تفسير القرطبي

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)

[تفسير سورة الواقعة]
سورة الواقعة مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ سَبْعٌ وَتِسْعُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرٍ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا آيَةً مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ). وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ، مِنْهَا آيَتَانِ (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) نَزَلَتَا فِي سَفَرِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) نَزَلَتَا فِي سَفَرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ نَبَأَ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ، وَنَبَأَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَنَبَأَ أَهْلِ النَّارِ، وَنَبَأَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَنَبَأَ أَهْلِ الْآخِرَةِ، فَلْيَقْرَأْ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ. وذكر أبو عمر ابن عَبْدِ الْبَرِّ فِي (التَّمْهِيدِ) وَ (التَّعْلِيقِ) وَالثَّعْلَبِيُّ أَيْضًا: أَنَّ عُثْمَانَ دَخَلَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي. قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: رَحْمَةَ رَبِّي. قَالَ: أَفَلَا نَدْعُو لَكَ طَبِيبًا؟ قَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي. قَالَ: أَفَلَا نَأْمُرُ لك بعطائك؟ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، حَبَسْتَهُ عَنِّي فِي حَيَاتِي، وَتَدْفَعُهُ لِي عِنْدَ مَمَاتِي؟ قَالَ: يَكُونُ لِبَنَاتِكَ مِنْ بَعْدِكَ. قَالَ: أَتَخْشَى عَلَى بَنَاتِي الْفَاقَةَ مِنْ بَعْدِي؟ إِنِّي أَمَرْتُهُنَّ أَنْ يَقْرَأْنَ سُورَةَ (الْوَاقِعَةِ) كُلَّ لَيْلَةٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الواقعة (56): الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أَيْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ، وَالْمُرَادُ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ. وَسُمِّيَتْ وَاقِعَةٌ لِأَنَّهَا تَقَعُ عَنْ قُرْبٍ. وَقِيلَ: لِكَثْرَةِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الشَّدَائِدِ. وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيِ اذكروا

(17/194)


إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: (إِذا) صِلَةٌ، أَيْ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، كَقَوْلِهِ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) «1» وَ (أَتى أَمْرُ اللَّهِ) «2» وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: قَدْ جَاءَ الصَّوْمُ أَيْ دَنَا وَاقْتَرَبَ. وَعَلَى الْأَوَّلِ (إِذا) لِلْوَقْتِ، وَالْجَوَابُ قَوْلُهُ: (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ). (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) الْكَاذِبَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَالْعَرَبُ قَدْ تَضَعُ الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً «3») أي لغو، وَالْمَعْنَى لَا يُسْمَعُ «4» لَهَا كَذِبٌ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَامَّةِ: عَائِذًا بِاللَّهِ أَيْ مَعَاذَ اللَّهِ، وَقُمْ قَائِمًا أَيْ قُمْ قِيَامًا. وَلِبَعْضِ نِسَاءِ الْعَرَبِ تُرَقِّصُ ابْنَهَا:
قُمْ قَائِمًا قُمْ قَائِمَا ... أَصَبْتَ عَبْدًا نَائِمَا
وَقِيلَ: الْكَاذِبَةُ صِفَةٌ وَالْمَوْصُوفُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا حَالٌ كَاذِبَةٌ، أَوْ نَفْسٌ كَاذِبَةٌ، أَيْ كُلُّ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ وَقْعَتِهَا صَادِقٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي لا يردها شي. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا أَحَدٌ يُكَذِّبُ بِهَا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ «5» أَيْضًا: لَيْسَ لَهَا تَكْذِيبٌ، أَيْ يَنْبَغِي أَلَّا يُكَذِّبَ بِهَا أَحَدٌ. وَقِيلَ: إِنَّ قِيَامَهَا جَدٌّ لَا هَزْلَ فِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: خَفَضَتِ الصَّوْتَ فَأَسْمَعَتْ مَنْ دَنَا وَرَفَعَتْ مَنْ نَأَى، يَعْنِي أَسْمَعَتِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: خَفَضَتِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَرَفَعَتِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَفَضَتْ أَقْوَامًا فِي عَذَابِ اللَّهِ، وَرَفَعَتْ أَقْوَامًا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَفَضَتْ أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي النَّارِ، وَرَفَعَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: خَفَضَتْ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مَرْفُوعِينَ، وَرَفَعَتْ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مَخْفُوضِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: خَفَضَتْ أَقْوَامًا بِالْعَدْلِ، وَرَفَعَتْ آخَرِينَ بِالْفَضْلِ. وَالْخَفْضُ وَالرَّفْعُ يُسْتَعْمَلَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْمَكَانِ وَالْمَكَانَةِ، وَالْعِزِّ والمهانة. ونسب سبحانه الخفض والرفع للقيامة
__________
(1). راجع ج 10 ص (65) [ ..... ]
(2). راجع ص 125 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 20 ص (33)
(4). في ب: (ليس لها كذب).
(5). في ب: (الحسن).

(17/195)


تَوَسُّعًا وَمَجَازًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي إِضَافَتِهَا الْفِعْلَ إِلَى الْمَحَلِّ وَالزَّمَانِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ الْفِعْلُ، يَقُولُونَ: لَيْلٌ نَائِمٌ وَنَهَارٌ صَائِمٌ. وَفِي التَّنْزِيلِ: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) «1» وَالْخَافِضُ وَالرَّافِعُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ، فَرَفَعَ أَوْلِيَاءَهُ فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَخَفَضَ أَعْدَاءَهُ فِي أَسْفَلِ الدَّرَكَاتِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) بِالنَّصْبِ. الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ، وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى الْحَالِ. وَهُوَ عِنْدَ الْفَرَّاءِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَالْمَعْنَى: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ- وَقَعَتْ: خَافِضَةً رَافِعَةً. وَالْقِيَامَةُ لَا شَكَّ فِي وُقُوعِهَا، وَأَنَّهَا تَرْفَعُ أَقْوَامًا وَتَضَعُ آخَرِينَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أَيْ زُلْزِلَتْ وَحُرِّكَتْ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرُهُ، يُقَالُ: رَجَّهُ يَرُجُّهُ رَجًّا أَيْ حَرَّكَهُ وَزَلْزَلَهُ. وَنَاقَةٌ رَجَّاءُ أي عظيمة السنام. وفي ب الْحَدِيثِ: (مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ حِينَ يَرْتَجُّ فَلَا ذِمَّةَ لَهُ) يَعْنِي إِذَا اضْطَرَبَتْ أَمْوَاجُهُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَوْحَى إِلَيْهَا اضْطَرَبَتْ فَرَقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تَرْتَجُّ كَمَا يَرْتَجُّ الصَّبِيُّ فِي الْمَهْدِ حَتَّى يَنْهَدِمَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا، وَيَنْكَسِرَ كُلُّ شي عَلَيْهَا مِنَ الْجِبَالِ وَغَيْرِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الرَّجَّةُ الْحَرَكَةُ الشَّدِيدَةُ يُسْمَعُ لَهَا صَوْتٌ. وَمَوْضِعٌ (إِذا) نَصْبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ (إِذا وَقَعَتِ). وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِ (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أَيْ تَخْفِضُ وَتَرْفَعُ وَقْتَ رَجِّ الْأَرْضِ وَبَسِّ الْجِبَالِ، لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَنْخَفِضُ مَا هُوَ مُرْتَفِعٌ، وَيَرْتَفِعُ مَا هُوَ مُنْخَفِضٌ. وَقِيلَ: أَيْ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَالْجُرْجَانِيُّ. وَقِيلَ: أَيِ اذْكُرْ (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) مَصْدَرٌ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَكْرِيرِ الزَّلْزَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أَيْ فُتِّتَتْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. مُجَاهِدٌ: كَمَا يُبَسُّ الدَّقِيقُ أَيْ يُلَتُّ. وَالْبَسِيسَةُ السَّوِيقُ أَوِ الدَّقِيقُ يُلَتُّ بِالسَّمْنِ أَوْ بِالزَّيْتِ ثُمَّ يُؤْكَلُ وَلَا يُطْبَخُ وَقَدْ يُتَّخَذُ زَادًا. قَالَ الرَّاجِزُ:
لَا تَخْبِزَا خُبْزًا وبسابسا ... ولا تطيلا بمناخ حبسا
__________
(1). راجع ج 14 ص 302

(17/196)


وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَّهُ لِصٌّ مِنْ غَطَفَانَ أَرَادَ أَنْ يَخْبِزَ فَخَافَ أَنْ يُعْجَلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَكَلَهُ عَجِينًا. وَالْمَعْنَى أَنَّهَا خُلِطَتْ فَصَارَتْ كَالدَّقِيقِ الْمَلْتُوتِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ. أَيْ تَصِيرُ الْجِبَالُ تُرَابًا فَيَخْتَلِطُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وبست قُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا فَذَهَبَتْ، نَظِيرُهُ: (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) «1». وَقَالَ عَطِيَّةُ: بُسِطَتْ كَالرَّمْلِ وَالتُّرَابِ. وَقِيلَ: الْبَسُّ السُّوقُ أَيْ سِيقَتِ الْجِبَالُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْبَسُّ السُّوقُ، وَقَدْ بَسَسْتُ الْإِبِلَ أَبُسُّهَا بِالضَّمِّ بَسًّا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: بَسَسْتَ الْإِبِلَ وَأَبْسَسْتَ لُغَتَانِ إِذَا زَجَرْتَهَا وَقُلْتَ لَهَا بِسْ بِسْ. وَفِي الْحَدِيثِ: (يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ يَبُسُّونَ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: (جَاءَكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ يَبُسُّونَ عِيَالَهُمْ) «2» وَالْعَرَبُ تَقُولُ: جئ بِهِ مِنْ حَسِّكَ وَبَسِّكَ. وَرَوَاهُمَا أَبُو زَيْدٍ بِالْكَسْرِ، فَمَعْنَى مِنْ حَسِّكَ مِنْ حَيْثُ أَحْسَسْتَهُ، وَبَسِّكَ مِنْ حَيْثُ بَلَغَهُ مَسِيرُكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَالَتْ سَيْلًا. عِكْرِمَةُ: هُدَّتْ هَدًّا. مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: سُيَّرَتْ سَيْرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَغْلَبِ الْعِجْلِيِّ «3»: وَقَالَ الْحَسَنُ: قُطِعَتْ قَطْعًا. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عنه: الهباء المنبث الرَّهْجُ «4» الَّذِي يَسْطَعُ مِنْ حَوَافِرِ الدَّوَابِّ ثُمَّ يَذْهَبُ، فَجَعَلَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ كَذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْهَبَاءُ هُوَ الشُّعَاعُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْكُوَّةِ كَهَيْئَةِ الْغُبَارِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا: هُوَ مَا تَطَايَرَ مِنَ النَّارِ إِذَا اضْطَرَبَتْ يَطِيرُ مِنْهَا شَرَرٌ فَإِذَا وَقَعَ لم يكن شيئا. وقال عَطِيَّةُ. وَقَدْ مَضَى فِي (الْفُرْقَانِ) عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) «5» وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (مُنْبَثًّا) بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ مُتَفَرِّقًا مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) «6» أَيْ فَرَّقَ وَنَشَرَ. وَقَرَأَ مَسْرُوقٌ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ (مُنْبَتًّا) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ أَيْ مُنْقَطِعًا مِنْ قَوْلِهِمْ: بَتَّهُ اللَّهُ أي قطعه، ومنه البتات.
__________
(1). راجع ج 11 ص (245)
(2). أي يسوقون عيالهم.
(3). بياض بالأصول في موضع الشاهد من قول الأغلب العجلى الراجز ولم نعثر عليه.
(4). الرهج بالفتح وبالإسكان الغبار.
(5). راجع 13 ص (22)
(6). راجع ج 2 ص 196

(17/197)


وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)

[سورة الواقعة (56): الآيات 7 الى 12]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أَيْ أَصْنَافًا ثَلَاثَةً كُلُّ، صِنْفٍ يُشَاكِلُ مَا هُوَ مِنْهُ، كَمَا يُشَاكِلُ الزَّوْجُ الزَّوْجَةَ، ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ هم فقال: (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) و (السَّابِقُونَ)، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هُمُ الَّذِينَ يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هُمُ الَّذِينَ يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ إِلَى النَّارِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَالْمَشْأَمَةُ الْمَيْسَرَةُ وَكَذَلِكَ الشَّأْمَةُ. يُقَالُ: قَعَدَ فُلَانٌ شَأْمَةً. وَيُقَالُ: يَا فُلَانُ شَائِمْ بِأَصْحَابِكَ، أَيْ خُذْ بِهِمْ شَأْمَةً أَيْ ذَاتَ الشِّمَالِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْيَدِ الشِّمَالِ الشُّؤْمَى، وَلِلْجَانِبِ الشِّمَالِ الْأَشْأَمُ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَا جَاءَ عَنِ الْيَمِينِ الْيُمْنُ، وَلِمَا جَاءَ عَنِ الشِّمَالِ الشُّؤْمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هُمُ الَّذِينَ كانوا عن يمين آدم حِينِ أُخْرِجَتِ الذُّرِّيَّةُ مِنْ صُلْبِهِ فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هُمُ الَّذِينَ أُخِذُوا مِنْ شِقِّ آدَمَ الْأَيْمَنِ يَوْمَئِذٍ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ الَّذِينَ أُخِذُوا مِنْ شِقِّ آدَمَ الْأَيْسَرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هُمْ أَهْلُ الْحَسَنَاتِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هُمْ أَهْلُ السَّيِّئَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ: أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ الْمَيَامِينُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ الْمَشَائِيمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الْقَبِيحَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ- قَالَ- فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى- قَالَ- فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ- قَالَ- قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: وَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ أَصْحَابُ التَّقَدُّمِ، وَأَصْحَابُ المشأمة

(17/198)


أَصْحَابُ التَّأَخُّرِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: اجْعَلْنِي فِي يَمِينِكَ وَلَا تَجْعَلْنِي فِي شِمَالِكَ، أَيِ اجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالتَّكْرِيرُ فِي (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ). و (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْجِيبِ، كَقَوْلِهِ: (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) وَ (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ مَا زَيْدٌ! وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ رَضِيَ اللَّهُ «1» عَنْهَا: مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ! وَالْمَقْصُودُ تَكْثِيرُ مَا لِأَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَلِأَصْحَابِ الْمَشْأَمَةِ مِنَ العقاب. وقيل: (فَأَصْحابُ) رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ (مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) كَأَنَّهُ قَالَ: (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) مَا هُمْ، الْمَعْنَى: أَيُّ شي هُمْ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) تَأْكِيدًا، وَالْمَعْنَى فَالَّذِينَ يُعْطَوْنَ «2» كِتَابَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ هُمْ أَصْحَابُ التَّقَدُّمِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (السَّابِقُونَ الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ) ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: إِنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ. الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: السَّابِقُونَ إِلَى الْإِيمَانِ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ. وَنَحْوُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ. مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) «3». وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: هُمُ السَّابِقُونَ إِلَى الْجِهَادِ، وَأَوَّلُ النَّاسِ رَوَاحًا إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُمُ السَّابِقُونَ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. الضَّحَّاكُ: إِلَى الْجِهَادِ. سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِلَى التَّوْبَةِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ «4» رَبِّكُمْ) ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ: (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها «5» سابِقُونَ). وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَرْبَعَةٌ، مِنْهُمْ سَابِقُ أُمَّةِ مُوسَى وَهُوَ حِزْقِيلُ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَسَابِقُ أُمَّةِ عِيسَى وَهُوَ حَبِيبُ النَّجَّارِ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، وَسَابِقَانِ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ شُمَيْطُ بْنُ الْعَجْلَانِ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ، فَرَجُلٌ ابْتَكَرَ لِلْخَيْرِ فِي حَدَاثَةِ سِنِّهِ
__________
(1). حديث أم زرع رواه مسلم في فضائل الصحابة عن عائشة رضى الله عنها أنه: جلس احدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا، فقالت إحداهن: زوجي مالك وما مالك! مالك خير من ذلك ...... إلخ. الحديث.
(2). في ب، ز، ح، س، ل، هـ: (يؤتون كتابهم).
(3). راجع ج 8 ص (235) [ ..... ]
(4). راجع ج 4 ص (203)
(5). راجع ج 12 ص 133

(17/199)


ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)

دَاوَمَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا فَهَذَا هُوَ السَّابِقُ الْمُقَرَّبُ، وَرَجُلٌ ابْتَكَرَ عُمْرَهُ بِالذُّنُوبِ ثُمَّ طُولِ الْغَفْلَةِ ثُمَّ رَجَعَ بِتَوْبَتِهِ حَتَّى خُتِمَ لَهُ بِهَا فَهَذَا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَرَجُلٌ ابْتَكَرَ عُمْرَهُ بِالذُّنُوبِ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى خُتِمَ لَهُ بِهَا فَهَذَا مِنْ أَصْحَابِ الشِّمَالِ. وَقِيلَ: هُمْ كُلُّ مَنْ سَبَقَ إلى شي مِنْ أَشْيَاءِ الصَّلَاحِ. ثُمَّ قِيلَ: (السَّابِقُونَ) رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالثَّانِي تَوْكِيدٌ لَهُ وَالْخَبَرُ (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ). وَقَالَ الزَّجَّاجُ: (السَّابِقُونَ) رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالثَّانِي خَبَرُهُ، وَالْمَعْنَى السَّابِقُونَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ هُمُ السَّابِقُونَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) مِنْ صِفَتِهِمْ. وَقِيلَ: إِذَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ مَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ كَانَ لَهُ ضَوْءٌ يعرفه به من دونه.

[سورة الواقعة (56): الآيات 13 الى 16]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أَيْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أَيْ مِمَّنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْحَسَنُ: ثُلَّةٌ مِمَّنْ قَدْ مَضَى قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ بِكَرَمِكَ. وَسُمُّوا قَلِيلًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَثُرُوا فَكَثُرَ السَّابِقُونَ إِلَى الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، فَزَادُوا عَلَى عَدَدِ مَنْ سَبَقَ إِلَى التَّصْدِيقِ مِنْ أُمَّتِنَا. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ هَذَا شَقَّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَلْ ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَلْ نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتُقَاسِمُونَهُمْ فِي النِّصْفِ الثَّانِي) رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمَعْنَاهُ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لِأَنَّهَا خَبَرٌ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ فِي جَمَاعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ. قَالَ الْحَسَنُ: سَابِقُو مَنْ مَضَى أَكْثَرُ من سابقينا، فلذلك قَالَ: (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وَقَالَ فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَهُمْ سِوَى السَّابِقِينَ: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي لَأَرْجُو

(17/200)


أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبَانٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الثُّلَّتَانِ جَمِيعًا مِنْ أُمَّتِي) يَعْنِي (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ). وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ «1»] عَنْهُ: كِلَا الثُّلَّتَيْنِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي أَوَّلِ أُمَّتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي آخِرِهَا، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) «2». وَقِيلَ: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أَيْ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) يُسَارِعُ فِي الطَّاعَاتِ حَتَّى يَلْحَقَ دَرَجَةَ الْأَوَّلِينَ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (خَيْرُكُمْ قَرْنِي) ثُمَّ سَوَّى فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. وَالثُّلَّةُ مِنْ ثَلَلْتُ الشَّيْءَ أَيْ قَطَعْتُهُ، فَمَعْنَى ثُلَّةٍ كَمَعْنَى فِرْقَةٍ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أَيِ السَّابِقُونَ فِي الْجَنَّةِ (عَلى سُرُرٍ)، أَيْ مَجَالِسُهُمْ عَلَى سُرُرٍ جَمْعُ سَرِيرٍ. (مَوْضُونَةٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْسُوجَةٌ بِالذَّهَبِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُشَبَّكَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: (مَوْضُونَةٍ) مَصْفُوفَةٍ، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: (عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) «3». وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ: مَرْمُولَةٌ «4» بِالذَّهَبِ. وَفِي التَّفَاسِيرِ: (مَوْضُونَةٍ أَيْ مَنْسُوجَةٌ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ مُشَبَّكَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ. وَالْوَضْنُ النَّسْجُ الْمُضَاعَفُ وَالنَّضْدُ، يُقَالُ: وَضَنَ فُلَانٌ الْحَجَرَ وَالْآجُرَّ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ فَهُوَ مَوْضُونٌ، وَدِرْعٌ مَوْضُونَةٌ أَيْ مُحْكَمَةٌ فِي النَّسْجِ مِثْلُ مَصْفُوفَةٍ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ مَوْضُونَةٌ ... تُسَاقُ مَعَ الْحَيِّ عِيرًا فَعِيرَا
وَقَالَ أَيْضًا:
وَبَيْضَاءُ كَالنِّهْيِ مَوْضُونَةٌ ... لَهَا قَوْنَسٌ فَوْقَ جَيْبِ البدن
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ح، ز، س، ل، هـ.
(2). راجع ج 14 آية (32)
(3). راجع ص 56 من هذا الجزء.
(4). مرمولة: منسوجة.

(17/201)


يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)

وَالسَّرِيرُ الْمَوْضُونُ: الَّذِي سَطْحُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْسُوجِ، وَمِنْهُ الْوَضِينُ: بِطَانٌ مِنْ سُيُورٍ يُنْسَجُ فَيَدْخُلُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
إِلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا»

(مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) أَيْ عَلَى السُّرُرِ (مُتَقابِلِينَ) أَيْ لَا يَرَى بَعْضُهُمْ قَفَا بَعْضٍ، بَلْ تَدُورُ بِهِمُ الْأَسِرَّةُ، وَهَذَا فِي الْمُؤْمِنِ وَزَوْجَتِهِ واهلة، أي يتكئون متقابلين. قاله مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طُولُ كُلِّ سَرِيرٍ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَجْلِسَ عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت.

[سورة الواقعة (56): الآيات 17 الى 26]
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أَيْ غِلْمَانٌ لَا يَمُوتُونَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: لَا يَهْرَمُونَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَهَلْ يَنْعَمْنَ إِلَّا سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ ... قَلِيلُ الْهُمُومِ مَا يَبِيتُ بِأَوْجَالِ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُخَلَّدُونَ مُقَرَّطُونَ، يُقَالُ لِلْقُرْطِ الْخَلَدَةُ وَلِجَمَاعَةِ الْحُلِيِّ الْخِلْدَةُ. وَقِيلَ: مُسَوَّرُونَ وَنَحْوُهُ عَنِ الْفَرَّاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز «2» الكثبان
__________
(1). الضمير يعود على الناقة، أراد أنها قد هزلت ودقت للسير عليها.
(2). الاقاوز جمع قوز وهو كثيب من الرمل صغير، شبه به أرداف النساء، فالإضافة البيان.

