْقِ الْحَسَنِ الْمُسْتَوِي. وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ،
قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى النَّسَّاجِ إِذَا نَسَجَ الثَّوْبَ
فَأَجَادَ نَسْجَهُ، يُقَالُ مِنْهُ حَبَكَ الثَّوْبَ
يَحْبِكُهُ بِالْكَسْرِ حَبْكًا أَيْ أَجَادَ نَسْجَهُ. قَالَ
ابْنُ الاعرابي: كل شي أَحْكَمْتَهُ وَأَحْسَنْتَ عَمَلَهُ
فَقَدِ احْتَبَكْتَهُ. وَالثَّانِي- ذَاتُ الزِّينَةِ، قَالَهُ
الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا:
ذَاتُ النُّجُومِ وَهُوَ الثَّالِثُ. الرَّابِعُ- قَالَ
الضَّحَّاكُ: ذَاتُ الطَّرَائِقِ، يُقَالُ لِمَا تَرَاهُ فِي
الْمَاءِ وَالرَّمْلِ إِذَا أَصَابَتْهُ الرِّيحُ حُبُكٌ.
وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ: الْحُبُكُ تَكَسُّرُ
كُلِّ شي كَالرَّمْلِ إِذَا مَرَّتْ بِهِ الرِّيحُ
السَّاكِنَةُ، وَالْمَاءِ القائم
__________
(1). راجع ج 6 ص 404.
(17/31)
إِذَا مَرَّتْ بِهِ الرِّيحُ، وَدِرْعُ
الْحَدِيدِ لَهَا حُبُكٌ، وَالشَّعْرَةُ الْجَعْدَةُ
تَكَسُّرُهَا حُبُكٌ. وَفِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ: أَنَّ
شَعْرَهُ حُبُكٌ. قَالَ زُهَيْرٌ:
مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... رِيحٌ خَرِيقٌ
لِضَاحِي مَائِهِ حُبُكُ «1»
وَلَكِنَّهَا تَبْعُدُ مِنَ الْعِبَادِ فَلَا يَرَوْنَهَا.
الْخَامِسُ- ذَاتُ الشِّدَّةِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَقَرَأَ
(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) «2». وَالْمَحْبُوكُ
الشَّدِيدُ الْخَلْقِ مِنَ الْفَرَسِ وَغَيْرِهِ، قَالَ
امْرُؤُ الْقَيْسِ:
قَدْ غدا يحملني في أنفه ... لا حق الْإِطْلَيْنِ «3»
مَحْبُوكٌ مُمَرْ
وَقَالَ آخَرُ:
مَرِجَ الدِّينُ فَأَعْدَدْتُ لَهُ ... مُشْرِفَ الْحَارِكِ
مَحْبُوكَ الْكَتَدْ «4»
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
كَانَتْ تَحْتَبِكُ تَحْتَ الدِّرْعِ فِي الصَّلَاةِ، أَيْ
تَشُدُّ الْإِزَارَ وَتُحْكِمُهُ. السَّادِسُ- ذَاتُ
الصَّفَاقَةِ، قَالَهُ خُصَيْفٌ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ صَفِيقٌ
وَوَجْهٌ صَفِيقٌ بَيِّنُ الصَّفَاقَةِ. السَّابِعُ: أَنَّ
الْمُرَادَ بِالطُّرُقِ الْمَجَرَّةُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ،
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كَأَثَرِ الْمَجَرِّ. وَ
(الْحُبُكِ) جَمْعُ حِبَاكٍ، قَالَ الرَّاجِزُ:
كَأَنَّمَا جَلَّلَهَا الْحُوَّاكُ ... طِنْفِسَةٌ فِي
وَشْيِهَا حِبَاكُ
وَالْحِبَاكُ وَالْحَبِيكَةُ الطَّرِيقَةُ فِي الرَّمْلِ
وَنَحْوِهُ. وَجَمْعُ الْحِبَاكِ حُبُكٌ وَجَمْعُ الْحَبِيكَةِ
حَبَائِكُ، وَالْحَبَكَةُ مِثْلُ الْعَبَكَةِ وَهِيَ
الْحَبَّةُ مِنَ السَّوِيقِ، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ. وَرُوِيَ
عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: (ذاتِ الْحُبُكِ) (الْحُبْكِ) وَ
(الحبك) و (الحبك) والحبك والحبك [وَقَرَأَ أَيْضًا
(الْحُبُكِ)] كَالْجَمَاعَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ
وَأَبِي مِجْلَزٍ (الْحُبُكِ). وَ (الْحُبُكِ) وَاحِدَتُهَا
حَبِيكَةٌ، (والحبك) مُخَفَّفٌ مِنْهُ. وَ (الْحِبَكُ)
وَاحِدَتُهَا حِبْكَةٌ. وَمَنْ قَرَأَ (الْحُبَكِ)
فَالْوَاحِدَةُ حُبْكَةٌ كَبُرْقَةٍ وَبُرَقٍ أَوْ حُبُكَةٍ
كَظُلُمَةٍ وَظُلَمٍ. وَمَنْ قَرَأَ (الْحِبِكُ) فَهُوَ كإبل
وإطل «5» و (الحبك) مخففة منه.
__________
(1). النجم: كل شي من النبات ليس له ساق ينبت حول الماء كالا
كليل. ريح خريق: شديدة. لضاحى مائه: ما ضحا للشمس من الماء أي
برز. والبيت في وصف غدير.
(2). راجع ج 19 ص 3 (169)
(3). الاطل: الخاصرة كلها. وقيل: غير ذلك.
(4). البيت لابي دواد يصف فرسا. والكتد- بفتح التاء وكسرها-:
مجتمع الكتفين من الإنسان والفرس.
(5). الاطل: الخاصرة كلها. وقيل: غير ذلك.
(17/32)
وَمَنْ قَرَأَ (الْحِبُكِ) فَهُوَ شَاذٌّ
إِذْ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِعُلٌ، وَهُوَ مَحْمُولٌ
عَلَى تَدَاخُلِ اللُّغَاتِ، كَأَنَّهُ كَسَرَ الْحَاءَ
لِيَكْسِرَ الْبَاءَ ثُمَّ تَصَوَّرَ (الْحُبُكِ) فَضَمَّ
الْبَاءَ. وَقَالَ جَمِيعُهُ الْمَهْدَوِيُّ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) هَذَا جَوَابُ
الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ (وَالسَّماءِ) أَيْ إنكم يا أهل مكة
(لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) فِي مُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ فَمِنْ
مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي
الْمُقْتَسِمِينَ. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ قَوْلُهُمْ سَاحِرٌ
بَلْ شَاعِرٌ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ مَجْنُونٌ بَلْ هُوَ
كَاهِنٌ بَلْ هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَقِيلَ:
اخْتِلَافُهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ نَفَى الْحَشْرَ
وَمِنْهُمْ مَنْ شَكَّ فِيهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَبَدَةُ
الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ
خَالِقُهُمْ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أَيْ يُصْرَفُ عَنِ الْإِيمَانِ
بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ مَنْ صُرِفَ، عَنِ الْحَسَنِ
وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يُصْرَفُ عَنِ الْإِيمَانِ
مَنْ أَرَادَهُ بِقَوْلِهِمْ هُوَ سِحْرٌ وَكِهَانَةٌ
وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يُصْرَفُ
عَنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ. أَفَكَهُ
يَأْفِكُهُ أَفْكًا أَيْ قَلَبَهُ وَصَرَفَهُ عَنِ الشَّيْءِ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) «1»
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)
يُؤْفَنُ عَنْهُ مَنْ أُفِنَ، وَالْأَفْنُ فَسَادُ الْعَقْلِ.
الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرى (يُؤْفَنُ عَنْهُ مَنْ أُفِنَ) أَيْ
يُحْرَمُهُ مَنْ حُرِمَ، مِنْ أَفِنَ الضَّرْعَ إِذَا
أَنْهَكَهُ حَلْبًا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: يُخْدَعُ عَنْهُ مَنْ
خُدِعَ. وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ: يُدْفَعُ عَنْهُ مَنْ دُفِعَ.
وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَكُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى
الصَّرْفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) فِي
التَّفْسِيرِ: لُعِنَ الْكَذَّابُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَيْ قُتِلَ الْمُرْتَابُونَ، يَعْنِي الْكَهَنَةَ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَسْنَا نُبْعَثُ.
وَمَعْنَى (قُتِلَ) أَيْ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَجِبُ أَنْ
يُدْعَى عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ عَلَى أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى (قُتِلَ) لُعِنَ، قَالَ: وَ
(الْخَرَّاصُونَ) الْكَذَّابُونَ الَّذِينَ يَتَخَرَّصُونَ
بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا
مَجْنُونٌ كَذَّابٌ سَاحِرٌ شَاعِرٌ، وَهَذَا دُعَاءٌ
عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ فَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ الْمَقْتُولِ الْهَالِكِ. قَالَ ابْنُ
الْأَنْبَارِيِّ: عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ، أَيْ
قُولُوا: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) وَهُوَ جَمْعُ خَارِصٍ
وَالْخَرْصُ الْكَذِبُ وَالْخَرَّاصُ الْكَذَّابُ، وَقَدْ خرص
يخرص بالضم خرصا أي كذب،
__________
(1). راجع ج 16 ص 205
(17/33)
يُقَالُ: خَرَصَ وَاخْتَرَصَ، وَخَلَقَ
وَاخْتَلَقَ، وَبَشَكَ وَابْتَشَكَ، وَسَرَجَ وَاسْتَرَجَ،
وَمَانَ، بِمَعْنَى كَذَبَ، حَكَاهُ النَّحَّاسُ. وَالْخَرْصُ
أَيْضًا حَزْرُ مَا عَلَى النَّخْلِ مِنَ الرُّطَبِ تَمْرًا.
وَقَدْ خَرَصَتِ النَّخْلُ وَالِاسْمُ الْخِرْصُ بِالْكَسْرِ،
يُقَالُ: كَمْ خِرْصُ نَخْلِكَ وَالْخَرَّاصُ الَّذِي
يَخْرُصُهَا فَهُوَ مُشْتَرَكٌ. وَأَصْلُ الْخُرْصِ الْقَطْعُ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي (الْأَنْعَامِ) «1»
وَمِنْهُ الْخَرِيصُ لِلْخَلِيجِ، لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ
إِلَيْهِ الْمَاءُ، وَالْخُرْصُ حَبَّةُ الْقُرْطِ إِذَا
كَانَتْ مُنْفَرِدَةً، لِانْقِطَاعِهَا عَنْ أَخَوَاتِهَا،
وَالْخُرْصُ الْعُودُ، لِانْقِطَاعِهِ عَنْ نَظَائِرِهِ
بِطِيبِ رَائِحَتِهِ. وَالْخَرِصُ الَّذِي بِهِ جُوعٌ وَبَرْدٌ
لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ بِهِ، يُقَالُ: خَرِصَ الرَّجُلُ
بِالْكَسْرِ فَهُوَ خَرِصٌ، أَيْ جَائِعٌ مَقْرُورٌ، وَلَا
يُقَالُ لِلْجُوعِ بِلَا بَرْدٍ خَرَصَ. وَيُقَالُ لِلْبَرْدِ
بِلَا جُوعٍ خَرَصَ. وَالْخُرْصُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ
الْحَلْقَةُ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَالْجَمْعُ
الْخِرْصَانُ. وَيَدْخُلُ فِي الْخَرْصِ قَوْلُ
الْمُنَجِّمِينَ وَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي الْحَدْسَ
وَالتَّخْمِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ
الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا أَعْقَابَ مَكَّةَ،
وَاقْتَسَمُوا الْقَوْلَ فِي نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ
بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ
ساهُونَ) الْغَمْرَةُ مَا سَتَرَ الشَّيْءَ وَغَطَّاهُ.
