تفسير القرطبي

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

[تفسير سورة القمر]
سُورَةُ الْقَمَرِ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) وَلَا يَصِحُّ عَلَى مَا يَأْتِي. وَهِيَ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ آيَةً.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القمر (54): الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (اقْتَرَبَتِ) أَيْ قَرُبَتْ مِثْلُ أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «1» (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. فَهِيَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا مَضَى قَرِيبَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى أَكْثَرُ الدُّنْيَا كَمَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ تَغِيبُ فَقَالَ: (مَا بَقِيَ مِنْ دُنْيَاكُمْ فِيمَا مَضَى إِلَّا مِثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ فِيمَا مَضَى) وَمَا نَرَى مِنَ الشَّمْسِ إِلَّا يَسِيرًا. وَقَالَ كَعْبٌ وَوَهْبٌ: الدُّنْيَا سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ. قَالَ وَهْبٌ: قَدْ مَضَى مِنْهَا خَمْسَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَسِتُّمِائَةِ سَنَةٍ. ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أَيْ وَقَدِ انْشَقَّ الْقَمَرُ. وَكَذَا قَرَأَ حُذَيْفَةُ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَقَدِ انْشَقَّ الْقَمَرُ) بِزِيَادَةِ (قَدْ) وَعَلَى هَذَا الْجُمْهُورُ مِنَ العلماء، ثبت ذلك في صحيح
__________
(1). راجع ص 122 من هذا الجزء. [ ..... ]

(17/125)


الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ فَنَزَلَتْ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) إِلَى قَوْلِهِ: (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) يَقُولُ ذَاهِبٌ قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حديث حسن صحيح. ولفظ البخاري عن أنسى قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ يَقَعِ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ بَعْدُ وَهُوَ مُنْتَظَرٌ، أَيِ اقْتَرَبَ قِيَامُ السَّاعَةِ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَأَنَّ السَّاعَةَ إِذَا قَامَتِ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْقَمَرِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَا قَالَ الْقُشَيْرِيُّ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا انْشَقَّ مَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا رَآهُ، لِأَنَّهُ آيَةٌ وَالنَّاسُ فِي الْآيَاتِ سَوَاءٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ فَإِذَا جَاءَتِ انْشَقَّ الْقَمَرُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. وَقِيلَ: (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أَيْ وَضَحَ الْأَمْرُ وَظَهَرَ، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ بِالْقَمَرِ مَثَلًا فِيمَا وَضَحَ، قَالَ:
أَقِيمُوا بَنِي أُمِّي صُدُورَ مَطِيِّكُمْ ... فَإِنِّي إِلَى حَيٍّ سِوَاكُمْ لَأَمْيَلُ
فَقَدْ حُمَّتِ الْحَاجَاتُ وَاللَّيْلُ مُقْمِرٌ ... وَشُدَّتْ لِطِيَّاتٍ مَطَايَا وَأَرْحُلُ
وَقِيلَ: انْشِقَاقُ الْقَمَرِ هُوَ انْشِقَاقُ «1» الظُّلْمَةِ عَنْهُ بِطُلُوعِهِ فِي أَثْنَائِهَا، كَمَا يُسَمَّى الصُّبْحُ فَلْقًا، لِانْفِلَاقِ الظُّلْمَةِ عَنْهُ. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ انْفِلَاقِهِ بِانْشِقَاقِهِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
فَلَمَّا أَدْبَرُوا وَلَهُمْ دَوِيٌّ ... دَعَانَا عِنْدَ شَقِّ الصُّبْحِ دَاعِ
قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ بِنَقْلِ الْآحَادِ الْعُدُولِ أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ بِمَكَّةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْتَوِيَ النَّاسُ فِيهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ آيَةً لَيْلِيَّةً، وَأَنَّهَا كَانَتْ بِاسْتِدْعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ التَّحَدِّي. فَرُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ أَسْلَمَ غَضَبًا مِنْ سَبِّ أَبِي جَهْلٍ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ أَنْ يُرِيَهُ آيَةً يَزْدَادُ بِهَا يَقِينًا فِي إِيمَانِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ هُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا وَطَلَبُوا أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ فِلْقَتَيْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ خَطَبَ بِالْمَدَائِنِ ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنَّ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَأَنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ قِيلَ: هُوَ على
__________
(1). في تفسير الجمل نقلا عن القرطبي: (زوال الظلمة).

(17/126)


التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَتَقْدِيرُهُ انْشَقَّ الْقَمَرُ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقَدْ مَرَّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ إِذَا كَانَا مُتَقَارِبَيِ الْمَعْنَى فَلَكَ أَنْ تُقَدِّمَ وَتُؤَخِّرَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) «1». قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوُا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَاشْقُقْ لَنَا الْقَمَرَ فِرْقَتَيْنِ، نِصْفٌ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَنِصْفٌ عَلَى قُعَيْقِعَانَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ فَعَلْتُ تُؤْمِنُونَ) قَالُوا: نَعَمْ؟ وَكَانَتْ لَيْلَةَ بَدْرٍ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا قَالُوا، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْنِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي الْمُشْرِكِينَ: (يَا فُلَانُ يَا فُلَانُ اشْهَدُوا). وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا مِنْ سِحْرِ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، سَحَرَكُمْ فَاسْأَلُوا السُّفَّارَ، فَسَأَلُوهُمْ فَقَالُوا: قَدْ رَأَيْنَا الْقَمَرَ انْشَقَّ فَنَزَلَتْ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) أَيْ إِنْ يَرَوْا آيَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضُوا عَنْ الْإِيمَانِ (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أَيْ ذَاهِبٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَّ الشَّيْءُ وَاسْتَمَرَّ إِذَا ذَهَبَ، قَالَهُ أَنَسٌ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ: مُحْكَمٌ قَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَهُوَ مِنَ الْمِرَّةِ وَهِيَ الْقُوَّةُ، كَمَا قَالَ لَقِيطٌ:
حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ ... مُرُّ الْعَزِيمَةِ لَا [قَحْمًا «2»] وَلَا ضَرَعَا
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ إِمْرَارِ الْحَبْلِ وَهُوَ شِدَّةُ فَتْلِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُرٌّ مِنَ الْمَرَارَةِ. يُقَالُ: أَمَرَّ الشَّيْءَ صَارَ مُرًّا، وَكَذَلِكَ مَرَّ الشَّيْءُ [يَمُرُّ] بِالْفَتْحِ مَرَارَةٌ فَهُوَ مُرٌّ، وَأَمَرَّهُ غَيْرُهُ وَمَرَّهُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: مُسْتَمِرٌّ نَافِذٌ. يَمَانٌ: مَاضٍ. أَبُو عُبَيْدَةَ: بَاطِلٌ. وَقِيلَ: دَائِمٌ. قال «3»:
وليس على شي قويم بمستمر
__________
(1). راجع ص 89 من هذا الجزء.
(2). راجع هامش ص 86 من هذا الجزء في شرح البيت.
(3). البيت لامرى القيس وصدره:
الا انما الدنيا ليال وأعصر

(17/127)


أَيْ بِدَائِمٍ. وَقِيلَ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، أَيْ قَدِ اسْتَمَرَّتْ أَفْعَالُ مُحَمَّدٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا يَأْتِي بِشَيْءٍ لَهُ حَقِيقَةٌ بَلِ الْجَمِيعُ تَخْيِيلَاتٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَدْ مَرَّ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ. (وَكَذَّبُوا) نَبِيَّنَا (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أَيْ ضَلَالَاتَهُمْ وَاخْتِيَارَاتَهُمْ. (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أَيْ يَسْتَقِرُّ بِكُلِّ عَامِلٍ عَمِلَهُ، فَالْخَيْرُ مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّرُّ مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ فِي النَّارِ. وَقَرَأَ شيبة (مستقر) بفتح القاف، أي لكل شي وَقْتٌ يَقَعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَالرَّاءِ جَعَلَهُ نَعْتًا لِأَمْرٍ وَ (كُلُّ) عَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ كَائِنٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالْعَطْفِ عَلَى السَّاعَةِ، الْمَعْنَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ، أَيِ اقْتَرَبَ اسْتِقْرَارُ الْأُمُورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ رَفَعَهُ جَعَلَهُ خَبَرًا عَنْ (كُلُّ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أَيْ مِنْ بَعْضِ الْأَنْبَاءِ، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ لَهُمْ فِيهِ شِفَاءٌ. وَقَدْ كَانَ هُنَاكَ أُمُورٌ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اقْتَصَّ عَلَيْنَا مَا عَلِمَ أَنَّ بِنَا إِلَيْهِ حَاجَةً وَسَكَتَ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أَيْ جَاءَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ (مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أَيْ مَا يَزْجُرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ لَوْ قَبِلُوهُ. وَأَصْلُهُ مُزْتَجَرٌ فَقُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا، لِأَنَّ التَّاءَ حَرْفٌ مَهْمُوسٌ وَالزَّايُ حَرْفٌ مَجْهُورٌ، فَأُبْدِلَ مِنَ التَّاءِ دَالًا تُوَافِقُهَا فِي الْمَخْرَجِ وَتُوَافِقُ الزَّايَ فِي الْجَهْرِ. وَ (مُزْدَجَرٌ) مِنَ الزَّجْرِ وَهُوَ الِانْتِهَاءُ، يُقَالُ: زَجَرَهُ وَازْدَجَرَهُ فَانْزَجَرَ وَازْدَجَرَ، وَزَجَرْتُهُ أَنَا فَانْزَجَرَ أَيْ كَفَفْتُهُ فَكَفَّ، كَمَا قَالَ:
فَأَصْبَحَ مَا يَطْلُبُ الْغَانِيَا ... تُ مُزْدَجَرًا عن هواه ازدجارا
وقرى (مُزَّجَرٌ) بِقَلْبِ تَاءِ الِافْتِعَالِ زَايًا وَإِدْغَامِ الزَّايِ فِيهَا، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) يَعْنِي الْقُرْآنَ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: (مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ). وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ حِكْمَةٌ. (فَما تُغْنِ النُّذُرُ)

(17/128)


إِذَا كَذَّبُوا وَخَالَفُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) «1» ف (فَما) نَفْيٌ أَيْ لَيْسَتْ تُغْنِي عَنْهُمُ النُّذُرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ، أَيْ فَأَيُّ شي تُغْنِي النُّذُرُ عَنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهَا. وَ (النُّذُرُ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَمْعُ نَذِيرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: هُوَ تَمَامُ الْكَلَامِ. ثُمَّ قال: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) الْعَامِلُ فِي (يَوْمَ) (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أَوْ (خُشَّعاً) أَوْ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرْ يَوْمَ. وَقِيلَ: عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْفَاءِ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ مِنْ جَوَابِ الْأَمْرِ، تَقْدِيرُهُ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي. وَقِيلَ: تَوَلَّ عَنْهُمْ يَا مُحَمَّدُ فَقَدْ أَقَمْتَ الْحُجَّةَ وَأَبْصِرْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي. وَقِيلَ: أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا تَسْأَلْ عَنْهُمْ وَعَنْ أَحْوَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) وَيَنَالُهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ. وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: لَا تَسْأَلُ عَمَّا جَرَى عَلَى فُلَانٍ إِذَا أَخْبَرْتُهُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ. وقيل: أي وكل أمر مستقر يوم يدعوا الدَّاعِي. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (نُكْرٌ) بِإِسْكَانِ الْكَافِ، وَضَمَّهَا الْبَاقُونَ وَهُمَا لُغَتَانِ كَعُسْرٍ وَعُسُرٍ وَشُغْلٍ وَشُغُلٍ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ الْفَظِيعُ الْعَظِيمُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالدَّاعِي هُوَ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ روي عن مجاهد وقتادة أنهما قرءا (إِلَى شَيْءٍ نُكِرَ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ. (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) الْخُشُوعُ فِي الْبَصَرِ الْخُضُوعُ وَالذِّلَّةُ، وَأَضَافَ الْخُشُوعَ إِلَى الْأَبْصَارِ لِأَنَّ أَثَرَ الْعِزِّ وَالذُّلِّ يَتَبَيَّنُ فِي نَاظِرِ الْإِنْسَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) «2» وَقَالَ تَعَالَى: (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) «3». وَيُقَالُ: خَشَعَ وَاخْتَشَعَ إِذَا ذَلَّ. وَخَشَعَ بِبَصَرِهِ أَيْ غَضَّهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو (خَاشِعًا) بِالْأَلِفِ وَيَجُوزُ فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ التَّوْحِيدُ، نَحْوُ: (خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ) وَالتَّأْنِيثُ نَحْوُ: (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) «4» وَيَجُوزُ الْجَمْعُ نحو: (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) قال «5»:
وَشَبَابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بن معد
__________
(1). راجع ج 8 ص (386)
(2). راجع ج 19 ص (194)
(3). راجع ج 15 ص 45.
(4). راجع ج 18 ص (248)
(5). هو الحرث بن دوس الايادي، ويروى لابي دواد الايادي.

(17/129)


كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

وَ (خُشَّعاً) جَمْعُ خَاشِعٍ وَالنَّصْبُ فِيهِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي (عَنْهُمْ) فَيَقْبُحُ الْوَقْفُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عَلَى (عَنْهُمْ). وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُضْمَرِ فِي (يَخْرُجُونَ) فيوقف على (عَنْهُمْ). وقرى (خُشَّعٌ أَبْصَارُهُمْ) عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، كَقَوْلِهِ: [
وَجَدْتُهُ «1» [حَاضِرَاهُ الْجُودُ وَالْكَرَمُ

(يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أَيِ الْقُبُورُ وَاحِدُهَا جدث. (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ). وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) «2» فَهُمَا صِفَتَانِ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَحَدُهُمَا- عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ، يَخْرُجُونَ فَزِعِينَ لَا يَهْتَدُونَ أَيْنَ يَتَوَجَّهُونَ، فَيَدْخُلُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَهُمْ حِينَئِذٍ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ لَا جِهَةَ لَهُ يَقْصِدُهَا] الثَّانِي «3» [- فَإِذَا سَمِعُوا الْمُنَادِيَ قَصَدُوهُ فَصَارُوا كَالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ، لِأَنَّ الْجَرَادَ لَهُ جِهَةٌ يَقْصِدُهَا. وَ (مُهْطِعِينَ) مَعْنَاهُ مُسْرِعِينَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ:
بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ «4» وَلَقَدْ أَرَاهُمْ ... بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ
الضَّحَّاكُ: مُقْبِلِينَ. قَتَادَةُ: عَامِدِينَ. ابْنُ عَبَّاسٍ: نَاظِرِينَ. عِكْرِمَةُ: فَاتِحِينَ آذَانَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. يُقَالُ: هَطَعَ الرَّجُلُ يَهْطَعُ هُطُوعًا إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الشَّيْءِ بِبَصَرِهِ لَا يُقْلِعُ عَنْهُ، وَأَهْطَعَ إِذَا مَدَّ عُنُقَهُ وَصَوَّبَ رَأْسَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ «5»:
تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدٍ وَقَدْ أَرَى ... وونمر بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ وَمُهْطِعُ
وَبَعِيرٌ مُهْطِعٌ: فِي عُنُقِهِ تَصْوِيبٌ خِلْقَةً. وَأَهْطَعَ فِي عَدْوِهِ أَيْ أَسْرَعَ. (يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَا يَنَالُهُمْ فِيهِ مِنَ الشدة.

[سورة القمر (54): الآيات 9 الى 17]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
__________
(1). الزيادة من اعراب القرآن للسمين.
(2). راجع ج 20 ص 165.
(3). الزيادة من مفصل اعراب القرآن وغيره.
(4). في اللسان: (أهلها).
(5). قائله تبع. [ ..... ]

(17/130)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) ذَكَرَ جُمَلًا مِنْ وَقَائِعِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ تَأْنِيسًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْزِيَةٌ لَهُ. (قَبْلَهُمْ) أَيْ قَبْلَ قَوْمِكَ. (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) يَعْنِي نُوحًا. الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَكَذَّبُوا) بَعْدَ قَوْلِهِ: (كَذَّبَتْ)؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ كَذَّبُوا فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا، أَيْ كَذَّبُوهُ تَكْذِيبًا عَلَى عَقِبِ تَكْذِيبٍ، كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ قَرْنٌ مُكَذِّبٌ تَبِعَهُ قَرْنٌ مُكَذِّبٌ، أَوْ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الرُّسُلَ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا، أَيْ لَمَّا كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ جَاحِدِينَ لِلنُّبُوَّةِ رَأْسًا كَذَّبُوا نُوحًا لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الرُّسُلِ. (وَقالُوا مَجْنُونٌ) أَيْ هُوَ مَجْنُونٌ (وَازْدُجِرَ) أَيْ زُجِرَ عَنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ بِالسَّبِّ وَالْوَعِيدِ بِالْقَتْلِ. وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ: (وَازْدُجِرَ) بِلَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ. (فَدَعا رَبَّهُ) أَيْ دَعَا عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ نُوحٌ وَقَالَ: رب (أَنِّي مَغْلُوبٌ) أَيْ غَلَبُونِي بِتَمَرُّدِهِمْ (فَانْتَصِرْ) أَيْ فَانْتَصِرْ لِي. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا لَا يَدْعُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِالْهَلَاكِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ فِيهِ. (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) أَيْ فَأَجَبْنَا دُعَاءَهُ وَأَمَرْنَاهُ بِاتِّخَاذِ السَّفِينَةِ وَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أَيْ كَثِيرٍ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَعَيْنَيَّ جُودَا بِالدُّمُوعِ الْهَوَامِرِ ... عَلَى خَيْرِ بَادٍ مِنْ مَعَدٍّ وَحَاضِرِ
وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمُنْصَبُّ الْمُتَدَفِّقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ يصف غيثا:

(17/131)


رَاحَ تَمْرِيهِ الصَّبَا ثُمَّ انْتَحَى ... فِيهِ شُؤْبُوبُ جَنُوبٍ مُنْهَمِرْ «1»
الْهَمْرُ الصَّبُّ، وَقَدْ هَمَرَ الْمَاءُ وَالدَّمْعُ يَهْمِرُ هَمْرًا. وَهَمَرَ أَيْضًا إِذَا أَكْثَرَ الْكَلَامَ وَأَسْرَعَ. وَهَمَرَ لَهُ مِنْ مَالِهِ أَيْ أَعْطَاهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ [مُنْهَمِرٍ «2»] مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ لَمْ يُقْلِعْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ: (فَفَتَحْنا) مُشَدَّدَةً عَلَى التَّكْثِيرِ. الْبَاقُونَ (فَفَتَحْنا) مُخَفَّفًا. ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُ فَتْحُ رِتَاجِهَا وَسَعَةُ مَسَالِكِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمَجَرَّةُ وَهِيَ شَرَجُ السَّمَاءِ وَمِنْهَا فُتِحَتْ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، قَالَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) قال عبيد ابن عُمَيْرٍ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ أَنْ تُخْرِجَ مَاءَهَا فَتَفَجَّرَتْ بِالْعُيُونِ، وَإِنَّ عَيْنًا تَأَخَّرَتْ فَغَضِبَ عَلَيْهَا فَجَعَلَ مَاءَهَا مُرًّا أُجَاجًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (فَالْتَقَى الْماءُ) أَيْ مَاءُ السَّمَاءِ وَمَاءُ الْأَرْضِ (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أَيْ عَلَى مِقْدَارٍ لَمْ يَزِدْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. أَيْ كَانَ مَاءُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ سَوَاءً. وَقِيلَ: (قُدِرَ) بِمَعْنَى قُضِيَ عَلَيْهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: قَدَّرَ لَهُمْ إِذَا كَفَرُوا أَنْ يَغْرَقُوا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانَتِ الْأَقْوَاتُ قَبْلَ الْأَجْسَادِ، وَكَانَ الْقَدَرُ قَبْلَ الْبَلَاءِ، وَتَلَا هَذِهِ الآية. وقال: (فَالْتَقَى الْماءُ) وَالِالْتِقَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، لِأَنَّ الْمَاءَ يَكُونُ جَمْعًا وَوَاحِدًا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمَا لَمَّا اجْتَمَعَا صَارَا مَاءً وَاحِدًا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: (فَالْتَقَى الْمَاءَانِ). وَقَرَأَ الْحَسَنُ: (فَالْتَقَى الْمَاوَانِ) وَهُمَا خِلَافُ الْمَرْسُومِ. الْقُشَيْرِيُّ: وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ (فَالْتَقَى الْمَاوَانِ) وَهِيَ لُغَةُ طَيِّئٍ. وَقِيلَ: كَانَ مَاءُ السَّمَاءِ بَارِدًا مِثْلَ الثَّلْجِ وَمَاءُ الْأَرْضِ حَارًّا مِثْلَ الْحَمِيمِ. (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) أَيْ عَلَى سَفِينَةٍ ذَاتِ أَلْوَاحٍ. (وَدُسُرٍ) قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْمَسَامِيرَ الَّتِي دُسِرَتْ بِهَا السَّفِينَةُ أَيْ شُدَّتْ، وَقَالَهُ الْقُرَظِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَرَوَاهُ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَعِكْرِمَةُ: هِيَ صَدْرُ السَّفِينَةِ الَّتِي تَضْرِبُ بِهَا الْمَوْجَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدْسُرُ الْمَاءَ أَيْ تَدْفَعُهُ، وَالدَّسْرُ الدَّفْعُ وَالْمَخْرُ، وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الدَّسْرُ كلكل «3» السفينة.
__________
(1). راح: أي عاد في الرواح، كأن المطر كان في أول النهار ثم عاد في آخره. وتمريه: تستدره، وأصله من مرى الضرع وهو مسحه ليدر. والشؤبوب: الدفعة من المطر. وخص الصبا لأنهم يمطرون بها.
(2). الزيادة من ط.
(3). الكلكل: الصدر.

(17/132)


وَقَالَ اللَّيْثُ: الدِّسَارُ خَيْطٌ مِنْ لِيفٍ تُشَدُّ بِهِ أَلْوَاحُ السَّفِينَةِ. وَفِي الصِّحَاحِ: الدِّسَارُ وَاحِدُ الدُّسُرِ وَهِيَ خُيُوطٌ تُشَدُّ بِهَا أَلْوَاحُ السَّفِينَةِ، وَيُقَالُ: هِيَ الْمَسَامِيرُ، وَقَالَ تَعَالَى: (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ). وَدُسْرٌ أَيْضًا مِثْلَ عُسْرٍ وَعُسُرٍ. وَالدَّسْرُ الدَّفْعُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْعَنْبَرِ: إنما هو شي يَدْسُرُهُ الْبَحْرُ دَسْرًا أَيْ يَدْفَعُهُ. وَدَسَرَهُ بِالرُّمْحِ. وَرَجُلٌ مِدْسَرٌ. (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أَيْ بِمَرْأًى مِنَّا. وَقِيلَ: بِأَمْرِنَا. وَقِيلَ: بِحِفْظٍ مِنَّا وَكِلَاءَةٍ: وَقَدْ مَضَى فِي (هُودٍ) «1». وَمِنْهُ قَوْلُ النَّاسِ لِلْمُوَدَّعِ: عَيْنُ اللَّهِ عَلَيْكَ، أَيْ حِفْظُهُ وَكِلَاءَتُهُ. وَقِيلَ: بِوَحْيِنَا. وَقِيلَ: أَيْ بِالْأَعْيُنِ النَّابِعَةِ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: بِأَعْيُنِ أَوْلِيَائِنَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِحِفْظِهَا، وَكُلُّ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: أَيْ تَجْرِي بِأَوْلِيَائِنَا، كَمَا فِي الْخَبَرِ: مَرِضَ عَيْنٌ مِنْ عُيُونِنَا فَلَمْ تَعُدْهُ. (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أَيْ جَعَلْنَا ذَلِكَ ثَوَابًا وَجَزَاءً لِنُوحٍ عَلَى صَبْرِهِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَهُوَ الْمَكْفُورُ بِهِ، فَاللَّامُ فِي (لِمَنْ) لَامُ الْمَفْعُولِ لَهُ، وَقِيلَ: (كُفِرَ) أَيْ جحد، ف (لِمَنْ) كِنَايَةٌ عَنْ نُوحٍ. وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنِ اللَّهِ وَالْجَزَاءُ بِمَعْنَى الْعِقَابِ، أَيْ عِقَابًا لِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْفَاءِ بِمَعْنَى: كَانَ الْغَرَقُ جَزَاءً وَعِقَابًا لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَمَا نَجَا مِنَ الْغَرَقِ غَيْرُ عُوجِ بْنِ عُنُقٍ «2»، كَانَ الْمَاءُ إِلَى حُجْزَتِهِ. وَسَبَبُ نَجَاتِهِ أَنَّ نُوحًا احْتَاجَ إِلَى خَشَبَةِ السَّاجِ لِبِنَاءِ السَّفِينَةِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ حَمْلُهَا، فَحَمَلَ عُوجٌ تِلْكَ الْخَشَبَةَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّامِ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، وَنَجَّاهُ مِنَ الْغَرَقِ. (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) يُرِيدُ هَذِهِ الْفَعْلَةَ عِبْرَةً. وَقِيلَ: أَرَادَ السَّفِينَةَ تَرَكَهَا آيَةً لِمَنْ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ يَعْتَبِرُونَ بِهَا فَلَا يُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَبْقَاهَا اللَّهُ بِبَاقِرْدَى مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ عِبْرَةً وَآيَةً، حَتَّى نَظَرَتْ إِلَيْهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَمْ مِنْ سَفِينَةٍ كَانَتْ بَعْدَهَا فَصَارَتْ رَمَادًا. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) مُتَّعِظٍ خَائِفٍ، وَأَصْلُهُ مُذْتَكِرٌ مُفْتَعِلٌ مِنَ الذِّكْرِ، فَثَقُلَتْ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فَقُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا لِتُوَافِقَ الذَّالَ فِي الْجَهْرِ وَأُدْغِمَتِ الذَّالُ فِيهَا. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي إنذاري،
__________
(1). راجع ج 9 ص 30.
(2). عوج بن عنق هو المشهور والذي صوبه صاحب القاموس هو ابن عوق لا عنق.