(17/202)


وَقِيلَ: مُقَرَّطُونَ يَعْنِي مُمَنْطَقُونَ مِنَ الْمَنَاطِقِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: (مُخَلَّدُونَ) مُنَعَّمُونَ. وَقِيلَ: عَلَى سِنٍّ وَاحِدَةٍ أَنْشَأَهُمُ اللَّهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ كَمَا شاء من غير ولادة. وقال علي ابن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الولدان ها هنا وِلْدَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ صِغَارًا وَلَا حَسَنَةَ لَهُمْ وَلَا سَيِّئَةَ. وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ هُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَسَنَاتٌ يُجْزَوْنَ بِهَا، وَلَا سَيِّئَاتٌ يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا، فَوُضِعُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ عَلَى أَتَمِّ السُّرُورِ وَالنِّعْمَةِ، وَالنِّعْمَةُ إِنَّمَا تَتِمُّ بِاحْتِفَافِ الْخَدَمِ وَالْوِلْدَانِ بِالْإِنْسَانِ. (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) أَكْوَابٌ جَمْعُ كُوبٍ وَقَدْ مَضَى فِي (الزُّخْرُفِ) «1» وَهِيَ الْآنِيَةُ الَّتِي لَا عُرَى لَهَا وَلَا خَرَاطِيمَ، وَالْأَبَارِيقُ الَّتِي لَهَا عُرَى وَخَرَاطِيمُ وَاحِدُهَا إِبْرِيقٌ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَبْرُقُ لَوْنُهُ مِنْ صَفَائِهِ. (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) مَضَى فِي (وَالصَّافَّاتِ) «2» الْقَوْلُ فِيهِ. وَالْمَعِينُ الْجَارِي مِنْ مَاءٍ أَوْ خَمْرٍ، غَيْرَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْخَمْرُ الْجَارِيَةُ مِنَ الْعُيُونِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ لِلْعُيُونِ فَيَكُونُ (مَعِينٍ) مَفْعُولًا مِنَ الْمُعَايَنَةِ. وَقِيلَ: هُوَ فَعِيلٌ مِنَ الْمَعْنِ وَهُوَ الْكَثْرَةُ. وَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَخَمْرِ الدُّنْيَا الَّتِي تُسْتَخْرَجُ بِعَصْرٍ وَتَكَلُّفٍ وَمُعَالَجَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي لا تنصدع رؤوسهم مِنْ شُرْبِهَا، أَيْ أَنَّهَا لَذَّةٌ بِلَا أَذًى بِخِلَافِ شَرَابِ الدُّنْيَا. (وَلا يُنْزِفُونَ) تَقَدَّمَ فِي (وَالصَّافَّاتِ) أَيْ لَا يَسْكَرُونَ فَتَذْهَبُ عُقُولُهُمْ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: (لَا يُصَدَّعُونَ) بِمَعْنَى لَا يَتَصَدَّعُونَ أَيْ لَا يَتَفَرَّقُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَوْمَئِذٍ «3» يَصَّدَّعُونَ). وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ (يُنْزِفُونَ) بِكَسْرِ الزَّايِ، أَيْ لَا ينفد شرابهم ولا تقنى خَمْرُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «4»:
لَعَمْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أَوْ صَحَوْتُمُ ... لَبِئْسَ النَّدَامَى كُنْتُمُ آلَ أَبْجَرَا
__________
(1). راجع ج 16 ص (112)
(2). راجع ج 15 ص (77)
(3). راجع ج 14 ص (42)
(4). هو الحطيئة وقد تقدم البيت في ج 15 ص 79

(17/203)


وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: السُّكْرُ وَالصُّدَاعُ وَالْقَيْءُ وَالْبَوْلُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى خَمْرَ الْجَنَّةِ فَنَزَّهَهَا عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أَيْ يَتَخَيَّرُونَ مَا شَاءُوا لِكَثْرَتِهَا. وَقِيلَ: وَفَاكِهَةٌ مُتَخَيَّرَةٌ مُرْضِيَةٌ، وَالتَّخَيُّرُ الِاخْتِيَارُ. (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالَ: (ذَاكَ نَهَرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ تَعَالَى- يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ- أَشَدُّ بياضا من اللبن أحلى مِنَ الْعَسَلِ فِيهِ طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ) قَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَذِهِ لَنَاعِمَةٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَكَلَتُهَا أَحْسَنُ مِنْهَا) «1» قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَخَرَّجَهُ الثَّعْلَبِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ طَيْرًا مِثْلَ أَعْنَاقِ الْبُخْتِ تَصْطَفُّ عَلَى يَدِ وَلِيِّ اللَّهِ فَيَقُولُ أَحَدُهَا يَا وَلِيَّ اللَّهِ رَعَيْتُ فِي مُرُوجٍ تَحْتَ الْعَرْشِ وَشَرِبْتُ مِنْ عُيُونِ التَّسْنِيمِ فَكُلْ مِنِّي فَلَا يَزَلْنَ يَفْتَخِرْنَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَخْطِرَ عَلَى قَلْبِهِ أَكْلُ أَحَدِهَا فَتَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى أَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيَأْكُلُ مِنْهَا مَا أَرَادَ فَإِذَا شَبِعَ تَجَمَّعَ عِظَامُ الطَّائِرِ فَطَارَ يَرْعَى فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ) فقال عمر: يا نبي الله إنها لنا عمة. فَقَالَ: (آكِلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا). وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَطَيْرًا فِي الطَّائِرِ مِنْهَا سَبْعُونَ أَلْفَ رِيشَةٍ فَيَقَعُ عَلَى صَحْفَةِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْتَفِضُ فَيَخْرُجُ مِنْ كُلِّ رِيشَةٍ لَوْنُ طَعَامٍ أَبْيَضَ مِنَ الثَّلْجِ وَأَبْرَدَ وَأَلْيَنَ مِنَ الزُّبْدِ وَأَعْذَبَ مِنَ الشَّهْدِ لَيْسَ فِيهِ لَوْنٌ يُشْبِهُ صَاحِبَهُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ مَا أَرَادَ ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَطِيرُ (. قَوْلُهُ تَعَالَى:) وَحُورٌ عِينٌ) قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، فَمَنْ جَرَّ وَهُوَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى (بِأَكْوابٍ) وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَنَعَّمُونَ بِأَكْوَابٍ وَفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ وَحُورٍ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى (جَنَّاتِ) أَيْ هُمْ فِي (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وَفِي حُورٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ المضاف، كأنه قال: وفي معاشرة
__________
(1). في نسخ الأصل: أكلتها أنعم منها. وما أثبتناه هو في صحيح الترمذي.

(17/204)


حُورٍ. الْفَرَّاءُ: الْجَرُّ عَلَى الْإِتْبَاعِ فِي اللَّفْظِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْحُورَ لَا يُطَافُ بِهِنَّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا الْغَانِيَاتِ بَرَزْنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعَيُونَا
وَالْعَيْنُ لَا تُزَجَّجُ وَإِنَّمَا تُكَحَّلُ. وَقَالَ آخَرُ:
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا
وَقَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ عَلَى الْمَعْنَى. قَالَ: وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يُطَافَ عَلَيْهِمْ بِالْحُورِ وَيَكُونُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لَذَّةٌ. وَمَنْ نَصَبَ وَهُوَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ فِعْلٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيُزَوَّجُونَ حُورًا عِينًا. وَالْحَمْلُ فِي النَّصْبِ عَلَى الْمَعْنَى أَيْضًا حَسَنٌ، لِأَنَّ مَعْنَى يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِهِ يُعْطُونَهُ. وَمَنْ رَفَعَ وَهُمُ الْجُمْهُورُ- وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ- فَعَلَى مَعْنَى وَعِنْدَهُمْ حُورٌ عِينٌ، لِأَنَّهُ لَا يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِالْحُورِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: وَمَنْ قَالَ: (وَحُورٌ عِينٌ) بِالرَّفْعِ وَعُلِّلَ بِأَنَّهُ لَا يُطَافُ بِهِنَّ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي فَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُطَافُ بِهِ وَلَيْسَ يُطَافُ إِلَّا بِالْخَمْرِ وَحْدَهَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ محمولا على المعنى، لان الْمَعْنَى لَهُمْ أَكْوَابٌ وَلَهُمْ حُورٌ عِينٌ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى (ثُلَّةٌ) وَ (ثُلَّةٌ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) وَكَذَلِكَ (وَحُورٌ عِينٌ) وَابْتَدَأَ بِالنَّكِرَةِ لِتَخْصِيصِهَا بِالصِّفَةِ. (كَأَمْثالِ) أَيْ مِثْلِ أَمْثَالِ (اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أَيِ الَّذِي لَمْ تَمَسَّهُ الْأَيْدِي وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْغُبَارُ فَهُوَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ صَفَاءً وَتَلَأْلُؤًا، أَيْ هُنَّ فِي تَشَاكُلِ أَجْسَادِهِنَّ فِي الْحُسْنِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِنَّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّمَا خُلِقَتْ فِي قِشْرِ لُؤْلُؤَةٍ ... فَكُلُّ أَكْنَافِهَا وَجْهٌ لِمِرْصَادِ
(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ ثَوَابًا وَنَصَبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) يُجَازُونَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْحُورِ الْعِينِ فِي (وَالطُّورِ) «1» وَغَيْرِهَا. وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَلَقَ اللَّهُ الْحُورَ الْعِينَ
__________
(1). راجع ص 65 من هذا الجزء وج 16 ص 152 [ ..... ]

(17/205)


مِنَ الزَّعْفَرَانِ) وَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيَمْسِكُ التُّفَّاحَةَ مِنْ تُفَّاحِ الْجَنَّةِ فَتَنْفَلِقُ فِي يَدِهِ فَتَخْرُجُ مِنْهَا حَوْرَاءُ لَوْ نَظَرَتْ لِلشَّمْسِ لَأَخْجَلَتِ الشَّمْسَ مِنْ حُسْنِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ التُّفَّاحَةِ) فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا سُلَيْمَانَ إِنَّ هَذَا لَعَجَبٌ وَلَا يَنْقُصُ مِنَ التُّفَّاحَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ كَالسِّرَاجِ الَّذِي يُوقَدُ مِنْهُ سِرَاجٌ آخَرُ وَسُرُجٌ وَلَا يَنْقُصُ، وَاللَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْحُورَ الْعِينَ مِنْ أَصَابِعِ رِجْلَيْهَا إِلَى رُكْبَتَيْهَا مِنَ الزَّعْفَرَانِ، وَمِنْ رُكْبَتَيْهَا إِلَى ثَدْيَيْهَا مِنَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ، وَمِنْ ثَدْيَيْهَا إِلَى عُنُقِهَا مِنَ الْعَنْبَرِ الْأَشْهَبِ، وَمِنْ عُنُقِهَا إِلَى رَأْسِهَا مِنَ الْكَافُورِ الْأَبْيَضِ، عَلَيْهَا سَبْعُونَ أَلْفَ حُلَّةٍ مِثْلُ شَقَائِقِ «1» النُّعْمَانِ، إِذَا أَقْبَلَتْ يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهَا نُورًا سَاطِعًا كَمَا تَتَلَأْلَأُ الشَّمْسُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِذَا أَدْبَرَتْ يُرَى كَبِدُهَا مِنْ رِقَّةِ ثِيَابِهَا وَجِلْدِهَا، فِي رَأْسِهَا سَبْعُونَ أَلْفَ ذُؤَابَةٍ مِنَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ، لِكُلِّ ذُؤَابَةٍ مِنْهَا وَصِيفَةٌ تَرْفَعُ ذَيْلَهَا وَهِيَ تُنَادِي: هَذَا ثَوَابُ الْأَوْلِيَاءِ (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَاطِلًا وَلَا كَذِبًا. وَاللَّغْوُ مَا يُلْغَى مِنَ الْكَلَامِ، وَالتَّأْثِيمُ مَصْدَرُ أَثَّمْتُهُ أَيْ قُلْتُ لَهُ أَثِمْتَ. مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: (وَلا تَأْثِيماً) أَيْ لَا يُؤَثِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. مُجَاهِدٌ: (لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) شَتْمًا وَلَا مَأْثَمًا. (إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) (قِيلًا) مَنْصُوبٌ بِ (يَسْمَعُونَ) أَوِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنْ يَقُولُونَ قِيلًا أَوْ يَسْمَعُونَ. وَ (سَلاماً سَلاماً) مَنْصُوبَانِ بِالْقَوْلِ، أَيْ إِلَّا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْخَيْرَ. أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ إِلَّا أَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلَامًا. أَوْ يَكُونُ وَصْفًا لِ (قِيلًا)، وَالسَّلَامُ الثَّانِي بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى إِلَّا قِيلًا يَسْلَمُ فِيهِ مِنَ اللَّغْوِ. وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: تُحَيِّيهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يُحَيِّيهِمْ رَبُّهُمْ عز وجل.
__________
(1). شقائق النعمان: نبات أحمر الزهر. الواحدة شقيقة النعمان.

(17/206)


وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

[سورة الواقعة (56): الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ) رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ مَنَازِلِ أَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ وَهُمُ السَّابِقُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّكْرِيرُ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ النَّعِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ. (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) أَيْ فِي نَبْقٍ قَدْ خُضِّدَ شَوْكُهُ أَيْ قُطِعَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَيَنْفَعُنَا الْأَعْرَابُ وَمَسَائِلُهُمْ، قَالَ: أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا، فَقَالَ: يَا رسول الله! لَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ شَجَرَةً مُؤْذِيَةً، وَمَا كُنْتُ أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً تُؤْذِي صَاحِبَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَمَا هِيَ) قَالَ: السِّدْرُ فَإِنَّ لَهُ شَوْكًا مُؤْذِيًا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أو ليس يَقُولُ (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) خَضَّدَ اللَّهُ شَوْكَهُ فَجَعَلَ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةً فَإِنَّهَا تُنْبِتُ ثَمَرًا يَفْتُقُ الثَّمَرُ مِنْهَا عَنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لَوْنًا مِنَ الطَّعَامِ مَا فِيهِ لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ (. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ: نَظَرَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى وَجٍّ (وَهُوَ «1» وَادٍ بِالطَّائِفِ مُخَصَّبٌ) فَأَعْجَبَهُمْ سِدْرَهُ، فَقَالُوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ هَذَا، فَنَزَلَتْ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ يَصِفُ الْجَنَّةَ:
إِنَّ الْحَدَائِقَ فِي الْجِنَانِ ظَلِيلَةٌ ... فِيهَا الْكَوَاعِبُ سِدْرُهَا مَخْضُودٌ
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) وَهُوَ الْمُوقَرُ حَمْلًا. وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي الْخَبَرِ. سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ثَمَرُهَا أَعْظَمُ مِنَ الْقِلَالِ. وقد مضى هذا في سورة
__________
(1). الذي في اللسان: وج موضع بالبادية. وقيل: بلد بالطائف، وقيل هي الطائف.

(17/207)


(النَّجْمِ) «1» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) وَأَنَّ ثَمَرَهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الطَّلْحُ شَجَرُ الْمَوْزِ وَاحِدُهُ طَلْحَةُ. قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ هُوَ مَوْزٌ وَلَكِنَّهُ شَجَرٌ لَهُ ظِلٌّ بَارِدٌ رَطْبٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: شَجَرٌ عِظَامٌ لَهُ شَوْكٌ، قَالَ بَعْضُ الْحُدَاةِ «2» وَهُوَ الْجَعْدِيُّ:
بَشَّرَهَا دَلِيلُهَا وَقَالَا ... غَدًا تَرَيْنَ الطَّلْحَ وَالْأَحْبَالَا «3»
فَالطَّلْحُ كُلُّ شَجَرٍ عَظِيمٍ كَثِيرِ الشَّوْكِ. الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ وَقَدْ أُزِيلَ شَوْكُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا: كَشَجَرِ أُمِّ غَيْلَانَ [لَهُ «4»] نُورٌ طَيِّبٌ جِدًّا فَخُوطِبُوا وَوُعِدُوا بِمَا يُحِبُّونَ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّ فَضْلَهُ عَلَى مَا فِي الدُّنْيَا كَفَضْلِ سَائِرِ مَا فِي الْجَنَّةِ عَلَى مَا فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: طَلْحُ الْجَنَّةِ يُشْبِهُ طَلْحَ الدُّنْيَا لَكِنْ لَهُ ثَمَرٌ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ عنه الله: (وَطَلْعٍ مَنْضُودٍ) بِالْعَيْنِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) «5» وَهُوَ خِلَافُ الْمُصْحَفِ. فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قُرِئَ بَيْنَ يَدَيْهِ (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) فَقَالَ: ما شأن الطلح؟ إنما هو (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) ثُمَّ قَالَ: (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) فَقِيلَ لَهُ: أَفَلَا نُحَوِّلُهَا؟ فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُهَاجَ الْقُرْآنُ وَلَا يُحَوَّلُ. فَقَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَلَمْ يَرَ إِثْبَاتَهَا فِي الْمُصْحَفِ لِمُخَالَفَةِ مَا رَسْمُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَأَسْنَدَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ أَوْ قُرِئَتْ عِنْدَ عَلِيٍّ- شَكَّ مُجَالِدٌ- (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما بال الطلح؟ أما تقرأ (وَطَلْحٍ) ثُمَّ قَالَ: (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) فَقَالَ لَهُ: يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف؟
__________
(1). راجع ص 94 وص 5 من هذا الجزء.
(2). كذا في الأصول (الحداة) بالحاء المهملة والذي في تفسير الطبري (الجداة) بالجيم.
(3). الاحبال جمع حبلة بالضم: ثمر السلم والبال والسمر أو ثمر العضاه عامة.
(4). زيادة يقتضيها السياق.
(5). راجع ج 13 ص 127

(17/208)


فَقَالَ: [لَا «1» [لَا يُهَاجُ الْقُرْآنُ الْيَوْمَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى مَا فِي الْمُصْحَفِ وَعَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ، وَأَبْطَلَ الَّذِي كَانَ فَرَطَ مِنْ قَوْلِهِ. وَالْمَنْضُودُ الْمُتَرَاكِبُ الَّذِي] قَدْ «2» نُضِّدَ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ بِالْحَمْلِ، لَيْسَتْ لَهُ سُوقٌ بَارِزَةٌ بَلْ هُوَ مَرْصُوصٌ، وَالنَّضْدُ هُوَ الرَّصُّ وَالْمُنَضَّدُ الْمَرْصُوصُ، قَالَ النَّابِغَةُ:
خَلَّتْ سَبِيلَ أَتِيٍّ كَانَ يَحْبِسُهُ ... وَرَفَّعَتْهُ إِلَى السِّجْفَيْنِ فَالنَّضَدِ
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: أَشْجَارُ الْجَنَّةِ مِنْ عُرُوقِهَا إِلَى أَفْنَانِهَا نَضِيدَةٌ ثَمَرٌ كُلُّهُ، كُلَّمَا أَكَلَ ثَمَرَةً عَادَ مَكَانَهَا أَحْسَنُ مِنْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أَيْ دَائِمٌ بَاقٍ لَا يَزُولُ وَلَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) وَذَلِكَ بِالْغَدَاةِ وَهِيَ مَا بَيْنَ الْإِسْفَارِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ «3». وَالْجَنَّةُ كُلُّهَا ظِلٌّ لَا شَمْسَ مَعَهُ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: يَعْنِي ظِلَّ الْعَرْشِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: مَسِيرَةُ سَبْعِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِلدَّهْرِ الطَّوِيلِ وَالْعُمْرِ الطَّوِيلِ وَالشَّيْءِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ مَمْدُودٌ، وَقَالَ لَبِيَدٌ:
غَلَبَ الْعَزَاءُ وَكُنْتُ غَيْرَ مُغَلَّبٍ ... دَهْرٌ طَوِيلٌ دَائِمٌ مَمْدُودُ
وَفِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَفِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)
. (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) أَيْ جَارٍ لَا يَنْقَطِعُ وَأَصْلُ السَّكْبِ الصَّبُّ، يُقَالُ: سَكَبَهُ سَكْبًا، وَالسُّكُوبُ انْصِبَابُهُ، يُقَالُ: سَكَبَ سُكُوبًا، وَانْسَكَبَ انْسِكَابًا، أَيْ وَمَاءٌ مَصْبُوبٌ يَجْرِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ أَصْحَابُ بَادِيَةٍ وَبِلَادٍ حَارَّةٍ، وَكَانَتِ الْأَنْهَارُ فِي بِلَادِهِمْ عَزِيزَةً لَا يَصِلُونَ إِلَى الْمَاءِ إِلَّا بِالدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ فَوُعِدُوا فِي الْجَنَّةِ خِلَافَ ذَلِكَ، وَوُصِفَ لَهُمْ أَسْبَابُ النُّزْهَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا، وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار واطرادها.
__________
(1). زيادة من ب.
(2). زيادة من ب.
(3). راجع ج 13 ص 37.

(17/209)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أَيْ لَيْسَتْ بِالْقَلِيلَةِ الْعَزِيزَةِ كَمَا كَانَتْ فِي بِلَادِهِمْ (لَا مَقْطُوعَةٍ) أَيْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ كَانْقِطَاعِ فَوَاكِهِ الصيف في الشاء (وَلا مَمْنُوعَةٍ) أَيْ لَا يُحْظَرُ عَلَيْهَا كَثِمَارِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: (وَلا مَمْنُوعَةٍ) أَيْ لَا يُمْنَعُ مَنْ أَرَادَهَا بِشَوْكٍ وَلَا بُعْدٍ [وَلَا «1»] حَائِطٍ، بَلْ إِذَا اشْتَهَاهَا الْعَبْدُ دَنَتْ مِنْهُ حَتَّى يَأْخُذَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا) «2». وَقِيلَ: لَيْسَتْ مَقْطُوعَةً بِالْأَزْمَانِ، وَلَا مَمْنُوعَةً بِالْأَثْمَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) رَوَى التِّرْمِذِيُّ [عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «3»] عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قَالَ: (ارْتِفَاعُهَا لَكُمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ) قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ: الْفُرُشُ فِي الدَّرَجَاتِ، وَمَا بَيْنَ الدَّرَجَاتِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْفُرُشَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي فِي الْجَنَّةِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُنَّ ذِكْرٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) دَالٌّ، لِأَنَّهَا مَحَلُّ النِّسَاءِ، فَالْمَعْنَى وَنِسَاءٌ مُرْتَفِعَاتُ الْأَقْدَارِ فِي حُسْنِهِنَّ وَكَمَالِهِنَّ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) أَيْ خَلَقْنَاهُنَّ خَلْقًا وَأَبْدَعْنَاهُنَّ إِبْدَاعًا. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَرْأَةَ فِرَاشًا وَلِبَاسًا وَإِزَارًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) «4». ثُمَّ قِيلَ: عَلَى هَذَا هُنَّ الْحُورُ الْعِينُ، أَيْ خَلَقْنَاهُنَّ مِنْ غَيْرِ وِلَادَةٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ نِسَاءُ بَنِي آدَمَ، أَيْ خَلَقْنَاهُنَّ خَلْقًا جَدِيدًا وَهُوَ الْإِعَادَةُ، أَيْ أَعَدْنَاهُنَّ إِلَى حَالِ الشَّبَابِ وَكَمَالِ الْجَمَالِ. وَالْمَعْنَى أَنْشَأْنَا الْعَجُوزَ وَالصَّبِيَّةَ إِنْشَاءً وَاحِدًا، وَأُضْمِرْنَ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ قَدْ دَخَلْنَ فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَلِأَنَّ الْفُرُشَ كِنَايَةٌ عَنِ النِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قَالَ: (مِنْهُنَّ الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ). وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً) فَقَالَ: (يَا أُمَّ سَلَمَةَ هُنَّ اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطاء عُمْشًا رُمْصًا جَعَلَهُنَّ اللَّهُ بَعْدَ الْكِبَرِ أَتْرَابًا عَلَى مِيلَادٍ وَاحِدٍ فِي الِاسْتِوَاءِ) أَسْنَدَهُ النَّحَّاسُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو عاصم عن
__________
(1). زيادة من ب.
(2). راجع ج 19 ص 137.
(3). زيادة من ب.
(4). راجع ج 2 ص 316. [ ..... ]

(17/210)


مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَفَعَهُ (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قَالَ: (هُنَّ الْعَجَائِزُ الْعُمْشُ الرُّمْصُ كُنَّ فِي الدُّنْيَا عُمْشًا رُمْصًا). وَقَالَ الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ: قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) [الْآيَةَ «1»] قَالَ: (هُنَّ عَجَائِزُ الدُّنْيَا أَنْشَأَهُنَّ اللَّهُ خَلْقًا جَدِيدًا كُلَّمَا أَتَاهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَجَدُوهُنَّ أَبْكَارًا) فَلَمَّا سَمِعَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ قَالَتْ: وَاوَجَعَاهْ! فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ هُنَاكَ وَجَعٌ). (عُرُباً) جَمْعُ عَرُوبٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: الْعُرُبُ الْعَوَاشِقُ لِأَزْوَاجِهِنَّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: إِنَّهَا الْعَرُوبُ الْمَلَقَةُ. عِكْرِمَةُ: الْغَنِجَةُ. ابْنُ زَيْدٍ: بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
وَفِي الْخِبَاءِ «2» عَرُوبٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ ... رَيَّا الرَّوَادِفِ يَعْشَى دُونَهَا الْبَصَرُ
وَهِيَ الشَّكِلَةُ «3» بِلُغَةِ أَهْلِ مَكَّةَ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَيْضًا: الْحَسَنَةُ الْكَلَامِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا وَقَتَادَةَ: الْعُرُبُ الْمُتَحَبِّبَاتُ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ أَعْرَبَ إِذَا بَيَّنَ، فَالْعَرُوبُ تُبَيِّنُ مَحَبَّتَهَا لِزَوْجِهَا بِشَكْلٍ وَغُنْجٍ وَحُسْنِ كَلَامٍ. وَقِيلَ: إِنَّهَا الْحَسَنَةُ التَّبَعُّلِ «4» لِتَكُونَ أَلَذَّ اسْتِمْتَاعًا. وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عُرُباً) قَالَ: (كَلَامُهُنَّ عَرَبِيٌّ). وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (عُرْبًا) بِإِسْكَانِ الرَّاءِ. وَضَمَّ الْبَاقُونَ وَهُمَا جَائِزَانِ فِي جَمْعِ فَعُولٍ. (أَتْراباً) عَلَى مِيلَادٍ وَاحِدٍ فِي الِاسْتِوَاءِ وَسِنٍّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثٌ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. يُقَالُ فِي النِّسَاءِ أَتْرَابٌ وَفِي الرِّجَالِ أَقْرَانٌ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَمِيلُ إِلَى مَنْ جَاوَزَتْ حَدَّ الصِّبَا مِنَ النِّسَاءِ وَانْحَطَّتْ عَنِ الْكِبَرِ. وَقِيلَ: (أَتْراباً) أَمْثَالًا وَأَشْكَالًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. السُّدِّيُّ: أَتْرَابٌ فِي الْأَخْلَاقِ لا تباغض بينهن ولا تحاسد. قِيلَ: الْحُورُ الْعِينُ لِلسَّابِقِينَ، وَالْأَتْرَابُ الْعُرُبُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي هم (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك:
__________
(1). زيادة من ب.
(2). في الديوان: (وفى الخروج) جمع الحرج، وهو الهودج.
(3). الشكلة (بفتح الشين وكسر الكاف): ذات الدل.
(4). أي مطاوعة لزوجها محبة له.

