تفسير القرطبي

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)

ظلمتكم من أجركم من شي قَالُوا لَا فَقَالَ فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) فِي رِوَايَةٍ: (فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا رَبَّنَا) الْحَدِيثَ (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). [تَمَّ تفسير سورة (الحديد) والحمد لله «1» [.

[تفسير سورة المجادلة]
تفسير سورة المجادلة وَهِيَ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ آيَةً مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. إِلَّا رِوَايَةَ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْهَا مَدَنِيٌّ وَبَاقِيَهَا مَكِّيٌّ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَ جَمِيعُهَا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) نزلت بمكة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المجادلة (58): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) الَّتِي اشْتَكَتْ إِلَى اللَّهِ هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ. وَقِيلَ بِنْتُ حَكِيمٍ. وَقِيلَ اسْمُهَا جَمِيلَةُ. وَخَوْلَةُ أَصَحُّ، وَزَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ أَخُو عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَقَدْ مَرَّ بِهَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى حِمَارٍ فَاسْتَوْقَفَتْهُ طَوِيلًا وَوَعَظَتْهُ وَقَالَتْ: يَا عُمَرَ قَدْ كُنْتَ تُدْعَى عُمَيْرًا، ثُمَّ قِيلَ لَكَ عُمَرُ، ثُمَّ قِيلَ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُمَرَ، فَإِنَّهُ مَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ خَافَ الْفَوْتَ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ خَافَ الْعَذَابَ، وَهُوَ وَاقِفٌ يَسْمَعُ كَلَامَهَا، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَقِفُ لِهَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الْوُقُوفَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ حَبَسَتْنِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى آخِرِهِ لَا زِلْتُ إِلَّا لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، أَتَدْرُونَ من هذه العجوز؟ هي خولة
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ح، س، ط، هـ.

(17/269)


بِنْتُ ثَعْلَبَةَ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، أَيَسْمَعُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْلَهَا وَلَا يَسْمَعُهُ عُمَرُ؟ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: تبارك الذي وسع سمعه كل شي، إِنِّي لَأَسْمَعَ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَكَلَ شَبَابِي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، حَتَّى إِذَا كَبِرَ سِنِّي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ! فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ. وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ تَشْكُو إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها). وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ. وَقِيلَ: بِنْتُ خُوَيْلِدٍ. وَلَيْسَ هَذَا بِمُخْتَلَفٍ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَبُوهَا وَالْآخَرُ جَدُّهَا فَنُسِبَتْ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَزَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ أَخُو عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ الْخَزْرَجِيَّةُ، كَانَتْ تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَخُو عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَكَانَتْ حَسَنَةَ الْجِسْمِ، فَرَآهَا زَوْجُهَا سَاجِدَةً فَنَظَرَ عَجِيزَتَهَا فَأَعْجَبَهُ أَمْرُهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَتْ أَرَادَهَا فَأَبَتْ فَغَضِبَ عَلَيْهَا- قَالَ عُرْوَةُ «1»: وَكَانَ امْرَأً بِهِ لَمَمٌ «2» فَأَصَابَهُ بَعْضُ لَمَمِهِ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَكَانَ الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ مِنَ الطَّلَاقِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: (حَرُمْتِ عَلَيْهِ) فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا ذَكَرَ طَلَاقًا، ثُمَّ قَالَتْ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَوَحْدَتِي وَوَحْشَتِي وَفِرَاقَ زَوْجِي وَابْنَ عَمِّي وَقَدْ نَفَضْتُ لَهُ بَطْنِي، فَقَالَ: (حَرُمْتِ عَلَيْهِ) فَمَا زالت تراجعه ومراجعها حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ. وَرَوَى الْحَسَنُ: أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ نَسَخَ اللَّهُ سُنَنَ الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنَّ زَوْجِي ظَاهَرَ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما أوحى إلي في هذا شي) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُوحِيَ إِلَيْكَ فِي كل شي وَطُوِيَ عَنْكَ هَذَا؟! فَقَالَ: (هُوَ مَا قُلْتُ لَكِ) فَقَالَتْ: إِلَى اللَّهِ أَشْكُو لَا إِلَى رسوله.
__________
(1). عروة هو راوي حديث عائشة المتقدم.
(2). اللم: طرف من الجنون يلم بالإنسان أي يعتريه.

(17/270)


فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) الْآيَةَ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ قَالَ: إِنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ خُوَيْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: ظَاهَرَ حِينَ كَبِرَتْ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ الظِّهَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَوْسٍ: (اعْتِقْ رَقَبَةً) قَالَ: مَالِي بِذَلِكَ يَدَانِ. قَالَ: (فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) قَالَ: أَمَا إِنِّي إِذَا أَخْطَأَنِي أَنْ آكُلَ فِي يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَكِلُّ بَصَرِي. قَالَ: (فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) قَالَ: مَا أَجِدُ إِلَّا أَنْ تُعِينَنِي مِنْكَ بِعَوْنٍ وَصِلَةٍ. قَالَ: فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ لَهُ [وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1»]. (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) قَالَ: فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ عِنْدَهُ مِثْلَهَا وَذَلِكَ لِسِتِّينَ مِسْكِينًا، وَفِي التِّرْمِذِيِّ وسنن ابن ماجة: أن سلمة ابن صَخْرٍ الْبَيَاضِيَّ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: (اعْتِقْ رَقَبَةً) قَالَ: فَضَرَبْتُ صَفْحَةَ عُنُقِي بِيَدِي. فَقُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ غَيْرَهَا. قَالَ: (فَصُمْ شَهْرَيْنِ) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهَلْ أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلَّا فِي الصِّيَامِ. قَالَ: (فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ: رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ بنت دليج ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ) فَقَالَتْ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ حَاجَتِي. [ثُمَّ عَادَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَرُمْتِ عَلَيْهِ) فَقَالَتْ: إِلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إِلَيْهِ «2»] وَعَائِشَةُ تَغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ تَحَوَّلَتْ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَذَهَبَتْ أَنْ تُعِيدَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: اسْكُتِي فَإِنَّهُ قَدْ نَزَلَ الْوَحْيُ. فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَوْجِهَا: (اعْتِقْ رَقَبَةً) قَالَ: لَا أَجِدُ. قَالَ: (صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) قَالَ: إِنْ لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ خِفْتُ أَنْ يَعْشُوَ بَصَرِي. قَالَ: (فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا). قَالَ: فَأَعِنِّي. فَأَعَانَهُ بِشَيْءٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: أَهْلُ التفسير على أنها خولة
__________
(1). الزيادة من ح، ز، ل، هـ.
(2). الزيادة من الأحكام لابن العربي.

(17/271)


الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)

وَزَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَسَبِهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَنْصَارِيَّةٌ وَهِيَ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، وقال بعضهم: هي بنت دليج، وَقِيلَ: هِيَ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ بِنْتُ الصَّامِتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَمَةٌ كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَهِيَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) لِأَنَّهُ كَانَ يُكْرِهُهَا عَلَى الزِّنَى. وَقِيلَ: هِيَ بِنْتُ حَكِيمٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَنَاقِضٍ، يَجُوزُ أَنْ تُنْسَبَ مَرَّةً إِلَى أَبِيهَا، وَمَرَّةً إِلَى أُمِّهَا، وَمَرَّةً إِلَى جَدِّهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَمَةً كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَقِيلَ لَهَا أَنْصَارِيَّةٌ بِالْوَلَاءِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي عِدَادِ الْأَنْصَارِ وَإِنْ كَانَ من المنافقين. الثانية- قُرِئَ (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) بِالْادْغَامِ وَ (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) بِالْإِظْهَارِ. وَالْأَصْلُ فِي السَّمَاعِ إِدْرَاكُ الْمَسْمُوعَاتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِدْرَاكُ الْمَسْمُوعِ. قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي مَعْنَى السَّمِيعِ: إِنَّهُ الْمُدْرِكُ لِلْأَصْوَاتِ الَّتِي يُدْرِكُهَا الْمُخَلِّقُونَ بِآذَانِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُذُنٌ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ الْأَصْوَاتَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْصُوفٍ بِالْحِسِّ الْمُرَكَّبِ فِي الْأُذُنِ، كَالْأَصَمِّ مِنَ النَّاسِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ لَهُ هَذِهِ الْحَاسَّةُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِإِدْرَاكِ الصَّوْتِ. وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ صِفَتَانِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَالْإِرَادَةِ، فَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لَمْ يَزَلِ الْخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَّصِفًا بِهِمَا. وَشَكَى وَاشْتَكَى بمعنى واحد. وقرى (تحاورك) أي تراجعك الكلام و (تُجادِلُكَ) أي تسائلك.

[سورة المجادلة (58): آية 2]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)

(17/272)


فِيهِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ) «1» قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ (يَظَّاهَرُونَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَأَلِفٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (يظاهرون) بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَالظَّاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ. وقرا أبو العالية وعاصم وزر ابن حُبَيْشٍ (يُظَاهِرُونَ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ وَأَلِفٍ وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي (الْأَحْزَابِ) «2». وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ (يَتَظَاهَرُونَ) وَهِيَ مَعْنَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ. وَذَكَرَ الظَّهْرَ كِنَايَةً عَنْ مَعْنَى الرُّكُوبِ، وَالْآدَمِيَّةُ إِنَّمَا يُرْكَبُ بَطْنُهَا وَلَكِنْ كَنَّى عَنْهُ بِالظَّهْرِ، لِأَنَّ مَا يُرْكَبُ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيَّاتِ فَإِنَّمَا يُرْكَبُ ظَهْرُهُ، فَكَنَّى بِالظَّهْرِ عَنِ الرُّكُوبِ. وَيُقَالُ: نَزَلَ عَنِ امْرَأَتِهِ أَيْ طَلَّقَهَا كَأَنَّهُ نَزَلَ عَنْ مَرْكُوبٍ. وَمَعْنَى أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي: أَيْ أَنْتِ عَلَيَّ مُحَرَّمَةٌ لَا يَحِلُّ لِي رُكُوبُكِ. الثَّانِيَةُ- حَقِيقَةُ الظِّهَارِ تَشْبِيهُ ظَهْرٍ بِظَهْرٍ، وَالْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ مِنْهُ تَشْبِيهُ ظَهْرٍ مُحَلَّلٍ بِظَهْرٍ مُحَرَّمٍ، وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَنَّهُ مُظَاهِرٌ. وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَنَّهُ مُظَاهِرٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرُوِيَ عَنْهُ نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ، لأنه شبه امرأته بظهر محرم عليه مؤبد كَالْأُمِّ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو ثَوْرٍ: أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْأُمِّ وَحْدَهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ قَتَادَةَ وَالشَّعْبِيُّ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ. الثَّالِثَةُ- أَصْلُ الظِّهَارِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الظَّهْرَ كِنَايَةً عَنِ الْبَطْنِ وَسِتْرًا. فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي وَلَمْ يَذْكُرِ الظَّهْرَ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي، فَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ فَلَهُ نِيَّتُهُ، وَإِنْ أَرَادَ الطلاق كان مطلقا البتة عند مالك،
__________
(1). نسخ الأصل على (يظهرون) وهى قراءة نافع التي يقرأ بها المؤلف فيما يأتي.
(2). راجع ج 14 ص 118 ولم يذكر هناك شيئا بل أحال الكلام على هذه السورة.

(17/273)


وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي طَلَاقٍ وَلَا ظِهَارٍ كَانَ مُظَاهِرًا. وَلَا يَنْصَرِفُ صَرِيحُ الظِّهَارِ بِالنِّيَّةِ إِلَى الطَّلَاقِ، كَمَا لَا يَنْصَرِفُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتُهُ الْمَعْرُوفَةُ لَهُ إِلَى الظِّهَارِ، وَكَنَايَةُ الظِّهَارِ خَاصَّةً تَنْصَرِفُ بِالنِّيَّةِ إِلَى الطَّلَاقِ الْبَتِّ. الرَّابِعَةُ- أَلْفَاظُ الظِّهَارِ ضَرْبَانِ: صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحُ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَأَنْتِ عِنْدِي وَأَنْتِ مِنِّي وَأَنْتِ مَعِي كَظَهْرِ أُمِّي. وَكَذَلِكَ أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ كَرَأْسِهَا أَوْ فَرْجِهَا أَوْ نَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ فَرْجُكِ أَوْ رَأْسُكِ أَوْ ظَهْرُكِ أَوْ بَطْنُكِ أَوْ رِجْلُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ مُظَاهِرٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ: يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ أَوْ رَأْسُكِ أَوْ فَرْجُكِ طَالِقٌ تُطَلَّقُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا. وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ إِضَافَةُ الطَّلَاقِ إِلَيْهِ خَاصَّةً حَقِيقَةً خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فَصَحَّ إِضَافَةُ الظِّهَارِ إِلَيْهِ. وَمَتَى شَبَّهَهَا بِأُمِّهِ أَوْ بِإِحْدَى جَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ فَهُوَ ظِهَارٌ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ شَبَّهَهَا بِغَيْرِهِنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ الَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ كَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ كَانَ مُظَاهِرًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالْكِنَايَةُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي أَوْ مِثْلِ أُمِّي فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ فِيهِ النِّيَّةَ. فَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الظِّهَارَ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَطْلَقَ تَشْبِيهَ امْرَأَتِهِ بِأُمِّهِ فَكَانَ ظِهَارًا. أَصْلُهُ إِذَا ذَكَرَ الظَّهْرَ وَهَذَا قَوِيٌّ فَإِنَّ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهِ مَوْجُودٌ- وَاللَّفْظُ بِمَعْنَاهُ- وَلَمْ يُلْزَمْ حُكْمَ الظَّهْرِ لِلَفْظِهِ وَإِنَّمَا أُلْزِمَهُ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. الْخَامِسَةُ- إِذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ كَانَ مُظَاهِرًا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ إِنْ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يَحِلُّ لَهُ، وَفِيهِ وَقَعَ التَّشْبِيهُ وَإِيَّاهُ قَصَدَ الْمُظَاهِرُ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا إِلَّا فِي الظَّهْرِ وَحْدَهُ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا مُحَرَّمٌ، فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِهِ ظِهَارًا كَالظَّهْرِ، وَلِأَنَّ الْمُظَاهِرَ إِنَّمَا يَقْصِدُ تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلِ بِالْمُحَرَّمِ فَلَزِمَ على المعنى.

(17/274)


السَّادِسَةُ- إِنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَإِنْ ذَكَرَ الظَّهْرَ كَانَ ظِهَارًا حَمْلًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الظَّهْرَ فَاخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَكُونُ ظِهَارًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَكُونُ طَلَاقًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ شَيْئًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ شَبَّهَ مُحَلَّلًا مِنَ الْمَرْأَةِ بِمُحَرَّمٍ فَكَانَ مُقَيَّدًا بِحُكْمِهِ كَالظَّهْرِ، وَالْأَسْمَاءُ بِمَعَانِيهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمْ بِأَلْفَاظِهَا وَهَذَا نَقْضٌ لِلْأَصْلِ مِنْهُمْ. قُلْتُ: الْخِلَافُ فِي الظِّهَارِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ قَوِيٌّ عِنْدَ مَالِكٍ. وَأَصْحَابُهُ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى الظِّهَارَ إِلَّا بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ خَاصَّةً وَلَا يَرَى الظِّهَارَ بِغَيْرِهِنَّ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْعَلُهُ شَيْئًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ طَلَاقًا. وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا قَالَ: كَظَهْرِ ابْنِي أَوْ غُلَامِي أَوْ كَظَهْرِ زَيْدٍ أَوْ كَظَهْرِ أَجْنَبِيَّةٍ ظِهَارٌ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا فِي حِينِ يَمِينِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: أَنَّ الظِّهَارَ بِغَيْرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، كَمَا قَالَ الْكُوفِيُّ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ فُلَانٍ رَجُلٍ فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ- إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ حَرَامٌ عَلَيَّ يَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالطَّلَاقِ فَهِيَ مُطَلَّقَةٌ، وَيَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالظِّهَارِ فَلَمَّا صَرَّحَ بِهِ كَانَ تَفْسِيرًا لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ يَقْضِي بِهِ فِيهِ. الثَّامِنَةُ- الظِّهَارُ لَازِمٌ فِي كُلِّ زَوْجَةٍ مَدْخُولٍ بِهَا أَوْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا عَلَى أَيِّ الْأَحْوَالِ كَانَتْ مِنْ زَوْجٍ يَجُوزُ طَلَاقُهُ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ مَنْ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا مِنْ إِمَائِهِ، إِذَا ظَاهَرَ مِنْهُنَّ لَزِمَهُ الظِّهَارُ فِيهِنَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُ. قال القاضي أبو بكر ابن الْعَرَبِيِّ: وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَسِيرَةٌ جِدًّا عَلَيْنَا، لِأَنَّ مَالِكًا يَقُولُ: إِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يَلْزَمُ. فَكَيْفَ يَبْطُلُ فِيهَا صَرِيحُ التَّحْرِيمِ وَتَصِحُّ كِنَايَتُهُ. وَلَكِنْ تَدْخُلُ الْأَمَةُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: (مِنْ نِسائِهِمْ) لِأَنَّهُ أَرَادَ مِنْ مُحَلَّلَاتِهِمْ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْبُضْعِ دُونَ رَفْعِ الْعَقْدِ فَصَحَّ فِي الْأَمَةِ، أَصْلُهُ الْحَلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى.

(17/275)


التَّاسِعَةُ- وَيَلْزَمُ الظِّهَارُ قَبْلَ النِّكَاحِ إِذَا نَكَحَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا عِنْدَ مَالِكٍ. وَلَا يَلْزَمُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مِنْ نِسائِهِمْ) وَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ. وَقَدْ مَضَى أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) عِنْدَ
قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ) «1» الْآيَةَ. الْعَاشِرَةُ- الذِّمِّيُّ لَا يَلْزَمُ ظِهَارُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْكُمْ) يَعْنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا يَقْتَضِي خُرُوجَ الذِّمِّيِّ مِنَ الْخِطَابِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ. قُلْنَا: هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالِاشْتِقَاقِ وَالْمَعْنَى، فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ فَاسِدَةٌ مُسْتَحِقَّةٌ الْفَسْخَ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ طَلَاقٍ وَلَا ظِهَارٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ»
مِنْكُمْ) وَإِذَا خَلَتِ الْأَنْكِحَةُ عَنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهِيَ فَاسِدَةٌ، وَلَا ظِهَارَ فِي النِّكَاحِ الفاسد بحال. الحادية عشرة قوله تعالى: (مِنْكُمْ) يَقْتَضِي صِحَّةَ ظِهَارِ الْعَبْدِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ. وَحَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْكَامُ النِّكَاحِ فِي حَقِّهِ ثَابِتَةٌ وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصِّيَامِ. الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ- وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ تَظَاهُرٌ، وَإِنَّمَا قال الله تعالى: والَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ وَلَمْ يَقُلِ اللَّائِي يَظَّهَّرْنَ مِنْكُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، إِنَّمَا الظِّهَارُ عَلَى الرِّجَالِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي الزِّنَادِ. وَهُوَ صَحِيحٌ مَعْنًى، لِأَنَّ الْحَلَّ وَالْعَقْدَ [وَالتَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ «3»] فِي النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَالِ لَيْسَ بيد المرأة منه شي وَهَذَا إِجْمَاعٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ ظِهَارٌ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: هِيَ مُظَاهَرَةٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسَ ظِهَارُ الْمَرْأَةِ مِنَ الرَّجُلِ بِشَيْءٍ قَبْلَ النِّكَاحِ كَانَ أَوْ بَعْدَهُ. وقال الشافعي: لإظهار لِلْمَرْأَةِ مِنَ الرَّجُلِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِذَا قَالَتِ المرأة لزوجها، أنت علي كظهر أمي «4»
__________
(1). راجع ج 8 ص 210.
(2). راجع ج 18 ص 157.
(3). الزيادة من ابن العربي.
(4). لفظ (أمي) ساقط من ح، ز، س، هـ.

(17/276)


فُلَانَةٍ فَهِيَ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ، قَالَ: لَا تَكُونُ امْرَأَةً مُتَظَاهِرَةً مِنْ رَجُلٍ وَلَكِنْ عَلَيْهَا يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَى أن تكفر كفارة الظِّهَارَ، وَلَا يَحُولُ قَوْلُهَا هَذَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا أَنْ يُصِيبَهَا، رَوَاهُ عَنْهُ مَعْمَرٌ. وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: حَرَّمَتْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يوسف. وقال محمد بن الحسن: لا شي عَلَيْهَا. الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ- مَنْ بِهِ لَمَمٌ وَانْتَظَمَتْ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الْكَلِمُ إِذَا ظَاهَرَ لَزِمَ ظِهَارُهُ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ وَكَانَ زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ فَأَصَابَهُ بَعْضُ لَمَمِهِ فَظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ. الرَّابِعَةُ عَشْرَةَ- مَنْ غَضِبَ وَظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ غَضَبُهُ حُكْمَهُ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، قالت: كان بيني وبينه شي، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ خَرَجَ إِلَى نَادِي قَوْمِهِ. فَقَوْلُهَا: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شي، دَلِيلٌ عَلَى مُنَازَعَةٍ أَحْرَجَتْهُ «1» فَظَاهَرَ مِنْهَا. وَالْغَضَبُ لَغْوٌ لَا يَرْفَعُ حُكْمًا وَلَا يُغَيِّرُ شَرْعًا وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ. وَهِيَ: الْخَامِسَةُ عَشْرَةَ- يَلْزَمُهُ حُكْمُ الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ فِي حَالِ سُكْرِهِ إِذَا عَقَلَ قَوْلَهُ وَنَظَمَ كَلَامَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي (النِّسَاءِ) «2» بَيَانُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ عَشْرَةَ- وَلَا يَقْرَبُ الْمُظَاهِرُ امْرَأَتَهُ وَلَا يُبَاشِرُهَا وَلَا يَتَلَذَّذُ مِنْهَا بِشَيْءٍ حَتَّى يُكَفِّرَ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ اسْتِمْتَاعٍ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، وَهِيَ: السَّابِعَةُ عَشْرَةَ- اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَمْسَكَ عَنْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ. رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، وَمُطَرِّفٍ عَنْ رَجَاءِ بن حيوة عن قبيصة ابن ذُؤَيْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي الْمُظَاهِرِ: إِذَا وَطِئَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ. وَمَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ. وَرَوَى جَمَاعَةً مِنَ الْأَئِمَّةِ منهم ابن ماجة
__________
(1). في ح، ز، س، ل: (أحوجته) بالواو بدل الراء.
(2). راجع ج 5 ص 203

(17/277)


وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَغَشِيَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: (مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَأَيْتُ بَيَاضَ خَلْخَالِهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ فَلَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ وَقَعْتُ عَلَيْهَا. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَلَّا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سلمة ابن صَخْرٍ أَنَّهُ ظَاهَرَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، فَأَتَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ تَكْفِيرًا وَاحِدًا. الثَّامِنَةُ عَشْرَةَ- إِذَا ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا مِنْ كل واحدة منهن، ولم يجز له وطئ إِحْدَاهُنَّ وَأَجْزَأَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَلْزَمُهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شي مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ إِنَّمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْمَعْنَى. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: إِذَا كَانَ تَحْتَ الرَّجُلِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَظَاهَرَ مِنْهُنَّ يَجْزِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ ظَاهَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ بَعْدَ أُخْرَى لَزِمَهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَفَّارَةٌ. وَهَذَا إِجْمَاعٌ. التَّاسِعَةُ عَشْرَةَ- فَإِنْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: إِنْ تَزَوَّجْتُكُنَّ فَأَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُنَّ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، ثُمَّ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْيَمِينُ فِي سَائِرِهِنَّ. وَقَدْ قِيلَ: لَا يَطَأُ الْبَوَاقِيَ مِنْهُنَّ حَتَّى يُكَفِّرَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَذْهَبُ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ: وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَأَنْتِ طَالِقٌ الْبَتَّةَ «1»، لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ مَعًا، وَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى يَنْكِحَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَلَا يَطَأْهَا إِذَا نَكَحَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ الْبَتَّةَ وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الظِّهَارُ، لان المبتوتة لا يلحقها طلاق.
__________
(1). يريد بالبتة منا الطلاق الثلاث كما يفهم من العبارة بعد وكما في ابن العربي حيث قال: إذا طلقها ثلاثا بعد الظهار ثم عادت إليه بنكاح جديد لم يطأ حتى يكفر. [ ..... ]

(17/278)


وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)

الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَصِحُّ ظِهَارُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الزَّوْجِيَّةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ثَابِتَةٌ، وَكَمَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ كَذَلِكَ يَلْحَقُهَا الظِّهَارُ قِيَاسًا وَنَظَرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) أَيْ مَا نِسَاؤُهُمْ بِأُمَّهَاتِهِمْ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (أُمَّهاتِهِمْ) بِخَفْضِ التَّاءِ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا هَذَا بَشَراً). وَقَرَأَ أَبُو مَعْمَرٍ وَالسُّلَمِيُّ وَغَيْرُهُمَا (أُمَّهَاتُهُمْ) بِالرَّفْعِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ نَجْدٍ وَبَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ (مَا هَذَا بَشَرٌ)، وَ (مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ) بِالرَّفْعِ. (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أَيْ مَا أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا الْوَالِدَاتُ. وَفِي الْمَثَلِ: وُلْدُكِ مَنْ دَمَّى عَقِبَيْكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي اللَّائِي فِي (الْأَحْزَابِ) «1». الثَّالِثَةَ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) أَيْ فَظِيعًا مِنَ الْقَوْلِ لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ. وَالزُّورُ الْكَذِبُ (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إِذْ جَعَلَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِمْ مُخَلِّصَةً لهم من هذا القول المنكر.

[سورة المجادلة (58): الآيات 3 الى 4]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
__________
(1). ليس في الأحزاب كلام على اللائي ويبد وأن سقطا وقع في نسخ الأصل التي بأيدينا.