وَمِنْهُ نَهَرٌ غَمْرٌ أَيْ يَغْمُرُ مَنْ دَخَلَهُ، وَمِنْهُ
غَمَرَاتُ الْمَوْتِ. (ساهُونَ) أَيْ لَاهُونَ غَافِلُونَ عَنْ
أمر الآخرة. قوله تعالى: (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ
الدِّينِ) أَيْ مَتَى يَوْمُ الْحِسَابِ، يَقُولُونَ ذَلِكَ
اسْتِهْزَاءً وَشَكًّا فِي الْقِيَامَةِ. (يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ) نُصِبَ (يَوْمَ) عَلَى تَقْدِيرِ
الْجَزَاءِ أَيْ هَذَا الْجَزَاءُ (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ
يُفْتَنُونَ) أَيْ يُحْرَقُونَ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ:
فَتَنْتَ الذَّهَبَ أَيْ أَحْرَقْتَهُ لِتَخْتَبِرَهُ،
وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ الِاخْتِبَارُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ
مَبْنِيٌّ بُنِيَ لِإِضَافَتِهِ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ،
وَمَوْضِعُهُ نُصِبَ عَلَى التَّقْدِيرِ الْمُتَقَدِّمِ، أَوْ
رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ (يَوْمُ الدِّينِ). وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: يَقُولُ يُعْجِبُنِي يَوْمُ أَنْتَ قَائِمٌ
وَيَوْمُ أَنْتَ تَقُومُ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتَ وَهُوَ فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ، فَإِنَّمَا انْتَصَبَ هَذَا وَهُوَ فِي
الْمَعْنَى رَفْعٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (يُفْتَنُونَ)
يُعَذَّبُونَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كُلُّ امْرِئٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مُضْطَهَدٌ ... بِبَطْنِ
مَكَّةَ مَقْهُورٌ ومفتون
__________
(1). راجع ج 7 ص 71 [ ..... ]
(17/34)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا
قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ)
أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَكُمْ، قَالَهُ ابْنُ
زَيْدٍ. مُجَاهِدٌ: حَرِيقَكُمْ. ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ
تَكْذِيبَكُمْ يَعْنِي جَزَاءَكُمْ. الْفَرَّاءُ: أَيْ
عَذَابَكُمْ (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) فِي
الدُّنْيَا. وَقَالَ: (هذَا) وَلَمْ يَقُلْ هَذِهِ، لِأَنَّ
الفتنة هنا بمعنى العذاب.
[سورة الذاريات (51): الآيات 15 الى 16]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا
آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ
(16)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ) لَمَّا ذَكَرَ مَآلَ الْكُفَّارِ ذَكَرَ مَآلَ
الْمُؤْمِنِينَ أَيْ هُمْ فِي بَسَاتِينَ فِيهَا عُيُونٌ
جَارِيَةٌ عَلَى نِهَايَةِ مَا يُتَنَزَّهُ بِهِ. (آخِذِينَ)
نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. (مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أَيْ مَا
أَعْطَاهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ،
قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: (آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أَيْ عَامِلِينَ
بِالْفَرَائِضِ. (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أَيْ قَبْلَ
دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ فِي الدُّنْيَا (مُحْسِنِينَ)
بِالْفَرَائِضِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى كَانُوا
قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ الْفَرَائِضُ محسنين في
أعمالهم.
[سورة الذاريات (51): الآيات 17 الى 19]
كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) مَعْنَى
(يَهْجَعُونَ) يَنَامُونَ، وَالْهُجُوعُ النَّوْمُ لَيْلًا،
وَالتَّهْجَاعُ النَّوْمَةُ الْخَفِيفَةُ، قَالَ أَبُو قَيْسِ
بْنُ الْأَسْلَتِ:
قَدْ حَصَّتِ الْبَيْضَةُ رَأْسِي فَمَا ... أَطْعَمُ نَوْمًا
غَيْرَ تَهْجَاعِ
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ يَتَشَوَّقُ أُخْتَهُ
وَكَانَ أَسَرَهَا الصِّمَّةُ أَبُو دُرَيْدِ بْنُ الصِّمَّةِ:
أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُنِي
وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
يُقَالُ: هَجَعَ يَهْجَعُ هُجُوعًا، وَهَبَغَ يَهْبَغُ
هُبُوغًا بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ إِذَا نَامَ، قَالَهُ
الْجَوْهَرِيُّ. وَاخْتُلِفَ فِي (مَا) فَقِيلَ: صِلَةٌ
زَائِدَةٌ- قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ- وَالتَّقْدِيرُ
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ
(17/35)
يَهْجَعُونَ، أَيْ يَنَامُونَ قَلِيلًا
مِنَ اللَّيْلِ وَيُصَلُّونَ أَكْثَرَهُ. قَالَ عَطَاءٌ:
وَهَذَا لَمَّا أُمِرُوا بِقِيَامِ اللَّيْلِ. وَكَانَ أَبُو
ذَرٍّ «1» يَحْتَجِزُ وَيَأْخُذُ الْعَصَا فَيَعْتَمِدُ
عَلَيْهَا حَتَّى نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا
قَلِيلًا) «2». الْآيَةَ. وَقِيلَ: لَيْسَ (مَا) صِلَةً بَلِ
الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: (قَلِيلًا) ثُمَّ يَبْتَدِئُ (مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) فَ (مَا) لِلنَّفْيِ وَهُوَ نَفْيُ
النَّوْمِ عَنْهُمُ الْبَتَّةَ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا لَا
يَنَامُونَ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا أَقَلَّهُ وَرُبَّمَا
نَشِطُوا فَجَدُّوا إِلَى السَّحَرِ. رُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ
الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ
هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: (كانُوا قَلِيلًا)
مَعْنَاهُ كَانَ عَدَدُهُمْ يَسِيرًا ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ:
(مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) عَلَى مَعْنَى مِنَ
اللَّيْلِ يَهْجَعُونَ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا
فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ
نَوْمِهِمْ لَا عَلَى قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَبَعْدُ فَلَوِ
ابْتَدَأْنَا (مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) عَلَى مَعْنَى
مِنَ اللَّيْلِ يَهْجَعُونَ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا مَدْحٌ
لَهُمْ، لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَهْجَعُونَ مِنَ
اللَّيْلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ (مَا) جَحْدًا. قُلْتُ: وَعَلَى
مَا تَأَوَّلَهُ بَعْضُ النَّاسِ- وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ-
مِنْ أَنَّ عَدَدَهُمْ كَانَ يَسِيرًا يَكُونُ الْكَلَامُ
مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِهِ: (إِنَّهُمْ كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أَيْ كَانَ الْمُحْسِنُونَ
قَلِيلًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: (مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي
يَكُونُ (كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ) خِطَابًا
مُسْتَأْنَفًا بَعْدَ تَمَامِ مَا تَقَدَّمَهُ وَيَكُونُ
الْوَقْفُ عَلَى (مَا يَهْجَعُونَ)
، وَكَذَلِكَ إِنْ جَعَلْتَ (قَلِيلًا) خَبَرَ كَانَ
وَتَرْفَعُ (مَا) بِقَلِيلٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَانُوا
قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ هُجُوعُهُمْ. فَ (مَا) يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ نَافِيَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ
مَصْدَرًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَفْعًا عَلَى الْبَدَلِ
مِنَ اسْمِ كَانَ، التَّقْدِيرُ كَانَ هُجُوعُهُمْ قَلِيلًا
مِنَ اللَّيْلِ، وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ: (قَلِيلًا) إِنْ
قَدَّرْتَ (مَا) زَائِدَةً مُؤَكَّدَةً بِ (يَهْجَعُونَ) عَلَى
تَقْدِيرِ كَانُوا وَقْتًا قَلِيلًا أَوْ هُجُوعًا قَلِيلًا
يَهْجَعُونَ، وَإِنْ لَمْ تُقَدِّرْ (مَا) زَائِدَةً كَانَ
قَوْلُهُ: (قَلِيلًا) خَبَرَ كَانَ وَلَمْ يَجُزْ نَصْبُهُ بِ
(يَهْجَعُونَ)، لِأَنَّهُ إِذَا قُدِّرَ نَصْبُهُ بِ
(يَهْجَعُونَ) مَعَ تَقْدِيرِ (مَا) مَصْدَرًا قُدِّمَتِ
الصِّلَةُ عَلَى الْمَوْصُولِ. وَقَالَ أَنَسٌ وَقَتَادَةُ فِي
تَأْوِيلِ الْآيَةِ: أَيْ كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ
الْعِشَاءَيْنِ: الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. أَبُو
الْعَالِيَةِ: كَانُوا لَا يَنَامُونَ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ.
وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ. وقال مجاهد:
__________
(1). في ز، ل، ن: (أبو بكر).
(2). راجع ج 19 ص 32
(17/36)
نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا
يُصَلُّونَ الْعِشَاءَيْنِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَمْضُونَ إِلَى قُبَاءَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: كَانُوا لَا
يَنَامُونَ حَتَّى يُصَلُّوا الْعَتَمَةَ. قَالَ الْحَسَنُ:
كَأَنَّهُ عَدَّ هُجُوعَهُمْ قَلِيلًا فِي جَنْبِ يَقَظَتِهِمْ
لِلصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُطَرِّفٌ: قَلَّ
لَيْلَةً لَا تَأْتِي عَلَيْهِمْ إِلَّا يُصَلُّونَ لِلَّهِ
فِيهَا إِمَّا مِنْ أَوَّلِهَا وَإِمَّا مِنْ وَسَطِهَا.
الثَّانِيَةُ- رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَهَجِّدِينَ أَنَّهُ
أَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامِهِ فَأَنْشَدَهُ:
وَكَيْفَ تَنَامُ اللَّيْلَ عَيْنٌ قَرِيرَةٌ ... وَلَمْ
تَدْرِ فِي أَيِ الْمَجَالِسِ تَنْزِلُ
وَرُوِيَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَزْدِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ
لَا أَنَامُ اللَّيْلَ فَنِمْتُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، فَإِذَا
أَنَا بِشَابَّيْنِ أَحْسَنَ مَا رَأَيْتُ وَمَعَهُمَا حُلَلٌ،
فَوَقَفَا عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ وَكَسَوَاهُ حُلَّةً، ثُمَّ
انْتَهَيَا إِلَى النِّيَامِ فَلَمْ يَكْسُوَاهُمْ، فَقُلْتُ
لَهُمَا: اكْسُوَانِي مِنْ حللكما هذا، فَقَالَا لِي: إِنَّهَا
لَيْسَتْ حُلَّةَ لِبَاسٍ إِنَّمَا هِيَ رِضْوَانُ اللَّهِ
يَحُلُّ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ. وَيُرْوَى عَنْ أَبِي خَلَّادٍ
أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي صَاحِبٌ لِي قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا
نَائِمٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذْ مُثِّلَتْ لِيَ الْقِيَامَةُ،
فَنَظَرْتُ إِلَى أَقْوَامٍ مِنْ إِخْوَانِي قَدْ أَضَاءَتْ
وُجُوهُهُمْ، وَأَشْرَقَتْ أَلْوَانُهُمْ، وَعَلَيْهِمُ
الْحُلَلُ مِنْ دُونِ الْخَلَائِقِ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ
هَؤُلَاءِ مُكْتَسُونَ وَالنَّاسُ عُرَاةٌ، وَوُجُوهُهُمْ
مُشْرِقَةٌ وَوُجُوهُ النَّاسِ مُغْبَرَّةٌ! فَقَالَ لِي
قَائِلٌ: الَّذِينَ رَأَيْتَهُمْ مُكْتَسُونَ فَهُمُ
الْمُصَلُّونَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَالَّذِينَ
وُجُوهُهُمْ مُشْرِقَةٌ فَأَصْحَابُ السَّهَرِ وَالتَّهَجُّدِ،
قَالَ: وَرَأَيْتُ أَقْوَامًا عَلَى نَجَائِبَ فَقُلْتُ: مَا
بَالُ هَؤُلَاءِ رُكْبَانًا وَالنَّاسُ مُشَاةٌ حُفَاةٌ؟
فَقَالَ لِي: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَامُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ
تَقَرُّبًا لِلَّهِ تَعَالَى فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ
خَيْرَ الثَّوَابِ، قَالَ: فَصِحْتُ فِي مَنَامِي: وَاهًا
لِلْعَابِدِينَ، مَا أَشْرَفَ مَقَامَهُمْ! ثُمَّ
اسْتَيْقَظْتُ مِنْ مَنَامِي وَأَنَا خائف. الثالثة- قوله
تعالى: (بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) مَدْحٌ ثَانٍ،
أَيْ يَسْتَغْفِرُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَالسَّحَرُ وَقْتٌ يُرْجَى فِيهِ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ.