(17/133)


كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

قَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِنْذَارُ وَالنَّذْرُ مَصْدَرَانِ. وَقِيلَ: (نُذُرِ) جَمْعُ نَذِيرٍ وَنَذِيرٌ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ كَنَكِيرٍ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أَيْ سَهَّلْنَاهُ لِلْحِفْظِ وَأَعَنَّا عَلَيْهِ مَنْ أَرَادَ حِفْظَهُ، فَهَلْ مِنْ طَالِبٍ لِحِفْظِهِ فَيُعَانُ عَلَيْهِ؟ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَقَدْ هَيَّأْنَاهُ لِلذِّكْرِ [مَأْخُوذٌ «1»] مِنْ يَسَّرَ نَاقَتَهُ لِلسَّفَرِ: إِذَا رَحَلَهَا، وَيَسَّرَ فَرَسَهُ لِلْغَزْوِ إِذَا أَسْرَجَهُ وَأَلْجَمَهُ، قَالَ:
وَقُمْتُ إِلَيْهِ بِاللِّجَامِ مُيَسِّرًا ... هُنَالِكَ يَجْزِينِي الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَيْسَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ كِتَابٌ يُقْرَأُ كُلُّهُ ظَاهِرًا إِلَّا الْقُرْآنَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَمْ يَكُنْ هَذَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ إِلَّا نَظَرًا، غَيْرَ موسى وهرون ويوشع ابن نُونٍ وَعُزَيْرٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ افْتُتِنُوا بِعُزَيْرٍ لَمَّا كَتَبَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ حِينَ أُحْرِقَتْ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) «2» فَيَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ حِفْظَ كِتَابِهِ لِيَذَّكَّرُوا مَا فِيهِ، أَيْ يَفْتَعِلُوا الذِّكْرَ، وَالِافْتِعَالُ هُوَ أَنْ يَنْجَعَ فِيهِمْ ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ كَالذَّاتِ وَكَالتَّرْكِيبِ. فِيهِمْ. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قَارِئٍ يَقْرَؤُهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ وَابْنُ شَوْذَبٍ: فَهَلْ مِنْ طَالِبِ خَيْرٍ وَعِلْمٍ فَيُعَانُ عَلَيْهِ، وَكَرَّرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِلتَّنْبِيهِ وَالْإِفْهَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اقْتَصَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْبَاءَ الْأُمَمِ وَقَصَصَ الْمُرْسَلِينَ، وَمَا عَامَلَتْهُمْ بِهِ الْأُمَمُ، وَمَا كَانَ مِنْ عُقْبَى أُمُورِهِمْ وَأُمُورِ الْمُرْسَلِينَ «3»، فَكَانَ فِي كُلِّ قِصَّةٍ وَنَبَإٍ ذِكْرٌ لِلْمُسْتَمِعِ أَنْ لَوِ ادَّكَرَ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ ذِكْرِ كُلِّ قِصَّةٍ بقوله: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) لان (فَهَلْ) كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ تَسْتَدْعِي أَفْهَامَهُمُ الَّتِي رُكِّبَتْ فِي أجوافهم وجعلها حجة عليهم، فاللام من (فَهَلْ) للاستعراض «4» والهاء للاستخراج.

[سورة القمر (54): الآيات 18 الى 22]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
__________
(1). الزيادة من حاشية الجمل عن القرطبي.
(2). راجع ج 8 ص 117.
(3). في ط، ل: المسلمين، وما أثبتناه في اوب وج وهـ.
(4). في ى: (للاستغراق).

(17/134)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَّبَتْ عادٌ) هُمْ قَوْمُ هُودٍ. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) وَقَعَتْ (نُذُرِ) فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي سِتَّةِ أَمَاكِنَ مَحْذُوفَةَ الْيَاءَ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ، وَقَرَأَهَا يَعْقُوبُ مُثْبَتَةً فِي الْحَالَيْنِ، وَوَرْشٌ فِي الْوَصْلِ لَا غَيْرَ، وَحَذَفَ الْبَاقُونَ. وَلَا خِلَافَ فِي حَذْفِ الْيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) وَالْوَاوُ مِنْ قَوْلِهِ: (يَدْعُ) فأما الياء من (الدَّاعِ) الأول فَأَثْبَتَهَا فِي الْحَالَيْنِ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَيَعْقُوبُ وَحُمَيْدٌ وَالْبَزِّيُّ، وَأَثْبَتَهَا وَرْشٌ وَأَبُو عَمْرٍو فِي الْوَصْلِ، وحذفها الْبَاقُونَ. وَأَمَّا الدَّاعِ) الثَّانِيَةُ فَأَثْبَتَهَا يَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي الْحَالَيْنِ، وَأَثْبَتَهَا أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ فِي الْوَصْلِ، وَحَذَفَهَا الْبَاقُونَ. (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أَيْ شَدِيدَةَ الْبَرْدِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: شَدِيدَةُ الصَّوْتِ. وَقَدْ مَضَى فِي (حم السَّجْدَةِ) «1». (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) أَيْ فِي يَوْمٍ كَانَ مَشْئُومًا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ فِي يَوْمٍ كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِهِ. الزَّجَّاجُ: قِيلَ فِي يَوْمِ أَرْبِعَاءَ. ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ آخِرُ أَرْبِعَاءَ فِي الشَّهْرِ أفنى صغيرهم وكبيرهم. وقرا هرون الْأَعْوَرُ (نَحْسٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فيه في حم السجدة (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ). وَ (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) أَيْ دَائِمُ الشُّؤْمِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِمْ بِنُحُوسِهِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْعَذَابُ إِلَى الْهَلَاكِ. وَقِيلَ: اسْتَمَرَّ بِهِمْ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ مُرًّا عَلَيْهِمْ. وَكَذَا حَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا هُوَ مِنَ الْمَرَارَةِ، يُقَالُ: مُرَّ الشَّيْءُ وَأَمَرَّ أَيْ كَانَ كَالشَّيْءِ الْمُرِّ تَكْرَهُهُ النُّفُوسُ. وَقَدْ قَالَ: (فَذُوقُوا) وَالَّذِي يُذَاقُ قَدْ يَكُونُ مُرًّا. وَقَدْ قِيلَ: هُوَ مِنَ الْمِرَّةِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ. أَيْ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ مُسْتَحْكِمِ الشُّؤْمِ كَالشَّيْءِ الْمُحْكَمِ الْفَتْلِ الَّذِي لَا يُطَاقُ نَقْضُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمَ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ فَكَيْفَ يُسْتَجَابُ فِيهِ الدُّعَاءُ؟ وَقَدْ جَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتُجِيبَ لَهُ فِيهِ فِيمَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ) «2» حَدِيثُ جَابِرٍ بِذَلِكَ. فَالْجَوَابُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مَا جَاءَ فِي خَبَرٍ يَرْوِيهِ مَسْرُوقٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْضِيَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَقَالَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مستمر (
__________
(1). راجع ج 15 ص 347.
(2). راجع ج 2 ص 313.

(17/135)


وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّهُ نَحْسٌ عَلَى الصَّالِحِينَ «1»، بَلْ أَرَادَ أَنَّهُ نَحْسٌ عَلَى الْفُجَّارِ وَالْمُفْسِدِينَ، كَمَا كَانَتِ الْأَيَّامُ النَّحِسَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ، نَحِسَاتٍ عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ قَوْمِ عَادٍ لَا عَلَى نَبِيِّهِمْ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُمْهَلَ الظَّالِمُ مِنْ أَوَّلِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ إِلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ، فَإِذَا أَدْبَرَ النَّهَارُ وَلَمْ يُحْدِثْ رَجْعَةً اسْتُجِيبَ دُعَاءُ الْمَظْلُومِ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْيَوْمُ نَحْسًا عَلَى الظَّالِمِ، وَدُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ عَلَى الْكُفَّارِ، وَقَوْلُ جَابِرٍ فِي حَدِيثِهِ (لَمْ يَنْزِلْ بِي أَمْرٌ غليظ) إشارة إلى هذا. والله أعلم. قوله تعالى: (تَنْزِعُ النَّاسَ) فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلرِّيحِ أَيْ تَقْلَعُهُمْ مِنْ مَوَاضِعِهِمْ. قِيلَ: قَلَعَتْهُمْ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمُ اقْتِلَاعَ النَّخْلَةِ مِنْ أَصْلِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ تَقْلَعُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، فَتَرْمِي بِهِمْ عَلَى رؤوسهم فتندق أعناقهم وتبين رؤوسهم عَنْ أَجْسَادِهِمْ. وَقِيلَ: تَنْزِعُ النَّاسَ مِنَ الْبُيُوتِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (انْتَزَعَتِ الرِّيحُ النَّاسَ مِنْ قُبُورِهِمْ). وَقِيلَ: حَفِرُوا حُفَرًا وَدَخَلُوهَا فَكَانَتِ الرِّيحُ تَنْزِعُهُمْ مِنْهَا وَتَكْسِرُهُمْ، وَتُبْقِي تِلْكَ الْحُفَرَ كَأَنَّهَا أُصُولُ نَخْلٍ [قَدْ «2»] هَلَكَ مَا كَانَ فِيهَا فَتَبْقَى مَوَاضِعُهَا مُنْقَعِرَةً. يُرْوَى أَنَّ سَبْعَةً مِنْهُمْ حَفِرُوا حُفَرًا وَقَامُوا فِيهَا لِيَرُدُّوا الرِّيحَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا هَاجَتِ الرِّيحُ قَامَ نَفَرٌ سَبْعَةٌ مِنْ عَادٍ سُمِّيَ لَنَا مِنْهُمْ سِتَّةٌ مِنْ أَشَدِّ عَادٍ وَأَجْسَمِهَا مِنْهُمْ عمرو بن الحلي والحرث بْنُ شَدَّادٍ وَالْهِلْقَامُ وَابْنَا تِقْنٍ وَخَلْجَانُ بْنُ سَعْدٍ فَأَوْلَجُوا الْعِيَالَ فِي شِعْبٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، ثُمَّ اصْطَفَوْا عَلَى بَابِ الشِّعْبِ لِيَرُدُّوا الرِّيحَ عَمَّنْ فِي الشِّعْبِ مِنَ الْعِيَالِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَجْعَفُهُمْ «3» رَجُلًا رَجُلًا، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ عَادٍ:
ذَهَبَ الدَّهْرُ بِعَمْرِو بْ ... نِ حُلَيٍّ وَالْهَنِيَّاتِ
ثُمَّ بِالْحَرْثِ وَالْهِلْ ... قَامِ طَلَّاعِ الثَّنِيَّاتِ
وَالَّذِي سد مهب الر ... يح أيام البليات
__________
(1). في ى: (المصلحين).
(2). زيادة من ى.
(3). جعفة: صرعه وضرب به الأرض. [ ..... ]

(17/136)


كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)

الطَّبَرِيُّ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى تَنْزِعُ النَّاسَ فَتَتْرُكُهُمْ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَحْذُوفِ. الزَّجَّاجُ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نصب على الحال، وَالْمَعْنَى تَنْزِعُ النَّاسَ مُشَبَّهِينَ بِأَعْجَازِ نَخْلٍ. وَالتَّشْبِيهُ قِيلَ إِنَّهُ لِلْحُفَرِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا. وَالْأَعْجَازُ جَمْعُ عَجُزٍ وَهُوَ مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ، وَكَانَتْ عَادٌ مَوْصُوفِينَ بِطُولِ الْقَامَةِ، فَشُبِّهُوا بِالنَّخْلِ انْكَبَّتْ لِوُجُوهِهَا. وَقَالَ: (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) لِلَفْظِ النَّخْلِ وَهُوَ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَالْمُنْقَعِرُ: الْمُنْقَلِعُ مِنْ أَصْلِهِ، قَعَرْتُ الشَّجَرَةَ قَعْرًا قَلَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا فَانْقَعَرَتْ. الْكِسَائِيُّ: قَعَرْتُ الْبِئْرَ أَيْ نَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى قَعْرِهَا، وَكَذَلِكَ الْإِنَاءُ إِذَا شَرِبْتُ مَا فِيهِ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى قَعْرِهِ. وَأَقْعَرْتُ الْبِئْرَ جَعَلْتُ لَهَا قَعْرًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُئِلَ الْمُبَرِّدُ بِحَضْرَةِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي عَنْ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ هَذِهِ مِنْ جُمْلَتِهَا، فَقِيلَ لَهُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً)»
وَ (جاءَتْها رِيحٌ «2» عاصِفٌ)، وَقَوْلُهُ: (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) «3» وَ (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)؟ فقال: كلما وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنْ شِئْتَ رَدَدْتَهُ إِلَى اللَّفْظِ تَذْكِيرًا، أَوْ إِلَى الْمَعْنَى تَأْنِيثًا. وَقِيلَ: إِنَّ النَّخْلَ وَالنَّخِيلَ بِمَعْنًى يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ كَمَا ذَكَرْنَا. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [تقدم «4»].

[سورة القمر (54): الآيات 23 الى 26]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) هُمْ قَوْمُ صَالِحٍ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَنَبِيَّهُمْ، أَوْ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ الَّتِي هِيَ النُّذُرُ (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) وندع جماعة. وقرا أبو الأشهب وابن السميقع وَأَبُو السَّمَّالِ الْعَدَوِيُّ (أَبَشَرٌ) بِالرَّفْعِ (وَاحِدٌ) كَذَلِكَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ (نَتَّبِعُهُ). الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى أَنَتَّبِعُ بَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ. وَقَرَأَ أبو السمال «5»:
__________
(1). راجع ج 11 ص 321.
(2). راجع ج 8 ص 325.
(3). راجع ج 18 ص 261.
(4). من ب، ى.
(5). هذه رواية أخرى عن أبى السمال كما في (روح المعاني) وغيره وفى ب، ز، ول (أبو السماك) بالكاف وليس بصحيح.

(17/137)


(أَبَشَرٌ) بِالرَّفْعِ (مِنَّا وَاحِدًا) بِالنَّصْبِ، رَفَعَ (أَبَشَرٌ) بإضمار فعل يدل عليه (أَأُلْقِيَ) كَأَنَّهُ قَالَ: أَيُنَبَّأُ بَشَرٌ مِنَّا، وَقَوْلُهُ: (واحِداً) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُضْمَرِ فِي (مِنَّا) وَالنَّاصِبُ لَهُ الظَّرْفُ، وَالتَّقْدِيرُ أَيُنَبَّأُ بَشَرٌ كَائِنٌ مِنَّا مُنْفَرِدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي (نَتَّبِعُهُ) مُنْفَرِدًا لَا نَاصِرَ لَهُ. (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ) أَيْ ذَهَابٍ عَنِ الصَّوَابِ (وَسُعُرٍ) أَيْ جُنُونٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ، أَيْ كَأَنَّهَا مِنْ شِدَّةِ نَشَاطِهَا مَجْنُونَةٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ نَاقَتَهُ:
تَخَالُ بِهَا سُعْرًا إِذَا السَّفْرُ هَزَّهَا ... ذَمِيلٌ وَإِيقَاعٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ
[الذَّمِيلُ «1» ضَرْبٌ مِنْ سَيْرِ الْإِبِلِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِذَا ارْتَفَعَ السَّيْرُ عَنِ الْعَنَقِ قَلِيلًا فَهُوَ التَّزَيُّدُ، فَإِذَا ارْتَفَعَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ الذَّمِيلُ، ثُمَّ الرَّسِيمُ، يُقَالُ: ذَمَلَ يَذْمُلُ وَيَذْمِلُ ذَمِيلًا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَلَا يَذْمُلُ بَعِيرٌ يَوْمًا وَلَيْلَةً إِلَّا مَهْرِيٌّ قَالَهُ ج]. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: السُّعُرُ الْعَذَابُ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. مُجَاهِدٌ: بُعْدُ الْحَقِّ. السدي: في احتراق. قال «2»:
أَصَحَوْتَ الْيَوْمَ أَمْ شَاقَتْكَ هِرُّ ... وَمِنَ الْحُبِّ جُنُونٌ مُسْتَعِرْ
أَيْ مُتَّقِدٌ وَمُحْتَرِقٌ. أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ جَمْعُ سَعِيرٍ وَهُوَ لَهِيبُ النَّارِ. وَالْبَعِيرُ «3» الْمَجْنُونُ يَذْهَبُ كَذَا وَكَذَا لِمَا يَتَلَهَّبُ بِهِ مِنَ الْحِدَّةِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّا إِذًا لَفِي شقاء وعناء مما يلزمنا. قوله تعالى: (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أَيْ خُصِّصَ بِالرِّسَالَةِ مِنْ بَيْنِ آلِ ثَمُودَ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مَالًا وَأَحْسَنُ حَالًا؟! وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ. (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أَيْ لَيْسَ كَمَا يَدَّعِيهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَتَعَاظَمَ وَيَلْتَمِسَ التَّكَبُّرَ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. وَالْأَشَرُ الْمَرَحُ وَالتَّجَبُّرُ وَالنَّشَاطُ. يُقَالُ: فَرَسٌ أَشِرٌ إِذَا كَانَ مَرِحًا نَشِيطًا، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ يَصِفُ كَلْبًا:
فَيُدْرِكُنَا فَغِمٌ دَاجِنٌ ... سَمِيعٌ بَصِيرٌ طَلُوبٌ نَكِرْ «4»
أَلَصُّ «5» الضُّرُوسِ حَنِيُّ الضُّلُوعِ ... تَبُوعٌ أَرِيبٌ نَشِيطٌ أشر
__________
(1). زيادة من ب، هـ.
(2). هو طرفة.
(3). في ا، ز، ل: السعير.
(4). الفغم: المولع بالصيد الحريص عليه. داجن: ألوف للصيد. وفكر أي منكر عالم. وقيل نكر أي كريه الصورة.
(5). الالص الذي التصقت أسنانه بعضها إلى بعض.

(17/138)


وَقِيلَ: (أَشِرٌ) بَطِرٌ. وَالْأَشَرُ الْبَطَرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَشِرْتُمْ بِلُبْسِ الْخَزِّ لَمَّا لَبِسْتُمُ ... وَمِنْ قَبْلُ مَا تَدْرُونَ مَنْ فَتَحَ الْقُرَى
وَقَدْ أَشِرَ بِالْكَسْرِ يَأْشَرُ أَشَرًا فَهُوَ أَشِرٌ وَأَشْرَانُ، وَقَوْمٌ أُشَارَى مِثْلُ سَكْرَانَ وَسُكَارَى، قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
وَخَلَّتْ وُعُولًا أُشَارَى بِهَا ... وَقَدْ أَزْهَفَ الطَّعْنُ أَبْطَالَهَا
وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَنْزِلَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ابن حَمَّادٍ: الْأَشِرُ الَّذِي لَا يُبَالِي مَا قَالَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو قِلَابَةَ (أَشَرُّ) بِفَتْحِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ يَعْنِي بِهِ أَشَرَّنَا وَأَخْبَثَنَا. (سَيَعْلَمُونَ غَداً) أَيْ سَيَرَوْنَ الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ فِي حَالِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ بِالتَّاءِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ صَالِحٍ لَهُمْ عَلَى الْخِطَابِ. الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِصَالِحٍ عنهم. وقوله: (رَغَداً) عَلَى التَّقْرِيبِ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِمْ لِلْعَوَاقِبِ: إِنَّ مَعَ الْيَوْمِ غَدًا، قَالَ:
لِلْمَوْتِ فِيهَا سِهَامٌ غَيْرُ مُخْطِئَةٍ ... مَنْ لَمْ يَكُنْ مَيِّتًا فِي الْيَوْمِ مَاتَ غَدَا
وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ:
أَلَا عَلِّلَانِي قَبْلَ نَوْحِ النَّوَائِحِ ... وَقَبْلَ اضْطِرَابِ النَّفْسِ بَيْنَ الْجَوَانِحِ
وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى غَدٍ ... إِذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ
وَإِنَّمَا أَرَادَ وَقْتَ الْمَوْتِ وَلَمْ يُرِدْ غَدًا بِعَيْنِهِ. (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) وَقَرَأَ أَبُو قِلَابَةَ (الْأَشَرُّ) بِفَتْحِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ جَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَتَكَلَّمُ بِالْأَشَرِّ وَالْأَخْيَرِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، كَقَوْلِ رُؤْبَةَ:
بِلَالٌ خَيْرُ النَّاسِ وابن الأخير
__________
(1). هي مية بنت ضرار الضبي ترثى أخاها. وأزهف الطعن أبطالها أي صرعها. وقبل البيت:
تراه على الخيل ذا قدمة ... إذا سربل الدم أكفالها

(17/139)


إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هُوَ خَيْرُ قَوْمِهِ، وَهُوَ شَرُّ النَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) «1» وَقَالَ: (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) «2». وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ بِفَتْحِ الشِّينِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ضَمُّ الشِّينِ وَالرَّاءِ وَالتَّخْفِيفُ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ مَعْنَى (الْأَشِرُ) ومثله رجل حذر وحذر.

[سورة القمر (54): الآيات 27 الى 32]
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
قوله تعالى: (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) أَيْ مُخْرِجُوهَا مِنَ الْهَضْبَةِ الَّتِي سَأَلُوهَا، فَرُوِيَ أَنَّ صَالِحًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا فَانْصَدَعَتِ الصَّخْرَةُ الَّتِي عَيَّنُوهَا عَنْ سَنَامِهَا، فَخَرَجَتْ نَاقَةٌ عُشَرَاءُ [وَبْرَاءُ «3»]. (فِتْنَةً لَهُمْ) أَيِ اخْتِبَارًا وَهُوَ مَفْعُولٌ لَهُ. (فَارْتَقِبْهُمْ) أَيِ انْتَظِرْ مَا يَصْنَعُونَ. (وَاصْطَبِرْ) أَيِ اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ، وَأَصْلُ الطَّاءِ فِي اصْطَبِرْ تَاءٌ فَتَحَوَّلَتْ طَاءً لِتَكُونَ مُوَافِقَةً لِلصَّادِ فِي الْإِطْبَاقِ. (وَنَبِّئْهُمْ): أَيْ أَخْبِرْهُمْ (أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أَيْ بَيْنَ آلِ ثَمُودَ وَبَيْنَ النَّاقَةِ، لَهَا يَوْمٌ وَلَهُمْ يَوْمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) «4». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يَوْمُ شِرْبِهِمْ لَا تَشْرَبُ النَّاقَةُ شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ وَتَسْقِيهِمْ لَبَنًا وَكَانُوا فِي نَعِيمٍ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّاقَةِ شَرِبَتِ الْمَاءَ كُلَّهُ فَلَمْ تُبْقِ لَهُمْ شَيْئًا. وَإِنَّمَا قَالَ: (بَيْنَهُمْ) لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ بَنِي آدَمَ مَعَ الْبَهَائِمِ غَلَّبُوا بَنِي آدَمَ. وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلْنَا الْحِجْرَ فِي مَغْزَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبُوكَ، قَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَسْأَلُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ هَؤُلَاءِ قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ لَهُمْ نَاقَةً فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
__________
(1). راجع ج 4 ص 170.
(2). راجع ج 11 ص 144.
(3). في الأصول جرداء والذي في قصص الأنبياء للثعلبي وغيره من كتب التفسير (وبراء) فلذا أثبتناه. [ ..... ]
(4). راجع ج 13 ص 127.