(17/211)


وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) يَعْنِي مِنْ سَابِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ آخِرِهَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هُمْ جَمِيعًا مِنْ أُمَّتِي). وقال الواحدي: أصحاب الجنة نصفان نصف مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَنِصْفٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا يَرُدُّهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ خصيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ). قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَ (ثُلَّةٌ) رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ خَبَرِ حَرْفِ الصِّفَةِ، وَمَجَازُهُ: لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّتَانِ: ثُلَّةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَثُلَّةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَالْأَوَّلُونَ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ، وَالْآخِرُونَ هذه الامة على القول الثاني.

[سورة الواقعة (56): الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

(17/212)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ) ذَكَرَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ وَسَمَّاهُمْ أَصْحَابَ الشِّمَالِ، لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ، ثُمَّ عَظَّمَ ذِكْرَهُمْ في البلاد وَالْعَذَابِ فَقَالَ: (مَا أَصْحابُ الشِّمالِ. فِي سَمُومٍ) وَالسَّمُومُ الرِّيحُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي مَسَامِّ الْبَدَنِ. وَالْمُرَادُ هُنَا حَرُّ النَّارِ وَلَفْحُهَا. (وَحَمِيمٍ) أَيْ مَاءٍ حَارٍّ قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، إِذَا أَحْرَقَتِ النَّارُ أَكْبَادَهُمْ وَأَجْسَادَهُمْ فَزِعُوا إِلَى الْحَمِيمِ، كَالَّذِي يَفْزَعُ مِنَ النَّارِ إِلَى الْمَاءِ لِيُطْفِئَ بِهِ الْحَرَّ فَيَجِدُهُ حَمِيمًا حَارًّا فِي نِهَايَةِ الحرارة والغليان. وقد مضى في (القتال) «1» (وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ). (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أَيْ يَفْزَعُونَ مِنَ السَّمُومِ إِلَى الظِّلِّ كَمَا يَفْزَعُ أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَجِدُونَهُ ظِلًّا مِنْ يَحْمُومٍ، أَيْ مِنْ دُخَانِ جَهَنَّمَ أَسْوَدَ شَدِيدِ السَّوَادِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا. وَكَذَلِكَ الْيَحْمُومُ فِي اللُّغَةِ: الشَّدِيدُ السَّوَادُ وَهُوَ يَفْعُولٌ مِنَ الْحَمِّ وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُسْوَدُّ بِاحْتِرَاقِ النَّارِ. وقيل: هو مأخوذ مِنَ الْحُمَمِ وَهُوَ الْفَحْمُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النَّارُ سَوْدَاءُ وَأَهْلُهَا سُودٌ وَكُلُّ مَا فِيهَا أَسْوَدُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: النَّارُ سَوْدَاءُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْيَحْمُومُ جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ يَسْتَغِيثُ إلى ظله أهل النار. (لَا بارِدٍ) بَلْ حَارٌّ لِأَنَّهُ مِنْ دُخَانِ شَفِيرِ جَهَنَّمَ. (وَلا كَرِيمٍ) عَذْبٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَلَا حَسُنَ مَنْظَرُهُ، وكل مالا خير فيه فليس بكريم. وَقِيلَ: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أَيْ مِنَ النَّارِ يُعَذَّبُونَ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ «2» ظُلَلٌ). (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) أَيْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَنَعِّمِينَ بِالْحَرَامِ. وَالْمُتْرَفُ الْمُنَعَّمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: (مُتْرَفِينَ) أَيْ مُشْرِكِينَ. (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أَيْ يُقِيمُونَ عَلَى الشِّرْكِ، عَنِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: الذَّنْبُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَتُوبُونَ مِنْهُ. الشَّعْبِيُّ: هُوَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ، يُقَالُ: حَنِثَ فِي يَمِينِهِ أَيْ لَمْ يبرها ورجح فيها. وكانوا يقسمون أن لأبعث، وَأَنَّ الْأَصْنَامَ أَنْدَادُ اللَّهِ فَذَلِكَ حِنْثُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) «3». وَفِي الخبر:
__________
(1). راجع ج 16 ص 237.
(2). راجع ج 15 ص 243.
(3). راجع ج 10 ص 15.

(17/213)


كَانَ يَتَحَنَّثُ فِي حِرَاءٍ، أَيْ يَفْعَلُ مَا يُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ الْحِنْثَ وَهُوَ الذَّنْبُ. (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا) هَذَا اسْتِبْعَادٌ مِنْهُمْ لِأَمْرِ الْبَعْثِ وَتَكْذِيبٌ لَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (قُلْ) لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ (إِنَّ الْأَوَّلِينَ) مِنْ آبَائِكُمْ (وَالْآخِرِينَ) مِنْكُمْ (لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ الْقَسَمُ وَدُخُولُ اللَّامِ فِي قول تَعَالَى: (لَمَجْمُوعُونَ) هُوَ دَلِيلُ الْقَسَمِ فِي الْمَعْنَى، أَيْ إِنَّكُمْ لَمَجْمُوعُونَ قَسَمًا حَقًّا خِلَافَ قَسَمِكُمُ الْبَاطِلِ (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عَنِ الْهُدَى (الْمُكَذِّبُونَ) بِالْبَعْثِ (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) وَهُوَ شَجَرٌ كَرِيهُ الْمَنْظَرِ، كَرِيهُ الطَّعْمِ، وَهِيَ التي ذكرت في سورة (والصافات) «1». (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أَيْ مِنَ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) الْأُولَى زَائِدَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا كَأَنَّهُ قَالَ: (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) طَعَامًا. وَقَوْلُهُ: (مِنْ زَقُّومٍ) صِفَةٌ لِشَجَرٍ، وَالصِّفَةُ إِذَا قَدَّرْتَ الْجَارَّ زَائِدًا نُصِبَتْ عَلَى الْمَعْنَى، أَوْ جَرَرْتَ عَلَى اللَّفْظِ، فَإِنْ قَدَّرْتَ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا لَمْ تَكُنِ الصِّفَةُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الزَّقُّومِ أَوْ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ عَلَى الشَّجَرِ، لأنه يذكر ومؤنث. (مِنَ الْحَمِيمِ) وَهُوَ الْمَاءُ الْمَغْلِيُّ الَّذِي قَدِ اشْتَدَّ غَلَيَانُهُ وَهُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ. أَيْ يورثهم حرما يَأْكُلُونَ مِنَ الزَّقُّومِ مَعَ الْجُوعِ الشَّدِيدِ عَطَشًا فَيَشْرَبُونَ مَاءً يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُزِيلُ الْعَطَشَ فَيَجِدُونَهُ حَمِيمًا مُغْلًى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ (شُرْبَ) بِضَمِّ الشِّينِ. الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا لُغَتَانِ جَيِّدَتَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: شَرِبْتُ شُرْبًا وَشَرْبًا وَشِرْبًا وَشُرُبًا بِضَمَّتَيْنِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا، وَالْفَتْحُ هُوَ الْمَصْدَرُ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ كُلَّ مَصْدَرٍ مِنْ ذَوَاتِ الثَّلَاثَةِ فَأَصْلُهُ فَعْلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَرُدُّهُ إِلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَتَقُولُ: فَعْلَةٌ نَحْوُ شَرْبَةٍ وَبِالضَّمِّ الِاسْمُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَفْتُوحَ وَالِاسْمَ مَصْدَرَانِ، فَالشَّرْبُ كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبُ كَالذُّكْرِ، وَالشِّرْبُ بِالْكَسْرِ الْمَشْرُوبُ كَالطِّحْنِ الْمَطْحُونِ. وَالْهِيمُ الْإِبِلُ العطاش التي
__________
(1). راجع ج 15 ص 85.

(17/214)


لا تروى لِدَاءٍ يُصِيبُهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا: هِيَ الْإِبِلُ الْمِرَاضُ. الضَّحَّاكُ: الْهِيمُ الْإِبِلُ يُصِيبُهَا دَاءٌ تَعْطَشُ مِنْهُ عَطَشًا شَدِيدًا، وَاحِدُهَا أَهْيَمُ وَالْأُنْثَى هَيْمَاءُ. وَيُقَالُ لِذَلِكَ الدَّاءِ الْهُيَامُ، قَالَ قَيْسُ بْنُ الْمُلَوَّحِ:
يُقَالُ بِهِ دَاءُ الْهُيَامِ أَصَابَهُ ... وَقَدْ عَلِمَتْ نَفْسِي مَكَانَ شِفَائِهَا
وَقَوْمٌ هِيمٍ أَيْضًا أَيْ عِطَاشٌ، وَقَدْ هَامُوا هُيَامًا. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ فِي الْإِبِلِ: هَائِمٌ وَهَائِمَةٌ وَالْجَمْعُ هُيَّمٌ، قَالَ لَبِيَدٌ:
أَجَزْتُ إِلَى مَعَارِفِهَا بِشُعْثِ «1» ... وَأَطْلَاحٍ مِنَ الْعِيدِيِّ هِيمُ «2»
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْأَخْفَشُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ كَيْسَانَ: الْهِيمُ الْأَرْضُ السَّهْلَةُ ذَاتُ الرَّمَلِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَيَشْرَبُونَ شُرْبَ الرِّمَالِ الَّتِي لَا تُرْوَى بِالْمَاءِ. المهدوي: ويقال لكل مالا يُرْوَى مِنَ الْإِبِلِ وَالرَّمَلِ أَهْيَمُ وَهَيْمَاءُ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْهُيَامُ بِالضَّمِّ أَشَدُّ الْعَطَشِ. وَالْهُيَامُ كَالْجُنُونِ مِنَ الْعِشْقِ. وَالْهُيَامُ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فَتَهِيمُ فِي الْأَرْضِ لَا تَرْعَى. يُقَالُ: نَاقَةٌ هَيْمَاءُ. وَالْهَيْمَاءُ أَيْضًا الْمَفَازَةُ لَا مَاءَ بِهَا. وَالْهَيَامُ بِالْفَتْحِ: الرَّمْلُ الَّذِي لَا يَتَمَاسَكُ أَنْ يَسِيلَ مِنَ الْيَدِ لِلِينِهِ وَالْجَمْعُ هِيمٌ مِثْلُ قَذَالٍ وَقُذُلٍ. وَالْهِيَامُ بِالْكَسْرِ الْإِبِلُ الْعِطَاشُ الْوَاحِدُ هَيْمَانُ، وَنَاقَةٌ هَيْمَاءُ مِثْلُ عَطْشَانَ وَعَطْشَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أَيْ رِزْقُهُمُ الَّذِي يُعَدُّ لَهُمْ، كَالنُّزُلِ الَّذِي يُعَدُّ لِلْأَضْيَافِ تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَفِيهِ تَهَكُّمٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ»
أَلِيمٍ) وَكَقَوْلِ أَبِي السَّعْدِ الضَّبِّيِّ:
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلَا
وَقَرَأَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ وَعَبَّاسٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو (هَذَا نُزُلُهُمْ) بِإِسْكَانِ الزَّايِ، وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ (آلِ عِمْرَانَ) «4» الْقَوْلُ فِيهِ. (يَوْمَ الدِّينِ) يَوْمَ الْجَزَاءِ، يَعْنِي في جهنم
__________
(1). شعث: رجال ساءت حالهم من الجهد والسفر. وأطلاح: ابل مهازيل والواحد طليح. والعيدي: ابل منسوبة إلى فحل، ويقال منسوبة إلى قوم يقال لهم العيد.
(2). أي خففت وكسرت الهاء لأجل الياء.
(3). راجع ج 8 ص (128)
(4). راجع ج 4 ص 321

(17/215)


نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)

[سورة الواقعة (56): الآيات 57 الى 62]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)
قوله تعالى: (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ) أَيْ فَهَلَّا تُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ؟ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ كَالِابْتِدَاءِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى نَحْنُ خَلَقْنَا رِزْقَكُمْ فَهَلَّا تُصَدِّقُونَ أَنَّ هَذَا طَعَامُكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا؟ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ) أَيْ مَا تَصُبُّونَهُ مِنَ الْمَنِيِّ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ. (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) أَيْ تُصَوِّرُونَ مِنْهُ الْإِنْسَانَ (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) الْمُقَدِّرُونَ الْمُصَوِّرُونَ. وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ وَبَيَانٌ لِلْآيَةِ الْأُولَى، أَيْ إِذَا أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّا خَالِقُوهُ لَا غَيْرُنَا فَاعْتَرِفُوا بِالْبَعْثِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ ومحمد بن السميقع وَأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: (تَمْنُونَ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ أَمْنَى وَمَنَى، وَأَمْذَى وَمَذَى، يُمْنِي وَيَمْنِي وَيُمْذِي وَيَمْذِي. الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَلِفَ مَعْنَاهَا عِنْدِي، فَيَكُونُ أَمْنَى إِذَا أَنْزَلَ عَنْ جِمَاعٍ، وَمَنَى إِذَا أَنْزَلَ عَنْ الِاحْتِلَامِ. وَفِي تَسْمِيَةِ الْمَنِيِّ مَنِيًّا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لِإِمْنَائِهِ وَهُوَ إِرَاقَتُهُ. الثَّانِي لِتَقْدِيرِهِ، وَمِنْهُ الْمَنَا الَّذِي يُوزَنُ بِهِ لِأَنَّهُ مقدار لذلك، كذلك الْمَنِيُّ مِقْدَارٌ صَحِيحٌ لِتَصْوِيرِ الْخِلْقَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) احْتِجَاجٌ أَيْضًا، أَيِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْإِمَاتَةِ يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْخَلْقِ قَدَرَ عَلَى الْبَعْثِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ (قَدَرْنَا) بِتَخْفِيفِ الدَّالِ. الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ سَوَّيْنَا بَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: قَضَيْنَا. وَقِيلَ: كَتَبْنَا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، فَلَا أَحَدَ يَبْقَى غَيْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أَيْ إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ لَمْ يسبقنا أحد، أي لم يغلبنا. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) مَعْنَاهُ بِمَغْلُوبِينَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ بِآخَرِينَ مِنْ جِنْسِكُمْ، وَمَا نَحْنُ بمسبوقين

(17/216)


أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)

فِي آجَالِكُمْ، أَيْ لَا يَتَقَدَّمُ مُتَأَخِّرٌ وَلَا يَتَأَخَّرُ مُتَقَدِّمٌ. (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ)
مِنَ الصُّوَرِ وَالْهَيْئَاتِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ نَجْعَلُكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ كَمَا فَعَلْنَا بِأَقْوَامٍ قَبْلَكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى نُنْشِئُكُمْ فِي الْبَعْثِ عَلَى غَيْرِ صُوَرِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيُجَمَّلُ الْمُؤْمِنُ بِبَيَاضِ وَجْهِهِ، وَيُقَبَّحُ الْكَافِرُ بِسَوَادِ وَجْهِهِ. سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «1»: قَوْلُهُ تعالى: (فِي ما لَا تَعْلَمُونَ)
يَعْنِي فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ سُودٍ تَكُونُ بِبَرَهُوتَ كَأَنَّهَا الْخَطَاطِيفُ، وَبَرَهُوتُ وَادٍ فِي اليمن. وقال مجاهد: (فِي ما لَا تَعْلَمُونَ)
فِي أَيِّ خَلْقٍ شِئْنَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى نُنْشِئُكُمْ فِي عَالَمٍ لَا تَعْلَمُونَ، وَفِي مَكَانٍ لَا تَعْلَمُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) أَيْ إِذْ خُلِقْتُمْ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا، عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: يعني خلق آدم عليه السلام. (فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) أَيْ فَهَلَّا تَذَكَّرُونَ. وَفِي الْخَبَرِ: عَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ لِلْمُكَذِّبِ بِالنَّشْأَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ يَرَى النَّشْأَةَ الْأُولَى، وَعَجَبًا لِلْمُصَدِّقِ بِالنَّشْأَةِ الْآخِرَةِ وَهُوَ لَا يَسْعَى لِدَارِ الْقَرَارِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (النَّشْأَةَ) بِالْقَصْرِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: (النَّشَاءَةَ) بِالْمَدِّ، وَقَدْ مَضَى فِي (الْعَنْكَبُوتِ) «2» بيانه.

[سورة الواقعة (56): الآيات 63 الى 67]
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى، أَيْ أَخْبِرُونِي عَمَّا تَحْرُثُونَ مِنْ أَرْضِكُمْ فَتَطْرَحُونَ فِيهَا الْبَذْرَ، أَنْتُمْ تُنْبِتُونَهُ وَتُحَصِّلُونَهُ زَرْعًا فَيَكُونَ فِيهِ السُّنْبُلُ وَالْحَبُّ أَمْ نَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا مِنْكُمُ الْبَذْرُ وَشَقُّ الْأَرْضِ، فَإِذَا أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّ إِخْرَاجَ السُّنْبُلَ مِنَ الْحَبِّ لَيْسَ إِلَيْكُمْ، فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ إِخْرَاجَ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَرْضِ وَإِعَادَتَهُمْ؟! وَأَضَافَ الْحَرْثَ إِلَيْهِمْ وَالزَّرْعَ إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْحَرْثَ فِعْلُهُمْ وَيَجْرِي عَلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَالزَّرْعُ مِنْ فِعْلِ الله تعالى
__________
(1). في ب: (سعيد بن المسيب).
(2). راجع ج 13 ص 337 [ ..... ]

(17/217)


وَيَنْبُتُ عَلَى اخْتِيَارِهِ لَا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ زَرَعْتُ وَلْيَقُلْ حَرَثْتُ فَإِنَّ الزَّارِعَ هُوَ اللَّهُ) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ). وَالْمُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ يُلْقِي الْبَذْرَ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) الْآيَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: بَلِ اللَّهُ الزَّارِعُ وَالْمُنْبِتُ والمبلغ، اللهم صلي عَلَى مُحَمَّدٍ، وَارْزُقْنَا ثَمَرَهُ، وَجَنِّبْنَا ضَرَرَهُ، وَاجْعَلْنَا لِأَنْعُمِكَ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَلِآلَائِكَ مِنَ الذَّاكِرِينَ، وَبَارِكْ لَنَا فِيهِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَيُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَمَانٌ لِذَلِكَ الزَّرْعِ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ: الدُّودُ وَالْجَرَادُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، سَمِعْنَاهُ مِنْ ثِقَةٍ وَجَرَّبَ فَوَجَدَ كَذَلِكَ. وَمَعْنَى (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أَيْ تَجْعَلُونَهُ [زَرْعًا «1»]. وَقَدْ يُقَالُ: فُلَانٌ زَرَّاعٌ كَمَا يُقَالُ حَرَّاثٌ، أَيْ يَفْعَلُ مَا يَئُولُ إِلَى أَنْ يَكُونَ زَرْعًا يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ. وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الزَّرْعِ عَلَى بَذْرِ الْأَرْضِ وَتَكْرِيبِهَا تَجَوُّزًا. قُلْتُ: فَهُوَ نَهْيُ إِرْشَادٍ [وَأَدَبٍ «2»] لَا نَهْيَ حَظْرٍ وَإِيجَابٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي) وَقَدْ مَضَى فِي (يُوسُفَ) «3» الْقَوْلُ فِيهِ. وَقَدْ بَالَغَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ: لَا يَقُلْ حَرَثْتُ فَأَصَبْتُ، بَلْ يَقُلْ: أَعَانَنِي اللَّهُ فَحَرَثْتُ، وَأَعْطَانِي بِفَضْلِهِ مَا أَصَبْتُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْآيَةُ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا- الِامْتِنَانُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَنْبَتَ زَرْعَهُمْ حَتَّى عَاشُوا بِهِ لِيَشْكُرُوهُ عَلَى نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ. الثَّانِي- الْبُرْهَانُ الْمُوجِبُ لِلِاعْتِبَارِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْبَتَ زَرْعَهُمْ بَعْدَ تَلَاشِي بَذْرِهِ، وَانْتِقَالِهِ إِلَى اسْتِوَاءِ حَالِهِ مِنَ الْعَفَنِ وَالتَّتْرِيبِ حَتَّى صَارَ زَرْعًا أَخْضَرَ، ثُمَّ جَعَلَهُ قَوِيًّا مُشْتَدًّا أَضْعَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَهُوَ بِإِعَادَةِ مَنْ أَمَاتَ أَخَفُّ عَلَيْهِ وَأَقْدَرُ، وَفِي هَذَا الْبُرْهَانِ مَقْنَعٌ لِذَوِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ. ثُمَّ قَالَ (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أَيْ مُتَكَسِّرًا يَعْنِي الزَّرْعَ. وَالْحُطَامُ الْهَشِيمُ الْهَالِكُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَطْعَمٍ وَلَا غِذَاءٍ، فَنُبِّهَ بِذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا- مَا أَوْلَاهُمْ بِهِ مِنَ النِّعَمِ فِي زَرْعِهِمْ إِذْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُطَامًا لِيَشْكُرُوهُ. الثَّانِي- لِيَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ فِي أنفسهم، كما أنه يجعل
__________
(1). زيادة يقتضيها السياق.
(2). الزيادة: من ب، ز، ح، س، ل، هـ.
(3). راجع ج 9 ص 194

(17/218)


الزَّرْعَ حُطَامًا إِذَا شَاءَ، وَكَذَلِكَ يُهْلِكُهُمْ إِذَا شَاءَ لِيَتَّعِظُوا فَيَنْزَجِرُوا. (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أَيْ تَعْجَبُونَ بِذَهَابِهَا وَتَنْدَمُونَ مِمَّا حَلَّ بِكُمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي الصِّحَاحِ: وَتَفَكَّهَ أَيْ تَعَجَّبَ، وَيُقَالُ: تَنَدَّمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أَيْ تَنْدَمُونَ. وَتَفَكَّهْتُ بِالشَّيْءِ تَمَتَّعْتُ بِهِ. وَقَالَ يَمَانٌ: تَنْدَمُونَ عَلَى نَفَقَاتِكُمْ، دَلِيلُهُ: (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ «1» فِيها). وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَلَاوَمُونَ وَتَنْدَمُونَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَتْ عُقُوبَتَكُمْ حَتَّى نَالَتْكُمْ فِي زَرْعِكُمْ. ابْنُ كَيْسَانَ: تَحْزَنُونَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَفِيهِ لُغَتَانِ: تَفَكَّهُونَ وَتَفَكَّنُونَ: قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالنُّونُ لُغَةُ عُكْلٍ. وَفِي الصِّحَاحِ: الْتَفَكُّنُ التَّنَدُّمُ عَلَى مَا فَاتَ. وَقِيلَ: التَّفَكُّهُ التَّكَلُّمُ فِيمَا لَا يعنيك، ومنه قيل للمزاج فُكَاهَةٌ بِالضَّمِّ، فَأَمَّا الْفُكَاهَةُ بِالْفَتْحِ فَمَصْدَرُ فَكِهَ الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النَّفْسِ مَزَّاحًا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (فَظَلْتُمْ) بِفَتْحِ الظَّاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ (فَظِلْتُمْ) بِكَسْرِ الظَّاءِ وَرَوَاهَا هرون عَنْ حُسَيْنٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. فَمَنْ فَتَحَ فَعَلَى الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ ظَلَلْتُمْ فَحَذَفَ اللَّامَ الْأُولَى تَخْفِيفًا، وَمَنْ كَسَرَ نَقَلَ كَسْرَةَ اللَّامِ الْأُولَى إِلَى الظَّاءِ ثُمَّ حَذَفَهَا. (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) وَقَرَأَ أبو بكر والمفضل (أينا) بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَرَوَاهُ عَاصِمٌ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ. الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ يَقُولُونَ (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أَيْ مُعَذَّبُونَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالَا: وَالْغَرَامُ الْعَذَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْمُحَلِّمِ:
وَثِقْتُ بِأَنَّ الْحِفْظَ مِنِّي سَجِيَّةٌ ... وَأَنَّ فُؤَادِي مُتْبَلٌ بِكَ مُغْرَمُ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: لَمُولَعٌ بِنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ:
سَلَا عَنْ تَذَكُّرِهِ تُكْتَمَا «2» ... وَكَانَ رَهِينًا بِهَا مُغْرَمَا
يُقَالُ: أُغْرِمَ فُلَانٌ بِفُلَانَةٍ، أَيْ أُولِعَ بِهَا وَمِنْهُ الْغَرَامُ وَهُوَ الشَّرُّ اللَّازِمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: لَمُلْقُونَ شَرًّا. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: مُهْلَكُونَ. النَّحَّاسُ: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَرَامِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، كَمَا قَالَ «3»:
يوم النسار ويوم الجفا ... ر كانا عذابا وكانا غراما
__________
(1). راجع ج 10 ص (409)
(2). تكتم: اسم من يشبب بها.
(3). قائله بشر بن أبى خازم. النسار موضع وقيل: هو ماء لبنى عامر. والجفار: موضع وقيل: هو ماء لبنى تميم. ويوم النسار ويوم الجفار: يومان من أيام العرب مشهوران.