وَقَدْ مَضَى فِي (آلِ عِمْرَانَ) «1» الْقَوْلُ فِيهِ. وقال
ابن عمرو مجاهد: أَيْ يُصَلُّونَ وَقْتَ السَّحَرِ فَسَمَّوُا
الصَّلَاةَ اسْتِغْفَارًا. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: (كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)
مَدُّوا الصَّلَاةَ مِنْ أول الليل
__________
(1). راجع ج 4 ص 38
(17/37)
إِلَى السَّحَرِ ثُمَّ اسْتَغْفَرُوا فِي
السَّحَرِ. ابْنُ وَهْبٍ: هِيَ فِي الْأَنْصَارِ، يَعْنِي
أَنَّهُمْ كَانُوا يَغْدُونَ مِنْ قُبَاءَ فَيُصَلُّونَ فِي
مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ابْنُ
وَهْبٍ عَنِ ابن لهيعة عن يزيد ابن أَبِي حَبِيبٍ قَالُوا:
كَانُوا يَنْضَحُونَ لِنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ بِالدِّلَاءِ
عَلَى الثِّمَارِ ثُمَّ يَهْجَعُونَ قَلِيلًا، ثُمَّ
يُصَلُّونَ آخِرَ اللَّيْلِ. الضَّحَّاكُ: صَلَاةُ الْفَجْرِ.
قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: عَرَضْتُ عَمَلِي عَلَى
أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِذَا قَوْمٌ قَدْ بَايَنُونَا
بَوْنًا بَعِيدًا لَا نَبْلُغُ أَعْمَالَهُمْ (كانُوا قَلِيلًا
مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) وَعَرَضْتُ عَمَلِي عَلَى
أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَإِذَا قَوْمٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ،
يُكَذِّبُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْبَعْثِ
بَعْدَ الْمَوْتِ، فَوَجَدْنَا خَيْرَنَا مَنْزِلَةً قَوْمًا
خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. الرَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ) مَدْحٌ ثَالِثٌ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
سِيرِينَ وَقَتَادَةُ: الْحَقُّ هُنَا الزَّكَاةُ
الْمَفْرُوضَةُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ
يَصِلُ بِهِ رَحِمًا، أَوْ يَقْرِي بِهِ ضَيْفًا، أَوْ
يَحْمِلُ بِهِ كَلًّا، أَوْ يُغْنِي مَحْرُومًا. وَقَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَفُرِضَتِ
الزَّكَاةُ بِالْمَدِينَةِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْأَقْوَى
فِي هَذِهِ الْآيَةِ أنها الزكاة، لقوله تعالى في سورة (سأل
سائل): (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ.
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) «1» وَالْحَقُّ الْمَعْلُومُ هُوَ
الزَّكَاةُ الَّتِي بَيَّنَ الشَّرْعُ قَدْرَهَا وَجِنْسَهَا
وَوَقْتَهَا، فَأَمَّا غَيْرُهَا لِمَنْ يَقُولُ بِهِ فَلَيْسَ
بِمَعْلُومٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَا مُجَنَّسٍ
وَلَا مُوَقَّتٍ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) السَّائِلُ الَّذِي يَسْأَلُ
النَّاسَ لِفَاقَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُمَا. (وَالْمَحْرُومِ) الَّذِي حُرِمَ
الْمَالَ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهِ، فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُمَا:
الْمَحْرُومُ الْمُحَارَفُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي
الْإِسْلَامِ سَهْمٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا: الْمَحْرُومُ الْمُحَارَفُ الَّذِي لَا يَتَيَسَّرُ
لَهُ مَكْسَبُهُ، يُقَالُ: رَجُلٌ مُحَارَفٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ
أَيْ مَحْدُودٌ مَحْرُومٌ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِكَ مُبَارَكٌ.
وَقَدْ حُورِفَ كَسْبُ فُلَانٍ إِذَا شُدِّدَ عَلَيْهِ فِي
مَعَاشِهِ كَأَنَّهُ مِيلَ بِرِزْقِهِ عَنْهُ. وَقَالَ
قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: الْمَحْرُومُ الْمُتَعَفِّفُ
الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَا يُعْلَمُ
بِحَاجَتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ ابْنُ
الْحَنَفِيَّةِ: الْمَحْرُومُ الذي يجئ بَعْدَ الْغَنِيمَةِ
وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا سَهْمٌ. رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فَأَصَابُوا
وَغَنِمُوا فَجَاءَ قَوْمٌ بَعْدَ مَا فَرَغُوا فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ (وَفِي أَمْوالِهِمْ). وَقَالَ
__________
(1). راجع ج 18 ص 291
(17/38)
وَفِي الْأَرْضِ
آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا
تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا
تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ
لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
عِكْرِمَةُ: الْمَحْرُومُ الَّذِي لَا
يَبْقَى لَهُ مَالٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ
الَّذِي أُصِيبَ ثَمَرُهُ أَوْ زَرْعُهُ أَوْ نَسْلُ
مَاشِيَتِهِ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: الْمَحْرُومُ الَّذِي
أَصَابَتْهُ الْجَائِحَةُ ثُمَّ قَرَأَ (إن لَمُغْرَمُونَ.
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) نَظِيرُهُ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ
الْجَنَّةِ حَيْثُ قَالُوا: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)
وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الْيَمَامَةِ لَهُ مَالٌ فَجَاءَ سَيْلٌ فَذَهَبَ بِمَالِهِ،
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: هَذَا الْمَحْرُومُ
فَاقْسِمُوا لَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي يَطْلُبُ
الدُّنْيَا وَتُدْبِرُ عَنْهُ. وَهُوَ يُرْوَى عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُمَيْدٍ:
الْمَحْرُومُ الْمَمْلُوكُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْكَلْبُ،
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ فِي طَرِيقِ
مَكَّةَ، فَجَاءَ كَلْبٌ فَانْتَزَعَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَتِفَ شَاةٍ فَرَمَى بِهَا إِلَيْهِ وَقَالَ: يَقُولُونَ
إِنَّهُ الْمَحْرُومُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْ وَجَبَتْ
نَفَقَتُهُ بِالْفَقْرِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ، لِأَنَّهُ
قَدْ حُرِمَ كَسْبَ نَفْسِهِ حَتَّى وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي
مَالِ غَيْرِهِ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ
الَّذِي يُحْرَمُ الرِّزْقَ، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ
يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لِيَ
الْيَوْمَ سَبْعُونَ سَنَةً مُنْذُ احْتَلَمْتُ أَسْأَلُ عَنِ
الْمَحْرُومِ فَمَا أَنَا الْيَوْمَ بِأَعْلَمَ مِنِّي فِيهِ
يَوْمَئِذٍ. رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنِ
الشَّعْبِيِّ. وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْمَمْنُوعُ، مِنَ
الْحِرْمَانِ وَهُوَ الْمَنْعُ. قَالَ عَلْقَمَةُ:
وَمُطْعَمُ الْغُنْمِ يَوْمَ الْغُنْمِ مُطْعَمُهُ ... أَنَّى
تَوَجَّهَ وَالْمَحْرُومُ مَحْرُومُ
وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (وَيْلٌ لِلْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْفُقَرَاءِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ رَبَّنَا ظَلَمُونَا
حُقُوقَنَا الَّتِي فُرِضَتْ لَنَا عَلَيْهِمْ فَيَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُقَرِّبَنَّكُمْ
وَلَأُبْعِدَنَّهُمْ) ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ذكره الثعلبي.
[سورة الذاريات (51): الآيات 20 الى 23]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما
تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ
لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ)
لَمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الْفَرِيقَيْنِ بَيَّنَ أَنَّ فِي
الْأَرْضِ عَلَامَاتٌ تَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى
الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، فَمِنْهَا عَوْدُ النَّبَاتِ بَعْدَ
أَنْ صَارَ هشيما، ومنها أنه
(17/39)
قدرا لأقوات فِيهَا قِوَامًا
لِلْحَيَوَانَاتِ، وَمِنْهَا سَيْرُهُمْ فِي الْبُلْدَانِ
الَّتِي يُشَاهِدُونَ فِيهَا آثَارَ الْهَلَاكِ النَّازِلِ
بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ. وَالْمُوقِنُونَ هُمُ
الْعَارِفُونَ الْمُحَقِّقُونَ وَحْدَانِيَّةَ رَبِّهِمْ،
وَصِدْقَ نُبُوَّةِ نَبِيِّهِمْ، خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ
لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ
وَتَدَبُّرِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلا تُبْصِرُونَ) قِيلَ: التَّقْدِيرُ وَفِي الْأَرْضِ
وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
الْمَعْنَى مَنْ سَارَ فِي الْأَرْضِ رَأَى آيَاتٍ وَعِبَرًا،
وَمَنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ عَلِمَ أَنَّهُ خُلِقَ
لِيَعْبُدَ اللَّهَ. ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ:
الْمُرَادُ سَبِيلُ الْخَلَاءِ والبول. وقال السائب ابن
شَرِيكٍ: يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ وَيُخْرِجُ
مِنْ مَكَانَيْنِ، وَلَوْ شَرِبَ لَبَنًا مَحْضًا لَخَرَجَ
مِنْهُ الْمَاءُ وَمِنْهُ الْغَائِطُ، فَتِلْكَ الْآيَةُ فِي
النَّفْسِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى أَنَّهُ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ)
«1» (تَنْتَشِرُونَ). السُّدِّيُّ: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أَيْ
فِي حَيَاتِكُمْ وَمَوْتِكُمْ، وَفِيمَا يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ
مِنْ طَعَامِكُمْ. الْحَسَنُ: وَفِي الْهَرَمِ بَعْدَ
الشَّبَابِ، وَالضَّعْفِ بَعْدَ الْقُوَّةِ، وَالشَّيْبِ
بَعْدَ السَّوَادِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَفِي خَلْقِ
أَنْفُسِكُمْ مِنْ نُطْفَةٍ وَعَلَقَةٍ وَمُضْغَةٍ وَلَحْمٍ
وَعَظْمٍ إِلَى نَفْخِ الرُّوحِ، وَفِي اخْتِلَافِ
الْأَلْسِنَةِ وَالْأَلْوَانِ وَالصُّوَرِ، إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ،
وَحَسْبُكَ بِالْقُلُوبِ وَمَا رُكِزَ «2» فِيهَا مِنَ
الْعُقُولِ، وَمَا خُصَّتْ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَانِي
وَالْفُنُونِ، وَبِالْأَلْسُنِ وَالنُّطْقِ وَمَخَارِجِ
الْحُرُوفِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَطْرَافِ وَسَائِرِ
الْجَوَارِحِ، وَتَأَتِّيهَا لِمَا خُلِقَتْ لَهُ، وَمَا
سَوَّى فِي الْأَعْضَاءِ مِنَ الْمَفَاصِلِ لِلِانْعِطَافِ
وَالتَّثَنِّي، وَأَنَّهُ إِذَا جَسَا «3» شي منها جاء العجز،
وإذا استرخى أناخ ألذ ل (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ) «4». (أَفَلا تُبْصِرُونَ) يَعْنِي بَصَرَ
الْقَلْبِ لِيَعْرِفُوا كَمَالَ قُدْرَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ
نُجْحُ الْعَاجِزِ، وَحِرْمَانُ الْحَازِمِ. قُلْتُ: كُلُّ مَا
ذُكِرَ مُرَادٌ فِي الِاعْتِبَارِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي
آيَةِ التَّوْحِيدِ مِنْ سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) «5» (أَنَّ مَا
فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ الْعَالَمُ الصَّغِيرُ
شي إِلَّا وَلَهُ نَظِيرٌ فِي الْعَالَمِ الْكَبِيرِ،
وَذَكَرْنَا هُنَاكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ مَا يَكْفِي وَيُغْنِي
لِمَنْ تدبر.