(17/140)


إِلَيْهِمُ النَّاقَةَ فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ ذَلِكَ الْفَجِّ فَتَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمَ وِرْدِهَا وَيَحْلُبُونَ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَشْرَبُونَ يَوْمَ غِبِّهَا) وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ). (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) الشِّرْبُ- بِالْكَسْرِ- الْحَظُّ مِنَ الْمَاءِ، وَفِي الْمَثَلِ: (آخِرُهَا أَقَلُّهَا شِرْبًا) وَأَصْلُهُ فِي سَقْيِ الْإِبِلِ، لِأَنَّ آخِرَهَا يَرِدُ وَقَدْ نَزِفَ الْحَوْضُ. وَمَعْنَى (مُحْتَضَرٌ) أَيْ يَحْضُرُهُ مَنْ هُوَ لَهُ، فَالنَّاقَةُ تَحْضُرُ الْمَاءَ يَوْمَ وِرْدِهَا، وَتَغِيبُ عَنْهُمْ يَوْمَ وِرْدِهِمْ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ ثَمُودَ يَحْضُرُونَ الْمَاءَ يَوْمَ غِبِّهَا فَيَشْرَبُونَ، وَيَحْضُرُونَ اللَّبَنَ يَوْمَ وِرْدِهَا فَيَحْتَلِبُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) يَعْنِي بِالْحَضِّ عَلَى عَقْرِهَا (فَعَقَرَ) ها وَمَعْنَى تَعَاطَى تَنَاوَلَ الْفِعْلَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: عَطَوْتُ أَيْ تَنَاوَلْتُ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ:
كِلْتَاهُمَا حَلَبُ الْعَصِيرِ فَعَاطِنِي ... بِزُجَاجَةٍ أَرْخَاهُمَا لِلْمِفْصَلِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَكَمِنَ لَهَا فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ عَلَى طَرِيقِهَا فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ بِهِ عَضَلَةَ سَاقِهَا، ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهَا بِالسَّيْفِ فَكَشَفَ عُرْقُوبَهَا، فَخَرَّتْ وَرَغَتْ رُغَاءَةً وَاحِدَةً تَحَدَّرَ سَقْبُهَا مِنْ بَطْنِهَا ثُمَّ نَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ سَقْبُهَا حَتَّى أَتَى صَخْرَةً فِي رَأْسِ جَبَلٍ فَرَغَا ثُمَّ لَاذَ بِهَا، فَأَتَاهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا رَأَى النَّاقَةَ قَدْ عُقِرَتْ بَكَى وَقَالَ: قَدِ انْتَهَكْتُمْ حُرْمَةَ اللَّهِ فَأَبْشِرُوا بِعَذَابِ اللَّهِ. وَقَدْ مَضَى فِي (الْأَعْرَافِ) «1» بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ الَّذِي عَقَرَهَا أَحْمَرَ أَزْرَقَ أَشْقَرَ أَكْشَفَ أَقْفَى. وَيُقَالُ فِي اسْمِهِ قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ. وَقَالَ الْأَفْوَهُ الْأَوْدِيُّ:
أَوْ قَبْلَهُ «2» كَقُدَارٍ حِينَ تَابَعَهُ ... عَلَى الْغِوَايَةِ أَقْوَامٌ فَقَدْ بَادُوا
والعرب تسمي الجزار قدارا تشبيها بمقدار بْنِ سَالِفٍ مَشْئُومِ آلِ ثَمُودَ، قَالَ مُهَلْهِلٌ:
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام «3»
__________
(1). راجع ج 7 ص 241.
(2). الذي في شعراء النصرانية: (أو بعده).
(3). القدار: الجزار. والنقيعة: ما ينحر للضيافة. والقدام: القادمون من سفر جمع قادم. وقيل: القدام الملك. ويروى:
انا لنضرب بالصوارم هامهم

(17/141)


وَذَكَرَهُ زُهَيْرٌ فَقَالَ:
فَتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُمْ ... كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ «1»
يُرِيدُ الْحَرْبَ، فَكَنَّى عَنْ ثَمُودَ بِعَادٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) يُرِيدُ صَيْحَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ مَضَى فِي (هُودٍ) «2». (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ (الْمُحْتَظَرِ) بِفَتْحِ الظَّاءِ أَرَادُوا الْحَظِيرَةَ. الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ أَرَادُوا صَاحِبَ الْحَظِيرَةِ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْمُحْتَظِرُ الذي يعمل الحظيرة. وقرى (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) فَمَنْ كَسَرَهُ جَعَلَهُ الْفَاعِلُ وَمَنْ فَتَحَهُ جَعَلَهُ الْمَفْعُولُ بِهِ. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الْقَلِيلِ الْخَيْرِ: إِنَّهُ لَنَكِدٌ الْحَظِيرَةَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَرَاهُ سَمَّى أَمْوَالَهُ حَظِيرَةً لِأَنَّهُ حَظَرَهَا عِنْدَهُ وَمَنَعَهَا، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ فَتَحَ الظَّاءَ مِنْ (الْمُحْتَظِرِ) فَهُوَ مَصْدَرٌ، وَالْمَعْنَى كَهَشِيمِ الِاحْتِظَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (الْمُحْتَظِرِ) هُوَ الشَّجَرُ الْمُتَّخَذُ مِنْهُ الْحَظِيرَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (الْمُحْتَظِرِ) هُوَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِغَنَمِهِ حَظِيرَةً بِالشَّجَرِ وَالشَّوْكِ، فَمَا سَقَطَ مِنْ ذَلِكَ وَدَاسَتْهُ الْغَنَمُ فَهُوَ الْهَشِيمُ. قَالَ:
أَثَرْنَ عَجَاجَةً كَدُخَانِ نَارٍ ... تَشِبُّ بِغَرْقَدٍ بَالٍ هَشِيمٍ
وَعَنْهُ: كَحَشِيشٍ تَأْكُلُهُ الْغَنَمُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: كَالْعِظَامِ النَّخِرَةِ الْمُحْتَرِقَةِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ التُّرَابُ الْمُتَنَاثِرُ مِنَ الْحِيطَانِ فِي يَوْمِ رِيحٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: هُوَ مَا تَنَاثَرَ مِنَ الْحَظِيرَةِ إِذَا ضَرَبْتَهَا بِالْعَصَا، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شي كَانَ رَطْبًا فَيَبِسَ هَشِيمًا. وَالْحَظْرُ الْمَنْعُ، وَالْمُحْتَظِرُ الْمُفْتَعِلُ يُقَالُ مِنْهُ: احْتَظَرَ عَلَى إِبِلِهِ وَحَظَرَ أَيْ جَمَعَ الشَّجَرَ وَوَضَعَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ لِيَمْنَعَ بَرْدَ الرِّيحِ وَالسِّبَاعَ عَنْ إِبِلِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَى جِيَفَ الْمَطِيِّ بِجَانِبَيْهِ ... كَأَنَّ عِظَامَهَا خشب الهشيم
__________
(1). تنتج لكم يعنى الحرب. (غلمان أشأم) في معنى غلمان شؤم أو كلهم في الشؤم كأحمر عاد. (ثم ترضع فتفطم) يريد أنه يتم أمر الحرب، كالمرأة إذا أرضعت ثم فطمت فقد تممت.
(2). راجع ج 9 ص 61.

(17/142)


كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا مِثْلَ الْقَمْحِ الَّذِي دِيسَ وَهُشِّمَ، فَالْمُحْتَظِرُ عَلَى هَذَا الَّذِي يَتَّخِذُ حَظِيرَةً عَلَى زَرْعِهِ، وَالْهَشِيمُ فُتَاتُ السُّنْبُلَةِ وَالتِّبْنِ. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)

[سورة القمر (54): الآيات 33 الى 40]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) أَخْبَرَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ أَيْضًا لَمَّا كَذَّبُوا لُوطًا. (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) أَيْ رِيحًا تَرْمِيهِمْ بِالْحَصْبَاءِ وَهِيَ الْحَصَى، قَالَ النَّضْرُ: الْحَاصِبُ الْحَصْبَاءُ فِي الرِّيحِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْحَاصِبُ الْحِجَارَةُ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْحَاصِبُ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تُثِيرُ الْحَصْبَاءَ وَكَذَلِكَ الْحَصِبَةُ، قَالَ لَبِيَدٌ:
جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا ... أَذْيَالَهَا كُلُّ عَصُوفٍ حَصِبَهْ عَصَفَتِ الرِّيحُ
أَيِ اشْتَدَّتْ فَهِيَ رِيحٌ عَاصِفٌ وَعَصُوفٌ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّامِ تَضْرِبُنَا ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورِ
(إِلَّا آلَ لُوطٍ) يَعْنِي مَنْ تَبِعَهُ عَلَى دِينِهِ وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا بِنْتَاهُ (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا أَجْرَاهُ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ، وَلَوْ أَرَادَ سَحَرَ يوم بِعَيْنِهِ لَمَا أَجْرَاهُ، وَنَظِيرُهُ: (اهْبِطُوا مِصْراً) «1» لَمَّا نَكَّرَهُ، فَلَمَّا عَرَّفَهُ فِي قَوْلِهِ: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ «2» اللَّهُ) لَمْ يُجْرِهِ، وَكَذَا قَالَ الزجاج: (بِسَحَرٍ) إِذَا كَانَ نَكِرَةً يُرَادُ بِهِ سَحَرٌ مِنَ الْأَسْحَارِ يُصْرَفُ، تَقُولُ أَتَيْتُهُ سَحَرًا، فَإِذَا أَرَدْتَ سحر يومك
__________
(1). راجع ج 1 ص 429.
(2). راجع ج 9 ص 263.

(17/143)


وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)

لَمْ تَصْرِفْهُ، تَقُولُ: أَتَيْتُهُ سَحَرَ يَا هَذَا، وَأَتَيْتُهُ بِسَحَرَ. وَالسَّحَرُ: هُوَ مَا بَيْنَ آخِرِ اللَّيْلِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اخْتِلَاطُ سَوَادِ اللَّيْلِ بِبَيَاضِ أَوَّلِ النَّهَارِ، لِأَنَّ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَكُونُ مَخَايِيلُ اللَّيْلِ وَمَخَايِيلُ النَّهَارِ. (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) إِنْعَامًا مِنَّا عَلَى لُوطٍ وَابْنَتَيْهِ، فَهُوَ نُصِبَ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أَيْ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَأَطَاعَهُ. (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) يَعْنِي لُوطًا خَوَّفَهُمْ (بَطْشَتَنا) عُقُوبَتَنَا وَأَخْذَنَا إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أَيْ شَكُّوا فِيمَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الْمِرْيَةِ. (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أَيْ أَرَادُوا مِنْهُ تَمْكِينَهُمْ مِمَّنْ كَانَ أَتَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي هَيْئَةِ الْأَضْيَافِ طَلَبًا لِلْفَاحِشَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ «1». يُقَالُ: رَاوَدْتُهُ عَلَى، كَذَا مُرَاوَدَةً وَرِوَادًا أَيْ أَرَدْتُهُ. وَرَادَ الْكَلَأُ يَرُودُهُ رَوْدًا وَرِيَادًا، وَارْتَادَهُ ارْتِيَادًا بِمَعْنًى أَيْ طَلَبَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: (إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ) أَيْ يَطْلُبُ مَكَانًا لَيِّنًا أَوْ مُنْحَدِرًا. (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) يُرْوَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَرَبَهُمْ بِجَنَاحِهِ فَعَمُوا. وَقِيلَ: صَارَتْ أَعْيُنُهُمْ كَسَائِرِ الْوَجْهِ لَا يُرَى لَهَا شَقٌّ، كَمَا تَطْمِسُ الرِّيحُ الْأَعْلَامَ بِمَا تُسْفِي عَلَيْهَا مِنَ التُّرَابِ. وَقِيلَ: لَا، بَلْ أَعْمَاهُمُ اللَّهُ مَعَ صِحَّةِ أَبْصَارِهِمْ فَلَمْ يَرَوْهُمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: طَمَسَ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ فَلَمْ يَرَوُا الرُّسُلَ، فَقَالُوا: لَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ حِينَ دَخَلُوا الْبَيْتَ فَأَيْنَ ذَهَبُوا؟ فَرَجَعُوا وَلَمْ يَرَوْهُمْ. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أَيْ فَقُلْنَا لَهُمْ ذُوقُوا، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْخَبَرُ، أَيْ فَأَذَقْتُهُمْ عَذَابِي الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ لُوطٌ. (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أَيْ دَائِمٌ عَامٌّ اسْتَقَرَّ فِيهِمْ حَتَّى يُفْضِيَ بِهِمْ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَذَلِكَ الْعَذَابُ قَلْبُ قَرْيَتِهِمْ عَلَيْهِمْ وَجَعْلُ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا. وَ (بُكْرَةً) هُنَا نَكِرَةٌ فَلِذَلِكَ صُرِفَتْ. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) الْعَذَابُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ مِنْ طَمْسِ الْأَعْيُنِ غَيْرُ الْعَذَابِ الَّذِي أُهْلِكُوا بِهِ فَلِذَلِكَ حَسُنَ التَّكْرِيرُ. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [تقدم «2»
]

[سورة القمر (54): الآيات 41 الى 42]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
__________
(1). راجع ج 9 ص 73.
(2). زيادة من ى.

(17/144)


أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) يعني القبط و (النُّذُرُ) موسى وهرون. وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ. (كَذَّبُوا بِآياتِنا) مُعْجِزَاتِنَا الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِنَا وَنُبُوَّةِ أَنْبِيَائِنَا، وَهِيَ الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالسُّنُونَ، وَالطَّمْسَةُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ. وَقِيلَ: (النُّذُرُ) الرُّسُلُ، فَقَدْ جَاءَهُمْ يُوسُفُ وَبَنُوهُ إِلَى أَنْ جَاءَهُمْ مُوسَى. وَقِيلَ: (النُّذُرُ) الْإِنْذَارُ. (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ) أَيْ غَالِبٍ فِي انْتِقَامِهِ (مُقْتَدِرٍ) أَيْ قَادِرٌ عَلَى ما أراد.

[سورة القمر (54): الآيات 43 الى 46]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) خَاطَبَ الْعَرَبَ. وَقِيلَ: أَرَادَ كُفَّارَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَيْ لَيْسَ كُفَّارُكُمْ خَيْرًا مِنْ كُفَّارِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِكُفْرِهِمْ. (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أَيْ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعُقُوبَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمْ لَكُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بَرَاءَةٌ مِنَ الْعَذَابِ. (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أَيْ جَمَاعَةٌ لَا تُطَاقُ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ مُنْتَصِرِينَ اتِّبَاعًا لِرُءُوسِ الْآيِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) أَيْ جَمْعُ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (سَيُهْزَمُ) بِالْيَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ (الْجَمْعُ) بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ رُوَيْسٌ عن يعقوب (وسنهزم) بِالنُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ (الْجَمْعَ) نَصْبًا. (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ عَنْهُمْ. وَقَرَأَ عِيسَى وَابْنُ إِسْحَاقَ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ (وَتُوَلُّونَ) بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَ (الدُّبُرَ) اسْمُ جِنْسٍ كالدرهم

(17/145)


وَالدِّينَارِ فَوُحِّدَ وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ لِأَجْلِ رُءُوسِ الْآيِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ضَرَبَ أَبُو جَهْلٍ فَرَسَهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَتَقَدَّمَ مِنَ الصَّفِّ وَقَالَ: نَحْنُ نَنْتَصِرُ الْيَوْمَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ). وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) كُنْتُ لَا أَدْرِي أَيُّ الْجَمْعِ يَنْهَزِمُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا جَاءَتْكَ تُحَادُّكَ وتحاد رسولك بفخرها و [خيلائها «1»] فَأَخْنِهِمُ الْغَدَاةَ- ثُمَّ قَالَ- (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) فَعَرَفْتُ تَأْوِيلَهَا. وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ غَيْبٍ فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ. أَخْنَى عَلَيْهِ الدَّهْرُ: أَيْ أَتَى عَلَيْهِ وَأَهْلَكَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
أَخْنَى عَلَيْهِ الَّذِي أَخْنَى عَلَى لُبَدِ

وَأَخْنَيْتُ عَلَيْهِ: أَفْسَدْتُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ بَدْرٍ سَبْعُ سِنِينَ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مَكِّيَّةٌ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: (أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا) فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِيَدِهِ وَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ فِي الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) يُرِيدُ الْقِيَامَةَ. (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أَيْ أَدْهَى وَأَمَرُّ مِمَّا لَحِقَهُمْ يوم بدر. و (أَدْهى) مِنَ الدَّاهِيَةِ وَهِيَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ، يُقَالُ: دَهَاهُ أَمْرُ كَذَا أَيْ أَصَابَهُ دَهْوًا وَدَهْيًا. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: دَهَتْهُ دَاهِيَةٌ دَهْوَاءُ وَدَهْيَاءُ وَهِيَ توكيد لها.
__________
(1). في الأصول: (نجيلها) وهو تحريف والتصويب من سيرة ابن هشام.

(17/146)


إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)

[سورة القمر (54): الآيات 47 الى 49]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أَيْ فِي حَيْدَةٍ عَنِ الْحَقِّ وَ (سُعُرٍ) أَيِ احْتِرَاقٍ. وَقِيلَ: جُنُونٌ عَلَى ما تقدم في هذا لسورة. (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: كل شي بِقَدَرٍ. قَالَ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كل شي بقدر حتى العجز والكيس- أوالكيس وَالْعَجْزَ وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ.) ذُوقُوا) أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذُوقُوا، وَمَسُّهَا مَا يَجِدُونَ مِنَ الْأَلَمِ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِيهَا. وَ (سَقَرَ) اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ لَا يَنْصَرِفُ، لِأَنَّهُ اسْمٌ مُؤَنَّثٌ مَعْرِفَةٌ، وَكَذَا لَظَى وَجَهَنَّمُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: (سَقَرَ) الطَّبَقُ السَّادِسُ مِنْ جَهَنَّمَ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: (سَقَرَ) مِنْ سَقَرَتْهُ الشَّمْسُ وَصَقَرَتْهُ لَوَّحَتْهُ. وَيَوْمٌ مُسَمْقِرٌ وَمُصَمْقِرٌ: شَدِيدُ الْحَرِّ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (كُلَّ) بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ (كُلُّ) بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَمَنْ نَصَبَ فَبِإِضْمَارِ فِعْلٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكُوفِيِّينَ، لِأَنَّ إِنَّ تَطْلُبُ الْفِعْلَ فَهِيَ بِهِ أَوْلَى، وَالنَّصْبُ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّكَ لَوْ حَذَفْتَ (خَلَقْناهُ) الْمُفَسِّرَ وَأَظْهَرْتَ الأول لصار إنا خلقنا كل شي بِقَدَرٍ. وَلَا يَصِحُّ كَوْنُ خَلَقْنَاهُ صِفَةً لِشَيْءٍ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَ الْمَوْصُوفِ، وَلَا تَكُونُ تَفْسِيرًا لِمَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ.

(17/147)


الثَّالِثَةُ- الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ، أَيْ عَلِمَ مَقَادِيرَهَا وَأَحْوَالَهَا وَأَزْمَانَهَا قَبْلَ إِيجَادِهَا، ثُمَّ أَوْجَدَ مِنْهَا مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يُوجِدُهُ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ، فَلَا يَحْدُثُ حَدَثٌ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ إِلَّا وَهُوَ صَادِرٌ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَأَنَّ الْخَلْقَ لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا إِلَّا نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَمُحَاوَلَةٌ وَنِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِقُدْرَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَإِلْهَامِهِ، سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، لَا كَمَا قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَنَّ الْأَعْمَالَ إِلَيْنَا وَالْآجَالَ بِيَدِ غَيْرِنَا. قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: الْأَعْمَالُ إِلَيْنَا وَالْآجَالُ بِيَدِ غَيْرِنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ يَكْتُبُ عَلَيْنَا الذَّنْبَ وَيُعَذِّبُنَا؟ فَقَالَ: (أَنْتُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). الرَّابِعَةُ- رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُكَذِّبُونَ بِأَقْدَارِ الله إن مرضوا فلا تعودهم وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ وَإِنْ لَقِيتُمُوهُمْ فَلَا تُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ). خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ أَهْلُ الْإِرْجَاءِ وَالْقَدَرِ). وَأَسْنَدَ النَّحَّاسُ: وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الْكُوفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الضَّبِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِأَيْدِينَا لَيْسَ لَهُمْ فِي شَفَاعَتِي نَصِيبٌ وَلَا أَنَا مِنْهُمْ وَلَا هُمْ مِنِّي) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ وَلَا يَتَبَرَّأُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) «1» وَهَذَا وَاضِحٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الايمان بالقدر يذهب الهم والحزن).
__________
(1). راجع ج 8 ص 163.

(17/148)


وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

[سورة القمر (54): الآيات 50 الى 55]
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) أَيْ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أَيْ قَضَائِي فِي خَلْقِي أَسْرَعُ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ. وَاللَّمْحُ النَّظَرُ بِالْعَجَلَةِ، يُقَالُ: لَمَحَ الْبَرْقَ بِبَصَرِهِ. وَفِي الصِّحَاحِ: لَمَحَهُ وَأَلْمَحَهُ إِذَا أَبْصَرَهُ بِنَظَرٍ خَفِيفٍ، وَالِاسْمُ اللَّمْحَةُ، وَلَمَحَ الْبَرْقَ وَالنَّجْمَ لَمْحًا أَيْ لَمَعَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أَيْ أَشْبَاهَكُمْ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ. وَقِيلَ: أَتْبَاعُكُمْ وَأَعْوَانُكُمْ. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي من يتذكر. أَيْ جَمِيعُ مَا فَعَلَتْهُ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ كَانَ مَكْتُوبًا عَلَيْهِمْ، وَهَذَا بَيَانُ قَوْلِهِ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). (فِي الزُّبُرِ) أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: فِي كُتُبِ الْحَفَظَةِ. وَقِيلَ: فِي أُمِّ الْكِتَابِ. (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أَيْ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ مَكْتُوبٌ عَلَى عَامِلِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ «1» لِيُجَازَى بِهِ، وَمَكْتُوبٌ إِذَا فَعَلَهُ، سَطَرَ يَسْطُرُ سَطْرًا كَتَبَ، وَاسْتَطَرَ مِثْلُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) لَمَّا وَصَفَ الْكُفَّارَ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا. (وَنَهَرٍ) يَعْنِي أَنْهَارَ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ وَاللَّبَنِ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَوُحِّدَ لِأَنَّهُ رَأْسُ الْآيَةِ، ثُمَّ الْوَاحِدُ قَدْ يُنْبِئُ عَنِ الْجَمِيعِ. وَقِيلَ: فِي (نَهَرٍ) فِي ضِيَاءٍ وَسَعَةٍ، وَمِنْهُ النَّهَارُ لِضِيَائِهِ، وَمِنْهُ أَنْهَرْتُ الْجُرْحَ، قَالَ الشَّاعِرُ «2»:
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا
__________
(1). في ب، ح، س، هـ: (قبل أن يفعلوه ليجازوا ومكتوب إذا فعلوه).
(2). هو قيس بن الخطيم يصف طعنة. وملكت أي شددت وقويت. [ ..... ]

(17/149)


وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ وَأَبُو نَهِيكٍ وَالْأَعْرَجُ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَقَتَادَةُ (وَنُهُرٍ) بِضَمَّتَيْنِ كَأَنَّهُ جَمْعُ نَهَارٍ لَا لَيْلَ لَهُمْ، كَسَحَابٍ وَسُحُبٍ. قَالَ الفراء: أنشدني بعض العرب:
إن تلك لَيْلِيًّا فَإِنِّي نَهِرُ ... مَتَى أَرَى الصُّبْحَ فَلَا أَنْتَظِرُ
أَيْ صَاحِبُ النَّهَارِ. وَقَالَ آخَرُ:
لَوْلَا الثَّرِيدَانِ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ ... ثَرِيدُ لَيْلِ وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ
(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أَيْ مَجْلِسِ حَقٍّ لَا لَغْوَ فِيهِ وَلَا تَأْثِيمَ وَهُوَ الْجَنَّةُ (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أَيْ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ. وَ (عِنْدَ) هَاهُنَا عِنْدِيَّةُ الْقُرْبَةِ وَالزُّلْفَةِ وَالْمَكَانَةِ وَالرُّتْبَةِ وَالْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ. قَالَ الصَّادِقُ: مَدَحَ اللَّهُ الْمَكَانَ الصِّدْقَ فَلَا يَقْعُدُ فِيهِ إِلَّا أَهْلُ الصِّدْقِ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ (فِي مَقَاعِدِ صِدْقٍ) بِالْجَمْعِ، وَالْمَقَاعِدُ مَوَاضِعُ قُعُودِ النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الْجَبَّارِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ عَلَى رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَقَدْ جَلَسَ كُلُّ إِنْسَانٍ مَجْلِسَهُ الَّذِي هُوَ مَجْلِسُهُ، عَلَى مَنَابِرَ مِنَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَلَا تَقَرُّ أَعْيُنُهُمْ بِشَيْءٍ قَطُّ كَمَا تَقَرُّ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَسْمَعُوا شَيْئًا أَعْظَمَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، قَرِيرَةٌ أَعْيُنُهُمْ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْغَدِ. وَقَالَ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَأْتُونَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ: يَا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ انْطَلِقُوا، فَيَقُولُونَ: إِلَى أَيْنَ؟ فَيَقُولُونَ: إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّكُمْ تَذْهَبُونَ بِنَا إِلَى غَيْرِ بُغْيَتِنَا. فَيَقُولُونَ: فَمَا بُغْيَتُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَقْعَدُ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى الْخُصُوصِ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَفِي الْخَبَرِ: أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْعُقَلَاءِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَزُفُّهَا الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّاسُ فِي الْحِسَابِ، فَيَقُولُونَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِلَى أَيْنَ تَحْمِلُونَنَا؟ فَيَقُولُونَ إِلَى الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: إِنَّكُمْ لَتَحْمِلُونَنَا إِلَى غَيْرِ بُغْيَتِنَا، فَيَقُولُونَ: وَمَا بُغْيَتُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: الْمَقْعَدُ الصِّدْقُ مَعَ الْحَبِيبِ كَمَا أَخْبَرَ (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ (الْقَمَرِ) والحمد لله.

(17/150)


[تفسير سورة الرحمن]
سورة الرحمن [عز وجل «1»] مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا آية منها هي قوله تعالى: (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الْآيَةَ. وَهِيَ سِتٌّ وَسَبْعُونَ آيَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا رَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بِمَكَّةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا: مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ هَذَا الْقُرْآنَ يُجْهَرُ بِهِ قَطُّ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُمُوهُ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَا، فَقَالُوا: إِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ، فَأَبَى ثُمَّ قَامَ عِنْدَ الْمَقَامِ فَقَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ثُمَّ تَمَادَى رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا، فَتَأَمَّلُوا وَقَالُوا: مَا يَقُولُ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ؟ قَالُوا: هُوَ يَقُولُ الَّذِي يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبُوهُ حَتَّى أَثَّرُوا فِي وَجْهِهِ. وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِنَخْلَةَ، فَقَرَأَ سُورَةَ (الرَّحْمَنِ) وَمَرَّ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ فَآمَنُوا بِهِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ (الرَّحْمَنِ) مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَسَكَتُوا، فَقَالَ: (لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ:) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قَالُوا لَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ) قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ أَنَّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتْلُ عَلَيَّ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ سُورَةَ (الرَّحْمَنِ) فَقَالَ: أَعِدْهَا، فَأَعَادَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَحَلَاوَةً، وَأَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَأَعْلَاهُ مُثْمِرٌ، وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لكل شي عروس وعروس القرآن سورة الرحمن).
__________
(1). في ز.