(17/219)


أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

الضَّحَّاكُ وَابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ مِنَ الْغُرْمِ، وَالْمُغْرَمُ الَّذِي ذَهَبَ مَالُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَيْ غَرِمْنَا الْحَبَّ الَّذِي بَذَرْنَاهُ. وَقَالَ مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ: مُحَاسَبُونَ. (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أَيْ حُرِمْنَا مَا طَلَبْنَا مِنَ الرِّيعِ. وَالْمَحْرُومُ الْمَمْنُوعُ مِنَ الرِّزْقِ. وَالْمَحْرُومُ ضِدُّ الْمَرْزُوقِ وَهُوَ الْمُحَارِفُ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِأَرْضِ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: (مَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْحَرْثِ) قَالُوا: الْجُدُوبَةُ، فَقَالَ: (لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ أَنَا الزَّارِعُ إِنْ شِئْتُ زَرَعْتُ بِالْمَاءِ وَإِنْ شِئْتُ زَرَعْتُ بِالرِّيحِ وَإِنْ شِئْتُ زَرَعْتُ بِالْبَذْرِ) ثُمَّ تَلَا (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ). قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْخَبَرِ وَالْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ مَا يُصَحِّحُ قَوْلَ مَنْ أَدْخَلَ الزَّارِعَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَبَاهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي (الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الحسنى).

[سورة الواقعة (56): الآيات 68 الى 74]
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72)
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) لِتُحْيُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ، وَتُسَكِّنُوا بِهِ عَطَشِكُمْ، لِأَنَّ الشَّرَابَ إِنَّمَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْمَطْعُومِ، وَلِهَذَا جَاءَ الطَّعَامُ مُقَدَّمًا فِي الْآيَةِ قَبْلُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَسْقِي ضَيْفَكَ بَعْدَ أَنْ تُطْعِمَهُ. الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ عَكَسْتَ قَعَدْتَ تَحْتَ قَوْلِ أَبِي الْعَلَاءِ:
إِذَا سُقِيَتْ ضُيُوفُ النَّاسِ مَحْضًا ... سَقَوْا أَضْيَافَهُمْ شَبِمًا زُلَالَا «1»
وَسُقِيَ بَعْضُ الْعَرَبِ فَقَالَ: أَنَا لَا أَشْرَبُ إِلَّا عَلَى ثَمِيلَةٍ. (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) أَيِ السَّحَابِ، الْوَاحِدَةُ مُزْنَةٌ، فَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَنَحْنُ كَمَاءِ الْمُزْنِ مَا فِي نصابنا ... كهام ولا فينا يعد بخيل «2»
__________
(1). المحض: اللبن الخالص: والماء الشبم: البارد.
(2). نصاب كل شي: أصله. ورجل كهام وكهيم: ثقيل، لا غناء عنده.

(17/220)


وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْمُزْنَ السَّحَابُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالثَّوْرِيِّ: الْمُزْنُ السَّمَاءُ وَالسَّحَابُ. وَفِي الصِّحَاحِ: أَبُو زَيْدٍ: الْمُزْنَةُ السَّحَابَةُ الْبَيْضَاءُ وَالْجَمْعُ مُزْنٌ، وَالْمُزْنَةُ الْمَطْرَةُ، قَالَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مُزْنَةً ... وَعُفْرُ الظِّبَاءِ فِي الْكِنَاسِ تَقَمَّعُ «1»
(أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) أَيْ فَإِذَا عَرَفْتُمْ بِأَنِّي أَنْزَلْتُهُ فَلِمَ لَا تَشْكُرُونِي بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِي؟ وَلِمَ تُنْكِرُونَ قُدْرَتِي عَلَى الْإِعَادَةِ؟. (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) أَيْ مِلْحًا شَدِيدَ الْمُلُوحَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الْحَسَنُ: مُرًّا قُعَاعًا «2» لَا تَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي شرب ولا زرع ولا غيرهما. (فَلَوْلا) أَيْ فَهَلَّا تَشْكُرُونَ الَّذِي صَنَعَ ذَلِكَ بِكُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) أَيْ أَخْبِرُونِي عَنِ النَّارِ الَّتِي تُظْهِرُونَهَا بِالْقَدْحِ مِنَ الشَّجَرِ الرَّطْبِ (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) يَعْنِي الَّتِي تَكُونُ مِنْهَا الزِّنَادُ وَهِيَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ، وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ، أَيِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا، كَأَنَّهُمَا أَخَذَا مِنَ النَّارِ مَا هُوَ حَسْبُهُمَا. وَيُقَالُ: لِأَنَّهُمَا يُسْرِعَانِ الْوَرْيَ. يُقَالُ: أَوْرَيْتُ النَّارَ إِذَا قَدَحْتُهَا. وَوَرَى الزَّنْدُ يَرِي إِذَا انْقَدَحَ مِنْهُ النَّارُ. وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى: وَوَرِيَ الزَّنْدُ يَرِي بِالْكَسْرِ فِيهِمَا. (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) أَيِ الْمُخْتَرِعُونَ الْخَالِقُونَ، أَيْ فَإِذَا عَرَفْتُمْ قُدْرَتِي فَاشْكُرُونِي وَلَا تُنْكِرُوا قُدْرَتِي عَلَى الْبَعْثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) يَعْنِي نَارَ الدُّنْيَا موعظة للنار الكبرى، قال قَتَادَةُ. وَمُجَاهِدٌ: تَبْصِرَةً لِلنَّاسِ مِنَ الظَّلَامِ. وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ بَنُو آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ) فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةٌ، قَالَ: (فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا). (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ مَنْفَعَةً لِلْمُسَافِرِينَ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِنُزُولِهِمُ القوى وهو القفر. الفراء: إنما يقال
__________
(1). البيت لأوس بن حجر. وتقمع: تحرك رءوسها لتطرد القمعة وهى ذباب أزرق يدخل في أنوف الدواب.
(2). في ل: (زعاقا) ومعنا هما واحد، وهو الماء الشديد المرارة والملوحة.

(17/221)


لِلْمُسَافِرِينَ: مُقْوِينَ إِذَا نَزَلُوا الْقِيَّ وَهِيَ الْأَرْضُ الْقَفْرُ الَّتِي لَا شَيْءَ فِيهَا. وَكَذَلِكَ الْقَوَى وَالْقَوَاءُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَمَنْزِلٌ قَوَاءٌ لَا أَنِيسَ بِهِ، يُقَالُ: أَقْوَتِ الدَّارُ وَقَوِيَتْ أَيْضًا أَيْ خَلَتْ مِنْ سُكَّانِهَا، قَالَ النَّابِغَةُ:
يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَمَدِ
وَقَالَ عَنْتَرَةَ:
حُيِّيَتِ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ
وَيُقَالُ: أَقْوَى أَيْ قَوِيَ وَقَوِيَ أَصْحَابُهُ، وَأَقْوَى إِذَا سَافَرَ أَيْ نَزَلَ الْقَوَاءَ وَالْقِيَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (لِلْمُقْوِينَ) الْمُسْتَمْتِعِينَ بِهَا مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ فِي الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَالِاصْطِلَاءِ وَالِاسْتِضَاءَةِ، وَيُتَذَكَّرُ بِهَا نَارُ جَهَنَّمَ فَيُسْتَجَارُ بِاللَّهِ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لِلْجَائِعِينَ فِي، إِصْلَاحِ طَعَامِهِمْ. يُقَالُ: أَقْوَيْتُ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، أَيْ مَا أَكَلْتُ شَيْئًا، وَبَاتَ فُلَانٌ الْقَوَاءَ وَبَاتَ الْقَفْرَ إِذَا بَاتَ جَائِعًا عَلَى غَيْرِ طُعْمٍ، قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
وَإِنِّي لَأَخْتَارُ الْقَوَى طَاوِيَ الْحَشَى ... مُحَافَظَةً مِنْ أَنْ يُقَالَ لَئِيمُ
وَقَالَ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ: (الْمُقْوِينَ) الْمُنْزِلِينَ [الَّذِينَ «2»] لَا زِنَادَ مَعَهُمْ، يَعْنِي نَارًا يُوقِدُونَ فَيَخْتَبِزُونَ بِهَا؟ وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْمُقْوِيُّ مِنَ الْأَضْدَادِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْفَقِيرِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْغَنِيِّ، يُقَالُ: أَقْوَى الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ زَادٌ، وَأَقْوَى إِذَا قَوِيَتْ دَوَابُّهُ وَكَثُرَ مَالُهُ. الْمَهْدَوِيُّ: وَالْآيَةُ تَصْلُحُ لِلْجَمِيعِ، لِأَنَّ النَّارَ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. الْقُشَيْرِيُّ: وَخَصَّ الْمُسَافِرَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا لِأَنَّ انْتِفَاعَهُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمُقِيمِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ النَّارِ يُوقِدُونَهَا لَيْلًا لِتَهْرُبَ مِنْهُمُ السِّبَاعُ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ حَوَائِجِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أَيْ فَنَزِّهِ اللَّهَ عَمَّا أَضَافَهُ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَالْعَجْزِ عَنِ الْبَعْثِ.
__________
(1). هو حاتم طى.
(2). زيادة من ب.

(17/222)


فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)

[سورة الواقعة (56): الآيات 75 الى 80]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى: (فَلا أُقْسِمُ) (فَلا) صِلَةٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْمَعْنَى فَأُقْسِمُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ). وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ نَفْيٌ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ (أُقْسِمُ). وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ كَذَا فَلَا يُرِيدُ بِهِ نَفْيَ الْيَمِينِ، بَلْ يُرِيدُ بِهِ نَفْيَ كَلَامٍ تَقَدَّمَ. أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُ، بَلْ هُوَ كذا. وقيل: (فَلا) بِمَعْنَى أَلَا لِلتَّنْبِيهِ كَمَا قَالَ «1»:
أَلَا عِمْ صَبَاحًا أَيُّهَا الطَّلَلُ الْبَالِي

وَنَبَّهَ بِهَذَا عَلَى فَضِيلَةِ الْقُرْآنِ لِيَتَدَبَّرُوهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا سِحْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ كَمَا زَعَمُوا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَحُمَيْدٌ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ (فَلَأُقْسِمُ) بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ فِعْلُ حَالٍ وَيُقَدَّرُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَلَأَنَا أُقْسِمُ بِذَلِكَ. وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِقْبَالَ لَلَزِمَتِ النُّونُ، وَقَدْ جَاءَ حَذْفُ النُّونِ مَعَ الْفِعْلِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِاسْتِقْبَالَ وَهُوَ شَاذٌّ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) مَوَاقِعُ النُّجُومِ مَسَاقِطُهَا وَمَغَارِبُهَا فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ. عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَنَازِلُهَا. الْحَسَنُ: انْكِدَارُهَا وَانْتِثَارُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الضَّحَّاكُ: هِيَ الْأَنْوَاءُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ إِذَا مُطِرُوا قَالُوا مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا أُقْسِمُ) مُسْتَعْمَلًا عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ نَفْيِ الْقَسَمِ. الْقُشَيْرِيُّ: هُوَ قَسَمٌ، وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقْسِمَ بِمَا يُرِيدُ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُقْسِمَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ القديمة.
__________
(1). قائله امرؤ القيس، وتمامة:
وهل ينعمن من كان في العصر الخالي

(17/223)


قُلْتُ: يَدُلُّ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ (فَلْأُقْسِمُ) وَمَا أَقْسَمَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ نُزُولُ الْقُرْآنِ نُجُومًا، أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّفَرَةِ الْكَاتِبِينَ، فَنَجَّمَهُ السَّفَرَةُ عَلَى جِبْرِيلَ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَنَجَّمَهُ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَهُوَ يُنْزِلُهُ عَلَى الْأَحْدَاثِ مِنْ أُمَّتِهِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: حدثنا إسماعيل ابن إِسْحَاقَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ إِلَى سَمَاءِ الدنيا جملة واحدة، ثم نزل إلى الأرضي نُجُومًا، وَفُرِّقَ بَعْدَ ذَلِكَ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ). وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ مَوَاقِعَ النُّجُومِ هُوَ مُحْكَمُ الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (بِمَوْقِعِ) عَلَى التوحيد، وهي قراءة عبد الله ابن مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَرُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ. الْبَاقُونَ عَلَى الْجَمْعِ، فَمَنْ أَفْرَدَ فَلِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ يُؤَدِّي الْوَاحِدُ فِيهِ عَنِ الْجَمْعِ، وَمَنْ جَمَعَ فَلِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) قِيلَ: إِنَّ الْهَاءَ تَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ إِنَّ الْقُرْآنَ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ، قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ عَظِيمٌ (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ذُكِرَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، أَيْ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قُرْآنٌ كَرِيمٌ، لَيْسَ بِسِحْرٍ وَلَا كَهَانَةٍ، وَلَيْسَ بِمُفْتَرًى، بَلْ هُوَ قُرْآنٌ كَرِيمٌ مَحْمُودٌ، جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُعْجِزَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ كَرِيمٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّهِمْ، وَشِفَاءُ صُدُورِهِمْ، كَرِيمٌ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، لِأَنَّهُ تَنْزِيلُ رَبِّهِمْ وَوَحْيِهِ. وَقِيلَ: (كَرِيمٌ) أَيْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقِيلَ: (كَرِيمٌ) لِمَا فِيهِ مِنْ كَرِيمِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَانِي الْأُمُورِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُكَرَّمُ حَافِظُهُ، وَيُعَظَّمُ قَارِئُهُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) مَصُونٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: مَكْنُونٍ مَحْفُوظٌ عَنِ الْبَاطِلِ. وَالْكِتَابُ هُنَا كِتَابٌ فِي السَّمَاءِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. عِكْرِمَةُ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِيهِمَا ذِكْرُ

(17/224)


الْقُرْآنِ وَمَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ. السُّدِّيُّ: الزَّبُورُ. مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْمُصْحَفُ الَّذِي فِي أَيْدِينَا. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى (لَا يَمَسُّهُ) هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَسِّ بِالْجَارِحَةِ أَوْ مَعْنًى؟ وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي (الْمُطَهَّرُونَ) مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ أَنَسٌ وَسَعِيدٌ بن جُبَيْرٍ: لَا يَمَسُّ ذَلِكَ الْكِتَابَ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الذُّنُوبِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُمُ الَّذِينَ طُهِّرُوا مِنَ الذُّنُوبِ كَالرُّسُلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَجِبْرِيلُ النَّازِلُ بِهِ مُطَهَّرٌ، وَالرُّسُلُ الَّذِينَ يَجِيئُهُمْ بِذَلِكَ مُطَهَّرُونَ. الْكَلْبِيُّ: هُمُ السَّفَرَةُ الْكِرَامُ الْبَرَرَةُ. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ نَحْوُ مَا اخْتَارَهُ مَالِكٌ حَيْثُ قَالَ: أَحْسَنَ مَا سَمِعْتُ فِي قَوْلِهِ (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ الَّتِي فِي (عَبَسَ وَتَوَلَّى) َمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ)
«1» يُرِيدُ أَنَّ الْمُطَهَّرِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالطَّهَارَةِ فِي سُورَةِ (عَبَسَ). وَقِيلَ: مَعْنَى (لَا يَمَسُّهُ) لَا يَنْزِلُ بِهِ (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أَيِ الرُّسُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: لَا يَمَسُّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ الْمَكْنُونُ إِلَّا الْمَلَائِكَةُ الْمُطَهَّرُونَ. وَقِيلَ: إِنَّ إِسْرَافِيلَ هُوَ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ، حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَنَالُهُ فِي وَقْتٍ وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ لَمَا كَانَ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ مَجَالٌ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الَّذِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ فِي الصُّحُفِ فَهُوَ قَوْلٌ مُحْتَمَلٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُصْحَفُ الَّذِي بِأَيْدِينَا، وَهُوَ الأظهر. وقد روى مالك وغيره أن كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُسْخَتُهُ: (مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ إِلَى شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ قَيْلُ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ أَمَّا بَعْدُ) وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: أَلَّا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا وَأَنْتَ طَاهِرٌ). وَقَالَتْ أُخْتُ عُمَرَ لِعُمَرَ عِنْدَ إِسْلَامِهِ وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا وَدَعَا بالصحيفة: (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
__________
(1). راجع ج 19 ص 213 [ ..... ]

(17/225)


فَقَامَ وَاغْتَسَلَ وَأَسْلَمَ. وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ (طه) «1». وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ. الْكَلْبِيُّ: مِنَ الشِّرْكِ. الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا. وَقِيلَ: مَعْنَى (لَا يَمَسُّهُ) لَا يَقْرَؤُهُ (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) إِلَّا الْمُوَحِّدُونَ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ وَعَبْدَةُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَى أَنْ يُمَكَّنَ أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ وَبَرَكَتَهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا). وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: لَا يُعْرَفُ تَفْسِيرُهُ وَتَأْوِيلُهُ إِلَّا مَنْ طَهَّرَهُ اللَّهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: لَا يُوَفَّقُ لِلْعَمَلِ بِهِ إِلَّا السُّعَدَاءُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَمَسُّ ثَوَابَهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ. وَرَوَاهُ مُعَاذٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ خَبَرٌ عَنِ الشَّرْعِ، أَيْ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ شَرْعًا، فَإِنْ وُجِدَ خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ الشَّرْعِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ. وَأَبْطَلَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) «2». الْمَهْدَوِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَتَكُونُ ضَمَّةُ السِّينِ ضَمَّةَ إِعْرَابٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا وَتَكُونُ ضمة السِّينِ ضَمَّةَ بِنَاءٍ وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ. السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَسِّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ مَسِّهِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وسعد بن أبي وقاص وسعيد ابن زَيْدٍ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَمَسُّهُ الْمُحْدِثُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَمَسُّ ظَاهِرَهُ وَحَوَاشِيَهُ وَمَا لَا مَكْتُوبَ فِيهِ، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَلَا يَمَسُّهُ إِلَّا طَاهِرٌ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا إِنْ سَلَّمَهُ مِمَّا يُقَوِّي الْحُجَّةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حَرِيمَ الْمَمْنُوعِ مَمْنُوعٌ. وَفِيمَا كَتَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمرو
__________
(1). راجع ج 11 ص (163)
(2). راجع ج 3 ص 91

(17/226)


أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)

ابن حَزْمٍ أَقْوَى دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يحمله غير طاهر بملاقة وَلَا عَلَى وِسَادَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ حَمْلِهِ بِعَلَاقَةٍ أَوْ مَسِّهِ بِحَائِلٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِحَمْلِهِ وَمَسِّهِ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ طَاهِرًا أَوْ مُحْدِثًا، إِلَّا أَنَّ دَاوُدَ قَالَ: لَا يَجُوزُ لِلْمُشْرِكِ حَمْلُهُ. وَاحْتَجُّوا فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ بِكِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَيْصَرَ، وَهُوَ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. وَفِي مَسِّ الصِّبْيَانِ إِيَّاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ اعْتِبَارًا بِالْبَالِغِ. وَالثَّانِي الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ لَوْ مُنِعَ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ، لِأَنَّ تَعَلُّمَهُ «1» حَالَ الصِّغَرِ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ طَهَارَةٌ إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ، لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ جَازَ أَنْ يَحْمِلَهُ مُحْدِثًا. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أَيْ مُنَزَّلٌ، كَقَوْلِهِمْ: ضَرْبُ الْأَمِيرِ وَنَسْجُ الْيَمَنِ. وَقِيلَ: (تَنْزِيلٌ) صِفَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ). وَقِيلَ: أي هو تنزيل.

[سورة الواقعة (56): الآيات 81 الى 87]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85)
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) يَعْنِي الْقُرْآنَ (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أَيْ مُكَذِّبُونَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَغَيْرُهُمَا. وَالْمُدْهِنُ الَّذِي ظَاهِرُهُ خِلَافُ بَاطِنِهِ، كَأَنَّهُ شُبِّهَ بِالدُّهْنِ فِي سُهُولَةِ ظَاهِرِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَقَتَادَةُ: مُدْهِنُونَ كَافِرُونَ، نَظِيرُهُ: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) «2». وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْمُدْهِنُ الْمُنَافِقُ أَوِ الْكَافِرُ الَّذِي يَلِينُ جَانِبُهُ لِيُخْفِيَ كفره،
__________
(1). في ب، ح، ز، س، هـ: (لان حال تعلمه حال الصغر).
(2). راجع ج 18 ص 230

(17/227)


وَالْإِدْهَانُ وَالْمُدَاهَنَةُ التَّكْذِيبُ وَالْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَأَصْلُهُ اللِّينُ، وَأَنْ يُسِرَّ خِلَافَ مَا يُظْهِرَ، وَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ:
الْحَزْمُ وَالْقُوَّةُ خَيْرٌ مِنَ ... الا دهان وَالْفَهَّةِ وَالْهَاعِ «1»
وَأَدْهَنَ وَدَاهَنَ وَاحِدٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: دَاهَنْتُ بِمَعْنَى وَارَيْتُ وَأَدْهَنْتُ بِمَعْنَى غَشَشْتُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: (مُدْهِنُونَ) مُعْرِضُونَ. مُجَاهِدٌ: مُمَالِئُونَ الْكُفَّارَ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ. ابْنُ كَيْسَانَ: الْمُدْهِنُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُهُ بِالْعِلَلِ. وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: مُدْهِنُونَ تَارِكُونَ لِلْجَزْمِ فِي قَبُولِ الْقُرْآنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَجْعَلُونَ شُكْرَكُمُ التَّكْذِيبَ. وَذَكَرَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: أَنَّ مِنْ لُغَةِ أَزْدِ شَنُوءَةَ مَا رِزْقُ فُلَانٍ؟ أَيْ مَا شُكْرُهُ. وَإِنَّمَا صَلَحَ أَنْ يُوضَعَ اسْمُ الرِّزْقِ مَكَانَ شُكْرِهِ، لِأَنَّ شُكْرَ الرِّزْقِ يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ فِيهِ فَيَكُونُ الشُّكْرُ رِزْقًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. فَقِيلَ: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أَيْ شُكْرَ رِزْقَكُمُ الَّذِي لَوْ وُجِدَ مِنْكُمْ لَعَادَ رِزْقًا لَكُمْ (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) بالرزق أن تضعون الكذب مَكَانَ الشُّكْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) «2» أَيْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ مَكَانَ الصَّلَاةِ. فَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ مَا أَصَابَ الْعِبَادَ مِنْ خَيْرٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرَوْهُ مِنْ قِبَلِ الْوَسَائِطِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ تَكُنْ أَسْبَابًا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَرَوْهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يُقَابِلُونَهُ بِشُكْرٍ إِنْ كَانَ نِعْمَةً، أَوْ صَبْرٍ إِنْ كَانَ مَكْرُوهًا تَعَبُّدًا لَهُ وَتَذَلُّلًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ (وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) حَقِيقَةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الِاسْتِسْقَاءُ بِالْأَنْوَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَرَبِ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، رَوَاهُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ قالوا
__________
(1). الفهة: العي. والهاع هنا: سوء الحرص مع ضعف.
(2). راجع ج 7 ص 400

(17/228)


هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ- حَتَّى بَلَغَ-) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي سَفَرٍ فَعَطِشُوا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ دَعَوْتُ اللَّهَ لَكُمْ فَسُقِيتُمْ لَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ هَذَا الْمَطَرُ بِنَوْءِ كَذَا) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا بِحِينِ الْأَنْوَاءِ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا رَبَّهُ فَهَاجَتْ رِيحٌ ثُمَّ هَاجَتْ سَحَابَةٌ فَمُطِرُوا، فَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِرَجُلٍ يَغْتَرِفُ بِقَدَحٍ لَهُ وَهُوَ يَقُولُ سُقِينَا بِنَوْءِ كَذَا، وَلَمْ يَقُلْ هَذَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ فَنَزَلَتْ: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أَيْ شُكْرَكُمْ لِلَّهِ عَلَى رِزْقِهِ إِيَّاكُمْ (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) بِالنِّعْمَةِ وَتَقُولُونَ سُقِينَا بِنَوْءِ كَذَا، كَقَوْلِكَ: جَعَلْتَ إِحْسَانِي إِلَيْكَ إِسَاءَةً مِنْكَ إِلَيَّ، وَجَعَلْتَ إِنْعَامِي لَدَيْكَ أَنِ اتَّخَذْتَنِي عَدُوًّا. وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ «1» سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَقَالَ: (أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) قالوا: الله ورسول أَعْلَمُ، قَالَ: (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ كَافِرٌ بِي (. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا أُحِبُّ أَحَدًا أَنْ يَقُولَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ كَانَ النَّوْءُ عِنْدَنَا الْوَقْتُ الْمَخْلُوقُ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يُمْطِرُ وَلَا يَحْبِسُ شَيْئًا مِنَ الْمَطَرِ، وَالَّذِي أُحِبُّ أَنْ يَقُولَ: مُطِرْنَا وَقْتَ كَذَا كَمَا تَقُولُ مُطِرْنَا شَهْرَ كَذَا، وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ النَّوْءَ أَنْزَلَ الْمَاءَ، كَمَا عَنَى بَعْضُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ بِقَوْلِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، حَلَالٌ دَمُهُ إِنْ لَمْ يَتُبْ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَاكِيًا عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ) فَمَعْنَاهُ عِنْدِي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَإِنَّ الْمُعْتَقِدَ بِأَنَّ النَّوْءَ هُوَ الْمُوجِبُ لِنُزُولِ الْمَاءِ، وَهُوَ الْمُنْشِئُ لِلسَّحَابِ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَذَلِكَ كَافِرٌ كُفْرًا صَرِيحًا «2» يَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ عَلَيْهِ وَقَتْلُهُ [إِنْ «3» أَبَى] لِنَبْذِهِ الإسلام ورده القرآن. والوجه الآخر أن
__________
(1). على اثر سماء: أي بعد مطر. وفى (اثر) لغتان: كسر الهمزة وسكون الثاء وفتحهما.
(2). في ب: (صراحا).
(3). زيادة يقتضيها السياق.