__________
(1). راجع ج 14 ص (17)
(2). في الأصل المطبوع: (وما فيها من العقول).
(3). جست اليد تيبست عظامها وقل لحمها.
(4). راجع ج 12 ص (110)
(5). راجع ج 2 ص 202
(17/40)
قوله تعالى: (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ
وَما تُوعَدُونَ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ:
الرِّزْقُ هُنَا مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَطَرٍ
وَثَلْجٍ يَنْبُتُ بِهِ الزَّرْعُ وَيَحْيَا بِهِ الْخَلْقُ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كُلُّ عَيْنٍ قَائِمَةٍ
فَإِنَّهَا مِنَ الثَّلْجِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ
إِذَا رَأَى السَّحَابَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: فِيهِ وَاللَّهِ
رِزْقُكُمْ وَلَكِنَّكُمْ تُحْرَمُونَهُ بِخَطَايَاكُمْ.
وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ)
مَعْنَاهُ وَفِي الْمَطَرِ رِزْقُكُمْ، سُمِّيَ الْمَطَرُ
سَمَاءً لِأَنَّهُ مِنَ السَّمَاءِ يَنْزِلُ. قَالَ الشَّاعِرُ
«1»:
إِذَا سَقَطَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ
وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: يَعْنِي وَعَلَى رَبِّ السَّمَاءِ
رِزْقُكُمْ، نَظِيرُهُ: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ)
إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا»
. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ) أَيْ عِنْدَ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَفِي السَّمَاءِ تَقْدِيرُ رِزْقِكُمْ،
وَمَا فِيهِ لَكُمْ مَكْتُوبٌ فِي أُمِّ الْكِتَابِ. وَعَنْ
سُفْيَانَ قَالَ: قَرَأَ وَاصِلٌ الْأَحْدَبِ (وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ) فَقَالَ: أَلَا أَرَى رِزْقِي فِي السَّمَاءِ
وَأَنَا أَطْلُبُهُ فِي الْأَرْضِ! فَدَخَلَ خَرِبَةً فَمَكَثَ
ثَلَاثًا لَا يُصِيبُ شَيْئًا فَإِذَا هُوَ فِي الثَّالِثَةِ
بِدَوْخَلَّةِ «3» رُطَبٍ، وَكَانَ لَهُ أَخٌ أَحْسَنُ نِيَّةً
مِنْهُ فَدَخَلَ مَعَهُ فَصَارَتَا دَوْخَلَّتَيْنِ، فَلَمْ
يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُمَا حَتَّى فَرَّقَ اللَّهُ بِالْمَوْتِ
بَيْنَهُمَا. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ (وَفِي
السَّمَاءِ رَازِقُكُمْ) بِالْأَلِفِ وَكَذَلِكَ فِي آخِرِهَا
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّازِقُ.) وَما تُوعَدُونَ) قَالَ
مُجَاهِدٌ: يَعْنِي مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
مِنْ خَيْرٍ خَاصَّةً. وَقِيلَ: الشَّرُّ خَاصَّةً. وَقِيلَ:
الْجَنَّةُ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. الضَّحَّاكُ:
(وَما تُوعَدُونَ) مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَالَ ابْنُ
سِيرِينَ: (وَما تُوعَدُونَ) مِنْ أَمْرِ الساعة. وقاله
الربيع. قوله تعالى: (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
إِنَّهُ لَحَقٌّ) أَكَّدَ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنَ
الْبَعْثِ وَمَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ مِنَ الرِّزْقِ،
وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَحَقٌّ ثُمَّ أَكَّدَهُ
بِقَوْلِهِ: (مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) وَخَصَّ
النُّطْقَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَوَاسِّ، لِأَنَّ مَا سواه
من الحواس يدخله التشبيه، كالذي
__________
(1). هو معود الحكماء معاوية بن مالك، وسمي معود الحكماء لقوله
في هذه القصيدة:
أعود مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما الحق في الحدثان نابا
(2). راجع ج 9 ص 3
(3). الدوخلة (بتشديد اللام وتخفيفها): سفيفة من خوص يوضع فيها
التمر والرطب.
(17/41)
يَرَى فِي الْمِرْآةِ، وَاسْتِحَالَةُ
الذَّوْقِ عِنْدَ غَلَبَةِ الصَّفْرَاءِ وَنَحْوِهَا،
وَالدَّوِيُّ وَالطَّنِينُ فِي الْأُذُنِ، وَالنُّطْقُ سَالِمٌ
مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُعْتَرَضُ بِالصَّدَى لِأَنَّهُ لَا
يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْكَلَامِ مِنَ النَّاطِقِ
غَيْرَ مَشُوبٍ بِمَا يُشْكِلُ بِهِ. وَقَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ: كَمَا أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَنْطِقُ
بِنَفْسِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْطِقَ بِلِسَانِ
غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ كُلُّ إِنْسَانٍ يَأْكُلُ رِزْقَهُ وَلَا
يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْكُلَ رِزْقَ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
بَلَغَنِي أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ أَقْوَامًا أَقْسَمَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ بِنَفْسِهِ ثُمَّ لَمْ يُصَدِّقُوهُ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ
(. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَقْبَلْتُ ذَاتَ مَرَّةٍ مِنْ
مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ إِذْ طَلَعَ أَعْرَابِيٌّ جِلْفٌ جَافٍ
عَلَى قَعُودٍ لَهُ مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ وَبِيَدِهِ
قَوْسُهُ، فَدَنَا وَسَلَّمَ وَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟
قُلْتُ مِنْ بَنِي أَصْمَعَ، قَالَ: أَنْتَ الْأَصْمَعِيُّ؟
قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قُلْتُ:
مِنْ مَوْضِعٍ يُتْلَى فِيهِ كَلَامُ الرَّحْمَنِ، قَالَ:
وَلِلرَّحْمَنِ كَلَامٌ يَتْلُوهُ الْآدَمِيُّونَ؟ قُلْتُ:
نَعَمْ، قَالَ: فَاتْلُ عَلَيَّ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَرَأْتُ
(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) إِلَى قَوْلِهِ: (وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ) فَقَالَ: يَا أَصْمَعِيُّ حَسْبُكَ!! ثُمَّ قَامَ
إِلَى نَاقَتِهِ فَنَحَرَهَا وَقَطَّعَهَا بِجِلْدِهَا،
وَقَالَ: أَعِنِّي عَلَى تَوْزِيعِهَا، فَفَرَّقْنَاهَا عَلَى
مَنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى سَيْفِهِ
وَقَوْسِهِ فَكَسَرَهُمَا وَوَضَعَهُمَا تَحْتَ الرَّحْلِ
وَوَلَّى نَحْوَ الْبَادِيَةِ وَهُوَ يَقُولُ: (وَفِي
السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) فَمَقَتُّ نَفْسِي
وَلُمْتُهَا، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ الرَّشِيدِ، فَبَيْنَمَا
أَنَا أَطُوفُ إِذَا أَنَا بِصَوْتٍ رَقِيقٍ، فَالْتَفَتُّ
فَإِذَا أَنَا بِالْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ نَاحِلٌ مُصْفَرٌّ،
فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَأَخَذَ بِيَدَيَّ وَقَالَ: اتْلُ عَلَيَّ
كَلَامَ الرَّحْمَنِ، وَأَجْلَسَنِي مِنْ وراء المقام فقرأت
(وَالذَّارِياتِ) حَتَّى وَصَلْتُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) فَقَالَ
الْأَعْرَابِيُّ: لَقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا الرَّحْمَنُ
حَقًّا، وَقَالَ: وَهَلْ غَيْرُ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ،
يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (فَوَ رَبِّ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ
تَنْطِقُونَ) قال فصاج الْأَعْرَابِيُّ وَقَالَ: يَا سُبْحَانَ
اللَّهِ! مَنِ الَّذِي أَغْضَبَ الْجَلِيلَ حَتَّى حَلَفَ!
أَلَمْ يُصَدِّقُوهُ فِي قَوْلِهِ حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى
الْيَمِينِ؟ فَقَالَهَا ثَلَاثًا وَخَرَجَتْ بِهَا نَفْسُهُ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ مَرْثَدٍ: إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شي
فَقَالَ: اللَّهُمَّ رِزْقَكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي فَأْتِنِي
بِهِ، فَشَبِعَ وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ أَنَّ أَحَدُكُمْ
(17/42)
فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ لَتَبِعَهُ كَمَا
يَتْبَعُهُ الْمَوْتُ) أَسْنَدَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَفِي
سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ حَبَّةَ وَسَوَاءٍ ابْنَيْ خَالِدٍ
قَالَا: دَخَلْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يُعَالِجُ شَيْئًا فَأَعَنَّاهُ عَلَيْهِ،
فَقَالَ: (لَا تَيْأَسَا مِنَ الرزق ما تهززت رؤوسكما فَإِنَّ
الْإِنْسَانَ تَلِدُهُ أُمُّهُ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ
قِشْرٌ) «1» (ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللَّهُ). وَرُوِيَ أَنَّ
قَوْمًا مِنَ الْأَعْرَابِ زَرَعُوا زَرْعًا فَأَصَابَتْهُ
جَائِحَةٌ فَحَزِنُوا لِأَجْلِهِ، فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ
أَعْرَابِيَّةٌ فَقَالَتْ: مَا لِي أَرَاكُمْ قَدْ نَكَسْتُمْ
رُءُوسَكُمْ، وَضَاقَتْ صُدُورُكُمْ، هُوَ رَبُّنَا
وَالْعَالِمُ بِنَا، رِزْقُنَا عَلَيْهِ يَأْتِينَا بِهِ
حَيْثُ شَاءَ! ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
لَوْ كَانَ فِي صَخْرَةٍ فِي الْبَحْرِ رَاسِيَةٍ ... صَمًّا
مُلَمْلِمَةٍ ملسا نَوَاحِيهَا
رِزْقٌ لِنَفْسٍ بَرَاهَا اللَّهُ لَانْفَلَقَتْ ... حَتَّى
تُؤَدِّيَ إِلَيْهَا كُلَّ مَا فِيهَا
أَوْ كَانَ بَيْنَ طِبَاقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَا ...