(17/151)


الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: (الرَّحْمنُ) فَاتِحَةُ ثَلَاثِ سُوَرٍ إِذَا جُمِعْنَ كُنَّ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (الر) وَ (حم) وَ (ن) فَيَكُونُ مَجْمُوعُ هَذِهِ (الرَّحْمنُ). (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أَيْ عَلَّمَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَدَّاهُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ. وَأُنْزِلَتْ حِينَ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ؟ وَقِيلَ: نَزَلَتْ جَوَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَالُوا: إنما يعلمه بشر وهو رحمان الْيَمَامَةِ، يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ). وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أَيْ سَهَّلَهُ لِأَنْ يُذْكَرَ وَيُقْرَأَ كَمَا قَالَ: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ). وَقِيلَ: جَعَلَهُ عَلَامَةً لِمَا تَعَبَّدَ النَّاسُ بِهِ. (خَلَقَ الْإِنْسانَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ يَعْنِي آدَمَ عليه السلام. (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أسماء كل شي. وَقِيلَ: عَلَّمَهُ اللُّغَاتِ كُلَّهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنِ كَيْسَانَ: الْإِنْسَانُ هَاهُنَا يُرَادَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْبَيَانُ بَيَانُ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ، وَالْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ. وَقِيلَ: مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ عَنِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَيَوْمِ الدِّينِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: (الْبَيانَ) الْخَيْرُ وَالشَّرُّ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: (الْإِنْسانَ) يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ فَهُوَ اسْمٌ للجنس و (الْبَيانَ) عَلَى هَذَا الْكَلَامُ وَالْفَهْمُ، وَهُوَ مِمَّا فُضِّلَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى

(17/152)


سَائِرِ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلَّمَ كُلَّ قَوْمٍ لِسَانَهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ. وَقَالَ يَمَانٌ: الْكِتَابَةُ وَالْخَطُّ بِالْقَلَمِ. نَظِيرُهُ: (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا «1» لَمْ يَعْلَمْ). (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أَيْ يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ مَعْلُومٍ فَأَضْمَرَ الْخَبَرَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو مَالِكٍ: أَيْ يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ فِي مَنَازِلَ لَا يَعْدُوَانِهَا وَلَا يَحِيدَانِ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ كَيْسَانَ: يَعْنِي أَنَّ بهما تحسب الأوقات والآجال الأعمار، وَلَوْلَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ كَيْفَ يَحْسُبُ شَيْئًا لَوْ كَانَ الدَّهْرُ كله أَوْ نَهَارًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: (بِحُسْبانٍ) تَقْدِيرُ آجَالِهِمَا أَيْ تَجْرِي بِآجَالٍ كَآجَالِ النَّاسِ، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمَا هَلَكَا، نَظِيرُهُ: (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) «2». وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِقَدَرٍ. مُجَاهِدٌ: (بِحُسْبانٍ) كَحُسْبَانِ الرَّحَى يَعْنِي قُطْبَهَا يَدُورَانِ فِي مِثْلِ الْقُطْبِ. وَالْحُسْبَانُ قد يكون مصدر حسبته أحسبته بِالضَّمِّ حَسْبًا وَحُسْبَانًا، مِثْلُ الْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ وَالرُّجْحَانِ، وَحِسَابَةٌ أَيْضًا أَيْ عَدَدْتُهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَكُونُ جَمَاعَةَ الْحِسَابِ مِثْلُ شِهَابٍ وَشُهْبَانٍ. وَالْحُسْبَانُ أَيْضًا بِالضَّمِّ الْعَذَابُ وَالسِّهَامُ الْقِصَارُ، وَقَدْ مَضَى فِي (الْكَهْفِ) «3» الْوَاحِدَةُ حُسْبَانَةٌ، وَالْحُسْبَانَةُ أَيْضًا الْوِسَادَةُ الصَّغِيرَةُ، تقول منه: حسبته إذا وسدته، قال»
:
... لَثَوَيْتَ غَيْرَ مُحَسَّبِ

أَيْ غَيْرَ مُوَسَّدٍ يَعْنِي غَيْرَ مُكَرَّمٍ وَلَا مُكَفَّنٍ (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) قال ابن عباس وغيره: النجم مالا ساق له والشجر ماله سَاقٌ، وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلَ صَفْوَانَ بْنِ أَسَدٍ التَّمِيمِيُّ:
لَقَدْ أَنْجَمَ الْقَاعُ الْكَبِيرُ عِضَاهَهُ ... وَتَمَّ بِهِ حَيَّا تَمِيمٍ وَوَائِلِ
وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى:
مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... ريح الجنوب لضاحي مائه حبك
__________
(1). راجع ج 20 ص 120.
(2). راجع ج 9 ص 279.
(3). راجع ج 10 ص 408.
(4). هو نهيك الفزاري يخاطب عامر بن الطفيل، والبيت بتمامه:
لتقيت بالوجعاء طعنة مرهف ... مران أو لثويت غير محسب
الوجعاء الاست. يقول: لو طعنتك لوليتني دبرك واتقيت طعنتي بوجعائك، ولثويت هالكا غير مكرم.

(17/153)


وَاشْتِقَاقُ النَّجْمِ مِنْ نَجَمَ الشَّيْءُ يَنْجُمُ بِالضَّمِّ نجوما ظهر وطلع، وسجودهما بسجود ظلا لهما «1»، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سُجُودُهُمَا أَنَّهُمَا يَسْتَقْبِلَانِ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ ثُمَّ يَمِيلَانِ مَعَهَا حَتَّى يَنْكَسِرَ الْفَيْءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُجُودُهُمَا دَوَرَانُ الظِّلِّ معهما، كما قال تعالى: (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) «2». وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: النَّجْمُ نَجْمُ السَّمَاءِ، وَسُجُودُهُ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ دَوَرَانُ ظِلِّهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقِيلَ: سُجُودُ النَّجْمِ أُفُولُهُ، وَسُجُودُ الشَّجَرِ إِمْكَانُ الِاجْتِنَاءِ لِثَمَرِهَا، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُسَخَّرٌ لِلَّهِ، فَلَا تَعْبُدُوا النَّجْمَ كَمَا عَبَدَ قَوْمٌ مِنَ الصَّابِئِينَ النُّجُومَ، وَعَبَدَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَجَمِ الشَّجَرَ. وَالسُّجُودُ الْخُضُوعُ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ آثَارُ الْحُدُوثِ، حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. النَّحَّاسُ: أَصْلُ السُّجُودِ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ مِنَ الْمَوَاتِ كُلِّهَا اسْتِسْلَامُهَا لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَانْقِيَادُهَا لَهُ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ كَذَلِكَ وَيَكُونُ مِنْ سُجُودِ الصَّلَاةِ، وَأَنْشَدَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ فِي النَّجْمِ بِمَعْنَى النُّجُومِ قَالَ «3»:
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ ... سَرِيعٌ بِأَيْدِي الْآكِلِينَ جُمُودُهَا
(وَالسَّماءَ رَفَعَها) وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ (وَالسَّماءَ) بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ لَمَّا عُطِفَ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) فَجَعَلَ الْمَعْطُوفَ مُرَكَّبًا مِنْ مُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ كَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أَيِ الْعَدْلَ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ، أَيْ وَضَعَ فِي الْأَرْضِ الْعَدْلَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، يُقَالُ: وَضَعَ اللَّهُ الشَّرِيعَةَ. وَوَضَعَ فُلَانٌ كَذَا أَيْ أَلْقَاهُ، وَقِيلَ: عَلَى هَذَا الْمِيزَانُ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ- أَيْضًا- وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الْمِيزَانُ ذُو اللِّسَانِ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ لِيَنْتَصِفَ بِهِ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ. وَقِيلَ: هُوَ الْحُكْمُ. وَقِيلَ: أَرَادَ وَضْعَ الْمِيزَانِ فِي الْآخِرَةِ لِوَزْنِ الْأَعْمَالِ. وَأَصْلُ مِيزَانٍ مِوْزَانٍ وَقَدْ مَضَى فِي (الْأَعْرَافِ) «4» الْقَوْلُ فِيهِ. (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) مَوْضِعُ (أن) يجوز أن يكون نصبا
__________
(1). في ب، ح، س، هـ: (وسجودهما سجود .. ).
(2). راجع ج 10 ص 111.
(3). قائله الراعي.
(4). راجع ج 7 ص 166.

(17/154)


عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ كَأَنَّهُ قَالَ: لِئَلَّا تَطْغَوْا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) «1». وَيَجُوزُ أَلَّا يَكُونَ لِ (أَنْ) موضع من الاعراب فتكون بمعنى أي و (تَطْغَوْا) عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مَجْزُومًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ «2» امْشُوا) [أَيِ امْشُوا «3»]. وَالطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. فَمَنْ قَالَ: الْمِيزَانُ الْعَدْلُ قَالَ طُغْيَانُهُ الْجَوْرُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْمِيزَانُ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ قَالَ طُغْيَانُهُ الْبَخْسُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَا تَخُونُوا مَنْ وُزِنْتُمْ لَهُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمَوَالِيَ! وُلِّيتُمْ أَمْرَيْنِ بِهِمَا هَلَكَ النَّاسُ: الْمِكْيَالُ وَالْمِيزَانُ. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ الْحُكْمُ قَالَ: طُغْيَانُهُ التَّحْرِيفُ. وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَضَعَ الْمِيزَانَ وَأَمَرَكُمْ أَلَّا تَطْغَوْا فِيهِ. (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أَيِ افْعَلُوهُ مُسْتَقِيمًا بِالْعَدْلِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَقِيمُوا لِسَانَ الْمِيزَانِ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ. وَقَالَ ابْنُ «4» عُيَيْنَةَ: الْإِقَامَةُ بِالْيَدِ وَالْقِسْطُ بِالْقَلْبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقِسْطُ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ. وَقِيلَ: هُوَ كَقَوْلِكَ أَقَامَ الصَّلَاةَ أَيْ أَتَى بِهَا فِي وَقْتِهَا، وَأَقَامَ النَّاسُ أَسْوَاقَهُمْ أَيْ أَتَوْهَا لِوَقْتِهَا. أَيْ لَا تَدَعُوا التَّعَامُلَ بِالْوَزْنِ بِالْعَدْلِ. (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) وَلَا تَنْقُصُوا الْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) «5». وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اعْدِلْ يَا بن آدَمَ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُعْدَلَ لَكَ، وَأَوْفِ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُوفَى لَكَ، فَإِنَّ الْعَدْلَ صَلَاحُ النَّاسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا تُخْسِرُوا مِيزَانَ حَسَنَاتِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَكُونَ ذَلِكَ حَسْرَةً عَلَيْكُمْ. وَكَرَّرَ الْمِيزَانَ لِحَالِ رُءُوسِ الْآيِ. وَقِيلَ: التَّكْرِيرُ لِلْأَمْرِ بِإِيفَاءِ الْوَزْنِ وَرِعَايَةِ الْعَدْلِ فِيهِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (تُخْسِرُوا) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ السِّينِ. وَقَرَأَ بِلَالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ وَأَبَانٌ عَنْ عُثْمَانَ (تَخْسَرُوا) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالسِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: أَخْسَرْتُ الْمِيزَانَ وَخَسَرْتُهُ كَأَجْبَرْتُهُ وَجَبَرْتُهُ. وَقِيلَ: (تَخْسَرُوا) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالسِّينِ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالْمَعْنَى وَلَا تَخْسَرُوا فِي الْمِيزَانِ. (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) الْأَنَامُ النَّاسُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْحَسَنُ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. الضَّحَّاكُ: كُلُّ مَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهَذَا عَامٌّ. (فِيها فاكِهَةٌ) أي كل
__________
(1). راجع ج 6 ص 29.
(2). راجع ج 15 ص 151.
(3). الزيادة من ب، ح، س، هـ.
(4). في حاشية الجمل نقلا عن القرطبي (أبو عبيدة) بدل ابن عيينة.
(5). راجع ج 9 ص 85. [ ..... ]

(17/155)


مَا يَتَفَكَّهُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَلْوَانِ الثِّمَارِ. (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) الا كمام جَمْعُ كِمٍّ بِالْكَسْرِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْكِمَّةُ بِالْكَسْرِ وَالْكِمَامَةُ وِعَاءُ الطَّلْعِ وَغِطَاءُ النَّوْرِ وَالْجَمْعُ كِمَامٌ وَأَكِمَّةٌ وَأَكْمَامٌ وَالْأَكَامِيمٌ أَيْضًا. وَكُمَّ الْفَصِيلُ إِذَا أُشْفِقَ عَلَيْهِ فَسُتِرَ حَتَّى يَقْوَى، قَالَ الْعَجَّاجُ:
بَلْ لَوْ شَهِدْتَ النَّاسَ إِذْ تُكُمُّوا ... بِغُمَّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا
وَتُكُمُّوا أَيْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمْ وَغُطُّوا. وَأَكَمَّتِ [النَّخْلَةُ «1»] وَكَمَّمَتْ أَيْ أَخْرَجَتْ أَكْمَامَهَا. وَالْكِمَامُ بِالْكَسْرِ وَالْكِمَامَةُ أَيْضًا مَا يُكَمُّ بِهِ فَمُ الْبَعِيرِ لِئَلَّا يَعَضَّ، تَقُولُ مِنْهُ: بَعِيرٌ مَكْمُومٌ أَيْ مَحْجُومٌ. وَكَمَّمْتُ الشَّيْءَ غَطَّيْتُهُ. وَالْكَمُّ مَا سَتَرَ شَيْئًا وَغَطَّاهُ، وَمِنْهُ كُمُّ الْقَمِيصِ بِالضَّمِّ وَالْجَمْعُ أَكْمَامٌ وَكِمَمَةٌ، مِثْلُ حَبٍّ وَحِبَبَةٌ. وَالْكُمَّةُ الْقَلَنْسُوَةُ الْمُدَوَّرَةُ، لِأَنَّهَا تُغَطِّي الرَّأْسَ. قَالَ:
فَقُلْتُ لَهُمْ كِيلُو بِكُمَّةِ بَعْضِكُمْ ... دَرَاهِمَكُمْ إِنِّي كَذَلِكَ أَكْيَلُ
قَالَ الْحَسَنُ: (ذاتُ الْأَكْمامِ) أَيْ ذَاتُ اللِّيفِ فَإِنَّ النَّخْلَةَ قَدْ تُكَمَّمُ بِاللِّيفِ، وَكِمَامُهَا لِيفُهَا الَّذِي فِي أَعْنَاقِهَا. ابْنُ زَيْدٍ: ذَاتُ الطَّلْعِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَتَّقَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ذَاتُ الْأَحْمَالِ. (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) الْحَبُّ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَنَحْوُهُمَا، وَالْعَصْفُ التِّبْنُ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. مُجَاهِدٌ: وَرَقُ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: تِبْنُ الزَّرْعِ وَوَرَقُهُ الَّذِي تَعْصِفُهُ الرِّيَاحُ. سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَقْلُ الزَّرْعِ أَيْ أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ مِنْهُ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَجْنَا نَعْصِفُ الزَّرْعَ إِذَا قَطَعُوا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ. وَكَذَا فِي الصِّحَاحِ: وَعَصَفْتُ الزَّرْعَ أَيْ جَزَزْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْعَصْفُ وَرَقُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ إِذَا قُطِعَ رُءُوسُهُ وَيَبِسَ، نَظِيرُهُ: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ «2» مَأْكُولٍ). الْجَوْهَرِيُّ، وَقَدْ أَعْصَفَ الزَّرْعُ، وَمَكَانٌ مُعْصِفٌ أَيْ كَثِيرُ الزَّرْعِ. قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الْأَنْصَارِيُّ:
إِذَا جُمَادَى مَنَعَتْ قَطْرَهَا ... زَانَ جَنَابِي عطن معصف
__________
(1). الزيادة من الصحاح للجوهري.
(2). راجع ج 20 ص.

(17/156)


وَالْعَصْفُ أَيْضًا الْكَسْبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ «1»:
بِغَيْرِ مَا عَصْفٍ وَلَا اصْطِرَافِ

وَكَذَلِكَ الِاعْتِصَافُ. وَالْعَصِيفَةُ الْوَرَقُ الْمُجْتَمِعُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ السُّنْبُلُ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: وَالْعَصْفُ وَالْعَصِيفَةُ وَرَقُ السُّنْبُلِ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ: وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ تَقُولُ الْعَرَبُ لِوَرَقِ الزَّرْعِ الْعَصْفُ وَالْعَصِيفَةُ وَالْجِلُّ بِكَسْرِ الْجِيمِ. قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
تَسْقِي مَذَانِبَ قَدْ مَالَتْ عَصِيفَتُهَا ... حَدُورُهَا مِنْ أَتِيِّ الْمَاءِ مَطْمُومُ
وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْجِلُّ بِالْكَسْرِ قَصَبُ الزَّرْعِ إِذَا حُصِدَ. وَالرَّيْحَانُ الرِّزْقُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. الضَّحَّاكُ: هِيَ لُغَةُ حِمْيَرَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُ الرَّيْحَانُ الَّذِي يُشَمُّ، وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّهُ خُضْرَةُ الزرع. وقال سعيد ابن جُبَيْرٍ: هُوَ مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَصْفُ الْمَأْكُولُ مِنَ الزَّرْعِ، وَالرَّيْحَانُ مَا لَا يُؤْكَلُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ الْعَصْفَ الْوَرَقُ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ، وَالرَّيْحَانُ هُوَ الْحَبُّ الْمَأْكُولُ. وَقِيلَ: الرَّيْحَانُ كُلُّ بَقْلَةٍ طَيِّبَةِ الرِّيحِ سُمِّيَتْ رَيْحَانًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرَاحُ لَهَا رَائِحَةً طَيِّبَةً. أَيْ يَشُمُّ فَهُوَ فَعْلَانُ رَوْحَانُ مِنَ الرَّائِحَةِ، وَأَصْلُ الْيَاءِ فِي الْكَلِمَةِ وَاوٌ قُلِبَ يَاءً للفرق بينه وبين الروحاني وهو كل شي له روح. قال ابن الاعرابي: يقال شي رُوحَانِيٌّ وَرَيْحَانِيٌّ أَيْ لَهُ رُوحٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَزْنِ فَيْعَلَانِ فَأَصْلُهُ رَيْوَحَانُ فَأُبْدِلَ مِنَ الْوَاوِ يَاءً وَأُدْغِمَ كَهَيِّنٍ وَلَيِّنٍ، ثُمَّ أُلْزِمَ التَّخْفِيفُ لِطُولِهِ وَلِحَاقِ الزَّائِدَتَيْنِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ، وَالْأَصْلُ فِيمَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الرَّاءِ وَالْوَاوِ وَالْحَاءِ الِاهْتِزَازُ وَالْحَرَكَةُ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَالرَّيْحَانُ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ، وَالرَّيْحَانُ الرِّزْقُ، تَقُولُ: خَرَجْتُ أَبْتَغِي رَيْحَانَ اللَّهِ، قال النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه ... وَرَحْمَتُهُ وَسَمَاءٌ دِرَرْ
وَفِي الْحَدِيثِ: (الْوَلَدُ مِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ). وَقَوْلُهُمْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَرَيْحَانَهُ، نَصَبُوهُمَا عَلَى الْمَصْدَرِ يُرِيدُونَ تَنْزِيهًا لَهُ وَاسْتِرْزَاقًا. وَأَمَّا قوله: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) فالعصف
__________
(1). قائله العجاج. وصدر البيت:
قد يكسب المال الهدان الجافي

والهدان الأحمق.

(17/157)


سَاقُ الزَّرْعِ، وَالرَّيْحَانُ وَرَقُهُ، عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْفَاكِهَةِ. وَنَصَبَهَا كُلَّهَا ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْمُغِيرَةُ عَطْفًا عَلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ وَخَلَقَ الْحَبَّ ذَا الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانَ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى (ذاتُ الْأَكْمامِ). وَجَرَّ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (الرَّيْحَانَ) عَطْفًا عَلَى الْعَصْفِ، أَيْ فِيهَا الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الرَّيْحَانَ الرِّزْقَ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْحَبُّ ذُو الرِّزْقِ. وَالرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْعَصْفُ رِزْقًا، لِأَنَّ الْعَصْفَ رِزْقٌ لِلْبَهَائِمِ، وَالرَّيْحَانُ رِزْقٌ لِلنَّاسِ، وَلَا شُبْهَةَ فِيهِ فِي قول من قال إنه الريحان المشموم. قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) خِطَابٌ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، لِأَنَّ الْأَنَامَ وَاقِعٌ عَلَيْهِمَا. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ أَوَّلَ السُّورَةِ، وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِيهِ (لَلْجِنُّ أَحْسَنُ مِنْكُمْ «1» رَدًّا). وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ: (خَلَقَ الْإِنْسانَ) (وَخَلَقَ الْجَانَّ) دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تأخر لهما. وأيضا قال: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) وَهُوَ خِطَابٌ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَقَدْ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: خَاطَبَ الْجِنَّ مَعَ الْإِنْسِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْجِنِّ ذِكْرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «2»). وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الْجِنِّ فِيمَا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ كَالْإِنْسِ خُوطِبَ الْجِنْسَانِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْإِنْسِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْخِطَابِ لِلْوَاحِدِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَوْلِ فِي (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) «3». وكذلك قوله:
قفا نبك «4» ...

وخليلي مرابي «5» ...
__________
(1). رواية الترمذي المتقدمة تخالف هذه الرواية في اللفظ وهذه رواية الحاكم.
(2). راجع ج 15 ص 195.
(3). راجع ص 16 من هذا الجزء.
(4). البيت مطلع معلقة امرى القيس وتمامه:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل

(5). البيت مطلع قصيدة لامرى القيس أيضا والبيت بتمامه:
خليلي مرابى على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب

(17/158)


فأما ما بعد (خَلَقَ الْإِنْسانَ) و (خَلَقَ الْجَانَّ) فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) وَالْآلَاءُ النِّعَمُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَاحِدُهَا إِلًى وَأَلًى مِثْلُ مِعًى وَعَصًا، وَإِلْيٌ وَأَلْيٌ أَرْبَعُ لُغَاتٍ حَكَاهَا النَّحَّاسُ قَالَ: وَفِي وَاحِدِ (آناءَ اللَّيْلِ) ثَلَاثٌ تَسْقُطُ مِنْهَا الْمَفْتُوحَةُ الْأَلِفِ الْمُسَكَّنَةُ اللَّامِ، وَقَدْ مَضَى فِي (الْأَعْرَافِ) «1» وَ (النَّجْمِ) «2». وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا الْقُدْرَةُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَبِأَيِّ قُدْرَةِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَاخْتَارَهُ التِّرْمِذِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَالَ: هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ عَلَمُ الْقُرْآنِ، وَالْعَلَمُ إِمَامُ الْجُنْدِ وَالْجُنْدُ تَتْبَعُهُ، وَإِنَّمَا صَارَتْ عَلَمًا لِأَنَّهَا سُورَةُ صِفَةِ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ، فَقَالَ: (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) فَافْتَتَحَ السُّورَةَ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ مِنْ بَيْنِ الْأَسْمَاءِ لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَصِفُهُ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِهِ وَمِنْ مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ خَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الرَّحْمَةِ الْعُظْمَى مِنْ رَحْمَانِيَّتِهِ فَقَالَ: (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ثُمَّ ذَكَرَ الْإِنْسَانَ فَقَالَ: (خَلَقَ الْإِنْسانَ) ثُمَّ ذَكَرَ مَا صَنَعَ بِهِ وَمَا مَنَّ عَلَيْهِ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ حُسْبَانَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَسُجُودَ الْأَشْيَاءِ مِمَّا نَجَمَ وَشَجَرَ، وَذَكَرَ رَفْعَ السَّمَاءِ وَوَضْعَ الْمِيزَانِ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَوَضْعَ الْأَرْضِ لِلْأَنَامِ، فَخَاطَبَ هَذَيْنِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ حِينَ رَأَوْا مَا خَرَجَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ بِرَحْمَانِيَّتِهِ الَّتِي رَحِمَهُمْ بِهَا مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَلَا حَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ، فَأَشْرَكُوا بِهِ الْأَوْثَانَ وَكُلَّ مَعْبُودٍ اتَّخَذُوهُ مِنْ دُونِهِ، وَجَحَدُوا الرَّحْمَةَ الَّتِي خَرَجَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِهَا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ سَائِلًا لَهُمْ: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أَيْ بِأَيِّ قُدْرَةِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فَإِنَّمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ شَرِيكًا يملك معه يقدر مَعَهُ، فَذَلِكَ تَكْذِيبُهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ صَلْصَالٍ، وَذَكَرَ خَلْقَ الْجَانِّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ فَقَالَ: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أَيْ بِأَيِّ قُدْرَةِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فَإِنَّ لَهُ فِي كُلِّ خَلْقٍ بَعْدَ خَلْقٍ قُدْرَةً بَعْدَ قُدْرَةٍ، فَالتَّكْرِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْرِيرِ، وَاتِّخَاذِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمَا وَقَفَهُمْ عَلَى خَلْقٍ خَلْقٍ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدَّدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع
__________
(1). راجع ج 7 ص 237.
(2). راجع ص 121 من هذا الجزء.