(17/279)


فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ هَذَا ابْتِدَاءٌ وَالْخَبَرُ (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وَحُذِفَ عَلَيْهِمْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، أَيْ فَعَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. وَقِيلَ: أَيْ فَكَفَّارَتُهُمْ عِتْقُ رَقَبَةٍ. وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي الظِّهَارِ قَوْلَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَهُوَ قَوْلُ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ الَّذِي عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) فَمَنْ قال هذا القول حرم عليه وطئ امْرَأَتِهِ. فَمَنْ عَادَ لِمَا قَالَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لَا تَلْزَمُ بِالْقَوْلِ خَاصَّةً حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهَا الْعَوْدُ، وَهَذَا حَرْفٌ مُشْكَلٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أقوال سبعة: الأول- أنه العزم على الوطي، وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: فَإِنْ عَزَمَ عَلَى وَطْئِهَا كَانَ عَوْدًا، وَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ لَمْ يَكُنْ عَوْدًا. الثَّانِي- الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ بَعْدَ التَّظَاهُرِ مِنْهَا، قَالَهُ مَالِكٌ. الثَّالِثُ- الْعَزْمُ عَلَيْهِمَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ، قَالَ مَالِكٌ فِي قوله اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ أَنْ يُظَاهِرَ الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ يُجْمِعَ عَلَى إِصَابَتِهَا وَإِمْسَاكِهَا، فَإِنْ أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُجْمِعْ بَعْدَ تَظَاهُرِهِ مِنْهَا عَلَى إِمْسَاكِهَا وَإِصَابَتِهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَمَسُّهَا حَتَّى يكفر كفارة التظاهر. القول الرابع- أنه الوطي نَفْسُهُ فَإِنْ لَمْ يَطَأْ لَمْ يَكُنْ عَوْدًا، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمَالِكٌ أَيْضًا. الْخَامِسُ- وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ظَاهَرَ قَصَدَ التَّحْرِيمَ، فَإِنْ وَصَلَ بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ جَرَى عَلَى خِلَافِ مَا ابْتَدَأَهُ مِنْ إِيقَاعِ التَّحْرِيمِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَمْسَكَ عَنِ الطَّلَاقِ فَقَدْ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. السَّادِسُ- أَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا لَا يَرْفَعُهُ إِلَّا الْكَفَّارَةُ. وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا: أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا إِلَّا بِكَفَّارَةٍ يُقَدِّمُهَا، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. السَّابِعُ- هُوَ تَكْرِيرُ الظِّهَارِ بِلَفْظِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ النَّافِينَ لِلْقِيَاسِ، قَالُوا: إِذَا كَرَّرَ اللَّفْظَ بِالظِّهَارِ فَهُوَ الْعَوْدُ، وَإِنْ لَمْ يُكَرِّرْ فَلَيْسَ بِعَوْدٍ. وَيُسْنَدُ ذَلِكَ إِلَى بُكَيْرِ بْنِ

(17/280)


الْأَشَجِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَشْهَدُ لَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أَيْ إِلَى قَوْلِ مَا قَالُوا. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَإِذَا قَالَ لَهَا ذَلِكَ فَلَيْسَتْ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْعَوْدُ إِلَى لَفْظِ الظِّهَارِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا لَا يَصِحُّ عَنْ بُكَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَهَالَةِ دَاوُدَ وَأَشْيَاعِهِ. وَقَدْ رُوِيَتْ قَصَصُ الْمُتَظَاهِرِينَ وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ ذِكْرٌ لِعَوْدِ الْقَوْلِ مِنْهُمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَعْنَى يَنْقُضُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ، فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُ إِذَا أَعَدْتَ الْقَوْلَ الْمُحَرَّمَ وَالسَّبَبَ الْمَحْظُورَ وَجَبَتْ عَلَيْكَ الْكَفَّارَةُ، وَهَذَا لَا يُعْقَلُ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لَا تشترط فيه الإعادة من قتل ووطئ فِي صَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ. قُلْتُ: قَوْلٌ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَهَالَةِ دَاوُدَ وَأَشْيَاعِهِ حُمِلَ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ دَاوُدَ مَنْ ذَكَرْنَاهُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: بِأَنَّهُ تَرَكَ الطَّلَاقَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَيَنْقُضُهُ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أُمَّهَاتٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّهُ قَالَ: (ثُمَّ) وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ. الثَّانِي- أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (ثُمَّ يَعُودُونَ) يَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلٍ مِنْ جِهَةٍ وَمُرُورُ الزَّمَانِ لَيْسَ بِفِعْلٍ مِنْهُ. الثَّالِثُ- أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُنَافِي الْبَقَاءَ عَلَى الْمِلْكِ فَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الظِّهَارِ كَالْإِيلَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا رَآهَا كَالْأُمِّ لَمْ يُمْسِكْهَا إِذْ لَا يَصِحُّ إِمْسَاكُ الْأُمِّ بِالنِّكَاحِ. وَهَذِهِ عُمْدَةُ أَهْلِ مَا وَرَاءِ النَّهَرِ. قُلْنَا: إِذَا عَزَمَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ وَرَآهَا خِلَافَ الْأُمِّ كَفَّرَ وَعَادَ إِلَى أَهْلِهِ. وَتَحْقِيقُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْعَزْمَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ، وَهَذَا رَجُلٌ قَالَ قَوْلًا اقْتَضَى التَّحْلِيلَ وَهُوَ النِّكَاحُ، وَقَالَ قَوْلًا اقْتَضَى التَّحْرِيمَ وَهُوَ الظِّهَارُ، ثُمَّ عَادَ لِمَا قَالَ وَهُوَ التَّحْلِيلُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ابْتِدَاءُ عَقْدٍ، لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاقٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ قَوْلُ عَزْمٍ يُخَالِفُ مَا
اعْتَقَدَهُ وَقَالَهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الظِّهَارِ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَفَّرَ وَعَادَ إِلَى أَهْلِهِ، لِقَوْلِهِ: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا). وَهَذَا تَفْسِيرٌ بَالِغٌ [فِي فنه «1»].
__________
(1). الزيادة من أحكام القرآن لابن العربي.

(17/281)


الثَّانِيَةُ- قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: الْآيَةُ فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ) إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْجِمَاعِ (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) لِمَا قَالُوا، أَيْ فَعَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ أَجْلِ مَا قَالُوا، فَالْجَارُّ فِي قَوْلِهِ: (لِما قالُوا) مُتَعَلِّقٌ بِالْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، قَالَ الْأَخْفَشُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى إِرَادَةِ الْجِمَاعِ مِنْ أَجْلِ مَا قَالُوا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى الَّذِينَ كَانُوا يَظَّهَّرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا كَانُوا قَالُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ فَكَفَّارَةُ مَنْ عَادَ أَنْ يُحَرِّرَ رَقَبَةً. الْفَرَّاءُ: اللَّامُ بِمَعْنَى عَنْ وَالْمَعْنَى ثُمَّ يرجعون عما قالوا ويريدون الوطي. وقال الأخفش: لما قالوا وإلى ما قالوا واحد، واللام وإلى يَتَعَاقَبَانِ، قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي «1» هَدانا لِهذا) وَقَالَ: (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ «2» الْجَحِيمِ) وَقَالَ: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى «3» لَها) وَقَالَ: (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ) «4». الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أَيْ فَعَلَيْهِ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ، يُقَالُ: حَرَّرْتُهُ أَيْ جَعَلْتُهُ حُرًّا. ثُمَّ هَذِهِ الرَّقَبَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَامِلَةً سَلِيمَةً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، مِنْ كَمَالِهَا إِسْلَامُهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، كَالرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ تُجْزِي الْكَافِرَةُ وَمَنْ فِيهَا شَائِبَةُ «5» رِقٍّ كَالْمُكَاتِبَةِ وَغَيْرِهَا. الرَّابِعَةُ- فَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَيْ عَبْدَيْنِ فَلَا يُجْزِيهِ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُجْزِئُ، لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدَيْنِ فِي مَعْنَى الْعَبْدِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ بِالْعِتْقِ طَرِيقُهَا الْمَالُ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَهَا التبعيض والتجزي كَالْإِطْعَامِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وَهَذَا الِاسْمُ عِبَارَةٌ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَبَعْضُ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُهُ التَّلْفِيقُ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالرَّقَبَةِ لَا يَقُومُ النِّصْفُ مِنْ رَقَبَتَيْنِ مَقَامَهَا، أَصْلُهُ إِذَا اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي أُضْحِيَّتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَ رَجُلَيْنِ أَنْ يَحُجَّا عَنْهُ حَجَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا نِصْفَهَا كَذَلِكَ هَذَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ تُشْتَرَى رَقَبَةٌ فَتُعْتَقُ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ نِصْفُ عَبْدَيْنِ، كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا وَبِهَذَا يَبْطُلُ دَلِيلُهُمْ. وَالْإِطْعَامُ وغيره لا يتجزى في الكفارة عندنا.
__________
(1). راجع ج 7 ص (208)
(2). راجع ج 15 ص (83)
(3). راجع ج 20 ص (149)
(4). راجع ج 9 ص (29)
(5). في ح، ز، س، ط، ل: (شعبة رق) والعنى واحد.

(17/282)


الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي يجامعها فلا يجوز للمظاهر الوطي قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَإِنْ جَامَعَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ أَثِمَ وَعَصَى وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْفِيرُ. وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ إِذَا وَطِئَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي التَّكْفِيرِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى. وَعَنْ غَيْرِهِ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْوَاجِبَةَ بِالظِّهَارِ تَسْقُطُ عَنْهُ وَلَا يلزمه شي أَصْلًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ وَأَمَرَ بِهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ، فَإِذَا أَخَّرَهَا حَتَّى مَسَّ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُهَا. وَالصَّحِيحُ ثُبُوتُ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ بِوَطْئِهِ ارْتَكَبَ إِثْمًا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلْكَفَّارَةِ، وَيَأْتِي بِهَا قَضَاءً كَمَا لَوْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا. وَفِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ وَطِئَ امْرَأَتَهُ أَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ «1». وَهَذَا نَصٌّ وَسَوَاءٌ كَانَتْ كَفَّارَةً بِالْعِتْقِ أَوِ الصَّوْمِ أَوِ الْإِطْعَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْإِطْعَامِ جَازَ أَنْ يَطَأَ ثُمَّ يُطْعِمَ، فأما غير الوطي مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّلَذُّذِ فَلَا يَحْرُمُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَسُفْيَانُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَكُلُّ مَعَانِي الْمَسِيسِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) أَيْ تُؤْمَرُونَ بِهِ (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) مِنَ التَّكْفِيرِ وَغَيْرِهِ. السَّابِعَةُ- مَنْ لَمْ يَجِدِ الرَّقَبَةَ وَلَا ثَمَنَهَا، أَوْ كَانَ مَالِكًا لَهَا إِلَّا أَنَّهُ شَدِيدُ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا لِخِدْمَتِهِ، أَوْ كَانَ مَالِكًا لِثَمَنِهَا إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفَقَتِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ وَلَا يَجِدُ شَيْئًا سِوَاهُ، فَلَهُ أَنْ يَصُومَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصُومُ وَعَلَيْهِ عِتْقٌ وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ لَهُ دَارٌ وَخَادِمٌ لَزِمَهُ الْعِتْقُ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الرَّقَبَةِ، وَهِيَ: الثَّامِنَةُ- فَعَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَإِنْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَائِهِمَا بِغَيْرِ عُذْرٍ اسْتَأْنَفَهُمَا، وَإِنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ، فَقِيلَ: يَبْنِي، قَالَهُ ابْنُ المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر وابن دِينَارٍ وَالشَّعْبِيُّ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الصحيح من مذهبه. وقال مالك:
__________
(1). لم يتقدم العود في حديث أوس، وانما هو في مظاهر آخر وهو القائل: رأيت خلخالها في ضوء القمر.

(17/283)


إِنَّهُ إِذَا مَرِضَ فِي صِيَامِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بَنَى إِذَا صَحَّ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. التَّاسِعَةُ- إِذَا ابْتَدَأَ الصِّيَامَ ثُمَّ وَجَدَ الرَّقَبَةَ أَتَمَّ الصِّيَامَ وَأَجْزَأَهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ بِذَلِكَ أُمِرَ حِينَ دَخَلَ فِيهِ. وَيَهْدِمُ الصَّوْمَ وَيَعْتِقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، قِيَاسًا عَلَى الصَّغِيرَةِ الْمُعْتَدَّةِ بِالشُّهُورِ تَرَى الدَّمَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، فَإِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْحَيْضَ إِجْمَاعًا مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَإِذَا ابْتَدَأَ سَفَرًا فِي صِيَامِهِ فَأَفْطَرَ «1»، ابْتَدَأَ الصِّيَامَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، لِقَوْلِهِ: (مُتَتابِعَيْنِ). وَيَبْنِي فِي قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، لِأَنَّهُ عُذْرٌ [وَقِيَاسًا «2» عَلَى رَمَضَانَ، فَإِنْ تَخَلَّلَهَا زَمَانٌ لَا يَحِلُّ صَوْمُهُ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْعِيدَيْنِ وَشَهْرِ رَمَضَانَ انْقَطَعَ]. الْعَاشِرَةُ- إِذَا وَطِئَ الْمُتَظَاهِرُ فِي خِلَالِ الشَّهْرَيْنِ نَهَارًا، بَطَلَ التَّتَابُعُ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلَيْلًا فَلَا يَبْطُلُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحِلًّا لِلصَّوْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَبْطُلُ بِكُلِّ حَالٍ وَوَجَبَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءُ الْكَفَّارَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وَهَذَا الشَّرْطُ عَائِدٌ إِلَى جُمْلَةِ الشَّهْرَيْنِ، وَإِلَى أَبْعَاضِهِمَا، فَإِذَا وَطِئَ قَبْلَ انْقِضَائِهِمَا فَلَيْسَ هُوَ الصِّيَامُ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: صَلِّ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَ زَيْدًا. فَكَلَّمَ زَيْدًا فِي الصَّلَاةِ، أَوْ قَالَ: صَلِّ قَبْلَ أَنْ تُبْصِرَ زَيْدًا فَأَبْصَرَهُ فِي الصَّلَاةِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ هِيَ الصَّلَاةُ الْمَأْمُورُ بِهَا كَذَلِكَ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- وَمَنْ تَطَاوَلَ مَرَضُهُ طُولًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَاجِزِ مِنْ كِبَرٍ، وَجَازَ لَهُ الْعُدُولُ عَنِ الصِّيَامِ إِلَى الْإِطْعَامِ. وَلَوْ كَانَ مَرَضُهُ مِمَّا يرجى برؤه واشتدت حاجته إلى وطئ امْرَأَتِهِ كَانَ الِاخْتِيَارُ لَهُ أَنْ يَنْتَظِرَ الْبُرْءَ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الصِّيَامِ. وَلَوْ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ وَلَمْ يَنْتَظِرِ الْقُدْرَةَ عَلَى الصِّيَامِ أَجْزَأَهُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَمَنْ تَظَاهَرَ وَهُوَ مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ. وَمَنْ تَظَاهَرَ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَعْسَرَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ صَامَ. وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى حَالِهِ يَوْمَ يُكَفِّرُ. وَلَوْ جَامَعَهَا في عدمه
__________
(1). لفظة (فأفطر) ساقطة من ز، ل.
(2). ما بين المربعين ساقط من ح، ز، س، هـ، ل.

(17/284)


وَعُسْرِهِ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى أَيْسَرَ لَزِمَهُ الْعِتْقُ. وَلَوِ ابْتَدَأَ بِالصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ فَإِنْ كَانَ مَضَى مِنْ صَوْمِهِ صَدْرٌ صَالِحٌ نَحْوُ الْجُمُعَةِ وَشَبَهِهَا تَمَادَى. وَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَنَحْوَهُمَا تَرَكَ الصَّوْمَ وَعَادَ إِلَى الْعِتْقِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مَنْ طَرَأَ الْمَاءُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَدْ دَخَلَ بِالتَّيَمُّمِ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَقْطَعَ وَيَبْتَدِئَ الطَّهَارَةَ عِنْدَ مَالِكٍ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- وَلَوْ أَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ عَنْ كَفَّارَتَيْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ فَطَرَ فِي رَمَضَانَ وَأَشْرَكَ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَمْ يُجْزِهِ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً عَنْ كَفَّارَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ صَامَ عَنْهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى يَصُومَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَهْرَيْنِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذلك يجزيه. ولو ظاهر من امرأتين ل فَأَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ إِحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَمْ يجز له وطئ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةً أُخْرَى. وَلَوْ عَيَّنَ الْكَفَّارَةَ عَنْ إِحْدَاهُمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ الْكَفَّارَةَ عَنِ الْأُخْرَى. وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَأَعْتَقَ عَنْهُنَّ ثَلَاثَ رِقَابٍ، وَصَامَ شَهْرَيْنِ، لَمْ يُجْزِهِ الْعِتْقُ وَلَا الصِّيَامُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَامَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْهُنَّ بِالْإِطْعَامِ جَازَ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُنَّ مِائَتَيْ مِسْكِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَرَّقَ بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ، لِأَنَّ صِيَامَ الشَّهْرَيْنِ لَا يُفَرَّقُ وَالْإِطْعَامَ يُفَرَّقُ. فصل وفية ست مَسَائِلَ: الْأُولَى- ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكَفَّارَةَ هُنَا مُرَتَّبَةً، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الصِّيَامِ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَى الْإِطْعَامِ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَى الصِّيَامِ، فَمَنْ لَمْ يُطِقِ الصِّيَامَ وَجَبَ عَلَيْهِ إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مدان يمد النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْ أَطْعَمَ مُدًّا بِمُدِّ هِشَامٍ، وَهُوَ مُدَّانِ إِلَّا ثُلُثًا، أَوْ أَطْعَمَ مُدًّا وَنِصْفًا بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْزَأَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَفْضَلُ ذَلِكَ مُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقُلْ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ) «1» فَوَاجِبٌ قَصْدُ الشِّبَعِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: مُدٌّ بِمُدِّ هشام وهو الشبع ها هنا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الطَّعَامَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَسَطَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ: مُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2»: [قِيلَ لَهُ: أَلَمْ تَكُنْ قُلْتَ مُدُّ هِشَامٍ؟ قَالَ: بَلَى، مُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ]. وَكَذَلِكَ قَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أيضا.
__________
(1). راجع ج 6 ص (265)
(2). ما بين المربعين ساقط من أو الأصل المطبوع.

(17/285)


قُلْتُ: وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ وَمُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُعْطِي مُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مُدٌّ وَاحِدٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُكَفِّرُ بِالْإِطْعَامِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ صَرْفُ زِيَادَةٍ عَلَى الْمُدِّ، أَصْلُهُ كَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ وَالْيَمِينِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) وَإِطْلَاقُ الْإِطْعَامِ يَتَنَاوَلُ الشِّبَعَ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْعَادَةِ بِمُدٍّ وَاحِدٍ إِلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَشْهَبُ: قُلْتُ لِمَالِكٍ أَيَخْتَلِفُ الشِّبَعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ؟ قَالَ نَعَمْ! الشِّبَعُ عِنْدَنَا مُدَّ بِمُدِّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ دُونَكُمْ، فَأَنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَكْثَرَ مِمَّا نَأْكُلُ نَحْنُ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: إِنَّمَا أَخَذَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِمُدِّ هِشَامٍ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ تَغْلِيظًا عَلَى الْمُتَظَاهِرِينَ الَّذِينَ شَهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا. قال ابن العربي: وقع الكلام ها هنا فِي مُدِّ هِشَامٍ كَمَا تَرَوْنَ، وَوَدِدْتُ أَنْ يُهَشِّمَ الزَّمَانُ ذِكْرَهُ، وَيَمْحُوَ مِنَ الْكُتُبِ رَسْمَهُ، فَإِنَّ الْمَدِينَةَ الَّتِي نَزَلَ الْوَحْيُ بِهَا وَاسْتَقَرَّ الرَّسُولُ بِهَا وَوَقَعَ عِنْدَهُمُ الظِّهَارُ، وَقِيلَ لَهُمْ فِيهِ: (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) فَهِمُوهُ وَعَرَفُوا الْمُرَادَ بِهِ وَأَنَّهُ الشِّبَعُ، وَقَدْرُهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ مُتَقَرِّرٌ لَدَيْهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ الشِّبَعُ فِي الْأَخْبَارِ كَثِيرًا، وَاسْتَمَرَّتِ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ حَتَّى نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِ هِشَامٍ، فَرَأَى أَنَّ مُدَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُشْبِعُهُ، وَلَا مِثْلَهُ مِنْ حَوَاشِيهِ وَنُظَرَائِهِ، فَسَوَّلَ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مُدًّا يَكُونُ فِيهِ شِبَعُهُ، فَجَعَلَهُ رِطْلَيْنِ وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَإِذَا ابْتَلَّ عَادَ نَحْوَ الثَّلَاثَةِ الْأَرْطَالِ، فَغَيَّرَ السُّنَّةَ وَأَذْهَبَ مَحَلَّ الْبَرَكَةَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَا رَبَّهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِأَنْ تَبْقَى لَهُمُ الْبَرَكَةُ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ، مِثْلَ مَا بَارَكَ لِإِبْرَاهِيمَ بِمَكَّةَ، فَكَانَتِ الْبَرَكَةُ تَجْرِي بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُدِّهِ، فَسَعَى الشَّيْطَانُ فِي تَغْيِيرِ هَذِهِ السُّنَّةِ وَإِذْهَابِ هَذِهِ الْبَرَكَةِ، فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ فِي ذَلِكَ إِلَّا هِشَامٌ، فَكَانَ من حق العلماء أن يلغوا «1» ذكره ويمحو رَسْمَهُ إِذَا لَمْ يُغَيِّرُوا أَمْرَهُ، وَأَمَّا أَنْ يُحِيلُوا عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَيَجْعَلُوهُ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفَسَّرًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَخَطْبٌ جَسِيمٌ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ رِوَايَةُ أَشْهَبَ فِي ذِكْرِ مُدَّيْنِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كفارة الظهار أحب إلينا من
__________
(1). في ل: (يدعوا) بدل (يلغوا).

(17/286)


الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا بِمُدِّ هِشَامٍ. أَلَا تَرَى كَيْفَ نَبَّهَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ لِأَشْهَبَ: الشِّبَعُ عِنْدَنَا بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ. وَبِهَذَا أَقُولُ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ إِذَا أُدِّيَتْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ بِالْبَدَنِ كَانَتْ أَسْرَعَ إِلَى الْقَبُولِ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْمَالِ كَانَ قَلِيلُهَا أَثْقَلَ فِي الْمِيزَانِ، وَأَبْرَكَ فِي يَدِ الْآخِذِ، وَأَطْيَبَ فِي شِدْقِهِ، وَأَقَلَّ آفَةً فِي بَطْنِهِ، وَأَكْثَرَ إِقَامَةً لِصُلْبِهِ «1». وَاللَّهُ أَعْلَمُ «2». الثَّانِيَةُ- وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنْ يُطْعِمَ أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ حَتَّى يُكْمِلَ الْعَدَدَ أَجْزَأَهُ. الثَّالِثَةُ- قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: مِنْ غَرِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ إِنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ بَاطِلٌ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الرَّشِيدِ وَالسَّفِيهِ، وَهَذَا فِقْهٌ ضَعِيفٌ لَا يُنَاسِبُ قَدْرَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَقَدْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْحَجْرِ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشِيًا وَالنَّظَرُ يَقْتَضِيهِ، وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجْرٌ لِصِغَرٍ أَوْ لِوِلَايَةٍ وَبَلَغَ سَفِيهًا قَدْ نُهِيَ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ يَنْفُذُ فِعْلُهُ فِيهِ وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ. الرَّابِعَةُ- وَحُكْمُ الظِّهَارِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ نَاسِخٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ الظِّهَارِ طَلَاقًا، وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي قِلَابَةَ وَغَيْرِهِمَا. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي وَصَفْنَا مِنَ التَّغْلِيظِ فِي الْكَفَّارَةِ (لِتُؤْمِنُوا) أَيْ لِتُصَدِّقُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِمَا ذَكَرَهَا وَأَوْجَبَهَا قَالَ: (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أَيْ ذَلِكَ لِتَكُونُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَاقِفِينَ عِنْدَ حُدُودِهِ لَا تَتَعَدُّوهَا، فَسَمَّى التَّكْفِيرَ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ وَمُرَاعَاةٌ لِلْحَدِّ إِيمَانًا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا أَشْبَهَهُ فَهُوَ إِيمَانٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أَيْ لِئَلَّا تَعُودُوا لِلظِّهَارِ الذي هو منكر من القول وزور.
__________
(1). في ح، ز، س، هـ: (لقلبه). [ ..... ]
(2). في ح، ز، س، ل، هـ: (والله الموفق لا رب غيره).

(17/287)


إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)

قيل لَهُ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَقْصُودًا وَالْأَوَّلُ مَقْصُودًا، فَيَكُونَ الْمَعْنَى ذَلِكَ لِئَلَّا تَعُودُوا لِلْقَوْلِ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ، بَلْ تَدْعُونَهُمَا طَاعَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِذْ كَانَ قَدْ حَرَّمَهُمَا، وَلِتَجْتَنِبُوا الْمُظَاهَرَ مِنْهَا إِلَى أَنْ تُكَفِّرُوا، إِذْ كَانَ اللَّهُ مَنَعَ مِنْ مَسِيسِهَا، وَتُكَفِّرُوا إِذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْكَفَّارَةِ وَأَلْزَمَ إِخْرَاجَهَا مِنْكُمْ، فَتَكُونُوا بِهَذَا كُلِّهِ مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، لِأَنَّهَا حدود تحفظونها، وطاعات تؤدونها وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَانٌ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أَيْ بَيَّنَ مَعْصِيَتَهُ وَطَاعَتَهُ، فَمَعْصِيَتُهُ الظِّهَارُ، وَطَاعَتُهُ الْكَفَّارَةُ. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أَيْ لِمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَذَابُ جهنم.

[سورة المجادلة (58): الآيات 5 الى 6]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) لَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاقِفِينَ عِنْدَ حُدُودِهِ ذَكَرَ الْمُحَادِّينَ الْمُخَالِفِينَ لَهَا. وَالْمُحَادَّةُ الْمُعَادَاةُ وَالْمُخَالَفَةُ فِي الْحُدُودِ، وَهُوَ مثل قوله تعالى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
«1». وَقِيلَ: (يُحَادُّونَ اللَّهَ) أَيْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ كَمَا فِي الْخَبَرِ: (مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ). وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُحَادَّةُ أَنْ تَكُونَ فِي حَدٍّ يُخَالِفُ حَدَّ صَاحِبِكَ. وَأَصْلُهَا الْمُمَانَعَةُ، وَمِنْهُ الْحَدِيدُ، وَمِنْهُ الْحَدَّادُ لِلْبَوَّابِ. (كُبِتُوا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: أُهْلِكُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ: اخْزُوا كَمَا أُخْزِيَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عُذِّبُوا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لُعِنُوا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: غِيظُوا يَوْمَ الْخَنْدَقِ. وَقِيلَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ. وَقِيلَ: الْمُنَافِقُونَ. (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). وَقِيلَ: (كُبِتُوا)
__________
(1). راجع ج 18 ص 6

(17/288)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

أَيْ سَيُكْبَتُونَ، وَهُوَ بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَأُخْرِجَ الْكَلَامُ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَقْرِيبًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَقِيلَ: هِيَ بِلُغَةِ مَذْحِجٍ «1». (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) فِيمَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِيمَا فَعَلْنَا بِهِمْ. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ) نُصِبَ بِ (عَذابٌ مُهِينٌ) أَوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرْ تَعْظِيمًا لِلْيَوْمِ. (يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً) أَيِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ يَبْعَثُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ (فَيُنَبِّئُهُمْ) أَيْ يُخْبِرُهُمْ (بِما عَمِلُوا) فِي الدُّنْيَا (أَحْصاهُ اللَّهُ) عَلَيْهِمْ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ (وَنَسُوهُ) هُمْ حَتَّى ذَكَّرَهُمْ بِهِ فِي صَحَائِفِهِمْ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) مُطَّلِعٌ وَنَاظِرٌ لَا يَخْفَى عليه شي.

[سورة المجادلة (58): آية 7]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ سِرٌّ وَلَا عَلَانِيَةٌ. (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى) قَرَاءَهُ الْعَامَّةِ بِالْيَاءِ، لِأَجْلِ الْحَائِلِ بَيْنَهُمَا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى (مَا تَكُونُ) بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ الْفِعْلِ. وَالنَّجْوَى: السِّرَارُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ قَدْ يُوصَفُ بِهِ، يُقَالُ: قَوْمٌ نَجْوَى أَيْ ذَوُو نَجْوَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) «2». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (ثَلاثَةٍ) خُفِضَ بِإِضَافَةِ (نَجْوى) إِلَيْهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: (ثَلاثَةٍ) نَعْتٌ لِلنَّجْوَى فَانْخَفَضَتْ وَإِنْ شِئْتَ أَضَفْتَ (نَجْوى) إِلَيْهَا. وَلَوْ نُصِبَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ جَازَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ (ثَلَاثَةً) وَ (خَمْسَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ بِإِضْمَارِ يَتَنَاجَوْنَ، لِأَنَّ نَجْوَى يَدُلُّ عَلَيْهِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَجُوزُ رَفْعُ (ثَلَاثَةٍ) عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ (نَجْوى). ثُمَّ قِيلَ: كُلُّ سِرَارٍ نَجْوَى. وَقِيلَ: النَّجْوَى ما يكون من
__________
(1). مذحج- كمسجد-: أبو قبيلة باليمن.
(2). راجع ج 10 ص 272

(17/289)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)

خَلْوَةِ ثَلَاثَةٍ يُسِرُّونَ شَيْئًا وَيَتَنَاجَوْنَ بِهِ. وَالسِّرَارُ مَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ. (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) يَعْلَمُ وَيَسْمَعُ نَجْوَاهُمْ، يَدُلُّ عَلَيْهِ افْتِتَاحُ الْآيَةِ بِالْعِلْمِ ثُمَّ خَتَمَهَا بِالْعِلْمِ. وَقِيلَ: النَّجْوَى مِنَ النَّجْوَةِ وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، فَالْمُتَنَاجِيَانِ يَتَنَاجَيَانِ وَيَخْلُوَانِ بِسِرِّهِمَا كَخُلُوِّ الْمُرْتَفِعِ مِنَ الْأَرْضِ عَمَّا يَتَّصِلُ بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ سَمْعَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِكُلِّ كَلَامٍ، وَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ مُجَادَلَةَ الْمَرْأَةِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا. (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ) قَرَأَ سَلَّامٌ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرٌ وَعِيسَى بِالرَّفْعِ عَلَى مَوْضِعِ (مِنْ نَجْوى) قَبْلَ دُخُولِ (مِنْ) لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ ما يكون نجوى، و (ثلاثة) يجوزان يكون مرفوعا على محل (إِلَّا) مَعَ (أَدْنى) كَقَوْلِكَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةٌ إِلَّا بِاللَّهِ بِفَتْحِ الْحَوْلِ وَرَفْعِ الْقُوَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَرْفُوعَيْنِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، كَقَوْلِكَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ) «1» بَيَانُ هَذَا مُسْتَوْفًى. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ (أَكْبَرَ) بِالْبَاءِ. وَالْعَامَّةُ بِالثَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى اللَّفْظِ وَمَوْضِعُهَا جَرٌّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) قَالَ: الْمَعْنَى غَيْرُ مَصْمُودٍ وَالْعَدَدُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا قَصَدَ وَهُوَ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَعَ كُلِّ عَدَدٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، يَعْلَمُ مَا يَقُولُونَ سِرًّا وَجَهْرًا وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اكْتَفَى بِذِكْرِ بَعْضِ الْعَدَدِ دُونَ بَعْضٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ حَيْثُ كَانُوا مِنْ غَيْرِ زَوَالٍ وَلَا انْتِقَالٍ. وَنَزَلَ ذَلِكَ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا فَعَلُوا شَيْئًا سِرًّا فَأَعْلَمَ الله أنه لا يخفي عليه ذلك، قاله ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) يُخْبِرُهُمْ (بِما عَمِلُوا) مِنْ حسن وسيء (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

[سورة المجادلة (58): آية 8]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
__________
(1). راجع ج 3 ص 266 فما بعد.