لَسَهَّلَ اللَّهُ فِي الْمَرْقَى مَرَاقِيهَا
حَتَّى تَنَالَ الَّذِي فِي اللَّوْحِ خُطَّ لَهَا ... إِنْ
لَمْ تَنَلْهُ وَإِلَّا سَوْفَ يَأْتِيهَا
قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قِصَّةُ الْأَشْعَرِيِّينَ
حِينَ أَرْسَلُوا رَسُولَهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما مِنْ
دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها)
فَرَجَعَ وَلَمْ يُكَلِّمِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ: لَيْسَ الْأَشْعَرِيُّونَ بِأَهْوَنَ عَلَى
اللَّهِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ
(هُودٍ) «2». وَقَالَ لُقْمَانُ: (يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ
تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ)
الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى فِي (لُقْمَانَ) «3» وَقَدِ
اسْتَوْفَيْنَا هَذَا الْبَابَ فِي كِتَابِ (قَمْعِ الْحِرْصِ
بِالزُّهْدِ وَالْقَنَاعَةِ) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَهَذَا
هُوَ التَّوَكُّلُ الْحَقِيقِيُّ الذي لا يشوبه شي، وَهُوَ
فَرَاغُ الْقَلْبِ مَعَ الرَّبِّ، رَزَقَنَا اللَّهُ إِيَّاهُ
وَلَا أَحَالَنَا عَلَى أَحَدٍ سِوَاهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)
قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (مِثْلَ) بِالنَّصْبِ أَيْ كَمِثْلِ
(مَا أَنَّكُمْ) فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ
الْكَافِ أَيْ كَمِثْلِ نُطْقِكُمْ وَ (مَا) زَائِدَةٌ،
قَالَهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ
وَالْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى التَّوْكِيدِ،
أَيْ لَحَقٌّ حَقًّا مِثْلَ
__________
(1). القشر هنا الثياب.
(2). راجع ج 9 ص 6 [ ..... ]
(3). راجع ج 14 ص 66
(17/43)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
(25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ
بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)
نُطْقِكَ، فَكَأَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ
مَحْذُوفٍ. وَقَوْلُ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ مَبْنِيٌّ بُنِيَ
حِينَ أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ وَ (مَا) زَائِدَةٌ
لِلتَّوْكِيدِ. الْمَازِنِيُّ: (مِثْلَ) مع (ما) بمنزلة شي
وَاحِدٍ فَبُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ لِذَلِكَ. وَاخْتَارَهُ
أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: وَلِأَنَّ مِنَ
الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُ مِثْلًا مَنْصُوبًا أَبَدًا،
فَتَقُولُ: قَالَ لِي رَجُلٌ مِثْلَكَ، وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ
مِثْلَكَ بِنَصْبِ [مِثْلٍ عَلَى مَعْنَى كَمِثْلِ «1»].
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
وَالْأَعْمَشُ (مِثْلُ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ
لَحَقٌّ، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ،
إِذْ لَا يَخْتَصُّ بِالْإِضَافَةِ لِكَثْرَةِ الْأَشْيَاءِ
الَّتِي يَقَعُ بَعْدَهَا التَّمَاثُلُ بَيْنَ
الْمُتَمَاثِلَيْنِ. وَ (مِثْلَ) مُضَافٌ إِلَى (أَنَّكُمْ) وَ
(مَا) زَائِدَةٌ وَلَا تَكُونُ مَعَ مَا بَعْدَهَا
بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ إذ لا فعل معها تَكُونُ مَعَهُ
مَصْدَرًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا من (لَحَقٌّ).
[سورة الذاريات (51): الآيات 24 الى 28]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ
مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ
سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ
(27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ
وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
قوله تعالى: (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ
الْمُكْرَمِينَ) ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لِيُبَيِّنَ بِهَا أَنَّهُ أَهْلَكَ الْمُكَذِّبَ
بِآيَاتِهِ كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ. (هَلْ أَتاكَ) أَيْ
أَلَمْ يَأْتِكَ. وَقِيلَ: (هَلْ) بِمَعْنَى قَدْ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ)
«2». وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ فِي
(هُودٍ) «3» (والحجر) «4». (الْمُكْرَمِينَ) أَيْ عِنْدَ
اللَّهِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلْ عِبادٌ
مُكْرَمُونَ) «5» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ جِبْرِيلَ
وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ- زَادَ عُثْمَانُ بْنُ حُصَيْنٍ-
وَرَفَائِيلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانَ جِبْرِيلُ وَمَعَهُ تِسْعَةٌ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: كَانُوا ثَلَاثَةً جِبْرِيلُ
وَمِيكَائِيلُ وَمَعَهُمَا مَلَكٌ آخر.
__________
(1). الزيادة من اعراب القرآن للنحاس.
(2). راجع ج 19 ص (116)
(3). راجع ج 9 ص (62)
(4). راجع ج 10 ص (35)
(5). راجع ج 11 ص 281
(17/44)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمَّاهُمْ
مُكْرَمِينَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَذْعُورِينَ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: سَمَّاهُمْ مُكْرَمِينَ لِخِدْمَةِ إِبْرَاهِيمَ
إِيَّاهُمْ بِنَفْسِهِ. قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: قَالَ لِي
عَلِيُّ بْنُ عِيَاضٍ: عِنْدِي هَرِيسَةٌ مَا رَأْيُكَ فِيهَا؟
قُلْتُ: مَا أَحْسَنَ رَأْيِي فِيهَا، قَالَ: امْضِ بِنَا،
فَدَخَلْتُ الدَّارَ فَنَادَى الْغُلَامَ فَإِذَا هُوَ
غَائِبٌ، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا بِهِ وَمَعَهُ الْقُمْقُمَةُ
وَالطَّسْتُ وَعَلَى عَاتِقِهِ الْمِنْدِيلُ، فَقُلْتُ: إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، لَوْ عَلِمْتُ يَا
أَبَا الْحَسَنِ أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا، قَالَ: هَوِّنْ
عَلَيْكَ فَإِنَّكَ عِنْدَنَا مُكْرَمٌ، وَالْمُكْرَمُ
إِنَّمَا يُخْدَمُ بِالنَّفْسِ، انْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ
تَعَالَى: (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ
الْمُكْرَمِينَ). قوله تعالى: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ
فَقالُوا سَلاماً) تَقَدَّمَ فِي (الْحِجْرِ) «1». (قالَ
سَلامٌ) أَيْ عَلَيْكُمْ سَلَامٌ. وَيَجُوزُ بِمَعْنَى أَمْرِي
سَلَامٌ أَوْ رَدِّي لَكُمْ سَلَامٌ. وَقَرَأَ أَهْلُ
الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمًا (سِلْمٌ) بِكَسْرِ السِّينِ.
(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أَيْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، أَيْ
غُرَبَاءُ لَا نَعْرِفُكُمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ رَآهُمْ عَلَى
غَيْرِ صُورَةِ الْبَشَرِ، وَعَلَى غَيْرِ صُورَةِ
الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانَ يَعْرِفُهُمْ فَنَكِرَهُمْ،
فَقَالَ: (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ). وَقِيلَ: أَنْكَرَهُمْ
لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَنْكَرَ سَلَامَهُمْ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ وَفِي تِلْكَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: خَافَهُمْ،
يُقَالُ: أَنْكَرْتُهُ إِذَا خِفْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ «2»:
فَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ ... مِنَ
الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) قَالَ الزَّجَّاجُ:
أَيْ عَدَلَ إِلَى أَهْلِهِ. وَقَدْ مَضَى فِي
(وَالصَّافَّاتِ) «3». وَيُقَالُ: أَرَاغَ وَارْتَاغَ
بِمَعْنَى طَلَبَ، وَمَاذَا تُرِيغُ أَيْ تُرِيدُ وَتَطْلُبُ،
وَأَرَاغَ إِلَى كَذَا أَيْ مَالَ إِلَيْهِ سِرًّا وَحَادَ،
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَاغَ وَأَرَاغَ لُغَتَيْنِ بِمَعْنًى.
(فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أَيْ جَاءَ ضَيْفَهُ بِعِجْلٍ قَدْ
شَوَاهُ لَهُمْ كَمَا فِي (هُودٍ): (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ
بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) «4». وَيُقَالُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
انْطَلَقَ إِلَى مَنْزِلِهِ كَالْمُسْتَخْفِي «5» مِنْ
ضَيْفِهِ، لِئَلَّا يَظْهَرُوا عَلَى مَا يُرِيدُ أَنْ يتخذ
لهم من الطعام.
__________
(1). راجع ج 10 ص (34)
(2). هو الأعشى.
(3). راجع ج 15 ص (94)
(4). راجع ج 9 ص 63 و (68)
(5). في ن: (كالمستحي).
(17/45)
فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ
هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
قوله تعالى: (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) يعني
العجل. ف (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ
عَامَّةُ مَالِ إِبْرَاهِيمَ الْبَقَرُ، وَاخْتَارَهُ لَهُمْ
سَمِينًا زِيَادَةً فِي إِكْرَامِهِمْ. وَقِيلَ: الْعِجْلُ فِي
بَعْضِ اللُّغَاتِ الشَّاةُ. ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَفِي
الصِّحَاحِ: الْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ وَالْعِجَّوْلُ
مِثْلُهُ وَالْجَمْعُ الْعَجَاجِيلُ وَالْأُنْثَى عِجْلَةٌ،
عَنْ أَبِي الْجَرَّاحِ، وَبَقَرَةٌ مُعْجِلٌ ذَاتُ عِجْلٍ،
وَعِجْلٌ قَبِيلَةٌ مِنْ رَبِيعَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أَيْ أَحَسَّ مِنْهُمْ فِي
نَفْسِهِ خَوْفًا. وَقِيلَ: أَضْمَرَ لَمَّا لَمْ
يَتَحَرَّمُوا بِطَعَامِهِ. وَمِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ: أَنَّ
مَنْ تَحَرَّمَ بِطَعَامِ إنسان أمنه. وقال عمرو ابن دينار:
قالت الملائكة لأنا كل إِلَّا بِالثَّمَنِ. قَالَ: كُلُوا
وَأَدُّوا ثَمَنَهُ. قَالُوا: وَمَا ثَمَنُهُ؟ قَالَ:
تُسَمُّونَ اللَّهَ إِذَا أَكَلْتُمْ وَتَحْمَدُونَهُ إِذَا
فَرَغْتُمْ. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَقَالُوا:
لِهَذَا اتَّخَذَكَ اللَّهُ خَلِيلًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا
فِي (هُودٍ). وَلَمَّا رَأَوْا مَا بِإِبْرَاهِيمَ مِنَ
الْخَوْفِ (قالُوا لَا تَخَفْ) وَأَعْلَمُوهُ أَنَّهُمْ
مَلَائِكَةُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ. (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ
عَلِيمٍ) أَيْ بِوَلَدٍ يُولَدُ لَهُ مِنْ سَارَّةَ
زَوْجَتِهِ. وَقِيلَ: لَمَّا أَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ
مَلَائِكَةٌ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ، فَدَعَوُا اللَّهَ فَأَحْيَا
الْعِجْلَ الَّذِي قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ. وَرَوَى عَوْنُ بْنُ
أَبِي شَدَّادٍ: أَنَّ جِبْرِيلَ مَسَحَ الْعِجْلَ
بِجَنَاحِهِ، فَقَامَ يُدْرِجُ حَتَّى لَحِقَ بِأُمِّهِ
وَأُمُّ الْعِجْلِ فِي الدَّارِ. وَمَعْنَى (عَلِيمٍ) أَيْ
يَكُونُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ
وَبِدِينِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ
هُوَ إِسْحَاقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَحْدَهُ: هُوَ
إِسْمَاعِيلُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَقُولُ: (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ «1»). وهذا نص.
[سورة الذاريات (51): الآيات 29 الى 30]
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها
وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ
إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ)
أَيْ فِي صَيْحَةٍ وَضَجَّةٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
وَمِنْهُ أُخِذَ صَرِيرُ الْبَابِ وَهُوَ صَوْتُهُ. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا الرَّنَّةُ وَالتَّأَوُّهُ
وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِقْبَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلُكَ أَقْبَلَ
يَشْتُمُنِي أَيْ أَخَذَ فِي شَتْمِي. وَقِيلَ: أَقْبَلَتْ فِي
صَرَّةٍ أَيْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النِّسَاءِ «2» تَسْمَعُ كلام
الملائكة. قال
__________
(1). راجع ج 15 ص (99)
(2). في ن: (الناس).