(17/159)


خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)

كُلَّ خَلَّةٍ وَصَفَهَا وَنِعْمَةٍ وَضَعَهَا بِهَذِهِ، وَجَعَلَهَا فَاصِلَةً بَيْنَ كُلِّ نِعْمَتَيْنِ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى النِّعَمِ وَيُقَرِّرَهُمْ بِهَا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تَتَابَعَ فِيهِ إحسانك وهو يكفره ومنكره: أَلَمْ تَكُنْ فَقِيرًا فَأَغْنَيْتُكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟! أَلَمْ تَكُنْ خَامِلًا فَعَزَزْتُكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟! أَلَمْ تَكُنْ صَرُورَةً «1» فَحَجَجْتُ بِكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا!؟ أَلَمْ تَكُنْ رَاجِلًا فَحَمَلْتُكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟! وَالتَّكْرِيرُ حَسَنٌ فِي مِثْلِ هَذَا. قَالَ:
كَمْ نِعْمَةٍ كَانَتْ لَكُمْ كَمْ كَمْ وَكَمْ

وَقَالَ آخَرُ:
لَا تَقْتُلِي مُسْلِمًا إِنْ كُنْتِ مُسْلِمَةً ... إِيَّاكِ مِنْ دَمِهِ إِيَّاكِ إِيَّاكِ
وَقَالَ آخَرُ:
لَا تَقْطَعَنَّ الصَّدِيقَ مَا طَرَفَتْ ... عَيْنَاكَ مِنْ قَوْلِ كَاشِحٍ أَشِرِ
وَلَا تَمَلَّنَّ مِنْ زِيَارَتِهِ زُرْهُ ... وَزُرْهُ وَزُرْ وَزُرْ وَزُرِ
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: التَّكْرِيرُ طردا للغفلة، وتأكيدا للحجة.

[سورة الرحمن (55): الآيات 14 الى 18]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَلَقَ الْإِنْسانَ) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمَا فِيهِمَا مِنَ الدَّلَالَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ ذَكَرَ خَلْقَ الْعَالَمِ الصَّغِيرِ فَقَالَ: (خَلَقَ الْإِنْسانَ) بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ يَعْنِي آدَمَ. (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) الصَّلْصَالُ الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي يُسْمَعُ لَهُ صَلْصَلَةٌ، شَبَّهَهُ بِالْفَخَّارِ الَّذِي طُبِخَ. وَقِيلَ: هُوَ طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ. وَقِيلَ: هُوَ الطِّينُ الْمُنْتِنُ مِنْ صَلَّ اللَّحْمُ وَأَصَلَّ إِذَا أَنْتَنَ، وَقَدْ مَضَى فِي (الْحِجْرِ) «2». وَقَالَ هُنَا: (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) وَقَالَ هُنَاكَ: (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). وقال:
__________
(1). الصرورة: الذي لم يحج قط.
(2). راجع ج 10 ص 21.

(17/160)


مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ «1». وَقَالَ: (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ «2» مِنْ تُرابٍ) وَذَلِكَ مُتَّفَقُ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ فَعَجَنَهُ فَصَارَ طِينًا، ثُمَّ انْتَقَلَ فَصَارَ كَالْحَمَإِ الْمَسْنُونِ، ثُمَّ انْتَقَلَ فَصَارَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ. (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) قَالَ الْحَسَنُ: الْجَانُّ إِبْلِيسُ وَهُوَ أَبُو الْجِنِّ. وَقِيلَ: الْجَانُّ وَاحِدُ الْجِنِّ، وَالْمَارِجُ اللَّهَبُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْجَانَّ مِنْ خَالِصِ النَّارِ. وَعَنْهُ أَيْضًا مِنْ لِسَانِهَا الَّذِي يَكُونُ فِي طَرَفِهَا إِذَا الْتَهَبَتْ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْمَارِجُ الشُّعْلَةُ السَّاطِعَةُ ذَاتُ اللَّهَبِ الشَّدِيدِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ اللَّهَبُ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ فَيَخْتَلِطُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وَأَخْضَرُ، وَنَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَكُلُّهُ مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى. وَقِيلَ: الْمَارِجُ كُلُّ أَمْرٍ مُرْسَلٍ غَيْرِ مَمْنُوعٍ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَارِجُ النَّارُ الْمُرْسَلَةُ الَّتِي لَا تُمْنَعُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْحَسَنُ: الْمَارِجُ خَلْطُ النَّارِ، وَأَصْلُهُ مِنْ مَرِجَ إِذَا اضْطَرَبَ وَاخْتَلَطَ، وَيُرْوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ نَارَيْنِ فَمَرَجَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَأَكَلَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَهِيَ نَارُ السَّمُومِ فَخَلَقَ مِنْهَا إِبْلِيسَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْمَارِجُ فِي اللُّغَةِ الْمُرْسَلُ أَوِ الْمُخْتَلَطُ وَهُوَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كقوله: (ماءٍ دافِقٍ) «3» و (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) «4» وَالْمَعْنَى ذُو مَرْجٍ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصحاح: و (مارِجٍ مِنْ نارٍ) نَارٌ لَا دُخَانَ لَهَا خُلِقَ مِنْهَا الْجَانُّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (. قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أَيْ هُوَ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ. وَفِي الصَّافَّاتِ (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) وَقَدْ مضى الكلام في ذلك هنالك «5»

[سورة الرحمن (55): الآيات 19 الى 23]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
__________
(1). راجع ج 15 ص 63 وص 68.
(2). راجع ج 4 ص 102. [ ..... ]
(3). راجع ج 20 ص 4.
(4). راجع ج 18 ص 270.
(5). راجع ج 15 ص 63 وص 68.

(17/161)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ) (مَرَجَ) أَيْ خَلَّى وَأَرْسَلَ وَأَهْمَلَ، يُقَالُ: مَرَجَ السُّلْطَانُ النَّاسَ إِذَا أَهْمَلَهُمْ. وَأَصْلُ الْمَرْجِ الْإِهْمَالُ كَمَا تُمْرَجُ الدَّابَّةُ فِي الْمَرْعَى. وَيُقَالُ: مَرَجَ خَلَطَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَقُولُ قَوْمٌ أَمْرَجَ الْبَحْرَيْنِ مِثْلَ مَرَجَ، فَعَلَ وَأَفْعَلَ بِمَعْنًى. (الْبَحْرَيْنِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَحْرُ السَّمَاءِ وَبَحْرُ الْأَرْضِ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. (يَلْتَقِيانِ) فِي كُلِّ عَامٍ. وَقِيلَ: يَلْتَقِي طَرَفَاهُمَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: بَحْرُ فَارِسَ وَالرُّومِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّهُ الْبَحْرُ الْمَالِحُ وَالْأَنْهَارُ الْعَذْبَةُ. وَقِيلَ: بحر المشرق والمغرب يلتقي طرفاهم. وَقِيلَ: بَحْرُ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ. (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أَيْ حَاجِزٌ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الْأَرْضُ الَّتِي بَيْنَهُمَا وَهِيَ الْحِجَازُ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَعَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَقْوَالِ الْقُدْرَةُ الْإِلَهِيَّةُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي (الْفُرْقَانِ) «1». وَفِي الْخَبَرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ النَّاحِيَةَ الْغَرْبِيَّةَ فقال: إني جاعل فيك عبادا لي يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فَكَيْفَ أَنْتِ لَهُمْ؟ فَقَالَتْ: أُغْرِقُهُمْ يَا رَبِّ. قَالَ: إِنِّي أَحْمِلُهُمْ عَلَى يَدِي، وَأَجْعَلُ بَأْسَكِ فِي نَوَاحِيكِ. ثُمَّ كَلَّمَ النَّاحِيَةَ الشَّرْقِيَّةَ فَقَالَ: إني جاعل فيك عبادا يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فَكَيْفَ أَنْتِ لَهُمْ؟ قَالَتْ: أُسَبِّحُكَ مَعَهُمْ إِذَا سَبَّحُوكَ، وَأُكَبِّرُكَ مَعَهُمْ إِذَا كَبَّرُوكَ، وَأُهَلِّلُكَ مَعَهُمْ إِذَا هَلَّلُوكَ، وَأُمَجِّدُكَ مَعَهُمْ إِذَا مَجَّدُوكَ، فَأَثَابَهَا اللَّهُ الْحِلْيَةَ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا، وَتَحَوَّلَ أَحَدُهُمَا مِلْحًا أُجَاجًا، وَبَقِيَ الْآخَرُ عَلَى حَالَتِهِ عَذْبًا فُرَاتًا) ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ الْعُمَرِيُّ عَنْ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (لَا يَبْغِيانِ) قَالَ قَتَادَةُ: لَا يَبْغِيَانِ عَلَى النَّاسِ فَيُغْرِقَانِهِمْ، جَعَلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَبَسًا «2». وَعَنْهُ أَيْضًا وَمُجَاهِدٍ: لَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَيَغْلِبَهُ. ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى (لَا يَبْغِيانِ) أَنْ يَلْتَقِيَا، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، لَوْلَا الْبَرْزَخُ الَّذِي بَيْنَهُمَا لَا يَبْغِيَانِ أَنْ يَلْتَقِيَا. وَقِيلَ: الْبَرْزَخُ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَيْ بَيْنَهُمَا مُدَّةٌ قَدَّرَهَا اللَّهُ وَهِيَ مُدَّةُ الدُّنْيَا فَهُمَا لَا يَبْغِيَانِ، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ فِي انْقِضَاءِ الدُّنْيَا صَارَ البحران
__________
(1). راجع ج 13 ص 58.
(2). في ب، ح، ز، س، ل، هـ: (اليبس).

(17/162)


شيئا واحدا، وهو كقوله وتعالى: (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) «1». وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْبَحْرَانِ طَرِيقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْبَرْزَخُ الَّذِي بَيْنَهُمَا التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [أَيْ يَخْرُجُ لَكُمْ مِنَ الْمَاءِ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ «2»]، كَمَا يَخْرُجُ مِنَ التُّرَابِ الْحَبُّ والعصف والريحان. وقرا نافع وأبو عمر (يُخْرَجُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ. الْبَاقُونَ (يَخْرُجُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ عَلَى أَنَّ اللُّؤْلُؤَ هُوَ الْفَاعِلُ. وَقَالَ: (مِنْهُمَا) وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْحِ لَا الْعَذْبِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْمَعُ الْجِنْسَيْنِ ثُمَّ تُخْبِرُ عَنْ أَحَدِهِمَا، كقوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
«3» نْكُمْ) وإنما الرسل من الانس دون الجن، قاله الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَدْ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فإذا خرج من أحدهما شي فَقَدْ خَرَجَ مِنْهُمَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ»
نُوراً) وَالْقَمَرُ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا وَلَكِنْ أَجْمَلَ ذِكْرَ السَّبْعِ فَكَأَنَّ مَا فِي إِحْدَاهُنَّ فِيهِنَّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ مِنْ إِحْدَاهُمَا، كَقَوْلِهِ: (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ «5» عَظِيمٍ) أَيْ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ يَخْرُجُ اللُّؤْلُؤُ مِنَ الْعَذْبِ. وَقِيلَ: هُمَا بَحْرَانِ يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا اللُّؤْلُؤُ وَمِنَ الْآخَرِ الْمَرْجَانُ. ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا بَحْرَا السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَإِذَا وَقَعَ مَاءُ السَّمَاءِ فِي صَدَفِ الْبَحْرِ انْعَقَدَ لُؤْلُؤًا فَصَارَ خَارِجًا مِنْهُمَا، وَقَالَهُ الطَّبَرِيُّ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَلَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّ نَوَاةً كَانَتْ فِي جَوْفِ صَدَفَةٍ، فَأَصَابَتِ الْقَطْرَةُ بَعْضَ النَّوَاةِ وَلَمْ تُصِبِ الْبَعْضَ، فَكَانَ حَيْثُ أَصَابَ الْقَطْرَةَ مِنَ النَّوَاةِ لُؤْلُؤَةٌ وَسَائِرُهَا نَوَاةٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَذْبَ وَالْمِلْحَ قَدْ يَلْتَقِيَانِ، فَيَكُونُ الْعَذْبُ كَاللِّقَاحِ لِلْمِلْحِ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمَا كَمَا يُنْسَبُ الْوَلَدُ إِلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَإِنْ وَلَدَتْهُ الْأُنْثَى، لِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَخْرُجُ اللُّؤْلُؤُ إلا من موضع يَلْتَقِي فِيهِ الْعَذْبُ وَالْمِلْحُ. وَقِيلَ: الْمَرْجَانُ عِظَامُ اللُّؤْلُؤِ وَكِبَارُهُ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَاللُّؤْلُؤُ صِغَارُهُ. وَعَنْهُمَا أَيْضًا بِالْعَكْسِ: إِنَّ اللُّؤْلُؤَ كِبَارُ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانَ صِغَارُهُ، وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مَالِكٍ: المرجان الخرز الأحمر.
__________
(1). راجع ج 19 ص (242)
(2). ما بين المربعين ساقط من ز، ل.
(3). راجع ج 7 ص (85)
(4). راجع ج 18 ص (304)
(5). راجع ج 16 ص 82

(17/163)


وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)

[سورة الرحمن (55): الآيات 24 الى 25]
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَهُ الْجَوارِ) يعنى السفن. (الْمُنْشَآتُ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (الْمُنْشَآتُ) بِفَتْحِ الشِّينِ، قَالَ قَتَادَةُ: أَيِ الْمَخْلُوقَاتُ لِلْجَرْيِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِنْشَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ السُّفُنُ الَّتِي رُفِعَ قِلْعُهَا، قَالَ: وإذا لم يرفع قلعها فليست بمنشئات. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهَا الْمُجْرَيَاتُ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى سُفُنًا مُقْلَعَةً، فقال: ورب هذه الجواري المنشئات مَا قَتَلْتُ عُثْمَانَ وَلَا مَالَأْتُ فِي قَتْلِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِاخْتِلَافٍ عنه (الْمُنْشَآتُ) بِكَسْرِ الشِّينِ أَيِ الْمُنْشِئَاتُ السَّيْرَ، أُضِيفَ الْفِعْلُ إِلَيْهَا عَلَى التَّجَوُّزِ وَالِاتِّسَاعِ. وَقِيلَ: الرَّافِعَاتُ الشُّرُعِ أَيِ الْقُلُعِ. وَمَنْ فَتَحَ الشِّينَ قَالَ: الْمَرْفُوعَاتُ الشُّرَعِ. (كَالْأَعْلامِ) أَيْ كَالْجِبَالِ، وَالْعَلَمُ الْجَبَلُ الطَّوِيلُ، قَالَ «1»:
إِذَا قَطَعْنَ عَلَمًا بَدَا عَلَمُ

فَالسُّفُنُ فِي الْبَحْرِ كَالْجِبَالِ فِي الْبَرِّ، وَقَدْ مَضَى فِي (الشُّورَى) بَيَانُهُ «2». وَقَرَأَ يَعْقُوبُ (الْجَوَارِي) بِيَاءٍ في الوقف، وحذف الباقون.

[سورة الرحمن (55): الآيات 26 الى 28]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) الضَّمِيرُ فِي (عَلَيْها) لِلْأَرْضِ، وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ أَكْرَمُ مَنْ عَلَيْهَا،
__________
(1). قائله جرير، وتمام البيت:
حتى تناهين بنا إلى الحكم

وبعده:
خليفة الحجاج غير المتهم ... في ضئضئ المجد وبؤبؤ الكرم

(2). راجع ج 16 ص 23

(17/164)


يَعْنُونَ الْأَرْضَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ هَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ فَنَزَلَتْ: (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) «1» فَأَيْقَنَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالْهَلَاكِ، وَقَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَوَجْهُ النِّعْمَةِ فِي فَنَاءِ الْخَلْقِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَوْتِ، وَمَعَ الْمَوْتِ تَسْتَوِي الْأَقْدَامُ. وَقِيلَ: وَجْهُ النِّعْمَةِ أَنَّ الْمَوْتَ سَبَبُ النَّقْلِ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ. (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أَيْ وَيَبْقَى اللَّهُ، فَالْوَجْهُ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِهِ وَذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
قَضَى عَلَى خلقه المنايا ... فكل شي سِوَاهُ فَانِي
وَهَذَا الَّذِي ارْتَضَاهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا: ابْنُ فَوْرَكٍ وَأَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوَجْهُ عِبَارَةٌ عَنْهُ كَمَا قَالَ: (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَأَمَّا الْوَجْهُ فَالْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ مُعْظَمِ أَئِمَّتِنَا وُجُودُ الْبَارِي تَعَالَى، وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ شَيْخُنَا. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) والموصف بِالْبَقَاءِ عِنْدَ تَعَرُّضِ الْخَلْقِ لِلْفَنَاءِ وُجُودُ الْبَارِي تَعَالَى. وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ) «2» الْقَوْلُ فِي هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْكِتَابِ الْأَسْنَى مُسْتَوْفًى. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: قَالَ قَوْمٌ هُوَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ لَا تُكَيَّفُ، يَحْصُلُ بِهَا الْإِقْبَالُ عَلَى مَنْ أَرَادَ الرَّبُّ تَخْصِيصَهُ بِالْإِكْرَامِ. وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: وَجْهُهُ وُجُودُهُ وَذَاتُهُ، يُقَالُ: هذا وجه الامر وَوَجْهُ الصَّوَابِ وَعَيْنُ الصَّوَابِ. وَقِيلَ: أَيْ يَبْقَى الظَّاهِرُ بِأَدِلَّتِهِ كَظُهُورِ الْإِنْسَانِ بِوَجْهِهِ. وَقِيلَ: وَتَبْقَى الْجِهَةُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ. (ذُو الْجَلالِ) الْجَلَالُ عَظَمَةُ اللَّهِ وَكِبْرِيَاؤُهُ وَاسْتِحْقَاقُهُ صِفَاتَ الْمَدْحِ، يُقَالُ: جَلَّ الشَّيْءُ أَيْ عَظُمَ وَأَجْلَلْتُهُ أَيْ عَظَّمْتُهُ، وَالْجَلَالُ اسْمٌ مِنْ جَلَّ. (وَالْإِكْرامِ) أي هو أهل لان يكرم عمالا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الشِّرْكِ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا أُكْرِمُكَ عَنْ هَذَا، وَمِنْهُ إِكْرَامُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَيْنِ، الِاسْمَيْنِ لُغَةً وَمَعْنًى فِي الْكِتَابِ الْأَسْنَى مُسْتَوْفًى. وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَلِظُّوا بيا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ). وَرُوِيَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَعْنَاهُ: الْزَمُوا ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ. قال أبو عبيد:
__________
(1). راجع ج 13 ص 322.
(2). راجع ج 2 ص 83. [ ..... ]

(17/165)


يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

الْإِلْظَاظُ لُزُومُ الشَّيْءِ وَالْمُثَابَرَةُ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: الْإِلْظَاظُ الْإِلْحَاحُ. وَعَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ. أَنَّ رَجُلًا أَلَحَّ فَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ! اللَّهُمَّ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ! فَنُودِيَ: إِنِّي قد سمعت فما حاجتك؟

[سورة الرحمن (55): الآيات 29 الى 30]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
قَوْلُهُ تعالى: (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قِيلَ: الْمَعْنَى يَسْأَلُهُ من في السموات الرَّحْمَةَ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ الرِّزْقَ. وَقَالَ ابْنُ عباس وأبو صالح: أهل السموات يَسْأَلُونَهُ الْمَغْفِرَةَ وَلَا يَسْأَلُونَهُ الرِّزْقَ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُمَا جَمِيعًا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَتَسْأَلُ الْمَلَائِكَةُ الرِّزْقَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، فَكَانَتِ الْمَسْأَلَتَانِ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَلَكًا لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ [وَجْهٌ «1»] كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَسْأَلُ اللَّهَ الرِّزْقَ لِبَنِي آدَمَ وَوَجْهٌ كَوَجْهِ الْأَسَدِ وَهُوَ يَسْأَلُ اللَّهَ الرِّزْقَ لِلسِّبَاعِ وَوَجْهٌ كَوَجْهِ الثَّوْرِ وَهُوَ يَسْأَلُ اللَّهَ الرِّزْقَ لِلْبَهَائِمِ وَوَجْهٌ كَوَجْهِ النَّسْرِ وَهُوَ يَسْأَلُ اللَّهَ الرِّزْقَ لِلطَّيْرِ (. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: إِنَّهُمْ سَأَلُوهُ الْقُوَّةَ عَلَى الْعِبَادَةِ.) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ. وَانْتَصَبَ (كُلَّ يَوْمٍ) ظَرْفًا، لِقَوْلِهِ: (فِي شَأْنٍ) أَوْ ظَرْفًا لِلسُّؤَالِ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ (هُوَ فِي شَأْنٍ). وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قَالَ: (مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا وَيُفَرِّجَ كَرْبًا وَيَرْفَعَ قَوْمًا «2» وَيَضَعَ آخَرِينَ). وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قَالَ: (يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا وَيُجِيبُ دَاعِيًا). وَقِيلَ: مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحْيِيَ وَيُمِيتَ، وَيُعِزَّ وَيُذِلَّ، وَيَرْزُقَ وَيَمْنَعَ. وَقِيلَ: أَرَادَ شَأْنَهُ فِي يَوْمَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الدَّهْرُ كُلُّهُ يَوْمَانِ، أَحَدُهُمَا مُدَّةُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَالْآخَرُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَشَأْنُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَيَّامِ الدُّنْيَا الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَشَأْنُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الجزاء والحساب،
__________
(1). الزيادة من ب، ح ز، س، ل، هـ.
(2). في ب، ح، ز، س، ل، هـ: (أقواما).

(17/166)


وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ شَأْنِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَالشَّأْنُ فِي اللُّغَةِ الْخَطْبُ الْعَظِيمُ والجمع الشئون والمراد بالشأن ها هنا الْجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ «1» طِفْلًا). وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: شَأْنُهُ سَوْقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ. وَقَالَ عمرو ابن مَيْمُونٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُمِيتَ حَيًّا، وَيُقِرَّ فِي الْأَرْحَامِ مَا شَاءَ، وَيُعِزَّ ذَلِيلًا، وَيُذِلَّ عَزِيزًا. وَسَأَلَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ وَزِيرَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا، وَاسْتَمْهَلَهُ إِلَى الْغَدِ فَانْصَرَفَ كَئِيبًا إِلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ لَهُ غُلَامٌ لَهُ أَسْوَدُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ: عُدْ إِلَى الْأَمِيرِ فَإِنِّي أُفَسِّرُهَا لَهُ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ! شَأْنُهُ أَنْ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، وَيُخْرِجَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَيَشْفِيَ سَقِيمًا، وَيُسْقِمَ سَلِيمًا، وَيَبْتَلِيَ مُعَافًى، وَيُعَافِيَ مُبْتَلًى، وَيُعِزَّ ذَلِيلًا، وَيُذِلَّ عَزِيزًا، وَيُفْقِرَ غَنِيًّا، وَيُغْنِيَ فَقِيرًا، فَقَالَ لَهُ: فَرَّجْتَ عَنِّي فَرَّجَ اللَّهُ عَنْكَ، ثُمَّ أَمَرَ بِخَلْعِ ثِيَابِ الْوَزِيرِ وَكَسَاهَا الْغُلَامَ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ! هَذَا مِنْ شَأْنِ الله تعالى. وعن عبد الله ابن طَاهِرٍ: أَنَّهُ دَعَا الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ وَقَالَ لَهُ: أَشْكَلَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُ آيَاتٍ دَعَوْتُكَ لِتَكْشِفَهَا لِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) «2» وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّدَمَ تَوْبَةٌ. وَقَوْلُهُ: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْقَلَمَ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلِهِ: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى) «3» فَمَا بَالُ الْأَضْعَافِ؟ فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَجُوزُ أَلَّا يَكُونَ النَّدَمُ تَوْبَةً فِي تِلْكَ الْأُمَّةِ، وَيَكُونُ تَوْبَةً فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِخَصَائِصَ لَمْ تُشَارِكْهُمْ فِيهَا الْأُمَمُ. وَقِيلَ: إِنَّ نَدَمَ قَابِيلَ لَمْ يَكُنْ عَلَى قَتْلِ هَابِيلَ وَلَكِنْ عَلَى حَمْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فَإِنَّهَا شُئُونٌ يُبْدِيهَا لَا شُئُونٌ يَبْتَدِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى) فَمَعْنَاهُ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا سَعَى عَدْلًا وَلِي أَنْ أَجْزِيَهُ بِوَاحِدَةٍ أَلْفًا فَضْلًا. فَقَامَ عَبْدُ الله وقبل رأسه وسوغ خراجه.
__________
(1). راجع ج 15 ص (330)
(2). راجع ج 6 ص (143)
(3). راجع ج 17 ص

(17/167)


سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)

[سورة الرحمن (55): الآيات 31 الى 36]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) يُقَالُ: فَرَغْتُ مِنَ الشُّغْلِ أَفْرُغُ فُرُوغًا وَفَرَاغًا وَتَفَرَّغْتُ لِكَذَا وَاسْتَفْرَغْتُ مَجْهُودِي فِي كَذَا أَيْ بَذَلْتُهُ. وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ شُغْلٌ يَفْرُغُ مِنْهُ، إِنَّمَا الْمَعْنَى سَنَقْصِدُ لِمُجَازَاتِكُمْ أَوْ مُحَاسَبَتِكُمْ، وَهَذَا وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُرِيدُ تَهْدِيدَهُ: إِذًا أَتَفَرَّغُ لَكَ أَيْ أَقْصِدُكَ. وَفَرَغَ بِمَعْنَى قَصَدَ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا لِجَرِيرٍ:
الْآنَ وَقَدْ فَرَغْتُ إِلَى نُمَيْرٍ ... فَهَذَا حِينَ كُنْتُ لَهَا عَذَابَا
يُرِيدُ وَقَدْ قَصَدْتُ. وَقَالَ أَيْضًا «1» وَأَنْشَدَهُ النَّحَّاسُ:
فَرَغْتُ إِلَى الْعَبْدِ الْمُقَيَّدِ فِي الْحِجْلِ

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَ الْأَنْصَارَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، صَاحَ الشيطان: يأهل الْجُبَاجِبِ «2»! هَذَا مُذَمَّمٌ يُبَايِعُ بَنِي قَيْلَةَ عَلَى حَرْبِكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَذَا إِزْبُ الْعَقَبَةِ «3» أَمَا وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ الله لا تفرغن لَكَ) أَيْ أَقْصِدُ إِلَى إِبْطَالِ أَمْرِكَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقُتَبِيِّ وَالْكِسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ عَلَى التَّقْوَى وَأَوْعَدَ عَلَى الْفُجُورِ، ثُمَّ قَالَ: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) مِمَّا وَعَدْنَاكُمْ وَنُوصِلُ كُلًّا إِلَى مَا وَعَدْنَاهُ، أَيْ أَقْسِمُ ذَلِكَ وَأَتَفَرَّغُ مِنْهُ. قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأُبَيٌّ (سَنَفْرُغُ إِلَيْكُمْ) وَقَرَأَ الأعمش وإبراهيم
__________
(1). أي جرير.
(2). الجباجب: منازل منى
(3). الأزب: ضبطه الحلبي في سيرته بكسر الهمزة واسكان الزاي، وهو هنا اسم شيطان.