(17/290)


فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) قِيلَ: إِنَّ هَذَا فِي الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ حَسَبَ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَقِيلَ: فِي الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَنْظُرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَتَغَامَزُونَ بِأَعْيُنِهِمْ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ: لَعَلَّهُمْ بَلَغَهُمْ عَنْ إِخْوَانِنَا وَقَرَابَتِنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَتْلٌ أَوْ مُصِيبَةٌ أَوْ هَزِيمَةٌ، ويسؤهم ذَلِكَ فَكَثُرَتْ شَكْوَاهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهَاهُمْ عَنِ النَّجْوَى فَلَمْ يَنْتَهُوا فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ مُوَادَعَةٌ، فَإِذَا مَرَّ بِهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَنَاجَوْا بَيْنَهُمْ حَتَّى يَظُنَّ الْمُؤْمِنُ شَرًّا، فَيَعْرُجَ عَنْ طَرِيقِهِ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَنَزَلَتْ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيسأله الْحَاجَةَ وَيُنَاجِيهِ وَالْأَرْضُ يَوْمَئِذٍ حَرْبٌ، فَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ يُنَاجِيهِ فِي حَرْبٍ أَوْ بَلِيَّةٍ أَوْ أَمْرٍ مُهِمٍّ فَيَفْزَعُونَ لِذَلِكَ فَنَزَلَتْ. الثَّانِيَةُ- رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ: كُنَّا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَتَحَدَّثُ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَا هَذِهِ النَّجْوَى أَلَمْ تُنْهَوْا عَنِ النَّجْوَى) فَقُلْنَا: تُبْنَا إِلَى اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي ذِكْرِ الْمَسِيخِ- يَعْنِي الدَّجَّالَ- فَرَقًا «1» مِنْهُ. فَقَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْهُ) قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِمَكَانِ رَجُلٍ) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ (وَيَنْتَجُونَ) فِي وَزْنِ يَفْتَعِلُونَ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (وَيَتَنَاجَوْنَ) فِي وَزْنِ يَتَفَاعَلَوْنَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذا تَناجَيْتُمْ) و (تَتَناجَوْا). النَّحَّاسُ: وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ تَفَاعَلُوا وَافْتَعَلُوا يَأْتِيَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، نَحْوَ تَخَاصَمُوا وَاخْتَصَمُوا، وَتَقَاتَلُوا وَاقْتَتَلُوا فَعَلَى هَذَا (يَتَناجَوْنَ) وَ (يَنْتَجُونَ) وَاحِدٌ. وَمَعْنَى (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) أَيِ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ. (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أَيْ مُخَالَفَتِهِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ (وَمَعْصِيَاتِ الرسول) بالجمع.
__________
(1). في ل: (خوفا منه).

(17/291)


الثالثة- قوله تعالى: (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّقَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْيَهُودُ، كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ: السَّامُّ عَلَيْكَ. يُرِيدُونَ بِذَلِكَ السَّلَامَ ظَاهِرًا وَهُمْ يَعْنُونَ الْمَوْتَ بَاطِنًا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلَيْكُمْ) فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (وَعَلَيْكُمْ). قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهِيَ مُشْكِلَةٌ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمَا أَمْهَلَنَا اللَّهُ بِسَبِّهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ، وَجَهِلُوا أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى حَلِيمٌ لَا يُعَاجِلُ مَنْ سَبَّهُ، فَكَيْفَ مَنْ سَبَّ نَبِيَّهُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى الْأَذَى مِنَ اللَّهِ يَدْعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا كَشْفًا لِسَرَائِرِهِمْ، وَفَضْحًا لِبَوَاطِنِهِمْ، مُعْجِزَةً لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: السَّامُّ عَلَيْكُمْ. فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا قَالَ هَذَا) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (قَالَ كَذَا رُدُّوهُ عَلَيَّ) فَرَدُّوهُ، قَالَ: (قُلْتَ السَّامُّ عَلَيْكُمْ) قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: (إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا عَلَيْكَ مَا قُلْتَ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ). قُلْتُ: خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَ أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: السَّامُّ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقُلْتُ: السَّامُّ عَلَيْكُمْ وَفَعَلَ اللَّهُ بِكُمْ وَفَعَلَ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَهْ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْتَ تَرَى مَا يَقُولُونَ؟! فَقَالَ: (أَلَسْتِ تَرَيْنَ أَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا يَقُولُونَ أَقُولُ وَعَلَيْكُمْ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) أَيْ إِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ عَلَيْكَ وَهُمْ يَقُولُونَ السَّامُّ عَلَيْكَ، وَالسَّامُّ الْمَوْتُ. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ) كَذَا الرِّوَايَةُ (وَعَلَيْكُمْ) بِالْوَاوِ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ، لِأَنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِيمَا دَعَوْا بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الْمَوْتِ، أَوْ مِنْ

(17/292)


سَآمَةِ دِينِنَا وَهُوَ الْمَلَالُ. يُقَالُ: سَئِمَ يَسْأَمُ سَآمَةً وَسَآمًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى

أَيْ لَمَّا أَجَزْنَا انْتَحَى فَزَادَ الْوَاوَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ لِلِاسْتِئْنَافِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَالسَّامُّ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ عَلَى بَابِهَا مِنَ الْعَطْفِ وَلَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ، لِأَنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَلَّمَ نَاسٌ مِنْ يَهُودٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُّ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ: (وَعَلَيْكُمْ) فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَغَضِبَتْ: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: (بَلَى قَدْ سَمِعْتُ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ وَإِنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا) خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَرِوَايَةُ الْوَاوِ أَحْسَنُ مَعْنًى، وَإِثْبَاتُهَا أَصَحُّ رِوَايَةً وَأَشْهَرُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي رَدِّ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ كَالرَّدِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ، لِلْأَمْرِ بِذَلِكَ. وَذَهَبَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ وَابْنُ وَهْبٍ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَإِنْ رَدَدْتَ فَقُلْ عَلَيْكَ. وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ طَاوُسٍ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: عَلَاكَ السَّلَامُ أَيِ ارْتَفَعَ عَنْكَ. وَاخْتَارَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ يَعْنِي الْحِجَارَةُ. وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ أَوْلَى اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالُوا: السَّامُّ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ: (وَعَلَيْكُمْ) قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُّ وَالذَّامُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا عَائِشَةُ لَا تَكُونِي فَاحِشَةً) فَقَالَتْ: مَا سَمِعْتَ مَا قالوا! فقال: (أو ليس قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِمُ الَّذِي قَالُوا قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ). وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فَفَطِنَتْ بِهِمْ عَائِشَةُ فَسَبَّتْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَهْ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ) وَزَادَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. الذَّامُ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ هُوَ الْعَيْبُ، وَفِي الْمَثَلِ (لَا تَعْدَمُ الْحَسْنَاءُ ذَامًا) أَيْ عَيْبًا، وَيُهْمَزُ وَلَا يُهْمَزُ
،

(17/293)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)

يُقَالُ: ذَأَمَهُ يَذْأَمُهُ، مِثْلُ ذَأَبَ يَذْأَبُ، وَالْمَفْعُولُ مذءوم مهموزا، ومنه (مذموما مَدْحُورًا) «1» وَيُقَالُ: ذَامَهُ يَذُومُهُ مُخَفَّفًا كَرَامَهُ يَرُومُهُ. قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ) قَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَعَذَّبَنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ فَهَلَّا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ. وَقِيلَ: قَالُوا إِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْنَا وَيَقُولُ وَعَلَيْكُمُ السَّامُّ وَالسَّامُّ الْمَوْتُ، فَلَوْ كَانَ نَبِيًّا لَاسْتُجِيبَ لَهُ فِينَا وَمُتْنَا. وَهَذَا مَوْضِعُ تَعَجُّبٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَدْ يُغْضَبُونَ فَلَا يُعَاجَلُ من يغضبهم بالعذاب. (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) أَيْ كَافِيهِمْ جَهَنَّمُ عِقَابًا غَدًا (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع.

[سورة المجادلة (58): آية 9]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) أَيْ تَسَارَرْتُمْ. (فَلا تَتَناجَوْا) هَذِهِ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَعَاصِمٍ وَرُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ (فَلَا تَنْتَجُوا) مِنَ الِانْتِجَاءِ (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) أَيْ بِالطَّاعَةِ (وَالتَّقْوى) بِالْعَفَافِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُنَافِقِينَ، أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِزَعْمِهِمْ. وَقِيلَ: أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى. (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون في الآخرة.

[سورة المجادلة (58): آية 10]
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
__________
(1). راجع ج 10 ص 235

(17/294)


فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) أَيْ مِنْ تَزْيِينِ الشَّيَاطِينِ (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) إِذْ تَوَهَّمُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أُصِيبُوا فِي السَّرَايَا، أَوْ إِذَا أَجْرَوُا «1» اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى مُكَايَدَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَرُبَّمَا كَانُوا يُنَاجَوْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَظُنُّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَهُمْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ) أَيِ التَّنَاجِي (شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أَيْ بِمَشِيئَتِهِ وَقِيلَ: بِعِلْمِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِأَمْرِهِ. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أَيْ يَكِلُونَ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ، وَيُفَوِّضُونَ جَمِيعَ شُئُونِهِمْ إِلَى عَوْنِهِ، وَيَسْتَعِيذُونَ بِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَمِنْ كُلِّ شَرٍّ، فَهُوَ الَّذِي سَلَّطَ الشَّيْطَانَ بِالْوَسَاوِسِ ابْتِلَاءً لِلْعَبْدِ وَامْتِحَانًا وَلَوْ شَاءَ لَصَرَفَهُ عَنْهُ. الثَّانِيَةُ- فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا كَانَ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْوَاحِدِ). وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ) فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَايَةَ الْمَنْعِ وَهِيَ أَنْ يَجِدَ الثَّالِثُ مَنْ يَتَحَدَّثُ مَعَهُ كَمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ، ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَ رَجُلٍ فَجَاءَ آخَرُ يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ فَلَمْ يُنَاجِهِ حَتَّى دَعَا رَابِعًا، فَقَالَ لَهُ وَلِلْأَوَّلِ: تَأَخَّرَا وَنَاجَى الرَّجُلَ الطَّالِبَ لِلْمُنَاجَاةِ. خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأُ. وَفِيهِ أَيْضًا التَّنْبِيهُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: (مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ) أَيْ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ مَا يَحْزَنُ لِأَجْلِهِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَدِّرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنْهُ بِمَا يَكْرَهُ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَرَوْهُ أَهْلًا لِيُشْرِكُوهُ فِي حَدِيثِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُلْقِيَاتِ الشَّيْطَانِ وَأَحَادِيثِ النَّفْسِ. وَحَصَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ بَقَائِهِ وَحْدِهُ، فَإِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَمِنَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كُلُّ الْأَعْدَادِ، فَلَا يَتَنَاجَى أَرْبَعَةٌ دُونَ وَاحِدٍ وَلَا عَشَرَةٌ وَلَا أَلْفٌ مَثَلًا، لِوُجُودِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي حَقِّهِ، بَلْ وُجُودُهُ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ أَمْكَنُ وَأَوْقَعُ، فَيَكُونُ بِالْمَنْعِ أَوْلَى. وَإِنَّمَا خَصَّ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ عَدَدٍ يَتَأَتَّى ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّنَاجِي فِي مَنْدُوبٍ أَوْ مُبَاحٍ أَوْ وَاجِبٍ فَإِنَّ الْحُزْنَ يَقَعُ بِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الناس إلى أن ذلك كان
__________
(1). في ح، ز، هـ: (أو إذا رأوا إجماعهم).

(17/295)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَالِ الْمُنَافِقِينَ فَيَتَنَاجَى الْمُنَافِقُونَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا فَشَا الْإِسْلَامُ سَقَطَ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ خَاصٌّ بِالسَّفَرِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَأْمَنُ الرَّجُلُ فِيهَا صَاحِبَهُ، فَأَمَّا فِي الْحَضَرِ وَبَيْنَ الْعِمَارَةِ فَلَا، فَإِنَّهُ يَجِدُ مَنْ يُعِينُهُ، بِخِلَافِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ الِاغْتِيَالِ وَعَدَمِ الْمُغِيثِ «1». وَاللَّهُ أعلم.

[سورة المجادلة (58): آية 11]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) «2» لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْيَهُودَ يُحَيُّونَهُ بِمَا لَمْ يُحَيِّهِ بِهِ اللَّهُ وَذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَصَلَ بِهِ الْأَمْرُ بِتَحْسِينِ الْأَدَبِ فِي مُجَالَسَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى لَا يُضَيِّقُوا عَلَيْهِ الْمَجْلِسَ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّعَاطُفِ وَالتَّآلُفِ حَتَّى يَفْسَحَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، حَتَّى يَتَمَكَّنُوا مِنَ الِاسْتِمَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُمِرُوا أَنْ يُفْسِحَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَجَالِسُ الْقِتَالِ إِذَا اصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ. قَالَ الْحَسَنُ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَاتَلَ الْمُشْرِكِينَ تَشَاحَّ أَصْحَابُهُ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ «3» فَلَا يُوَسِّعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، رَغْبَةً فِي الْقِتَالِ وَالشَّهَادَةِ فَنَزَلَتْ. فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) «4». وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصُّفَّةِ، وَكَانَ فِي الْمَكَانِ ضِيقٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه
__________
(1). في ح، ز، س، ل، هـ: (الغوث).
(2). الأصول على قراءة نافع (في المجلس) بالإفراد.
(3). في ل: (الأول فالأول).
(4). راجع ج 4 ص 184

(17/296)


وَسَلَّمَ يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجَاءَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فِيهِمْ ثَابِتُ بن قيس ابن شَمَّاسٍ وَقَدْ سُبِقُوا فِي الْمَجْلِسِ، فَقَامُوا حِيَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ فَلَمْ يُفْسِحُوا لَهُمْ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ [غَيْرِ»
] أَهْلِ بَدْرٍ: (قُمْ يَا فُلَانُ وَأَنْتَ يَا فُلَانُ) بِعَدَدِ الْقَائِمِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ، وَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَرَاهِيَةَ فِي وُجُوهِهِمْ، فَغَمَزَ الْمُنَافِقُونَ وَتَكَلَّمُوا بِأَنْ قَالُوا: مَا أَنْصَفَ هَؤُلَاءِ وَقَدْ أَحَبُّوا الْقُرْبَ مِنْ نَبِيِّهِمْ فَسَبَقُوا إِلَى الْمَكَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ. (تَفَسَّحُوا) أَيْ تَوَسَّعُوا. وَفَسَحَ فُلَانٌ لِأَخِيهِ فِي مَجْلِسِهِ يَفْسَحُ فَسْحًا أَيْ وُسِّعَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَلَدٌ فَسِيحٌ وَلَكَ فِي كَذَا فُسْحَةٌ، وَفَسَحَ يَفْسَحُ مِثْلُ مَنَعَ يَمْنَعُ، أَيْ وَسَّعَ فِي الْمَجْلِسِ، وَفَسَحَ يَفْسُحُ فَسَاحَةً مِثْلُ كَرُمَ يُكْرِمُ [كَرَامَةً «2»] أَيْ صَارَ وَاسِعًا، وَمِنْهُ مَكَانٌ فَسِيحٌ. الثَّانِيَةُ- قَرَأَ السُّلَمِيُّ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَعَاصِمٌ (فِي الْمَجالِسِ). وقرا قتادة وداود ابن أَبِي هِنْدٍ وَالْحَسَنُ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَاسَحُوا) الْبَاقُونَ (تَفَسَّحُوا فِي الْمَجْلِسِ) فَمَنْ جمع فلأن قوله: (تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) يُنْبِئُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَجْلِسًا. وَكَذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْحَرْبُ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمَعَ لِأَنَّ لِكُلِّ جَالِسٍ مَجْلِسًا. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ إِنْ أُرِيدَ بِالْمَجْلِسِ الْمُفْرَدِ مَجْلِسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَمْعُ عَلَى مَذْهَبِ الْجِنْسِ، كَقَوْلِهِمْ: كَثُرَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ لِلْخَيْرِ وَالْأَجْرِ، سَوَاءٌ كَانَ مَجْلِسَ حَرْبٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ مَجْلِسَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَحَقُّ بِمَكَانِهِ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ [قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ «3» بِهِ)] وَلَكِنْ يُوَسِّعُ لِأَخِيهِ مَا لَمْ يَتَأَذَّ فَيُخْرِجُهُ الضِّيقُ عَنْ مَوْضِعِهِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عن ابن عمر عن
__________
(1). الزيادة من ل، وأسباب النزول وبعض التفاسير وفى ز: (قم أنت يا فلان وأنت يا فلان).
(2). زيادة من ل. [ ..... ]
(3). الزيادة من حاشية الجمل نقلا عن القرطبي.

(17/297)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ). وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسُ فِيهِ آخَرُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يُجْلَسُ مَكَانَهُ. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. الثَّالِثَةُ- إِذَا قَعَدَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُقِيمَهُ حَتَّى يَقْعُدَ مَكَانَهُ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يُخَالِفُ إِلَى مَقْعَدِهِ فَيَقْعُدُ فِيهِ وَلَكِنْ يَقُولُ افْسَحُوا). فَرْعٌ- الْقَاعِدُ فِي الْمَكَانِ إِذَا قَامَ حَتَّى يُقْعِدَ غَيْرَهُ مَوْضِعَهُ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي قَامَ إِلَيْهِ مِثْلَ الْأَوَّلِ فِي سَمَاعِ كَلَامِ الْإِمَامِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الْإِمَامِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتُ حَظِّهِ. الرَّابِعَةُ- إِذَا أَمَرَ إِنْسَانٌ إِنْسَانًا أَنْ يُبَكِّرَ إِلَى الْجَامِعِ فَيَأْخُذُ لَهُ مَكَانًا يَقْعُدُ فِيهِ لَا يُكْرَهُ، فَإِذَا جَاءَ الْآمِرُ يَقُومُ مِنَ الْمَوْضِعِ، لِمَا رُوِيَ: أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَانَ يُرْسِلُ غُلَامَهُ إِلَى مَجْلِسٍ لَهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَيَجْلِسُ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا جَاءَ قَامَ لَهُ مِنْهُ. فَرْعٌ- وَعَلَى هَذَا مَنْ أَرْسَلَ بِسَاطًا أَوْ سَجَّادَةً فَتُبْسَطُ لَهُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ «1». الْخَامِسَةُ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ- وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ- ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ اخْتِصَاصِ الْجَالِسِ بِمَوْضِعِهِ إِلَى أَنْ يَقُومَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَوْلَى بِهِ بَعْدَ قِيَامِهِ فَقَبْلَهُ أَوْلَى بِهِ وَأَحْرَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ، لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ مُتَمَلَّكٍ لِأَحَدٍ لَا قَبْلَ الْجُلُوسِ وَلَا بَعْدَهُ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَلَّكٍ لَكِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ غَرَضُهُ مِنْهُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ، إِذْ قَدْ مُنِعَ غيره من يزاحمه عليه. والله أعلم.
__________
(1). في ز، س، هـ، ل بياض في هذه النسخ، بعد قوله: (من المسجد) نبه عليه الناسخ بالهامش بقوله: بياض بالأصل.

(17/298)


السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) أَيْ فِي قُبُورِكُمْ. وَقِيلَ: فِي قُلُوبِكُمْ. وَقِيلَ: يُوَسِّعُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ بِضَمِّ الشِّينِ فِيهِمَا. وَكَسَرَ الْبَاقُونَ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ (يَعْكُفُونَ) «1» وَ (يَعْرِشُونَ) «2» وَالْمَعْنَى انْهَضُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مجاهد والضحاك: إذ نُودِيَ لِلصَّلَاةِ فَقُومُوا إِلَيْهَا. وَذَلِكَ أَنَّ رِجَالًا تَثَاقَلُوا عَنِ الصَّلَاةِ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: أَيِ انْهَضُوا إِلَى الْحَرْبِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَذَا فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَانْشُزُوا) فَإِنَّ لَهُ حَوَائِجَ فَلَا تَمْكُثُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى أَجِيبُوا إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ يَعُمُّ. وَالنَّشْزُ الِارْتِفَاعُ، مَأْخُوذٌ مِنْ نَشْزِ الْأَرْضِ وَهُوَ ارْتِفَاعُهَا، يُقَالُ نَشَزَ يَنْشُزُ وَيَنْشِزُ إِذَا انْتَحَى مِنْ مَوْضِعِهِ، أَيِ ارْتَفَعَ مِنْهُ. وَامْرَأَةٌ نَاشِزٌ مُنْتَحِيَةٌ عَنْ زَوْجِهَا. وَأَصْلُ هَذَا مِنَ النَّشَزِ، وَالنَّشَزُ هُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ وَتَنَحَّى، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أَيْ فِي الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا، فَيَرْفَعُ الْمُؤْمِنَ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَالْعَالِمَ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَدَحَ اللَّهُ الْعُلَمَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «3» عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُؤْتَوُا الْعِلْمَ (دَرَجاتٍ) أَيْ دَرَجَاتٍ فِي دِينِهِمْ إِذَا فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ. وَقِيلَ: كَانَ أَهْلُ الْغِنَى يَكْرَهُونَ أَنْ يُزَاحِمَهُمْ مَنْ يَلْبَسُ الصُّوفَ فَيَسْتَبِقُونَ إِلَى مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْخِطَابُ لَهُمْ. وَرَأَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجُلًا مِنَ الْأَغْنِيَاءِ يَقْبِضُ ثَوْبَهُ نُفُورًا مِنْ بَعْضِ الْفُقَرَاءِ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ إِلَيْهِ فَقَالَ: (يَا فُلَانُ خَشِيْتُ أَنْ يَتَعَدَّى غِنَاكَ إِلَيْهِ أَوْ فَقْرَهُ إِلَيْكَ) وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرِّفْعَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لَا بِالسَّبْقِ إِلَى صُدُورِ الْمَجَالِسِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) الصَّحَابَةُ (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) يَرْفَعُ الله بها العالم والطالب للحق.
__________
(1). راجع ج 7 ص 272 وص 273.
(2). راجع ج 7 ص 272 وص 273.
(3). والمعنى يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين.

(17/299)


قُلْتُ: وَالْعُمُومُ أَوْقَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ، فَيَرْفَعُ الْمُؤْمِنَ «1» بِإِيمَانِهِ أَوَّلًا ثُمَّ بِعِلْمِهِ ثَانِيًا. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُقَدِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الصَّحَابَةِ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ فَدَعَاهُمْ وَدَعَاهُ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) «2» فَسَكَتُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عن عبد الله ابن عباس قال: قدم عيينة ابن حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابُ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا. الْحَدِيثَ وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ (الْأَعْرَافِ) «3». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عبد الحرث لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنُ أَبْزَى. فَقَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ) وَقَدْ مَضَى أَوَّلُ الْكِتَابِ «4». وَمَضَى الْقَوْلُ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ «5» [وَالْحَمْدُ لِلَّهِ «6» [. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْعَابِدِ مِائَةُ دَرَجَةٍ بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حَضْرُ الْجَوَادِ الْمُضَمَّرِ سَبْعِينَ سَنَةً). وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ). وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ) فَأَعْظِمْ بِمَنْزِلَةٍ هِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالشَّهَادَةِ بِشَهَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: خُيِّرَ سُلَيْمَانُ] عَلَيْهِ السَّلَامُ [بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالْمُلْكِ فَاخْتَارَ الْعِلْمَ فَأُعْطِيَ المال والملك معه.
__________
(1). في ح، ز، س، ل، هـ: (فيرفع المرء).
(2). راجع ج 20 ص 229.
(3). راجع ج 7 ص 357.
(4). راجع ج 1 ص 6.
(5). راجع ج 14 ص 343.
(6). من س وط.

(17/300)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

[سورة المجادلة (58): آية 12]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) (ناجَيْتُمُ) سَارَرْتُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُكْثِرُونَ الْمَسَائِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى شَقُّوا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ كَفَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. ثُمَّ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَسْتَخْلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُنَاجَوْنَهُ، فَظَنَّ بِهِمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَهُمْ فِي النَّجْوَى، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ عِنْدَ النَّجْوَى لِيَقْطَعَهُمْ عَنِ اسْتِخْلَائِهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودَ كَانُوا يُنَاجُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ أُذُنٌ يَسْمَعُ كُلَّ مَا قِيلَ لَهُ، وَكَانَ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مُنَاجَاتَهُ. فَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يُلْقِي فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ نَاجَوْهُ بِأَنَّ جُمُوعًا اجْتَمَعَتْ لِقِتَالِهِ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) الْآيَةَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَانْتَهَى أَهْلُ الْبَاطِلِ عَنِ النَّجْوَى، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاهُمْ صَدَقَةً، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ وَامْتَنَعُوا مِنَ النَّجْوَى، لِضَعْفِ مَقْدِرَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَنِ الصَّدَقَةِ فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمَا بَعْدَ الْآيَةِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَفِي هَذَا الْخَبَرِ عَنْ زَيْدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ثُمَّ نَسَخَهُ مَعَ كَوْنِهِ خَيْرًا وَأَطْهَرَ.

(17/301)


وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ عَظِيمٌ فِي الْتِزَامِ الْمَصَالِحِ، لَكِنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَنْ زَيْدٍ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْعُلَمَاءُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) [سَأَلْتُهُ «1»] قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا تَرَى دِينَارًا) قُلْتُ لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ: (فَنِصْفُ دِينَارٍ) قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ: (فَكَمْ) قُلْتُ: شَعِيرَةٌ. قَالَ: (إِنَّكَ لَزَهِيدٌ) قَالَ فَنَزَلَتْ: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الْآيَةَ. قَالَ: فَبِي «2» خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: شَعِيرَةٌ يَعْنِي وَزْنَ شَعِيرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ أُصُولِيَّتَيْنِ: الْأُولَى- نَسْخُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ فِعْلِهَا. وَالثَّانِيَةُ- النَّظَرُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ بِالْقِيَاسِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ فِعْلِ الصَّدَقَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَصَدَّقَ فِي ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَاجَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رُوِيَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِخَاتَمٍ. وَذَكَرَ القشيري وغيره عن علي بن أبن طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: (فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، وَهِيَ:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) كَانَ لِي دِينَارٌ فَبِعْتُهُ، فَكُنْتُ إِذَا نَاجَيْتُ الرَّسُولَ تَصَدَّقْتُ بِدِرْهَمٍ حَتَّى نَفِدَ، فَنُسِخَتْ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ). وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَهَا اللَّهُ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدْ كَانَتْ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَاثَةٌ لَوْ كَانَتْ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: تَزْوِيجُهُ فَاطِمَةَ، وَإِعْطَاؤُهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَآيَةُ النَّجْوَى. (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) أَيْ مِنْ إِمْسَاكِهَا (وَأَطْهَرُ) لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) يَعْنِي الْفُقَرَاءَ (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
__________
(1). زيادة من ح، ز، س، ل، هـ.
(2). كلمة: (فبى) ساقطة من ل.