(17/46)
قَالَ فَمَا
خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ
عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ
بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً
لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
الْجَوْهَرِيُّ: الصَّرَّةُ الضَّجَّةُ
وَالصَّيْحَةُ، وَالصَّرَّةُ الْجَمَاعَةُ، وَالصَّرَّةُ
الشِّدَّةُ مِنْ كَرْبٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَأَلْحَقَهُ بِالْهَادِيَاتِ وَدُونَهُ ... جَوَاحِرُهَا فِي
صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ «1»
يَحْتَمِلُ هَذَا الْبَيْتُ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ.
وَصَرَّةُ الْقَيْظِ شِدَّةُ حَرِّهِ. فَلَمَّا سَمِعَتْ
سَارَّةُ الْبِشَارَةَ صَكَّتْ وَجْهَهَا، أَيْ ضَرَبَتْ
يَدَهَا عَلَى وَجْهِهَا عَلَى عَادَةِ النِّسْوَانِ عِنْدَ
التَّعَجُّبِ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَكَّتْ وَجْهَهَا لَطَمَتْهُ.
وَأَصْلُ الصَّكِّ الضَّرْبُ، صَكَّهُ أَيْ ضَرَبَهُ، قَالَ
الرَّاجِزُ «2»:
يَا كَرَوَانًا صُكَّ فَاكْبَأَنَّا
قَالَ الْأُمَوِيُّ: كَبَنَ الظَّبْيُ إِذَا لَطَأَ
بِالْأَرْضِ وَاكْبَأَنَّ انْقَبَضَ. (وَقالَتْ عَجُوزٌ
عَقِيمٌ) أَيْ أَتَلِدُ عَجُوزٌ عقيم. الزجاج: أي قالت أَنَا
عَجُوزٌ عَقِيمٌ فَكَيْفَ أَلِدُ، كَمَا قَالَتْ: (يا وَيْلَتى
أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) «3». (قالُوا كَذلِكَ) أَيْ كَمَا
قُلْنَا لَكِ وَأَخْبَرْنَاكِ (قالَ رَبُّكِ) فَلَا تَشُكِّي
فِيهِ، وَكَانَ بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالْوِلَادَةِ سَنَةٌ،
وَكَانَتْ سَارَّةُ لَمْ تَلِدْ قَبْلَ ذَلِكَ فَوَلَدَتْ
وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَإِبْرَاهِيمُ
يَوْمَئِذٍ ابْنَ مِائَةِ سَنَةٍ وَقَدْ مَضَى هَذَا. (إِنَّهُ
هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) حَكِيمٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ
عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ خلقه.
[سورة الذاريات (51): الآيات 31 الى 37]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا
إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ
عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ
الْأَلِيمَ (37)
__________
(1). ويروى فألحقنا والبيت من معلقته، والهاديات أوائل بقر
الوحش، وجواحرها متخلفاتها، ولم تزيل، أي لم تتفرق، يقول: لما
لحق هذا الفرس أوائل بقر الوحش بقيت أواخرها لم تتفرق. [ .....
]
(2). هو مدرك بن حصن. وتمامه:
فشن بالسلح فلما شنا
(3). راجع ج 9 ص 69
(17/47)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ فَما خَطْبُكُمْ
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) لَمَّا تَيَقَّنَ إِبْرَاهِيمُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ بِإِحْيَاءِ
الْعِجْلِ وَالْبِشَارَةِ قَالَ لَهُمْ: (فَما خَطْبُكُمْ)
أَيْ مَا شَأْنُكُمْ وَقِصَّتُكُمْ (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)
(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يُرِيدُ
قَوْمَ لُوطٍ. (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ)
أَيْ لِنَرْجُمَهُمْ بِهَا. (مُسَوَّمَةً) أَيْ مُعَلَّمَةً.
قِيلَ: كَانَتْ مُخَطَّطَةً بِسَوَادٍ وَبَيَاضٍ. وَقِيلَ:
بِسَوَادٍ وَحُمْرَةٍ. وَقِيلَ: (مُسَوَّمَةً) أَيْ
مَعْرُوفَةٌ بِأَنَّهَا حِجَارَةُ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: عَلَى
كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَنْ يَهْلِكُ بِهِ. وَقِيلَ: عَلَيْهَا
أَمْثَالُ الْخَوَاتِيمِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلُّهُ فِي
(هُودٍ) 1. فَجُعِلَتِ الْحِجَارَةُ تَتْبَعُ مُسَافِرِيهِمْ
وَشُذَّاذِهِمْ فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ. (عِنْدَ
رَبِّكَ) أَيْ عِنْدَ اللَّهِ وَقَدْ أَعَدَّهَا لِرَجْمِ مَنْ
قَضَى بِرَجْمِهِ. ثُمَّ قِيلَ: كَانَتْ مَطْبُوخَةً طَبْخَ
الْآجُرِّ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ
تَعَالَى: (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ فِي (هُودٍ). وَقِيلَ: هِيَ الْحِجَارَةُ الَّتِي
نَرَاهَا وَأَصْلُهَا طِينٌ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ حِجَارَةً
بِإِحْرَاقِ الشَّمْسِ إِيَّاهَا عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ.
وَإِنَّمَا قَالَ: (مِنْ طِينٍ) لِيُعْلَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ
حِجَارَةَ الْمَاءِ الَّتِي هِيَ الْبَرَدُ. حَكَاهُ
الْقُشَيْرِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ
فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ لَمَّا أَرَدْنَا إِهْلَاكَ
قَوْمِ لُوطٍ أَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِي قَوْمِهِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلَّا يَهْلِكَ الْمُؤْمِنُونَ، وَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) 1. (فَما وَجَدْنا
فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يَعْنِي لُوطًا
وَبِنْتَيْهِ وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا
غَيْرَ أَهْلِ بَيْتٍ. وَقَدْ يُقَالُ بَيْتٌ شَرِيفٌ يُرَادُ
بِهِ الْأَهْلُ. وَقَوْلُهُ: (فِيها) كِنَايَةٌ عَنِ
الْقَرْيَةِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ، لِأَنَّ
الْمَعْنَى مَفْهُومٌ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا
أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يَدُلُّ عَلَى
الْقَرْيَةِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يَسْكُنُونَ
قَرْيَةً. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِيهَا للجماعة. والمؤمنون
والمسلمون ها هنا سَوَاءٌ فَجَنَّسَ اللَّفْظَ لِئَلَّا
يَتَكَرَّرَ، كَمَا قَالَ: ِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي
إِلَى اللَّهِ)
«1». وَقِيلَ: الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ،
وَالْإِسْلَامُ الِانْقِيَادُ بِالظَّاهِرِ، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ
مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا. فَسَمَّاهُمْ فِي
الْآيَةِ الْأُولَى مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ
إِلَّا وَهُوَ مُسْلِمٌ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا
الْمَعْنَى فِي (الْبَقَرَةِ) «2» وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ:
(قالَتِ الْأَعْرابُ)
__________
(1). راجع ج 9 ص 82 وص 79 وص 215.
(2). (راجع ج 1 ص 193
(17/48)
وَفِي مُوسَى إِذْ
أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ
وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) يَدُلُّ
عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَهُوَ
مُقْتَضَى حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) أَيْ عِبْرَةً
وَعَلَامَةً لِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ،
نَظِيرُهُ: (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) «1». ثُمَّ قِيلَ: الْآيَةُ
الْمَتْرُوكَةُ نَفْسُ الْقَرْيَةِ) الْخَرِبَةِ. وَقِيلَ:
الْحِجَارَةُ الْمَنْضُودَةُ الَّتِي رُجِمُوا بِهَا هِيَ
الْآيَةُ. (لِلَّذِينَ يَخافُونَ) لأنهم المنتفعون «2».
[سورة الذاريات (51): الآيات 38 الى 40]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي
الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي مُوسى) أَيْ وَتَرَكْنَا أَيْضًا
فِي قِصَّةِ مُوسَى آيَةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ
مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) (وَفِي
مُوسى). (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ) أَيْ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ وَهِيَ الْعَصَا. وَقِيلَ:
أَيْ بِالْمُعْجِزَاتِ مِنَ الْعَصَا وَغَيْرِهَا. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أَيْ فِرْعَوْنُ أَعْرَضَ
عَنِ الْإِيمَانِ (بِرُكْنِهِ) أي بمجموعة وَأَجْنَادِهِ،
قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ «3» شَدِيدٍ)
يَعْنِي الْمَنَعَةَ وَالْعَشِيرَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَقَتَادَةُ: بِقُوَّتِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
فَمَا أَوْهَى مِرَاسُ الْحَرْبِ رُكْنِي ... وَلَكِنْ مَا
تَقَادَمَ مِنْ زَمَانِي «4»
وَقِيلَ: بِنَفْسِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: بِجَانِبِهِ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) «5»
(وَقَالَهُ الْمُؤَرِّجُ. الْجَوْهَرِيُّ: وَرُكْنُ الشَّيْءِ
جَانِبُهُ الْأَقْوَى، وَهُوَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ
أَيْ عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ. الْقُشَيْرِيُّ: وَالرُّكْنُ جَانِبُ
الْبَدَنِ. وَهَذَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الاعراض
عن الشيء.
__________
(1). راجع ج 13 ص 343.
(2). في ح (المشفقون).
(3). راجع ج 9 ص 78.
(4). في رواية: ولا وصلت ال يد الزمان.
(5). راجع ج 10 ص 321.
(17/49)
وَفِي عَادٍ إِذْ
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ
مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ
(42)
(وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (أَوْ)
بِمَعْنَى الْوَاوِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوهُمَا جَمِيعًا.
قَالَهُ الْمُؤَرِّجُ وَالْفَرَّاءُ، وَأَنْشَدَ بَيْتَ
جَرِيرٌ:
أَثَعْلَبَةَ الْفَوَارِسِ أَوْ رِيَاحًا ... عَدَلْتَ بِهِمْ
طُهَيَّةَ وَالْخِشَابَا «1»
وَقَدْ تُوضَعُ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) «2»
وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَانْكِحُوا
مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) وقد
تقدم جميع هذا «3».َأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ)
لكفرهم وتوليهم عن الايمان. َنَبَذْناهُمْ)
أي طرحناهمِ ي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ)
يَعْنِي فِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُ أَتَى ما يلام عليه.
[سورة الذاريات (51): الآيات 41 الى 42]
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ
(41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ
جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي عادٍ) أَيْ وَتَرَكْنَا فِي عَادٍ
آيَةً لِمَنْ تَأَمَّلَ. (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ) وَهِيَ الَّتِي لَا تُلْقِحُ سَحَابًا وَلَا
شَجَرًا، وَلَا رَحْمَةَ فِيهَا وَلَا بَرَكَةَ وَلَا
مَنْفَعَةَ، وَمِنْهُ امْرَأَةٌ عَقِيمٌ لَا تَحْمِلُ وَلَا
تَلِدُ. ثُمَّ قِيلَ: هِيَ الجنوب. روى ابن أبي ذئب عن الحرث
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الرِّيحَ الْعَقِيمَ الْجَنُوبُ
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ الدَّبُورُ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نُصِرْتُ
بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ). وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: هِيَ النَّكْبَاءُ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ:
مَسْكَنُهَا الْأَرْضُ الرَّابِعَةُ وَمَا فُتِحَ عَلَى عَادٍ
مِنْهَا إِلَّا كَقَدْرِ مَنْخَرِ الثَّوْرِ. وَرَوَى ابْنُ
أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا أَنَّهَا الصَّبَا،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا تَذَرُ مِنْ
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أَيْ
كَالشَّيْءِ الْهَشِيمِ، يُقَالُ لِلنَّبْتِ إِذَا يَبِسَ
وَتَفَتَّتَ: رَمِيمٌ وَهَشِيمٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
كَالشَّيْءِ الْهَالِكِ الْبَالِي، وَقَالَهُ مجاهد. ومنه قول
الشاعر «4»:
__________
(1). طهية- كسمية-: حي من تميم نسبوا إلى أمهم، والخشاب: بطون
من تميم أيضا.