(17/229)


يَعْتَقِدَ أَنَّ النَّوْءَ يُنْزِلُ اللَّهُ بِهِ الْمَاءَ، وَأَنَّهُ سَبَبُ الْمَاءِ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا مُبَاحًا، فَإِنَّ فِيهِ أَيْضًا كُفْرًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَهْلًا بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ فِي أَنَّهُ يُنْزِلُ الْمَاءَ مَتَى شَاءَ، مَرَّةً بِنَوْءِ كَذَا، وَمَرَّةً بِنَوْءِ كَذَا، وَكَثِيرًا مَا يَنُوءُ النَّوْءُ فلا ينزل معه شي مِنَ الْمَاءِ، وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنَ النَّوْءِ. وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ وَقَدْ مُطِرَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ الْفَتْحِ، ثُمَّ يَتْلُو: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) «1» قَالَ أَبُو عُمَرَ: وهذا عندي نحو قول وسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ). وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ اسْتَسْقَى بِهِ: يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمْ بَقِيَ مِنْ نَوْءِ الثُّرَيَّا؟ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: الْعُلَمَاءُ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ سَبْعًا بَعْدَ سُقُوطِهَا. فَمَا مَضَتْ سَابِعَةٌ حَتَّى مُطِرُوا، فَقَالَ عُمَرُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَكَانَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ نَوْءَ الثُّرَيَّا وَقْتٌ يُرْجَى فِيهِ الْمَطَرُ وَيُؤَمَّلُ فَسَأَلَهُ عَنْهُ أَخَرَجَ أَمْ بَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ؟. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ يَقُولُ: مُطِرْنَا بِبَعْضِ عَثَانِينِ الْأَسَدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَذَبْتَ بَلْ هُوَ سُقْيَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) قَالَ سُفْيَانُ: عَثَانِينُ الْأَسَدِ الذِّرَاعُ وَالْجَبْهَةُ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (تُكَذِّبُونَ) مِنَ التَّكْذِيبِ. وَقَرَأَ الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ (تَكْذِبُونَ) بِفَتْحِ التَّاءِ مُخَفَّفًا. وَمَعْنَاهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. وَثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثٌ لَنْ يَزِلْنَ فِي أُمَّتِي التَّفَاخُرُ فِي الْأَحْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ وَالْأَنْوَاءُ) وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فِي هَذَا (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ). قوله تعالى: (فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) أَيْ فَهَلَّا إِذَا بَلَغَتِ النَّفْسُ أَوِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ، قَالَ حَاتِمٌ.
أَمَاوِيَّ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يوما وضاق بها الصدر
__________
(1). راجع ج 14 ص 321

(17/230)


وَفِي حَدِيثِ: (إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَهُ أَعْوَانٌ يَقْطَعُونَ الْعُرُوقَ يَجْمَعُونَ الرُّوحَ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى الْحُلْقُومِ فَيَتَوَفَّاهَا مَلَكُ الْمَوْتِ). (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) أَمْرِي وَسُلْطَانِي. وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ إلى الميت لا تقدرون له على شي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ يَنْتَظِرُونَ مَتَى تَخْرُجُ نَفْسُهُ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ لِإِخْوَانِهِمْ (لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا) «1» أَيْ فَهَلْ رَدُّوا رُوحَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَهَلَّا إِذَا بَلَغَتْ نَفْسُ أَحَدِكُمُ الْحُلْقُومَ عِنْدَ النَّزْعِ وَأَنْتُمْ حُضُورٌ أَمْسَكْتُمْ رُوحَهُ فِي جَسَدِهِ، مَعَ حِرْصِكُمْ عَلَى امتداد عمره، وحبكم لبقائه. وهذا ردا لِقَوْلِهِمْ: (نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) «2». وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِمَنْ هُوَ فِي النَّزْعِ، أَيْ إِنْ لَمْ يَكُ مَا بِكَ مِنَ اللَّهِ فَهَلَّا حَفِظْتَ عَلَى نَفْسِكَ الرُّوحَ. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أَيْ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالرُّؤْيَةِ. قَالَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ: مَا نَظَرَ إلى شي إِلَّا رَأَيْتُ اللَّهَ تَعَالَى أَقْرَبَ إِلَيَّ مِنْهُ. وَقِيلَ: أَرَادَ وَرُسُلُنَا الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ قَبْضَهُ (أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) (وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ) أَيْ لَا ترونهم. قوله تعالى: (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) أَيْ فَهَلَّا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مُحَاسَبِينَ وَلَا مَجْزِيِّينَ بِأَعْمَالِكُمْ، وَمِنْهُ قوله تعالى: (إِنَّا لَمَدِينُونَ) أَيْ مَجْزِيُّونَ مُحَاسَبُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «3». وَقِيلَ: غَيْرُ مَمْلُوكِينَ وَلَا مَقْهُورِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: دنته ملكته، وأنشد للحطيئة:
لقد دنيت «4» أَمْرَ بَنِيكِ حَتَّى ... تَرَكْتِهِمُ أَدَقَّ مِنَ الطَّحِينِ
يَعْنِي مُلِّكْتِ. وَدَانَهُ أَيْ أَذَلَّهُ وَاسْتَعْبَدَهُ، يُقَالُ: دِنْتُهُ فَدَانَ. وَقَدْ مَضَى فِي (الْفَاتِحَةِ)»
الْقَوْلُ فِي هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَوْمِ الدِّينِ). (تَرْجِعُونَها) تَرْجِعُونَ الرُّوحَ إِلَى الْجَسَدِ. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أَيْ وَلَنْ تَرْجِعُوهَا فَبَطَلَ زَعْمُكُمْ أَنَّكُمْ غير مملوكين ولا محاسبين. و (تَرْجِعُونَها) جواب لقوله تعالى: (فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) ولقوله: (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ)
__________
(1). راجع ج 4 ص (246)
(2). راجع ج 16 ص (170)
(3). راجع ج 15 ص (82)
(4). ويروى سوست، يخاطب أمه. [ ..... ]
(5). راجع ج 1 ص 143.

(17/231)


فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

أُجِيبَا بِجَوَابٍ وَاحِدٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَرُبَّمَا أَعَادَتِ الْعَرَبُ الْحَرْفَيْنِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) «1» أُجِيبَا بِجَوَابٍ وَاحِدٍ وَهُمَا شَرْطَانِ. وَقِيلَ: حُذِفَ أَحَدُهُمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، مَجَازُهَا: فَلَوْلَا وَهَلَّا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا، تَرُدُّونَ نَفْسَ هَذَا الْمَيِّتِ إِلَى جَسَدِهِ إذا بلغت الحلقوم.

[سورة الواقعة (56): الآيات 88 الى 96]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ذَكَرَ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ، وَبَيَّنَ دَرَجَاتِهِمْ فَقَالَ: (فَأَمَّا إِنْ كانَ) هَذَا الْمُتَوَفَّى (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وَهُمُ السَّابِقُونَ. (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (فَرَوْحٌ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ عِنْدَ ابن عباس وغيره: فراحة من الدنيا. وقال الْحَسَنُ: الرَّوْحُ الرَّحْمَةُ. الضَّحَّاكُ: الرَّوْحُ الِاسْتِرَاحَةُ. الْقُتَبِيُّ: الْمَعْنَى لَهُ فِي الْقَبْرِ طِيبُ نَسِيمٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنِ عَطَاءٍ: الرَّوْحُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ، وَالرَّيْحَانُ الِاسْتِمَاعُ لِكَلَامِهِ وَوَحْيِهِ، (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) هُوَ أَلَّا يُحْجَبَ فِيهَا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَرُوَيْسٌ وَزَيْدٌ عَنْ يَعْقُوبَ (فَرُوحٌ) بِضَمِّ الرَّاءِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الْحَسَنُ: الرُّوحُ الرَّحْمَةُ، لِأَنَّهَا كَالْحَيَاةِ لِلْمَرْحُومِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَرُوحٌ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ فبقاء له وحياة
__________
(1). راجع ج 1 ص 327

(17/232)


فِي الْجَنَّةِ وَهَذَا هُوَ الرَّحْمَةُ. (وَرَيْحانٌ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَيْ رِزْقٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الرِّزْقُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، يُقَالُ: خَرَجْتُ أَطْلُبُ رَيْحَانَ اللَّهِ أَيْ رِزْقَهُ، قَالَ النَّمْرُ بْنُ تَوْلَبٍ:
سَلَامُ الْإِلَهِ وَرَيْحَانُهُ ... وَرَحْمَتُهُ وَسَمَاءٌ دِرَرْ
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ الْجَنَّةُ. الضَّحَّاكُ: الرَّحْمَةُ. وَقِيلَ هُوَ الرَّيْحَانُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُشَمُّ. قَالَهُ الحسن وقتادة أيضا. الربيع بن خيثم: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْجَنَّةُ مَخْبُوءَةٌ لَهُ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ. أَبُو الْجَوْزَاءِ: هَذَا عِنْدَ قَبْضِ رُوحِهِ يُتَلَقَّى بِضَبَائِرِ الرَّيْحَانِ. أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُفَارِقُ أَحَدٌ رُوحَهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُؤْتَى بِغُصْنَيْنِ مِنْ رَيْحَانٍ فَيَشُمَّهُمَا ثُمَّ يُقْبَضُ رُوحُهُ فِيهِمَا، وَأَصْلُ رَيْحَانٌ وَاشْتِقَاقُهُ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (الرَّحْمَنِ) «1» فَتَأَمَّلْهُ. وَقَدْ سَرَدَ الثَّعْلَبِيُّ فِي الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ أَقْوَالًا كَثِيرَةً سِوَى مَا ذَكَرْنَا مَنْ أَرَادَهَا وَجَدَهَا هُنَاكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أَيْ (إِنْ كانَ) هَذَا الْمُتَوَفَّى (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أَيْ لَسْتَ تَرَى مِنْهُمْ إِلَّا مَا تُحِبُّ مِنَ السَّلَامَةِ فَلَا تَهْتَمَّ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَسْلَمُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى سَلَامٌ لَكَ مِنْهُمْ، أَيْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الِاغْتِمَامِ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقِيلَ: أَيْ إِنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ يَدْعُونَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ بِأَنْ يُصَلِّيَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَيُسَلِّمَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ سَلِمْتَ أَيُّهَا الْعَبْدُ مِمَّا تَكْرَهُ فَإِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَحُذِفَ إِنَّكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يُحَيَّا بِالسَّلَامِ إِكْرَامًا، فَعَلَى هَذَا فِي مَحَلِّ السَّلَامِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا عِنْدَ قَبْضِ رُوحِهِ فِي الدُّنْيَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَ الْمُؤْمِنِ قَالَ: رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَةِ (النَّحْلِ) «2» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ). الثَّانِي عِنْدَ مُسَاءَلَتِهِ فِي الْقَبْرِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ. الثَّالِثُ عِنْدَ بَعْثِهِ فِي الْقِيَامَةِ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ قَبْلَ وُصُولِهِ إليها.
__________
(1). راجع ص 157 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 10 ص 101

(17/233)


قُلْتُ: وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَيْهِ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ إِكْرَامًا بَعْدَ إِكْرَامٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَوَابُ (إِنْ) عِنْدَ الْمُبَرِّدِ مَحْذُوفٌ التقدير مهما يكن من شي (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) فَحُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، كَمَا حُذِفَ الْجَوَابُ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ. وَمَذْهَبُ الْأَخْفَشِ أَنَّ الْفَاءَ جَوَابُ (أَمَّا) وَ (إِنْ)، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْفَاءَ جَوَابُ (أَمَّا) وَقَدْ سَدَّتْ مَسَدَّ جَوَابِ (إِنْ) عَلَى التَّقْدِيرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْفَاءُ جَوَابٌ لَهُمَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ. وَمَعْنَى (أَمَّا) عِنْدَ الزَّجَّاجِ: الْخُرُوجُ مِنْ شي إلى شي، أَيْ دَعْ مَا كُنَّا فِيهِ وَخُذْ فِي غَيْرِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) بِالْبَعْثِ (الضَّالِّينَ) عَنِ الْهُدَى وَطَرِيقِ الْحَقِّ (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) أَيْ فَلَهُمْ رِزْقٌ مِنْ حَمِيمٍ، كَمَا قَالَ: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ) وَكَمَا قَالَ: (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ «1» حَمِيمٍ) (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) إِدْخَالٌ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: إِقَامَةٌ فِي الْجَحِيمِ وَمُقَاسَاةٌ لِأَنْوَاعِ عَذَابِهَا، يُقَالُ: أَصْلَاهُ النَّارَ وَصَلَّاهُ، أَيْ جَعَلَهُ يَصْلَاهَا وَالْمَصْدَرُ هَاهُنَا أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ، كَمَا يُقَالُ: لِفُلَانٍ إِعْطَاءُ مَالٍ أَيْ يُعْطَى المال. وقرى (وَتَصْلِيَةِ) بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ وَنُزُلٌ مِنْ تَصْلِيَةِ جَحِيمٍ. ثُمَّ أَدْغَمَ أَبُو عَمْرٍو التَّاءَ فِي الْجِيمِ وَهُوَ بَعِيدٌ. (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أَيْ هَذَا الَّذِي قَصَصْنَاهُ مَحْضُ الْيَقِينِ وَخَالِصُهُ. وَجَازَ إِضَافَةُ الْحَقِّ إِلَى الْيَقِينِ وَهُمَا وَاحِدٌ لِاخْتِلَافِ لَفْظِهِمَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ كَقَوْلِكَ عَيْنُ الْيَقِينِ وَمَحْضُ الْيَقِينِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ حَقُّ الْأَمْرِ الْيَقِينُ أَوِ الْخَبَرُ الْيَقِينُ. وَقِيلَ: هُوَ تَوْكِيدٌ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْيَقِينِ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْحَقِّ فَأُضِيفَ الْمَنْعُوتُ إِلَى النَّعْتِ عَلَى الِاتِّسَاعِ وَالْمَجَازِ، كَقَوْلِهِ: (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) «2» وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِتَارِكٍ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَقِفَهُ عَلَى الْيَقِينِ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَأَيْقَنَ فِي الدُّنْيَا فَنَفَعَهُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَأَيْقَنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ لَا يَنْفَعُهُ الْيَقِينُ. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أَيْ نَزِّهِ اللَّهَ تَعَالَى عَنِ السُّوءِ. وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ سبح اسم ربك، والاسم المسمى. وقيل:
__________
(1). راجع ج 15 ص (87)
(2). راجع ج 9 ص 275

(17/234)


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)

(فَسَبِّحْ) أَيْ فَصَلِّ بِذِكْرِ رَبِّكَ وَبِأَمْرِهِ. وَقِيلَ: فَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وَسَبِّحْهُ. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ) وَلَمَّا نَزَلَتْ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ) خَرَّجَهُ أَبُو داود. والله أعلم.

[تفسير سورة الحديد]
سورة الحديد مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِالْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ وَيَقُولَ: (إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ) يَعْنِي بِالْمُسَبِّحَاتِ (الْحَدِيدَ) وَ (الْحَشْرَ) وَ (الصَّفَّ) وَ (الْجُمُعَةَ) وَ (التغابن).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ مَجَّدَ اللَّهَ وَنَزَّهَهُ عَنِ السُّوءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَلَّى لِلَّهِ (مَا فِي السَّماواتِ) مِمَّنْ خلق من الملائكة (وَالْأَرْضِ) من شي فيه روح أولا رو فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ تَسْبِيحُ الدَّلَالَةِ. وَأَنْكَرَ الزَّجَّاجُ هَذَا وَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيحُ الدَّلَالَةِ وَظُهُورِ آثَارِ الصَّنْعَةِ لَكَانَتْ مَفْهُومَةً، فَلِمَ قَالَ: (وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) «1» وَإِنَّمَا هُوَ تَسْبِيحُ مَقَالٍ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) «2» فَلَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيحُ دَلَالَةٍ فأي تخصيص لداود؟!
__________
(1). راجع ج 10 ص (266)
(2). راجع ج 11 ص 307

(17/235)


هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)

قُلْتُ: وَمَا ذَكَرَهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ وَالْقَوْلُ فِيهِ فِي (سُبْحَانِ) «1» عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). قوله تعالى: أَيِ انْفَرَدَ بِذَلِكَ. وَالْمُلْكُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَلْكِ وَنُفُوذِ الْأَمْرِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمَلِكُ الْقَادِرُ الْقَاهِرُ. وَقِيلَ: أَرَادَ خَزَائِنَ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَسَائِرِ الرِّزْقِ. (يُحْيِي وَيُمِيتُ) يُمِيتُ الْأَحْيَاءَ فِي الدُّنْيَا وَيُحْيِي الْأَمْوَاتَ لِلْبَعْثِ. وَقِيلَ: يُحْيِي النُّطَفَ وَهِيَ مَوَاتٌ وَيُمِيتُ الْأَحْيَاءَ. وَمَوْضِعُ (يُحْيِي وَيُمِيتُ) رُفِعٌ عَلَى مَعْنَى وَهُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا بِمَعْنَى (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مُحْيِيًا وَمُمِيتًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي (لَهُ) وَالْجَارُّ عَامِلًا فِيهَا. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي الله لا يعجزه شي. قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) اخْتُلِفَ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْكِتَابِ الْأَسْنَى. وَقَدْ شَرَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْحًا يُغْنِي عَنْ قَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ، فَقَالَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فليس قبلك شي وأنت الآخر فليس بعدك شي وأنت الظاهر فليس فوقك شي وأنت الباطن فليس دونك شي اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ) عَنَى بِالظَّاهِرِ الْغَالِبَ، وَبِالْبَاطِنِ الْعَالِمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بِمَا كَانَ أَوْ يَكُونُ فلا يخفى عليه شي.

[سورة الحديد (57): الآيات 4 الى 6]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
__________
(1). راجع ج 10 ص 266 فما بعد.

(17/236)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تَقَدَّمَ فِي (الْأَعْرَافِ) «1» مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أَيْ يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ (وَما يَخْرُجُ مِنْها) مِنْ نَبَاتٍ وَغَيْرِهِ (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) مِنْ رِزْقٍ وَمَطَرٍ وَمَلَكٍ (وَما يَعْرُجُ فِيها) يَصْعَدُ فِيهَا مِنْ مَلَائِكَةٍ وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ (وَهُوَ مَعَكُمْ) يَعْنِي بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَعِلْمِهِ (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يُبْصِرُ أَعْمَالَكُمْ وَيَرَاهَا ولا يخفى عليه شي مِنْهَا. وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وَبَيْنَ (وَهُوَ مَعَكُمْ) وَالْأَخْذُ بِالظَّاهِرَيْنِ تَنَاقُضٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ التَّأْوِيلِ اعْتِرَافٌ بِالتَّنَاقُضِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ لَمْ يَكُنْ بِأَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى حِينَ كَانَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هَذَا التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ هُوَ الْمَعْبُودُ عَلَى الْحَقِيقَةِ (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أَيْ أُمُورُ الْخَلَائِقِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ (تَرْجِعُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ. الْبَاقُونَ (تُرْجَعُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) تَقَدَّمَ فِي (آلِ عِمْرَانَ) «2». (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أَيْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يَجُوزُ أن يعبد من سواه.
__________
(1). راجع ج 7 ص 218.
(2). راجع ج 4 ص 56.

(17/237)


آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)

[سورة الحديد (57): الآيات 7 الى 9]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أَيْ صَدِّقُوا أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ (وَأَنْفِقُوا) تَصَدَّقُوا. وَقِيلَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ غَيْرُهَا مِنْ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ (مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمُلْكِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ فِيهِ إِلَّا التَّصَرُّفُ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ فَيُثِيبُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْجَنَّةِ. فَمَنْ أَنْفَقَ مِنْهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَهَانَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ مِنْهَا، كَمَا يهون عل الرَّجُلِ، النَّفَقَةَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، كَانَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: (مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) بِوِرَاثَتِكُمْ إِيَّاهُ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمْوَالِكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمَا أَنْتُمْ فِيهَا إِلَّا بِمَنْزِلَةِ النُّوَّابِ وَالْوُكَلَاءِ، فَاغْتَنِمُوا الْفُرْصَةَ فِيهَا بِإِقَامَةِ الْحَقِّ قَبْلَ أَنْ تُزَالَ عَنْكُمْ إِلَى مَنْ بَعْدَكُمْ. (فَالَّذِينَ آمَنُوا) وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) فِي سَبِيلِ اللَّهِ (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) وَهُوَ الْجَنَّةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) اسْتِفْهَامٌ يُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخُ. أَيْ أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ فِي أَلَّا تُؤْمِنُوا وَقَدْ أُزِيحَتِ الْعِلَلُ؟! (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لا حكم قبل ورود الشرائع. وقرا أَبُو عَمْرٍو: (وَقَدْ أُخِذَ مِيثَاقُكُمْ) عَلَى غَيْرِ مُسَمَّى الْفَاعِلِ. وَالْبَاقُونَ عَلَى مُسَمَّى الْفَاعِلِ، أَيْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَكُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ الَّذِي كَانَ وَهُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا إِلَهَ لَكُمْ سِوَاهُ. وَقِيلَ: أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ بِأَنْ رَكَّبَ فِيكُمُ الْعُقُولَ، وَأَقَامَ عَلَيْكُمُ الدَّلَائِلَ وَالْحُجَجَ الَّتِي تَدْعُو إِلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِذْ كنتم. وقيل:

(17/238)


وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)

أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ. وَقِيلَ: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِحَقٍّ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ، فَالْآنَ أَحْرَى الْأَوْقَاتِ أَنْ تُؤْمِنُوا لِقِيَامِ الْحُجَجِ وَالْإِعْلَامِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ صَحَّتْ بَرَاهِينُهُ. وَقِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ خَالِقِكُمْ. وَكَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِقَوْمٍ آمَنُوا وَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيثَاقَهُمْ فَارْتَدُّوا. وَقَوْلُهُ: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُقِرُّونَ بِشَرَائِطِ الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ) يُرِيدُ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: الْمُعْجِزَاتُ، أَيْ لَزِمَكُمُ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا مَعَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَالْقُرْآنُ أَكْبَرُهَا وَأَعْظَمُهَا. (لِيُخْرِجَكُمْ) أَيْ بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: بِالرَّسُولِ. وَقِيلَ: بِالدَّعْوَةِ. (مِنَ الظُّلُماتِ) وَهُوَ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ (إِلَى النُّورِ) وهو الايمان. (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

[سورة الحديد (57): آية 10]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي شي يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِيمَا يُقَرِّبُكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْتُمْ تَمُوتُونَ وَتَخْلُفُونَ أَمْوَالَكُمْ وَهِيَ صَائِرَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَمَعْنَى الْكَلَامِ التَّوْبِيخُ عَلَى عَدَمِ الْإِنْفَاقِ. (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ أَنَّهُمَا رَاجِعَتَانِ إِلَيْهِ بِانْقِرَاضِ مَنْ فِيهِمَا كَرُجُوعِ الْمِيرَاثِ إِلَى الْمُسْتَحَقِّ لَهُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ فَتْحُ مَكَّةَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ: فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. قَالَ قَتَادَةُ:

(17/239)


كَانَ قِتَالَانِ أَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ، وَنَفَقَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْأُخْرَى، كَانَ الْقِتَالُ وَالنَّفَقَةُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْقِتَالِ وَالنَّفَقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) وَمَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا كَانَتِ النَّفَقَةُ قَبْلَ الْفَتْحِ أَعْظَمَ، لِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ كَانَتْ أَكْثَرَ لِضَعْفِ الْإِسْلَامِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْمُنْفِقِينَ حِينَئِذٍ أَشَقُّ وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْعَزْمِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَفِيهَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَقْدِيمِهِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ بِسَيْفِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَلِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وعليه عبادة قَدْ خَلَّلَهَا فِي صَدْرِهِ بِخَلَالٍ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! مَا لِي أَرَى أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّلَهَا فِي صَدْرِهِ بِخَلَالٍ؟ فَقَالَ: (قَدْ أَنْفَقَ عَلَيَّ مَالَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ) قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ اقْرَأْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ أَرَاضٍ أَنْتَ فِي فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ أَرَاضٍ أَنْتَ فِي فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ)؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَأَسْخَطُ عَلَى رَبِّي؟ إِنِّي عَنْ رَبِّي لَرَاضٍ! إِنِّي عَنْ رَبِّي لَرَاضٍ! إِنِّي عَنْ رَبِّي لَرَاضٍ! قَالَ: (فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ قَدْ رَضِيتُ عَنْكَ كَمَا أَنْتَ عَنِّي رَاضٍ) فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْحَقِّ، لَقَدْ تَخَلَّلَتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ بِالْعُبِيِّ مُنْذُ تَخَلَّلَ صَاحِبُكَ هَذَا بِالْعَبَاءَةِ، ولهذا قدمته الصحابة عل أَنْفُسِهِمْ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالتَّقَدُّمِ وَالسَّبْقِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَبَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى «1» أَبُو بَكْرٍ وَثَلَّثَ عُمَرُ، فَلَا أُوتَى بِرَجُلٍ فَضَلَّنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ إِلَّا جَلَدْتُهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَطَرَحَ الشَّهَادَةَ. فَنَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْمَشَقَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَكَانَتْ بصائرهم أيضا أنفذ.
__________
(1). السابق: الأول. والمصلى: الثاني.