(17/302)


أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)

[سورة المجادلة (58): آية 13]
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَأَشْفَقْتُمْ) اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَأَشْفَقْتُمْ) أَيْ أَبَخِلْتُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَقِيْلُ: خِفْتُمْ، وَالْإِشْفَاقُ الْخَوْفُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. أَيْ خِفْتُمْ وَبَخِلْتُمْ بِالصَّدَقَةِ وَشَقَّ عَلَيْكُمْ (أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ). قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَشْرُ لَيَالٍ ثُمَّ نُسِخَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا كَانَ ذَلِكَ إِلَّا لَيْلَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَقِيَ إِلَّا سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ حَتَّى نُسِخَ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ. والله أعلم. الثالثة- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) أَيْ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ الْحُكْمَ. وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ وَجَدَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فَنَسَخَتْ فَرْضِيَّةُ الزَّكَاةِ هَذِهِ الصَّدَقَةَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لم يتصدق بشيء. والله أعلم. (أَطِيعُوا اللَّهَ) فِي فَرَائِضِهِ (وَرَسُولَهُ) فِي سُنَنِهِ (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

[سورة المجادلة (58): الآيات 14 الى 16]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)

(17/303)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ (مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) يَقُولُ: لَيْسَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْيَهُودِ وَلَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُمْ مُذَبْذَبُونَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانُوا يَحْمِلُونَ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ. قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَبْتَلَ الْمُنَافِقَيْنِ، كَانَ أَحَدُهُمَا يُجَالِسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْفَعُ حَدِيثَهُ إِلَى الْيَهُودِ، فَبَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَةٍ مِنْ حُجُرَاتِهِ إِذْ قَالَ: (يَدْخُلُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ قَلْبُهُ قَلْبُ جَبَّارٍ وَيَنْظُرُ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ) فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلَ- وَكَانَ أَزْرَقَ أَسْمَرَ قَصِيرًا خَفِيفَ اللِّحْيَةِ- فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ) فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا فَعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَعَلْتَ) فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا سَبُّوهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَدْ كَادَ الظِّلُّ يَتَقَلَّصُ عَنْهُ إِذْ قَالَ: (يَجِيئُكُمُ السَّاعَةَ رَجُلٌ أَزْرَقُ يَنْظُرُ إليكم نظر شيطان) فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَا بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ) قَالَ: دَعْنِي أَجِيئُكَ بِهِمْ. فَمَرَّ فَجَاءَ بِهِمْ فَحَلَفُوا جَمِيعًا أنه ما كان من ذلك شي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً) إِلَى قَوْلِهِ: (هُمُ الْخاسِرُونَ) وَالْيَهُودُ مَذْكُورُونَ في القرآن و (غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ). (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ) أَيْ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ (عَذاباً شَدِيداً) فِي جَهَنَّمَ وَهُوَ الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ. (إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ بِئْسَ الْأَعْمَالُ أَعْمَالُهُمْ (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) يَسْتَجِنُّونَ بِهَا مِنَ الْقَتْلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ (إِيمَانَهُمْ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ هُنَا وَفِي (الْمُنَافِقُونَ) «1». أَيْ إِقْرَارُهُمُ اتَّخَذُوهُ جُنَّةً، فَآمَنَتْ أَلْسِنَتُهُمْ مِنْ خَوْفِ الْقَتْلِ، وَكَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) فِي الدنيا بالقتل وفى الآخرة بالنار. وَالصَّدُّ الْمَنْعُ (عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: فِي قَتْلِهِمْ بِالْكُفْرِ لِمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ النِّفَاقِ. وَقِيلَ: أَيْ بِإِلْقَاءِ الْأَرَاجِيفِ وَتَثْبِيطِ المسلمين عن الجهاد وتخويفهم.
__________
(1). راجع ج 18 ص 123. [ ..... ]

(17/304)


لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)

[سورة المجادلة (58): الآيات 17 الى 19]
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ مِنْ عَذَابِهِ شَيْئًا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ الْمُنَافِقُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ ينصر يوم القيامة، لقد شقينا إذا! فو الله لتنصرنّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْفُسِنَا وَأَوْلَادِنَا وَأَمْوَالِنَا إِنْ كَانَتْ قيامة. فنزلت «1» يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أَيْ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الْيَوْمَ. وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ وَهُوَ مُغَالَطَتُهُمْ بِالْيَمِينِ غَدًا، وَقَدْ صَارَتِ الْمَعَارِفُ ضَرُورِيَّةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ قَوْلُهُمْ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «2». وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ بِإِنْكَارِهِمْ وَحَلِفِهِمْ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: وَيَحْسَبُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ لِأَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ بِاضْطِرَارٍ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ فَتَقُومُ الْقَدَرِيَّةُ مُسْوَدَّةٌ وُجُوهُهُمْ مُزْرَقَّةٌ أَعْيُنِهِمْ مَائِلٌ شِدْقُهُمْ يَسِيلُ لُعَابُهُمْ فَيَقُولُونَ وَاللَّهِ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِكَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا صَنَمًا وَلَا وَثَنًا، وَلَا اتَّخَذْنَا مِنْ دُونِكَ إِلَهًا». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَقُوا وَاللَّهِ! أَتَاهُمُ الشِّرْكُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ تَلَا وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ هُمْ وَاللَّهِ الْقَدَرِيَّةُ. ثَلَاثًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أَيْ غَلَبَ وَاسْتَعْلَى، أَيْ بِوَسْوَسَتِهِ فِي الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: قَوِيَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: أَحَاطَ بِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ رَابِعًا أَيْ جَمَعَهُمْ وَضَمَّهُمْ. يُقَالُ:
أَحْوَذَ الشَّيْءَ أَيْ جَمَعَهُ وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَإِذَا جَمَعَهُمْ فقد غلبهم وقوى عليهم وأحاط بهم.
__________
(1). في ح، ز، س، هـ، ل: «فنزلت الآية قوله تعالى».
(2). راجع ج 6 ص 401.

(17/305)


إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)

فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أَيْ أَوَامِرَهُ فِي الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ. وَقِيلَ: زَوَاجِرَهُ فِي النَّهْيِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَالنِّسْيَانُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْغَفْلَةِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَالْوَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ هُنَا. أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ طَائِفَتُهُ وَرَهْطُهُ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ فِي بَيْعِهِمْ، لِأَنَّهُمْ بَاعُوا الْجَنَّةَ بِجَهَنَّمَ، وباعوا الهدى بالضلالة.

[سورة المجادلة (58): الآيات 20 الى 21]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ. أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَذِلَّاءِ لَا أَذَلَّ مِنْهُمْ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَيْ قَضَى اللَّهُ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، عَنْ قَتَادَةَ. الْفَرَّاءُ: كَتَبَ بِمَعْنَى قَالَ. أَنَا تَوْكِيدٌ وَرُسُلِي مَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِالْحَرْبِ فَإِنَّهُ غَالِبٌ «1» بِالْحَرْبِ، وَمَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِالْحُجَّةِ فَإِنَّهُ غَالِبٌ «1» بِالْحُجَّةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: لَئِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَنَا مَكَّةَ وَالطَّائِفَ وَخَيْبَرَ وَمَا حَوْلَهُنَّ رَجَوْنَا أَنْ يُظْهِرَنَا اللَّهُ عَلَى فَارِسَ والروم، فقال عبد الله بن أبىّ بن سَلُولَ: أَتَظُنُّونَ الرُّومَ وَفَارِسَ مِثْلَ الْقُرَى الَّتِي غَلَبْتُمْ عَلَيْهَا؟! وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَشَدُّ بَطْشًا مِنْ أَنْ تَظُنُّوا فِيهِمْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي». نَظِيرُهُ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «2».

[سورة المجادلة (58): آية 22]
لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
__________
(1). في ح، ز، س، ل، هـ: «فإن الرسول غالب».
(2). راجع ج 15 ص 139.

(17/306)


فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ أَيْ يُحِبُّونَ وَيُوَالُونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَقَدَّمَ «1» وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي [عبد الله بن «2»] عبد الله بن أبي، جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً، فَقَالَ لَهُ: بِاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَبْقَيْتَ مِنْ شَرَابِكَ فَضْلَةً أُسْقِيهَا أَبِي، لَعَلَّ اللَّهَ يُطَهِّرُ بِهَا قَلْبَهُ؟ فَأَفْضَلَ لَهُ فَأَتَاهُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ:
هِيَ فَضْلَةٌ مِنْ شَرَابِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم جئتك بها تشر بها لَعَلَّ اللَّهَ يُطَهِّرُ قَلْبَكَ بِهَا.
فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: فَهَلَّا جِئْتَنِي بِبَوْلِ أُمِّكَ فَإِنَّهُ أَطْهَرُ مِنْهَا. فَغَضِبَ وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمَا أَذِنْتَ لِي فِي قَتْلِ أَبِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«بَلْ تَرْفُقُ بِهِ وتحسن إليه». وقال ابن جريح: حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا قُحَافَةَ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَكَّهُ أَبُو بَكْرٍ ابْنُهُ صَكَّةً فَسَقَطَ مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ له، فقال: «أوفعلته، لَا تَعُدْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نبيّا ولو كَانَ السَّيْفُ مِنِّي قَرِيبًا لِقِتْلَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَتَلَ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْجَرَّاحِ يَوْمَ أُحُدٍ وَقِيلَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَكَانَ الْجَرَّاحُ يَتَصَدَّى لِأَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَحِيدُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ قَصَدَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ فَقَتَلَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ: «لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» الْآيَةَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كذلك يقول أهل الشام. وقد سألت رجالا من بنى الحرث بْنِ فِهْرٍ فَقَالُوا: تُوُفِّيَ أَبُوهُ مِنْ قَبْلِ الإسلام. أَوْ أَبْناءَهُمْ يعنى أبا بكر دعى ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى الْبِرَازِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَتِّعْنَا بِنَفْسِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّكَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ». أَوْ إِخْوانَهُمْ يَعْنِي مصعب بن عمير
__________
(1). راجع ج 8 ص 194.
(2). زيادة لازمة، فقد كان عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول رضى الله عنه من فضلاء الصحابة وخيارهم وكان أبوه عبد الله رأس المنافقين وفيه نزلت الآية.

(17/307)


قَتَلَ أَخَاهُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ. أَوْ عَشِيرَتَهُمْ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَتَلَ خاله العاص ابن هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَلِيًّا وَحَمْزَةَ قَتَلَا عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، لَمَّا كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ أَوَّلَ سُورَةِ «الْمُمْتَحَنَةِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. بَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَفْسُدُ بِمُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَ.
الثَّانِيَةَ- اسْتَدَلَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُعَادَاةِ الْقَدَرِيَّةِ وَتَرْكِ مُجَالَسَتِهِمْ.
قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: لَا تُجَالِسِ الْقَدَرِيَّةَ وَعَادِهِمْ فِي اللَّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
قُلْتُ: وَفِي مَعْنَى أَهْلِ الْقَدَرِ جَمِيعُ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَنْ كَانَ يَصْحَبُ السُّلْطَانَ. وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ لَقِيَ الْمَنْصُورَ فِي الطَّوَافِ فَلَمَّا عَرَفَهُ هَرَبَ مِنْهُ وَتَلَاهَا. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
«اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عِنْدِي نِعْمَةً فَإِنِّي وَجَدْتُ فِيمَا أَوْحَيْتَ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ- إِلَى قَوْلِهِ- أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» أَيْ خَلَقَ فِي قُلُوبِهِمُ التَّصْدِيقَ، يَعْنِي مَنْ لَمْ يُوَالِ مَنْ حَادَّ اللَّهَ. وَقِيلَ: كَتَبَ أَثْبَتَ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقِيلَ: جَعَلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «1» أَيِ اجْعَلْنَا وَقَوْلُهُ «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» «2» وَقِيلَ: «كَتَبَ» أَيْ جَمَعَ، وَمِنْهُ الْكَتِيبَةُ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَقُولُ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ.
وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الْكَافِ مِنْ «كَتَبَ» وَنَصْبِ النُّونِ مِنَ «الْإِيمَانَ» بِمَعْنَى كَتَبَ اللَّهُ وَهُوَ الْأَجْوَدُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ «كُتِبَ» عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ «الْإِيمَانُ» بِرَفْعِ النُّونِ. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ «وَعَشِيرَاتِهِمْ» بِأَلِفٍ وَكَسْرِ التَّاءِ عَلَى الْجَمْعِ، وَرَوَاهَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَقِيلَ: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ» أَيْ عَلَى قُلُوبِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي جُذُوعِ «3» النَّخْلِ وَخَصَّ الْقُلُوبَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْإِيمَانِ. «وَأَيَّدَهُمْ» قَوَّاهُمْ وَنَصَرَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، قَالَ الْحَسَنُ: وَبِنَصْرٍ مِنْهُ. وَقَالَ
__________
(1). راجع ج 4 ص 97.
(2). راجع ج 7 ص 296.
(3). راجع ج 11 ص 224
.

(17/308)


الربيع بن أنس: بالقرآن وحججه. و؟ قال ابْنُ جُرَيْجٍ: بِنُورٍ وَإِيمَانٍ وَبُرْهَانٍ وَهُدًى. وَقِيلَ:
بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيَّدَهُمْ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَيْ قَبِلَ أَعْمَالَهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ فَرِحُوا بِمَا أَعْطَاهُمْ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجُرْجَانِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ، قَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِلَهِي! مَنْ حِزْبُكَ وَحَوْلَ عَرْشِكَ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ:
«يَا دَاوُدُ الْغَاضَّةُ أَبْصَارُهُمْ، النَّقِيَّةُ قُلُوبُهُمْ، السَّلِيمَةُ أَكُفُّهُمْ، أُولَئِكَ حِزْبِي وَحَوْلَ عَرْشِي».
ختمت والحمد لله سورة «المجادلة»
18 ربيع الثانى سنة 1385 15
اغسطس سنة 1965
محقّقه أحمد عبد العليم البردونى
ثم بعون الله تعالى الجزء السابع عَشَرَ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ.
يَتْلُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى الجزء الثاني عشر، وأوّله:
«سورة (الحشر)»

(17/309)


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)

[الجزء الثامن عشر]

[تفسير سورة الحشر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سورة الحشر مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهِيَ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ قَرَأَ سورة الحشر لم يبق شي مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْهَوَامِ وَالرِّيحِ وَالسَّحَابِ وَالطَّيْرِ وَالدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ وَالْجِبَالِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْمَلَائِكَةِ إِلَّا صَلَّوْا عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ. فَإِنْ مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ لَيْلَتِهِ مَاتَ شَهِيدًا (. خَرَّجَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَخَرَّجَ الثَّعَالِبِيُّ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ «1» الْحَشْرِ لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ [الحشر: 21]- إِلَى آخِرِهَا- فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ مَاتَ شَهِيدًا). وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ «2» سَبْعِينَ الْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنْ مَاتَ فِي يَوْمِهِ مَاتَ شَهِيدًا وَمَنْ قَرَأَهَا حِينَ يُمْسِي فَكَذَلِكَ (. قَالَ: حديث حسن غريب.

[سورة الحشر (59): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
1 تقدم «3».

[سورة الحشر (59): آية 2]
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)
__________
(1). في أ، ح:" من قرأ سورة الحشر ... ". وفى هـ:" من قرأ آخر الحشر ... ".
(2). كلمة" به" ساقطة من هـ.
(3). راجع ج 17 ص 235.

(18/1)


2 قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: قُلْ سُورَةُ النَّضِيرِ، وَهُمْ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فِي فِتَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) الْحَشْرُ الْجَمْعُ، وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: حَشْرَانِ فِي الدُّنْيَا وَحَشْرَانِ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا الَّذِي فِي الدُّنْيَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانُوا مِنْ سَبْطٍ «1» لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا «2» وَكَانَ أَوَّلَ حَشْرٍ حُشِرُوا فِي الدُّنْيَا إِلَى الشَّامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: مَنْ شَكَّ أَنَّ الْمَحْشَرَ فِي الشَّامِ فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمُ: (اخْرُجُوا) قَالُوا إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: (إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ). قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا أَوَّلُ الْمَحْشَرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أَوَّلُ مَنْ حُشِرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأُخْرِجَ مِنْ دِيَارِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أُخْرِجُوا إِلَى خَيْبَرَ، وَأَنَّ مَعْنَى لِأَوَّلِ الْحَشْرِ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ إِلَى خَيْبَرَ، وَآخِرُهُ إِخْرَاجُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِيَّاهُمْ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى نَجْدٍ وَأَذْرِعَاتٍ. وَقِيلَ تَيْمَاءُ وأريحا، وَذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ وَنَقْضِ عَهْدِهِمْ. وَأَمَّا الْحَشْرُ الثَّانِي:
__________
(1). السبط: ولد الولد. والسبط من اليهود: كالقبيلة من العرب. [ ..... ]
(2). ما بين المربعين ساقط من هـ.

(18/2)


فَحَشْرُهُمْ قُرْبَ الْقِيَامَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: تَأْتِي نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَأْكُلُ مِنْهُمْ مَنْ تَخَلَّفَ. وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي (كِتَابِ التَّذْكِرَةِ). وَنَحْوَهُ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ هُوَ جَلَاؤُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ؟ فَقَالَ لِي: الْحَشْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَشْرُ الْيَهُودِ. قَالَ: وَأَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ إِلَى خَيْبَرَ حِينَ سُئِلُوا عَنِ الْمَالِ فَكَتَمُوهُ، فَاسْتَحَلَّهُمْ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِلْحَشْرِ أَوَّلٌ وَوَسَطٌ وَآخِرٌ، فَالْأَوَّلُ إِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وَالْأَوْسَطُ إِجْلَاءُ خَيْبَرَ، وَالْآخِرُ حَشْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ. وَخَالَفَهُ بَقِيَّةُ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالُوا: بَنُو قُرَيْظَةَ مَا حُشِرُوا وَلَكِنَّهُمْ قُتِلُوا. حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ. الثَّالِثَةُ- قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَمُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْجَلَاءِ مِنْ دِيَارِهِمْ مِنْ غير شي لَا يَجُوزُ الْآنَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ. وَالْآنَ فَلَا بُدَّ مِنْ قِتَالِهِمْ أَوْ سَبْيِهِمْ أَوْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) يُرِيدُ لِعِظَمِ أَمْرِ الْيَهُودِ وَمَنَعَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فِي صُدُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ «1». (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) قِيلَ: هِيَ الْوَطِيحُ وَالنَّطَاةُ وَالسُّلَالِمُ وَالْكَتِيبَةُ. (مِنَ اللَّهِ) أَيْ مِنْ أَمْرِهِ. وَكَانُوا أَهْلَ حَلْقَةٍ- أَيْ سِلَاحٍ- كَثِيرٍ- وَحُصُونٍ مَنِيعَةٍ، فَلَمْ يمنعهم شي مِنْهَا. (فَأَتاهُمُ اللَّهُ) أَيْ أَمْرُهُ وَعَذَابُهُ. (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أَيْ لَمْ يَظُنُّوا. وَقِيلَ: مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمُوا. وَقِيلَ: مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا بِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) بِقَتْلِ سَيِّدِهِمْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَبُو نَائِلَةَ سِلْكَانُ بْنُ سَلَامَةَ بن وقش- وكان أخا كعب ابن الْأَشْرَفِ مِنَ الرَّضَاعَةِ- وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ. وَخَبَرُهُ مَشْهُورٌ فِي السِّيرَةِ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ بَيْنَ يَدَيْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ) فَكَيْفَ لَا يُنْصَرُ بِهِ مَسِيرَةَ مِيلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَحَلَّةِ بَنِي النَّضِيرِ. وَهَذِهِ خِصِّيصَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غيره.
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من هـ.

(18/3)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَخْرَبَ، أَيْ يَهْدِمُونَ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عَمْرٍو يُخَرِّبُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّخْرِيبِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِنَّمَا اخْتَرْتُ التَّشْدِيدَ لِأَنَّ الْإِخْرَابَ تَرْكُ الشيء خرابا بغير ساكن، وبنو النضير لَمْ يَتْرُكُوهَا خَرَابًا وَإِنَّمَا خَرَّبُوهَا بِالْهَدْمِ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: التَّخْرِيبُ وَالْإِخْرَابُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالتَّشْدِيدُ بِمَعْنَى التَّكْثِيرِ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: أَنَّ مَعْنَى فَعَّلْتُ وَأَفْعَلْتُ يَتَعَاقَبَانِ، نَحْوَ أَخْرَبْتُهُ»
وَخَرَّبْتُهُ وَأَفْرَحْتُهُ وَفَرَّحْتُهُ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الْأُولَى. قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُخَرِّبُونَ مِنْ خَارِجٍ لِيَدْخُلُوا، وَالْيَهُودُ يُخَرِّبُونَ مِنْ دَاخِلٍ لِيَبْنُوا بِهِ مَا خَرِبَ مِنْ حِصْنِهِمْ. فَرُوِيَ أَنَّهُمْ صَالَحُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَلَّا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ قَالُوا: هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي نُعِتَ «2» فِي التَّوْرَاةِ، فَلَا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ. فَلَمَّا هُزِمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ارْتَابُوا وَنَكَثُوا، فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ، فَحَالَفُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ فَقَتَلَ كَعْبًا غِيلَةً ثُمَّ صَبَّحَهُمْ بِالْكَتَائِبِ، فَقَالَ لَهُمُ: اخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ. فَقَالُوا: الْمَوْتُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ، فَتَنَادَوْا بِالْحَرْبِ. وَقِيلَ: اسْتَمْهَلُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِيَتَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ، فدس إليهم عبد الله ابن أُبَيٍّ الْمُنَافِقُ وَأَصْحَابُهُ لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، ولين أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ. فَدُرِّبُوا عَلَى الْأَزِقَّةِ وَحَصَّنُوهَا إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وَأَيِسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ طَلَبُوا الصُّلْحَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ إِلَّا الْجَلَاءَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمَّا صَالَحَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ، كَانُوا يَسْتَحْسِنُونَ الْخَشَبَةَ وَالْعَمُودَ «3» فَيَهْدِمُونَ بُيُوتَهُمْ وَيَحْمِلُونَ ذَلِكَ عَلَى إِبِلِهِمْ وَيُخَرِّبُ الْمُؤْمِنُونَ بَاقِيهَا. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَيْضًا: كَانُوا يُخَرِّبُونَهَا لِئَلَّا يَسْكُنَهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا كُلَّمَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارٍ مِنْ دُورِهِمْ هَدَمُوهَا لِيَتَّسِعَ مَوْضِعُ الْقِتَالِ، وَهُمْ يَنْقُبُونَ دُورَهُمْ مِنْ أَدْبَارِهَا إِلَى الَّتِي بَعْدَهَا لِيَتَحَصَّنُوا فِيهَا، ويرموا
__________
(1). في هـ:" أحزنته وحزنته".
(2). في ح، هـ:" الذي بعث الله في التوراة".
(3). في: هـ:" أو العمود" بزيادة لفظ" أو".

(18/4)


وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)

بِالَّتِي أَخْرَجُوا مِنْهَا الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: لِيَسُدُّوا بِهَا أَزِقَّتَهُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ بِأَيْدِيهِمْ فِي إِخْرَابِ دَوَاخِلِهَا وما فيها لئلا يأخذه المسلمون. وب أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِي إِخْرَابِ «1» ظَاهِرِهَا لِيَصِلُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ مُزَخْرَفَةً فَحَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْكُنُوهَا" فَخَرَّبُوهَا مِنْ دَاخِلٍ وَخَرَّبَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ خَارِجٍ. وَقِيلَ: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِنَقْضِ الْمُوَاعَدَةِ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُقَاتَلَةِ، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ بِأَيْدِيهِمْ فِي تركهم لها. وب أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِي إِجْلَائِهِمْ عَنْهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ التَّنَاوُلُ لِلْإِفْسَادِ إِذَا كَانَ بِالْيَدِ كَانَ حَقِيقَةً، وَإِذَا كَانَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ كَانَ مَجَازًا، إِلَّا أَنَّ قَوْلَ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَجَازِ أَمْثَلُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ. قَوْلُهُ تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أَيِ اتَّعِظُوا يَا أَصْحَابَ الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ. وَقِيلَ: يَا مَنْ عَايَنَ ذَلِكَ بِبَصَرِهِ، فَهُوَ جَمْعٌ لِلْبَصَرِ. وَمِنْ جُمْلَةِ الِاعْتِبَارِ هُنَا أَنَّهُمُ اعْتَصَمُوا بِالْحُصُونِ مِنَ اللَّهِ فَأَنْزَلَهُمُ اللَّهُ مِنْهَا. وَمِنْ وُجُوهِهِ: أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ يَنْصُرُهُمْ. وَمِنْ وُجُوهِهِ أَيْضًا: أَنَّهُمْ هَدَمُوا أَمْوَالَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ. وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِغَيْرِهِ اعْتُبِرَ فِي نَفْسِهِ. وَفِي الْأَمْثَالِ الصَّحِيحَةِ:" السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ".

[سورة الحشر (59): الآيات 3 الى 4]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أَيْ لَوْلَا أَنَّهُ قَضَى أَنَّهُ سَيُجْلِيهِمْ عَنْ دَارِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ مُدَّةً فَيُؤْمِنُ بَعْضُهُمْ وَيُولَدُ لَهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ. (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) أَيْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ كَمَا فَعَلَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ. وَالْجَلَاءُ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ يُقَالُ: جَلَا بِنَفْسِهِ جَلَاءً، وَأَجْلَاهُ غَيْرُهُ إِجْلَاءً. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَلَاءِ وَالْإِخْرَاجِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا فِي الْإِبْعَادِ وَاحِدًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ الْجَلَاءَ مَا كَانَ مَعَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَالْإِخْرَاجُ قد يكون مع بقاء
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من هـ.

(18/5)


مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)

الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ. الثَّانِي- أَنَّ الْجَلَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِجَمَاعَةٍ، وَالْإِخْرَاجَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ وَلِجَمَاعَةٍ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ) أَيْ ذَلِكَ الْجَلَاءُ (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ) أَيْ عَادُوهُ وَخَالَفُوا أَمْرَهُ. (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ) قَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ (وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ) بِإِظْهَارِ التضعيف كالتي في" الأنفال" «1»، وأدغم الباقون.

[سورة الحشر (59): آية 5]
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) مَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِ قَطَعْتُمْ، كأنه قال: أي شي قَطَعْتُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ عَلَى حُصُونِ بَنِي النَّضِيرِ- وهي البؤيرة- حِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ بِمَعُونَةِ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ، أَمَرَ بِقَطْعِ نَخِيلِهِمْ وَإِحْرَاقِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ ذَلِكَ، فَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّهُمْ قَطَعُوا مِنْ نَخِيلِهِمْ وَأَحْرَقُوا سِتَّ نَخَلَاتٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّهُمْ قَطَعُوا نَخْلَةً وَأَحْرَقُوا نَخْلَةً. وَكَانَ ذَلِكَ عَنْ إِقْرَارِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ بِأَمْرِهِ، إِمَّا لِإِضْعَافِهِمْ بها و «2» إما لِسَعَةِ الْمَكَانِ بِقَطْعِهَا. فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا- وَهُمْ يَهُودُ أَهْلِ الْكِتَابِ-: يَا مُحَمَّدُ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيٌّ تُرِيدُ الصَّلَاحَ، أَفَمِنَ الصَّلَاحِ قطع الخل وَحَرْقُ الشَّجَرِ؟ وَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ إِبَاحَةَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ «3» فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى اخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَقْطَعُوا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: اقْطَعُوا لِنَغِيظَهُمْ بِذَلِكَ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنِ الْقَطْعِ وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَ مِنَ الْإِثْمِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ قَطْعَهُ وَتَرْكَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقَالَ شَاعِرُهُمْ سِمَاكٌ الْيَهُودِيُّ فِي ذَلِكَ:
__________
(1). راجع ج 7 ص 379.
(2). في ح، هـ:" أو لسعة".
(3). في ح، س، هـ:" المسلمون".

(18/6)


أَلَسْنَا وَرِثْنَا الْكِتَابَ الْحَكِيمَ ... عَلَى عَهْدِ مُوسَى ولم نصدف
وأنتم رعاء الشاء عِجَافٍ ... بِسَهْلِ تِهَامَةَ وَالْأَخْيَفِ
تَرَوْنَ الرِّعَايَةَ مَجْدًا لَكُمْ ... لَدَى كُلِّ دَهْرٍ لَكُمْ مُجْحِفِ
فَيَا أَيُّهَا الشَّاهِدُونَ انْتَهُوا ... عَنِ الظُّلْمِ وَالْمَنْطِقِ الْمُؤْنِفِ
لَعَلَّ اللَّيَالِي وَصَرْفَ الدُّهُورْ ... يُدِلْنَ مَنِ الْعَادِلِ الْمُنْصِفِ
بِقَتْلِ النَّضِيرِ وَإِجْلَائِهَا «1» ... وَعَقْرِ النَّخِيلِ وَلَمْ تُقْطِفِ
فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
تَفَاقَدَ «2» مَعْشَرٌ نصروا قريشا ... وليس لهم ببلدتهم نصير
همو أُوتُوا الْكِتَابَ فَضَيَّعُوهُ ... وَهُمْ عُمْيٌ عَنِ التَّوْرَاةِ بُورُ
كَفَرْتُمْ بِالْقُرَانِ وَقَدْ أَبَيْتُمْ «3» ... بِتَصْدِيقِ الَّذِي قال النذير
وهان على سراة بني لوي ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ ... وَحَرَّقَ فِي نَوَاحِيهَا «4» السَّعِيرُ
سَتَعْلَمُ أينا منها بنزه ... ونعلم أَيَّ أَرْضَيْنَا تَصِيرُ
فَلَوْ كَانَ النَّخِيلُ بِهَا رِكَابًا ... لَقَالُوا لَا مُقَامَ لَكُمْ فَسِيرُوا
الثَّانِيَةُ- كَانَ خُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَوَّلَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَتَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الْحُصُونِ، وَأَمَرَ بِقَطْعِ النَّخْلِ وَإِحْرَاقِهَا، وَحِينَئِذٍ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ. ودس عبد الله بن أبي بن سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ: إِنَّا مَعَكُمْ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ، فَاغْتَرُّوا بِذَلِكَ. فَلَمَّا جَاءَتِ الْحَقِيقَةُ خَذَلُوهُمْ وَأَسْلَمُوهُمْ وَأَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَسَأَلُوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكف عن
__________
(1). في سيرة ابن هشام:" وأحلافها".
(2). في سيرة ابن هشام:" تعاهد".
(3). في السيرة:" أتيتم".
(4). في السيرة:" في طرائقها".