(17/168)


(سَيُفْرَغُ لَكُمْ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ شِهَابٍ وَالْأَعْرَجُ (سَنَفْرَغُ لَكُمْ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالرَّاءِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ يَقُولُونَ فَرَغَ يَفْرَغُ، وَحَكَى أَيْضًا فَرَغَ يَفْرَغُ وَرَوَاهُمَا هُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَرَوَى الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو (سَيَفْرَغُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ. وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى الثَّقَفِيِّ (سَنِفْرَغُ لَكُمْ) بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (سَيَفْرُغُ لَكُمْ) بِالْيَاءِ. الْبَاقُونَ بِالنُّونِ وَهِيَ لُغَةُ تِهَامَةَ. وَالثَّقَلَانِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِعِظَمِ شَأْنِهِمَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِهِمَا بِسَبَبِ التَّكْلِيفِ. وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ثِقْلٌ عَلَى الْأَرْضِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) «1» وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَعْطِهِ ثِقْلَهُ أَيْ وَزْنَهَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ المعاني: كل شي لَهُ قَدْرٌ وَوَزْنٌ يُنَافَسُ فِيهِ فَهُوَ ثِقْلٌ. وَمِنْهُ قِيلَ لِبَيْضِ النَّعَامِ ثِقْلٌ، لِأَنَّ وَاجِدَهُ وَصَائِدَهُ يَفْرَحُ بِهِ إِذَا ظَفِرَ بِهِ. وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: سُمِّيَا ثَقَلَيْنِ، لِأَنَّهُمَا مُثْقَلَانِ بِالذُّنُوبِ. وَقَالَ: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) فَجَمَعَ، ثُمَّ قَالَ: (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) لِأَنَّهُمَا فَرِيقَانِ وَكُلُّ فَرِيقٍ جَمْعٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) وَلَمْ يَقُلْ إِنِ اسْتَطَعْتُمَا، لِأَنَّهُمَا فَرِيقَانِ فِي حَالِ الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) «2» وَ (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا «3» فِي رَبِّهِمْ) وَلَوْ قَالَ: سَنَفْرُغُ لَكُمَا «4»، وَقَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتُمَا لَجَازَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ (أَيُّهُ الثَّقَلَانِ) بِضَمِّ الْهَاءِ. الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ «5». مَسْأَلَةٌ- هَذِهِ السُّورَةُ وَ (الْأَحْقَافُ) وَ (قُلْ أُوحِيَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ مُخَاطَبُونَ مُكَلَّفُونَ مَأْمُورُونَ مَنْهِيُّونَ مُثَابُونَ مُعَاقَبُونَ كَالْإِنْسِ سَوَاءٌ، مُؤْمِنُهِمْ كَمُؤْمِنِهِمْ، وَكَافِرُهِمْ كَكَافِرِهِمْ، لَا فَرْقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي شي مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) الْآيَةَ. ذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَأَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَتَشَقَّقَتْ بِأَهْلِهَا، فَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى حَافَّاتِهَا حَتَّى يَأْمُرَهُمُ الرَّبُّ، فَيَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ فَيُحِيطُونَ بِالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا، ثُمَّ يأمر الله السماء التي تليها
__________
(1). راجع ج 20 ص 147.
(2). راجع ج 13 ص 214.
(3). راجع ج 12 ص 25 وص 238 وج 16 ص (97)
(4). أي في غير القرآن.
(5). راجع ج 12 ص 25 وص 238 وج 16 ص (97)

(17/169)


كَذَلِكَ فَيَنْزِلُونَ فَيَكُونُونَ صَفًّا مِنْ خَلْفِ «1» ذَلِكَ الصَّفِّ، ثُمَّ السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ ثُمَّ الرَّابِعَةَ ثُمَّ الْخَامِسَةَ ثُمَّ السَّادِسَةَ ثُمَّ السَّابِعَةَ، فَيَنْزِلُ الْمَلِكُ الْأَعْلَى فِي بَهَائِهِ وَمُلْكِهِ وَمُجَنَّبَتِهِ الْيُسْرَى جَهَنَّمُ، فَيَسْمَعُونَ زَفِيرَهَا وَشَهِيقَهَا، فَلَا يَأْتُونَ قُطْرًا مِنْ أَقْطَارِهَا إِلَّا وَجَدُوا صُفُوفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) وَالسُّلْطَانُ الْعُذْرُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمُ انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ، وَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ، فَتَهْرُبُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، فَتُحْدِقُ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. قُلْتُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْمَوْتِ فَاهْرُبُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تعلموا ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَاعْلَمُوهُ، وَلَنْ تَعْلَمُوهُ إِلَّا بِسُلْطَانٍ أَيْ بِبَيِّنَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَى: (لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) لَا تَخْرُجُونَ مِنْ سُلْطَانِي وَقُدْرَتِي عَلَيْكُمْ. قَتَادَةُ: لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِمَلَكٍ وَلَيْسَ لَكُمْ مَلَكٌ. وَقِيلَ: لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا إِلَى سُلْطَانٍ «2»، الْبَاءُ بِمَعْنَى إِلَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَدْ أَحْسَنَ «3» بِي) أَيْ إِلَيَّ. قَالَ الشَّاعِرُ «4»:
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُولَةٌ ... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ
وَقَوْلُهُ: (فَانْفُذُوا) أَمْرُ تَعْجِيزٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) أَيْ لَوْ خَرَجْتُمْ أُرْسِلَ عَلَيْكُمْ شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ، وَأَخَذَكُمُ الْعَذَابُ الْمَانِعُ مِنَ النُّفُوذِ. وَقِيلَ: لَيْسَ هَذَا مُتَعَلِّقًا بِالنُّفُوذِ بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُعَاقِبُ الْعُصَاةَ عَذَابًا بِالنَّارِ. وَقِيلَ: أَيْ بِآلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ عُقُوبَةً عَلَى ذَلِكَ التَّكْذِيبِ. وَقِيلَ: يُحَاطُ عَلَى الْخَلَائِقِ بِالْمَلَائِكَةِ وَبِلِسَانٍ مِنْ نَارٍ ثُمَّ يُنَادَوْنَ (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)، فَتِلْكَ النَّارُ قَوْلُهُ: (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ)
__________
(1). في ب، ز، ح، س، د: (في جوف ذلك الصف). [ ..... ]
(2). في ب: (إلى سلطاني).
(3). راجع ج 9 ص 267.
(4). هو كثير عزة.

(17/170)


وَالشُّوَاظُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ اللَّهَبُ الَّذِي لَا دُخَانَ لَهُ. وَالنُّحَاسُ: الدُّخَانُ الَّذِي لَا لَهَبَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ يَهْجُو حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَذَا وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ والماوردي بن أَبِي الصَّلْتِ، وَفِي (الصِّحَاحِ) وَ (الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ) لابن الباري: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ قَالَ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عَنِّي ... مُغَلْغَلَةً تَدُبُّ إِلَى عُكَاظِ
أَلَيْسَ أبوك فينا كان فينا ... لَدَى الْقَيْنَاتِ فَسْلًا فِي الْحِفَاظِ
يَمَانِيًّا يَظَلُّ يَشُدُّ كِيرًا ... وَيَنْفُخُ دَائِبًا لَهَبَ الشُّوَاظِ
فَأَجَابَهُ حَسَّانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ:
هَجَوْتُكَ فَاخْتَضَعْتَ لَهَا بِذُلٍّ ... بِقَافِيَّةٍ تَأَجَّجُ كَالشُّوَاظِ «1»
وَقَالَ رُؤْبَةُ:
إِنَّ لَهُمْ مِنْ وَقْعِنَا أَقْيَاظَا ... وَنَارَ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّوَاظَا
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشُّوَاظُ اللَّهَبُ الْأَخْضَرُ الْمُنْقَطِعُ مِنَ النَّارِ. الضَّحَّاكُ: هُوَ الدُّخَانُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ اللَّهَبِ لَيْسَ بِدُخَانِ الْحَطَبِ. وَقَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الشُّوَاظَ النار والدخان جميعا، قاله أبو عَمْرٌو وَحَكَاهُ الْأَخْفَشُ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (شُواظٌ) بِكَسْرِ الشِّينِ. الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلَ صُوَارٍ وَصِوَارٍ لِقَطِيعِ الْبَقَرِ. (وَنُحاسٌ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (وَنُحاسٌ) بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى (شُواظٌ). وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عَمْرٍو (وَنُحَاسٍ) بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى النَّارِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ قَالَ إِنَّ الشُّوَاظَ النَّارُ والدخان جميعا فالجر في (نحاس) عَلَى هَذَا بَيِّنٌ. فَأَمَّا الْجَرُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الشُّوَاظَ اللَّهَبَ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ فَبَعِيدٌ لَا يَسُوغُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مَوْصُوفٍ كَأَنَّهُ قَالَ: (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ)
__________
(1). وفى التاج بدل هذا البيت:
مجللة تعممه شنارا ... مضرمة تأجج كالشواظ
والفسل من الرجال: الرذل الذي لا مروءة له ولا جلد. والمفسول مثله.

(17/171)


وشئ من نحاس، فشى مَعْطُوفٌ عَلَى شُوَاظٍ، وَمِنْ نُحَاسٍ جُمْلَةٌ هِيَ صفة لشيء، وحذف شي، وَحُذِفَتْ مِنْ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا فِي (مِنْ نارٍ) كَمَا حُذِفَتْ عَلَى مِنْ قَوْلِهِمْ: عَلَى مَنْ تَنْزِلُ أَنْزِلُ [أَيْ «1»] عَلَيْهِ. فَيَكُونُ (نُحَاسٌ) عَلَى هذا مجرورا بمن الْمَحْذُوفَةِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَحُمَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ (وَنِحَاسٌ) بِكَسْرِ النُّونِ لُغَتَانِ كَالشُّوَاظِ وَالشِّوَاظِ. وَالنِّحَاسُ بِالْكَسْرِ أَيْضًا الطَّبِيعَةُ وَالْأَصْلُ، يُقَالُ: فُلَانٌ كَرِيمُ النِّحَاسِ وَالنُّحَاسِ أَيْضًا بِالضَّمِّ أَيْ كَرِيمُ النِّجَارِ «2». وَعَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدَبٍ (وَنَحْسٌ) بِالرَّفْعِ. وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيِّ (وَنَحْسٍ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى نَارٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (وَنُحاسٌ) بِالْكَسْرِ جَمْعُ نَحْسٍ كَصَعْبٍ وَصِعَابٍ (وَنَحْسٌ) بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى (شُواظٌ) وَعَنِ الْحَسَنِ (وَنُحُسٌ) بِالضَّمِّ [فِيهِمَا «3»] جَمْعُ نَحْسٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ وَنُحُوسٌ فَقُصِرَ بِحَذْفِ وَاوِهِ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) «4». وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ (وَنَحُسُّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ مِنْ حَسَّ يَحُسُّ حَسًّا إِذَا اسْتَأْصَلَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) «5» وَالْمَعْنَى وَنُقْتَلُ بِالْعَذَابِ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى (وَنُحاسٌ) فَهُوَ الصُّفْرُ الْمُذَابُ يُصَبُّ على رؤوسهم، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وعن ابن عباس أيضا وسعيد ابن جُبَيْرٍ أَنَّ النُّحَاسَ الدُّخَانُ الَّذِي لَا لَهَبَ فِيهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْخَلِيلِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِهَذَا الْمَعْنَى، قَالَ نَابِغَةُ بني جعدة:
يضئ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِي ... طِ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ نُحَاسَا
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ السَّلِيطُ دُهْنُ السِّمْسِمِ بِالشَّامِ وَلَا دُخَانَ فِيهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ خَمْسَةُ أَنْهَارٍ مِنْ صُفْرٍ مُذَابٍ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ عَلَى رُءُوسِ أَهْلِ النَّارِ، ثَلَاثَةُ أَنْهَارٍ عَلَى مِقْدَارِ اللَّيْلِ وَنَهَرَانِ عَلَى مِقْدَارِ النَّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: النُّحَاسُ الْمُهْلُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ النَّارُ الَّتِي لَهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ. (فَلا تَنْتَصِرانِ) أَيْ لَا يَنْصُرُ بعضكم بعضا يعني الجن والانس.
__________
(1). زيادة يقتضيها السياق.
(2). النجار- بكسر النون وضمها- الأصل والحسب.
(3). الذي في الأصول: (بالضم فيهن) وما أثبتناه هو ما عليه كتب التفسير أي بضمتين وكسر السين.
(4). راجع ج 10 ص 91.
(5). راجع ج 4 ص 233.

(17/172)


فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)

[سورة الرحمن (55): الآيات 37 الى 40]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) أَيِ انْصَدَعَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) الدِّهَانُ الدُّهْنُ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْمَعْنَى أَنَّهَا صَارَتْ فِي صَفَاءِ الدُّهْنِ، وَالدِّهَانُ عَلَى هَذَا جَمْعُ دُهْنٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: الْمَعْنَى فَكَانَتْ حَمْرَاءَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَصِيرُ فِي حُمْرَةِ الْوَرْدِ وَجَرَيَانِ الدُّهْنِ، أَيْ تَذُوبُ مَعَ الِانْشِقَاقِ حَتَّى تَصِيرَ حَمْرَاءَ مِنْ حَرَارَةِ نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذؤبانها. وَقِيلَ: الدِّهَانُ الْجِلْدُ الْأَحْمَرُ الصِّرْفُ، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْفَرَّاءُ. أَيْ تَصِيرُ السَّمَاءُ حَمْرَاءَ كَالْأَدِيمِ لِشِدَّةِ حَرِّ النَّارِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى فَكَانَتْ كَالْفَرَسِ الْوَرْدِ، يُقَالُ لِلْكُمَيْتِ: وَرْدٌ إِذَا كَانَ يَتَلَوَّنُ بِأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَرَسُ الْوَرْدُ، فِي الرَّبِيعِ كُمَيْتٌ أَصْفَرُ، وَفِي أَوَّلِ الشِّتَاءِ كُمَيْتٌ أَحْمَرُ، فَإِذَا اشْتَدَّ الشِّتَاءُ كَانَ كُمَيْتًا أَغْبَرَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ الْفَرَسَ الْوَرْدِيَّةَ، تَكُونُ فِي الرَّبِيعِ وَرْدَةً إِلَى الصُّفْرَةِ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ كَانَتْ وَرْدَةً حَمْرَاءَ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ وَرْدَةً إِلَى الْغَبَرَةِ، فَشَبَّهَ تَلَوُّنَ السَّمَاءِ بِتَلَوُّنِ الْوَرْدِ مِنَ الْخَيْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: (كَالدِّهانِ) أَيْ كَصَبِّ الدُّهْنِ فَإِنَّكَ إِذَا صببته ترى فيه ألوانا. وقال زيد ابن أَسْلَمَ: الْمَعْنَى أَنَّهَا تَصِيرُ كَعَكَرِ الزَّيْتِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهَا تَمُرُّ وَتَجِيءُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الْوَاوِ وَالرَّاءِ وَالدَّالِ لِلْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْفَرَسَ الْوَرْدَةَ تَتَغَيَّرُ أَلْوَانُهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهَا الْيَوْمَ خَضْرَاءُ وَسَيَكُونُ لَهَا لَوْنٌ أَحْمَرُ، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَزَعَمَ الْمُتَقَدِّمُونَ أَنَّ أَصْلَ لَوْنِ السَّمَاءِ الْحُمْرَةُ، وَأَنَّهَا لِكَثْرَةِ الْحَوَائِلِ وَبُعْدِ الْمَسَافَةِ تُرَى بِهَذَا اللَّوْنِ الْأَزْرَقِ، وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِعُرُوقِ الْبَدَنِ، وَهِيَ حَمْرَاءُ كَحُمْرَةِ الدَّمِ وَتُرَى بِالْحَائِلِ زَرْقَاءُ، فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَإِنَّ السَّمَاءَ لِقُرْبِهَا مِنَ النَّوَاظِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَارْتِفَاعِ الْحَوَاجِزِ تُرَى حَمْرَاءَ، لأنه أصل لونها. والله أعلم.

(17/173)


هذا مثل قوله تعالى: (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) «1» وَأَنَّ الْقِيَامَةَ مَوَاطِنُ لِطُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَيُسْأَلُ فِي بَعْضٍ وَلَا يُسْأَلُ فِي بَعْضٍ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يُسْأَلُونَ إِذَا اسْتَقَرُّوا فِي النَّارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَا يُسْأَلُونَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ حَفِظَهَا عَلَيْهِمْ، وَكَتَبَتْهَا عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ. رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْمَعْنَى لَا تَسْأَلُ الْمَلَائِكَةُ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ، دَلِيلُهُ مَا بَعْدَهُ. وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تعالى: (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) «2» وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) وَقَالَ: لَا يَسْأَلُهُمْ لِيَعْرِفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ يَسْأَلُهُمْ لِمَ عَمِلْتُمُوهَا سُؤَالَ تَوْبِيخٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُسْأَلُ غَيْرُ الْمُجْرِمِ عَنْ ذَنْبِ الْمُجْرِمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ قَبْلُ، ثُمَّ خُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِ الْقَوْمِ وَتَكَلَّمَتِ الْجَوَارِحُ شَاهِدَةً عَلَيْهِمْ. وَفِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ قَالَ: (فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ أَيْ فُلْ «3» أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَيَقُولُ بَلَى فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ فَيَقُولُ لَا فَيَقُولُ إِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِي فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرَسُولِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ وَيُثْنِي بخير ما استطاع فيقول ها هنا إِذًا ثُمَّ يُقَالُ لَهُ الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ فيتفكر فِي نَفْسِهِ مَنْ هَذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ انْطِقِي فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ) وَقَدْ مَضَى هَذَا الْحَدِيثُ في (حم السجدة) وغيرها».
__________
(1). راجع ج 13 ص (316)
(2). راجع ج 10 ص (59)
(3). أي فل: معناه يا فلان وليس ترخيما له، وانما هي صيغة ارتجلت في النداء، ولا تقال الا بسكون اللام. وقال قوم: انه ترخيم فلان.
(4). راجع ج 15 ص 48 وص 350

(17/174)


يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

[سورة الرحمن (55): الآيات 41 الى 45]
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) قَالَ الْحَسَنُ: سَوَادُ الْوَجْهِ وَزُرْقَةُ الْأَعْيُنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) «1» وَقَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) «2». (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أَيْ تَأْخُذُ الْمَلَائِكَةُ بنواصيهم، أي بشعور مقدم رؤوسهم وَأَقْدَامِهِمْ فَيَقْذِفُونَهُمْ فِي النَّارِ. وَالنَّوَاصِي جَمْعُ نَاصِيَةٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُجْمَعُ بَيْنَ نَاصِيَتِهِ وَقَدَمَيْهِ فِي سِلْسِلَةٍ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. وَعَنْهُ: يُؤْخَذُ بِرِجْلَيِ الرجل فيجمع بينهما وبين ناصية حَتَّى يَنْدَقَّ ظَهْرُهُ ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ. وَقِيلَ: يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ لِيَكُونَ أَشَدَّ لِعَذَابِهِ وَأَكْثَرَ لِتَشْوِيهِهِ. وَقِيلَ: تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى النَّارِ، تَارَةً تَأْخُذُ بِنَاصِيَتِهِ وَتَجُرُّهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَتَارَةً تَأْخُذُ بِقَدَمَيْهِ وَتَسْحَبُهُ عَلَى رَأْسِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) أَيْ يُقَالُ لَهُمْ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي أُخْبِرْتُمْ بِهَا فَكَذَّبْتُمْ. (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) قَالَ قَتَادَةُ: يَطُوفُونَ مَرَّةً بَيْنَ الْحَمِيمِ وَمَرَّةً بَيْنَ الْجَحِيمِ، وَالْجَحِيمُ النَّارُ، وَالْحَمِيمُ الشَّرَابُ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (آنٍ) ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا أَنَّهُ الَّذِي انْتَهَى حَرُّهُ وَحَمِيمُهُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيُّ:
وَتُخْضَبْ لِحْيَةٌ غَدَرَتْ وَخَانَتْ ... بِأَحْمَرَ مِنْ نَجِيعِ الْجَوْفِ آنِ «3»
قَالَ قَتَادَةُ: (آنٍ) طُبِخَ مُنْذُ خلق الله السموات وَالْأَرْضَ، يَقُولُ: إِذَا اسْتَغَاثُوا مِنَ النَّارِ جُعِلَ غِيَاثُهُمْ ذَلِكَ. وَقَالَ كَعْبٌ: (آنٍ) وَادٍ مِنْ أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل
__________
(1). راجع ج 11 ص 244. [ ..... ]
(2). راجع ج 4 ص 166.
(3). نجيع الجوف: يعنى الدم الخالص. وقبل البيت:
فان يقدر عليك أبو قبيس ... تمط بك المعيشة في هوان

(17/175)


وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)

النَّارِ فَيُغْمَسُونَ بِأَغْلَالِهِمْ فِيهِ حَتَّى تَنْخَلِعَ أَوْصَالُهُمْ، ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَقَدْ أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا فَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ). وَعَنْ كَعْبٍ أَيْضًا: أَنَّهُ الْحَاضِرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُ الَّذِي قَدْ آنَ شُرْبُهُ وَبَلَغَ غَايَتَهُ. وَالنِّعْمَةُ فِيمَا وُصِفَ مِنْ هَوْلِ الْقِيَامَةِ وَعِقَابِ الْمُجْرِمِينَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَاتِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى عَلَى شَابٍّ فِي اللَّيْلِ يَقْرَأُ (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) فَوَقَفَ الشَّابُّ وَخَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ وَجَعَلَ يَقُولُ: وَيْحِي مِنْ يَوْمٍ تَنْشَقُّ فِيهِ السَّمَاءُ وَيْحِي! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَيْحَكَ يا فتى مثلها فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ بَكَتْ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ لِبُكَائِكَ) «1».

[سورة الرحمن (55): الآيات 46 الى 47]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ أَهْلِ النَّارِ ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلْأَبْرَارِ. وَالْمَعْنَى خَافَ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ لِلْحِسَابِ فَتَرَكَ الْمَعْصِيَةَ. فَ (مَقامَ) مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِيَامِ. وَقِيلَ: خَافَ قِيَامَ رَبِّهِ عَلَيْهِ أَيْ إِشْرَافَهُ وَاطِّلَاعَهُ عَلَيْهِ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) «2». وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَدَعُهَا مِنْ خَوْفِهِ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجِهِ: إِنْ لَمْ أَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِنْ كَانَ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَتَرَكَهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ وَحَيَاءً مِنْهُ. وَقَالَ بِهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَفْتَى بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: جَنَّةٌ لِخَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَجَنَّةٌ لِتَرْكِهِ شَهْوَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. وَقِيلَ: الْمَقَامُ الْمَوْضِعُ، أَيْ خَافَ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ لِلْحِسَابِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقَامُ لِلْعَبْدِ ثُمَّ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ كَالْأَجَلِ فِي قَوْلِهِ: (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) «3» وَقَوْلِهِ فِي موضع آخر:
__________
(1). في ب، ح، ز، س، ل، هـ: (من بكائك).
(2). راجع ج 9 ص 322.
(3). راجع ج 7 ص 202.

(17/176)


ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51)

(إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا «1» جاءَ لَا يُؤَخَّرُ). (جَنَّتانِ) أَيْ لِمَنْ خَافَ جَنَّتَانِ عَلَى حِدَةٍ، فَلِكُلِّ خَائِفٍ جَنَّتَانِ. وَقِيلَ: جَنَّتَانِ لِجَمِيعِ الْخَائِفِينَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (الْجَنَّتَانِ بُسْتَانَانِ فِي عَرْضِ الْجَنَّةِ كُلُّ بُسْتَانٍ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ فِي وَسَطِ كُلِّ بُسْتَانٍ دار من نور «2» وليس منها شي إِلَّا يَهْتَزُّ نَغْمَةً وَخُضْرَةً، قَرَارُهَا ثَابِتٌ وَشَجَرُهَا ثَابِتٌ) ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْجَنَّتَيْنِ جَنَّتُهُ الَّتِي خُلِقَتْ لَهُ وَجَنَّةٌ وَرِثَهَا. وَقِيلَ: إِحْدَى الْجَنَّتَيْنِ مَنْزِلُهُ وَالْأُخْرَى مَنْزِلُ أَزْوَاجِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ رُؤَسَاءُ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ إِحْدَى الْجَنَّتَيْنِ مَسْكَنُهُ وَالْأُخْرَى بُسْتَانُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ إِحْدَى الْجَنَّتَيْنِ أَسَافِلَ الْقُصُورِ وَالْأُخْرَى أَعَالِيَهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمَا جَنَّةُ عَدْنٍ وَجَنَّةُ النَّعِيمِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا هِيَ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَثَنَّى لِرُءُوسِ الْآيِ. وَأَنْكَرَ الْقُتَبِيُّ هَذَا وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ خَزَنَةُ النَّارِ عِشْرُونَ إِنَّمَا قَالَ تِسْعَةَ عَشَرَ لِمُرَاعَاةِ رُءُوسِ الْآيِ. وَأَيْضًا قَالَ: (ذَواتا أَفْنانٍ). وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: قَالَ الْفَرَّاءُ قَدْ تَكُونُ جَنَّةً فَتُثَنَّى فِي الشِّعْرِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَعْظَمِ الْغَلَطِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (جَنَّتانِ) وَيَصِفُهُمَا بِقَوْلِهِ: (فِيهِما) فَيَدَعُ الظَّاهِرَ وَيَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَنَّةً وَيَحْتَجُّ بِالشِّعْرِ! وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَتَا اثْنَتَيْنِ لِيُضَاعَفَ لَهُ السُّرُورَ بِالتَّنَقُّلِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَاصَّةً حِينَ ذَكَرَ ذَاتَ يَوْمٍ الْجَنَّةَ حِينَ أُزْلِفَتْ وَالنَّارَ حِينَ بُرِّزَتْ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَابْنُ شَوْذَبٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بَلْ شَرِبَ ذَاتَ يَوْمٍ لَبَنًا عَلَى ظَمَإٍ فَأَعْجَبَهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ حِلٍّ فَاسْتَقَاءَهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: (رَحِمَكَ اللَّهُ لَقَدْ أُنْزِلَتْ فِيكَ آية) وتلا عليه هذه الآية.