(2). راجع ج 19 ص (147)
(3). راجع ج 5 ص (17)
(4). هو جرير يرثى ابنه.
(17/50)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ
قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا
كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
تَرَكْتَنِي حِينَ كَفَّ الدَّهْرُ مِنْ
بَصَرِي ... وَإِذْ بَقِيتُ كَعَظْمِ الرِّمَّةِ الْبَالِي
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ الَّذِي دِيسَ مِنْ يَابِسِ
النَّبَاتِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ:
كَالتُّرَابِ الْمَدْقُوقِ. قُطْرُبٌ: الرَّمِيمُ الرَّمَادُ.
وَقَالَ يَمَانٌ: مَا رَمَتْهُ الْمَاشِيَةُ مِنَ الْكَلَإِ
بِمِرَمَّتِهَا. وَيُقَالُ لِلشَّفَةِ الْمِرَمَّةُ
وَالْمِقَمَّةُ بِالْكَسْرِ، وَالْمَرَمَّةِ بِالْفَتْحِ
لُغَةٌ فِيهِ. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ رَمَّ الْعَظْمُ
إِذَا بَلِيَ، تَقُولُ مِنْهُ: رَمَّ الْعَظْمُ يَرِمُّ
بِالْكَسْرِ رِمَّةً فَهُوَ رَمِيمٌ، قَالَ [الشَّاعِرُ «1»]:
وَرَأَى عَوَاقِبَ خُلْفِ ذَاكَ مَذَمَّةً ... تَبْقَى
عَلَيْهِ وَالْعِظَامُ رَمِيمُ
وَالرِّمَّةُ بِالْكَسْرِ الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ وَالْجَمْعُ
رِمَمٌ وَرِمَامٌ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: (تُدَمِّرُ
كُلَّ شَيْءٍ) حسب ما»
تقدم.
[سورة الذاريات (51): الآيات 43 الى 45]
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ
(43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ
قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي ثَمُودَ) أَيْ وَفِيهِمْ أَيْضًا
عِبْرَةٌ وَآيَةٌ حِينَ قِيلَ لَهُمْ عِيشُوا مُتَمَتِّعِينَ
بِالدُّنْيَا (حَتَّى حِينٍ) أَيْ إِلَى وَقْتِ الْهَلَاكِ
وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ كَمَا فِي هُودٍ: «3» (تَمَتَّعُوا
فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ). وَقِيلَ: مَعْنَى
(تَمَتَّعُوا) أَيْ أَسْلِمُوا وَتَمَتَّعُوا إِلَى وَقْتِ
فَرَاغِ آجَالِكُمْ. (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أَيْ
خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أَيِ الْمَوْتُ. وَقِيلَ: هِيَ
كُلُّ عَذَابٍ مُهْلِكٍ. قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ:
كُلُّ صَاعِقَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الْعَذَابُ. وَقَرَأَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ
وَمُجَاهِدٌ وَالْكِسَائِيُّ (الصَّعْقَةُ) يُقَالُ صُعِقَ
الرَّجُلُ صَعْقَةً وَتَصْعَاقًا أَيْ غُشِيَ عَلَيْهِ.
وَصَعَقَتْهُمُ السَّمَاءُ «4» أَيْ أَلْقَتْ عَلَيْهِمُ
الصَّاعِقَةَ. وَالصَّاعِقَةُ أَيْضًا صَيْحَةُ الْعَذَابِ
وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ) «5» وَغَيْرِهَا. (وَهُمْ
يَنْظُرُونَ) إِلَيْهَا نَهَارًا. (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ
قِيامٍ) قيل: معناه
__________
(1). من ن. [ ..... ]
(2). راجع ج 16 ص 206.
(3). راجع ج 9 ص 60.
(4). في ح، ز، ل، ن: (إذا ألقت).
(5). راجع ج 1 ص 219.
(17/51)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
(47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (49)
مِنْ نُهُوضٍ. وَقِيلَ: مَا أَطَاقُوا أَنْ
يَسْتَقِلُّوا بِعَذَابِ اللَّهِ وَأَنْ يَتَحَمَّلُوهُ
وَيَقُومُوا بِهِ وَيَدْفَعُوهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، تَقُولُ:
لَا أَقُومُ لِهَذَا الْأَمْرِ أَيْ لَا أُطِيقُهُ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ ذَهَبَتْ أَجْسَامُهُمْ وَبَقِيَتْ
أَرْوَاحُهُمْ فِي الْعَذَابِ. (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ)
أَيْ مُمْتَنِعِينَ مِنَ الْعَذَابِ حِينَ أهلكوا، أي ما كان
لهم ناصر.
[سورة الذاريات (51): آية 46]
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً
فاسِقِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) قَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو (وَقَوْمِ نُوحٍ)
بِالْخَفْضِ، أَيْ وَفِي قَوْمِ نُوحٍ آيَةٌ أَيْضًا.
الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى وَأَهْلَكْنَا قَوْمَ
نُوحٍ، أَوْ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي
(فَأَخَذَتْهُمُ) أَوِ الْهَاءِ فيَ أَخَذْناهُ)
أَيْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وأخذت قوم نوح،
أوَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ)
وَنَبَذْنَا قَوْمَ نُوحٍ، أَوْ يَكُونُ بمعنى اذكر.
[سورة الذاريات (51): الآيات 47 الى 49]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ
كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(49)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) لَمَّا
بَيَّنَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَالَ: وَفِي السَّمَاءِ آيَاتٌ
وَعِبَرٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّانِعَ قَادِرٌ عَلَى
الْكَمَالِ، فَعَطَفَ أَمْرَ السَّمَاءِ عَلَى قِصَّةِ قَوْمِ
نُوحٍ لِأَنَّهُمَا آيَتَانِ. وَمَعْنَى (بِأَيْدٍ) أَيْ
بِقُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
(وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَادِرُونَ.
وَقِيلَ: أَيْ وَإِنَّا لَذُو سَعَةٍ، وَبِخَلْقِهَا وَخَلْقِ
غَيْرِهَا لَا يضيق علينا شي نُرِيدُهُ. وَقِيلَ: أَيْ
وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ الرِّزْقَ عَلَى خَلْقِنَا. عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَيْضًا. الْحَسَنُ: وَإِنَّا لَمُطِيقُونَ. وَعَنْهُ
أَيْضًا: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ الرِّزْقَ بِالْمَطَرِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَغْنَيْنَاكُمْ، دَلِيلُهُ: (عَلَى
الْمُوسِعِ «1» قَدَرُهُ). وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: ذُو سَعَةٍ
عَلَى خَلْقِنَا. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقِيلَ:
جَعَلْنَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ سَعَةً.
الْجَوْهَرِيُّ: وَأَوْسَعَ الرَّجُلُ أَيْ صَارَ ذَا سَعَةٍ
وَغِنًى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّماءَ بَنَيْناها
بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أَيْ أَغْنِيَاءُ قَادِرُونَ.
فَشَمَلَ جَمِيعَ الأقوال. (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها)
__________
(1). راجع ج 3 ص 203
(17/52)
فَفِرُّوا إِلَى
اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا
تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
(53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
أَيْ بَسَطْنَاهَا كَالْفِرَاشِ عَلَى
وَجْهِ الْمَاءِ وَمَدَدْنَاهَا. (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أَيْ
فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ نَحْنُ لَهُمْ «1». وَالْمَعْنَى فِي
الْجَمْعِ التَّعْظِيمُ، مَهَّدْتُ الْفِرَاشَ مَهْدًا
بَسَطْتُهُ وَوَطَّأْتُهُ، وَتَمْهِيدُ الْأُمُورِ تسويتها
وإصلاحها. قولع تَعَالَى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا
زَوْجَيْنِ) أَيْ صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ ذَكَرًا وَأُنْثَى وَحُلْوًا
وَحَامِضًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى، وَالسَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ، وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالنُّورَ
وَالظَّلَامَ، وَالسَّهْلَ وَالْجَبَلَ، وَالْجِنَّ
وَالْإِنْسَ، وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَالْبُكْرَةَ
وَالْعَشِيَّ، وَكَالْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الا لو ان
مِنَ الطُّعُومِ وَالْأَرَايِيحِ وَالْأَصْوَاتِ. أَيْ
جَعَلْنَا هَذَا كَهَذَا دَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِنَا، وَمَنْ
قَدَرَ عَلَى هَذَا فَلْيَقْدِرْ عَلَى الْإِعَادَةِ. وَقِيلَ:
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) لِتَعْلَمُوا أَنَّ
خَالِقَ الْأَزْوَاجِ فَرْدٌ، فَلَا يُقَدَّرُ فِي صِفَتِهِ
حَرَكَةٌ وَلَا سُكُونٌ، وَلَا ضِيَاءٌ وَلَا ظَلَامٌ، وَلَا
قُعُودٌ وَلَا قِيَامٌ، وَلَا ابْتِدَاءٌ وَلَا انْتِهَاءٌ،
إِذْ هُوَ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ «2»
شَيْءٌ.) لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
[سورة الذاريات (51): الآيات 50 الى 55]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ
(50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
(52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
(قَوْلُهُ تَعَالَى:) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) لَمَّا تَقَدَّمَ مَا جَرَى مِنْ
تَكْذِيبِ أُمَمِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَإِهْلَاكِهِمْ،
لِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، أَيْ قُلْ
لِقَوْمِكَ: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ مُبِينٌ) أَيْ فِرُّوا مِنْ مَعَاصِيهِ إِلَى
طَاعَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِرُّوا إِلَى اللَّهِ
بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ. وَعَنْهُ فِرُّوا مِنْهُ
إِلَيْهِ وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ:
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) اخرجوا إلى مكة. وقال الحسين
__________
(1). لفظة (لهم) ساقطة من ز.
(2). راجع ج 16 ص 8
(17/53)
ابن الفضل: احترزوا من كل شي دُونَ اللَّهِ
فَمَنْ فَرَّ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْهُ. وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: فِرُّوا مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ
إِلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الشَّيْطَانُ
دَاعٍ إِلَى الْبَاطِلِ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ يَمْنَعُكُمْ
مِنْهُ. وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: فَفِرُّوا مِنَ
الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ، وَمِنَ الْكُفْرِ إِلَى الشُّكْرِ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: فِرُّوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ
إِلَى رَبِّكُمْ. وَقَالَ أَيْضًا: فِرُّوا إِلَى مَا سَبَقَ
لَكُمْ مِنَ اللَّهِ وَلَا تَعْتَمِدُوا عَلَى حَرَكَاتِكُمْ.