(18/7)


دِمَائِهِمْ وَيُجْلِيَهُمْ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا السِّلَاحَ، فَاحْتَمَلُوا كَذَلِكَ إِلَى خَيْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَى الشَّامِ. وَكَانَ مِمَّنْ سَارَ مِنْهُمْ إِلَى خَيْبَرَ أَكَابِرُهُمْ، كَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَسَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ. فَدَانَتْ لَهُمْ خَيْبَرُ. الثَّالِثَةُ: ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَحَرَّقَ. وَلَهَا يقول حسان:
وهان على سراة بني لوي ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ الْآيَةَ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَخْرِيبِ دَارِ الْعَدُوِّ وَتَحْرِيقِهَا وَقَطْعِ ثِمَارِهَا عَلَى قولين: الأول- أن ذلك جائز، قال فِي الْمُدَوَّنَةِ. الثَّانِي- إِنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا، وَإِنْ يَئِسُوا فَعَلُوا، قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ. وَعَلَيْهِ يُنَاظِرُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ عَلِمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ قَطَعَ وَحَرَّقَ لِيَكُونَ ذَلِكَ نِكَايَةً لَهُمْ وَوَهْنًا فِيهِمْ حَتَّى يَخْرُجُوا عَنْهَا. وَإِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِصَلَاحِ بَاقِيهِ مَصْلَحَةٌ جَائِزَةٌ شَرْعًا، مَقْصُودَةٌ عَقْلًا. الرَّابِعَةُ- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. وَقَالَهُ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ قَالَ: وَإِنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ يَبْعُدُ فِي مِثْلِهِ مَعَ وُجُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَلَا شَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى ذَلِكَ وَسَكَتَ، فَتَلَقَّوُا الْحُكْمَ مِنْ تَقْرِيرِهِ فَقَطْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُمْ، وَلَا اجْتِهَادَ مَعَ حُضُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اجْتِهَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ، أَخْذًا بِعُمُومِ الْأَذِيَّةِ لَلْكُفَّارِ، وَدُخُولًا فِي الْإِذْنِ للكل بما يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِالِاجْتِيَاحِ وَالْبَوَارِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ. الْخَامِسَةُ: اخْتُلِفَ فِي اللِّينَةِ مَا هِيَ، عَلَى أَقْوَالٍ عَشَرَةٍ: الْأَوَّلُ- النَّخْلُ كُلُّهُ إِلَّا الْعَجْوَةَ، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْخَلِيلُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ

(18/8)


وَالْحَسَنِ: أَنَّهَا النَّخْلُ كُلُّهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا عَجْوَةً وَلَا غَيْرَهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّهَا لَوْنٌ مِنَ النَّخْلِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ: أَنَّهَا كِرَامُ النَّخْلِ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنَّهَا جَمِيعُ أَلْوَانِ التَّمْرِ سِوَى الْعَجْوَةِ وَالْبَرْنِيِّ «1». وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: إِنَّهَا الْعَجْوَةُ خَاصَّةً. وَذُكِرَ أَنَّ الْعَتِيقَ وَالْعَجْوَةَ كَانَتَا مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّفِينَةِ. وَالْعَتِيقُ: الْفَحْلُ. وَكَانَتِ الْعَجْوَةُ أَصْلَ الْإِنَاثِ كُلِّهَا فَلِذَلِكَ شَقَّ عَلَى الْيَهُودِ قَطْعُهَا، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: هِيَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ يُقَالُ لِتَمْرِهِ: اللَّوْنُ، تَمْرُهُ أَجْوَدُ التَّمْرِ، وَهُوَ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ، يُرَى نَوَاهُ مِنْ خَارِجِهِ وَيَغِيبُ فِيهِ الضِّرْسُ، النَّخْلَةُ مِنْهَا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ وَصِيفٍ «2». وَقِيلَ: هِيَ النَّخْلَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ.
قَدْ شَجَانِي الْحَمَامُ حِينَ تَغَنَّى ... بِفِرَاقِ الْأَحْبَابِ مِنْ فَوْقٍ لِينَهْ
وَقِيلَ: إِنَّ اللِّينَةَ الْفَسِيلَةُ، لِأَنَّهَا أَلْيَنُ مِنَ النَّخْلَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
غَرَسُوا لِينَهَا بِمَجْرَى مَعِينٍ ... ثُمَّ حَفُّوا النَّخِيلَ بِالْآجَامِ «3»
وَقِيلَ: إِنَّ اللِّينَةَ الْأَشْجَارُ كُلُّهَا لِلِينِهَا بِالْحَيَاةِ، قَالَ ذُو الرِّمَّةِ:
طِرَاقُ الْخَوَافِي وَاقِعٌ فَوْقَ لِينَةٍ ... نَدَى لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ
وَالْقَوْلُ الْعَاشِرُ- أَنَّهَا الدَّقَلُ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. قَالَ: وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ لَا تَنْتَفِخُ الْمَوَائِدَ حَتَّى تُوجَدَ الْأَلْوَانُ، يَعْنُونَ الدَّقَلَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمَا أَعْرَفُ بِبَلَدِهِمَا وَأَشْجَارِهِمَا. الثَّانِي- أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَعْضُدُهُ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يُصَحِّحُونَهُ، فَإِنَّ اللِّينَةَ وَزْنُهَا لُونَةٌ، وَاعْتَلَّتْ عَلَى أُصُولِهِمْ فَآلَتْ إِلَى لِينَةٍ فَهِيَ لَوْنٌ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْهَاءُ كُسِرَ أَوَّلُهَا، كَبَرْكِ الصَّدْرِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) وَبِرْكِهِ (بِكَسْرِهَا) لِأَجْلِ الْهَاءِ. وَقِيلَ لِينَةٌ أَصْلُهَا لِوْنَةٌ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. وَجَمْعُ اللِّينَةِ لِينٌ. وَقِيلَ: لِيَانٌ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ يَصِفُ عُنُقَ فَرَسِهِ:
وَسَالِفَةٌ كَسَحُوقِ اللِّيَا ... نِ أَضْرَمَ فيها الغوي السعر
__________
(1). (البرني بفتح فسكون): ضرب من التمر أحمر مشرب بصفرة كثير اللحاء، عذب الحلاوة. [ ..... ]
(2). الوصيف: الخادم، غلاما كان أو جارية.
(3). في ح، س، هـ:" بالأكمام".

(18/9)


وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)

وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ لِينَةً اشْتِقَاقًا مِنَ اللَّوْنِ لَا مِنَ اللَّيْنِ. الْمَهْدَوِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا، فَقِيلَ: هِيَ مِنَ اللَّوْنِ وَأَصْلُهَا لُونَةٌ. وَقِيلَ أَصْلُهَا لِينَةٌ مِنْ لَانَ يَلِينُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ" مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ وَلَا تَرَكْتُمْ قَوْمَاءَ عَلَى أُصُولِهَا" أَيْ قَائِمَةً عَلَى سُوقِهَا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قُوَّمًا عَلَى أُصُولِهَا" الْمَعْنَى لَمْ تقطعوها. وقرى" قَوْمَاءُ عَلَى أُصُلِهَا". وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ جَمْعُ أَصْلٍ، كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ. وَالثَّانِي- اكْتُفِيَ فِيهِ بالضمة عن الواو. وقرى" قَائِمًا عَلَى أُصُولِهِ" ذَهَابًا إِلَى لَفْظِ مَا. فَبِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ بِأَمْرِهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أَيْ ليذل اليهود الكفار به وبنبيه وكتبه.

[سورة الحشر (59): الآيات 6 الى 7]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) هَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ شَدِيدُ الْعِقابِ «1» فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَفاءَ اللَّهُ يَعْنِي مَا رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ. فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ أَوْضَعْتُمْ عَلَيْهِ. وَالْإِيجَافُ: الْإِيضَاعُ فِي السَّيْرِ وَهُوَ الْإِسْرَاعُ، يُقَالُ: وَجَفَ الْفَرَسُ إِذَا أَسْرَعَ، وَأَوْجَفْتُهُ أَنَا أَيْ حَرَّكْتُهُ وَأَتْعَبْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ تَمِيمِ بْنِ مُقْبِلٍ:
مَذَاوِيدُ بِالْبِيضِ الْحَدِيثِ صِقَالُهَا ... عَنِ الرَّكْبِ أَحْيَانًا إِذَا الرَّكْبُ أَوْجَفُوا
وَالرِّكَابُ الْإِبِلُ، وَاحِدُهَا رَاحِلَةٌ. يَقُولُ: لَمْ تَقْطَعُوا إِلَيْهَا شُقَّةً وَلَا لَقِيتُمْ بِهَا حَرْبًا
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ح، س.

(18/10)


وَلَا مَشَقَّةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مِيلَيْنِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. فَمَشَوْا إِلَيْهَا مَشْيًا وَلَمْ يَرْكَبُوا خَيْلًا وَلَا إِبِلًا، إِلَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رَكِبَ جَمَلًا وَقِيلَ حِمَارًا مَخْطُومًا بِلِيفٍ، فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا وَأَجْلَاهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ. فَسَأَلَ الْمُسْلِمُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْسِمَ لَهُمْ فَنَزَلَتْ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ الْآيَةَ. فَجَعَلَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً يَضَعُهَا حَيْثُ شَاءَ، فَقَسَمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مُحْتَاجِينَ، مِنْهُمْ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَعْطَى رَجُلَيْنِ، سَهْلًا وَأَبَا دُجَانَةَ. وَيُقَالُ: أَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَ سَيْفًا لَهُ ذِكْرٌ عِنْدَهُمْ. وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلَّا رجلان: سفيان ابن عُمَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ وَهْبٍ، أَسْلَمَا عَلَى أَمْوَالِهِمَا فَأَحْرَزَاهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرُ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي الْكُرَاعِ «1» وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الْكَاذِبِ الْآثِمِ الْغَادِرِ الْخَائِنِ- يَعْنِي عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَتَعْلَمَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ) قَالَا نَعَمْ. قَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَاصَّةٍ وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهَا أَحَدًا غَيْرَهُ. قَالَ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ (مَا أَدْرِي هَلْ قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا أَمْ لَا) فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَكُمْ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ، فَوَاللَّهِ مَا اسْتَأْثَرَهَا عَلَيْكُمْ وَلَا أَخَذَهَا دُونَكُمْ حَتَّى بَقِيَ هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ مِنْهُ نَفَقَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ أُسْوَةَ الْمَالِ ... الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَقِيلَ: لَمَّا تَرَكَ بَنُو النَّضِيرِ دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهَا حَظٌّ كالغنائم، فبين الله تعالى أنها في وكان قد جَرَى ثَمَّ بَعْضُ الْقِتَالِ، لِأَنَّهُمْ حُوصِرُوا أَيَّامًا وقاتلوا وقتلوا،
__________
(1). قوله" في الكراع": في الدواب التي تصلح للحرب.

(18/11)


ثُمَّ صَالَحُوا عَلَى الْجَلَاءِ. وَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، بَلْ جَرَى مَبَادِئُ الْقِتَالِ وَجَرَى الْحِصَارُ، وَخَصَّ اللَّهُ تِلْكَ الْأَمْوَالَ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تعالى وذكرهم أنه إنما نصر رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَرَهُمْ بِغَيْرِ كُرَاعٍ وَلَا عُدَّةٍ. (وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أَيْ مِنْ أَعْدَائِهِ. وَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ كَانَتْ خَاصَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَصْحَابِهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكُ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ. وَقُرَى عُرَيْنَةَ وَيَنْبُعُ جَعَلَهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ. وَبَيَّنَ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي خَصَّهُ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُهْمَانًا لِغَيْرِ الرَّسُولِ نَظَرًا مِنْهُ لِعِبَادِهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا، هَلْ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ أَوْ مُخْتَلَفٌ، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَنْفَالِ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى مَنْسُوخٌ بِمَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ كَوْنِ الْخُمُسِ لِمَنْ سُمِّيَ لَهُ، وَالْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ لِمَنْ قَاتَلَ. وَكَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ تُقْسَمُ الْغَنِيمَةُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ ولا يكون لمن قاتل عليها شي. وَهَذَا قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَنَحْوَهُ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا غَنِمَ بِصُلْحٍ مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَيَكُونُ لِمَنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ فَيْئًا وَالْأُولَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، إِذَا أَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ كَانَ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: الْأُولَى: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِيَةُ: هِيَ الْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ. وَالثَّالِثَةُ: الْغَنِيمَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِلْغَانِمِينَ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ، أَيْ مَا حَصَلَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ قُسِّمَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ الْخُمُسُ الْبَاقِي عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى- وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ- لِأَنَّهُمْ مُنِعُوا الصَّدَقَةَ فَجُعِلَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْفَيْءِ. وَسَهْمٍ لِلْيَتَامَى. وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ. وَسَهْمٍ لِابْنِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالَّذِي كَانَ مِنَ الْفَيْءِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْرَفُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ إِلَى الْمُجَاهِدِينَ الْمُتَرَصِّدِينَ لِلْقِتَالِ فِي الثُّغُورِ، لِأَنَّهُمُ الْقَائِمُونَ

(18/12)


مَقَامَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُ: يُصْرَفُ إِلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ سَدِّ الثُّغُورِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، يُقَدَّمُ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ، وَهَذَا فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ. فَأَمَّا السَّهْمُ الَّذِي كَانَ لَهُ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَهُوَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (لَيْسَ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ). وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي سُورَةِ" الْأَنْفَالِ" «1». وَكَذَلِكَ مَا خَلَّفَهُ مِنَ الْمَالِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ، بَلْ هُوَ صَدَقَةٌ يُصْرَفُ عَنْهُ إِلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّا لَا نُوَرِّثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ). وَقِيلَ: كَانَ مَالُ الْفَيْءِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ فَأَضَافَهُ إِلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَأَثَّلُ «2» مَالًا، إِنَّمَا كَانَ يَأْخُذُ بِقَدْرِ حَاجَةِ عِيَالِهِ وَيَصْرِفُ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا إِشْكَالَ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ في ثلاث آيا ت، أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَهِيَ قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الْحَشْرِ: 2] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِمْ. (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) يُرِيدُ كَمَا بَيَّنَّا، فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ: إِنَّهَا كَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ وَمَا كَانَ مِثْلُهَا. فَهَذِهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَعْنًى مُتَّحِدٌ. الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ لِمُسْتَحَقٍّ غَيْرِ الْأَوَّلِ. وَسَمَّى الْآيَةَ الثَّالِثَةَ آيَةَ الْغَنِيمَةِ، وَلَا شَكَ فِي أَنَّهُ مَعْنًى آخَرُ بِاسْتِحْقَاقٍ ثَانٍ لِمُسْتَحِقٍّ آخَرَ، بَيْدَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ، اشْتَرَكَتَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَضَمَّنَتْ شَيْئًا أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَاقْتَضَتِ الْآيَةُ الْأُولَى أَنَّهُ حَاصِلٌ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَاقْتَضَتْ آيَةُ الْأَنْفَالِ أَنَّهُ حَاصِلٌ بِقِتَالٍ، وَعَرِيَتِ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى عَنْ
ذِكْرِ حُصُولِهِ بِقِتَالٍ أَوْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَنَشَأَ الْخِلَافُ مِنْ هَاهُنَا، فَمِنْ طَائِفَةٍ قَالَتْ: هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْأُولَى، وَهُوَ مَالُ الصُّلْحِ كله ونحوه.
__________
(1). راجع ج 8 ص 11.
(2). المتأثل: الجامع.

(18/13)


وَمِنْ طَائِفَةٍ قَالَتْ: هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالثَّانِيَةِ وَهِيَ آيَةُ الْأَنْفَالِ. وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ اخْتَلَفُوا، هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ- كَمَا تَقَدَّمَ- أَوْ مُحْكَمَةٌ؟ وَإِلْحَاقُهَا بِشَهَادَةِ اللَّهِ بِالَّتِي قَبْلَهَا «1» أَوْلَى، لِأَنَّ فِيهِ تَجْدِيدَ فَائِدَةٍ وَمَعْنًى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ الْحَرْفِ مِنَ الْآيَةِ فَضْلًا عَنِ الْآيَةِ عَلَى فَائِدَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى فَائِدَةٍ مُعَادَةٍ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ بَنِي النَّضِيرِ «2»، لَمْ يَكُنْ فِيهَا خُمُسٌ وَلَمْ يُوجَفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. كَانَتْ صَافِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَثَلَاثَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى هِيَ قُرَيْظَةُ، وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالْخَنْدَقُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَوْلُ مَالِكٍ إِنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهَا يَعُودُ إِلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ، وَيَلْحَقُهَا النَّسْخُ. وَهَذَا أَقْوَى «3» مِنَ الْقَوْلِ بِالْإِحْكَامِ. وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُ إِلَّا مَا قَسَمْنَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَهَا مَعْنًى مُجَدِّدٌ حَسَبَ مَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ- مَا اخْتَارَهُ حَسَنٌ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ سُورَةَ" الْحَشْرِ" نَزَلَتْ بَعْدَ الْأَنْفَالِ، فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَنْسَخَ الْمُتَقَدِّمُ الْمُتَأَخِّرَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: الْمَالُ ثَلَاثَةٌ: مغنم، أو في، أَوْ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ مِنْهُ دِرْهَمٌ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ مَوْضِعَهُ. وَهَذَا أَشْبَهُ. الثَّالِثَةُ- الْأَمْوَالُ الَّتِي لِلْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ فِيهَا مَدْخَلُ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَرِيقِ التَّطْهِيرِ لَهُمْ، كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ. وَالثَّانِي- الْغَنَائِمُ، وَهُوَ مَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكَافِرِينَ بِالْحَرْبِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ. وَالثَّالِثُ: الْفَيْءُ، وَهُوَ مَا رَجَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ عَفْوًا صَفْوًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافٍ، كَالصُّلْحِ وَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تُجَّارِ الْكُفَّارِ. وَمِثْلُهُ أَنْ يَهْرَبَ الْمُشْرِكُونَ وَيَتْرُكُوا أَمْوَالَهُمْ، أَوْ يَمُوتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا وَارِثَ لَهُ. فَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَمَصْرِفُهَا الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، حَسَبَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ مَضَى فِي" بَرَاءَةٍ" «4». وَأَمَّا الْغَنَائِمُ فَكَانَتْ
__________
(1). فِي المطبوعة:" بشهادة الله بالأولى أولى".
(2). في ز، ل:" هي النضير".
(3). في ح، ز، س، ط، هـ:" وهو أقوى منا من القول ... ".
(4). راجع ج 8 ص 67.

(18/14)


فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِيهَا مَا شَاءَ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ" الْأَنْفَالِ": قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال: 1]، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال: 41] الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى فِي الْأَنْفَالِ بَيَانُهُ «1». فَأَمَّا الْفَيْءُ فَقِسْمَتُهُ وَقِسْمَةُ الْخُمُسِ سَوَاءٌ. وَالْأَمْرُ عِنْدَ مَالِكٍ فِيهِمَا إِلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ رَأَى حَبْسَهُمَا لِنَوَازِلَ تَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى قِسْمَتَهُمَا أَوْ قِسْمَةَ أَحَدِهِمَا قَسَمَهُ كُلَّهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَسَوَّى فِيهِ بَيْنَ عَرَبِيِّهِمْ وَمَوْلَاهُمْ. وَيَبْدَأُ بِالْفُقَرَاءِ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ حَتَّى يَغْنَوْا، وَيُعْطَوْا ذَوُو الْقُرْبَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَيْءِ سَهْمَهُمْ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ. وَاخْتُلِفَ فِي إِعْطَاءِ الْغَنِيِّ مِنْهُمْ، فَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى إِعْطَائِهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْطَى مِنْهُ غَيْرُ فُقَرَائِهِمْ، لِأَنَّهُ جُعِلَ لَهُمْ عِوَضًا مِنَ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَيُّمَا حَصَلَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ كَانَ يُقْسَمُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا: عِشْرُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ فِيهَا مَا يَشَاءُ. وَالْخُمُسُ يُقْسَمُ عَلَى مَا يُقْسَمُ عَلَيْهِ خُمُسُ الغنيمة. قال أبو جعفر أحمد ابن الدَّاوُدِيِّ: وَهَذَا قَوْلٌ مَا سَبَقَهُ بِهِ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ خَالِصًا لَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ مُبَيِّنًا لِلْآيَةِ. وَلَوْ كَانَ هَذَا لَكَانَ قَوْلُهُ: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ «2» [الأحزاب: 50] يدل على أنه يجوز الموهبة لغيره، وأن قوله: خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ «3» [الأعراف: 32] يَجُوزُ أَنْ يُشْرِكَهُمْ فِيهَا غَيْرَهُمْ. وَقَدْ مَضَى قَوْلُ الشَّافِعِيِّ مُسْتَوْعَبًا فِي ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ سَبِيلَ خُمُسِ الْفَيْءِ سَبِيلُ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، وَأَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ بَعْدَهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهَا بَعْدَهُ لِلْمُرْصِدِينَ أَنْفُسَهُمْ لِلْقِتَالِ بَعْدَهُ خَاصَّةً، كَمَا تَقَدَّمَ. الرَّابِعَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيُقْسَمُ كُلُّ مَالٍ فِي الْبَلَدِ الَّذِي جُبِيَ فِيهِ، وَلَا يُنْقَلُ عَنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي جُبِيَ فِيهِ حَتَّى يَغْنَوْا، ثُمَّ يُنْقَلُ إِلَى الْأَقْرَبِ مِنْ غَيْرِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ بِغَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي جُبِيَ فِيهِ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ، فَيَنْتَقِلَ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْفَاقَةِ حَيْثُ كَانُوا، كَمَا فَعَلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَعْوَامِ الرَّمَادَةِ، وَكَانَتْ خَمْسَةَ أَعْوَامٍ أَوْ سِتَّةً. وَقَدْ قيل عامين. وقيل:
__________
(1). راجع ج 8 ص 9
(2). راجع ج 14 ص 205.
(3). راجع ج 7 ص 195.

(18/15)


عَامٌ فِيهِ اشْتَدَّ الطَّاعُونُ مَعَ الْجُوعِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا وَصَفْنَا وَرَأَى الْإِمَامُ إِيقَافَ الْفَيْءِ أَوْقَفَهُ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُعْطِي مِنْهُ الْمَنْفُوسَ وَيَبْدَأُ بِمَنْ أَبُوهُ فَقِيرٌ. وَالْفَيْءُ حَلَالٌ لِلْأَغْنِيَاءِ. وَيُسَوِّي بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ يُؤْثِرُ أَهْلَ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ. وَالتَّفْضِيلُ فِيهِ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ. وَيُعْطَى مِنْهُ الْغُرَمَاءُ مَا يُؤَدُّونَ بِهِ دُيُونُهُمْ. وَيُعْطِي مِنْهُ الْجَائِزَةَ وَالصِّلَةَ إن كان ذلك أهلا، ويرزق القضاء وَالْحُكَّامَ وَمَنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَوْلَاهُمْ بِتَوَفُّرِ الْحَظِّ مِنْهُمْ أَعْظَمُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ نَفْعًا. وَمَنْ أَخَذَ مِنَ الْفَيْءِ شَيْئًا فِي الدِّيوَانِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْزُوَ إِذَا غَزَى. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ يَكُونَ بِالْيَاءِ. دُولَةً بِالنَّصْبِ، أَيْ كَيْ لَا يَكُونَ الْفَيْءُ دُولَةً وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ وَهِشَامٌ- عَنِ ابْنِ عَامِرٍ- وَأَبُو حَيْوَةَ" تَكُونَ" بِتَاءِ (دُولَةٌ) بِالرَّفْعِ، أَيْ كَيْ لَا تَقَعُ دُولَةٌ. فَكَانَ تَامَّةٌ. وَ (دُولَةٌ) رُفِعَ عَلَى اسْمِ كَانَ وَلَا خَبَرَ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً وَخَبَرُهَا بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ. وَإِذَا كَانَتْ تَامَّةً فَقَوْلُهُ: بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ دُولَةً عَلَى مَعْنَى تَدَاوَلَ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَصْفًا لِ دُولَةً. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ دُولَةً بِضَمِ الدَّالِّ. وَقَرَأَهَا السُّلَمِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ بِالنَّصْبِ. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَيُونُسُ وَالْأَصْمَعِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الدَّوْلَةُ (بِالْفَتْحِ) الظَّفَرُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ الْمَصْدَرُ. وَبِالضَّمِّ اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَدَاوَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الدُّولَةُ اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَدَاوَلُ. وَالدَّوْلَةُ الْفِعْلُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَعَلْنَا ذَلِكَ فِي هَذَا الْفَيْءِ، كَيْ لَا تَقْسِمَهُ الرُّؤَسَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ وَالْأَقْوِيَاءُ بَيْنَهُمْ دُونَ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا غَنِمُوا أَخَذَ الرَّئِيسُ رُبُعَهَا لِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْمِرْبَاعُ. ثُمَّ يَصْطَفِي مِنْهَا أَيْضًا بَعْدَ الْمِرْبَاعِ مَا شَاءَ، وَفِيهَا قال شاعرهم:
لك المرباع منها والصفايا «1»
__________
(1). البيت بتمامه:
لَكَ الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ
وهو لعبد الله بن عنمة الضبي يخاطب بسطام بن قيس. والنشيطة ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى مجتمع الحي. والفضول: ما فضل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة كالبعير والفرس ونحوهما. [ ..... ]

(18/16)


يَقُولُ: كَيْ لَا يُعْمَلَ فِيهِ كَمَا كَانَ يُعْمَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَجَعَلَ اللَّهُ هَذَا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقْسِمُهُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا لَيْسَ فِيهَا خُمُسٌ، فَإِذَا جَاءَ خُمُسٌ وَقَعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا. السَّادِسَةُ- قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أَيْ مَا أَعْطَاكُمْ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ الْأَخْذِ وَالْغُلُولِ «1» فَانْتَهُوا، قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. السُّدِّيُّ: مَا أَعْطَاكُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ فَاقْبَلُوهُ، وَمَا مَنَعَكُمْ مِنْهُ فَلَا تَطْلُبُوهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَا آتَاكُمْ مِنْ طَاعَتِي فَافْعَلُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِي فَاجْتَنِبُوهُ. الْمَاوَرْدِيُّ: وَقِيلَ إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِصَلَاحٍ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ فَسَادٍ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. السَّابِعَةُ- قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا هَذَا يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ مَا أُمِرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْغَنَائِمِ فَجَمِيعُ أَوَامِرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَوَاهِيهِ دَخَلَ فِيهَا. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُمَيْرٍ- وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ عَسِيرٌ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ يَسِيرٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ وَطَلَبَهُ. وَحَدِيثِي صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ وَهُوَ الْحُكْمُ فَمَنِ اسْتَمْسَكَ بِحَدِيثِي وَحَفِظَهُ نَجَا مَعَ الْقُرْآنِ. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْقُرْآنِ وَحَدِيثِي خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. وَأُمِرْتُمْ أَنْ تَأْخُذُوا بِقَوْلِي وَتَكْتَنِفُوا أَمْرِي وَتَتَّبِعُوا سُنَّتِي فَمَنْ رَضِيَ بِقَوْلِي فَقَدْ رَضِيَ بِالْقُرْآنِ وَمَنِ اسْتَهْزَأَ بِقَوْلِي فَقَدِ اسْتَهْزَأَ بِالْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (. الثَّامِنَةُ- قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: لَقِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا مُحْرِمًا وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ فَقَالَ لَهُ: انْزِعْ عَنْكَ هَذَا. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَتَقْرَأُ عَلَيَّ بِهَذَا آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: نَعَمْ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الْفِرْيَابِيُّ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ أُخْبِرْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فَقُلْتُ لَهُ مَا تَقُولُ- أَصْلَحَكَ اللَّهُ- فِي الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ؟ قَالَ فقال:
__________
(1). الغلول: الخيانة في المغنم، والسرقة من الغنيمة.