(17/240)


الرَّابِعَةُ- التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ قَدْ يَكُونُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ. وَأَعْظَمُ الْمَنَازِلِ مَرْتَبَةً الصَّلَاةُ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) الْحَدِيثَ. وَقَالَ: (يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ) وَقَالَ: (وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَفَهِمَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَرَادَ كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ) وَلَمْ يَعْنِ كِبَرَ السِّنِّ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: إِنَّ لِلسِّنِّ حَقًّا. وَرَاعَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْمُرَاعَاةِ، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْعِلْمُ وَالسِّنُّ فِي خَيِّرَيْنِ قُدِّمَ الْعِلْمُ، وَأَمَّا أَحْكَامُ الدُّنْيَا فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ، فَمَنْ قَدَّمَ فِي الدِّينِ قَدَّمَ فِي الدُّنْيَا. وَفِي الْآثَارِ: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ). وَمِنَ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الْأَفْرَادِ: (مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ سِنِّهِ مَنْ يُكْرِمُهُ). وَأَنْشَدُوا «1»:
يَا عَائِبًا لِلشُّيُوخِ مِنْ أَشَرِ ... دَاخَلَهُ فِي الصِّبَا وَمِنْ بَذَخِ
اذْكُرْ إِذَا شِئْتَ أن تعيرهم ... جدك واذكر أباك يا بن أَخِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّبَابَ مُنْسَلِخٌ ... عَنْكَ وَمَا وِزْرُهُ بِمُنْسَلِخِ
مَنْ لَا يَعِزُّ الشُّيُوخَ لَا بَلَغَتْ ... يَوْمًا بِهِ سِنُّهُ إِلَى الشَّيَخِ
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى) أَيِ الْمُتَقَدِّمُونَ الْمُتَنَاهُونَ السَّابِقُونَ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ اللَّاحِقُونَ، وَعَدَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا الْجَنَّةَ مَعَ تَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (وَكُلٌّ) بِالرَّفْعِ، وَكَذَلِكَ هُوَ بِالرَّفْعِ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ. الْبَاقُونَ (وَكُلًّا) بِالنَّصْبِ عَلَى ما في مصافحهم، فَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى إِيقَاعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ أَيْ وَعَدَ اللَّهُ كُلًّا الْحُسْنَى. وَمَنْ رَفَعَ فَلِأَنَّ الْمَفْعُولَ إِذَا تَقَدَّمَ ضَعَّفَ عَمَلَ الْفِعْلِ، وَالْهَاءُ محذوفة من وعده.
__________
(1). هو لابن عبد الصمد السرقسطي كما في (أحكام القرآن) لابن العربي.

(17/241)


مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

[سورة الحديد (57): الآيات 11 الى 12]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) نَدَبَ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ) «1» الْقَوْلُ فِيهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا حَسَنًا: قَدْ أَقْرَضَ، كَمَا قَالَ «2»:
وَإِذَا جُوزِيتَ قَرْضًا فَاجْزِهِ ... إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى لَيْسَ الْجَمَلْ
وَسُمِّيَ قَرْضًا، لِأَنَّ الْقَرْضَ أُخْرِجَ لِاسْتِرْدَادِ الْبَدَلِ. أَيْ مَنْ ذَا الَّذِي يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يُبَدِّلَهُ اللَّهُ بِالْأَضْعَافِ الْكَثِيرَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: (قَرْضاً) أَيْ صَدَقَةً (حَسَناً) أَيْ مُحْتَسِبًا مِنْ قَلْبِهِ بِلَا مَنٍّ وَلَا أَذًى. (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) مَا بَيْنَ السَّبْعِ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْأَضْعَافِ. وَقِيلَ: الْقَرْضُ الْحَسَنُ هُوَ أن يقول سبحان الله والحمد اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ أَبِي «3» حَيَّانَ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَهْلِ. الْحَسَنُ: التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَاتِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَمَلُ الْخَيْرِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لِي عِنْدَ فُلَانٍ قَرْضُ صِدْقٍ وَقَرْضُ سُوءٍ. الْقُشَيْرِيُّ: وَالْقَرْضُ الْحَسَنُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدِّقُ صَادِقَ النِّيَّةِ طَيِّبَ النَّفْسِ، يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ دُونَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَلَالِ. وَمِنَ الْقَرْضِ الْحَسَنِ أَلَّا يَقْصِدَ إِلَى الرَّدِيءِ فَيُخْرِجُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) «4»
__________
(1). راجع ج 3 ص (237) [ ..... ]
(2). قائله لبيد، ومعنى البيت: إذا أسدى إليك معروف فكافى عليه.
(3). كل نسخ الأصل بلفظ أبى حيان والظاهر أن صوابه: ابن حيان.
(4). راجع ج 3 ص 325

(17/242)


وَأَنْ يَتَصَدَّقَ فِي حَالٍ يَأْمُلُ الْحَيَاةَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: (أَنْ تُعْطِيَهُ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْعَيْشَ وَلَا تُمْهَلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا) وَأَنْ يُخْفِيَ صَدَقَتَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) «1» وَأَلَّا يَمُنَّ، لقوله تعالى: و (لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) «2» وَأَنْ يَسْتَحْقِرَ كَثِيرَ مَا يُعْطِي، لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا قَلِيلَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَبِّ أَمْوَالِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا «3» تُحِبُّونَ) وَأَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفْضَلُ الرِّقَابِ أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا). (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ (فَيُضَعِّفَهُ) بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ إِلَّا ابْنَ عَامِرٍ وَيَعْقُوبَ نَصَبُوا الْفَاءَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ (فَيُضَاعِفَهُ) بِالْأَلِفِ وَتَخْفِيفِ الْعَيْنِ إِلَّا أَنَّ عاصما نصب الفناء. وَرَفَعَ الْبَاقُونَ عَطْفًا عَلَى (يُقْرِضُ). وَبِالنَّصْبِ جَوَابًا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ) «4» الْقَوْلُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى. (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يَعْنِي الْجَنَّةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الْعَامِلُ فِي (يَوْمَ) (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) فِي (يَوْمَ تَرَى) فيه (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ) أَيْ يَمْضِي عَلَى الصِّرَاطِ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ، وَهُوَ الضِّيَاءُ الَّذِي يَمُرُّونَ فِيهِ (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أَيْ قُدَّامَهُمْ. (وَبِأَيْمانِهِمْ) قَالَ الْفَرَّاءُ: الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ فِي أَيْمَانِهِمْ. أَوْ بِمَعْنَى عَنْ أَيْ عَنْ أَيْمَانِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: (نُورُهُمْ) هُدَاهُمْ (وَبِأَيْمانِهِمْ) كُتُبُهُمْ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. أَيْ يَسْعَى إِيمَانُهُمْ وَعَمَلُهُمُ الصَّالِحُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَفِي أَيْمَانِهِمْ كُتُبُ أَعْمَالِهِمْ. فَالْبَاءُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى فِي. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يُوقَفَ عَلَى (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) وَلَا يُوقَفَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى عن. وقرا سهل ابن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ وَأَبُو حَيْوَةَ (وَبِأَيْمانِهِمْ) بِكَسْرِ الْأَلِفِ، أراد الايمان الذي هو ضد الكفر.
__________
(1). راجع ج 3 ص 332 وص (311)
(2). راجع ج 3 ص 332 وص (311)
(3). راجع ج 4 ص 132
(4). راجع ج 3 ص 332 وص (311)

(17/243)


وَعَطَفَ مَا لَيْسَ بِظَرْفٍ عَلَى الظَّرْفِ، لِأَنَّ مَعْنَى الظَّرْفِ الْحَالُ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ. وَالْمَعْنَى يَسْعَى كَائِنًا (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) وَكَائِنًا (بِأَيْمانِهِمْ)، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ (يَسْعى). وَقِيلَ: أَرَادَ بِالنُّورِ الْقُرْآنَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: يُؤْتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْتَى نُورَهُ كَالنَّخْلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْتَى نُورَهُ كَالرَّجُلِ الْقَائِمِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِ رِجْلِهِ فَيُطْفَأُ مَرَّةً وَيُوقَدُ أُخْرَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يضئ نُورُهُ كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَعَدَنٍ أَوْ مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ وَدُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ منهم من لا يضئ نُورُهُ إِلَّا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ) قَالَ الْحَسَنُ: لِيَسْتَضِيئُوا بِهِ عَلَى الصِّرَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِيَكُونَ دَلِيلًا لَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) التَّقْدِيرُ يُقَالُ لَهُمْ: (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ) دُخُولُ جَنَّاتٍ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، لِأَنَّ الْبُشْرَى حَدَثٌ، وَالْجَنَّةُ عَيْنٌ فَلَا تَكُونُ هِيَ هِيَ. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أَيْ مِنْ تَحْتِهِمْ أَنْهَارُ اللَّبَنِ وَالْمَاءِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ مِنْ تَحْتِ مَسَاكِنِهَا. (خالِدِينَ فِيها) حَالٌ مِنَ الدُّخُولِ الْمَحْذُوفِ، التَّقْدِيرُ (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ) دُخُولُ جَنَّاتٍ (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) مُقَدَّرِينَ الْخُلُودَ فِيهَا وَلَا تَكُونُ الْحَالُ مِنْ بُشْرَاكُمْ، لِأَنَّ فِيهِ فَصْلًا بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْبُشْرَى، كَأَنَّهُ قَالَ: تُبَشَّرُونَ خَالِدِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ الَّذِي هُوَ (الْيَوْمَ) خَبَرًا عَنْ (بُشْراكُمُ) وَ (جَنَّاتٌ) بَدَلًا مِنَ الْبُشْرَى عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَ (خالِدِينَ) حَالٌ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ نَصْبَ (جَنَّاتٌ) عَلَى الْحَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ (الْيَوْمَ) خَبَرًا عَنْ (بُشْراكُمُ) وَهُوَ بَعِيدٌ، إِذْ لَيْسَ فِي (جَنَّاتٌ) مَعْنَى الْفِعْلِ. وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ (بُشْراكُمُ) نَصْبًا عَلَى مَعْنَى يُبَشِّرُونَهُمْ بُشْرَى وَيَنْصِبُ (جَنَّاتٌ) بِالْبُشْرَى وَفِيهِ تفرقة بين الصلة والموصول.

(17/244)


يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

[سورة الحديد (57): الآيات 13 الى 15]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) الْعَامِلُ فِي (يَوْمَ) (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .. وقيل: هو بد ل مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِوَصْلِ الْأَلِفِ مَضْمُومَةُ الظَّاءِ مِنْ نَظَرَ، وَالنَّظَرُ الِانْتِظَارُ أَيِ انْتَظِرُونَا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ (انْظُرُونا) بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الظَّاءِ مِنَ الْإِنْظَارِ. أَيْ أَمْهِلُونَا وَأَخِّرُونَا، أَنْظَرْتُهُ أَخَّرْتُهُ، وَاسْتَنْظَرْتُهُ أَيِ اسْتَمْهَلْتُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنْظِرْنِي انْتَظِرْنِي، وَأُنْشِدَ لِعَمْرِو بْنُ كُلْثُومٍ:
أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا ... وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ الْيَقِينَا
أي انتظرنا. (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي نستضئ مِنْ نُورِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو أُمَامَةَ: يَغْشَى النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظُلْمَةٌ- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَظُنُّهَا بَعْدَ فَصْلِ الْقَضَاءِ- ثُمَّ يُعْطُونَ نُورًا يَمْشُونَ فِيهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُعْطِي اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمْشُونَ بِهِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَيُعْطِي الْمُنَافِقِينَ أَيْضًا نُورًا خَدِيعَةً لَهُمْ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ خادِعُهُمْ)
«1». وَقِيلَ: إِنَّمَا يُعْطُونَ النُّورَ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ أَهْلُ دَعْوَةٍ دُونَ الْكَافِرِ، ثُمَّ يُسْلَبُ الْمُنَافِقُ نُورَهُ لِنِفَاقِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: يُعْطَى الْمُؤْمِنُ النُّورَ وَيُتْرَكُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ بِلَا نور. وقال الكلبي: بل يستضئ الْمُنَافِقُونَ بِنُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُعْطَوْنَ النُّورَ، فَبَيْنَمَا هم يمشون
__________
(1). راجع ج 5 ص 421.

(17/245)


إِذْ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رِيحًا وَظُلْمَةً فَأَطْفَأَ بِذَلِكَ نُورَ الْمُنَافِقِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) «1» يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ، خَشْيَةَ أَنْ يُسْلَبُوهُ كَمَا سُلِبَهُ الْمُنَافِقُونَ، فَإِذَا بَقِيَ الْمُنَافِقُونَ فِي الظُّلْمَةِ لَا يُبْصِرُونَ مَوَاضِعَ أَقْدَامِهِمْ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ). (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) أَيْ قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ (ارْجِعُوا). وَقِيلَ: بَلْ هُوَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذْنَا مِنْهُ النُّورَ فَاطْلُبُوا هُنَالِكَ لِأَنْفُسِكُمْ نُورًا فَإِنَّكُمْ لَا تَقْتَبِسُونَ مِنْ نُورِنَا. فَلَمَّا رَجَعُوا وَانْعَزَلُوا فِي طَلَبِ النُّورِ (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ). وَقِيلَ: أَيْ هَلَّا طَلَبْتُمُ النُّورَ مِنَ الدُّنْيَا بِأَنْ تُؤْمِنُوا. (بِسُورٍ) أَيْ سُورٍ، والباء صلة. قال الْكِسَائِيُّ. وَالسُّورُ حَاجِزٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ السُّورَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ مَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِوَادِي جَهَنَّمَ. (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) يَعْنِي مَا يَلِي مِنْهُ الْمُؤْمِنِينَ (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) يَعْنِي مَا يَلِي الْمُنَافِقِينَ. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هُوَ الْبَابُ الَّذِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الْمَعْرُوفُ بِبَابِ الرَّحْمَةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: إِنَّهُ سُورُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الشَّرْقِيُّ بَاطِنُهُ فِيهِ الْمَسْجِدُ (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) يَعْنِي جَهَنَّمَ. وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ زِيَادُ بْنُ أبي سوادة: قام عبادة ابن الصَّامِتِ عَلَى سُورِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الشَّرْقِيِّ فَبَكَى، وقال: من ها هنا أَخْبَرَنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى جَهَنَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ حَائِطٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) يَعْنِي الْجَنَّةَ (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) يَعْنِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُ حِجَابٌ كَمَا فِي (الْأَعْرَافِ) وقد مضى القول فيه «2». وقد قل: إِنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي فِي بَاطِنِهِ نُورُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْعَذَابَ الَّذِي فِي ظَاهِرِهِ ظُلْمَةُ الْمُنَافِقِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُنادُونَهُمْ) أَيْ يُنَادِي الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) فِي الدُّنْيَا يَعْنِي نُصَلِّي مِثْلَ ما تصلون، ونغزوا مِثْلَ مَا تَغْزُونَ، وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا تَفْعَلُونَ (قالُوا بَلى) أَيْ يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ (بَلى) قَدْ كُنْتُمْ مَعَنَا فِي الظَّاهِرِ (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أَيِ اسْتَعْمَلْتُمُوهَا فِي الْفِتْنَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَهْلَكْتُمُوهَا بِالنِّفَاقِ. وَقِيلَ: بِالْمَعَاصِي، قَالَهُ أَبُو سِنَانٍ. وَقِيلَ: بالشهوات واللذات،
__________
(1). راجع ج 7 ص 211
(2). راجع ج 7 ص 211

(17/246)


رواه أبو نمير الهمداني. (وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ) أَيْ (تَرَبَّصْتُمْ) بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَوْتَ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ الدَّوَائِرَ. وَقِيلَ: (تَرَبَّصْتُمْ) بِالتَّوْبَةِ (وَارْتَبْتُمْ) أَيْ شَكَكْتُمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ) أَيِ الْأَبَاطِيلُ. وَقِيلَ: طُولُ الْأَمَلِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ مِنْ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ وَنُزُولِ الدَّوَائِرِ بِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَمَانِيُّ هُنَا خُدَعُ الشَّيْطَانِ. وَقِيلَ: الدُّنْيَا، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ «1». وَقَالَ أَبُو سِنَانٍ: هُوَ قَوْلُهُمْ سَيُغْفَرُ لَنَا. وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ: ذِكْرُكَ حَسَنَاتَكَ وَنِسْيَانُكَ سَيِّئَاتِكَ غِرَّةٌ. (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ) يَعْنِي الْمَوْتَ. وَقِيلَ: نُصْرَةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلْقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ. (وَغَرَّكُمْ) أَيْ خَدَعَكُمْ (بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أَيِ الشَّيْطَانُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: الدُّنْيَا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ لِلْبَاقِي بِالْمَاضِي مُعْتَبَرًا، وَلِلْآخَرِ بِالْأَوَّلِ مُزْدَجَرًا، وَالسَّعِيدُ مَنْ لَا يَغْتَرُّ بِالطَّمَعِ، وَلَا يَرْكَنُ إِلَى الْخُدَعِ، وَمَنْ ذَكَرَ الْمَنِيَّةَ نَسِيَ الْأُمْنِيَّةَ، وَمَنْ أَطَالَ الْأَمَلَ نَسِيَ الْعَمَلَ، وَغَفَلَ عَنِ الْأَجَلِ. وَجَاءَ (الْغَرُورُ) عَلَى لَفْظِ الْمُبَالَغَةِ لِلْكَثْرَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ السميقع وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ (الْغُرُورُ) بِضَمِّ الْغَيْنِ يَعْنِي الْأَبَاطِيلَ وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّ لَنَا خُطُوطًا، وَخَطَّ مِنْهَا خَطًّا نَاحِيَةً فَقَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا هَذَا هَذَا مَثَلُ ابْنِ آدَمَ وَمَثَلُ التَّمَنِّي وَتِلْكَ الْخُطُوطُ الْآمَالُ بَيْنَمَا هُوَ يَتَمَنَّى إِذْ جَاءَهُ الْمَوْتُ (. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ وَسَطَهُ خَطًّا وَجَعَلَهُ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ خُطُوطًا صِغَارًا فَقَالَ: (هَذَا ابْنُ آدَمَ وَهَذَا أَجُلُهُ مُحِيطٌ بِهِ وَهَذَا أَمَلُهُ قَدْ جَاوَزَ أَجَلَهُ وَهَذِهِ الْخُطُوطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا (. قَوْلُهُ تَعَالَى:) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْأَسُهُمْ مِنَ النَّجَاةِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (يُؤْخَذُ) بِالْيَاءِ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ. حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّهُ قَدْ فَصَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ (تُؤْخَذُ) بِالتَّاءِ وأختاره أبو حاتم لتأنيث الفدية. والأول
__________
(1). في ب، ز، س، ل، هـ: (عبد الله بن عياش).

(17/247)


أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)

اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، أَيْ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ بَدَلٌ وَلَا عِوَضٌ وَلَا نَفْسٌ أُخْرَى. (مَأْواكُمُ النَّارُ) أَيْ مَقَامُكُمْ وَمَنْزِلُكُمْ (هِيَ مَوْلاكُمْ) أَيْ أَوْلَى بِكُمْ، وَالْمَوْلَى مَنْ يَتَوَلَّى مَصَالِحَ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِيمَنْ كَانَ مُلَازِمًا لِلشَّيْءِ. وَقِيلَ: أَيِ النَّارُ تَمْلِكُ أَمْرَهُمْ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُرَكِّبُ فِيهَا الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ فَهِيَ تَتَمَيَّزُ غَيْظًا عَلَى الْكُفَّارِ، وَلِهَذَا خُوطِبَتْ فِي قوله تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ «1» مَزِيدٍ). (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أَيْ ساءت مرجعا ومصيرا.

[سورة الحديد (57): الآيات 16 الى 17]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ يَقْرَبُ وَيَحِينُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَمْ يَأْنِ لِي يَا قَلْبُ أَنْ أَتْرُكَ الْجَهْلَا ... وَأَنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ الْمُبِينُ لَنَا عَقْلَا
وَمَاضِيهِ أَنَى بِالْقَصْرِ يَأْنِي. وَيُقَالُ: آنَ لَكَ- بِالْمَدِّ- أَنْ تَفْعَلَ كَذَا يَئِينُ أَيْنًا أَيْ حَانَ، مِثْلُ أَنَى لَكَ وَهُوَ مَقْلُوبٌ مِنْهُ. وَأَنْشَدَ ابْنُ السِّكِّيتِ:
أَلَمَّا يَئِنْ لِي أَنْ تَجَلَّى عَمَايَتِي ... وَأَقْصُرُ عَنْ لَيْلَى بَلَى قَدْ أَنَى لِيَا
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ (أَلَمَّا يَأْنِ) وَأَصْلُهَا (أَلَمْ) زِيدَتْ (مَا) فَهِيَ نَفْيٌ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: قَدْ كَانَ كَذَا، وَ (لَمْ) نَفْيٌ لِقَوْلِهِ: كَانَ كَذَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ. قَالَ الْخَلِيلُ: العتاب مخاطبة الا دلال وَمُذَاكَرَةُ الْمُوجِدَةِ، تَقُولُ عَاتَبْتُهُ مُعَاتَبَةً (أَنْ تَخْشَعَ) أَيْ تَذِلَّ وَتَلِينَ (قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)
__________
(1). راجع ص 18 من هذا الجزء.