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فِرُّوا مِمَّا سِوَى
اللَّهِ إِلَى اللَّهِ. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ
مُبِينٌ) أَيْ أُنْذِرُكُمْ عقابه على الكفر والمعصية. قوله
تعالى: (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أَمَرَ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ
هَذَا لِلنَّاسِ وَهُوَ النَّذِيرُ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ
مِنَ اللَّهِ لِلْخَلْقِ. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) أَيْ مِنْ
مُحَمَّدٍ وَسُيُوفِهِ (نَذِيرٌ) أَيْ أُنْذِرُكُمْ بَأْسَهُ
وَسَيْفَهُ إِنْ أَشْرَكْتُمْ بِي، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ تَعَالِى: (كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ) هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ كَمَا كَذَّبَكَ قَوْمُكَ
وَقَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، كَذَّبَ مَنْ قَبْلَهُمْ
وَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ. وَالْكَافُ مِنْ (كَذلِكَ)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَصْبًا عَلَى تَقْدِيرِ أُنْذِرُكُمْ
إِنْذَارًا كَإِنْذَارِ مَنْ تَقَدَّمَنِي مِنَ الرُّسُلِ
الَّذِينَ أَنْذَرُوا قَوْمَهُمْ، أَوْ رَفْعًا عَلَى
تَقْدِيرِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَيْ كَالْأَوَّلِ. وَالْأَوَّلُ
تَخْوِيفٌ لِمَنْ عَصَاهُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَالثَّانِي
لِمَنْ أَشْرَكَ بِهِ مِنَ الْمُلْحِدِينَ. وَالتَّمَامُ عَلَى
قَوْلِهِ: (كَذلِكَ) عَنْ يَعْقُوبَ وَغَيْرِهِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (أَتَواصَوْا بِهِ) أَيْ أَوْصَى أَوَّلُهُمْ
آخِرَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ. وَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ،
وَالْأَلِفُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّعَجُّبِ. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ
طاغُونَ) أَيْ لَمْ يُوصِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَلْ جَمَعَهُمُ
الطُّغْيَانُ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْكُفْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أَيْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَاصْفَحْ عَنْهُمْ (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) عِنْدَ
اللَّهِ لِأَنَّكَ أَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ مِنْ تَبْلِيغِ
الرِّسَالَةِ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)
وَقِيلَ: نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ
الضَّحَّاكِ، لِأَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ
بِالْمَوْعِظَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أَيْ لَيْسَ
يَلُومُكَ
(17/54)
وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ
مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
(58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
رَبُّكَ عَلَى تَقْصِيرٍ كَانَ مِنْكَ
(وَذَكِّرْ) أَيْ بِالْعِظَةِ فَإِنَّ الْعِظَةَ (تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ). قَتَادَةُ: (وَذَكِّرْ) بِالْقُرْآنِ
(فَإِنَّ الذِّكْرى) بِهِ (تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). وَقِيلَ:
ذَكِّرْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ وَأَيَّامِ اللَّهِ. وَخَصَّ
الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمُ المنتفعون بها.
[سورة الذاريات (51): الآيات 56 الى 60]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ
يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو
الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ
(59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي
يُوعَدُونَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قِيلَ: إِنَّ هَذَا خَاصٌّ فِيمَنْ
سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَعْبُدُهُ، فَجَاءَ
بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَمَعْنَاهُ الْخُصُوصُ. وَالْمَعْنَى:
وَمَا خَلَقْتُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْآيَةُ
دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ عَلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ
الْمَجَانِينَ وَالصِّبْيَانَ مَا أُمِرُوا بِالْعِبَادَةِ
حَتَّى يُقَالَ أَرَادَ مِنْهُمُ الْعِبَادَةَ، وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) «1» وَمَنْ خُلِقَ لِجَهَنَّمَ لَا
يَكُونُ مِمَّنْ خُلِقَ لِلْعِبَادَةِ، فَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) «2» وَإِنَّمَا قَالَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ. ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ
وَالْقُتَبِيُّ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ) وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيْ
وما خلقت الجن ولأنس إِلَّا لِآمُرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ.
وَاعْتَمَدَ الزَّجَّاجُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) «3». فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ
كَفَرُوا وَقَدْ خَلَقَهُمْ لِلْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ
وَالتَّذَلُّلِ لِأَمْرِهِ ومشيئته؟ قيل: تَذَلَّلُوا
لِقَضَائِهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ قَضَاءَهُ جَارٍ عَلَيْهِمْ
لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا
خَالَفَهُمْ مَنْ كَفَرَ فِي الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ،
فَأَمَّا التَّذَلُّلُ لِقَضَائِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ
مُمْتَنِعٍ مِنْهُ. وَقِيلَ: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أَيْ
إِلَّا لِيُقِرُّوا لِي بالعبادة طوعا أو كرها، رواه علي ابن
أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَالْكَرْهُ مَا يُرَى
فِيهِمْ مِنْ أَثَرِ الصَّنْعَةِ. مُجَاهِدٌ: إِلَّا ليعرفوني.
__________
(1). راجع ج 7 ص (324)
(2). راجع ج 16 ص (348)
(3). راجع ج 8 ص 119
(17/55)
الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ،
لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمَا عُرِفَ وُجُودُهُ
وَتَوْحِيدُهُ. وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ «1» اللَّهُ) (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ
الْعَلِيمُ) «2» وَمَا أَشْبَهُ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ. وَعَنْ
مُجَاهِدٍ أَيْضًا: إِلَّا لِآمُرَهُمْ وَأَنْهَاهُمْ. زَيْدُ
بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّقْوَةِ
وَالسَّعَادَةِ، فَخَلَقَ السُّعَدَاءَ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ لِلْعِبَادَةِ، وَخَلَقَ الْأَشْقِيَاءَ مِنْهُمْ
لِلْمَعْصِيَةِ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ أَيْضًا: إِلَّا
لِيُوَحِّدُونِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُوَحِّدُهُ فِي
الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُوَحِّدُهُ
فِي الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ دُونَ النِّعْمَةِ وَالرَّخَاءِ،
يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا غَشِيَهُمْ
مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) «3» الْآيَةَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ وَيُطِيعُونِ فَأُثِيبَ الْعَابِدَ وَأُعَاقِبَ
الْجَاحِدَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِلَّا لِأَسْتَعْبِدَهُمْ.
وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، تَقُولُ: عَبْدٌ بَيِّنٌ
الْعُبُودَةَ وَالْعُبُودِيَّةَ، وَأَصْلُ الْعُبُودِيَّةِ
الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ. وَالتَّعْبِيدُ التَّذْلِيلُ، يُقَالُ:
طَرِيقٌ معبد. قال «4»:
وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدٍ
وَالتَّعْبِيدُ الِاسْتِعْبَادُ وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَهُ
عَبْدًا. وَكَذَلِكَ الِاعْتِبَادُ. وَالْعِبَادَةُ:
الطَّاعَةُ، وَالتَّعَبُّدُ التَّنَسُّكُ. فَمَعْنَى
(لِيَعْبُدُونِ) لِيَذِلُّوا وَيَخْضَعُوا وَيَعْبُدُوا. (مَا
أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) (مِنْ) صِلَةٌ أَيْ رِزْقًا
بَلْ أَنَا الرَّزَّاقُ وَالْمُعْطِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَأَبُو الْجَوْزَاءِ: أَيْ مَا أُرِيدُ أَنْ يَرْزُقُوا
أَنْفُسَهُمْ وَلَا أَنْ يُطْعِمُوهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
مَا أُرِيدُ أَنْ يَرْزُقُوا عِبَادِيَ وَلَا أَنْ
يُطْعِمُوهُمْ (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) وَقَرَأَ
ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَغَيْرُهُ (الرَّازِقُ). (ذُو الْقُوَّةِ
الْمَتِينُ) أَيِ الشَّدِيدُ الْقَوِيُّ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ
وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيُّ (الْمَتِينُ)
بِالْجَرِّ عَلَى النَّعْتِ لِلْقُوَّةِ. الْبَاقُونَ
بِالرَّفْعِ عَلَى النَّعْتِ لِ (الرَّزَّاقُ) أَوْ (ذُو) مِنْ
قَوْلِهِ: (ذُو الْقُوَّةِ) أَوْ يَكُونُ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ
مَحْذُوفٍ، أَوْ يَكُونُ نَعْتًا لِاسْمِ إِنَّ عَلَى
الْمَوْضِعِ، أَوْ خَبَرًا بَعْدَ خبر. قال الفراء: كان
__________
(1). راجع ج 16 ص 123 وص (64)
(2). راجع ج 16 ص 123 وص (64)
(3). راجع ج 14 ص (80)
(4). هو طرفة بن العبد، والبيت من معطقته وصدره:
تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت
الوظيف عظم الساق. وقوله أتبعت وظيفا وظيفا أي أتبعت وظيف يدها
وظيف رجلها، ويستحب من الناقة أن تجعل رجلها في موضع يدها إذا
سارت. والمور: الطريق. [ ..... ]
(17/56)
حَقُّهُ الْمَتِينَةُ فَذَكَرَهُ لِأَنَّهُ
ذَهَبَ بِهَا إِلَى الشَّيْءِ الْمُبْرَمِ الْمُحْكَمِ
الْفَتْلِ، يُقَالُ: حَبْلٌ مَتِينٌ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
لِكُلِّ دَهْرٍ قَدْ لَبِسْتُ أَثْوُبَا ... حَتَّى اكْتَسَى
الرَّأْسُ قِنَاعًا أَشْيَبَا
مِنْ رَيْطَةٍ وَالْيُمْنَةِ الْمُعَصَّبَا
فَذَكَرَ الْمُعَصَّبَ، لِأَنَّ الْيُمْنَةَ صِنْفٌ مِنَ
الثِّيَابِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ
جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) «1» أي وعظ (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ) «2» أَيِ الصِّيَاحُ وَالصَّوْتُ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أَيْ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ مَكَّةَ (ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أَيْ
نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ مِثْلَ نَصِيبِ الْكُفَّارِ مِنَ
الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
يُقَالُ يَوْمٌ ذَنُوبٌ أَيْ طَوِيلُ الشَّرِّ لَا يَنْقَضِي.
وَأَصْلُ الذَّنُوبِ فِي اللُّغَةِ الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ،
وَكَانُوا يَسْتَقُونَ الْمَاءَ فَيَقْسِمُونَ ذَلِكَ عَلَى
الْأَنْصِبَاءِ فَقِيلَ لِلذَّنُوبِ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا، قَالَ
الرَّاجِزُ:
لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوبٌ ... فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا
الْقَلِيبُ
وَقَالَ عَلْقَمَةُ:
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ
لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
وَقَالَ آخَرُ «3»:
لَعَمْرُكَ وَالْمَنَايَا طَارِقَاتٌ ... لِكُلِّ بَنِي أَبٍ
مِنْهَا ذَنُوبُ
الْجَوْهَرِيُّ: وَالذَّنُوبُ الْفَرَسُ الطَّوِيلُ الذَّنَبِ،
وَالذَّنُوبُ النَّصِيبُ، وَالذَّنُوبُ لَحْمٌ أَسْفَلَ
الْمَتْنِ، وَالذَّنُوبُ الدَّلْوُ الْمَلْأَى مَاءً. وَقَالَ
ابْنُ السِّكِّيتِ: فِيهَا مَاءٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمِلْءِ
يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ، وَلَا يُقَالُ لَهَا وَهِيَ فَارِغَةٌ
ذَنُوبٌ، وَالْجَمْعُ فِي أَدْنَى الْعَدَدِ أَذْنِبَةٌ
وَالْكَثِيرِ ذَنَائِبٌ، مِثْلُ قَلُوصٌ وَقَلَائِصُ. (فَلا
يَسْتَعْجِلُونِ) أَيْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ نُزُولَ
الْعَذَابِ بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ
(فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) «4»
فَنَزَلَ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مَا حَقَّقَ بِهِ وَعْدَهُ
وَعَجَّلَ بِهِمُ انْتِقَامَهُ، ثُمَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
الْعَذَابُ الدَّائِمُ، وَالْخِزْيُ الْقَائِمُ، الَّذِي لَا
انْقِطَاعَ لَهُ
__________
(1). راجع ج 3 ص (359)
(2). راجع ج 9 ص (61)
(3). قائله أبو ذؤيب.
(4). راجع ج 7 ص 237 وج 9 ص 27
(17/57)
|