(18/17)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ). حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ابن عُيَيْنَةَ عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الزُّنْبُورِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا جَوَابٌ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ، أَفْتَى بِجَوَازِ قَتْلِ الزُّنْبُورِ فِي الْإِحْرَامِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَقْتَدِي فِيهِ بِعُمَرَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِقَبُولِ مَا يَقُولُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَوَازُ قَتْلِهِ مُسْتَنْبَطٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِ عِكْرِمَةَ حِينَ سُئِلَ عَنْ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ: هُنَّ أَحْرَارٌ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ" عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «1» [النساء: 59]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ «2» وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ) فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ! فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ! فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ! أَمَا قَرَأْتِ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا! قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ .. الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي" النِّسَاءِ" «3» مُسْتَوْفًى. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَهُوَ الْمُنَاوَلَةُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، بدليل قوله تعالى: وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فَقَابَلَهُ بِالنَّهْيِ، وَلَا يُقَابَلُ النَّهْيُ إِلَّا بِالْأَمْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاة السلام: (إذا) هامش (
__________
(1). راجع ج 5 ص 259 وص 392.
(2). المتنمصات:) جمع متنمصة) وهى التي تنتف الشعر من وجهها. والمتفلجات: (جمع متفلجة) وهى التي تتكلف أن تفرق بين منها من الثنايا والرباعيات.
(3). راجع ج 5 ص 259 وص 392.

(18/18)


لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)

أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شي فَاجْتَنِبُوهُ (. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، قَالُوا فِيمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْوَالِ، الْمُشْرِكِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُذْ صَفِيَّكَ وَالرُّبُعَ، وَدَعْنَا وَالْبَاقِي، فَهَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَنْشَدُوهُ:
لَكَ الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةِ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أَيْ عَذَابَ اللَّهِ، إِنَّهُ شَدِيدٌ لِمَنْ عَصَاهُ. وَقِيلَ: اتَّقُوا اللَّهَ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَلَا تُضَيِّعُوهَا. (إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لِمَنْ خَالَفَ مَا أمره به.

[سورة الحشر (59): آية 8]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
أَيِ الْفَيْءُ وَالْغَنَائِمُ لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ. وَقِيلَ: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ وَلَكِنْ يَكُونُ لِلْفُقَراءِ. وَقِيلَ: هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَلَمَّا ذُكِرُوا بِأَصْنَافِهِمْ قِيلَ الْمَالُ لِهَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ وَمُهَاجِرُونَ وَقَدْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، فَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ. وَقِيلَ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ لِكَيْلَا يَكُونَ الْمَالُ دُولَةً لِلْأَغْنِيَاءِ مِنْ بَنِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْمُهَاجِرِينَ، أَيْ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْكُفَّارِ بِسَبَبِ الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَمِنْ أَجْلِهِمْ. وَدَخَلَ فِي هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى. وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا مَضَى، وَلَمْ يَأْتِ بِوَاوِ الْعَطْفِ كَقَوْلِكَ: هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ لِبَكْرٍ لِفُلَانٍ لِفُلَانٍ. وَالْمُهَاجِرُونَ هُنَا: مَنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبًّا فِيهِ وَنُصْرَةً لَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تَرَكُوا الدِّيَارَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَهْلِينَ وَالْأَوْطَانَ حُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَعْصِبُ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ لِيُقِيمَ بِهِ صُلْبَهُ مِنَ الْجُوعِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَّخِذُ الْحَفِيرَةَ فِي الشِّتَاءِ

(18/19)


وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)

ماله دِثَارٌ غَيْرَهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لِأَحَدِهِمُ الْعَبْدُ وَالزَّوْجَةُ وَالدَّارُ وَالنَّاقَةُ يَحُجُّ عَلَيْهَا وَيَغْزُو فَنَسَبَهُمُ اللَّهُ إِلَى الْفَقْرِ وَجَعَلَ لَهُمْ سَهْمًا فِي الزَّكَاةِ. وَمَعْنَى أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أَيْ أَخْرَجَهُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ، أَيْ أَحْوَجُوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ، وَكَانُوا مِائَةَ رَجُلٍ. (يَبْتَغُونَ) يَطْلُبُونَ. (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ) أَيْ غَنِيمَةً فِي الدُّنْيَا (وَرِضْواناً) فِي الْآخِرَةِ، أَيْ مَرْضَاةَ رَبِّهِمْ. (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) فِي فِعْلِهِمْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ «1» فَقَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقُرْآنِ فَلْيَأْتِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفَرَائِضِ فَلْيَأْتِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفِقْهِ فَلْيَأْتِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْمَالِ فَلْيَأْتِنِي، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَنِي لَهُ خَازِنًا وَقَاسِمًا. أَلَا وَإِنِّي بَادٍ بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمُعْطِيهِنَّ، ثُمَّ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، أَنَا وَأَصْحَابِي أُخْرِجْنَا مِنْ مكة من ديارنا وأموالنا.

[سورة الحشر (59): آية 9]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) لَا خِلَافَ أَنَّ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ هُمُ الْأَنْصَارُ الَّذِينَ اسْتَوْطَنُوا الْمَدِينَةَ قَبْلَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهَا. وَالْإِيمانَ نُصِبَ بِفِعْلٍ غَيْرِ تَبَوَّأَ، لِأَنَّ التَّبَوُّءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَمَاكِنِ. ومِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ صِلَةِ تَبَوَّأَ وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ مِنْ قِبَلِ الْمُهَاجِرِينَ وَاعْتَقَدُوا الايمان وأخلصوه، لان الايمان
__________
(1). بلدة دمشق.

(18/20)


لَيْسَ بِمَكَانٍ يُتَبَوَّأُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ «1» [يونس: 71] أَيْ وَادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ، ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا. وَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَأَنَّهُ قَالَ: تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَمَوَاضِعَ الْإِيمَانِ. وَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ تَبَوَّأَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَزِمُوا الدَّارَ وَلَزِمُوا الْإِيمَانَ فَلَمْ يُفَارِقُوهُمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَبَوَّأَ الْإِيمَانَ عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ، كَمَا تَقُولُ: تَبَوَّأَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ الصَّمِيمَ. وَالتَّبَوُّءُ: التَّمَكُّنُ وَالِاسْتِقْرَارُ. وَلَيْسَ يُرِيدُ أَنَّ الْأَنْصَارَ آمَنُوا قَبْلَ الْمُهَاجِرِينَ، بَلْ أَرَادَ آمَنُوا قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتُلِفَ أَيْضًا هَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مَقْطُوعَةٌ مِمَّا قَبْلَهَا أَوْ مَعْطُوفَةٌ، فَتَأَوَّلَ قَوْمٌ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ وَأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْحَشْرِ كُلَّهَا مَعْطُوفَةٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. وَلَوْ تَأَمَّلُوا ذَلِكَ وَأَنْصَفُوا لَوَجَدُوهُ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى قَوْلِهِ الْفاسِقِينَ [الحشر: 5 - 2] فَأَخْبَرَ عَنْ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ. ثُمَّ قَالَ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ حِينَ خَلَّوْهُ. وَمَا تَقَدَّمَ فِيهِمْ مِنَ الْقِتَالِ وَقَطْعِ شَجَرِهِمْ فَقَدْ كَانُوا رَجَعُوا عَنْهُ وَانْقَطَعَ ذَلِكَ الْأَمْرُ. ثُمَّ قَالَ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ معطوف على الأول. وكذا وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ فِي مَدْحِ الْأَنْصَارِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ سَلَّمُوا ذَلِكَ الْفَيْءَ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ، الْفَيْءُ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ يُحِبُّونَ لهم لم يَحْسُدُوهُمْ عَلَى مَا صَفَا لَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ. وكذا وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، وَالْخَبَرُ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا [الحشر: 10]. وقال إسماعيل ابن إسحاق: إن قوله وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالَّذِينَ جاؤُ معطوف على ما قبل، وأنهم
__________
(1). راجع ج 8 ص 362.

(18/21)


شُرَكَاءُ فِي الْفَيْءِ، أَيْ هَذَا الْمَالُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هذه الآية إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ [التوبة: 60] فَقَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ. ثُمَّ قَرَأَ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ فَقَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ. ثُمَّ قَرَأَ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ- حَتَّى بَلَغَ- لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ، وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ عِشْتُ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِي وَهُوَ بِسَرْوِ حِمْيَرَ»
نَصِيبُهُ مِنْهَا لَمْ يَعْرَقْ فِيهَا جَبِينُهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ دَعَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُمْ: تَثَبَّتُوا الْأَمْرَ وَتَدَبَّرُوهُ ثُمَّ اغْدُوَا عَلَيَّ. فَفَكَّرَ فِي لَيْلَتِهِ فَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ أُنْزِلَتْ. فَلَمَّا غَدَوْا عَلَيْهِ قَالَ: قَدْ مَرَرْتُ الْبَارِحَةَ بِالْآيَاتِ الَّتِي فِي سُورَةِ" الْحَشْرِ" وَتَلَا مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى - إِلَى قَوْلِهِ- لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] قَالَ: مَا هِيَ لِهَؤُلَاءِ فَقَطْ. وَتَلَا قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ- إلى قوله- رَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] ثُمَّ قَالَ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: لَوْلَا مَنْ يَأْتِي مِنْ آخِرُ النَّاسِ مَا فُتِحَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ. وَفِي الرِّوَايَاتِ الْمُسْتَفِيضَةِ مِنَ الطُّرُقِ الْكَثِيرَةِ: أَنَّ عُمَرَ أَبْقَى سَوَادَ «2» الْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَنَائِمِ، لِتَكُونَ مِنْ أَعْطِيَاتِ الْمُقَاتِلَةِ وَأَرْزَاقِ الْحِشْوَةِ وَالذَّرَارِيِّ، وَأَنَّ الزُّبَيْرَ وَبِلَالًا وَغَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَرَادُوهُ عَلَى قَسْمِ مَا فُتِحَ عَلَيْهِمْ، فَكَرِهَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاخْتُلِفَ فِيمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتَطَابَ أَنْفُسَ أَهْلِ الْجَيْشِ، فَمَنْ رَضِيَ لَهُ بِتَرْكِ حَظِّهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ لِيُبْقِيَهُ لِلْمُسْلِمِينَ قِلَّةً. وَمَنْ أَبَى أَعْطَاهُ ثَمَنَ حَظِّهِ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّمَا أَبْقَى الْأَرْضَ بَعْدَ اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِ الْقَوْمِ جَعَلَ فِعْلَهُ كَفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ قَسَمَ خَيْبَرَ، لِأَنَّ اشْتِرَاءَهُ إِيَّاهَا وَتَرْكَ مَنْ تَرَكَ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ قَسْمِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَبْقَاهَا بغير شي أعطاه أهل الجيوش. وقيل: إنه
__________
(1). سرو حمير: منازل حمير بأرض اليمن. والسرو من الجبل: ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل.
(2). سواد البلدة: ما حولها من الريف والقرى.

(18/22)


تَأَوَّلَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ- إلى قوله- رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ «1». الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قِسْمَةِ الْعَقَارِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لِلْإِمَامِ أَنْ يُوقِفَهَا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْسِمَهَا أَوْ يَجْعَلَهَا وَقْفًا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لِلْإِمَامِ حَبْسُهَا عَنْهُمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، بَلْ يَقْسِمُهَا عَلَيْهِمْ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. فَمَنْ طَابَ نَفْسًا عَنْ حَقِّهِ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَهُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ فَلَهُ. ومن لم تطب نفسه فهو أحق بمال. وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَطَابَ نُفُوسَ الْغَانِمِينَ وَاشْتَرَاهَا مِنْهُمْ. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ «2» قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] مَقْطُوعًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَأَنَّهُمْ نُدِبُوا بِالدُّعَاءِ لِلْأَوَّلِينَ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ. الْخَامِسَةُ- قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَذْكُرُ فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْآفَاقِ فَقَالَ: إِنَّ الْمَدِينَةَ تُبُوِّئَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، وَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْقُرَى افْتُتِحَتْ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ قرأ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا، وَفِي فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدَيْنِ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) يَعْنِي لَا يَحْسُدُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى مَا خُصُّوا بِهِ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ، كَذَلِكَ قَالَ النَّاسُ. وَفِيهِ تَقْدِيرُ حَذْفِ مُضَافَيْنِ، الْمَعْنَى مَسَّ حَاجَةٍ مِنْ فَقْدِ مَا أُوتُوا. وَكُلُّ مَا يَجِدُ الْإِنْسَانَ فِي صَدْرِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى إِزَالَتِهِ فَهُوَ حَاجَةٌ. وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ فِي دُورِ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا غَنِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ، دَعَا الْأَنْصَارَ وَشَكَرَهُمْ فِيمَا صَنَعُوا مَعَ الْمُهَاجِرِينَ فِي إِنْزَالِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَإِشْرَاكِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: (إِنْ أَحْبَبْتُمْ قَسَمْتُ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ السُّكْنَى فِي مَسَاكِنِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَعْطَيْتُهُمْ وَخَرَجُوا مِنْ دُورِكُمْ (. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: بَلْ نَقْسِمُهُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَيَكُونُونَ فِي دُورِنَا كَمَا كَانُوا. وَنَادَتِ الْأَنْصَارُ: رَضِينَا وَسَلَّمْنَا يَا رسول الله، فقال رسول الله
__________
(1). جملة" والله أعلم" ساقطة من س.
(2). في ح، س:" وعلى هذا يجئ".

(18/23)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ). وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا إِلَّا الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ «1». وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا إِذَا كَانَ قَلِيلًا بَلْ يَقْنَعُونَ بِهِ وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ. وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ حِينَ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُنْيَا، ثُمَّ كَانُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُكْمِ الدُّنْيَا. وَقَدْ أَنْذَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: (سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ). السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا بَاتَ بِهِ ضَيْفٌ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَّا قُوتُهُ وَقُوتُ صِبْيَانِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: نَوِّمِي الصِّبْيَةَ وَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَكِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وَخُرِّجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إِنِّي مَجْهُودٌ. فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْأُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ. فَقَالَ: مَنْ يُضَيِّفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هل عندك شي؟ قَالَتْ: لَا، إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي. قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ «2» بِشَيْءٍ فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ. قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (قَدْ عَجِبَ «3» اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ). وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُضَيِّفَهُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُضَيِّفُهُ. فَقَالَ: (أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُ هَذَا رَحِمَهُ اللَّهُ)؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ. فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ ... ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَذَكَرَ فِيهِ نُزُولَ الْآيَةِ. وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي ثابت بن قيس ورجل
__________
(1). راجع ص 11 من هذا الجزء.
(2). علله بكذا: شغله ولهاه به.
(3). أي عظم ذلك عنده وكبر عليه، وإطلاق العجب على الله مجاز، لأنه لا يخفى عليه أسباب الأشياء.

(18/24)


مِنَ الْأَنْصَارِ- نَزَلَ بِهِ ثَابِتٌ- يُقَالُ لَهُ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ إِلَّا قُوتُهُ وَقُوتُ صِبْيَانِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَوِّمِي الصِّبْيَةَ، وَقَدَّمَ مَا كَانَ عِنْدَهُ إِلَى ضَيْفِهِ. وَكَذَا ذَكَرَ النَّحَّاسُ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ- يُقَالُ لَهُ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ- ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ ضَيْفًا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَّا قُوتُهُ وَقُوتُ صِبْيَانِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَوِّمِي الصِّبْيَةَ، فَنَزَلَتْ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ- إِلَى قَوْلِهِ- فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَقِيلَ: إِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ أَبُو طَلْحَةَ. وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نصر عبد الرحيم ابن عَبْدِ الْكَرِيمِ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أُهْدِيَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَ شَاةٍ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي فُلَانًا وَعِيَالَهُ أَحْوَجُ إِلَى هَذَا مِنَّا، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ بِهِ وَاحِدٌ إِلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهَا سَبْعَةُ أَبْيَاتٍ، حَتَّى رَجَعَتْ إِلَى أُولَئِكَ، فَنَزَلَتْ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُهْدِيَ لِرَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَأْسُ شَاةٍ وَكَانَ مَجْهُودًا فَوَجَّهَ بِهِ إِلَى جَارٍ لَهُ، فَتَدَاوَلَتْهُ سَبْعَةُ أَنْفُسٍ فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَوَّلِ، فَنَزَلَتْ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النبي لِلْأَنْصَارِ يَوْمَ بَنِي النَّضِيرِ: (إِنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَشَارَكْتُمُوهُمْ فِي هَذِهِ الْغَنِيمَةِ وَإِنْ شِئْتُمْ كَانَتْ لَكُمْ دِيَارُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَلَمْ نَقْسِمْ لَكُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا) فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: بَلْ نَقْسِمُ لِإِخْوَانِنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَمْوَالِنَا وَنُؤْثِرُهُمْ بِالْغَنِيمَةِ، فَنَزَلَتْ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخَلَاتِ مِنْ أَرْضِهِ حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، فَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَعْطَاهُ. لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شي، وَكَانَ الْأَنْصَارُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالْعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمُ الْأَنْصَارُ عَلَى أَنْ أَعْطَوْهُمْ أَنْصَافَ ثِمَارِ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عام ويكفونهم العمل والمئونة، وَكَانَتْ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ تُدْعَى أُمَّ سُلَيْمٍ، وَكَانَتْ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، كَانَ أَخًا لِأَنَسٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِذَاقًا «1» لَهَا، فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
__________
(1). العذاق- بكسر العين جمع عذق بفتحها- ومعناها النخلات. [ ..... ]

(18/25)


اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلَاتَهُ، ثُمَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ خَيْبَرَ وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ، رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمُ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ. قَالَ: فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّي عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. الثَّامِنَةُ- الْإِيثَارُ: هُوَ تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ وَحُظُوظِهَا الدنياوية، وَرَغْبَةٌ فِي الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ. وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ قُوَّةِ الْيَقِينِ، وَتَوْكِيدِ الْمَحَبَّةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ. يُقَالُ: آثَرْتُهُ بِكَذَا، أَيْ خَصَصْتُهُ بِهِ وَفَضَّلْتُهُ. وَمَفْعُولُ الْإِيثَارِ مَحْذُوفٌ، أَيْ يُؤْثِرُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، لَا عَنْ غِنًى بَلْ مَعَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهَا، حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ:" أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ مِسْكِينًا سَأَلَهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ وَلَيْسَ فِي بَيْتِهَا إِلَّا رَغِيفٌ فَقَالَتْ لِمَوْلَاةٍ لَهَا: أَعْطِيهِ إِيَّاهُ، فَقَالَتْ: لَيْسَ لَكِ مَا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَتْ: أَعْطِيهِ إِيَّاهُ. قَالَتْ: فَفَعَلَتْ. قَالَتْ: فَلَمَّا أَمْسَيْنَا أَهْدَى لَنَا أَهْلُ بَيْتٍ أَوْ إِنْسَانٌ مَا كَانَ يُهْدَى لَنَا: شَاةً وَكَفَنَهَا «1». فَدَعَتْنِي عَائِشَةُ فَقَالَتْ: كُلِي مِنْ هَذَا، فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ قُرْصِكِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا مِنَ الْمَالِ الرَّابِحِ، وَالْفِعْلُ الزَّاكِي عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يُعَجِّلُ مِنْهُ مَا يشاء ولا ينقص ذلك مما يدخر عَنْهُ. وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ لَمْ يَجِدْ فَقْدَهُ. وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي فِعْلِهَا هَذَا مِنَ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَصَاصَةِ، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ وَأَفْلَحَ فَلَاحًا لَا خَسَارَةَ بَعْدَهُ. وَمَعْنَى (شَاةً وَكَفَنَهَا) فَإِنَّ الْعَرَبَ- أَوْ بَعْضَ الْعَرَبِ أَوْ بَعْضَ وُجُوهِهِمْ- كَانَ هَذَا مِنْ طَعَامِهِمْ، يَأْتُونَ إِلَى الشَّاةِ أَوِ الْخَرُوفِ إِذَا سَلَخُوهُ غَطَّوْهُ كُلَّهُ بِعَجِينِ الْبُرِّ وَكَفَنُوهُ بِهِ ثُمَّ عَلَّقُوهُ فِي التَّنُّورِ، فَلَا يَخْرُجُ من ودكه شي إِلَّا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَذَلِكَ مِنْ طِيبِ الطعام عندهم. وروى النسائي عن نافع
__________
(1). أي أنها كانت ملفوفة بالرغف، وسيأتي معناه بأوضح من هذا. وقولها:" ما كان يهدى لنا" تريد أن عائشة رضى الله عنها لم تعلم بذلك ولم تحتسب به فتثق به وتعول عليه، ولكن الله سبحانه عوضها من حيث لا تحتسب. (شرح الموطإ).

(18/26)


أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَكَى وَاشْتَهَى عِنَبًا، فَاشْتُرِيَ لَهُ عُنْقُودٌ بِدِرْهَمٍ، فَجَاءَ مِسْكِينٌ فَسَأَلَ، فَقَالَ: أَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَخَالَفَ إِنْسَانٌ فَاشْتَرَاهُ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَجَاءَ الْمِسْكِينُ فَسَأَلَ، فَقَالَ: أَعْطُوهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ خَالَفَ إِنْسَانٌ فَاشْتَرَاهُ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَيْهِ، فَأَرَادَ السَّائِلُ أَنْ يَرْجِعَ فَمُنِعَ. وَلَوْ عَلِمَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ ذَلِكَ الْعُنْقُودُ مَا ذَاقَهُ، لِأَنَّ مَا خَرَجَ لِلَّهِ لَا يَعُودُ فِيهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ عَنْ مَالِكِ الدَّارِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَجَعَلَهَا فِي صُرَّةٍ ثُمَّ قَالَ لِلْغُلَامِ: اذْهَبْ بِهَا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، ثُمَّ تَلَكَّأْ سَاعَةً فِي الْبَيْتِ حَتَّى تَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُ بِهَا. فَذَهَبَ بِهَا الْغُلَامُ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: اجْعَلْ هَذِهِ فِي بَعْضِ حَاجَتِكَ، فَقَالَ: وَصَلَهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَيْ يَا جَارِيَةُ، اذْهَبِي بِهَذِهِ السَّبْعَةِ إِلَى فُلَانٍ، وَبِهَذِهِ الْخَمْسَةِ إِلَى فُلَانٍ، حَتَّى أَنْفَذَهَا. فَرَجَعَ الْغُلَامُ إِلَى عُمَرَ، فَأَخْبَرَهُ فَوَجَدَهُ قَدْ أَعَدَّ مِثْلَهَا لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَقَالَ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَتَلَكَّأْ فِي الْبَيْتِ سَاعَةً حَتَّى تَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُ، فَذَهَبَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: اجْعَلْ هَذِهِ فِي بَعْضِ حَاجَتِكَ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ وَوَصَلَهُ، وَقَالَ: يَا جَارِيَةُ، اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ فُلَانٍ بِكَذَا وبئت فُلَانٍ بِكَذَا، فَاطَّلَعَتْ امْرَأَةُ مُعَاذٍ فَقَالَتْ: وَنَحْنُ! وَاللَّهِ مَسَاكِينُ فَأَعْطِنَا. وَلَمْ يَبْقَ فِي الْخِرْقَةِ إِلَّا دِينَارَانِ قَدْ جَاءَ بِهِمَا إِلَيْهَا. فَرَجَعَ الْغُلَامُ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَسُرَّ بِذَلِكَ عُمَرُ وَقَالَ: إِنَّهُمْ إِخْوَةٌ! بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَنَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي إِعْطَاءِ مُعَاوِيَةَ إِيَّاهَا، وَكَانَ عَشَرَةَ آلَافٍ وَكَانَ الْمُنْكَدِرُ دَخَلَ عَلَيْهَا «1». فَإِنْ قِيلَ: وَرَدَتْ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ الْمَرْءُ، قِيلَ لَهُ: إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَوْثُقُ مِنْهُ الصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ، وَخَافَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ إِذَا فَقَدَ مَا يُنْفِقُهُ. فَأَمَّا الْأَنْصَارُ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيثَارِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، بَلْ كَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ «2» [البقرة: 177]. وَكَانَ الْإِيثَارُ فِيهِمْ أَفْضَلَ مِنَ الْإِمْسَاكِ. وَالْإِمْسَاكُ لمن لا يصبر
__________
(1). بعد كلمة" عليها" بياض في ح، ز، س، هـ، نبه عليه الناسخ بقوله: بياض في الأصل.
(2). راجع ج 2 ص 243.

(18/27)


وَيَتَعَرَّضُ لِلْمَسْأَلَةِ أَوْلَى مِنَ الْإِيثَارِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ مِنَ الذَّهَبِ فَقَالَ: هَذِهِ صَدَقَةٌ، فَرَمَاهُ بِهَا وَقَالَ: (يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ). وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ:- وَالْإِيثَارُ بِالنَّفْسِ فَوْقَ الْإِيثَارِ بِالْمَالِ وَإِنْ عَادَ إِلَى النَّفْسِ. وَمِنَ الأمثال السائرة:
وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ «1»

وَمِنْ عِبَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ الرَّشِيقَةِ فِي حَدِّ الْمَحَبَّةِ: أَنَّهَا الْإِيثَارُ، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ لَمَّا تَنَاهَتْ فِي حُبِّهَا لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، آثَرَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا فَقَالَتْ: أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَأَفْضَلُ الجود بالنفس الجوة عَلَى حِمَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ تَرَّسَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَطَلَّعُ لِيَرَى الْقَوْمَ. فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لَا تُشْرِفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا يُصِيبُونَكَ! نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ وَوَقَى بِيَدِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشُلَّتْ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ الْعَدَوِيُّ: انْطَلَقْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَطْلُبُ ابْنَ عَمٍّ لي- ومعي شي مِنَ الْمَاءِ- وَأَنَا أَقُولُ: إِنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ سَقَيْتُهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَسْقِيكَ، فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ يَقُولُ: آهْ! آهْ! فَأَشَارَ إِلَيَّ ابْنُ عَمِّي أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ فَقُلْتُ: أَسْقِيكَ؟ فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ. فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ: آهْ! آهْ! فَأَشَارَ هِشَامٌ أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ فَجِئْتُهُ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ. فَرَجَعْتُ إِلَى هِشَامٍ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ. فَرَجَعْتُ إِلَى ابْنِ عَمِّي فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ. وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ: مَا غَلَبَنِي أَحَدٌ مَا غَلَبَنِي شَابٌّ مِنْ أَهْلِ بَلْخٍ! قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجًّا فَقَالَ لِي: يَا با يَزِيدَ، مَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ؟ فَقُلْتُ: إِنْ وجدنا أكلنا. وإن فقدنا صبرنا.
__________
(1). هو من بيت لمسلم بن الوليد، صدره:
تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها

يقول: تجود بنفسك في الحرب إذ أنت الضنين بها في الذم. ويروى:
يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها

(18/28)


فَقَالَ: هَكَذَا كِلَابُ بَلْخٍ عِنْدَنَا. فَقُلْتُ: وَمَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: إِنْ فَقَدْنَا شَكَرْنَا، وإن وجدنا آثرنا. وسيل ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: مَا حَدُّ الزَّاهِدِ الْمُنْشَرِحِ صَدْرُهُ؟ قَالَ ثَلَاثٌ: تَفْرِيقُ الْمَجْمُوعِ، وَتَرْكُ طَلَبِ الْمَفْقُودِ، وَالْإِيثَارُ عِنْدَ الْقُوتِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَنْطَاكِيِّ: أَنَّهُ اجْتُمِعَ عِنْدَهُ نَيِّفٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الرَّيِّ، وَمَعَهُمْ أَرْغِفَةٌ مَعْدُودَةٌ لَا تُشْبِعُ جَمِيعَهُمْ، فَكَسَرُوا الرُّغْفَانَ وَأَطْفَئُوا السِّرَاجَ وَجَلَسُوا لِلطَّعَامِ، فَلَمَّا رُفِعَ فَإِذَا الطَّعَامُ بِحَالِهِ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ أَحَدٌ شَيْئًا، إِيثَارًا لِصَاحِبِهِ عَلَى نَفْسِهِ. الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى «1»: وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ الْخَصَاصَةُ: الْحَاجَةُ الَّتِي تَخْتَلُّ بِهَا الْحَالُ. وَأَصْلُهَا مِنَ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ انْفِرَادٌ بِالْأَمْرِ. فَالْخَصَاصَةُ الِانْفِرَادُ بِالْحَاجَةِ، أَيْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَمَّا الرَّبِيعُ إِذَا تَكُونُ خَصَاصَةٌ ... عَاشَ السَّقِيمُ بِهِ وَأَثْرَى الْمُقْتَرُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الشُّحُّ وَالْبُخْلُ سَوَاءٌ، يُقَالُ: رَجُلٌ شَحِيحٌ بَيْنَ الشُّحِّ وَالشَّحِّ وَالشَّحَاحَةِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
تَرَى اللَّحِزَ الشَّحِيحَ إِذَا أُمِرَّتْ ... عَلَيْهِ لِمَالِهِ فِيهَا مُهِينَا «2»
وَجَعَلَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ الشُّحَّ أَشَدَّ مِنَ الْبُخْلِ. وَفِي الصِّحَاحِ: الشُّحُّ الْبُخْلُ مَعَ حِرْصٍ، تَقُولُ: شَحِحْتُ (بِالْكَسْرِ) تَشَحُّ. وَشَحَحْتُ أَيْضًا تَشُحُّ وَتَشِحُّ. وَرَجُلٌ شَحِيحٌ، وَقَوْمٌ شِحَاحٌ وَأَشِحَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ: الشُّحُّ بِالزَّكَاةِ وَمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ من صلة ذوي الأرحام والضيافة، وما شا كل ذَلِكَ. فَلَيْسَ بِشَحِيحٍ وَلَا بِخَيْلٍ مَنْ أَنْفَقَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ أَمْسَكَ عَنْ نَفْسِهِ. وَمَنْ وَسَّعَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يُنْفِقْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الزَّكَوَاتِ وَالطَّاعَاتِ فَلَمْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ. وَرَوَى الْأَسْوَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قد هلكت؟ قال:
__________
(1). جملة" قوله تعالى" ساقطة من س.
(2). في شرح التبريزي:" اللحز: الضيق البخيل. وقيل: هو السيئ الخلق اللئيم. وقوله: إذا أمرت عليه. أي أديرت، والمعنى: أن الخمر إذا كثر دورانها عليه أهان ماله، يقال: فلا مهين لماله، إذا كان سخيا. وفلان معز لماله، إذا كان بخيلا".