(17/248)


رُوِيَ أَنَّ الْمِزَاحَ وَالضَّحِكَ كَثُرَ فِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَرَفَّهُوا بِالْمَدِينَةِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ يَسْتَبْطِئُكُمْ بِالْخُشُوعِ) فَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ: خَشَعْنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَبْطَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا سَلْمَانَ أَنْ يُحَدِّثَهُمْ بِعَجَائِبِ التَّوْرَاةِ فَنَزَلَتْ: (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ «1» الْمُبِينِ) إِلَى قَوْلِهِ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) الْآيَةَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا الْقَصَصَ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهِ وَأَنْفَعُ لَهُمْ، فَكَفُّوا عَنْ سَلْمَانَ، ثُمَّ سَأَلُوهُ مِثْلَ الْأَوَّلِ فَنَزَلَتْ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْعَلَانِيَةِ بِاللِّسَانِ. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بِالظَّاهِرِ وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ). وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ سَعْدٌ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا فَنَزَلَ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) فَقَالُوا بَعْدَ زَمَانٍ: لَوْ حَدَّثْتَنَا فَنَزَلَ: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ «2» الْحَدِيثِ) فَقَالُوا بَعْدَ مُدَّةٍ: لَوْ ذَكَّرْتَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عُوتِبْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ وَيَقُولُ: مَا أَحْدَثْنَا؟ قَالَ الْحَسَنُ: اسْتَبْطَأَهُمْ وَهُمْ أَحَبُّ خَلْقِهِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: هَذَا الْخِطَابُ لِمَنْ آمَنَ بِمُوسَى وَعِيسَى دُونَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِأَنَّهُ قَالَ عَقِيبَ هَذَا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) أَيْ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنْ تَلِينَ قُلُوبُهُمْ لِلْقُرْآنِ، وَأَلَّا يَكُونُوا كَمُتَقَدِّمِي قَوْمِ مُوسَى وَعِيسَى، إِذْ طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَبِيِّهِمْ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَكُونُوا) أَيْ وَأَلَّا يَكُونُوا فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى (أَنْ تَخْشَعَ). وَقِيلَ: مَجْزُومٌ عَلَى النَّهْيِ، مَجَازُهُ وَلَا يَكُونَنَّ، وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ رِوَايَةُ رُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ (لَا تكونوا) بالتاء، وهي قراءة عيسى وابن اسحق. يَقُولُ: لَا تَسْلُكُوا سَبِيلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أُعْطُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ فَطَالَتِ الْأَزْمَانُ بِهِمْ. قَالَ ابْنُ مسعود: إن بني إسرائيل
__________
(1). راجع ج 9 ص 118.
(2). راجع ج 15 ص 248. [ ..... ]

(17/249)


لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، فَاخْتَرَعُوا كِتَابًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمُ اسْتَحَلَّتْهُ أَنْفُسُهُمْ، وَكَانَ الْحَقُّ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ، حَتَّى نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ قَالُوا: أَعْرِضُوا هَذَا الْكِتَابَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنْ تَابَعُوكُمْ فَاتْرُكُوهُمْ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُمْ. ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُرْسِلُوهُ إِلَى عَالِمٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَقَالُوا: إِنْ هُوَ تَابَعَنَا لَمْ يُخَالِفْنَا أَحَدٌ، وَإِنْ أَبَى قَتَلْنَاهُ فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْنَا بَعْدَهُ أَحَدٌ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ، فَكَتَبَ كِتَابَ اللَّهِ فِي وَرَقَةٍ وَجَعَلَهَا فِي [قَرْنٍ وَعَلَّقَهُ «1» فِي] عُنُقِهِ ثُمَّ لَبِسَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، فَأَتَاهُمْ فَعَرَضُوا عَلَيْهِ كِتَابَهُمْ، وَقَالُوا: أَتُؤْمِنُ بِهَذَا؟ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: آمَنْتُ بِهَذَا يَعْنِي الْمُعَلَّقَ عَلَى صَدْرِهِ. فَافْتَرَقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَخَيْرُ مِلَلِهِمْ أَصْحَابُ ذِي الْقَرْنِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى مُنْكَرًا، وَبِحَسْبِ أَحَدِكُمْ إِذَا رَأَى الْمُنْكَرَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ كَارِهٌ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ «2»: يَعْنِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَاسْتَبْطَئُوا بَعْثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) يَعْنِي الَّذِينَ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ. وَقِيلَ: مَنْ لَا يَعْلَمُ مَا يَتَدَيَّنُ بِهِ مِنَ الْفِقْهِ وَيُخَالِفُ مَنْ يَعْلَمُ. وَقِيلَ: هُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. ثَبَتَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى دِينِ عِيسَى حَتَّى بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنُوا بِهِ، وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ رَجَعُوا عَنْ دِينِ عِيسَى وَهُمُ الَّذِينَ فَسَّقَهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانَتِ الصَّحَابَةُ بِمَكَّةَ مُجْدِبِينَ، فَلَمَّا هَاجَرُوا أَصَابُوا الرِّيفَ وَالنِّعْمَةَ، فَفَتَرُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، فَوَعَظَهُمُ اللَّهُ فَأَفَاقُوا. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِقَوْمِهِ: لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَقْسُو قُلُوبُكُمْ، فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ. وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِيهَا- أَوْ قَالَ فِي ذُنُوبِكُمْ- كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ، فَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ مُعَافًى وَمُبْتَلًى، فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ، وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) كَانَتْ سَبَبُ تَوْبَةِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ رحمهما الله
__________
(1). الزيادة من تفسير الطبري.
(2). في بعض التفاسير: مقاتل بن سليمان وهو المفسر.

(17/250)


تَعَالَى. ذَكَرَ أَبُو الْمُطَرِّفِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَرْوَانَ الْقَلَانِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ ابن رَشِيقٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ يَعْقُوبَ الزَّيَّاتُ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ حَدَّثَنَا زكريا ابن أبي أبان، قال حدثنا الليث بن الحرث قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ دَاهِرٍ، قَالَ سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ بَدْءِ زُهْدِهِ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا مَعَ إِخْوَانِي فِي بُسْتَانٍ لَنَا، وَذَلِكَ حِينَ حَمَلَتِ الثِّمَارُ مِنْ أَلْوَانِ الْفَوَاكِهِ، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا حَتَّى اللَّيْلَ فَنِمْنَا، وَكُنْتُ مُولَعًا بِضَرْبِ الْعُودِ وَالطُّنْبُورِ، فَقُمْتُ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فَضَرَبْتُ بِصَوْتٍ يُقَالُ لَهُ رَاشِينَ «1» السَّحَرِ، وَأَرَادَ سِنَانٌ يُغَنِّي، وَطَائِرٌ يَصِيحُ فَوْقَ رَأْسِي عَلَى شَجَرَةٍ، وَالْعُودُ بِيَدِي لَا يُجِيبُنِي إِلَى مَا أُرِيدُ، وَإِذَا بِهِ يَنْطِقُ كَمَا يَنْطِقُ الْإِنْسَانُ- يَعْنِي الْعُودَ الَّذِي بِيَدِهِ- وَيَقُولُ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) قُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ! وَكَسَرْتُ الْعُودَ، وَصَرَفْتُ مَنْ كَانَ عِنْدِي، فَكَانَ هَذَا أَوَّلُ زُهْدِي وَتَشْمِيرِي. وَبَلَغْنَا عَنِ الشِّعْرِ الَّذِي أَرَادَ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنْ يَضْرِبَ بِهِ الْعُودَ:
أَلَمْ يَأْنِ لِي مِنْكَ أَنْ تَرْحَمَا ... وَتَعْصَ الْعَوَاذِلَ وَاللُّوَّمَا
وَتَرْثِي لِصَبٍّ بِكُمْ مُغْرَمٌ ... أَقَامَ عَلَى هَجْرِكُمْ مَأْتَمَا
يَبِيتُ إِذَا جَنَّهُ لَيْلُهُ ... يُرَاعِي الْكَوَاكِبَ وَالْأَنْجُمَا
وَمَاذَا عَلَى الظبي لَوْ أَنَّهُ ... أَحَلَّ مِنَ الْوَصْلِ مَا حَرَّمَا
وَأَمَّا الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فَكَانَ سَبَبُ تَوْبَتِهِ أَنَّهُ عَشِقَ جَارِيَةً فَوَاعَدَتْهُ لَيْلًا، فَبَيْنَمَا هُوَ يَرْتَقِي الْجُدْرَانَ إِلَيْهَا إِذْ سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) فَرَجَعَ الْقَهْقَرَى وَهُوَ يَقُولُ: بَلَى وَاللَّهِ قَدْ آنَ فَآوَاهُ اللَّيْلُ إِلَى خَرِبَةٍ وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّابِلَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ: إِنَّ فُضَيْلًا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ. فَقَالَ الْفُضَيْلُ: أَوَّاهُ! أَرَانِي بِاللَّيْلِ أَسْعَى فِي مَعَاصِي اللَّهِ، قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَخَافُونَنِي! اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تُبْتُ إِلَيْكَ، وَجَعَلْتُ تَوْبَتِي إِلَيْكَ جِوَارَ بَيْتِكَ الْحَرَامِ.
__________
(1). هكذا في الأصول ولم نقف عليها بعد البحث.

(17/251)


إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)

قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي (يُحْيِ الْأَرْضَ) الْجَدْبَةَ (بَعْدَ مَوْتِها) بِالْمَطَرِ. وَقَالَ صَالِحٌ الْمُرِّيُّ: الْمَعْنَى يُلَيِّنُ الْقُلُوبَ بَعْدَ قَسَاوَتِهَا. وَقَالَ جعفر ابن مُحَمَّدٍ: يُحْيِيهَا بِالْعَدْلِ بَعْدَ الْجَوْرِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ يُحْيِي الْكَافِرَ بِالْهُدَى إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ. وَقِيلَ: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى مِنَ الْأُمَمِ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْخَاشِعِ قَلْبُهُ وَبَيْنَ الْقَاسِي قَلْبُهُ. (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أَيْ إِحْيَاءُ اللَّهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَمُحْيِي الموتى.

[سورة الحديد (57): الآيات 18 الى 19]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ فِيهِمَا مِنَ التَّصْدِيقِ، أَيِ الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى. الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ أَيِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ، وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَهُوَ حَثٌّ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ: (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) بِالصَّدَقَةِ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقَرْضِ الْحَسَنِ فَهُوَ التَّطَوُّعُ. وَقِيلَ: هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مُحْتَسِبًا صَادِقًا. وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الِاسْمَ فِي تقدير الفعل، أي إن الذين صدقوا وَأَقْرَضُوا (يُضاعَفُ لَهُمْ) أَمْثَالُهَا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ (يُضَاعِفُهُ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَزِيَادَةِ هَاءٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ (يُضَعَّفُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِهَا. (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يَعْنِي الْجَنَّةَ.

(17/252)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) اخْتُلِفَ فِي (الشُّهَداءُ) هَلْ هُوَ مَقْطُوعٌ مِمَّا قَبْلُ أَوْ مُتَّصِلٌ بِهِ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ وزيد ابن أَسْلَمَ: إِنَّ الشُّهَدَاءَ وَالصِّدِّيقِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَّهُ مُتَّصِلٌ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُوقَفُ عَلَى هَذَا عَلَى قَوْلِهِ: (الصِّدِّيقُونَ) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) «1» فَالصِّدِّيقُونَ هُمُ الَّذِينَ يَتْلُونَ الْأَنْبِيَاءَ، وَالشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ يَتْلُونَ الصِّدِّيقِينَ، وَالصَّالِحُونَ يَتْلُونَ الشُّهَدَاءَ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جُمْلَةِ مَنْ صَدَّقَ بِالرُّسُلِ، أَعْنِي (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ). وَيَكُونُ الْمَعْنِيُّ بِالشُّهَدَاءِ مَنْ شَهِدَ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَيَكُونُ صِدِّيقٌ فَوْقَ صِدِّيقٍ فِي الدَّرَجَاتِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّاتِ الْعُلَا لَيَرَاهُمْ مَنْ دُونَهُمْ كَمَا يَرَى أَحَدُكُمُ الْكَوْكَبَ الَّذِي فِي أُفُقِ السَّمَاءِ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا)»
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ أَنَّ الشُّهَدَاءَ غَيْرُ الصِّدِّيقِينَ. فَالشُّهَدَاءُ عَلَى هَذَا مُنْفَصِلٌ مِمَّا قَبْلَهُ وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: (الصِّدِّيقُونَ) حَسَنٌ. وَالْمَعْنَى وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أَيْ لَهُمْ أَجْرُ أَنْفُسِهِمْ وَنُورُ أَنْفُسِهِمْ. وَفِيهِمْ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمُ الرُّسُلُ يَشْهَدُونَ عَلَى أُمَمِهِمْ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ «3» شَهِيداً). الثَّانِي- أَنَّهُمْ أُمَمُ الرُّسُلِ يَشْهَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِيمَا يَشْهَدُونَ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا عَمِلُوا مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ. الثَّانِي- يَشْهَدُونَ لِأَنْبِيَائِهِمْ بِتَبْلِيغِهِمُ الرِّسَالَةَ إِلَى أُمَمِهِمْ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ قَوْلًا ثَالِثًا: إِنَّهُمُ الْقَتْلَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: أَرَادَ شُهَدَاءَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْوَاوُ وَاوُ الِابْتِدَاءِ. وَالصِّدِّيقُونَ عَلَى هَذَا القول مقطوع من الشهداء.
__________
(1). راجع ج 5 ص 271. وص 197.
(2). (أنعما) أي زادا وفضلا. وقيل معناه: صارا إلى النعيم ودخلا فيه.
(3). راجع ج 5 ص 271. وص 197.

(17/253)


اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهِمْ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ، أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَحَمْزَةُ. وَتَابَعَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَلْحَقَهُ اللَّهُ بِهِمْ لَمَّا صَدَّقَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الصِّدِّيقُونَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ وَلَمْ يُكَذِّبُوهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، مِثْلُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَصَاحِبِ آلِ يَاسِينَ، وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَصْحَابِ الْأُخْدُودِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أَيْ بِالرُّسُلِ وَالْمُعْجِزَاتِ (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) فَلَا أَجْرَ لَهُمْ وَلَا نُورَ.

[سورة الحديد (57): الآيات 20 الى 21]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) وَجْهُ الِاتِّصَالِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتْرُكُ الْجِهَادَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَتْلِ، وَخَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْمَوْتِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا مُنْقَضِيَةٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ أَمْرَ اللَّهِ مُحَافَظَةً عَلَى مَا لَا يَبْقَى. وَ (مَا) صِلَةٌ تَقْدِيرُهُ: اعْلَمُوا أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَعِبٌ بَاطِلٌ وَلَهْوُ فَرَحٍ ثُمَّ يَنْقَضِي. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَعِبٌ وَلَهْوٌ: أَكْلٌ وَشُرْبٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْمَعْهُودِ مِنَ اسْمِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ لَعِبٍ لَهْوٌ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى

(17/254)


فِي (الْأَنْعَامِ) «1» وَقِيلَ: اللَّعِبُ مَا رَغِبَ فِي الدُّنْيَا، وَاللَّهْوُ مَا أَلْهَى عَنِ الْآخِرَةِ، أَيْ شَغَلَ عَنْهَا. وَقِيلَ: اللَّعِبُ الِاقْتِنَاءُ، وَاللَّهْوُ النِّسَاءُ. (وَزِينَةٌ) الزِّينَةِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ، فَالْكَافِرُ يَتَزَيَّنُ بِالدُّنْيَا وَلَا يَعْمَلُ لِلْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَزَيَّنَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ. (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) أَيْ يَفْخَرُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِهَا. وَقِيلَ: بِالْخِلْقَةِ وَالْقُوَّةِ. وَقِيلَ: بِالْأَنْسَابِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْمُفَاخَرَةِ بِالْآبَاءِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) وَصَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا. (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) لِأَنَّ عَادَةَ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ تَتَكَاثَرَ بِالْأَبْنَاءِ وَالْأَمْوَالِ، وَتَكَاثُرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: (لَعِبٌ) كَلَعِبِ الصِّبْيَانِ (وَلَهْوٌ) كَلَهْوِ الْفِتْيَانِ (وَزِينَةٌ) كَزِينَةِ النِّسْوَانِ (وَتَفاخُرٌ) كَتَفَاخُرِ الْأَقْرَانِ (وَتَكاثُرٌ) كَتَكَاثُرِ الدِّهْقَانِ «2». وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الدُّنْيَا كَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِعَمَّارٍ: لَا تَحْزَنْ عَلَى الدُّنْيَا فَإِنَّ الدُّنْيَا سِتَّةُ أَشْيَاءَ: مَأْكُولٌ وَمَشْرُوبٌ وَمَلْبُوسٌ وَمَشْمُومٌ وَمَرْكُوبٌ وَمَنْكُوحٌ، فَأَحْسَنُ طَعَامِهَا الْعَسَلُ وَهُوَ بَزْقَةُ ذُبَابَةٍ، وَأَكْثَرُ شَرَابِهَا الْمَاءُ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْحَيَوَانِ، وَأَفْضَلُ مَلْبُوسِهَا الدِّيبَاجُ وَهُوَ نَسْجُ دُودَةٍ، وَأَفْضَلُ الْمَشْمُومِ الْمِسْكُ وَهُوَ دَمُ فَأْرَةٍ، وَأَفْضَلُ الْمَرْكُوبِ الْفَرَسُ وَعَلَيْهَا يُقْتَلُ الرِّجَالُ، وَأَمَّا الْمَنْكُوحُ فَالنِّسَاءُ وَهُوَ مَبَالٌ فِي مَبَالٍ وَاللَّهِ إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتُزَيِّنُ أَحْسَنَهَا يُرَادُ بِهِ أَقْبَحُهَا. ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا مَثَلًا بِالزَّرْعِ فِي غَيْثٍ فَقَالَ: (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أَيْ مَطَرٍ (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) الْكُفَّارُ هُنَا: الزُّرَّاعُ لِأَنَّهُمْ يُغَطُّونَ الْبَذْرَ «3». وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا كَالزَّرْعِ يُعْجِبُ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ لِخُضْرَتِهِ بِكَثْرَةِ الْأَمْطَارِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَصِيرَ هَشِيمًا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا أَعْجَبَ الزُّرَّاعَ فَهُوَ غَايَةُ مَا يُسْتَحْسَنُ. وَقَدْ مَضَى مَعْنَى هَذَا الْمَثَلِ فِي (يُونُسَ) «4» وَ (الكهف) «5». وقيل:
__________
(1). راجع ج 6 ص (414)
(2). الدهقان- بكسر الدال وضمها-: التاجر، فارسي معرب.
(3). مأخوذ من الكفر- بفتح الكاف- وهو التغطية.
(4). راجع ج 8 ص (327)
(5). راجع ج 10 ص 412

(17/255)


الْكُفَّارُ هُنَا الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ إِعْجَابًا بِزِينَةِ الدُّنْيَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، فَإِنَّ أَصْلَ الْإِعْجَابِ لَهُمْ وَفِيهِمْ، وَمِنْهُمْ يَظْهَرُ ذَلِكَ، وَهُوَ التَّعْظِيمُ لِلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَفِي الْمُوَحِّدِينَ مِنْ ذَلِكَ فُرُوعٌ تَحْدُثُ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ، وَتَتَقَلَّلُ عِنْدَهُمْ وَتَدِقُّ إِذَا ذَكَرُوا الْآخِرَةَ. وَمَوْضِعُ الْكَافِ رَفْعٌ عَلَى الصِّفَةِ. (ثُمَّ يَهِيجُ) أَيْ يَجِفُّ بَعْدَ خُضْرَتِهِ (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) أَيْ مُتَغَيِّرًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ النُّضْرَةِ. (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أَيْ فُتَاتًا وَتِبْنًا فَيَذْهَبُ بَعْدَ حُسْنِهِ، كَذَلِكَ دُنْيَا الْكَافِرِ. (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) أَيْ لِلْكَافِرِينَ. وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ حَسَنٌ، وَيَبْتَدِئُ (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ) أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ) تَقْدِيرُهُ إِمَّا عَذَابٌ شَدِيدٌ وَإِمَّا مَغْفِرَةٌ، فَلَا يُوقَفُ عَلَى (شَدِيدٌ). (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) هَذَا تَأْكِيدُ مَا سَبَقَ، أَيْ تَغُرُّ الْكُفَّارَ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَالدُّنْيَا لَهُ مَتَاعٌ بَلَاغٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْعَمَلُ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ تَزْهِيدًا فِي الْعَمَلِ لِلدُّنْيَا، وَتَرْغِيبًا فِي الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ سَارِعُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. وَقِيلَ: سَارِعُوا بِالتَّوْبَةِ، لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى الْمَغْفِرَةِ، قَالَهُ الكلبي. وقيل التكبيرة الاولى مع الامام، قال مَكْحُولٌ. وَقِيلَ: الصَّفُّ الْأَوَّلُ. (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لَوْ وُصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. قَالَ الحسن: يعني جميع السموات وَالْأَرَضِينَ مَبْسُوطَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا. وَقِيلَ: يُرِيدُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَيْ لِكُلِ وَاحِدٍ جَنَّةٌ بِهَذِهِ السَّعَةِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: عَنَى بِهِ جَنَّةً وَاحِدَةً مِنَ الْجَنَّاتِ. وَالْعَرْضُ أَقَلُّ مِنَ الطُّولِ، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُعَبِّرُ عَنْ سَعَةِ الشَّيْءِ بِعَرْضِهِ دُونَ طُولِهِ. قَالَ:
كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ
وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلُّهُ فِي (آلِ عِمْرَانَ) «1». وَقَالَ طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ: قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)
__________
(1). راجع ج 4 ص 204

(17/256)


مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَرَأَيْتُمُ اللَّيْلَ إِذَا وَلَّى وَجَاءَ النَّهَارُ أَيْنَ يَكُونُ اللَّيْلُ؟ فَقَالُوا: لَقَدْ نَزَعْتَ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِثْلُهُ. (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) شَرْطُ الْإِيمَانِ لَا غَيْرَ، وَفِيهِ تَقْوِيَةُ الرَّجَاءِ. وَقَدْ قِيلَ: شَرْطُ الْإِيمَانِ هُنَا وَزَادَ عَلَيْهِ فِي (آلِ عِمْرَانَ) «1» فَقَالَ: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أَيْ إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تُنَالُ وَلَا تُدْخَلُ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي (الْأَعْرَافِ) «2» وَغَيْرِهَا. (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

[سورة الحديد (57): الآيات 22 الى 24]
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) قَالَ مُقَاتِلٌ: الْقَحْطُ وَقِلَّةُ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ. وَقِيلَ: الْجَوَائِحُ فِي الزَّرْعِ. (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) بِالْأَوْصَابِ وَالْأَسْقَامِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ، قَالَهُ ابْنُ حَيَّانَ. وَقِيلَ: ضِيقُ الْمَعَاشِ، وَهَذَا مَعْنًى رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. (إِلَّا فِي كِتابٍ) يَعْنِي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) الضَّمِيرُ فِي (نَبْرَأَها) عَائِدٌ عَلَى النُّفُوسِ أَوِ الْأَرْضِ أَوِ الْمَصَائِبِ أَوِ الْجَمِيعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْمُصِيبَةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْأَرْضَ وَالنَّفْسَ. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أَيْ خَلْقُ ذَلِكَ وَحِفْظُ جَمِيعِهِ (عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) هَيِّنٌ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ صَالِحٍ: لَمَّا أُخِذَ سعيد ابن جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَكَيْتُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قُلْتُ: أَبْكِي لِمَا أَرَى بِكَ وَلِمَا تذهب
__________
(1). راجع ج 4 ص (206)
(2). راجع ج 7 ص 209 [ ..... ]

(17/257)


إِلَيْهِ. قَالَ: فَلَا تَبْكِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ تَعَالَى: (مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ اكْتُبْ، فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلَقَدْ تَرَكَ لِهَذِهِ الْآيَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ الدَّوَاءَ فِي أَمْرَاضِهِمْ فَلَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ ثِقَةً بِرَبِّهِمْ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَقَالُوا قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَيَّامَ الْمَرَضِ وَأَيَّامَ الصِّحَّةِ، فَلَوْ حَرَصَ الْخَلْقُ عَلَى تَقْلِيلِ ذَلِكَ أَوْ زِيَادَتِهِ مَا قَدَرُوا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها). وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَتَّصِلُ بِمَا قَبْلُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هَوَّنَ عَلَيْهِمْ مَا يُصِيبُهُمْ فِي الْجِهَادِ مِنْ قَتْلٍ وَجَرْحٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُخَلِّفُهُمْ عَنِ الْجِهَادِ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ خُسْرَانٍ، فَالْكُلُّ مَكْتُوبٌ مُقَدَّرٌ لَا مَدْفَعَ لَهُ، وَإِنَّمَا عَلَى الْمَرْءِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ، ثُمَّ أَدَّبَهُمْ فَقَالَ هَذَا: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ) أَيْ حَتَّى لَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنَ الرِّزْقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ لَمْ يَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْهُ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ طَعْمَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ) ثُمَّ قَرَأَ (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ) أَيْ كَيْ لَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَمْ يُقَدَّرْ لَكُمْ وَلَوْ قُدِّرَ لَكُمْ لَمْ يَفُتْكُمْ (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أَيْ مِنَ الدُّنْيَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنَ الْعَافِيَةِ وَالْخِصْبِ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَحْزَنُ وَيَفْرَحُ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يَجْعَلُ مُصِيبَتَهُ صَبْرًا، وَغَنِيمَتَهُ شُكْرًا. وَالْحُزْنُ وَالْفَرَحُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُمَا هُمَا اللَّذَانِ يُتَعَدَّى فِيهِمَا إلى مالا يجوز، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ «1» فَخُورٍ) أي متكبر بما أوتى من الدنيا، فخور به على الناس. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (آتاكُمْ) بِمَدِّ الْأَلِفِ أَيْ أَعْطَاكُمْ مِنَ الدُّنْيَا. وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَأَبُو عَمْرٍو (أَتَاكُمْ) بِقَصْرِ الْأَلِفِ وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. أَيْ جَاءَكُمْ، وَهُوَ مُعَادِلٌ لِ (فاتَكُمْ) وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَفَاتَكُمْ. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: يَا ابن آدم مالك تَأْسَى عَلَى مَفْقُودٍ لَا يَرُدُّهُ عَلَيْكَ الْفَوْتُ، أَوْ تَفْرَحُ بِمَوْجُودٍ لَا يَتْرُكُهُ فِي يَدَيْكَ الموت. وقيل لبرز جمهر: أَيُّهَا الْحَكِيمُ! مَالَكَ لَا تَحْزَنُ عَلَى مَا فات،
__________
(1). راجع ج 14 ص 69.

(17/258)


وَلَا تَفْرَحُ بِمَا هُوَ آتٍ؟ قَالَ: لِأَنَّ الْفَائِتَ لَا يُتَلَافَى بِالْعَبْرَةِ، وَالْآتِيَ لَا يُسْتَدَامُ بِالْحَبْرَةِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى: الدُّنْيَا مُبِيدٌ وَمُفِيدٌ، فَمَا أَبَادَ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ، وَمَا أَفَادَ آذَنَ بِالرَّحِيلِ. وَقِيلَ: الْمُخْتَالُ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِ الِافْتِخَارِ، وَالْفَخُورُ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ، وَكِلَاهُمَا شِرْكٌ خَفِيٌّ. وَالْفَخُورُ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَرَّاةِ تَشُدُّ أَخْلَافَهَا لِيَجْتَمِعَ فِيهَا اللَّبَنُ، فَيَتَوَهَّمُ الْمُشْتَرِي أَنَّ ذَلِكَ مُعْتَادٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الَّذِي يَرَى مِنْ نَفْسِهِ حَالًا وَزِينَةً وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مدع فهو الفخور. قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) أَيْ لَا يُحِبُّ الْمُخْتَالِينَ (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) فَ (الَّذِينَ) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ نَعْتًا لِلْمُخْتَالِ. وَقِيلَ: رَفْعٌ بِابْتِدَاءٍ أَيِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ. قِيلَ: أَرَادَ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِبَيَانِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي فِي كُتُبِهِمْ، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلتهم «1»، قاله السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) يَعْنِي بِالْعِلْمِ (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أَيْ بِأَلَّا يُعَلِّمُوا النَّاسَ شَيْئًا. زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّهُ الْبُخْلُ بِأَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق، قاله عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْعَرِيُّ. وَقَالَ طَاوُسٌ: إِنَّهُ الْبُخْلُ بِمَا فِي يَدَيْهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ الْمَعْنَى. وَفَرَّقَ أَصْحَابُ الْخَوَاطِرِ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالسَّخَاءِ بِفَرْقَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْبَخِيلَ الَّذِي يَلْتَذُّ بِالْإِمْسَاكِ. وَالسَّخِيُّ الَّذِي يَلْتَذُّ بِالْإِعْطَاءِ. الثَّانِي- أَنَّ الْبَخِيلَ الَّذِي يُعْطِي عِنْدَ السُّؤَالِ، وَالسَّخِيُّ الَّذِي يُعْطِي بِغَيْرِ سُؤَالٍ. (وَمَنْ يَتَوَلَّ) أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ (فَإِنَّ اللَّهَ) غَنِيٌّ عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا حَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِهَا وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بِهَا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (بِالْبُخْلِ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ. وَقَرَأَ أَنَسٌ وعبيد بن عمير ويحيى ابن يَعْمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (بِالْبَخَلِ) بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ لُغَةُ الْأَنْصَارِ. وَقَرَأَ أَبُو العالية وابن السميقع (بِالْبَخْلِ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ. وَعَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ (الْبُخُلِ) بِضَمَّتَيْنِ وَكُلُّهَا لُغَاتٌ مَشْهُورَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ فِي آخر (آل عمران) «2».
__________
(1). يريد ما يأكلونه من الناس باسم الدين من الأموال.
(2). راجع ج 4 ص 293

(17/259)


لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) بِغَيْرِ (هُوَ). وَالْبَاقُونَ (هُوَ الْغَنِيُّ) عَلَى أَنْ يَكُونَ فَصْلًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً و (الْغَنِيُّ) خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. وَمَنْ حَذَفَهَا فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا، لِأَنَّ حَذْفَ الْفَصْلِ أَسْهَلُ من حذف المبتدأ.

[سورة الحديد (57): الآيات 25 الى 26]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) أَيْ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَيِّنَةِ وَالشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ. وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، بِذَلِكَ دَعَتِ الرُّسُلُ: نُوحٌ فَمَنْ دُونَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أَيِ الْكُتُبَ، أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ خَبَرَ مَا كَانَ قَبْلَهُمْ (وَالْمِيزانَ) قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ وَيُتَعَامَلُ (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أَيْ بِالْعَدْلِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: (بِالْقِسْطِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْمِيزَانَ الْمَعْرُوفَ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَرَادَ بِهِ الْعَدْلَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمِيزَانِ الْمَعْرُوفِ، فَالْمَعْنَى أَنْزَلْنَا الْكِتَابَ وَوَضَعْنَا الْمِيزَانَ فَهُوَ مِنْ بَابِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) ثُمَّ قَالَ: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ «1». (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) رَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ أَرْبَعَ بركات من السماء إلى الأرض: الحديد
__________
(1). راجع ص 154 من هذا الجزء.

(17/260)


وَالنَّارُ وَالْمَاءُ وَالْمِلْحُ (. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ نَزَلَتْ مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَعَصَا مُوسَى وَكَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ، طُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ مَعَ طُولِ مُوسَى، وَالْحَدِيدُ أُنْزِلَ مَعَهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: السِّنْدَانُ وَالْكَلْبَتَانِ وَالْمِيقَعَةُ وَهِيَ الْمِطْرَقَةُ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَزَلَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ مِنَ الْحَدِيدِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنْ آلَةِ الْحَدَّادِينَ: السِّنْدَانُ، وَالْكَلْبَتَانِ، وَالْمِيقَعَةُ، وَالْمِطْرَقَةُ، وَالْإِبْرَةُ. وَحَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ قَالَ: وَالْمِيقَعَةُ مَا يُحَدَّدُ بِهِ، يُقَالُ وَقَعْتُ الْحَدِيدَةَ أَقَعُهَا أَيْ حَدَدْتُهَا. وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْمِيقَعَةُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْلَفُهُ الْبَازِيُّ فَيَقَعُ عَلَيْهِ، وَخَشَبَةُ الْقَصَّارِ الَّتِي يُدَقُّ عَلَيْهَا، وَالْمِطْرَقَةُ وَالْمِسَنُّ الطَّوِيلُ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَدِيدَ أُنْزِلَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ. (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أَيْ لِإِهْرَاقِ الدِّمَاءِ. وَلِذَلِكَ نُهِىَ عَنِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ، لِأَنَّهُ يَوْمٌ جَرَى فِيهِ الدَّمُ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ فِيهَا الدَّمُ). وَقِيلَ: (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) أَيْ أَنْشَأْنَاهُ وَخَلَقْنَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) «1» وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. فَيَكُونُ مِنَ الْأَرْضِ غَيْرُ مُنَزَّلٍ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَيْ أَخْرَجَ الْحَدِيدَ مِنَ الْمَعَادِنِ وَعَلَّمَهُمْ صَنْعَتَهُ بِوَحْيِهِ. (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) يَعْنِي السِّلَاحَ وَالْكُرَاعَ وَالْجُنَّةَ. وَقِيلَ: أَيْ فِيهِ مِنْ خَشْيَةِ الْقَتْلِ خَوْفٌ شَدِيدٌ. (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي جُنَّةً. وَقِيلَ: يَعْنِي انْتِفَاعَ النَّاسِ بِالْمَاعُونِ مِنَ الْحَدِيدِ، مِثْلَ السِّكِّينِ وَالْفَأْسِ وَالْإِبْرَةِ وَنَحْوِهِ (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أَيْ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ لِيَعْلَمَ مَنْ يَنْصُرُهُ. وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أَيْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ، لِيُتَعَامَلَ النَّاسُ بِالْحَقِّ، (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) وليرى الله من ينصر دينه (وَ) ينصر (رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْصُرُونَهُمْ لَا يُكَذِّبُونَهُمْ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِمْ (بِالْغَيْبِ) أَيْ وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُمْ. (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (قَوِيٌّ) فِي أَخْذِهِ (عَزِيزٌ) أَيْ مَنِيعٌ غَالِبٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وقيل: (بِالْغَيْبِ) بالإخلاص.
__________
(1). راجع ج 15 ص 235

(17/261)


ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) فَصَّلَ مَا أَجْمَلَ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ بِالْكُتُبِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلَ النُّبُوَّةَ فِي نَسْلِهِمَا (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أَيْ جَعَلْنَا بَعْضَ ذُرِّيَّتِهِمَا الْأَنْبِيَاءَ، وَبَعْضَهُمْ أُمَمًا يَتْلُونَ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ مِنَ السَّمَاءِ: التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ الْخَطُّ بِالْقَلَمِ (فَمِنْهُمْ) أَيْ مَنِ ائْتَمَّ بِإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ (مُهْتَدٍ). وَقِيلَ: (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) أَيْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُهْتَدُونَ. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) كَافِرُونَ خَارِجُونَ عَنِ الطَّاعَةِ.

[سورة الحديد (57): آية 27]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ قَفَّيْنا) أَيْ أَتْبَعْنَا (عَلى آثارِهِمْ) أَيْ عَلَى آثَارِ الذُّرِّيَّةِ. وَقِيلَ: عَلَى آثَارِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ (بِرُسُلِنا) مُوسَى وَإِلْيَاسَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَيُونُسَ وَغَيْرِهِمْ (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وَهُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (آلِ عِمْرَانَ) «1». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) عَلَى دِينِهِ يَعْنِي الْحَوَارِيِّينَ وَأَتْبَاعَهُمْ (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) أَيْ مَوَدَّةً فَكَانَ يُوَادُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا فِي الْإِنْجِيلِ بِالصُّلْحِ وَتَرْكِ إِيذَاءِ النَّاسِ وَأَلَانَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَالرَّأْفَةُ اللِّينُ، وَالرَّحْمَةُ الشَّفَقَةُ. وَقِيلَ: الرَّأْفَةُ تَخْفِيفُ الْكَلِّ، وَالرَّحْمَةُ تَحْمُّلُ الثِّقَلِ. وَقِيلَ: الرَّأْفَةُ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ. وَتَمَّ الْكَلَامُ. ثم قال:
__________
(1). راجع ج 4 ص 5

(17/262)


(وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) أَيْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ الرَّهْبَانِيَّةُ مَنْصُوبَةً بِإِضْمَارِ فَعْلٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَابْتَدَعُوهَا رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ ابْتَدَعُوهَا رَهْبَانِيَّةً، كَمَا تَقُولُ رَأَيْتُ زَيْدًا وَعُمَرًا كَلَّمْتُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا فَغَيَّرُوا وَابْتَدَعُوا فِيهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ، إِحْدَاهُمَا بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهِيَ الْخَوْفُ مِنَ الرَّهَبِ. الثَّانِيَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الرُّهْبَانِ كَالرُّضْوَانِيَّةِ مِنَ الرُّضْوَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْمَشَقَّاتِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالنِّكَاحِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْكُهُوفِ وَالصَّوَامِعِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُلُوكَهُمْ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا وَبَقِيَ نَفَرٌ قَلِيلٌ فَتَرَهَّبُوا وَتَبَتَّلُوا. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ مُلُوكًا بَعْدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ارْتَكَبُوا الْمَحَارِمَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، فَأَنْكَرَهَا عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ بَقِيَ عَلَى مِنْهَاجِ عِيسَى فَقَتَلُوهُمْ، فَقَالَ قَوْمٌ بَقُوا بَعْدَهُمْ: نَحْنُ إِذَا نَهَيْنَاهُمْ قَتَلُونَا فَلَيْسَ يَسَعُنَا الْمَقَامُ بَيْنَهُمْ، فَاعْتَزَلُوا النَّاسَ وَاتَّخَذُوا الصَّوَامِعَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الرَّهْبَانِيَّةُ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا رَفْضُ النِّسَاءِ وَاتِّخَاذِ الصَّوَامِعِ. وَفِي خَبَرٍ مَرْفُوعٍ: (هِيَ لُحُوقُهُمْ بِالْبَرَارِيِّ وَالْجِبَالِ). (مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) أَيْ مَا فَرَضْنَاهَا عَلَيْهِمْ وَلَا أَمَرْنَاهُمْ بِهَا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ) أَيْ مَا أَمَرْنَاهُمْ إِلَّا بِمَا يُرْضِي اللَّهَ، قَالَهُ ابْنُ مُسْلِمٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: (مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) مَعْنَاهُ لَمْ نَكْتُبْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا الْبَتَّةَ. وَيَكُونُ (ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ) بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ وَالْأَلِفِ فِي (كَتَبْناها) وَالْمَعْنَى: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله. وقيل: (إِلَّا ابْتِغاءَ) الاستثناء مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ لَكِنِ ابْتَدَعُوهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ. (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أَيْ فَمَا قَامُوا بِهَا حَقَّ الْقِيَامِ. وَهَذَا خُصُوصٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَرْعَوْهَا بَعْضُ الْقَوْمِ، وَإِنَّمَا تَسَبَّبُوا بِالتَّرَهُّبِ إِلَى طَلَبِ الرِّيَاسَةِ عَلَى النَّاسِ وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ «1» اللَّهِ) وَهَذَا فِي قَوْمٍ أَدَّاهُمُ التَّرَهُّبُ إِلَى طَلَبِ الرِّيَاسَةِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ. وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) قَالَ: كَانَتْ مُلُوكٌ بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل،
__________
(1). راجع ج 8 ص 122

(17/263)


وَكَانَ فِيهِمْ مُؤْمِنُونَ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإَنْجِيلَ وَيَدْعُونَ إِلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ أُنَاسٌ لِمَلِكِهِمْ: لَوْ قَتَلْتَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ. فَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: نَحْنُ نَكْفِيكُمْ أَنْفُسَنَا. فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: ابْنُوا لَنَا أُسْطُوَانَةً ارْفَعُونَا فِيهَا، وَأَعْطَوْنَا شَيْئًا نَرْفَعُ بِهِ طَعَامَنَا وَشَرَابَنَا وَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دَعُونَا نَهِيمُ فِي الْأَرْضِ وَنَسِيحُ، وَنَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُ الْوُحُوشُ فِي الْبَرِيَّةِ، فَإِذَا قَدَرْتُمْ عَلَيْنَا فَاقْتُلُونَا. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: ابْنُوا لَنَا دُورًا فِي الْفَيَافِي ونحتفر الْآبَارَ وَنَحْتَرِثُ الْبُقُولَ فَلَا تَرَوْنَنَا. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا وَلَهُ حَمِيمٌ مِنْهُمْ فَفَعَلُوا، فَمَضَى أُولَئِكَ عَلَى مِنْهَاجِ عِيسَى، وَخَلَفَ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِهِمْ مِمَّنْ قَدْ غَيَّرَ الْكِتَابَ فَقَالُوا: نَسِيحُ وَنَتَعَبَّدُ كَمَا تَعَبَّدَ أُولَئِكَ، وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِإِيمَانِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ) الْآيَةَ. يَقُولُ: ابْتَدَعَهَا هَؤُلَاءِ الصَّالِحُونَ (فَما رَعَوْها) الْمُتَأَخِّرُونَ (حَقَّ رِعايَتِها) (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) يَعْنِي الَّذِينَ ابْتَدَعُوهَا أَوَّلًا وَرَعَوْهَا (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) يَعْنِي الْمُتَأَخِّرِينَ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، جَاءُوا مِنَ الْكُهُوفِ وَالصَّوَامِعِ وَالْغِيرَانِ فَآمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّالِثَةُ- وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، فَيَنْبَغِي لِمَنِ ابْتَدَعَ خَيْرًا أَنْ يَدُومَ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْدِلَ عَنْهُ إِلَى ضِدِّهِ فَيَدْخُلُ فِي الْآيَةِ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ- وَاسْمُهُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ- قَالَ: أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، فَدُومُوا عَلَى الْقِيَامِ إِذْ فَعَلْتُمُوهُ وَلَا تَتْرُكُوهُ، فَإِنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمُ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَابَهُمُ اللَّهُ بِتَرْكِهَا فَقَالَ: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها). الرَّابِعَةُ- وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْعُزْلَةِ عَنِ النَّاسِ فِي الصَّوَامِعِ وَالْبُيُوتِ، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ وَتَغَيُّرِ الْأَصْدِقَاءِ وَالْإِخْوَانِ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ (الْكَهْفِ) «1» مُسْتَوْفًى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
__________
(1). راجع ج 10 ص 360

(17/264)


خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَاهُ فَقَالَ: مَرَّ رجل بغار فيه شي مِنْ مَاءٍ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِأَنْ يُقِيمَ فِي ذَلِكَ الْغَارِ، فَيَقُوتُهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَاءٍ وَيُصِيبُ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْبَقْلِ وَيَتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا. قَالَ: لَوْ أَنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَإِنْ أَذِنَ لِي فَعَلْتُ وَإِلَّا لَمْ أَفْعَلْ، فأتاه فقال: يا نبى الله! انى مرت بِغَارٍ فِيهِ مَا يَقُوتُنِي مِنَ الْمَاءِ وَالْبَقْلِ، فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِأَنْ أُقِيمَ فِيهِ وَأَتَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (م أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَمَقَامُ أَحَدِكُمْ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ سِتِّينَ سَنَةً (. وَرَوَى الْكُوفِيُّونَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلْ تَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ) قَالَ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ هَلْ تَدْرِي مِنْ أَيْنَ اتَّخَذَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الرَّهْبَانِيَّةَ ظَهَرَتْ عَلَيْهِمُ الْجَبَابِرَةُ بَعْدَ عِيسَى يَعْمَلُونَ بِمَعَاصِي اللَّهِ فَغَضِبَ أَهْلُ الْإِيمَانِ فَقَاتَلُوهُمْ فَهُزِمَ أَهْلُ الْإِيمَانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ فَقَالُوا إِنْ أَفَنَوْنَا فَلَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ أَحَدٌ يَدْعُونَ إِلَيْهِ فَتَعَالَوْا نَفْتَرِقُ فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي وَعَدَنَا عِيسَى- يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَفَرَّقُوا فِي غِيرَانِ الْجِبَالِ وَأَحْدَثُوا رَهْبَانِيَّةً فَمِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ- وَتَلَا (وَرَهْبانِيَّةً) الْآيَةَ- أَتَدْرِي مَا رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي الهجرة والجهاد والصوم والصلاة وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالتَّكْبِيرُ عَلَى التِّلَاعِ يَا ابْنَ مَسْعُودٍ اخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَنَجَا مِنْهُمْ فِرْقَةٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا وَاخْتَلَفَ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ النَّصَارَى عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَنَجَا مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا فِرْقَةٌ وَازَتِ الْمُلُوكَ وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَتَّى قُتِلُوا وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ أَقَامُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى بن مَرْيَمَ فَأَخَذَتْهُمُ الْمُلُوكُ وَقَتَلَتْهُمْ وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ وَتَرَهَّبُوا فِيهَا وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) الْآيَةَ- فَمَنْ

(17/265)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

آمَنَ بِي وَاتَّبَعَنِي وَصَدَّقَنِي فَقَدْ رَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسقون) يعنى الذي تهودوا وتهصروا. وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَفِي الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ أَيْضًا فَلَا تَعْجَبْ مِنْ أَهْلِ عَصْرِكَ ان أصروا على الكفر. والله أعلم.

[سورة الحديد (57): الآيات 28 الى 29]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أَيْ مِثْلَيْنِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى إِيمَانِكُمْ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليهما وَسَلَّمَ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ «1» فِيهِ. وَالْكِفْلُ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ وَقَدْ مَضَى فِي (النِّسَاءِ) «2» وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كِسَاءٌ يَكْتَفِلُ بِهِ الراكب فيحفظه من السقوط، قاله ابن جريح. وَنَحْوُهُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ، قَالَ: اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْكِسَاءِ الَّذِي يَحْوِيهِ رَاكِبُ الْبَعِيرِ عَلَى سَنَامِهِ إِذَا ارْتَدَفَهُ لِئَلَّا يَسْقُطَ، فَتَأْوِيلُهُ يُؤْتِكُمْ نَصِيبَيْنِ يَحْفَظَانِكُمْ مِنْ هَلَكَةِ الْمَعَاصِي كَمَا يَحْفَظُ الْكِفْلُ الرَّاكِبَ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: (كِفْلَيْنِ) ضِعْفَيْنِ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: (كِفْلَيْنِ) أَجْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَتْ (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) افتخر مؤمنو أهل
__________
(1). راجع ج 13 ص (297)
(2). راجع ج 4 ص 295

(17/266)


الْكِتَابِ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَةَ إِنَّمَا لَهَا مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ وَاحِدٍ، فَقَالَ: الْحَسَنَةُ اسْمٌ عَامٌّ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْإِيمَانِ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى عُمُومِهِ، فَإِذَا انْطَلَقَتِ الْحَسَنَةُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ إِلَّا مِثْلُ وَاحِدٍ. وَإِنِ انْطَلَقَتْ عَلَى حَسَنَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى نَوْعَيْنِ كَانَ الثَّوَابُ عَلَيْهَا مثلين، بدليل هذه الآلة فَإِنَّهُ قَالَ: (كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) وَالْكِفْلُ النَّصِيبُ كَالْمِثْلِ، فَجَعَلَ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَآمَنَ بِرَسُولِهِ نَصِيبَيْنِ، نَصِيبًا لِتَقْوَى اللَّهِ وَنَصِيبًا لِإِيمَانِهِ بِرَسُولِهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي جُعِلَ لَهَا عَشْرٌ هِيَ الَّتِي جَمَعَتْ عَشَرَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ عَشَرَةَ أَنْوَاعٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الْآيَةَ بِكَمَالِهَا. فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الْعَشَرَةُ الَّتِي هِيَ ثَوَابُهَا أَمْثَالُهَا فَيَكُونُ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا مِثْلٌ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ، لِخُرُوجِهِ عَنْ عُمُومِ الظَّاهِرِ، فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) «1» بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ، لِأَنَّ مَا جَمَعَ عَشْرَ حَسَنَاتٍ فَلَيْسَ يُجْزَى عَنْ كُلِّ حَسَنَةٍ إِلَّا بِمِثْلِهَا. وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ جَزَاءُ الْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَالْأَخْبَارُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا «2». وَلَوْ كَانَ كَمَا ذُكِرَ لَمَا كَانَ بَيْنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ فَرْقٌ. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً) أَيْ بَيَانًا وَهُدًى، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: ضِيَاءٌ (تَمْشُونَ بِهِ) فِي الْآخِرَةِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَفِي الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ تَمْشُونَ بِهِ فِي النَّاسِ تَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَكُونُونَ رُؤَسَاءَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ لَا تزول عنكم رئاسة كُنْتُمْ فِيهَا. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَافُوا أَنْ تَزُولَ رئاستهم لَوْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِنَّمَا كَانَ يَفُوتُهُمْ أَخْذُ رِشْوَةٍ يَسِيرَةٍ مِنَ الضَّعَفَةِ بِتَحْرِيفِ أَحْكَامِ اللَّهِ، لَا الرِّيَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِي الدِّينِ. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذُنُوبَكُمْ (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أَيْ لِيَعْلَمَ، وَ (أَنْ لَا) صِلَةٌ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ لِأَنْ يَعْلَمَ وَ (لَا) صِلَةٌ زَائِدَةٌ فِي كُلِّ كَلَامٍ دَخَلَ عليه
__________
(1). راجع ج 14 ص (187)
(2). راجع ج 7 ص 150 وج 13 ص 244

(17/267)


جَحْدٌ. قَالَ قَتَادَةُ: حَسَدَ أَهْلُ الْكِتَابِ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أَيْ لِأَنْ يعلم أهل الكتاب أنهم (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَتِ الْيَهُودُ يُوشِكُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَّا نَبِيٌّ يَقْطَعُ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْعَرَبِ كَفَرُوا فَنَزَلَتْ: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) أَيْ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ (أَلَّا يَقْدِرُونَ) أي أنهم يقدرون، كقوله تعالى: (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ «1» قَوْلًا). وَعَنِ الْحَسَنِ: (لَيْلَا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ. وَرَوَى قُطْرُبٌ بِكَسْرِ اللَّامِ وَإِسْكَانِ «2» الْيَاءِ. وَفَتْحُ لام الجرلغة مَعْرُوفَةٌ. وَوَجْهُ إِسْكَانِ الْيَاءِ أَنَّ هَمْزَةَ (أَنْ) حُذِفَتْ فَصَارَتْ (لَنْ) فَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي اللَّامِ فَصَارَ (لِلَّا) فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ اللَّامَاتُ أُبْدِلَتِ الْوُسْطَى مِنْهَا يَاءً، كَمَا قَالُوا فِي أَمَّا: أَيْمَا. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (لِيلَا) بِكَسْرِ اللَّامِ إِلَّا أَنَّهُ أَبْقَى اللَّامَ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ فِيهَا فَهُوَ أَقْوَى مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (لِكَيْلَا يَعْلَمَ) وَعَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (لِأَنْ يَعْلَمَ). وَعَنْ عِكْرِمَةَ (لِيَعْلَمَ) وَهُوَ خِلَافُ الْمَرْسُومِ. (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) قِيلَ: الْإِسْلَامُ. وَقِيلَ: الثَّوَابُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مِنْ رِزْقِ اللَّهِ. وَقِيلَ: نِعَمُ اللَّهِ الَّتِي لَا تُحْصَى. (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ فَيَصْرِفُونَ النُّبُوَّةَ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْ يُحِبُّونَ. وَقِيلَ: (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) أَيْ هُوَ لَهُ (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ). وَفِي الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ: (إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُعْطِيَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الْإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صَلَاةَ الْعَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُعْطِيتُمُ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ به حتى الشَّمْسِ فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ قَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَقَلُّ عَمَلًا وَأَكْثَرُ أَجْرًا قَالَ هل
__________
(1). راجع ج 11 ص 236.
(2). روى قطرب عن الحسن أيضا كما في السمين وغيره، فتكون للحسن قراءتان فتح اللام وكسرها مع اسكان الياء فيهما. [ ..... ]

(17/268)