[سورة الرحمن (55): الآيات 48 الى 51]
ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51)
__________
(1). راجع ج 18 ص (299)
(2). في ز، ل: (نُورٌ عَلى نُورٍ).

(17/177)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَواتا أَفْنانٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَيْ ذَوَاتَا أَلْوَانٍ مِنَ الْفَاكِهَةِ الْوَاحِدُ فَنٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَفْنَانُ الْأَغْصَانُ وَاحِدُهَا فَنَنٌ، قَالَ النَّابِغَةُ:
بُكَاءَ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلًا ... مُفَجَّعَةٍ عَلَى فَنَنٍ تُغَنِّي «1»
وَقَالَ آخَرُ يَصِفُ طَائِرَيْنِ:
بَاتَا عَلَى غُصْنِ بَانٍ فِي ذُرَى فَنَنٍ ... يُرَدِّدَانِ لُحُونًا ذَاتَ أَلْوَانِ
أَرَادَ بِاللُّحُونِ اللُّغَاتِ. وَقَالَ آخَرُ:
مَا هَاجَ شَوْقُكَ مِنْ هَدِيلِ حَمَامَةٍ ... تَدْعُو عَلَى فَنَنِ الْغُصُونِ حَمَامًا
تَدْعُو أَبَا فَرْخَيْنِ صَادَفَ ضَارِيًا ... ذَا مِخْلَبَيْنِ مِنَ الصُّقُورِ قَطَامَا
وَالْفَنَنُ جَمْعُهُ أَفْنَانُ ثُمَّ الْأَفَانِينُ، وَقَالَ يَصِفُ رَحًى:
لَهَا زِمَامٌ مِنْ أَفَانِينِ الشَّجَرْ

وَشَجَرَةٌ فَنَّاءُ أَيْ ذَاتُ أَفْنَانٍ وَفَنْوَاءُ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مُرْدٌ مُكَحَّلُونَ أُولُو أَفَانِينَ) يُرِيدُ أُولُو فَنَنٍ وَهُوَ جَمْعُ أَفْنَانٍ، وَأَفْنَانٌ جَمْعُ فَنَنٍ [وَهُوَ الْخُصْلَةُ «2»] مِنَ الشَّعْرِ شُبِّهَ بِالْغُصْنِ. ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ. وَقِيلَ: (ذَواتا أَفْنانٍ) أَيْ ذَوَاتَا سَعَةٍ وَفَضْلٍ عَلَى مَا سِوَاهُمَا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَعِكْرِمَةَ: إِنَّ الْأَفْنَانَ ظِلُّ الْأَغْصَانِ عَلَى الْحِيطَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) أَيْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَجْرِيَانِ مَاءً بِالزِّيَادَةِ وَالْكَرَامَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنِ: تَجْرِيَانِ بِالْمَاءِ الزُّلَالِ، إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ التَّسْنِيمُ وَالْأُخْرَى السَّلْسَبِيلُ. وَعَنْهُ أيضا:
__________
(1). قبل هذا البيت:
أسائلها وقد سفحت دموعي ... كأن مفيضهن غروب شن

(2). الزيادة من النهاية لابن الأثير.

(17/178)


فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)

عَيْنَانِ مِثْلَ الدُّنْيَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، حَصْبَاؤُهُمَا الْيَاقُوتُ الْأَحْمَرُ وَالزَّبَرْجَدُ الْأَخْضَرُ، وَتُرَابُهُمَا الْكَافُورُ، وَحَمْأَتُهُمَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ، وَحَافَّتَاهُمَا الزَّعْفَرَانُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: إِحْدَاهُمَا مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَالْأُخْرَى مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. وَقِيلَ: تَجْرِيَانِ مِنْ جَبَلٍ مِنْ مِسْكٍ. وقال أبو بكر الوراق: فيهما عينان تَجْرِيَانِ لِمَنْ كَانَتْ عَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا تَجْرِيَانِ من مخافة الله عز وجل.

[سورة الرحمن (55): الآيات 52 الى 55]
فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) أَيْ صِنْفَانِ وَكِلَاهُمَا حُلْوٌ يُسْتَلَذُّ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فِي الدُّنْيَا شَجَرَةٌ حُلْوَةٌ وَلَا مُرَّةٌ إِلَّا وَهِيَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى الْحَنْظَلُ إِلَّا أَنَّهُ حُلْوٌ. وَقِيلَ: ضَرْبَانِ رَطْبٌ وَيَابِسٌ لَا يَقْصُرُ هَذَا عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضْلِ وَالطِّيبِ. وَقِيلَ: أَرَادَ تَفْضِيلَ هَاتَيْنِ الجنتين على الجنتين اللتين دونهما، فإنه ذكر هاهنا عَيْنَيْنِ جَارِيَتَيْنِ، وَذَكَرَ ثَمَّ عَيْنَيْنِ تَنْضَخَانِ بِالْمَاءِ والنضخ دُونَ الْجَرْيِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِي تَيْنِكَ الْجَنَّتَيْنِ مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ نَوْعٌ، وَفِي هَذِهِ الْجَنَّةِ مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ نَوْعَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ) هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالْفُرُشُ جَمْعُ فِرَاشٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ (فُرْشٍ) بِإِسْكَانِ الراء. (بَطائِنُها) جَمْعُ بِطَانَةٍ وَهِيَ الَّتِي تَحْتَ الظِّهَارَةِ. وَالْإِسْتَبْرَقُ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ وَخَشُنَ، أَيْ إِذَا كَانَتِ الْبِطَانَةُ الَّتِي تَلِي الْأَرْضَ هَكَذَا فَمَا ظَنُّكَ بِالظِّهَارَةِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْبَطَائِنُ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فَمَا الظَّوَاهِرُ؟ قَالَ: هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ «1» أَعْيُنٍ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا وَصَفَ لَكُمْ بَطَائِنَهَا لِتَهْتَدِيَ إِلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَأَمَّا الظَّوَاهِرُ فَلَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ. وَفِي الْخَبَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (ظَوَاهِرُهَا نُورٌ يَتَلَأْلَأُ). وَعَنِ الْحَسَنِ: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، وَظَوَاهِرُهَا مِنْ نُورٍ جَامِدٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ أيضا: البطائن هي الظواهر،
__________
(1). راجع ج 14 ص 103

(17/179)


فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)

وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلظَّهْرِ بَطْنًا، فَيَقُولُونَ: هَذَا ظَهْرُ السَّمَاءِ، وَهَذَا بَطْنُ السَّمَاءِ، لِظَاهِرِهَا الَّذِي نَرَاهُ. وَأَنْكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ هَذَا، وَقَالُوا: لَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا فِي الْوَجْهَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ إِذَا وَلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوْمًا، كَالْحَائِطِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ قَوْمٍ، وَعَلَى ذَلِكَ أَمْرُ السَّمَاءِ. (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) الْجَنَى مَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّجَرِ، يُقَالُ: أَتَانَا بِجَنَاةٍ طَيِّبَةٍ لِكُلِّ مَا يُجْتَنَى. وَثَمَرٌ جَنِيٌّ عَلَى فَعِيلٍ حِينَ جُنِيَ، وَقَالَ «1»:
هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهْ ... إِذْ كُلُّ جَانٍ يَدُهُ إلى فيه
وقرى (جِنَى) بِكَسْرِ الْجِيمِ. (دانٍ) قَرِيبٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَدْنُو الشَّجَرَةُ حَتَّى يَجْتَنِيَهَا وَلِيُّ اللَّهِ إِنْ شَاءَ قَائِمًا وَإِنْ شَاءَ قَاعِدًا وَإِنْ شَاءَ مُضْطَجِعًا، لَا يَرُدُّ يَدَهُ بُعْدٌ وَلَا شوك.

[سورة الرحمن (55): الآيات 56 الى 57]
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) قِيلَ: فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا قَالَ: (فِيهِنَّ) وَلَمْ يَقُلْ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ عَنَى الْجَنَّتَيْنِ وَمَا أُعِدَّ لِصَاحِبِهِمَا مِنَ النَّعِيمِ. وَقِيلَ: (فِيهِنَّ) يَعُودُ عَلَى الْفُرُشِ الَّتِي بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، أَيْ فِي هَذِهِ الْفُرُشِ (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أَيْ نِسَاءٌ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ، قَصَرْنَ أَعْيُنَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يَرَيْنَ غَيْرَهُمْ. وَقَدْ مَضَى فِي (وَالصَّافَّاتِ) «2» وَوُحِّدَ الطَّرْفُ مَعَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْجَمْعِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، مِنْ طَرَفَتْ عَيْنُهُ تَطْرِفُ طَرْفًا، ثُمَّ سُمِّيَتِ الْعَيْنُ بِذَلِكَ فَأَدَّى عَنِ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، كَقَوْلِهِمْ: قَوْمٌ عَدْلٌ وصوم.
__________
(1). هو عمرو بن عدى اللخمي ابن أخت جذيمة الأبرش، وهو مثل يضرب للرجل يؤثر صاحبه بخيار ما عنده.
(2). راجع ج 15 ص 80

(17/180)


الثانية- قوله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) أَيْ لَمْ يُصِبْهُنَّ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ أَزْوَاجِهِنَّ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ. الْفَرَّاءُ: وَالطَّمْثُ الِافْتِضَاضُ وَهُوَ النِّكَاحُ بِالتَّدْمِيَةِ، طَمَثَهَا يَطْمِثُهَا وَيَطْمُثُهَا طَمْثًا إِذَا افْتَضَّهَا. وَمِنْهُ قِيلَ: امْرَأَةٌ طَامِثٌ أَيْ حَائِضٌ. وَغَيْرُ الْفَرَّاءِ يُخَالِفُهُ فِي هَذَا وَيَقُولُ: طَمَثَهَا بِمَعْنَى وَطِئَهَا عَلَى أَيِّ الْوُجُوهِ كَانَ. إِلَّا أَنَّ قَوْلَ الْفَرَّاءِ أَعْرَفُ وَأَشْهَرُ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ (لَمْ يَطْمُثْهُنَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ، يُقَالُ: طَمَثَتِ الْمَرْأَةُ تَطْمُثُ بِالضَّمِّ حَاضَتْ. وَطَمِثَتْ بِالْكَسْرِ لُغَةٌ فَهِيَ طَامِثٌ، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَقَعْنَ «1» إِلَيَّ لَمْ يُطْمَثْنَ قَبْلِي ... وَهُنَّ أَصَحُّ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ
وَقِيلَ: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) لم يمسهن، قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَالطَّمْثُ الْمَسُّ وَذَلِكَ فِي كل شي يُمَسُّ. وَيُقَالُ لِلْمَرْتَعِ: مَا طَمَثَ ذَلِكَ الْمَرْتَعَ قَبْلَنَا أَحَدٌ، وَمَا طَمَثَ هَذِهِ النَّاقَةَ حَبْلٌ، أَيْ مَا مَسَّهَا عِقَالٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ لَمْ يُذَلِّلْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ، وَالطَّمْثُ التَّذْلِيلُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ (جَأْنٌ) بِالْهَمْزَةِ. الثَّالِثَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ تَغْشَى كَالْإِنْسِ، وَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا جِنِّيَّاتٌ. قَالَ ضَمْرَةُ: لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ أَزْوَاجٌ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فَالْإِنْسِيَّاتُ لِلْإِنْسِ، وَالْجِنِّيَّاتُ لِلْجِنِّ. وَقِيلَ: أَيْ لَمْ يَطْمِثْ مَا وَهَبَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجِنِّ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مِنَ الْجِنِّيَّاتِ جِنٌّ، وَلَمْ يَطْمِثْ مَا وَهَبَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِنْسِ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مِنَ الْإِنْسِيَّاتِ إِنْسٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِنَّ لَا تَطَأُ بَنَاتِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا. ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. قُلْتُ: قَدْ مَضَى فِي (النَّمْلِ) «2» الْقَوْلُ في هذا وفي (سبحان) «3» أَيْضًا، وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ تَطَأَ بَنَاتُ آدَمَ. وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ وَلَمْ يُسَمِّ انْطَوَى الْجَانُّ عَلَى إِحْلِيلِهِ فَجَامَعَ مَعَهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصَفَ الْحُورَ الْعِينَ بِأَنَّهُ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ. يُعْلِمُكَ أَنَّ نِسَاءَ الْآدَمِيَّاتِ قَدْ يَطْمِثُهُنَّ الْجَانُّ، وَأَنَّ الْحُورَ الْعِينَ قَدْ برين مِنْ هَذَا الْعَيْبِ وَنُزِّهْنَ، وَالطَّمْثُ الْجِمَاعُ. ذَكَرَهُ بِكَمَالِهِ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ، وَذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ أَيْضًا وَالثَّعْلَبِيُّ وغيرهما والله أعلم.
__________
(1). في ب: (دفعن).
(2). راجع ج 13 ص (211) [ ..... ]
(3). راجع ج 10 ص 289

(17/181)


كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)

[سورة الرحمن (55): الآيات 58 الى 61]
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقَيْهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً حَتَّى يُرَى مُخُّهَا) وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) فَأَمَّا الْيَاقُوتُ فَإِنَّهُ حَجَرٌ لَوْ أَدْخَلْتَ فِيهِ سِلْكًا ثُمَّ اسْتَصْفَيْتَهُ لَأُرِيتَهُ [مِنْ وَرَائِهِ «1»] وَيُرْوَى مَوْقُوفًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ لَتَلْبَسُ سَبْعِينَ حُلَّةً فَيُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، كَمَا يُرَى الشَّرَابُ الْأَحْمَرُ فِي الزُّجَاجَةِ الْبَيْضَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُنَّ فِي صَفَاءِ الْيَاقُوتِ، وَبَيَاضِ «2» الْمَرْجَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (هَلْ) فِي الْكَلَامِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَكُونُ بِمَعْنَى قَدْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) «3»، وَبِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ «4» حَقًّا)، وَبِمَعْنَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) «5»، وَبِمَعْنَى مَا فِي الْجَحْدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ) «6»، وَ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ). قَالَ عِكْرِمَةُ: أَيْ هَلْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا الْجَنَّةُ. ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا جزاء من قال لا إله إلا اله وَعَمِلَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْجَنَّةُ. وَقِيلَ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) ثُمَّ قَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (يَقُولُ مَا جَزَاءُ مَنْ أَنْعَمْتُ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إِلَّا الْجَنَّةُ). وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ
__________
(1). الزيادة من صحيح الترمذي.
(2). كذا في الأصول، والعهود أن المرجان أحمر.
(3). راجع ج 19 ص (306)
(4). راجع ج 7 ص (209)
(5). راجع ج 6 ص (292)
(6). راجع ج 10 ص 103

(17/182)


وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65)

هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: (يَقُولُ اللَّهُ هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَنْعَمْتُ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَتِي وَتَوْحِيدِي إِلَّا أَنْ أُسْكِنَهُ جَنَّتِي وَحَظِيرَةَ قُدْسِي بِرَحْمَتِي) وَقَالَ الصَّادِقُ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنْتُ عَلَيْهِ فِي الْأَزَلِ إِلَّا حِفْظُ الْإِحْسَانِ عَلَيْهِ فِي الْأَبَدِ. وَقَالَ محمد ابن الحنفية وَالْحَسَنُ: هِيَ مُسْجَلَةٌ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، أَيْ مُرْسَلَةٌ عَلَى الْفَاجِرِ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرِّ فِي الْآخِرَةِ.

[سورة الرحمن (55): الآيات 62 الى 65]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أَيْ وَلَهُ مِنْ دُونِ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ جَنَّتَانِ أُخْرَيَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمِنْ دُونِهِمَا فِي الدَّرَجِ. ابْنُ زَيْدٍ: وَمِنْ دُونِهِمَا فِي الْفَضْلِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْجَنَّاتُ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، فَيَكُونُ فِي الْأُولَيَيْنِ النَّخْلُ وَالشَّجَرُ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ الزَّرْعُ وَالنَّبَاتُ وَمَا انْبَسَطَ. الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) لِأَتْبَاعِهِ لِقُصُورِ مَنْزِلَتِهِمْ عَنْ مَنْزِلَتِهِ، إِحْدَاهُمَا لِلْحُورِ الْعِينِ، وَالْأُخْرَى لِلْوِلْدَانِ الْمُخَلَّدِينَ، لِيَتَمَيَّزَ بِهِمَا الذُّكُورُ عَنِ الْإِنَاثِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هِيَ أَرْبَعٌ: جَنَّتَانِ مِنْهَا لِلسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) وَ (عَيْنانِ تَجْرِيانِ)، وَجَنَّتَانِ لِأَصْحَابِ اليمين (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ)
. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْأُولَيَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَالْأُخْرَيَيْنِ مِنْ وَرِقٍ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. قُلْتُ: إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَلِيمِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ (مِنْهَاجِ الدِّينِ لَهُ)، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) إِلَى قَوْلِهِ: (مُدْهامَّتانِ) قَالَ: تَانِكَ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَهَاتَانِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ نَحْوُهُ. وَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ الْجَنَّتَيْنِ أَشَارَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ فِي الْأُولَيَيْنِ: (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ)، وفي الأخريين: ِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ)
أَيْ فَوَّارَتَانِ وَلَكِنَّهُمَا لَيْسَتَا كَالْجَارِيَتَيْنِ لِأَنَّ النَّضْخَ دُونَ الْجَرْيِ. وَقَالَ فِي الْأُولَيَيْنِ: (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ. وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ: (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ولم يقل كُلِّ فَاكِهَةٍ، وَقَالَ

(17/183)


فِي الْأُولَيَيْنِ: (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وَهُوَ الدِّيبَاجُ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) وَالْعَبْقَرِيُّ الْوَشْيُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الدِّيبَاجَ أَعْلَى مِنَ الْوَشْيِ، وَالرَّفْرَفُ كِسَرُ الْخِبَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفُرُشَ الْمُعَدَّةَ لِلِاتِّكَاءِ عَلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ فَضْلِ الْخِبَاءِ. وَقَالَ فِي الْأُولَيَيْنِ فِي صِفَةِ الْحُورِ: (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ)، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) وَلَيْسَ كُلُّ حُسْنٍ كَحُسْنِ الْيَاقُوتِ وَالْمَرْجَانِ. وَقَالَ فِي الْأُولَيَيْنِ: (ذَواتا أَفْنانٍ) وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ (مُدْهامَّتانِ) أَيْ خَضْرَاوَانِ كَأَنَّهُمَا مِنْ شِدَّةِ خُضْرَتِهِمَا سَوْدَاوَانِ، وَوَصَفَ الْأُولَيَيْنِ بِكَثْرَةِ الْأَغْصَانِ، وَالْأُخْرَيَيْنِ بِالْخُضْرَةِ وَحْدَهَا، وَفِي هَذَا كُلِّهِ تَحْقِيقٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي قَصَدْنَا بِقَوْلِهِ (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) وَلَعَلَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لَمْ يَذْكُرْ أَهْلَ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ كَمَا ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ؟ قِيلَ: الْجِنَانُ الْأَرْبَعُ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ إِلَّا أَنَّ الْخَائِفِينَ لَهُمْ مَرَاتِبُ، فَالْجَنَّتَانِ الْأُولَيَانِ لِأَعْلَى الْعِبَادِ رُتْبَةً فِي الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجَنَّتَانِ الْأُخْرَيَانِ لِمَنْ قَصَرَتْ حَالُهُ فِي الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَذْهَبُ الضَّحَّاكِ أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَالْأُخْرَيَيْنِ مِنْ يَاقُوتٍ وَزُمُرُّدٍ وَهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، وَقَوْلُهُ: (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أَيْ وَمِنْ أَمَامِهِمَا وَمِنْ قَبْلِهِمَا. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي (نَوَادِرِ الْأُصُولِ) فَقَالَ: وَمَعْنَى (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أَيْ دُونَ هَذَا إِلَى الْعَرْشِ، أَيْ أَقْرَبَ وَأَدْنَى إِلَى الْعَرْشِ، وَأَخَذَ يُفَضِّلُهُمَا عَلَى الْأُولَيَيْنِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ عَنْهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْجَنَّتَانِ الْأُولَيَانِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَجَنَّةُ النَّعِيمِ، وَالْأُخْرَيَانِ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ وَجَنَّةُ الْمَأْوَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُدْهامَّتانِ) أي خضروان مِنَ الرِّيِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُسْوَدَّتَانِ. وَالدُّهْمَةُ فِي اللُّغَةِ السَّوَادُ، يُقَالُ: فَرَسٌ أَدْهَمُ وَبَعِيرٌ أَدْهَمُ وَنَاقَةٌ دَهْمَاءُ أَيِ اشتدت زرقته حتى ذهب الْبَيَاضَ الَّذِي فِيهِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى اشْتَدَّ السَّوَادُ فَهُوَ جَوْنٌ. وَادْهَمَّ الْفَرَسُ ادْهِمَامًا أَيْ صَارَ أَدْهَمَ. وَادْهَامَّ الشَّيْءُ ادْهِيمَامًا أَيِ اسْوَادَّ، قَالَ اللَّهُ

(17/184)


فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)

تَعَالَى: (مُدْهامَّتانِ) أَيْ سَوْدَاوَانِ مِنْ شِدَّةِ الْخُضْرَةِ مِنَ الرَّيِّ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ أَخْضَرَ أَسْوَدُ. وَقَالَ لَبِيَدٌ يَرْثِي قَتْلَى هَوَازِنَ:
وَجَاءُوا «1» بِهِ فِي هَوْدَجٍ وَوَرَاءَهُ ... كَتَائِبُ خُضْرٌ فِي نَسِيجِ السَّنَوَّرِ
السَّنَوَّرُ لَبُوسٌ مِنْ قِدٍّ كَالدِّرْعِ. وَسُمِّيَتْ قُرَى الْعِرَاقِ سَوَادًا لِكَثْرَةِ خُضْرَتِهَا. وَيُقَالُ لِلَّيْلِ الْمُظْلِمِ: أَخْضَرُ. وَيُقَالُ: أَبَادَ اللَّهُ خَضْرَاءَهُمْ أَيْ سوادهم.

[سورة الرحمن (55): الآيات 66 الى 69]
فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69)
قوله تعالى: ِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ)
أَيْ فَوَّارَتَانِ بِالْمَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالنَّضْخُ بِالْخَاءِ أَكْثَرُ مِنَ النَّضْحِ بِالْحَاءِ. وَعَنْهُ أَنَّ الْمَعْنَى نَضَّاخَتَانِ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ. ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَنَسٌ: تَنْضَخُ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ فِي دُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا يَنْضَخُ رَشُّ الْمَطَرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَالْمَاءِ. التِّرْمِذِيُّ: قَالُوا بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَالنِّعَمِ «2» وَالْجَوَارِي الْمُزَيَّنَاتِ وَالدَّوَابِّ الْمُسْرَجَاتِ وَالثِّيَابِ الْمُلَوَّنَاتِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّضْخَ أَكْثَرُ مِنَ الْجَرْيِ. وَقِيلَ: تَنْبُعَانِ ثُمَّ تَجْرِيَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ. الْأُولَى- قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ الرُّمَّانُ وَالنَّخْلُ مِنَ الْفَاكِهَةِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ إِنَّمَا يُعْطَفُ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُمَا مِنَ الْفَاكِهَةِ وَإِنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ النَّخْلِ وَالرُّمَّانِ لِفَضْلِهِمَا وَحُسْنِ مَوْقِعِهِمَا على الفاكهة، كقوله تعالى:
__________
(1). وجاءوا به: يعنى قتادة بن مسلمة الحنفي.
(2). في ب. (النعيم).

(17/185)


فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71)

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ «1» وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وَقَوْلُهُ: (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) «2» وقد تقدم. وقيل: إنما كررهما لِأَنَّ النَّخْلَ وَالرُّمَّانَ كَانَا عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِمَنْزِلَةِ الْبُرِّ عِنْدَنَا، لِأَنَّ النَّخْلَ عَامَّةُ قُوتِهِمْ، وَالرُّمَّانَ كَالثَّمَرَاتِ «3»، فَكَانَ يَكْثُرُ غَرْسُهُمَا عِنْدَهُمْ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمَا، وَكَانَتِ الْفَوَاكِهُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّمَارِ الَّتِي يُعْجَبُونَ بِهَا، فَإِنَّمَا ذَكَرَ الْفَاكِهَةَ ثُمَّ ذَكَرَ النَّخْلَ وَالرُّمَّانَ لِعُمُومِهِمَا وَكَثْرَتِهِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ إِلَى مَا وَالَاهَا مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، فَأَخْرَجَهُمَا فِي الذِّكْرِ مِنَ الْفَوَاكِهِ وَأَفْرَدَ الْفَوَاكِهَ عَلَى حِدَتِهَا. وَقِيلَ: أُفْرِدَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ النَّخْلَ ثَمَرُهُ فَاكِهَةٌ وَطَعَامٌ، وَالرُّمَّانُ فَاكِهَةٌ وَدَوَاءٌ، فَلَمْ يَخْلُصَا لِلتَّفَكُّهِ، وَمِنْهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ: الثَّانِيَةُ- إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ فَاكِهَةً فَأَكَلَ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ. وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ وَالنَّاسُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّمَّانَةُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلُ الْبَعِيرِ الْمُقَتَّبِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَخْلُ الْجَنَّةِ جُذُوعُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، وَكَرَانِيفُهَا ذَهَبٌ أَحْمَرُ، وَسَعَفُهَا كِسْوَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، مِنْهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ وَحُلَلُهُمْ، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ وَالدِّلَاءِ، أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، لَيْسَ فِيهِ عَجَمٌ «4». قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: نَخْلُ الْجَنَّةِ نَضِيدٌ مِنْ أَصْلِهَا إِلَى فَرْعِهَا، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ كُلَّمَا نُزِعَتْ ثَمَرَةٌ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَإِنَّ مَاءَهَا لَيَجْرِي فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ، والعنقود اثنا عشر ذراعا.

[سورة الرحمن (55): الآيات 70 الى 71]
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) يَعْنِي النِّسَاءَ الْوَاحِدَةُ خَيْرَةٌ عَلَى مَعْنَى ذَوَاتِ خَيْرٍ. وَقِيلَ: (خَيْراتٌ) بِمَعْنَى خَيْرَاتٍ فَخُفِّفَ، كهين ولين. ابن المبارك: حدثنا
__________
(1). راجع ج 3 ص (208)
(2). راجع ج 2 ص (36)
(3). في حاشية الجمل نقلا عن القرطبي: والرمان كالشراب إلخ.
(4). العجم- بالتحريك-: النوى

(17/186)


الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ خَيْرَةً مِنْ (خَيْراتٌ حِسانٌ) اطَّلَعَتْ مِنَ السَّمَاءِ لَأَضَاءَتْ لَهَا، وَلَقَهَرَ ضَوْءُ وَجْهِهَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَلَنَصِيفٌ «1» تُكْسَاهُ خَيْرَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. (حِسانٌ) أَيْ حِسَانُ الْخَلْقِ، وَإِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (حِسانٌ) فَمَنْ ذَا الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يَصِفَ حُسْنَهُنَّ! وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: (خَيْراتٌ) الْأَخْلَاقِ (حِسانٌ) الْوُجُوهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: لِأَنَّهُنَّ عَذَارَى أَبْكَارٌ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وابن السميقع وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ وَبَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ السَّهْمِيُّ (خَيِّرَاتٌ) بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ خَيْرَاتٍ جَمْعُ خَيْرٍ وَالْمَعْنَى ذَوَاتُ خَيْرٍ. وَقِيلَ: مُخْتَارَاتٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فَالْخَيْرَاتُ مَا اخْتَارَهُنَّ اللَّهُ فَأَبْدَعَ خَلْقَهُنَّ بِاخْتِيَارِهِ، فَاخْتِيَارُ اللَّهِ لَا يُشْبِهُ اخْتِيَارَ الْآدَمِيِّينَ. ثُمَّ قَالَ: (حِسانٌ) فَوَصَفَهُنَّ بِالْحُسْنِ فَإِذَا وَصَفَ خَالِقُ الْحُسْنِ شَيْئًا بِالْحُسْنِ فَانْظُرْ مَا هُنَاكَ. وَفِي الْأُولَيَيْنِ ذَكَرَ بِأَنَّهُنَّ (قاصِراتُ الطَّرْفِ) وَ (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) فَانْظُرْ كَمْ بَيْنَ الْخَيْرَةِ وَهِيَ مُخْتَارَةُ اللَّهِ، وَبَيْنَ قَاصِرَاتِ الطَّرْفِ. وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّ الْحُورَ الْعِينَ يَأْخُذُ بَعْضُهُنَّ بِأَيْدِي بَعْضٍ وَيَتَغَنَّيْنَ بِأَصْوَاتٍ لَمْ تَسْمَعِ الْخَلَائِقُ بِأَحْسَنَ مِنْهَا وَلَا بِمِثْلِهَا نَحْنُ الرَّاضِيَاتِ فَلَا نَسْخَطُ أَبَدًا وَنَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلَا نَظْعَنُ أَبَدًا وَنَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ أَبَدًا وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْؤُسُ أَبَدًا وَنَحْنُ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ حَبِيبَاتٌ لِأَزْوَاجٍ كِرَامٍ (. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ الْحُورَ الْعِينَ إِذَا قُلْنَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَجَابَهُنَّ الْمُؤْمِنَاتُ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا: نَحْنُ الْمُصَلِّيَاتُ وَمَا صَلَّيْتُنَّ، وَنَحْنُ الصائمات وما صمتن، ونحن المتوضيات وَمَا تَوَضَّأْتُنَّ، وَنَحْنُ الْمُتَصَدِّقَاتُ وَمَا تَصَدَّقْتُنَّ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ، عَنْهَا: فَغَلَبْنَهُنَّ وَاللَّهِ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتُلِفَ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ حُسْنًا وَأَبْهَرُ جَمَالًا الْحُورُ أَوِ الْآدَمِيَّاتُ؟ فَقِيلَ: الْحُورُ لِمَا ذُكِرَ مِنْ وَصْفِهِنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام في دعائه على الميت
__________
(1). هو الخمار وقيل المعجر النهاية. [ ..... ]

(17/187)


حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75)

فِي الْجِنَازَةِ: (وَأَبْدِلْهُ زَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ). وَقِيلَ: الْآدَمِيَّاتُ أَفْضَلُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ بِسَبْعِينَ أَلْفَ ضِعْفٍ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وأخبرنا رشدين عن ابن أنعم «1» عن حيان ابن أَبِي جَبَلَةَ، قَالَ: إِنَّ نِسَاءَ الدُّنْيَا مَنْ دَخَلَ مِنْهُنَّ الْجَنَّةَ فُضِّلْنَ عَلَى الْحُورِ الْعِينِ بِمَا عَمِلْنَ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحُورَ الْعِينَ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْقُرْآنِ هُنَّ الْمُؤْمِنَاتُ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ يُخْلَقْنَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْحُورَ الْعِينَ لَسْنَ، مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هُنَّ مَخْلُوقَاتٌ فِي الْجَنَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) وَأَكْثَرُ نِسَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا مَطْمُوثَاتٍ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ أَقَلَّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ النِّسَاءُ) فَلَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ امْرَأَةً، وَوَعَدَ الْحُورَ الْعِينَ لِجَمَاعَتِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّهُنَّ مِنْ غَيْرِ نِسَاءِ الدُّنْيَا.

[سورة الرحمن (55): الآيات 72 الى 75]
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) (حُورٌ) جَمْعُ حَوْرَاءَ، وَهِيَ الشَّدِيدَةُ بَيَاضَ الْعَيْنِ الشَّدِيدَةُ سَوَادَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ «2». (مَقْصُوراتٌ) مَحْبُوسَاتٌ مَسْتُورَاتٌ (فِي الْخِيامِ) فِي الْحِجَالِ لَسْنَ بِالطَّوَّافَاتِ فِي الطُّرُقِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْخَيْمَةُ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ: هِيَ فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ لَهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مِصْرَاعٍ مِنْ ذَهَبٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ): بَلَغَنَا فِي الرِّوَايَةِ أَنَّ سَحَابَةً أَمْطَرَتْ مِنَ الْعَرْشِ فَخُلِقَتِ الْحُورُ مِنْ قَطَرَاتِ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ ضُرِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خَيْمَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْأَنْهَارِ سَعَتُهَا أَرْبَعُونَ مِيلًا وَلَيْسَ لَهَا بَابٌ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ»
وَلِيُّ اللَّهِ الْجَنَّةَ
__________
(1). هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم (بفتح أوله وسكون النون وضم المهملة).
(2). راجع ج 15 ص (80)
(3). في ب: (حتى إذا أحل ولى الله بالخيمة).

(17/188)


انْصَدَعَتِ الْخَيْمَةُ عَنْ بَابٍ لِيَعْلَمَ وَلِيُّ اللَّهِ أَنَّ أَبْصَارَ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَدَمِ لَمْ تَأْخُذْهَا، فَهِيَ مَقْصُورَةٌ قَدْ قُصِرَ بِهَا عَنْ أَبْصَارِ الْمَخْلُوقِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ فِي الْأُولَيَيْنِ: (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ عَلَى الْأَزْوَاجِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُنَّ مَقْصُورَاتٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُورَاتِ أَعْلَى وَأَفْضَلُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (مَقْصُوراتٌ) قَدْ قصرن على أزواجهن فلا يردن بذلا مِنْهُمْ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَقَصَرْتُ الشَّيْءَ أَقْصُرُهُ قَصْرًا حَبَسْتُهُ، وَمِنْهُ مَقْصُورَةُ الْجَامِعِ، وَقَصَرْتُ الشَّيْءَ عَلَى كَذَا إِذَا لَمْ تُجَاوِزْ إِلَى غَيْرِهِ، وَامْرَأَةٌ قَصِيرَةٌ وَقَصُورَةٌ أَيْ مَقْصُورَةٌ فِي الْبَيْتِ لَا تُتْرَكُ أَنْ تَخْرُجَ، قَالَ كُثَيِّرٌ:
وَأَنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ كُلَّ قَصِيرَةٍ ... إِلَيَّ وَمَا تَدْرِي بِذَاكَ الْقَصَائِرُ
عَنَيْتُ قَصِيرَاتِ الْحِجَالِ وَلَمْ أُرِدْ ... قِصَارَ الْخُطَا شَرُّ النِّسَاءِ الْبَحَاتِرُ «1»
وَأَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ قَصُورَةٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ. وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فِي الْجَنَّةِ بِنَهَرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ الْمَرْجَانِ فَنُودِيتُ مِنْهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ جَوَارٍ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ اسْتَأْذَنَّ رَبَّهُنَّ فِي أَنْ يُسَلِّمْنَ عَلَيْكَ فَأَذِنَ لَهُنَّ فَقُلْنَ نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ أَبَدًا وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْؤُسُ أَبَدًا وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ أَبَدًا أَزْوَاجُ رِجَالٍ كِرَامٍ) ثُمَّ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) أَيْ مَحْبُوسَاتٌ حَبْسُ صِيَانَةٍ وَتَكْرِمَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ «2» الْأَشْهَلِيَّةِ أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا مَعْشَرَ النِّسَاءِ مَحْصُورَاتٌ مَقْصُورَاتٌ، قَوَاعِدُ بُيُوتِكُمْ وَحَوَامِلُ أَوْلَادِكُمْ، فَهَلْ نُشَارِكُكُمْ فِي الْأَجْرِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَعَمْ إِذَا أَحْسَنْتُنَّ «3» تَبَعُّلَ أَزْوَاجَكُنَّ وَطَلَبْتُنَّ مَرْضَاتَهُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) أَيْ لَمْ يَمْسَسْهُنَّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلُ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (يَطْمِثْهُنَّ) بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ وَطَلْحَةُ بن مصرف والأعرج والشيرازي عن الكسائي
__________
(1). البحاتر: جمع بحترة بضم الباء القصيرة المجتمعة الخلق.
(2). في نسخ الأصل بنت عبيد والتصحيح من التهذيب.
(3). مصاحبتهم في الزوجية والعشرة

(17/189)


مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

بِضَمِّ الْمِيمِ فِي الْحَرْفَيْنِ. وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَكْسِرُ إِحْدَاهُمَا وَيَضُمُّ الْأُخْرَى وَيُخَيِّرُ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا رَفَعَ الْأُولَى كَسَرَ الثَّانِيَةَ وَإِذَا كَسَرَ الْأُولَى رَفَعَ الثَّانِيَةَ. وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: كُنْتُ أُصَلِّي خَلْفَ أَصْحَابِ عَلِيٍّ فَيَرْفَعُونَ الْمِيمَ، وَكُنْتُ أُصَلِّي خَلْفَ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ فَيَكْسِرُونَهَا، فَاسْتَعْمَلَ الْكِسَائِيُّ الْأَثَرَيْنِ. وَهُمَا لُغَتَانِ طَمُثَ وَطَمِثَ مِثْلُ يَعْرُشُونَ وَيَعْكِفُونَ، فَمَنْ ضَمَّ فَلِلْجَمْعِ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، وَمَنْ كَسَرَ فَلِأَنَّهَا اللُّغَةُ السَّائِرَةُ. وَإِنَّمَا أَعَادَ قَوْلَهُ: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ صِفَةَ الْحُورِ الْمَقْصُورَاتِ فِي الْخِيَامِ كَصِفَةِ الْحُورِ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ. يَقُولُ: إِذَا [قُصِرْنَ «1»] كانت لهن الخيام في تلك الحال.

[سورة الرحمن (55): الآيات 76 الى 78]
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى:) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) الرَّفْرَفُ الْمَحَابِسُ «2». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّفْرَفُ فُضُولُ الْفُرُشِ وَالْبُسُطِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الرَّفْرَفُ الْمَحَابِسُ يَتَّكِئُونَ عَلَى فُضُولِهَا، وَقَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْقُرَظِيُّ: هِيَ الْبُسُطُ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هِيَ الزرابي. وقال ابن كيسان: هي المرافق، وَقَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ حَاشِيَةُ الثَّوْبِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: ضَرْبٌ مِنَ الثِّيَابِ الْخُضْرِ تُبْسَطُ. وَقِيلَ: الْفُرُشُ الْمُرْتَفِعَةُ. وَقِيلَ: كُلُّ ثَوْبٍ عَرِيضٍ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ رَفْرَفٌ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
وَإِنَّا لَنَزَّالُونَ تَغْشَى نِعَالُنَا ... سَوَاقِطَ مِنْ أَصْنَافِ رَيْطٍ وَرَفْرَفِ
وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَالرَّفْرَفُ ثِيَابٌ خُضْرٌ تُتَّخَذُ مِنْهَا الْمَحَابِسٌ، الْوَاحِدَةُ رَفْرَفَةٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الرَّفْرَفُ رِيَاضُ الْجَنَّةِ، وَاشْتِقَاقُ الرفرف
__________
(1). في الأصول كلها: إذا ضجرن إلخ والضجر لا يجوز في الجنة ولذا أثبثنا بدل ضجرن قصرن.
(2). المحابس: جمع محبس كمقعد ثوب يطرح على ظهر الفراش النوم عليه. وفى ل: المجالس وكلا المغيين صحيح كما في اللغة.

(17/190)


مِنْ رَفَّ يَرِفُّ إِذَا ارْتَفَعَ، وَمِنْهُ رَفْرَفَةُ الطَّائِرِ لِتَحْرِيكِهِ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ. وَرُبَّمَا سَمَّوُا الظَّلِيمَ رَفْرَافًا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُرَفْرِفُ بِجَنَاحَيْهِ ثُمَّ يَعْدُو. وَرَفْرَفَ الطَّائِرُ أَيْضًا إِذَا حَرَّكَ جَنَاحَيْهِ حَوْلَ الشَّيْءِ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ. وَالرَّفْرَفُ أَيْضًا كِسْرُ الْخِبَاءِ وَجَوَانِبُ الدِّرْعِ وَمَا تَدَلَّى منها، الواحدة رَفْرَفَةٌ. وَفِي الْخَبَرِ فِي وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرَفَعَ الرَّفْرَفَ فَرَأَيْنَا وَجْهَهُ كَأَنَّهُ وَرَقَةٌ [تُخَشْخِشُ «1»] أَيْ رَفَعَ طَرْفَ الْفُسْطَاطِ. وَقِيلَ: أَصْلُ الرَّفْرَفِ مِنْ رَفَّ النَّبْتُ يَرِفُّ إذا صار غضا نَضِيرًا، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: يُقَالُ لِلشَّيْءِ إِذَا كَثُرَ مَاؤُهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْغَضَاضَةِ حَتَّى كَادَ يَهْتَزُّ: رَفَّ يَرِفُّ رَفِيفًا، حَكَاهُ الْهَرَوِيُّ. وقد قيل: إن الرفرف شي إِذَا اسْتَوَى عَلَيْهِ صَاحِبُهُ رَفْرَفَ بِهِ وَأَهْوَى بِهِ كَالْمِرْجَاحِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَرَفْعًا وَخَفْضًا يَتَلَذَّذُ بِهِ مَعَ أَنِيسَتِهِ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي (نَوَادِرِ الْأُصُولِ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي (التَّذْكِرَةِ). قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فَالرَّفْرَفُ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنَ الْفُرُشِ فَذَكَرَهُ فِي الْأُولَيَيْنِ (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وَقَالَ هُنَا: (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) فالرفرف هو شي إِذَا اسْتَوَى عَلَيْهِ الْوَلِيُّ رَفْرَفَ بِهِ، أَيْ طَارَ بِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا حَيْثُ مَا يُرِيدُ كَالْمِرْجَاحِ، وَأَصْلُهُ مِنْ رَفْرَفٍ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، رُوِيَ لَنَا فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى جَاءَهُ الرَّفْرَفُ فَتَنَاوَلَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَطَارَ بِهِ إِلَى مَسْنَدِ الْعَرْشِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ: (طَارَ بِي يَخْفِضُنِي وَيَرْفَعُنِي حَتَّى وَقَفَ بِي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي) ثُمَّ لَمَّا حَانَ الِانْصِرَافُ تَنَاوَلَهُ فَطَارَ بِهِ خَفْضًا وَرَفْعًا يَهْوِي بِهِ حَتَّى أَدَّاهُ إِلَى جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَجِبْرِيلُ يَبْكِي وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّحْمِيدِ، فَالرَّفْرَفُ خَادِمٌ مِنَ الْخَدَمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ خَوَاصُّ الْأُمُورِ فِي مَحَلِّ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ، كَمَا أَنَّ الْبُرَاقَ دَابَّةٌ يَرْكَبُهَا الْأَنْبِيَاءُ مَخْصُوصَةٌ بِذَلِكَ فِي أَرْضِهِ، فَهَذَا الرَّفْرَفُ الَّذِي سَخَّرَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ الْجَنَّتَيْنِ الدَّانِيَتَيْنِ هو متكأهما وَفُرُشُهُمَا، يُرَفْرِفُ بِالْوَلِيِّ عَلَى حَافَّاتِ تِلْكَ الْأَنْهَارِ وَشُطُوطِهَا حَيْثُ شَاءَ إِلَى خِيَامِ أَزْوَاجِهِ الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ. ثُمَّ قَالَ: (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) فَالْعَبْقَرِيُّ ثِيَابٌ مَنْقُوشَةٌ تُبْسَطُ، فَإِذَا قَالَ خَالِقُ النُّقُوشِ إِنَّهَا حِسَانٌ فَمَا ظَنُّكَ بِتِلْكَ الْعَبَاقِرِ!. وَقَرَأَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ (مُتَّكِئِينَ على رفارف) بالجمع غير مصروف كذلك
__________
(1). زيادة من كتب اللغة.

(17/191)


(وَعَبَاقَرِيٍّ حِسَانٍ) جَمْعُ رَفْرَفٍ وَعَبْقَرِيٍّ. وَ (رَفْرَفٍ) اسْمٌ لِلْجَمْعِ وَ (عَبْقَرِيٍّ) وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ الْمَنْسُوبِ إِلَى عَبْقَرٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ وَاحِدَ رَفْرَفٍ وَعَبْقَرِيٍّ رَفْرَفَةٌ وَعَبْقَرِيَّةٌ، وَالرَّفَارِفُ وَالْعَبَاقِرُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَالْعَبْقَرِيُّ الطَّنَافِسُ الثِّخَانُ مِنْهَا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: الزَّرَابِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. الْحَسَنُ: هِيَ الْبُسُطُ. مُجَاهِدٌ: الدِّيبَاجُ. الْقُتَبِيُّ: كُلُّ ثوب وشئ عِنْدَ الْعَرَبِ عَبْقَرِيٌّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَرْضٍ يُعْمَلُ فِيهَا الْوَشْيُ فَيُنْسَبُ إِلَيْهَا كُلُّ وَشْيٍ حُبِكَ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
حَتَّى كَأَنَّ رِيَاضَ الْقُفِّ أَلْبَسَهَا ... مِنْ وَشْيِ عَبْقَرِ تَجْلِيلٌ وَتَنْجِيدُ
وَيُقَالُ: عَبْقَرُ قَرْيَةٌ بِنَاحِيَةِ الْيَمَنِ تُنْسَجُ فِيهَا بُسُطٌ مَنْقُوشَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنَّ عَبْقَرَ قَرْيَةٌ يَسْكُنُهَا الْجِنُّ يُنْسَبُ إِلَيْهَا كُلُّ فَائِقٍ جَلِيلٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: كُلُّ جَلِيلٍ نَافِسٍ فَاضِلٍ وَفَاخِرٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَغَيْرِهِمْ عِنْدَ الْعَرَبِ عَبْقَرِيٌّ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ) وَقَالَ أَبُو عمرو بْنُ الْعَلَاءِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ) فَقَالَ: رَئِيسُ قَوْمٍ وَجَلِيلُهُمْ. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
بَخِيلٍ عَلَيْهَا جَنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جَدِيرُونَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوا فَيَسْتَعْلُوا
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَبْقَرِيُّ مَوْضِعٌ تَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّهُ مِنْ أَرْضِ الْجِنِّ. قَالَ لَبِيَدٌ:
كُهُولٌ وَشُبَّانٌ كَجِنَّةِ عَبْقَرِ «1»

ثُمَّ نَسَبُوا إِلَيْهِ كل شي يَعْجَبُونَ مِنْ حِذْقِهِ وَجَوْدَةِ صَنْعَتِهِ وَقُوَّتِهِ فَقَالُوا: عَبْقَرِيٌّ وَهُوَ وَاحِدٌ وَجَمْعٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى عَبْقَرِيٍّ) وَهُوَ هَذِهِ الْبُسُطُ الَّتِي فِيهَا الْأَصْبَاغُ وَالنُّقُوشُ حَتَّى قَالُوا: ظُلْمٌ عَبْقَرِيٌّ وَهَذَا عَبْقَرِيُّ قَوْمٍ لِلرَّجُلِ الْقَوِيِّ. وَفِي الْحَدِيثِ: (فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ) ثُمَّ خَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِمَا تَعَارَفُوهُ فَقَالَ: (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) وقرأه بعضهم
__________
(1). صدر البيت:
ومن فاد من إخوانهم وبنيهم

(17/192)


(عَبَاقِرِيٌّ) وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ الْمَنْسُوبَ لَا يُجْمَعُ عَلَى نِسْبَتِهِ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: لَيْسَ بِمَنْسُوبٍ وَهُوَ مِثْلُ كُرْسِيٌّ وَكَرَاسِيٌّ وَبُخْتِيٌّ وَبَخَاتِيٌّ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفَارِفَ خُضْرٍ وَعَبَاقِرَ حِسَانٍ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَضَمَّ الضَّادَ مِنْ (خُضْرٍ) قَلِيلٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (تَبارَكَ) تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». (ذِي الْجَلالِ) أَيِ الْعَظَمَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ (وَالْإِكْرامِ) «2». وَقَرَأَ عَامِرٌ (ذُو الْجَلَالِ) بِالْوَاوِ وَجَعَلَهُ وَصْفًا لِلِاسْمِ، وَذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِكَوْنِ الِاسْمِ هُوَ الْمُسَمَّى. الْبَاقُونَ (ذِي الْجَلالِ) جَعَلُوا (ذِي) صِفَةً لِ (رَبِّكَ). وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ الِاسْمَ الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ السُّورَةَ، فَقَالَ: (الرَّحْمنُ) فَافْتَتَحَ بِهَذَا الِاسْمِ، فوصف خلق الإنسان والجن «3»، وخلق السموات وَالْأَرْضِ وَصُنْعَهُ، وَأَنَّهُ (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) وَوَصَفَ تَدْبِيرَهُ فِيهِمْ، ثُمَّ وَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالَهَا، وَصِفَةَ النَّارِ ثُمَّ خَتَمَهَا بِصِفَةِ الْجِنَانِ. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (أَيْ هَذَا الِاسْمُ الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ هَذِهِ السُّورَةَ، كَأَنَّهُ يُعْلِمُهُمْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ خَرَجَ لَكُمْ مِنْ رَحْمَتِي، فَمِنْ رَحْمَتِي خَلَقْتُكُمْ وَخَلَقْتُ لَكُمُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْخَلْقَ وَالْخَلِيقَةَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَهَذَا كُلُّهُ لَكُمْ مِنَ اسْمِ الرَّحْمَنِ فَمَدَحَ اسْمَهُ ثُمَّ قَالَ: (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) جَلِيلٌ فِي ذَاتِهِ، كَرِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ. وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْقُرَّاءُ فِي إِجْرَاءِ النَّعْتِ عَلَى الْوَجْهِ بِالرَّفْعِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وجه الله الذي يلقى المؤمنون عند ما يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَيَسْتَبْشِرُونَ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ، وَجَمِيلِ اللِّقَاءِ، وحسن العطاء. والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 13 ص 2
(2). راجع ص 165 من هذا الجزء.
(3). في ب: (والشياطين).

(17/193)