(18/29)


وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَأَنَا رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا أَكَادُ أَنْ أُخْرِجَ مِنْ يَدِي شَيْئًا. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيْسَ ذَلِكَ بِالشُّحِّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، إِنَّمَا الشُّحُّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ أَنْ تَأْكُلَ مَالَ أَخِيكَ ظُلْمًا، وَلَكِنْ ذَلِكَ الْبُخْلُ، وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ. فَفَرَّقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ. وَقَالَ طَاوُسٌ: الْبُخْلُ أَنْ يَبْخَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا فِي يَدِهِ، وَالشُّحُّ أَنْ يَشِحَّ بِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا فِي أَيْدِيهِمْ بِالْحِلِّ وَالْحَرَامِ، لَا يَقْنَعُ. ابْنُ جُبَيْرٍ: الشُّحُّ مَنْعُ الزَّكَاةِ وَادِّخَارُ الْحَرَامِ. ابْنُ عُيَيْنَةَ: الشُّحُّ الظُّلْمُ. اللَّيْثُ: تَرْكُ الْفَرَائِضِ وَانْتِهَاكُ الْمَحَارِمِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَلَمْ يَقْبَلِ الْإِيمَانَ فَذَلِكَ الشَّحِيحُ. ابْنُ زَيْدٍ: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا لِشَيْءٍ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَدَعْهُ الشُّحُّ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا من شي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، فَقَدْ وَقَاهُ اللَّهُ شُحَّ نَفْسِهِ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (برئ مِنَ الشُّحِّ مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ وَقَرَى الضَّيْفَ وَأَعْطَى فِي النَّائِبَةِ). وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنْ شُحِّ نَفْسِي وَإِسْرَافِهَا وَوَسَاوِسِهَا). وَقَالَ أَبُو الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيُّ: رَأَيْتُ رَجُلًا فِي الطَّوَافِ يَدْعُو: اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي. لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، فَقُلْتُ لَهُ؟ فَقَالَ: إِذَا وُقِيَتُ شُحَّ نَفْسِي لَمْ أَسْرِقْ وَلَمْ أَزْنِ وَلَمْ أَفْعَلْ. فَإِذَا الرَّجُلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابن عوف. قلت: يدل على هذا قول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ (. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي آخِرِ" آلِ عِمْرَانَ" «1». وَقَالَ كِسْرَى لِأَصْحَابِهِ: أي شي أَضَرُّ بِابْنِ آدَمَ؟ قَالُوا: الْفَقْرُ. فَقَالَ كِسْرَى: الشُّحُّ أَضَرُّ مِنَ الْفَقْرِ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا وَجَدَ شَبِعَ، وَالشَّحِيحَ إِذَا وَجَدَ لَمْ يَشْبَعْ أبدا.
__________
(1). راجع ج 4 ص 293.

(18/30)


وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

[سورة الحشر (59): آية 10]
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) يَعْنِي التَّابِعِينَ وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي ليلى: الناس ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ: الْمُهَاجِرُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ. فَاجْهَدْ أَلَّا تَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُنْ شَمْسًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَكُنْ قَمَرًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَكُنْ كَوْكَبًا مُضِيئًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَكُنْ كَوْكَبًا صَغِيرًا، وَمِنْ جِهَةِ النُّورِ لَا تَنْقَطِعُ. وَمَعْنَى هَذَا: كُنْ مُهَاجِرِيًّا. فَإِنْ قُلْتَ: لَا أَجِدُ، فَكُنْ أَنْصَارِيًّا. فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَاعْمَلْ كَأَعْمَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَأَحِبَّهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ. وَرَوَى مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: النَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ، فَمَضَتْ مَنْزِلَتَانِ وَبَقِيَتْ مَنْزِلَةٌ، فَأَحْسَنُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونُوا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي بَقِيَتْ. وَعَنْ جعفر بن محمد ابن عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا تَقُولُ فِي عُثْمَانَ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا أَخِي أَنْتَ مِنْ قَوْمٍ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الْآيَةَ. قَالَ لَا! قَالَ: فَوَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْآيَةِ «1» فَأَنْتَ مِنْ قَوْمٍ قَالَ الله فيهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الْآيَةَ. قَالَ لَا قَالَ: فَوَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ لَتَخْرُجَنَّ مِنَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ محمد ابن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ جَاءُوا إِلَيْهِ، فَسَبُّوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- ثُمَّ عُثْمَانَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَأَكْثَرُوا، فَقَالَ لَهُمْ: أَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا لَا. فَقَالَ: أَفَمِنَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والايمان من
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من س، هـ.

(18/31)


قَبْلِهِمْ؟ فَقَالُوا لَا. فَقَالَ: قَدْ تَبَرَّأْتُمْ مِنْ هَذَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ! أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الذين قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ قُومُوا، فَعَلَ اللَّهُ بِكُمْ وَفَعَلَ!! ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ مَحَبَّةِ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ حَظًّا فِي الْفَيْءِ مَا أَقَامُوا عَلَى مَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَأَنَّ مَنْ سَبَّهُمْ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوِ اعْتَقَدَ فِيهِ شَرًّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْفَيْءِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ مَالِكٌ: مَنْ كَانَ يُبْغِضُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ كَانَ فِي قَلْبِهِ عَلَيْهِمْ غِلٌّ، فليس له حق في في المسلمين، ثم قرأ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الْآيَةَ. الثَّالِثَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ قِسْمَةُ الْمَنْقُولِ، وَإِبْقَاءُ الْعَقَارِ وَالْأَرْضِ شَمْلًا «1» بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَّا أَنْ يَجْتَهِدَ الْوَالِي فَيُنْفِذَ أَمْرًا فَيُمْضِيَ عَمَلَهُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَاضِيَةٌ بِذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْفَيْءِ وَجَعَلَهُ لِثَلَاثِ طَوَائِفَ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ- وهم معلمون- وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ. فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ التَّابِعِينَ وَالْآتِينَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَدِدْتُ أَنْ رَأَيْتُ «2» إِخْوَانَنَا) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا بِإِخْوَانِكَ؟ فَقَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ). فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إِخْوَانَهُمْ كُلُّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، لَا كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: إِنَّهُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ مَنْ قَصَدَ إِلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الهجرة.
__________
(1). كذا في الأصول. والمراد جعلها عامة شاملة بين المسلمين.
(2). في صحيح مسلم:" أنا قد رأينا ... ".

(18/32)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)

الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَقُولُونَ) نُصِبَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ قَائِلِينَ. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِمَنْ سَبَقَ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لَهُمْ فَسَبُّوهُمْ. الثَّانِي: أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيُفْتَنُونَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أُمِرْتُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَسَبَبْتُمُوهُمْ، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَا تَذْهَبُ هَذِهِ الْأُمَّةُ حَتَّى يَلْعَنَ آخِرُهَا أَوَّلَهَا) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَسُبُّونَ أَصْحَابِي فَقُولُوا لَعَنَ اللَّهُ أَشَرَّكُمْ). وَقَالَ الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ: أَدْرَكْتُ صَدْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَقُولُونَ: اذْكُرُوا مَحَاسِنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَأَلَّفَ عَلَيْهِمُ الْقُلُوبُ، وَلَا تَذْكُرُوا مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فَتُجَسِّرُوا النَّاسَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَفَاضَلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى الرَّافِضَةِ بِخَصْلَةٍ، سُئِلَتِ الْيَهُودُ: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ فَقَالُوا: أَصْحَابُ مُوسَى. وَسُئِلَتِ النَّصَارَى: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ فَقَالُوا: أَصْحَابُ عِيسَى. وَسُئِلَتِ الرَّافِضَةُ مَنْ شَرُّ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ فَقَالُوا: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، أُمِرُوا بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ فَسَبُّوهُمْ، فَالسَّيْفُ عَلَيْهِمْ مَسْلُولٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا تَقُومُ لَهُمْ رَايَةٌ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُمْ قَدَمٌ، وَلَا تَجْتَمِعُ لَهُمْ كَلِمَةٌ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ بِسَفْكِ دِمَائِهِمْ وَإِدْحَاضِ حُجَّتِهِمْ. أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ. وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي حقدا وحسدا (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)

[سورة الحشر (59): آية 11]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11)

(18/33)


لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)

تَعَجُّبٌ «1» مِنَ اغْتِرَارِ الْيَهُودِ بِمَا وَعَدَهُمُ الْمُنَافِقُونَ مِنَ النَّصْرِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ دِينًا وَلَا كِتَابًا. وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ عَبْدُ الله بن أبي بن سَلُولَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: رَافِعَةُ بْنُ تَابُوتٍ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ، كَانُوا مِنَ الْأَنْصَارِ وَلَكِنَّهُمْ نَافَقُوا، وَقَالُوا لِيَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ). وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ بَنِي النَّضِيرِ لِقُرَيْظَةَ. وقوله: (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا نُطِيعُهُ فِي قِتَالِكُمْ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْغَيْبِ، لِأَنَّهُمْ أُخْرِجُوا فَلَمْ يَخْرُجُوا، وَقُوتِلُوا فَلَمْ يَنْصُرُوهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أَيْ فِي قَوْلِهِمْ وَفِعْلِهِمْ.

[سورة الحشر (59): آية 12]
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ أَيْ مُنْهَزِمِينَ. ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ قِيلَ: مَعْنَى لَا يَنْصُرُونَهُمْ طَائِعِينَ. وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ مُكْرَهِينَ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ. وَقِيلَ: مَعْنَى لَا يَنْصُرُونَهُمْ لَا يَدُومُونَ عَلَى نَصْرِهِمْ. هَذَا عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ مُتَّفِقَانِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَالْمَعْنَى لَئِنْ أُخْرِجَ الْيَهُودُ لَا يَخْرُجُ مَعَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، ولين قوتلوا لا ينصرونهم. وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ أي ولين نَصَرَ الْيَهُودُ الْمُنَافِقِينَ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ. وَقِيلَ: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ أَيْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ إِنْ أُخْرِجُوا. وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ أَيْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ فَأَخْبَرَ عَمَّا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ لَوْ كَانَ؟ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا «2» عَنْهُ [الانعام: 28]. وقيل: معنى وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ أي ولين شِئْنَا أَنْ يَنْصُرُوهُمْ زَيَّنَّا ذَلِكَ لَهُمْ. لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ.
__________
(1). في أ:" عجب".
(2). راجع ج 6 ص 410.

(18/34)


لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)

[سورة الحشر (59): آية 13]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَأَنْتُمْ) يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ (أَشَدُّ رَهْبَةً) أَيْ خَوْفًا وَخَشْيَةً (فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) يَعْنِي صُدُورَ بَنِي النَّضِيرِ. وَقِيلَ: فِي صُدُورِ الْمُنَافِقِينَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ يَخَافُونَ مِنْكُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُونَ مِنْ رَبِّهِمْ ذَلِكَ الْخَوْفُ. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) أَيْ لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته.

[سورة الحشر (59): آية 14]
لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً) يَعْنِي الْيَهُودَ (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) أَيْ بِالْحِيطَانِ وَالدُّورِ، يَظُنُّونَ أَنَّهَا تَمْنَعُهُمْ مِنْكُمْ. (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أَيْ مِنْ خَلْفِ حِيطَانٍ يَسْتَتِرُونَ بِهَا لِجُبْنِهِمْ وَرَهْبَتِهِمْ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ جُدُرٍ عَلَى الْجَمْعِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ، لِأَنَّهَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ وَذَلِكَ جَمْعٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو عَمْرٍو" جِدَارٍ" عَلَى التَّوْحِيدِ، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ يُؤَدِّي عَنِ الْجَمْعِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَكِّيِّينَ" جَدْرٍ" (بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِّ)، وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْجِدَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مِنْ وَرَاءِ نَخِيلِهِمْ وَشَجَرِهِمْ، يُقَالُ: أَجْدَرَ النَّخْلُ إِذَا طَلَعَتْ رُءُوسُهُ فِي أول الربيع. والجدر: نبت واحدته جدره. وقرى" جُدْرٌ" (بِضَمِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ) جَمْعُ الْجِدَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ فِي الْوَاحِدِ كَأَلِفِ كِتَابٍ، وَفِي الْجَمْعِ كَأَلِفِ ظِرَافٍ. وَمِثْلُهُ نَاقَةٌ هِجَانٌ وَنُوقٌ هِجَانٌ، لِأَنَّكَ تَقُولُ فِي التَّثْنِيَةِ: هِجَانَانِ، فَصَارَ لَفْظُ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ مُشْتَبِهَيْنِ فِي اللَّفْظِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْمَعْنَى، قَالَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ.

(18/35)


كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) يَعْنِي عَدَاوَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أَيْ بِالْكَلَامِ وَالْوَعِيدِ لَنَفْعَلَنَّ كَذَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ اخْتِلَافُ قُلُوبِهِمْ حَتَّى لَا يَتَّفِقُوا عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أَيْ إِذَا لَمْ يَلْقَوْا عَدُوًّا نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ، وَلَكِنْ إِذَا لَقُوُا الْعَدُوَّ انْهَزَمُوا. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى يَعْنِي الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَعَنْهُ أَيْضًا يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ. الثَّوْرِيُّ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً أَيْ مُجْتَمَعِينَ عَلَى أَمْرٍ وَرَأْيٍ. وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى مُتَفَرِّقَةٌ. فَأَهْلٌ الْبَاطِلُ مُخْتَلِفَةٌ آرَاؤُهُمْ، مُخْتَلِفَةٌ شَهَادَتُهُمْ، مُخْتَلِفَةٌ أَهْوَاؤُهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي عَدَاوَةِ أَهْلِ الْحَقِّ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: أَرَادَ أَنَّ دِينَ الْمُنَافِقِينَ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْيَهُودِ، وَهَذَا لِيُقَوِّيَ أَنْفُسَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو نِيَّةً شَقَّتِ الْعَصَا ... هِيَ الْيَوْمَ شَتَّى وَهِيَ أَمَسُّ جُمَّعُ
وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ" وَقُلُوبُهُمْ أَشَتُّ" يَعْنِي أَشَدَّ تَشْتِيتًا، أَيْ أَشَدُّ اخْتِلَافًا. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) أَيْ ذَلِكَ التَّشْتِيتُ وَالْكُفْرُ بِأَنَّهُمْ لَا عَقْلَ لَهُمْ يعقلون به أمر الله.

[سورة الحشر (59): آية 15]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِهِ قَيْنُقَاعَ، أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُمْ قَبْلَ بَنِي النَّضِيرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ، أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُمْ قَبْلَ قُرَيْظَةَ. مُجَاهِدٌ: يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنِ انْتَقَمَ مِنْهُ عَلَى كُفْرِهِ قبل بني الضير مِنْ نُوحٍ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى وَبالَ جَزَاءُ كُفْرِهِمْ. وَمَنْ قَالَ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، جَعَلَ وَبالَ أَمْرِهِمْ نُزُولَهُمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَحَكَمَ فِيهِمْ بِقَتْلِ الْمُقَاتِلَةِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ. وَمَنْ قَالَ الْمُرَادُ بَنُو النَّضِيرِ قَالَ: وَبالَ أَمْرِهِمْ الْجَلَاءُ وَالنَّفْيُ. وَكَانَ بَيْنَ النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ سَنَتَانِ. وَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ قَبْلَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ: قَرِيباً وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ وَقْعَةِ أحد. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1» في الآخرة.
__________
(1). كلمة أَلِيمٌ ساقطة من هـ.

(18/36)


كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)

[سورة الحشر (59): الآيات 16 الى 17]
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) هَذَا ضَرْبُ مَثَلٍ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ فِي تَخَاذُلِهِمْ وَعَدَمِ الْوَفَاءِ فِي نُصْرَتِهِمْ. وَحُذِفَ حَرْفُ الْعَطْفِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَكَمَثَلِ الشَّيْطَانِ، لِأَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْعَطْفِ كَثِيرٌ كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ عَاقِلٌ أَنْتَ كَرِيمٌ أَنْتَ عَالِمٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي قَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ اكْفُرْ، رَاهِبٌ تُرِكَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ أَصَابَهَا لَمَمٌ لِيَدْعُوَ لَهَا، فَزَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ، ثُمَّ قَتَلَهَا خَوْفًا أَنْ يَفْتَضِحَ، فَدَلَّ الشَّيْطَانُ قَوْمَهَا عَلَى مَوْضِعِهَا، فَجَاءُوا فَاسْتَنْزَلُوا الرَّاهِبَ لِيَقْتُلُوهُ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فَوَعَدَهُ أَنَّهُ إِنْ سَجَدَ لَهُ أَنْجَاهُ مِنْهُمْ، فَسَجَدَ لَهُ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ فَأَسْلَمَهُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرَ خَبَرَهُ مُطَوَّلًا ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. وَلَفْظُهُمَا مُخْتَلِفٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ: كَانَ رَاهِبٌ فِي الْفَتْرَةِ يُقَالُ لَهُ: بِرْصِيصَا، قَدْ تَعَبَّدَ فِي صَوْمَعَتِهِ سَبْعِينَ سَنَةً، لَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِيهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى أَعْيَا إِبْلِيسَ، فَجَمَعَ إِبْلِيسُ مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ فَقَالَ: أَلَا أَجِدُ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفِينِي أَمْرَ بِرْصِيصَا؟ فَقَالَ الْأَبْيَضُ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ الَّذِي قَصَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ جِبْرِيلَ لِيُوَسْوِسَ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْوَحْيِ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَدَخَلَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ دَفَعَهُ بِيَدِهِ حَتَّى وَقَعَ بِأَقْصَى الْهِنْدِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «1» [التكوير: 20] فَقَالَ: أَنَا أَكْفِيكَهُ، فَانْطَلَقَ فَتَزَيَّا بِزِيِّ الرُّهْبَانِ، وَحَلَقَ وَسَطَ رَأْسِهِ حَتَّى أَتَى صَوْمَعَةَ بِرْصِيصَا فَنَادَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَكَانَ لَا يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَلَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وكان يواصل العشرة
__________
(1). راجع ج 19 ص 238. [ ..... ]

(18/37)


الْأَيَّامِ وَالْعِشْرِينَ وَالْأَكْثَرَ، فَلَمَّا رَأَى الْأَبْيَضُ أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُ أَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي أَصْلِ صَوْمَعَتِهِ، فَلَمَّا انْفَتَلَ بِرْصِيصَا مِنْ صَلَاتِهِ، رَأَى الْأَبْيَضَ قَائِمًا يُصَلِّي فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ مِنْ هَيْئَةِ الرُّهْبَانِ، فَنَدِمَ حِينَ لَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ: أَنْ أَكُونَ مَعَكَ، فَأَتَأَدَّبَ بِأَدَبِكَ، وَأَقْتَبِسَ مِنْ عَمَلِكَ، وَنَجْتَمِعَ عَلَى الْعِبَادَةِ، فَقَالَ: إِنِّي فِي شُغْلٍ عَنْكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، وَأَقْبَلَ الْأَبْيَضُ أَيْضًا عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَأَى بِرْصِيصَا شِدَّةَ اجْتِهَادِهِ وَعِبَادَتِهِ قَالَ لَهُ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ: أَنْ تَأْذَنَ لِي فَأَرْتَفِعَ إِلَيْكَ. فَأَذِنَ لَهُ فَأَقَامَ الْأَبْيَضُ مَعَهُ حَوْلًا لَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَوْمًا وَاحِدًا، وَلَا يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَرُبَّمَا مَدَّ إِلَى الثَّمَانِينَ، فَلَمَّا رَأَى بِرْصِيصَا اجْتِهَادَهُ تَقَاصَرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ. ثُمَّ قَالَ الْأَبْيَضُ: عِنْدِي دَعَوَاتٌ يَشْفِي اللَّهُ بِهَا السَّقِيمَ وَالْمُبْتَلَى وَالْمَجْنُونَ، فَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا. ثُمَّ جَاءَ إِلَى إِبْلِيسَ فَقَالَ: قَدْ وَاللَّهِ أَهْلَكْتُ الرَّجُلَ. ثُمَّ تَعَرَّضَ لِرَجُلٍ فَخَنَقَهُ، ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِهِ- وَقَدْ تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ-: إِنَّ بِصَاحِبِكُمْ جُنُونًا أَفَأَطِبُّهُ؟ قَالُوا نَعَمْ. فَقَالَ: لَا أَقْوَى عَلَى جِنِّيَّتِهِ، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى بِرْصِيصَا، فَإِنَّ عِنْدَهُ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، فَجَاءُوهُ فَدَعَا بِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ، فَذَهَبَ عَنْهُ الشَّيْطَانُ. ثُمَّ جَعَلَ الْأَبْيَضَ يَفْعَلُ بِالنَّاسِ ذَلِكَ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى بِرْصِيصَا فَيُعَافُونَ. فَانْطَلَقَ إِلَى جَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ، وَكَانَ أَبُوهُمْ مَلِكًا فَمَاتَ وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ، وَكَانَ عَمُّهَا مَلِكًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَعَذَّبَهَا وَخَنَقَهَا. ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِمْ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مُتَطَبِّبٍ لِيُعَالِجَهَا فَقَالَ: إِنَّ شَيْطَانَهَا مَارِدٌ لَا يُطَاقُ، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِهَا إِلَى بِرْصِيصَا فَدَعُوهَا عِنْدَهُ، فَإِذَا جَاءَ شَيْطَانُهَا دَعَا لَهَا فَبَرِئَتْ، فَقَالُوا: لَا يُجِيبُنَا إِلَى هَذَا، قَالَ: فَابْنُوا صَوْمَعَةً فِي جَانِبِ صَوْمَعَتِهِ ثُمَّ ضَعُوهَا فِيهَا، وَقُولُوا: هِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَكَ فَاحْتَسِبْ فِيهَا. فَسَأَلُوهُ ذَلِكَ فَأَبَى، فَبَنَوْا صَوْمَعَةً وَوَضَعُوا فِيهَا الْجَارِيَةَ، فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ عَايَنَ الْجَارِيَةَ وَمَا بِهَا مِنَ الْجَمَالِ فَأُسْقِطَ فِي يَدِهِ، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَخَنَقَهَا فَانْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ وَدَعَا لَهَا فَذَهَبَ عَنْهَا الشَّيْطَانُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَخَنَقَهَا. وَكَانَ يَكْشِفُ عَنْهَا وَيَتَعَرَّضُ بِهَا لِبِرْصِيصَا، ثُمَّ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: وَيْحَكَ! وَاقِعْهَا، فَمَا تَجِدُ

(18/38)


مِثْلَهَا ثُمَّ تَتُوبُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى وَاقَعَهَا فَحَمَلَتْ وَظَهَرَ حَمْلُهَا. فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: وَيْحَكَ! قَدِ افْتَضَحْتَ. فَهَلْ لَكَ أَنْ تَقْتُلَهَا ثُمَّ تَتُوبَ فَلَا تَفْتَضِحَ، فَإِنْ جَاءُوكَ وَسَأَلُوكَ فَقُلْ جَاءَهَا شَيْطَانُهَا فَذَهَبَ بِهَا. فَقَتَلَهَا بِرْصِيصَا وَدَفَنَهَا لَيْلًا، فَأَخَذَ الشَّيْطَانُ طَرَفَ ثَوْبِهَا حَتَّى بَقِيَ خَارِجًا مِنَ التُّرَابِ، وَرَجَعَ بِرْصِيصَا إِلَى صَلَاتِهِ. ثُمَّ جَاءَ الشَّيْطَانُ إِلَى إِخْوَتِهَا فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: إِنَّ بِرْصِيصَا فَعَلَ بِأُخْتِكُمْ كَذَا وَكَذَا، وَقَتَلَهَا وَدَفَنَهَا فِي جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ وَقَالُوا لِبِرْصِيصَا: مَا فَعَلَتْ أُخْتُنَا؟ فَقَالَ: ذَهَبَ بِهَا شَيْطَانُهَا، فَصَدَّقُوهُ وَانْصَرَفُوا. ثُمَّ جَاءَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي الْمَنَامِ وَقَالَ: إِنَّهَا مَدْفُونَةٌ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ طَرَفَ رِدَائِهَا خَارِجٌ مِنَ التُّرَابِ، فَانْطَلَقُوا فَوَجَدُوهَا، فَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَخَنَقُوهُ، وَحَمَلُوهُ إِلَى الْمَلِكِ فَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ. فَلَمَّا صُلِبَ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ لَا وَاللَّهِ قَالَ: أَنَا صَاحِبُكَ الَّذِي عَلَّمْتُكَ الدَّعَوَاتِ، أَمَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ أَمَا اسْتَحَيْتَ وَأَنْتَ أَعْبَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ لَمْ يَكْفِكَ صَنِيعُكَ حَتَّى فَضَحْتَ نَفْسَكَ، وَأَقْرَرْتَ عَلَيْهَا وَفَضَحْتَ أَشْبَاهَكَ مِنَ النَّاسِ فَإِنْ مِتَّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يُفْلِحْ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِكَ بَعْدَكَ. فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: تُطِيعُنِي فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَأُنْجِيكَ مِنْهُمْ وَآخُذُ بِأَعْيُنِهِمْ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ تَسْجُدُ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً، فَقَالَ: أَنَا أَفْعَلُ، فَسَجَدَ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَقَالَ: يَا بِرْصِيصَا، هَذَا أَرَدْتُ مِنْكَ، كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِكَ أَنْ كَفَرْتَ بربك، إني برئ مِنْكَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَقَالَ وهب ابن مُنَبِّهٍ: إِنَّ عَابِدًا كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مِنْ أَعْبَدِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَكَانَ فِي زَمَانِهِ ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ لَهُمْ أُخْتٌ، وَكَانَتْ بِكْرًا، لَيْسَتْ لَهُمْ أُخْتٌ غَيْرُهَا، فَخَرَجَ الْبَعْثُ عَلَى ثَلَاثَتِهِمْ، فَلَمْ يَدْرُوا عِنْدَ مَنْ يَخْلُفُونَ أُخْتَهُمْ، وَلَا عِنْدَ مَنْ يَأْمَنُونَ عَلَيْهَا، وَلَا عِنْدَ مَنْ يَضَعُونَهَا. قَالَ فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَخْلُفُوهَا عِنْدَ عَابِدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ ثِقَةً فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَخْلُفُوهَا عِنْدَهُ، فَتَكُونَ فِي كَنَفِهِ وَجِوَارِهِ إِلَى أَنْ يَقْفِلُوا مِنْ غُزَاتِهِمْ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَتَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْهُمْ وَمِنْ أُخْتِهِمْ. قَالَ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حتى أطمعهم «1» فَقَالَ: أَنْزِلُوهَا فِي بَيْتٍ حِذَاءَ صَوْمَعَتِي، فَأَنْزَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ ثُمَّ انْطَلَقُوا وَتَرَكُوهَا، فَمَكَثَتْ فِي جِوَارِ ذَلِكَ الْعَابِدِ زَمَانًا، يُنْزِلُ إِلَيْهَا الطعام من
__________
(1). كذا في الأصول. ولعلها" أطاعهم".

(18/39)


صَوْمَعَتِهِ، فَيَضَعُهُ عِنْدَ بَابِ الصَّوْمَعَةِ، ثُمَّ يُغْلِقُ بَابَهُ وَيَصْعَدُ فِي صَوْمَعَتِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُهَا فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا فَتَأْخُذُ مَا وُضِعَ لَهَا مِنَ الطَّعَامِ. قَالَ: فَتَلَطَّفَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَلَمْ يَزَلْ يُرَغِّبُهُ فِي الْخَيْرِ، وَيُعَظِّمُ عَلَيْهِ خُرُوجَ الْجَارِيَةِ مِنْ بَيْتِهَا نَهَارًا، وَيُخَوِّفُهُ أَنْ يَرَاهَا أَحَدٌ فَيَعْلَقَهَا. قَالَ: فَلَبِثَ بِذَلِكَ زَمَانًا، ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَالْأَجْرِ، وَقَالَ لَهُ: لَوْ كُنْتَ تَمْشِي إِلَيْهَا بِطَعَامِهَا حَتَّى تَضَعَهُ فِي بَيْتِهَا كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكَ، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَشَى إِلَيْهَا بِطَعَامِهَا فَوَضَعَهُ في بيتها قال: فلبثت بِذَلِكَ زَمَانًا ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَحَضَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَوْ كُنْتَ تُكَلِّمُهَا وَتُحَدِّثُهَا فَتَأْنَسُ بِحَدِيثِكَ، فَإِنَّهَا قَدِ اسْتَوْحَشَتْ وَحْشَةً شَدِيدَةً. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى حَدَّثَهَا زَمَانًا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا مِنْ فَوْقِ صَوْمَعَتِهِ. قَالَ: ثُمَّ أَتَاهُ إِبْلِيسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ كُنْتَ تَنْزِلُ إِلَيْهَا فَتَقْعُدَ عَلَى بَابِ صَوْمَعَتِكَ وَتُحَدِّثَهَا وَتَقْعُدَ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا فَتُحَدِّثَكَ كَانَ آنَسَ لَهَا. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَنْزَلَهُ وَأَجْلَسَهُ عَلَى بَابِ صَوْمَعَتِهِ يُحَدِّثَهَا، وَتَخْرُجُ الْجَارِيَةُ مِنْ بَيْتِهَا، فَلَبِثَا زَمَانًا يَتَحَدَّثَانِ، ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ فِيمَا يَصْنَعُ بِهَا، وَقَالَ: لَوْ خَرَجْتَ مِنْ بَابِ صَوْمَعَتِكَ فَجَلَسْتَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ بَيْتِهَا كَانَ آنَسَ لَهَا. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى فَعَلَ. قَالَ: فَلَبِثَا زَمَانًا، ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَفِيمَا لَهُ مِنْ حُسْنِ الثَّوَابِ فِيمَا يَصْنَعُ بِهَا، وَقَالَ لَهُ: لَوْ دَنَوْتَ مِنْ بَابِ بَيْتِهَا فَحَدَّثْتَهَا وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهَا، فَفَعَلَ. فَكَانَ يَنْزِلُ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَيَقْعُدُ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا فَيُحَدِّثُهَا. فَلَبِثَا بِذَلِكَ حِينًا ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ: لَوْ دَخَلْتَ الْبَيْتَ مَعَهَا تُحَدِّثَهَا وَلَمْ تَتْرُكْهَا تُبْرِزْ وَجْهَهَا لِأَحَدٍ كَانَ أَحْسَنَ بِكَ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُهَا نَهَارَهُ كُلَّهُ، فَإِذَا أَمْسَى صَعِدَ فِي صَوْمَعَتِهِ. قَالَ: ثُمَّ أَتَاهُ إِبْلِيسُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ يُزَيِّنُهَا لَهُ حَتَّى ضَرَبَ الْعَابِدَ عَلَى فَخِذِهَا وَقَبَّلَهَا. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ إِبْلِيسُ يُحَسِّنُهَا فِي عَيْنِهِ وَيُسَوِّلُ لَهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا فَأَحْبَلَهَا، فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا، فَجَاءَهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ إِخْوَةُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْكَ! كَيْفَ تَصْنَعُ! لَا آمَنُ عَلَيْكَ أَنْ تَفْتَضِحَ أَوْ يَفْضَحُوكَ! فَاعْمِدْ إِلَى ابْنِهَا فَاذْبَحْهُ وَادْفِنْهُ، فَإِنَّهَا سَتَكْتُمُ عَلَيْكَ مَخَافَةَ إِخْوَتِهَا أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا صَنَعْتَ بِهَا، فَفَعَلَ. فَقَالَ لَهُ: أَتَرَاهَا تَكْتُمُ إِخْوَتَهَا مَا صَنَعْتَ بِهَا وَقَتَلْتَ ابْنَهَا! خُذْهَا فَاذْبَحْهَا وَادْفِنْهَا مَعَ ابْنِهَا. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى ذَبَحَهَا

(18/40)


وَأَلْقَاهَا فِي الْحَفِيرَةِ مَعَ ابْنِهَا، وَأَطْبَقَ عَلَيْهَا صَخْرَةً عَظِيمَةً، وَسَوَّى عَلَيْهَا التُّرَابَ، وَصَعِدَ فِي صَوْمَعَتِهِ يَتَعَبَّدُ فِيهَا، فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، حَتَّى قَفَلَ إِخْوَتُهَا مِنَ الْغَزْوِ، فَجَاءُوهُ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَنَعَاهَا لَهُمْ وَتَرَحَّمَ عَلَيْهَا، وَبَكَى لَهُمْ وَقَالَ: كَانَتْ خَيْرَ أَمَةٍ، وَهَذَا قَبْرُهَا فَانْظُرُوا إِلَيْهِ. فَأَتَى إِخْوَتُهَا الْقَبْرَ فَبَكَوْا عَلَى قَبْرِهَا وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهَا، وَأَقَامُوا عَلَى قَبْرِهَا أَيَّامًا ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى أَهَالِيهِمْ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ، أَتَاهُمُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مُسَافِرٍ، فَبَدَأَ بِأَكْبَرِهِمْ فَسَأَلَهُ عَنْ أُخْتِهِمْ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ الْعَابِدِ وَمَوْتِهَا وَتَرَحُّمِهِ عَلَيْهَا، وَكَيْفَ أَرَاهُمْ مَوْضِعَ قَبْرِهَا، فَكَذَّبَهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ: لَمْ يَصْدُقْكُمْ أَمْرَ أُخْتِكُمْ، إِنَّهُ قَدْ أَحْبَلَ أُخْتَكُمْ وَوَلَدَتْ مِنْهُ غُلَامًا فَذَبَحَهُ وَذَبَحَهَا مَعَهُ فَزَعًا مِنْكُمْ، وَأَلْقَاهَا فِي حَفِيرَةٍ احْتَفَرَهَا خَلْفَ الْبَابِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ عَنْ يَمِينِ مَنْ دَخَلَهُ. فَانْطَلِقُوا فَادْخُلُوا الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ عَنْ يَمِينِ مَنْ دَخَلَهُ فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَهُمَا هُنَالِكَ جَمِيعًا كَمَا أَخْبَرْتُكُمْ. قَالَ: وَأَتَى الْأَوْسَطَ فِي مَنَامِهِ وَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ أَتَى أَصْغَرَهُمْ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ الْقَوْمُ اسْتَيْقَظُوا مُتَعَجِّبِينَ لِمَا رَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَبًا، فَأَخْبَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا رَأَى. قَالَ أَكْبَرُهُمْ: هَذَا حُلْمٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَامْضُوا بِنَا وَدَعُوا هَذَا. قَالَ أَصْغَرُهُمْ: لَا أَمْضِي حَتَّى آتِيَ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَأَنْظُرَ فِيهِ. قَالَ: فَانْطَلَقُوا جَمِيعًا حَتَّى دَخَلُوا الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ أُخْتُهُمْ، فَفَتَحُوا الْبَابَ وَبَحَثُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي وَصَفَ لَهُمْ فِي مَنَامِهِمْ، فَوَجَدُوا أُخْتَهُمْ وَابْنَهَا مَذْبُوحَيْنِ فِي الْحَفِيرَةِ كَمَا قِيلَ لَهُمْ، فَسَأَلُوا الْعَابِدَ فَصَدَّقَ قَوْلَ إِبْلِيسَ فِيمَا صَنَعَ بِهِمَا. فَاسْتَعْدَوْا «1» عَلَيْهِ مَلِكَهُمْ، فَأُنْزِلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَقَدَّمُوهُ لِيُصْلَبَ، فَلَمَّا أَوْقَفُوهُ عَلَى الْخَشَبَةِ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي صَاحِبُكَ الَّذِي فَتَنْتُكَ فِي الْمَرْأَةِ حَتَّى أَحَبَلْتَهَا وَذَبَحْتَهَا وَذَبَحْتَ ابْنَهَا، فَإِنْ أَنْتَ أَطَعْتِنِي الْيَوْمَ وَكَفَرْتَ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ خَلَّصْتُكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ. قَالَ: فَكَفَرَ الْعَابِدُ بِاللَّهِ، فَلَمَّا كَفَرَ خَلَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ فَصَلَبُوهُ. قَالَ: فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ- إِلَى
قوله- جَزاءُ الظَّالِمِينَ.
__________
(1). أي استعانوا به فأنصفهم منه.

(18/41)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَضَرَبَ اللَّهُ هَذَا مَثَلًا للمنافقين مع الْيَهُودِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُجْلِيَ بَنِي النَّضِيرِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَدَسَّ إِلَيْهِمُ الْمُنَافِقُونَ أَلَّا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ، فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ كُنَّا مَعَكُمْ، وَإِنْ أَخْرَجُوكُمْ كُنَّا مَعَكُمْ، فَحَارَبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَذَلَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأَ الشَّيْطَانُ مِنْ بِرْصِيصَا الْعَابِدِ. فَكَانَ الرُّهْبَانُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْشُونَ إِلَّا بِالتَّقِيَّةِ «1» وَالْكِتْمَانِ. وَطَمِعَ أَهْلُ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ فِي الْأَحْبَارِ فَرَمَوْهُمْ بِالْبُهْتَانِ والقبيح، حتى كان أم جُرَيْجٍ الرَّاهِبِ، وَبَرَّأَهُ اللَّهُ فَانْبَسَطَتْ بَعْدَهُ الرُّهْبَانُ وَظَهَرُوا لِلنَّاسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَثَلُ الْمُنَافِقِينَ فِي غَدْرِهِمْ «2» لِبَنِي النَّضِيرِ كَمَثَلِ إِبْلِيسَ إِذْ قَالَ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ: لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي «3» جارٌ لَكُمْ [الأنفال: 48] الآية. وقال مجاهد المراد بالإنسان ها هنا جَمِيعُ النَّاسِ فِي غُرُورِ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ. وَمَعْنَى قول تَعَالَى: إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أَيْ أَغْوَاهُ حتى قال: إني كافر. وليس قول الشيطان: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ حَقِيقَةً، إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّؤِ مِنَ الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ وَفَتَحَ الْيَاءَ مِنْ (إِنِّي) نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو. وَأَسْكَنَ الْبَاقُونَ. (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أَيْ عَاقِبَةُ الشَّيْطَانِ وَذَلِكَ الْإِنْسَانِ (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَالتَّثْنِيَةُ ظَاهِرَةٌ فِيمَنْ جَعَلَ الْآيَةَ مَخْصُوصَةً فِي الرَّاهِبِ وَالشَّيْطَانِ. وَمَنْ جَعَلَهَا فِي الْجِنْسِ فَالْمَعْنَى: وَكَانَ عَاقِبَةُ الْفَرِيقَيْنِ أَوِ الصِّنْفَيْنِ. وَنَصَبَ عاقِبَتَهُما عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَالِاسْمُ أَنَّهُما فِي النَّارِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ (فَكَانَ عَاقِبَتُهُمَا) بِالرَّفْعِ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" خَالِدَانِ فِيهَا" بِالرَّفْعِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَرْسُومِ. وَرَفَعَهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ" أن" والظرف ملغى.

[سورة الحشر (59): آية 18]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
__________
(1). أي يظهرون الصلح والاتفاق وباطنهم بخلاف ذلك.
(2). في أ:" وعدهم".
(3). راجع ج 8 ص 26.

(18/42)


وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ. (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْعَرَبُ تَكُنِّي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْغَدِ. وَقِيلَ: ذَكَرَ الْغَدَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّاعَةَ قريبة، كما قال الشاعر:
وإن غدا للناظرين قَرِيبُ «1»

وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: قَرَّبَ السَّاعَةَ حَتَّى جَعَلَهَا كَغَدٍ. وَلَا شَكَ أَنَّ كُلَّ آتٍ قَرِيبُ، وَالْمَوْتَ لَا مَحَالَةَ آتٍ. وَمَعْنَى مَا قَدَّمَتْ يَعْنِي مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أَعَادَ هَذَا تَكْرِيرًا، كَقَوْلِكَ: اعْجَلِ اعْجَلِ، ارْمِ ارْمِ. وَقِيلَ التَّقْوَى الْأُولَى التَّوْبَةُ فِيمَا مَضَى مِنَ الذُّنُوبِ، وَالثَّانِيَةُ اتِّقَاءُ الْمَعَاصِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ. (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَيْ بِمَا يَكُونُ مِنْكُمْ. والله اعلم.

[سورة الحشر (59): آية 19]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ) أَيْ تَرَكُوا أَمْرَهُ (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أن يعلموا لَهَا خَيْرًا، قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَقِيلَ: نَسُوا حَقَّ اللَّهِ فَأَنْسَاهُمْ حَقَّ أَنْفُسِهِمْ، قَالَهُ سُفْيَانُ. وَقِيلَ: نَسُوا اللَّهَ بِتَرْكِ شُكْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ. فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْعَذَابِ أَنْ يُذَكِّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: نَسُوا اللَّهَ عِنْدَ الذُّنُوبِ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ
عِنْدَ التَّوْبَةِ. وَنَسَبَ تَعَالَى الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ فِي فَأَنْساهُمْ إِذْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الَّذِي تَرَكُوهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَجَدَهُمْ تَارِكِينَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، كَقَوْلِكَ: أَحْمَدْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا. وَقِيلَ: نَسُوا اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ. (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْعَاصُونَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَاذِبُونَ. وَأَصْلُ الْفِسْقِ الْخُرُوجُ، أَيِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ.
__________
(1). في فرائد اللئالي: أن قائل هذا هو فراد بن أجدع للنعمان بن المندز. ولفظ البيت:
فإن بك صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب

[سورة الحشر (59): آية 20]
لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)

(18/43)


لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أَيْ فِي الْفَضْلِ وَالرُّتْبَةِ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أَيِ الْمُقَرَّبُونَ الْمُكَرَّمُونَ. وَقِيلَ: النَّاجُونَ مِنَ النَّارِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي" الْمَائِدَةِ" عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ «1». [المائدة: 100] وَفِي سُورَةِ" السَّجْدَةِ" عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ «2» [السجدة: 18]. وَفِي سُورَةِ" ص" أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ «3» كَالْفُجَّارِ [ص: 28] فلا معنى للإعادة، والحمد لله «4».

[سورة الحشر (59): آية 21]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
21 قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً) حَثَّ عَلَى تَأَمُّلِ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عُذْرَ فِي تَرْكِ التَّدَبُّرِ، فَإِنَّهُ لَوْ خُوطِبَ بِهَذَا الْقُرْآنِ الْجِبَالُ مَعَ تَرْكِيبِ الْعَقْلِ فِيهَا لَانْقَادَتْ لِمَوَاعِظِهِ، وَلَرَأَيْتَهَا عَلَى صَلَابَتِهَا وَرَزَانَتِهَا خَاشِعَةً مُتَصَدِّعَةً، أَيْ مُتَشَقِّقَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَالْخَاشِعُ: الذَّلِيلُ. وَالْمُتَصَدِّعُ: الْمُتَشَقِّقُ. وَقِيلَ: خاشِعاً لِلَّهِ بِمَا كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ. مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَنْ يَعْصِيَهُ فَيُعَاقِبَهُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى وَجْهِ الْمَثَلِ لِلْكُفَّارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أَيْ أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَخَشَعَ لِوَعْدِهِ وَتَصَدَّعَ لِوَعِيدِهِ وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمَقْهُورُونَ بِإِعْجَازِهِ لَا تَرْغَبُونَ فِي وعده، ولا ترهبون من
__________
(1). راجع ج 6 ص ص 327.
(2). راجع ج 14 ص 105.
(3). راجع ج 15 ص 101.
(4). جملة" والحمد لله" ساقطة من أ.

(18/44)


هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)

وَعِيدِهِ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى جَبَلٍ لَمَا ثَبَتَ، وَتَصَدَّعَ مِنْ نُزُولِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ وَثَبَّتْنَاكَ لَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ امْتِنَانًا عَلَيْهِ أَنْ ثَبَّتَهُ لِمَا لَا تَثْبُتُ لَهُ الْجِبَالُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَنْذَرَ بِهَذَا الْقُرْآنِ الْجِبَالَ لَتَصَدَّعَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَالْإِنْسَانُ أَقَلُّ قُوَّةً وَأَكْثَرُ ثَبَاتًا، فَهُوَ يَقُومُ بِحَقِّهِ إِنْ أَطَاعَ، وَيَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ إِنْ عَصَى، لأنه موعود بالثواب، ومزجور بالعقاب.

[سورة الحشر (59): آية 22]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَالِمُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَقِيلَ: مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ. وَقَالَ سَهْلٌ. عَالِمٌ بِالْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْغَيْبِ مَا لَمْ يَعْلَمُ الْعِبَادُ وَلَا عَايَنُوهُ. وَالشَّهادَةِ مَا عَلِمُوا وَشَاهَدُوا. (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) تقدم».

[سورة الحشر (59): آية 23]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) أَيِ الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَالطَّاهِرُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ. وَالْقَدَسُ (بِالتَّحْرِيكِ): السَّطْلُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، لِأَنَّهُ يُتَطَهَّرُ بِهِ. وَمِنْهُ الْقَادُوسُ لِوَاحِدِ الْأَوَانِي الَّتِي يُسْتَخْرَجُ بِهَا الْمَاءُ مِنَ الْبِئْرِ بِالسَّانِيَةِ «2». وَكَانَ سِيبَوَيْهِ يَقُولُ: قَدُّوسٌ وَسَبُّوحٌ، بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ يَعْقُوبَ أَنَّهُ سَمِعَ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ أَعْرَابِيًّا فَصِيحًا يُكْنَى أَبَا الدِّينَارِ يَقْرَأُ الْقُدُّوسُ بِفَتْحِ الْقَافِ. قال ثعلب: كل اسم على
__________
(1). راجع ج 1 ص 103.
(2). من معنى السانية: الدلو وأدواته. والمراد هنا الأدوات إلى يستخرج بها الماء.

(18/45)


فَعُّولٍ فَهُوَ مَفْتُوحُ الْأَوَّلِ، مِثْلَ سَفُّودٍ «1» وَكَلُّوبٍ وَتَنُّورٍ وَسَمُّورٍ وَشَبُّوطٍ، إِلَّا السُّبُّوحَ وَالْقُدُّوسَ فَإِنَّ الضَّمَّ فِيهِمَا أَكْثَرُ، وَقَدْ يُفْتَحَانِ. وَكَذَلِكَ الذُّرُّوحُ «2» بِالضَّمِّ وَقَدْ يُفْتَحُ. (السَّلامُ) أَيْ ذُو السَّلَامَةِ مِنَ النَّقَائِصِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا فِي اللَّهِ السَّلامُ: النِّسْبَةُ، تَقْدِيرُهُ ذُو السَّلَامَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَرْجَمَةِ النِّسْبَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ الَّذِي سَلِمَ مِنْ كُلِّ عيب وبرئ من كل نقصى. الثَّانِي: مَعْنَاهُ ذُو السَّلَامِ، أَيِ الْمُسَلِّمُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58]. الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي سَلِمَ الْخَلْقُ مِنْ ظُلْمِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ، وَعَلَيْهِ وَالَّذِي قبله يكون صفة فعل. وعلى أنه البرئ مِنَ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ يَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ. وَقِيلَ: السَّلامُ مَعْنَاهُ الْمُسَلِّمُ لِعِبَادِهِ. الْمُؤْمِنُ) أَيِ الْمُصَدِّقُ لِرُسُلِهِ بِإِظْهَارِ مُعْجِزَاتِهِ عَلَيْهِمْ وَمُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَمُصَدِّقُ الْكَافِرِينَ مَا أَوْعَدَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُؤْمِنُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ عَذَابِهِ وَيُؤْمِنُ عِبَادَهُ مِنْ ظُلْمِهِ، يُقَالُ: آمَنَهُ مِنَ الْأَمَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «3» [قريش: 4] فَهُوَ مُؤْمِنٌ، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَالْمُؤْمِنُ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرَ يَمْسَحُهَا ... رُكْبَانُ مَكَّةَ بَيْنَ الْغِيلِ وَالسَّنَدِ «4»
وَقَالَ مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه بقول: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ «5» [آل عمران: 18]. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُخْرِجَ أَهْلُ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ. وَأَوَّلُ مَنْ يَخْرُجُ مَنْ وَافَقَ اسْمُهُ اسْمَ نَبِيٍّ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْ يُوَافِقُ اسْمُهُ اسْمَ نَبِيٍّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِبَاقِيهِمْ: أَنْتُمُ
__________
(1). السفود: حديدة يشوى عليها اللحم، والجمع سفافيد. والكلوب: حديدة معطوفة كالخطاف. والتنور: الكانون يخبز فيه. والسمور: حيوان برى يشبه السنور يتخذ من جلده فراء ثمينة للينها وخفتها وادفائها وحسنها. والشبوط: سمك رقيق الذنب عريض الوسط لين المس صغير الرأس. والجمع شبابيط.
(2). الذروح: دويبة حمراء منقطة بسواد تطير، وهى من السموم القاتلة. [ ..... ]
(3). راجع ج 20 ص 209.
(4). العائذات: ما عاذ بالبيت من الطير. والغيل: الشجر الكثير الملتف. والسند: ما قابلك من الجبل وعلا عن السفح.
(5). راجع ج 4 ص 40.

(18/46)


الْمُسْلِمُونَ وَأَنَا السَّلَامُ، وَأَنْتُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَا الْمُؤْمِنُ، فَيُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ بِبَرَكَةِ هَذَيْنَ الِاسْمَيْنِ. (الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمُهَيْمِنِ فِي" الْمَائِدَةِ" «1» وَفِي الْعَزِيزُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «2»، (الْجَبَّارُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْعَظِيمُ. وَجَبَرُوتُ اللَّهِ عَظَمَتُهُ. وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ صِفَةُ ذَاتٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
سَوَامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثٌ فُرُوعُهُ ... وَعَالِينَ قِنْوَانًا مِنَ الْبُسْرِ أَحْمَرَا «3»
يَعْنِي النَّخْلَةَ الَّتِي فَاتَتِ الْيَدَ. فَكَانَ هَذَا الِاسْمُ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ وَتَقْدِيسِهِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ النَّقَائِصُ وَصِفَاتُ الْحَدَثِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْجَبْرِ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ، يُقَالُ: جَبَرْتُ الْعَظْمَ فَجَبَرَ، إِذَا أَصْلَحْتُهُ بَعْدَ الْكَسْرِ، فَهُوَ فَعَّالٌ مِنْ جَبَرَ إِذَا أَصْلَحَ الْكَسِيرَ وَأَغْنَى الْفَقِيرَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِنْ أَجْبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ أَيْ قَهَرَهُ. قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْ فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ إِلَّا فِي جَبَّارٍ وَدَرَّاكٍ مِنْ أَدْرَكَ. وَقِيلَ: الْجَبَّارُ الَّذِي لَا تُطَاقُ سَطْوَتُهُ. (الْمُتَكَبِّرُ) الذي تكبر بربوبيته فلا شي مِثْلَهُ. وَقِيلَ: الْمُتَكَبِّرُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ الْمُتَعَظِّمُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْحَدَثِ وَالذَّمِّ. وَأَصْلُ الْكِبْرِ وَالْكِبْرِيَاءِ الِامْتِنَاعُ وَقِلَّةُ الِانْقِيَادِ. وقال حميد بن ثور:
عفت مئل مَا يَعْفُو الْفَصِيلُ فَأَصْبَحَتْ ... بِهَا كِبْرِيَاءُ الصَّعْبِ وَهِيَ ذَلُولُ
وَالْكِبْرِيَاءُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ مَدْحٌ، وَفِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ذَمٌّ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: (الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَصَمْتُهُ ثُمَّ قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ (. وَقِيلَ: الْمُتَكَبِّرُ مَعْنَاهُ الْعَالِي. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْكَبِيرُ لِأَنَّهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّفَ كِبْرًا. وَقَدْ يُقَالُ: تَظَلَّمَ بِمَعْنَى ظَلَمَ، وَتَشَتَّمَ بِمَعْنَى شَتَمَ، وَاسْتَقَرَّ بِمَعْنَى قَرَّ. كَذَلِكَ الْمُتَكَبِّرُ بِمَعْنَى الْكَبِيرِ. وَلَيْسَ كَمَا يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ إِذَا وُصِفَ بِتَفَعَّلَ إِذَا نُسِبَ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ. ثُمَّ نَزَّهَ نفسه فقال: (سُبْحانَ اللَّهِ) أي تنزيها لجلالته وعظمته عَمَّا يُشْرِكُونَ.
__________
(1). راجع ج 6 ص 210.
(2). راجع ج 2 ص 131.
(3). سوامق: مرتفعات. والاثيث: الملتف. والقنوان: العذق.

(18/47)


هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

[سورة الحشر (59): آية 24]
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) الْخالِقُ هُنَا الْمُقَدِّرُ. والْبارِئُ الْمُنْشِئُ الْمُخْتَرِعُ. والْمُصَوِّرُ مُصَوِّرُ الصُّوَرِ وَمُرَكِّبُهَا عَلَى هَيْئَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَالتَّصْوِيرُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخَلْقِ وَالْبَرَايَةِ «1» وَتَابِعٌ لَهُمَا. وَمَعْنَى التَّصْوِيرِ التَّخْطِيطُ وَالتَّشْكِيلُ. وَخَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ ثَلَاثَ خِلَقٍ: جَعَلَهُ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ جَعَلَهُ صُورَةً وَهُوَ التَّشْكِيلُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ صُورَةً وَهَيْئَةً يُعْرَفُ بِهَا وَيَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ بِسِمَتِهَا. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. وَقَالَ النَّابِغَةُ:
الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فِي الْ ... أَرْحَامِ مَاءً حَتَّى يَصِيرَ دَمًا
وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ النَّاسِ الْخَلْقَ بِمَعْنَى التَّصْوِيرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا التَّصْوِيرُ آخِرًا وَالتَّقْدِيرُ أولا والبراية بينهما. ومنه قول الْحَقُّ: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ «2» [المائدة: 110]. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ... ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
يَقُولُ: تقدم مَا تُقَدِّرُ ثُمَّ تَفْرِيهِ، أَيْ تُمْضِيهِ عَلَى وَفْقِ تَقْدِيرِكَ، وَغَيْرُكَ يُقَدِّرُ مَا لَا يَتِمُّ لَهُ وَلَا يَقَعُ فِيهِ مُرَادُهُ، إِمَّا لِقُصُورِهِ فِي تَصَوُّرِ تَقْدِيرِهِ أَوْ لِعَجْزِهِ عَنْ تَمَامِ مُرَادِهِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي" الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى" والحمد لله. وعن حاطب ابن أَبِي بَلْتَعَةَ أَنَّهُ قَرَأَ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَنَصْبِ الرَّاءِ، أَيِ الَّذِي يَبْرَأُ الْمُصَوَّرَ، أَيْ يُمَيِّزُ مَا يُصَوِّرُهُ بِتَفَاوُتِ الْهَيْئَاتِ. ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ «3». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَأَلْتُ خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِمِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ فَقَالَ: (يا أبا هريرة،
__________
(1). كذا في نسخ الأصل. والذي في كتب اللغة:" برأ الله الخلق برءا وبروءا".
(2). راجع ج 6 ص 362
(3). راجع ج 1 ص 287 وج 2 ص 131 وج 10 ص 266)
(

(18/48)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)

عَلَيْكَ بِآخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ فَأَكْثِرْ قِرَاءَتَهَا) فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ فَأَعَادَ عَلَيَّ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ فَأَعَادَ عَلَيَّ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمِ هُوَ اللَّهُ لِمَكَانِ هَذِهِ الْآيَةِ وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَشْرِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ). وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَرَأَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْحَشْرِ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَبَضَهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَوْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ (.