تفسير القرطبي

[تفسير سورة الممتحنة]
سورة الممتحنة مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهِيَ ثَلَاثَ عَشْرَةِ آيَةً الْمُمْتَحِنَةُ (بِكَسْرِ الْحَاءِ) أَيِ الْمُخْتَبِرَةُ، أُضِيفَ الفعل إليها مجازا، كما سميت سورة" براءة" الْمُبَعْثِرَةَ وَالْفَاضِحَةَ، لِمَا كَشَفَتْ مِنْ عُيُوبِ الْمُنَافِقِينَ. وَمَنْ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: الْمُمْتَحَنَةُ (بِفَتْحِ الْحَاءِ) فَإِنَّهُ أَضَافَهَا إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا، وَهِيَ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ [الممتحنة: 10] الْآيَةَ «1». وَهِيَ امْرَأَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَلَدَتْ لَهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الممتحنة (60): آيَةً 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1)
__________
(1). راجع ص 61 من هذا الجزء.

(18/49)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) عَدَّى اتَّخَذَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَهُمَا عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ. وَالْعَدُوُّ فَعُولٌ مِنْ عَدَا، كَعَفُوٍّ مِنْ عَفَا. وَلِكَوْنِهِ عَلَى زِنَةِ الْمَصْدَرِ أَوْقَعَ عَلَى الْجَمَاعَةِ إِيقَاعَهُ عَلَى الْوَاحِدِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) رَوَى الْأَئِمَّةُ- وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ- عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: (ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ «1» فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً «2» مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا) فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى «3» بِنَا خَيْلُنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ. فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا. فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ ... إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ قَالَ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَدَقَ). فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ. قِيلَ: اسْمُ الْمَرْأَةِ سَارَّةُ مِنْ مَوَالِي قُرَيْشٍ. وَكَانَ فِي الْكِتَابِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْكُمْ بِجَيْشٍ كَاللَّيْلِ يَسِيرُ كَالسَّيْلِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَوْ لَمْ يَسِرْ إِلَيْكُمْ إِلَّا وَحْدَهُ لَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَأَنْجَزَ لَهُ مَوْعِدَهُ فِيكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ. ذكره بعض المفسرين.
__________
(1). موضع بين مكة والمدينة على اثنى عشر ميلا من المدينة.
(2). الظعينة: هي المرأة في الهودج. ولا يقال ظعينة إلا وهى كذلك.
(3). أي تجرى.

(18/50)


وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ: أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَكَانَ لَهُ حِلْفٌ بِمَكَّةَ فِي بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى رَهْطِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. وَقِيلَ: كَانَ حَلِيفًا لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَقَدِمَتْ مِنْ مَكَّةَ سَارَّةُ مَوْلَاةُ أَبِي عَمْرِو بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ إِلَى الْمَدِينَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّزُ لِفَتْحِ مَكَّةَ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا فِي زَمَنِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمُهَاجِرَةٌ جِئْتِ يَا سَارَّةُ). فَقَالَتْ لَا. قَالَ: (أَمُسْلِمَةٌ جِئْتِ) قَالَتْ لَا. قَالَ: (فَمَا جَاءَ بِكِ) قَالَتْ: كُنْتُمُ الْأَهْلَ وَالْمَوَالِيَ وَالْأَصْلَ وَالْعَشِيرَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمَوَالِي- تَعْنِي قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ- وَقَدِ احْتَجْتُ حَاجَةً شَدِيدَةً فَقَدِمْتُ عَلَيْكُمْ لِتُعْطُونِي وَتُكْسُونِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (فَأَيْنَ أَنْتِ عَنْ شَبَابِ أَهْلِ مَكَّةَ) وَكَانَتْ مغنية، قالت: ما طلب مني شي بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ. فَحَثَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ عَلَى إِعْطَائِهَا، فَكَسَوْهَا وَأَعْطَوْهَا وَحَمَلُوهَا فَخَرَجَتْ إِلَى مَكَّةَ، وَأَتَاهَا حَاطِبُ فَقَالَ: أُعْطِيكِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَبُرُدًا عَلَى أَنْ تُبَلِّغِي هَذَا الْكِتَابَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ. وَكَتَبَ فِي الْكِتَابِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ. فَخَرَجَتْ سَارَّةُ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ. وَفِي رِوَايَةٍ: عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَرْسَلَ عَلِيًّا وعمار بن ياسر. وفي رواية: عليا وعمار اوعمر وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَالْمِقْدَادَ وَأَبَا مَرْثَدٍ- وَكَانُوا كُلُّهُمْ فُرْسَانًا- وَقَالَ لَهُمُ: (انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَخُذُوهُ مِنْهَا وَخَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنْ لَمْ تَدْفَعْهُ لَكُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهَا) فَأَدْرَكُوهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَقَالُوا لَهَا: أَيْنَ الْكِتَابُ؟ فَحَلَفَتْ مَا مَعَهَا كِتَابٌ، فَفَتَّشُوا أَمْتِعَتَهَا فَلَمْ يَجِدُوا مَعَهَا كِتَابًا، فَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَنَا وَلَا كَذَّبْنَا! وَسَلَّ سَيْفَهُ وَقَالَ: أَخْرِجِي الْكِتَابَ وَإِلَّا وَاللَّهِ لَأُجَرِّدَنَّكِ وَلَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ أَخْرَجَتْهُ مِنْ ذُؤَابَتِهَا- وفي رواية من حجزتها «1» - فخلوا سبيلها ورجحوا بِالْكِتَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأرسل إلى حاطب فقال:
__________
(1). الحجزة: معقد الإزار. وموضع التكة من السراويل. [ ..... ]

(18/51)


(هَلْ تَعْرِفُ الْكِتَابَ؟) قَالَ نَعَمْ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّنَ جَمِيعَ النَّاسِ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَّا أَرْبَعَةً هِيَ أَحَدُهُمْ. الثَّانِيَةُ- السُّورَةُ أصل في النهي عن مولاة الْكُفَّارِ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «1». مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران 28]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: 118]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51]. وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَذُكِرَ أَنَّ حَاطِبًا لَمَّا سَمِعَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا غُشِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَحِ بِخِطَابِ الْإِيمَانِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) يَعْنِي بِالظَّاهِرِ، لِأَنَّ قَلْبَ حَاطِبٍ كَانَ سَلِيمًا، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: (أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ صَدَقَ) وَهَذَا نَصٌّ فِي سَلَامَةِ فُؤَادِهِ وَخُلُوصِ اعْتِقَادِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْمَوَدَّةِ زَائِدَةٌ، كَمَا تَقُولُ: قَرَأْتُ السُّورَةَ وَقَرَأْتُ بِالسُّورَةِ، وَرَمَيْتُ إِلَيْهِ مَا فِي نَفْسِي وَبِمَا فِي نَفْسِي. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً عَلَى أَنَّ مَفْعُولَ تُلْقُونَ مَحْذُوفٌ، مَعْنَاهُ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ الْمَوَدَّةِ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ. وَكَذَلِكَ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أَيْ بِسَبَبِ الْمَوَدَّةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مِنْ صِلَةِ أَوْلِياءَ وَدُخُولُ الْبَاءِ فِي الْمَوَدَّةِ وَخُرُوجُهَا سَوَاءٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِ لَا تَتَّخِذُوا حَالًا مِنْ ضَمِيرِهِ. وَبِ أَوْلِياءَ صِفَةً لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا. وَمَعْنَى تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تُخْبِرُونَهُمْ بِسَرَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَتَنْصَحُونَ لَهُمْ، وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ. الرَّابِعَةُ: مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّفُ عَدُوَّهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ كَافِرًا إِذَا كَانَ فَعَلَهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبٌ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ ينو الردة عن الدين.
__________
(1). راجع ج 4 ص 57 و178 وج 6 ص 216.

(18/52)


الْخَامِسَةُ- إِذَا قُلْنَا لَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا فَهَلْ يُقْتَلُ بِذَلِكَ حَدًّا أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ تِلْكَ قُتِلَ، لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ بِقَتْلِ الْجَاسُوسِ- وَهُوَ صَحِيحٌ لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَلَعَلَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ إِنَّمَا اتَّخَذَ التَّكْرَارَ فِي هَذَا لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ وَقَالَ أَصْبَغُ: الْجَاسُوسُ الربي يُقْتَلُ، وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إِلَّا إِنْ تَظَاهَرَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ، فَصَاحَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ! فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلَّى سَبِيلَهُ. ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إِلَى إِيمَانِهِ مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ). وَقَوْلُهُ: وَقَدْ كَفَرُوا حَالٌ، إِمَّا مِنْ لَا تَتَّخِذُوا وَإِمَّا مِنْ تُلْقُونَ أَيْ لَا تَتَوَلَّوْهُمْ أَوْ تُوَادُّوهُمْ، وَهَذِهِ حَالُهُمْ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ (لِمَا جَاءَكُمْ) أَيْ كَفَرُوا لِأَجْلِ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ كَالتَّفْسِيرِ لِكُفْرِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ، أَوْ حَالٍ مِنْ كَفَرُوا. وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ تَعْلِيلٌ لِ يُخْرِجُونَ الْمَعْنَى يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَيَخْرُجُونَكُمْ مِنْ مَكَّةَ لِأَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ أَيْ لِأَجْلِ إِيمَانِكُمْ بِاللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ حَاطِبٌ مِمَّنْ أُخْرِجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِي. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي، فلا تلقوا إليهم بالمودة. وقيل: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي شَرْطٌ وَجَوَابُهُ مُقَدَّمٌ. وَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي فَلَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ. وَنَصَبَ جِهاداً وابْتِغاءَ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ له. وَقَوْلُهُ: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ بَدَلٌ مِنْ

(18/53)


إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)

تُلْقُونَ وَمُبِيَّنٌ عَنْهُ. وَالْأَفْعَالُ تُبَدَّلُ مِنَ الْأَفْعَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ «1» [الفرقان: 69 - 68]. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْتُمْ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، فَيَكُونُ اسْتِئْنَافًا. وَهَذَا كُلُّهُ مُعَاتَبَةٌ لِحَاطِبٍ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ وَنَصِيحَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِدْقِ إِيمَانِهِ، فَإِنَّ الْمُعَاتَبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ مُحِبٍّ لِحَبِيبِهِ «2». كَمَا قَالَ:
أُعَاتِبُ ذَا الْمَوَدَّةِ مِنْ صَدِيقٍ ... إِذَا مَا رَابَنِي مِنْهُ اجْتِنَابُ
إِذَا ذَهَبَ الْعِتَابُ فَلَيْسَ وُدٌّ ... وَيَبْقَى الْوُدُّ مَا بَقِيَ الْعِتَابُ
وَمَعْنَى بِالْمَوَدَّةِ أَيْ بِالنَّصِيحَةِ فِي الْكِتَابِ إِلَيْهِمْ. وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ ثَابِتَةٌ غَيْرُ زَائِدَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ) أَضْمَرْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أَظْهَرْتُمْ. وَالْبَاءُ فِي بِما زَائِدَةٌ، يُقَالُ: عَلِمْتُ كَذَا وَعَلِمْتُ بِكَذَا. وَقِيلَ: وَأَنَا أَعْلَمُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، فَحُذِفَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ. كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ فِي صُدُورِكُمْ، وَمَا أَظْهَرْتُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالتَّوْحِيدِ. (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) أَيْ مَنْ يُسِرَّ إِلَيْهِمْ وَيُكَاتِبْهُمْ مِنْكُمْ (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أَيْ أَخْطَأَ قَصْدَ الطريق.

[سورة الممتحنة (60): آية 2]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يَلْقَوْكُمْ وَيُصَادِفُوكُمْ، وَمِنْهُ الْمُثَاقَفَةُ، أَيْ طَلَبُ مُصَادَفَةِ الْغِرَّةِ فِي الْمُسَايَفَةِ وَشِبْهِهَا. وقيل: يَثْقَفُوكُمْ يظفروا بكم ويتمكنوا منكم
__________
(1). راجع ج 13 ص 75.
(2). في ح، ز، س:" لحبيب".

(18/54)


لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)

(يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أَيْ أَيْدِيهَمْ بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالشَّتْمِ. (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) بِمُحَمَّدٍ، فَلَا تُنَاصِحُوهُمْ فَإِنَّهُمْ لا يناصحونكم.

[سورة الممتحنة (60): آية 3]
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) لَمَّا اعْتَذَرَ حَاطِبٌ بِأَنَّ لَهُ أَوْلَادًا وَأَرْحَامًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، بَيَّنَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ لَا يَنْفَعُونَ شَيْئًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ عُصِيَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فَيُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ وَيُدْخِلُ الْكَافِرِينَ النَّارَ. وَفِي يَفْصِلُ قِرَاءَاتٌ سَبْعٌ: قَرَأَ عَاصِمٌ" يَفْصِلُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مُشَدَّدًا إِلَّا أَنَّهُ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَالنَّخَعِيُّ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الصَّادِ مُشَدَّدَةً. وَرُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ كَذَلِكَ بِالنُّونِ مُخَفَّفَةً. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ" يُفْصِلُ" بِضَمِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مُخَفَّفَةً مِنْ أَفْصَلَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" يُفْصَلُ" بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. فَمَنْ خَفَّفَ فَلِقَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ «1» [الانعام: 57] وقوله: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ «2» [الدخان: 40]. وَمَنْ شَدَّدَ فَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْيَنُ فِي الْفِعْلِ الْكَثِيرِ الْمُكَرَّرِ الْمُتَرَدِّدِ. وَمَنْ أَتَى بِهِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَلِأَنَّ الْفَاعِلَ مَعْرُوفٌ. وَمَنْ أَتَى بِهِ مُسَمَّى الْفَاعِلِ رَدَّ الضَّمِيرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَمَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ فَعَلَى التعظيم. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

[سورة الممتحنة (60): الآيات 4 الى 5]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
__________
(1). راجع ج 6 ص 483.
(2). ج 16 ص 147.

(18/55)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) لَمَّا نَهَى عَزَّ وَجَلَّ عَنْ مولاة الْكُفَّارِ ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ مِنْ سِيرَتِهِ التَّبَرُّؤَ مِنَ الْكُفَّارِ، أَيْ فَاقْتَدُوا بِهِ وَأْتَمُّوا، إِلَّا فِي اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ. وَالْإِسْوَةُ وَالْأُسْوَةُ مَا يُتَأَسَّى بِهِ، مِثْلُ الْقِدْوَةِ وَالْقُدْوَةِ. وَيُقَالُ: هُوَ إِسْوَتُكَ، أَيْ مِثْلُكَ وَأَنْتَ مِثْلُهُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ أُسْوَةٌ بِضَمِ الْهَمْزَةِ لُغَتَانِ. (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يَعْنِي أَصْحَابَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) الكفار (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أَيِ الأصنام. وبُرَآؤُا جمع برئ، مِثْلُ شَرِيكٍ وَشُرَكَاءَ، وَظَرِيفٍ وَظُرَفَاءَ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ عَلَى وَزْنِ فُعَلَاءَ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ" بِرَاءُ" بِكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ، مِثْلُ قَصِيرٍ وَقِصَارٍ، وَطَوِيلٍ وَطِوَالٍ، وَظَرِيفٍ وَظِرَافٍ. وَيَجُوزُ تَرْكُ الْهَمْزَةِ حَتَّى تَقُولَ: برا، وتنون. وقرى" براء" على الوصف بالمصدر. وقرى" بُرَاءُ" عَلَى إِبْدَالِ الضَّمِّ مِنَ الْكَسْرِ، كَرُخَالٍ وَرُبَابٍ «1». وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي الْأَمْرِ بِالِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي فِعْلِهِ. وَذَلِكَ يُصَحِّحُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. (كَفَرْنا بِكُمْ) أَيْ بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ. وَقِيلَ: أَيْ بِأَفْعَالِكُمْ وَكَذَبْنَاهَا وَأَنْكَرْنَا أَنْ تَكُونُوا عَلَى حَقٍّ. (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) أَيْ هَذَا دَأْبُنَا مَعَكُمْ مَا دُمْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) فَحِينَئِذٍ تَنْقَلِبُ الْمُعَادَاةُ مُوَالَاةً (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) فَلَا تَتَأَسَّوْا بِهِ فِي الِاسْتِغْفَارِ فَتَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ عن
__________
(1). رخال: جمع رخل، الأنثى من أولاد الضأن. والرباب: جمع الربى، الشاة التي وضعت حديثا. وقيل: إذا مات ولدها.

(18/56)


لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)

مَوْعِدَةٍ مِنْهُ لَهُ قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ هَجَرَ قَوْمَهُ وَبَاعَدَهُمْ إِلَّا فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَ عُذْرَهُ فِي سُورَةِ" التَّوْبَةِ" «1». وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى تَفْضِيلِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّا حِينَ أُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ أُمِرْنَا أَمْرًا مُطْلَقًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «2» [الحشر: 7] وَحِينَ أُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَثْنَى بَعْضَ أَفْعَالِهِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، إِنَّمَا جَرَى لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ أَسْلَمَ، فَلَمَّا بَانَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ تَبَرَّأَ مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَجِدُوا مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ، فَلِمَ تُوَالُوهُمْ. (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) هَذَا مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ، أَيْ مَا أَدْفَعُ عَنْكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَشْرَكْتَ بِهِ. (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) هَذَا مِنْ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابُهُ. وَقِيلَ: عَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا. أَيْ تَبَرَّءُوا مِنَ الْكُفَّارِ وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ وَقُولُوا: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا أَيِ اعْتَمَدْنَا (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أَيْ رَجَعْنَا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) لَكَ الرُّجُوعُ فِي الْآخِرَةِ (رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْ لَا تُظْهِرْ عَدُوَّنَا عَلَيْنَا فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ فَيُفْتَتَنُوا بِذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا وَيُعَذِّبُونَا. (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

[سورة الممتحنة (60): الآيات 6 الى 7]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) أَيْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ. (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أَيْ فِي التَّبَرُّؤِ مِنَ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ. وقيل: نزل الثاني بعد
__________
(1). راجع ج 8 ص 274.
(2). راجع ص 17 من هذا الجزء.

(18/57)


لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)

الْأَوَّلِ بِمُدَّةٍ، وَمَا أَكْثَرُ الْمُكَرَّرَاتِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. (وَمَنْ يَتَوَلَّ) أَيْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَقَبُولِ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ) أَيْ لَمْ يَتَعَبَّدْهُمْ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِمْ. (الْحَمِيدُ) فِي نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ عَادَى الْمُسْلِمُونَ أَقْرِبَاءَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَعَلِمَ اللَّهُ شِدَّةَ وَجْدِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَنَزَلَتْ: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) وَهَذَا بِأَنْ يُسْلِمَ الْكَافِرُ. وَقَدْ أَسْلَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَخَالَطَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، كَأَبِي سفيان ابن حَرْبٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. وَقِيلَ: الْمَوَدَّةُ تَزْوِيجُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَانَتْ عِنْدَ ذَلِكَ «1» عَرِيكَةُ أَبِي سُفْيَانَ، وَاسْتَرْخَتْ شَكِيمَتُهُ فِي الْعَدَاوَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْمَوَدَّةُ بَعْدَ الْفَتْحِ تَزْوِيجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَكَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ. فَأَمَّا زَوْجُهَا فَتَنَصَّرَ وَسَأَلَهَا أَنْ تُتَابِعَهُ عَلَى دِينِهِ فَأَبَتْ وَصَبَرَتْ عَلَى دِينِهَا، وَمَاتَ زَوْجُهَا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ. فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَخَطَبَهَا، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ أَوْلَاكُمْ بِهَا؟ قَالُوا: خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ. قَالَ فَزَوِّجْهَا مِنْ نَبِيِّكُمْ. فَفَعَلَ، وَأَمْهَرَهَا النَّجَاشِيُّ مِنْ عِنْدِهِ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ. وَقِيلَ: خَطَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَلَمَّا زَوَّجَهُ إِيَّاهَا بَعَثَ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِيهَا، فَسَاقَ عَنْهُ الْمَهْرَ وَبَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ مُشْرِكٌ لَمَّا بَلَغَهُ تَزْوِيجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ: ذَلِكَ الْفَحْلُ لَا يُقْدَعُ أَنْفُهُ." يقدع" بالدال غير المعجمة، يقال: هدا فَحْلٌ لَا يُقْدَعُ أَنْفُهُ، أَيْ لَا يُضْرَبُ أنفه. وذلك إذا كان كريما.

[سورة الممتحنة (60): آية 8]
لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
__________
(1). العريكة: الطبيعة. ولانت عريكته: إذا انكسرت نخوته. والشكيمة: الأنفة. ومن اللجام: الحديدة المعترضة في الفم.

(18/58)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي صِلَةِ الَّذِينَ لَمْ يُعَادُوا الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمُوَادَعَةِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ. قَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَتْهَا فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» [التوبة: 5]. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الْحُكْمُ لِعِلَّةٍ وَهُوَ الصُّلْحُ، فَلَمَّا زَالَ الصُّلْحُ بِفَتْحِ مَكَّةَ نُسِخَ الْحُكْمُ وَبَقِيَ الرَّسْمُ يُتْلَى. وَقِيلَ: هِيَ مَخْصُوصَةٌ فِي حُلَفَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ لَمْ يَنْقُضْهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. الْكَلْبِيُّ: هُمْ خُزَاعَةُ وَبَنُو الْحَارِثِ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ. وَقَالَهُ أَبُو صَالِحٍ، وَقَالَ: هُمْ خُزَاعَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مَخْصُوصَةٌ فِي الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا. وَقِيلَ: يَعْنِي بِهِ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي بِرِّهِمْ. حَكَاهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَصِلُ أُمَّهَا حِينَ قَدِمَتْ عَلَيْهَا مُشْرِكَةً؟ قَالَ: (نَعَمْ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ فِيهَا نَزَلَتْ. رَوَى عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قُتَيْلَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ أُمُّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِمْ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا الْمُهَادَنَةُ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَهْدَتْ، إِلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قُرْطًا وَأَشْيَاءَ، فَكَرِهَتْ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهَا حَتَّى أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذلك له، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ. ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) أَنْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الَّذِينَ، أَيْ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنْ أَنْ تَبَرُّوا الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ. وَهُمْ خُزَاعَةُ، صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَلَّا يُقَاتِلُوهُ وَلَا يُعِينُوا عَلَيْهِ أَحَدًا، فَأَمَرَ بِبِرِّهِمْ وَالْوَفَاءِ لَهُمْ إِلَى أَجَلِهِمْ، حَكَاهُ الْفَرَّاءُ. (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أَيْ تُعْطُوهُمْ قِسْطًا مِنْ أَمْوَالِكُمْ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ. وَلَيْسَ يُرِيدُ بِهِ مِنَ الْعَدْلِ، فَإِنَّ الْعَدْلَ وَاجِبٌ فِيمَنْ قَاتَلَ وَفِيمَنْ لَمْ يقاتل، قاله ابن العربي.
__________
(1). راجع ج 8 ص 136.

(18/59)


إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

الثَّالِثَةُ- قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ لَهُ:" اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ تُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الِابْنِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَبِيهِ الْكَافِرِ. وَهَذِهِ وَهْلَةٌ «1» عَظِيمَةٌ، إِذِ الْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ أَوْ تَرْكُ النَّهْيِ عَنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ، وَإِنَّمَا يُعْطِيكَ الْإِبَاحَةَ خَاصَّةً. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْقَاضِي دَخَلَ عَلَيْهِ ذِمِّيٌّ فَأَكْرَمَهُ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ فِي ذَلِكَ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَيْهِمْ".

[سورة الممتحنة (60): آية 9]
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) أَيْ جَاهَدُوكُمْ عَلَى الدِّينِ (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) وَهُمْ عُتَاةُ أَهْلِ مَكَّةَ. (وَظاهَرُوا) أَيْ عَاوَنُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ وَهُمْ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أَنْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْبَدَلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَنْ تَبَرُّوهُمْ. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) أَيْ يَتَّخِذُهُمْ أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا وأحبابا (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

[سورة الممتحنة (60): آية 10]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
__________
(1). وهل عن الشيء وفى الشيء- بالكسر-: إذا غلط فيه رمها.

(18/60)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) فِيهِ سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) لما أمر المسلمين بترك مولاة الْمُشْرِكِينَ اقْتَضَى ذَلِكَ مُهَاجَرَةَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بِلَادِ الشِّرْكِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ التَّنَاكُحُ مِنْ أَوْكَدِ أَسْبَابِ الْمُوَالَاةِ، فَبَيَّنَ أَحْكَامَ مُهَاجَرَةِ النِّسَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَرَى الصُّلْحُ مَعَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، فَجَاءَتْ سَعِيدَةُ «1» بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكِتَابِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ بَعْدُ، فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا وَكَانَ كَافِرًا- وَهُوَ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ. وَقِيلَ: مُسَافِرٌ الْمَخْزُومِيُّ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، ارْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي فَإِنَّكَ شَرَطْتَ ذَلِكَ! وَهَذِهِ طِينَةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَقِيلَ: جَاءَتْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّهَا. وَقِيلَ: هَرَبَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمَعَهَا أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَوَيْهَا وَحَبَسَهَا، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رُدَّهَا عَلَيْنَا لِلشَّرْطِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَانَ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ لَا فِي النِّسَاءِ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَ مِمَّا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: أَلَّا يَأْتِيَكَ مِنَّا أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُؤْمِنَاتِ مَا أَنْزَلَ، يُومِئُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي رَدِّ النِّسَاءِ نُسِخَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ إِنَّ الَّتِي جَاءَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرٍ، كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ الشِّمْرَاخِ فَفَرَّتْ مِنْهُ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ، فَتَزَوَّجَهَا سَهْلُ بن حنيف فولدت له عبد الله، قاله زَيْدُ بْنُ حَبِيبٍ. كَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرٍ كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ الشِّمْرَاخِ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ خَالِدٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُمَيْمَةَ بِنْتِ بِشْرٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. وَهِيَ امْرَأَةُ حَسَّانَ بْنِ الدَّحْدَاحِ، وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ هِجْرَتِهَا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّهَا سَعِيدَةُ «2» زَوْجَةُ صَيْفِيِّ بْنِ الرَّاهِبِ مُشْرِكٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَالْأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا أُمُّ كلثوم بنت عقبة.
__________
(1). في الأصل المطبوع:" سبيعة" وهو تحريف. راجع أسد الغابة ج 5 ص 745.
(2). في الأصل المطبوع:" سبيعة" وهو تحريف. راجع أسد الغابة ج 5 ص 745.

(18/61)


الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ دَخَلَ النِّسَاءُ فِي عَقْدِ الْمُهَادَنَةِ لَفْظًا أَوْ عُمُومًا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: قَدْ كَانَ شَرْطُ رَدِّهِنَّ فِي عَقْدِ الْمُهَادَنَةِ لَفْظًا صَرِيحًا فَنَسَخَ اللَّهُ رَدَّهُنَّ مِنَ الْعَقْدِ وَمَنَعَ مِنْهُ، وَبَقَاهُ فِي الرِّجَالِ عَلَى مَا كَانَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ «1» فِي الْأَحْكَامِ، وَلَكِنْ لَا يُقِرُّهُ اللَّهُ عَلَى خَطَأٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَمْ يَشْتَرِطْ رَدَّهُنَّ فِي الْعَقْدِ لَفْظًا، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْعَقْدَ فِي رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ، فَكَانَ ظَاهِرَ الْعُمُومِ اشْتِمَالُهُ عَلَيْهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى خُرُوجَهُنَّ عَنْ عُمُومِهِ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الرِّجَالِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ ذَوَاتُ فُرُوجٍ يَحْرُمْنَ عَلَيْهِمْ. الثَّانِي- أَنَّهُنَّ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَسْرَعُ تَقَلُّبًا مِنْهُمْ. فَأَمَّا الْمُقِيمَةُ مِنْهُنَّ عَلَى شِرْكِهَا فَمَرْدُودَةٌ عَلَيْهِمْ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَامْتَحِنُوهُنَّ) قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مَنْ أَرَادَتْ مِنْهُنَّ إِضْرَارَ زَوْجِهَا فَقَالَتْ: سَأُهَاجِرُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْتِحَانِهِنَّ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْمِحْنَةُ أَنْ تُسْتَحْلَفَ بِاللَّهِ أَنَّهَا مَا خَرَجَتْ مِنْ بُغْضِ زَوْجِهَا، وَلَا رَغْبَةً مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، وَلَا الْتِمَاسَ دُنْيَا، وَلَا عِشْقًا لِرَجُلٍ مِنَّا، بَلْ حُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. فَإِذَا حَلَفَتْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوْجَهَا مَهْرَهَا وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ. الثَّانِي- أَنَّ الْمِحْنَةَ كَانَتْ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. الثَّالِثُ- بِمَا بَيَّنَهُ فِي السُّورَةِ بَعْدُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ [الممتحنة: 12] قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمتحن إِلَّا بِالْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ [الممتحنة: 12] رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ. خَرَّجَهُ الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
__________
(1). الاجتهاد: بذل الوسع في طلب الامر. [ ..... ]

(18/62)


الرَّابِعَةُ- أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَاهَدَ عَلَيْهِ قُرَيْشًا، مِنْ أَنَّهُ يَرُدُّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمًا، فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ النِّسَاءُ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّهُ مَنْسُوخٌ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهَادِنَ الْإِمَامُ الْعَدُوَّ عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْمُسْلِمِ بِأَرْضِ الشِّرْكِ لَا تَجُوزُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَعَقْدُ الصُّلْحِ عَلَى ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَدِ احْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِحَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى قَوْمٍ مِنْ خَثْعَمَ فَاعْتَصَمُوا بِالسُّجُودِ فَقَتَلَهُمْ، فَوَدَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَقَالَ" أنا برئ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ مَعَ مُشْرِكٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَرَاءَى نَارُهُمَا»
قَالُوا: فَهَذَا نَاسِخٌ لِرَدِّ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، إِذْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بَرِئَ مِمَّنْ أَقَامَ مَعَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ هَذَا الْعَقْدُ إِلَّا الْخَلِيفَةُ أَوْ رَجُلٌ يَأْمُرُهُ، لِأَنَّهُ يَلِي الْأَمْوَالَ كُلَّهَا. فَمَنْ عَقَدَ غَيْرَ الْخَلِيفَةِ هَذَا الْعَقْدَ فَهُوَ مَرْدُودٌ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ) أَيْ هَذَا الِامْتِحَانُ لَكُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، لِأَنَّهُ مُتَوَلِّي السَّرَائِرَ. (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) أَيْ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: إِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ قَبْلَ الِامْتِحَانِ (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) أَيْ لَمْ يَحِلَّ اللَّهُ مُؤْمِنَةً لِكَافِرٍ، وَلَا نِكَاحَ مُؤْمِنٍ لِمُشْرِكَةٍ. وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَوْجَبَ فُرْقَةَ الْمُسْلِمَةِ مِنْ زَوْجِهَا إِسْلَامُهَا لَا هِجْرَتُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا هُوَ اخْتِلَافُ الدارين. وإليه إشارة في مذهب مالك
__________
(1). الأصل في" تراءى" تتراءى. والترائي تفاعل من الرؤية، يقال: تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا وإسناد الترائي إلى النارين مجاز. أي يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله. ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم. وإنما كره مجاورة المشركين لأنهم لا عهد لهم ولا أمان وحث المسلمين على الهجرة. (عن نهاية ابن الأثير).

(18/63)


بَلْ عِبَارَةٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ عَدَمُ الْحِلِّ بِالْإِسْلَامِ وَلَيْسَ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الدَّارَيْنِ لَا فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا الْمُرَاعَاةُ فِي ذَلِكَ الدِّينَانِ، فَبِاخْتِلَافِهِمَا يَقَعُ الْحُكْمُ وَبِاجْتِمَاعِهِمَا، لَا بِالدَّارِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا) أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا أُمْسِكَتِ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ أَنْ يُرَدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ وَذَلِكَ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ أَهْلِهِ بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ، أَمَرَ بِرَدِّ الْمَالِ إِلَيْهِ حَتَّى لَا يَقَعُ عَلَيْهِمْ خُسْرَانٌ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: الزَّوْجَةِ وَالْمَالِ. السَّابِعَةُ- وَلَا غُرْمَ إِلَّا إِذَا طَالَبَ الزَّوْجُ الْكَافِرُ، فَإِذَا حَضَرَ وَطَالَبَ مَنَعْنَاهَا وَغَرِمْنَا. فَإِنْ كَانَتْ مَاتَتْ قَبْلَ حُضُورِ الزَّوْجِ لَمْ نَغْرَمِ الْمَهْرَ إِذْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَنْعُ. وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا لَمْ نَغْرَمْ شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا جَاءَتْنَا الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ مِنْ أَهْلِ الْهُدْنَةِ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى الْإِمَامِ فِي دَارِ السَّلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَمَنْ طَلَبَهَا مِنْ وَلِيٍّ سِوَى زَوْجِهَا مُنِعَ مِنْهَا بِلَا عِوَضٍ. وَإِذَا طَلَبَهَا زَوْجُهَا لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بِوَكَالَتِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- يُعْطِي الْعِوَضَ، وَالْقَوْلُ مَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يُعْطَى الزَّوْجُ الْمُشْرِكُ الَّذِي جَاءَتْ زَوْجَتُهُ مُسْلِمَةً الْعِوَضَ. فَإِنْ شَرَطَ «1» الْإِمَامُ رَدَّ النِّسَاءِ كَانَ الشَّرْطُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يُرَدَّ النِّسَاءَ كَانَ شَرْطُ مَنْ شَرَطَ رَدَّ النِّسَاءِ مَنْسُوخًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ عِوَضٌ، لِأَنَّ الشرط المنسوخ باطل ولا عوض الباطل.
__________
(1). ما بين المربعين هكذا ورد في جميع نسخ الأصل، وهو مضطرب. وقد نقل المؤلف رحمه الله هذه المسألة من كتاب الناسخ والمنسوخ لابي جعفر النحاس ونصها فيه: وإن شرط الامام رد النساء كان الشرط متنقضا. ومن قال هذا قال: إن شرط رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الحديبية فيه إن يرد من جاء منهم، وكان النساء منهم كان شرطا صحيحا، فنسخه الله ورد العوض، فلما قضى الله عز وجل ثم رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يُرَدَّ النِّسَاءَ كان شرط شرط رد النساء منسوخا وليس عليه أن يعوض، لان شرطه المنسوخ باطل ولا عوض الباطل".

(18/64)


الثَّامِنَةُ- أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَدِّ مِثْلِ مَا أَنْفَقُوا إِلَى الْأَزْوَاجِ، وَأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْإِمَامُ يُنَفِّذُ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَصْرِفٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَرُدُّ الْمَهْرَ الَّذِي يَتَزَوَّجُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ فَلَيْسَ لِزَوْجِهَا الكافر شي. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحُكْمُ فِي رَدِّ الصَّدَاقِ إِنَّمَا هُوَ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ، فَأَمَّا مَنْ لَا عَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُرَدُّ إِلَيْهِمُ الصَّدَاقُ. وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ «1». التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) يَعْنِي إِذَا أَسْلَمْنَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ لِمَا ثَبَتَ مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ. فَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ «2» ثَبَتَ النِّكَاحُ فِي الْحَالِ وَلَهَا التَّزَوُّجُ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أَبَاحَ نِكَاحَهَا بِشَرْطِ الْمَهْرِ، «3» لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْكَافِرِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِمْسَاكِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: 231]. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو عَمْرٍو" وَلَا تُمَسِّكُوا" مُشَدَّدَةً مِنَ التَّمَسُّكِ. يُقَالُ: مَسَّكَ يُمَسِّكُ تمسكا، بمعنى أمسك يمسك. وقرى" وَلَا تَمْسِكُوا" بِنَصْبِ التَّاءِ، أَيْ لَا تَتَمَسَّكُوا وَالْعِصَمُ جَمْعُ الْعِصْمَةِ، وَهُوَ مَا اعْتُصِمَ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْعِصْمَةِ هُنَا النِّكَاحُ. يَقُولُ: مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ بِمَكَّةَ فَلَا يَعْتَدَّ بِهَا، فَلَيْسَتْ لَهُ امْرَأَةٌ، فَقَدِ انْقَطَعَتْ عِصْمَتُهَا لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ. وَعَنِ النَّخَعِيِّ: هِيَ الْمُسْلِمَةُ تَلْحَقُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَتَكْفُرُ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَتَزَوَّجُونَ الْمُسْلِمَاتِ وَالْمُسْلِمُونَ يَتَزَوَّجُونَ الْمُشْرِكَاتِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ «4» فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَطَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكَتَيْنِ: قُرَيْبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا بِمَكَّةَ. وَأُمُّ كُلْثُومِ بِنْتِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيَّةُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَتَزَوَّجَهَا أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَافَةَ وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِمُعَاوِيَةَ: طَلِّقْ قُرَيْبَةَ لِئَلَّا يَرَى عُمَرُ سَلَبَهُ فِي بَيْتِكَ، فَأَبَى مُعَاوِيَةُ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَتْ عِنْدَ طَلْحَةَ بن عبيد الله أروى
__________
(1). في ح، ز، س:" كما قاله رحمه الله".
(2). ما بين المربعين ساقط من ح، ز، هـ.
(3). في س:" بشرط الإسلام، لان المهر والإسلام ... ".
(4). كلمة:" ذلك" ساقطة من ح، س.

(18/65)


بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَفَرَّقَ الْإِسْلَامُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْإِسْلَامِ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَكَانَتْ مِمَّنْ فَرَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ نِسَاءِ الْكُفَّارِ، فَحَبَسَهَا وَزَوَّجَهَا خَالِدًا. وَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ ابْنَتَهُ- وَكَانَتْ كَافِرَةً- مِنْ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَ زَوْجُهَا بَعْدَهَا. ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَسْلَمَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَاجَرَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ الْأُولَى، وَزَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ عَبْدُ الْعُزَّى مُشْرِكٌ بِمَكَّةَ. الْحَدِيثُ. وَفِيهِ: أَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَكَانَتْ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَأَسْلَمَتْ ثُمَّ لَحِقَتْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَى زَوْجُهَا الْمَدِينَةَ فَأَمَّنَتْهُ فَأَسْلَمَ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ: بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: بَعْدَ سَنَتَيْنِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَلَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنَّهَا لَمْ تَحِضْ حَتَّى أَسْلَمَ زَوْجُهَا، وَإِمَّا أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ [البقرة: 228] يَعْنِي فِي عِدَّتِهِنَّ. وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ عَنَى بِهِ الْعِدَّةَ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ هَذِهِ: كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تنزل سورة" براءة" بِقَطْعِ الْعُهُودِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) الْمُرَادُ بِالْكَوَافِرِ هُنَا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مَنْ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً نِكَاحُهَا، فَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْكَوَافِرِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ، نُسِخَ مِنْهَا نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَوْ كَانَ إِلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ لَمْ تَحِلَّ كَافِرَةٌ بِوَجْهٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِذَا أَسْلَمَ وَثَنِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ وَلَمْ تُسْلِمِ امْرَأَتُهُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَنْتَظِرُ بِهَا تَمَامَ الْعِدَّةِ. فَمَنْ قَالَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَقْتِ وَلَا يَنْتَظِرُ تَمَامَ الْعِدَّةِ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ وَلَمْ تُسْلِمْ- مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ

(18/66)


وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَنْتَظِرُ بِهَا الْعِدَّةَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَسْلَمَ قَبْلَ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ «1» ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ وَهِنْدٌ بِهَا كَافِرَةٌ مُقِيمَةٌ عَلَى كُفْرِهَا، فَأَخَذَتْ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَتِ: اقْتُلُوا الشَّيْخَ الضَّالَّ. ثُمَّ أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ بِأَيَّامٍ، فَاسْتَقَرَّا عَلَى نِكَاحِهِمَا لِأَنَّ عِدَّتَهَا لَمْ تَكُنِ انْقَضَتْ. قَالُوا: وَمِثْلُهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَسْلَمَ قَبْلَ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ فَكَانَا عَلَى نِكَاحِهِمَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا حُجَّةَ لِمَنِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ لِأَنَّ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى الْكُفَّارِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا تَحِلُّ لَهُمُ الْكَوَافِرُ وَالْوَثَنِيَّاتُ وَلَا الْمَجُوسِيَّاتُ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ثُمَّ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ الْبَاقِي مِنْهُمَا فِي الْعِدَّةِ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ وَهُمْ سُفْيَانُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي الْكَافِرِينَ الذِّمِّيِّينَ: إِذَا أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ عُرِضَ عَلَى الزَّوْجِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. قَالُوا: وَلَوْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ إِذَا كَانَا جَمِيعًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ انْقَطَعَتِ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا فَرَاعُوا الدَّارَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- هَذَا الِاخْتِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَا نَعْلَمُ اخْتِلَافًا فِي انْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ بَيْنَهُمَا، إِذْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. كَذَا يَقُولُ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ ترتد زوجها مُسْلِمٌ: انْقَطَعَتِ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا. وَحُجَّتُهُ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ بِهَا تَمَامَ الْعِدَّةِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- فَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ نَصْرَانِيَّيْنِ فَأَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ فَفِيهَا أَيْضًا اخْتِلَافٌ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ الْوُقُوفُ إِلَى تَمَامِ الْعِدَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَكَذَا الْوَثَنِيُّ تُسْلِمُ زَوْجَتُهُ، إِنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ فِي عِدَّتِهَا فَهُوَ
أَحَقُّ بِهَا، كَمَا كَانَ صَفْوَانُ بن أمية وعكرمة بن أبي جهل
__________
(1). مر الظهران: قرية قرب مكة.

(18/67)


وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

أَحَقُّ بِزَوْجَتَيْهِمَا لَمَّا أَسْلَمَا فِي عِدَّتَيْهِمَا، عَلَى حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ. ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِ صَفْوَانَ وَبَيْنَ إِسْلَامِ زَوْجَتِهِ نَحْوٌ مِنْ شَهْرٍ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ امْرَأَةً هَاجَرَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ مُقِيمٌ بِدَارِ الْحَرْبِ إِلَّا فَرَّقَتْ هِجْرَتُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، إِلَّا أَنْ يَقْدَمَ زَوْجُهَا مُهَاجِرًا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا. قَالَ يَزِيدُ بْنُ عَلْقَمَةَ: أَسْلَمَ جَدِّي وَلَمْ تُسْلِمْ جَدَّتِي فَفَرَّقَ عُمَرُ بَيْنَهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ. وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُ مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ قَالُوا: لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا إِلَّا بِخُطْبَةٍ. الخامسة عشرة- قوله تعالى: (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ مُرْتَدَّاتٍ إِلَى الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ يُقَالُ لِلْكُفَّارِ: هَاتُوا مَهْرَهَا. وَيُقَالُ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا جَاءَ أَحَدٌ مِنَ الْكَافِرَاتِ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً: رَدُّوا إِلَى الْكُفَّارِ مَهْرَهَا. وَكَانَ ذَلِكَ نِصْفًا وَعَدْلًا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ. وَكَانَ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الزَّمَانِ فِي تِلْكَ النَّازِلَةِ خَاصَّةً بإجماع الامة، قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ) أَيْ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تَقَدَّمَ في غير موضع «1».

[سورة الممتحنة (60): آية 11]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) فِي الْخَبَرِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: رَضِينَا بِمَا حَكَمَ اللَّهُ، وَكَتَبُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَامْتَنَعُوا فَنَزَلَتْ: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ
__________
(1). راج ج 1 ص 287

(18/68)


أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا. وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَكُمْ فَقَالَ جَلَّ ثناؤه: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا فَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ: قَدْ حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَنَا بِأَنَّهُ إِنْ جَاءَتْكُمُ امْرَأَةٌ مِنَّا أَنْ تُوَجِّهُوا إِلَيْنَا بِصَدَاقِهَا، وَإِنْ جَاءَتْنَا امْرَأَةٌ مِنْكُمْ وَجَّهْنَا إِلَيْكُمْ بِصَدَاقِهَا. فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ: أَمَّا نَحْنُ فَلَا نَعْلَمُ لَكُمْ عِنْدَنَا شيئا، فإن كان لنا عندكم شي فَوَجِّهُوا بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا
. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أَيْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَرُدُّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَوْلَا الْعَهْدُ لَأَمْسَكَ النِّسَاءَ وَلَمْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ صَدَاقًا. وقال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أيعطوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ. وَقَالَا: هِيَ فِيمَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ. وَقَالَا: وَمَعْنَى فَعاقَبْتُمْ فَاقْتَصَصْتُمْ. فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا يَعْنِي الصَّدَقَاتِ. فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: وَإِنْ فَاتَكُمْ شي مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ «1» بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أنفقوا. ثم نسخ هذا في سورة" براءة". وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: انْقَطَعَ هَذَا عَامَ الْفَتْحِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا يَعْمَلُ بِهِ الْيَوْمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ ثَابِتُ الْحُكْمِ الْآنَ أَيْضًا. حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَعاقَبْتُمْ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ فَعاقَبْتُمْ وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَحُمَيْدٌ وَالْأَعْرَجُ" فَعَقَّبْتُمْ" مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ" فَأَعْقَبْتُمْ" وَقَالَ: صَنَعْتُمْ كَمَا صَنَعُوا بِكُمْ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ" فَعَقَبْتُمْ" خَفِيفَةً بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ مَسْرُوقٌ وَشَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ" فَعَقِبْتُمْ" بِكَسْرِ الْقَافِ خَفِيفَةً. وَقَالَ: غَنِمْتُمْ. وَكُلُّهَا لُغَاتٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. يُقَالُ: عَاقَبَ وَعَقَبَ وَعَقَّبَ وَأَعْقَبَ وَتَعَقَّبَ وَاعْتَقَبَ وَتَعَاقَبَ إِذَا غَنِمَ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ فَعاقَبْتُمْ فَغَزَوْتُمْ مُعَاقَبِينَ غَزْوًا بَعْدَ غَزْوٍ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: أَيْ فَعَاقَبْتُمُ الْمُرْتَدَّةَ بِالْقَتْلِ فَلِزَوْجِهَا مهرها من غنائم المسلمين.
__________
(1). في ح، ز، س، ط، ل، هـ" إلى الكفار الذين ليس بينكم وبينهم عهد" بزيادة" ليس".

(18/69)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُ إِنْ لَحِقَتِ امْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ بِكُفَّارِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَلَهَا زَوْجٌ مُسْلِمٌ قِبَلَكُمْ فَغَنِمْتُمْ، فَأَعْطُوا هَذَا الزَّوْجَ الْمُسْلِمَ مَهْرَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ أَنْ تُخَمَّسَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُعْطَى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ. وَعَنْهُ يُعْطَى مِنْ صَدَاقِ مَنْ لَحِقَ بِنَا. وَقِيلَ: أَيْ إِنِ امْتَنَعُوا مِنْ أَنْ يَغْرَمُوا مَهْرَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِمْ، فَانْبِذُوا الْعَهْدَ إِلَيْهِمْ حَتَّى إِذَا ظَفِرْتُمْ فَخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ. قَالَ الْأَعْمَشُ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: بَلْ حُكْمُهَا ثَابِتٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا. الْقُشَيْرِيُّ: وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أُمِّ الْحَكَمِ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، ارْتَدَّتْ وتركت زوجها عياض ابن غَنْمٍ الْقُرَشِيَّ، وَلَمْ تَرْتَدَّ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرُهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُنَّ سِتُّ نِسْوَةٍ رَجَعْنَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقْنَ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ: أُمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ كَانَتْ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ الْفِهْرِيِّ «1». وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ أُخْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَكَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا هَاجَرَ عُمَرُ أَبَتْ وَارْتَدَّتْ. وَبَرْوَعُ بِنْتُ عُقْبَةَ، كَانَتْ تَحْتَ شَمَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ. وَعَبْدَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى، كَانَتْ تَحْتَ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ. وَأُمُّ كُلْثُومِ بِنْتِ جِرْوَلٍ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَشِهْبَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ. فَأَعْطَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهُورَ نِسَائِهِمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) احْذَرُوا أَنْ تَتَعَدَّوْا مَا أُمِرْتُمْ به.

[سورة الممتحنة (60): آية 12]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ
__________
(1). هو عياض بن غنم بن زهير بن أبى شداد القرشي الفهري.

(18/70)


الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) «1» لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ جَاءَ نِسَاءُ أَهْلِ مَكَّةَ يُبَايِعْنَهُ، فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُشْرِكْنَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْتَحَنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ) وَلَا وَاللَّهِ ما مست يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلَامِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النِّسَاءِ قَطُّ إِلَّا بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ (قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلَامًا). وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَايَعَ النِّسَاءَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَأَيْدِيهِنَّ ثَوْبٌ، وَكَانَ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِنَّ. وَقِيلَ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ جَلَسَ عَلَى الصَّفَا وَمَعَهُ عُمَرُ أَسْفَلَ مِنْهُ، فَجَعَلَ يَشْتَرِطُ عَلَى النِّسَاءِ الْبَيْعَةَ وَعُمَرُ يُصَافِحُهُنَّ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَلَّفَ امْرَأَةً وَقَفَتْ عَلَى الصَّفَا فَبَايَعَتْهُنَّ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحِ. وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ جَمَعَ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَ عَلَيْهِ السَّلَامَ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُنَّ، أَلَّا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا. فَقُلْنَ نَعَمْ. فَمَدَّ يَدَهُ مِنْ خَارِجِ الْبَيْتِ وَمَدَدْنَا أَيْدِيَنَا مِنْ دَاخِلِ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ. وَرَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا بَايَعَ النِّسَاءَ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهِ ثُمَّ أَمَرَ النِّسَاءَ فَغَمَسْنَ أَيْدِيَهُنَّ فِيهِ. الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً) قَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ وَهِيَ مُنْتَقِبَةٌ خَوْفًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْرِفَهَا لِمَا صَنَعَتْهُ بِحَمْزَةَ يَوْمَ أُحُدٍ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَأْخُذُ عَلَيْنَا أَمْرًا مَا رَأَيْتُكَ أَخَذْتَهُ عَلَى الرِّجَالِ وَكَانَ بَايَعَ الرجال
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ل، ز.

(18/71)


يَوْمَئِذٍ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ فَقَطْ- فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ولا يسرفن) فَقَالَتْ هِنْدُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنِّي أُصِيبُ مِنْ مَالِهِ قُوتَنَا. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ لَكِ حَلَالٌ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَهَا وَقَالَ: (أَنْتِ هِنْدُ)؟ فَقَالَتْ: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ. ثُمَّ قَالَ: (وَلا يَزْنِينَ) فقالت هند: أو تزني الْحُرَّةُ! ثُمَّ قَالَ: (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ) أَيْ لَا يَئِدْنَ الْمَوْءُودَاتِ وَلَا يُسْقِطْنَ الْأَجِنَّةَ. فَقَالَتْ هند: ربينا هم صِغَارًا وَقَتَلْتَهُمْ كِبَارًا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَنْتُمْ وَهُمْ أَبْصَرُ. وَرَوَى مُقَاتِلٌ أَنَّهَا قَالَتْ: رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا وَقَتَلْتُمُوهُمْ كِبَارًا، وَأَنْتُمْ وَهُمْ أَعْلَمُ. فَضَحِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى اسْتَلْقَى. وَكَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ بِكْرُهَا قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ. ثُمَّ قَالَ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قِيلَ: مَعْنَى بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ أَلْسِنَتُهُنَّ بِالنَّمِيمَةِ. وَمَعْنَى بَيْنَ أَرْجُلِهِنَّ فُرُوجُهُنَّ. وَقِيلَ: مَا كَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ مِنْ قُبْلَةٍ أَوْ جَسَّةٍ، وَبَيْنَ أَرْجُلِهِنَّ الْجِمَاعُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يُلْحِقْنَ بِرِجَالِهِنَّ وَلَدًا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَقِطُ وَلَدًا فَتُلْحِقُهُ بِزَوْجِهَا وَتَقُولُ: هَذَا وَلَدِي مِنْكَ. فَكَانَ هَذَا مِنَ الْبُهْتَانِ وَالِافْتِرَاءِ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ بَطْنَهَا الَّذِي تَحْمِلُ فِيهِ الْوَلَدَ بَيْنَ يَدَيْهَا، وَفَرْجِهَا الَّذِي تَلِدُ مِنْهُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا. وَهَذَا عَامٌّ فِي الْإِتْيَانِ بِوَلَدٍ وَإِلْحَاقِهِ بِالزَّوْجِ وَإِنْ سَبَقَ النَّهْيُ عَنِ الزِّنَى. وَرُوِيَ أَنَّ هِنْدًا لَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ الْبُهْتَانَ لَأَمْرٌ قَبِيحٌ، مَا تَأْمُرُ إِلَّا بِالْأَرْشَدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ!. ثُمَّ قَالَ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قَالَ قَتَادَةُ: لَا يَنُحْنَ. وَلَا تَخْلُو امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا بِذِي مَحْرَمٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ أَلَّا يَخْمِشْنَ وَجْهًا. وَلَا يَشْقُقْنَ جَيْبًا، وَلَا يَدْعُونَ وَيْلًا وَلَا يَنْشُرْنَ شَعْرًا وَلَا يُحَدِّثْنَ الرِّجَالَ إِلَّا ذَا مَحْرَمٍ. وَرَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ فِي النَّوْحِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَقَالَ: (هُوَ النَّوْحُ). وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ نُوحٍ: أَدْرَكْتُ عَجُوزًا مِمَّنْ بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَدَّثَتْنِي عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَوْلِ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَقَالَ:

(18/72)


(النَّوْحُ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ لما نزلت هذه الآية: يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً- إِلَى قَوْلِهِ- وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قَالَ: (كَانَ مِنْهُ النِّيَاحَةُ) قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا آلَ فُلَانٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَسْعَدُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ أُسْعِدَهُمْ. فَقَالَ، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِلَّا آلَ فُلَانٍ). وَعَنْهَا قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْبَيْعَةِ أَلَّا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ إِلَّا خَمْسٌ: أُمُّ سُلَيْمٍ، وَأُمُّ الْعَلَاءِ، وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةُ مُعَاذٍ أَوِ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ، وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْرُوفَ ها هنا الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، قَالَهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: لَا يَعْصِينَكَ فِي كُلِّ أَمْرِ فِيهِ رُشْدُهُنَّ الْكَلْبِيُّ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَعْرُوفٍ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ بِهِ. فَرُوِيَ أَنَّ هِنْدًا قالت عند ذلك: ما جلسنا في مجلسا هذا وفي أنفسا أن نعصيك في شي. الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صِفَةِ الْبَيْعَةِ خِصَالًا شَتَّى، صَرَّحَ فِيهِنَّ بِأَرْكَانِ النَّهْيِ فِي الدِّينِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَرْكَانَ الْأَمْرِ. وَهِيَ سِتَّةٌ أَيْضًا: الشَّهَادَةُ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، وَالِاغْتِسَالُ مِنَ الْجَنَابَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ دَائِمٌ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ وَكُلِّ الْأَحْوَالِ، فَكَانَ التَّنْبِيهُ عَلَى اشْتِرَاطِ الدَّائِمِ آكَدَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَنَاهِيَ كَانَ فِي النِّسَاءِ كَثِيرٌ مَنْ يَرْتَكِبُهَا وَلَا يَحْجِزُهُنَّ عَنْهَا شَرَفُ النَّسَبِ، فَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِهَذَا. وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: (وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ) «1» فَنَبَّهَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ دُونَ سَائِرِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّهَا كَانَتْ شَهْوَتَهُمْ وَعَادَتَهُمْ، وَإِذَا تَرَكَ الْمَرْءُ شَهْوَتَهُ مِنَ الْمَعَاصِي هَانَ عَلَيْهِ تَرْكُ سَائِرِهَا مِمَّا لَا شَهْوَةَ لَهُ فِيهَا.
__________
(1). الدباء: هو القرع اليابس. والحنتم: الجرة. والنقير: أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء. والمزفت: الإناء الذي طلى بالزفت. قال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية:" عن أبى بكرة قال: أما الدباء فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القرع فيخرطون فيه العنب ثم يدفنونه حتى يهدر ثم يموت. وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت. وأما الحنتم فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر. وأما المزفت فهي الأوعية التي فيها الزفت ... ومعنى النهى عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع إليها الإسكار فربما يشرب منها من إلا يشعر بذلك. ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهى عن شرب كل مسكر".

(18/73)


الرَّابِعَةُ: لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَيْعَةِ: (وَلا يَسْرِقْنَ) قَالَتْ هِنْدُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مَسِيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ آخُذَ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي؟ قَالَ (لَا إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ) فَخَشِيَتْ هِنْدُ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى مَا يُعْطِيهَا فَتَضِيعَ أَوْ تَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَتَكُونَ سَارِقَةً نَاكِثَةً لِلْبَيْعَةِ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا) ألا حَرَجَ عَلَيْكِ فِيمَا أَخَذْتِ بِالْمَعْرُوفِ، يَعْنِي مِنْ غَيْرِ اسْتِطَالَةٍ إِلَى أَكْثَرَ مِنَ الْحَاجَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يخزنه عنها في حجابه وَلَا يَضْبِطُ عَلَيْهِ بِقُفْلٍ فَإِنَّهُ إِذَا هَتَكَتْهُ الزَّوْجَةُ وَأَخَذَتْ مِنْهُ كَانَتْ سَارِقَةً تَعْصِي بِهِ وَتُقْطَعُ يَدُهَا الْخَامِسَةُ: قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ: (أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ وَلَا يَعْضَهُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ أَمَرَكُمْ بِهِ (. مَعْنَى" يَعْضَهُ" يَسْحَرُ. وَالْعَضْهُ: السِّحْرُ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ بَحْرٍ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ إِنَّهُ السِّحْرُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هَذَا نَهْيٌ عَنِ الْبُهْتَانِ، أَيْ لَا يَعْضَهْنَ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً بِبُهْتانٍ أَيْ بِسِحْرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى بِبُهْتانٍ بِوَلَدٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ" مَا أَخَذَتْهُ لَقِيطًا." وَأَرْجُلِهِنَّ" مَا وَلَدَتْهُ مِنْ زِنًى. وَقَدْ تَقَدَّمَ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ شَرَطَهُ اللَّهُ لِلنِّسَاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْهَى عَنْهُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ النَّوْحُ وَتَخْرِيقُ الثِّيَابِ وَجَزُّ الشَّعْرِ وَالْخَلْوَةُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ كُلُّهَا كَبَائِرُ وَمِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) فَذَكَرَ مِنْهَا النِّيَاحَةَ. وَرَوَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَذِهِ النَّوَائِحُ يُجْعَلْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَّيْنِ صَفًّا عَنِ الْيَمِينِ وَصَفًّا عَنِ الْيَسَارِ يَنْبَحْنَ كَمَا تَنْبَحُ الْكِلَابُ فِي يَوْمٍ

(18/74)


كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِنَّ إِلَى النَّارِ (. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) لَا تُصَلِّي الْمَلَائِكَةُ عَلَى نَائِحَةٍ وَلَا مُرِنَّةٍ «1» (وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ نَائِحَةً فَأَتَاهَا فَضَرَبَهَا بِالدِّرَّةِ حَتَّى وَقَعَ خِمَارُهَا عَنْ رَأْسِهَا. فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْمَرْأَةَ الْمَرْأَةَ! قَدْ وَقَعَ خِمَارُهَا. فَقَالَ: إِنَّهَا لَا حُرْمَةَ لَهَا. أَسْنَدَ جَمِيعَهُ الثَّعْلَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. أَمَّا تَخْصِيصُ قَوْلِهِ: فِي مَعْرُوفٍ مَعَ قُوَّةِ قَوْلِهِ: وَلا يَعْصِينَكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَعْنَى عَلَى التَّأْكِيدِ، كَمَا قَالَ تعالى: قالَ رَبِّ احْكُمْ «2» بِالْحَقِّ [الأنبياء: 112] لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ احْكُمْ لَكَفَى. الثَّانِي- إِنَّمَا شَرَطَ الْمَعْرُوفَ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَلْزَمَ لَهُ وَأَنْفَى لِلْإِشْكَالِ. السَّابِعَةُ- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أتبايعوني عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَسْرِقُوا) قَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ. وَأَكْثَرُ لَفْظِ سُفْيَانَ قَرَأَ فِي الْآيَةِ (فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فأجر هـ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ مِنْهَا (. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدْتُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ يَخْطُبُ، فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ مَعَ بِلَالٍ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ- حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ كُلِّهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ-: أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ (؟ فَقَالَتِ: امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يَدْرِي الْحَسَنُ «3» مَنْ هِيَ. قَالَ: (فَتَصَدَّقْنَ) وَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ «4» وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
__________
(1). الارنان: الصيحة الشديدة والصوت الحزين عند الغناء أو البكاء، يقال: رنت المرأة ترن رنينا، وأرنت، صاحت.
(2). راجع ج 11 ص (350) [ ..... ]
(3). هو الحسن بن مسلم راوي الحديث.
(4). الفتخ (بفتحات وآخره خاء معجمة): الخواتيم العظام، أو حلق من فضة لا فص فيها.

(18/75)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

الثَّامِنَةُ- قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِنَّ هَذَا، وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ نَدْبٌ لَا إِلْزَامٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ: إِذَا احْتِيجَ إِلَى الْمِحْنَةِ مِنْ أَجْلِ تَبَاعُدِ الدَّارِ كَانَ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ إِقَامَةُ المحنة.

[سورة الممتحنة (60): آية 13]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) يَعْنِي الْيَهُودَ. وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْيَهُودَ بِأَخْبَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُوَاصِلُونَهُمْ فَيُصِيبُونَ بِذَلِكَ مِنْ ثِمَارِهِمْ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) يَعْنِي الْيَهُودَ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْعَمَلَ لِلْآخِرَةِ وَآثَرُوا الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَئِسُوا مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَمَعْنَى (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) أَيِ الْأَحْيَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ. (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ «1» [الجاثية 24]. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَتَمَ السُّورَةَ بِمَا بَدَأَهَا مِنْ تَرْكِ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ، وَهِيَ خِطَابٌ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا أَيْ لَا تُوَالُوهُمْ وَلَا تُنَاصِحُوهُمْ، رَجَعَ تَعَالَى بِطُولِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ. يُرِيدُ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَدْ يَئِسُوا مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الْمَقْبُورُونَ مِنْ حَظٍّ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قَالَ: مَنْ مَاتَ مِنَ الْكُفَّارِ يَئِسَ مِنَ الْخَيْرِ. وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1). راجع ج 16 ص 170

(18/76)


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)

[تفسير سورة الصف]
سورة الصف مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، فِيمَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عباس. وهي أربع عشرة آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الصف (61): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
تقدم «1».

[سورة الصف (61): الآيات 2 الى 3]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) رَوَى الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: قَعَدْنَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَذَاكَرْنَا فَقُلْنَا: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَعَمِلْنَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ حَتَّى خَتَمَهَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى خَتَمَهَا. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا ابْنُ سَلَامٍ. قَالَ يَحْيَى: فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا أَبُو سَلَمَةَ وَقَرَأَهَا عَلَيْنَا يَحْيَى وَقَرَأَهَا عَلَيْنَا الْأَوْزَاعِيُّ وَقَرَأَهَا عَلَيْنَا «2» مُحَمَّدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ الْأَعْمَالَ إِلَى اللَّهِ
__________
(1). راجع ج 17 ص (235)
(2). هذا الحديث كما ورد في مسند الدارمي. وقد ذكر في الأصول مضطربا.

(18/77)


لَعَمِلْنَاهُ، فَلَمَّا نَزَلَ الْجِهَادُ كَرِهُوهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ نَعْلَمُ أَحَبَّ الْأَعْمَالَ إِلَى اللَّهِ لَسَارَعْنَا إِلَيْهَا، فَنَزَلَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ «1» [الصف: 10] فَمَكَثُوا زَمَانًا يَقُولُونَ: لَوْ نَعْلَمُ مَا هِيَ لَاشْتَرَيْنَاهَا بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالْأَهْلِينَ، فَدَلَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عليها بقول: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: 11] الْآيَةَ. فَابْتُلُوا يَوْمَ أُحُدٍ فَفَرُّوا، فَنَزَلَتْ تُعَيِّرُهُمْ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوَابِ شُهَدَاءِ بَدْرٍ قَالَتِ الصَّحَابَةُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ! لَئِنْ لَقِينَا قِتَالًا لَنُفْرِغَنَّ فِيهِ وُسْعَنَا، فَفَرُّوا يَوْمَ أُحُدٍ فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ. وَقَالَ قتادة وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ جَاهَدْنَا وَأَبْلَيْنَا وَلَمْ يَفْعَلُوا. وَقَالَ صُهَيْبٌ: كَانَ رَجُلٌ قَدْ آذَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنْكَاهُمْ فَقَتَلْتُهُ. فَقَالَ رَجُلٌ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي قَتَلْتُ فُلَانًا، فَفَرِحَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: يَا صُهَيْبُ، أَمَا أَخْبَرْتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ قَتَلْتَ فُلَانًا! فَإِنَّ فُلَانًا انْتَحَلَ قَتْلَهُ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: (أَكَذَلِكَ يَا أَبَا يَحْيَى)؟ قَالَ نَعَمْ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْمُنْتَحِلِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ: إِنْ خَرَجْتُمْ وَقَاتَلْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ وَقَاتَلْنَا، فَلَمَّا خَرَجُوا نَكَصُوا عَنْهُمْ وَتَخَلَّفُوا. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ عَمَلًا فِيهِ طَاعَةٌ أَنْ يَفِيَ بِهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي «2» مُوسَى أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ، فَاتْلُوهُ وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِ" بَرَاءَةٍ" فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا" لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ". وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى المسبحات فأنسيتها، غير أني
__________
(1). راجع ص 87 من هذه السورة.
(2). الذي في صحيح مسلم: حدثني سويد بن سعيد حدثنا على ابن مسحر؟ عن داود عن أبى حرب بن أبى الأسود عن أبيه قال: بعث أبو موسى ... إلخ".

(18/78)


حَفِظْتُ مِنْهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا كُلُّهُ ثَابِتٌ فِي الدِّينِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ فَثَابِتٌ فِي الدِّينِ لفظا ومعنى في هذه السورة. وأما قول:" شَهَادَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَمَعْنًى ثَابِتٌ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ مَنِ الْتَزَمَ شَيْئًا لَزِمَهُ شَرْعًا. وَالْمُلْتَزَمُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّذْرُ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ، نَذْرُ تَقَرُّبٍ مُبْتَدَأٍ كقول: لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةٌ وَصَوْمٌ وَصَدَقَةٌ، وَنَحْوُهُ مِنَ الْقُرَبِ. فَهَذَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ إِجْمَاعًا. وَنَذْرٌ مُبَاحٌ وَهُوَ مَا عُلِّقَ بِشَرْطِ رَغْبَةٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ قَدِمَ غَائِبِي فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ، أَوْ عُلِّقَ بِشَرْطِ رَهْبَةٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ كَفَانِي اللَّهُ شَرَّ كَذَا فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ. فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَعُمُومُ الْآيَةِ حُجَّةٌ لَنَا، لِأَنَّهَا بِمُطْلَقِهَا تَتَنَاوَلُ ذَمَّ مَنْ قَالَ مَا لَا يَفْعَلُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ مُطْلَقٍ أَوْ مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُهُ: إِنَّ النَّذْرَ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا الْقَصْدُ مِنْهُ الْقُرْبَةُ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبَةِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبَةِ لَكِنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْقُرْبَةُ، وَإِنَّمَا قُصِدَ مَنْعُ نَفْسِهِ عَنْ فِعْلٍ أَوِ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلٍ. قُلْنَا: الْقُرَبُ الشَّرْعِيَّةُ مَشَقَّاتٌ وَكُلَفٌ وَإِنْ كَانَتْ قُرُبَاتٍ. وَهَذَا تَكَلُّفُ الْتِزَامِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ بِمَشَقَّةٍ لِجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ سُنَنِ التَّكْلِيفِ وَلَا زَالَ عَنْ قَصْدِ التَّقَرُّبِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِنْ كَانَ الْمَقُولُ مِنْهُ وَعْدًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَنُوطًا بِسَبَبٍ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَزَوَّجْتَ أَعَنْتُكَ بِدِينَارٍ، أَوِ ابْتَعْتَ حَاجَةَ كَذَا أَعْطَيْتُكَ كَذَا «1». فَهَذَا لَازِمٌ إِجْمَاعًا مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَإِنْ كَانَ وَعْدًا مُجَرَّدًا فَقِيلَ يَلْزَمُ بِتَعَلُّقِهِ «2». وَتَعَلَّقُوا بِسَبَبِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَ أَوْ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَهُوَ حَدِيثٌ لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ لَمَّا سَمِعَهَا قَالَ: لَا أَزَالُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي: أَنَّ الْوَعْدَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ على كل حال إلا لعذر.
__________
(1). زيادة عن ابن العربي.
(2). في ابن العربي:" بمطلقه".

(18/79)


قُلْتُ: قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الْعِدَةُ مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَنْ يَهَبَ لَهُ الْهِبَةَ فَيَقُولُ لَهُ نَعَمْ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ أَلَّا يَفْعَلَ فَمَا أَرَى ذَلِكَ يَلْزَمُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا وَعَدَ الْغُرَمَاءَ فَقَالَ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَهُ مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ «1» إِلَيْكُمْ، فَإِنَّ هَذَا يَلْزَمُهُ. وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ نَعَمْ أَنَا أَفْعَلُ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ، فَلَا أَرَى عَلَيْهِ ذَلِكَ. قُلْتُ: أَيْ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْمُرُوءَةِ فَنَعَمْ. وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ صَدَقَ وَعْدَهُ وَوَفَى بِنَذْرِهِ فَقَالَ: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا «2» [البقرة: 177]، وَقَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] وقد تقدم بيانه «3». الثالثة- قال النخعي: ثَلَاثُ آيَاتٍ مَنَعَتْنِي أَنْ أَقُصَّ عَلَى النَّاسِ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ «4» [البقرة: 44]، وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ «5» [هود: 88]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ثُمَامَةَ أَنَّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ «6» قُلْتُ:) مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ (؟ قَالَ:) هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ وَيَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُونَ (. وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا، فَسَكَتَ. ثُمَّ قِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا. فَقَالَ: أَتَرَوْنَنِي «7» أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ فَأَسْتَعْجِلَ مَقْتَ اللَّهِ!. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، عَلَى أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا لَا يَفْعَلُهُ. أَمَّا فِي الْمَاضِي فَيَكُونُ كَذِبًا، وَأَمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَكُونُ خُلْفًا، وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ. وَتَأَوَّلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قوله تعالى: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ أَيْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَيْكُمْ، فَلَا تَدْرُونَ هَلْ تَفْعَلُونَ أَوْ لَا تَفْعَلُونَ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ مَحْمُولًا عَلَى ظاهره في إنكار القول. (هامش)
__________
(1). كذا في أ، وفى ح، س:" من أين"، ولعل صوابها:" وهبت له ما يؤدى إليكم".
(2). راجع ج 2 ص (239)
(3). راجع ج 11 ص (114)
(4). راجع ج 1 ص (365)
(5). راجع ج 9 ص (89) [ ..... ]
(6). وفت: تمت وطالت.
(7). في أ، ط، هـ:" تأمرونى" وفى ح، س:" تأمرونني".

(18/80)


إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)

الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) قَدْ يُحْتَجُّ بِهِ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ فِي اللِّجَاجِ وَالْغَضَبِ على أحد قولي الشافعي. وأَنْ وَقَعَ بِالِابْتِدَاءِ وَمَا قَبْلَهَا الْخَبَرُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: قَوْلُكُمْ مَا لَا تَفْعَلُونَ مَذْمُومٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ. الْكِسَائِيُّ: أَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لِأَنَّ كَبُرَ فِعْلٌ بِمَنْزِلَةِ بِئْسَ رجلا أخوك. ومَقْتاً نَصْبٌ بِالتَّمْيِيزِ، الْمَعْنَى كَبُرَ قَوْلُهُمْ مَا لَا يَفْعَلُونَ مَقْتًا. وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ. وَالْمَقْتُ وَالْمَقَاتَةُ مَصْدَرَانِ، يُقَالُ: رَجُلٌ مَقِيتٌ وَمَمْقُوتٌ إِذَا لَمْ يحبه الناس.

[سورة الصف (61): آية 4]
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) أَيْ يَصُفُّونَ صَفًّا: وَالْمَفْعُولُ مُضْمَرٌ، أَيْ يَصُفُّونَ أَنْفُسَهُمْ صَفًّا. (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) قَالَ الْفَرَّاءُ: مَرْصُوصٌ بِالرَّصَاصِ. وَقَالَ المبرد: هو من رصصت البناء إذا لاءمت بَيْنَهُ وَقَارَبْتَ حَتَّى يَصِيرَ كَقِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الرَّصِيصِ وَهُوَ انْضِمَامُ الْأَسْنَانِ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ. وَالتَّرَاصُّ التَّلَاصُقُ، وَمِنْهُ وَتَرَاصُّوا فِي الصَّفِّ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: يُحِبُّ مَنْ يَثْبُتُ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَلْزَمُ مَكَانَهُ كَثُبُوتِ الْبِنَاءِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ يَكُونُونَ عِنْدَ قِتَالِ عَدُوِّهِمْ. الثَّانِيَةُ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِهَذَا عَلَى أَنَّ قِتَالَ الرَّاجِلِ أَفْضَلُ مِنْ قِتَالِ الْفَارِسِ، لِأَنَّ الْفُرْسَانَ لَا يَصْطَفُّونَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. الْمَهْدَوِيُّ: وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِمَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْفَارِسِ فِي الْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ. وَلَا يَخْرُجُ الْفُرْسَانُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الثَّبَاتُ. الثَّالِثَةُ- لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنِ الصَّفِّ إِلَّا لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، أَوْ فِي رِسَالَةٍ يُرْسِلُهَا الْإِمَامُ، أَوْ فِي مَنْفَعَةٍ تَظْهَرُ فِي الْمَقَامِ، كَفُرْصَةٍ تُنْتَهَزُ وَلَا خِلَافَ فِيهَا. وَفِي الْخُرُوجِ عَنِ

(18/81)


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)

الصَّفِّ لِلْمُبَارَزَةِ خِلَافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِرْهَابًا لِلْعَدُوِّ، وَطَلَبًا لِلشَّهَادَةِ وَتَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَبْرُزُ أَحَدٌ طَالِبًا لِذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ رِيَاءً وَخُرُوجًا إِلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُبَارَزَةُ إِذَا طَلَبَهَا الْكَافِرُ، كَمَا كَانَتْ فِي حُرُوبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَفُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ مُسْتَوْفًى فِي هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ" عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «1» [البقرة: 195].

[سورة الصف (61): آية 5]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) لَمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الْجِهَادِ بَيَّنَ أَنَّ مُوسَى وَعِيسَى أَمَرَا بِالتَّوْحِيدِ وَجَاهَدَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَحَلَّ الْعِقَابُ بِمَنْ خَالَفَهُمَا، أَيْ وَاذْكُرْ لِقَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ الْقِصَّةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) وَذَلِكَ حِينَ رَمَوْهُ بِالْأُدْرَةِ، حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ" الْأَحْزَابِ" «2». وَمِنَ الْأَذَى مَا ذُكِرَ فِي قِصَّةِ قَارُونَ: إِنَّهُ دَسَّ إِلَى امْرَأَةٍ تَدَّعِي عَلَى مُوسَى الْفُجُورَ»
. وَمِنَ الْأَذَى قَوْلَهُمْ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ «4» آلِهَةٌ [الأعراف: 138]. وقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «5» [المائدة: 24]. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّكَ قَتَلْتَ هَارُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «6» هَذَا. (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) وَالرَّسُولُ يُحْتَرَمُ وَيُعَظَّمُ. وَدَخَلَتْ قَدْ عَلَى تَعْلَمُونَ لِلتَّأْكِيدِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَتَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا لَا شُبْهَةَ لَكُمْ فِيهِ. (فَلَمَّا زاغُوا) أَيْ مَالُوا عَنِ الْحَقِّ (أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أَيْ أَمَالَهَا عَنِ الْهُدَى. وَقِيلَ: فَلَمَّا زاغُوا عَنِ الطَّاعَةِ أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الهداية.
__________
(1). راجع ج 2 ص (361)
(2). راجع ج 14 ص (250)
(3). راجع ج 13 ص (210)
(4). راجع ج 7 ص (273)
(5). راجع ج 6 ص (8 12)
(6). راجع ج 7 ص 294

(18/82)


وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

وَقِيلَ: فَلَمَّا زاغُوا عَنِ الْإِيمَانِ أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الثَّوَابِ. وَقِيلَ: أَيْ لَمَّا تَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ احْتِرَامِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَطَاعَةِ الرَّبِّ، خَلَقَ اللَّهُ الضَّلَالَةَ فِي قلوبهم عقوبة لهم على فعلهم.

[سورة الصف (61): آية 6]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أَيْ وَاذْكُرْ لَهُمْ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَيْضًا. وَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ يَقُلْ" يَا قَوْمِ" كَمَا قَالَ مُوسَى، لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ لَهُ فِيهِمْ فَيَكُونُونَ قَوْمَهُ. (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) أَيْ بِالْإِنْجِيلِ. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) لِأَنَّ فِي التَّوْرَاةِ صِفَتِي، وَأَنِّي لَمْ آتِكُمْ بِشَيْءٍ يُخَالِفُ التَّوْرَاةَ فَتَنْفِرُوا عَنِّي. (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ) مُصَدِّقًا. وَمُبَشِّراً نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِرْسَالِ. وإِلَيْكُمْ صِلَةُ الرَّسُولِ. (يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (مِنْ بَعْدِيَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَهِيَ قِرَاءَةُ الْسُّلَمِيِّ وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ، مِثْلَ الْكَافِ مِنْ بعدك، والتاء من قمت. الباقون بالإسكان. وقرى (مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) بِحَذْفِ الْيَاءِ مِنَ اللفظ. وأَحْمَدُ اسْمُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ اسْمُ عَلَمٍ مَنْقُولٍ مِنْ صِفَةٍ لَا مِنْ فِعْلٍ، فَتِلْكَ الصِّفَةُ أَفْعَلُ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّفْضِيلُ. فَمَعْنَى أَحْمَدُ أَيْ أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ. وَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كُلُّهُمْ حَامِدُونَ اللَّهَ، وَنَبِيُّنَا أَحْمَدُ أَكْثَرُهُمْ حَمْدًا. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَمَنْقُولٌ مِنْ صِفَةٍ أَيْضًا، وَهِيَ فِي مَعْنَى مَحْمُودٍ، وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْرَارِ. فَالْمُحَمَّدُ هُوَ الَّذِي حُمِدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. كَمَا أَنَّ الْمُكَرَّمُ مِنَ الْكَرَمِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَكَذَلِكَ الْمُمَدَّحُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَاسْمُ مُحَمَّدٍ مُطَابِقٌ لِمَعْنَاهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ سَمَّاهُ قَبْلَ أَنْ يُسَمِّيَ بِهِ نَفْسَهُ. فَهَذَا عَلَمٌ

(18/83)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)

مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ، إِذْ كَانَ اسْمُهُ صَادِقًا عَلَيْهِ، فَهُوَ مَحْمُودٌ فِي الدُّنْيَا لِمَا هُدِيَ إِلَيْهِ وَنَفَعَ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ. وَهُوَ مَحْمُودٌ فِي الْآخِرَةِ بِالشَّفَاعَةِ. فَقَدْ تَكَرَّرَ مَعْنَى الْحَمْدِ كَمَا يَقْتَضِي اللَّفْظُ. ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدًا حَتَّى كَانَ أَحْمَدَ، حَمِدَ رَبَّهُ فَنَبَّأَهُ وَشَرَّفَهُ، فَلِذَلِكَ تَقَدَّمَ اسْمُ أَحْمَدَ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي هُوَ مُحَمَّدٌ فَذَكَرَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: اسْمُهُ أَحْمَدُ. وَذَكَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ. فَبِأَحْمَدَ ذَكَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهُ بِمُحَمَّدٍ، لِأَنَّ حَمْدَهُ لِرَبِّهِ كَانَ قَبْلَ حَمْدِ النَّاسِ لَهُ. فَلَمَّا وُجِدَ وَبُعِثَ كَانَ مُحَمَّدًا بِالْفِعْلِ. وَكَذَلِكَ فِي الشَّفَاعَةِ يَحْمَدُ رَبَّهُ بِالْمَحَامِدِ الَّتِي يَفْتَحُهَا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ أَحْمَدَ النَّاسِ لِرَبِّهِ ثُمَّ يَشْفَعُ فَيُحْمَدُ عَلَى شَفَاعَتِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اسْمِي فِي التَّوْرَاةِ أَحْيَدُ لِأَنِّي أُحِيدُ أُمَّتِي عَنِ النَّارِ وَاسْمِي فِي الزَّبُورِ الْمَاحِي مَحَا اللَّهُ بِي عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ وَاسْمِي فِي الْإِنْجِيلِ أَحْمَدُ وَاسْمِي فِي الْقُرْآنِ مُحَمَّدٌ لِأَنِّي مَحْمُودٌ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (. وَفِي الصَّحِيحِ (لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءَ أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي تُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ (. وَقَدْ تَقَدَّمَ «1».) (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) قِيلَ عِيسَى. وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليهما وَسَلَّمَ. (قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ" سَاحِرٌ" نَعْتًا لِلرَّجُلِ وَرُوِيَ أَنَّهَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ. الْبَاقُونَ" سِحْرٌ" نَعْتًا لِمَا جَاءَ به الرسول.

[سورة الصف (61): آية 7]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَظْلَمُ) أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «2». (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) هَذَا تَعَجُّبٌ مِمَّنْ كَفَرَ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ بَعْدَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ لَهُمَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ (وَهُوَ يَدَّعِي) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالدَّالِ وَشَدِّهَا وَكَسْرِ الْعَيْنِ، أَيْ يَنْتَسِبُ. وَيَدَّعِي وَيَنْتَسِبُ سَوَاءٌ. (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَيْ مَنْ كَانَ فِي حُكْمِهِ أَنَّهُ يُخْتَمُ له بالضلالة.
__________
(1). راجع ج 14 ص (200)
(2). راجع ج 6 ص 401 وج 7 ص 39

[سورة الصف (61): آية 8]
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8)

(18/84)


قوله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) الْإِطْفَاءُ هُوَ الْإِخْمَادُ، يُسْتَعْمَلَانِ فِي النَّارِ، وَيُسْتَعْمَلَانِ فِيمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنَ الضِّيَاءِ وَالظُّهُورِ. وَيَفْتَرِقُ الْإِطْفَاءُ وَالْإِخْمَادُ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ الْإِطْفَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْإِخْمَادُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ، فَيُقَالُ: أَطْفَأْتُ السِّرَاجَ، وَلَا يُقَالُ أَخْمَدْتُ السِّرَاجَ. وَفِي نُورَ اللَّهِ هُنَا خَمْسَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْقُرْآنُ، يُرِيدُونَ إِبْطَالَهُ وَتَكْذِيبَهُ بِالْقَوْلِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ، يُرِيدُونَ دَفْعَهُ بِالْكَلَامِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ الثَّالِثُ- أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُرِيدُونَ هَلَاكَهُ بِالْأَرَاجِيفِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الرَّابِعُ: حُجَجُ اللَّهِ وَدَلَائِلُهُ، يُرِيدُونَ إِبْطَالَهَا بِإِنْكَارِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ، أَيْ مَنْ أَرَادَ إِطْفَاءَ نُورِ الشَّمْسِ بِفِيهِ فَوَجَدَهُ مُسْتَحِيلًا مُمْتَنِعًا فَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ إِبْطَالَ الْحَقِّ، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا حَكَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، أَبْشِرُوا! فَقَدْ أَطْفَأَ اللَّهُ نُورَ مُحَمَّدٍ فِيمَا كَانَ يُنْزِلُ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ لِيُتِمَّ أَمْرَهُ، فَحَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَاتَّصَلَ الْوَحْيُ بَعْدَهَا، حَكَى جَمِيعَهُ الْمَاوَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) أَيْ بِإِظْهَارِهِ فِي الْآفَاقِ. وَقَرَأَ «1» ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ بِالْإِضَافَةِ عَلَى نِيَّةِ الِانْفِصَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] وَشَبَهُهُ، حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي" آلِ عِمْرَانَ «2» ". الْبَاقُونَ مُتِمُّ نُورِهِ لِأَنَّهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، فَعَمِلَ. (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ.
__________
(1). كلمة" وقرا" ساقطة من ج، س.
(2). راجع ج 4 ص 297

(18/85)


هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)

[سورة الصف (61): آية 9]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) أَيْ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَالرَّشَادِ. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أَيْ بِالْحُجَجِ. وَمِنَ الظُّهُورِ الْغَلَبَةُ بِالْيَدِ فِي الْقِتَالِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالظُّهُورِ أَلَّا يَبْقَى دِينٌ آخَرُ مِنَ الْأَدْيَانِ، بَلِ الْمُرَادُ يَكُونُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَالِينَ غَالِبِينَ. وَمِنَ الْإِظْهَارِ أَلَّا يَبْقَى دِينٌ سِوَى الْإِسْلَامِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَذَلِكَ إِذَا نَزَلَ عِيسَى لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ دِينٌ إِلَّا دِينُ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بِخُرُوجِ عِيسَى. وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى كَافِرٌ إِلَّا أَسْلَمَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ «1» فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ). وَقِيلَ: لِيُظْهِرَهُ أَيْ لِيُطْلِعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِهَا عَارِفًا بِوُجُوهِ بُطْلَانِهَا، وَبِمَا حَرَّفُوا وَغَيَّرُوا مِنْهَا. عَلَى الدِّينِ أَيِ الْأَدْيَانِ، لِأَنَّ الدِّينَ مصدر يعبر به عن جمع.

[سورة الصف (61): الآيات 10 الى 13]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
__________
(1). القلاص (بكسر القاف): الناقة الشابة.

(18/86)


فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَذِنْتَ لِي فَطَلَّقْتُ خَوْلَةَ، وَتَرَهَّبْتُ وَاخْتَصَيْتُ وَحَرَّمْتُ اللَّحْمَ، وَلَا أَنَامُ بِلَيْلٍ أَبَدًا، وَلَا أُفْطِرُ بِنَهَارٍ أَبَدًا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ سُنَّتِي النِّكَاحَ وَلَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ إِنَّمَا رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَخِصَاءُ أُمَّتِي الصَّوْمُ وَلَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. وَمِنْ سُنَّتِي أَنَامُ وَأَقُومُ وَأُفْطِرُ وَأَصُومُ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي (. فَقَالَ عُثْمَانُ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيَّ التِّجَارَاتِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ فَأَتَّجِرَ فِيهَا، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: أَدُلُّكُمْ أَيْ سَأَدُلُّكُمْ. وَالتِّجَارَةُ الْجِهَادُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: 111] الْآيَةَ «1». وَهَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: لِأَهْلِ الكتاب. الثانية- قوله تعالى: (تُنْجِيكُمْ) أي تخلصكم (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي مؤلم. وقد تقدم «2». وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ تُنْجِيكُمْ بِإِسْكَانِ النُّونِ مِنَ الْإِنْجَاءِ. وقرا الحسن وابن عامر أبو حَيْوَةَ (تُنَجِّيكُمْ) مُشَدَّدًا مِنَ التَّنْجِيَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ التِّجَارَةَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ: الثَّالِثَةُ- فَقَالَ: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) ذَكَرَ الْأَمْوَالَ أَوَّلًا لِأَنَّهَا الَّتِي يُبْدَأُ بِهَا في الإنفاق. (ذلِكُمْ) أي هذا الفعل (خَيْرٌ لَكُمْ) / 11 من أموالكم وأنفسكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وتُؤْمِنُونَ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ فِي مَعْنَى آمِنُوا، وَلِذَلِكَ جَاءَ يَغْفِرْ لَكُمْ مَجْزُومًا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ (آمَنُوا بِاللَّهِ) وَقَالَ الْفَرَّاءُ يَغْفِرْ لَكُمْ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أن يكون تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ عَطْفَ بَيَانٍ عَلَى قَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ كَأَنَّ التِّجَارَةَ لَمْ يُدْرَ مَا هِيَ، فَبُيِّنَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ، فَهِيَ هُمَا فِي الْمَعْنَى. فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَتُجَاهِدُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ. الزَّمَخْشَرِيُّ: وجه قول الفراء أن متعلق الدلالة
__________
(1). راجع ج 8 ص (267) [ ..... ]
(2). راجع ج 1 ص 198

(18/87)


هُوَ التِّجَارَةُ وَالتِّجَارَةُ مُفَسَّرَةٌ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ. كَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ تَتَّجِرُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ يَغْفِرْ لَكُمْ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: فَإِنْ لَمْ تُقَدَّرْ هَذَا التَّقْدِيرَ لَمْ تَصِحَّ الْمَسْأَلَةُ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَصِيرُ إِنْ دُلِلْتُمْ يَغْفِرْ لَكُمْ، وَالْغُفْرَانُ إِنَّمَا نُعِتَ بِالْقَبُولِ وَالْإِيمَانِ لَا بِالدَّلَالَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَيْسَ إِذَا دَلَّهُمْ عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ يَغْفِرْ لَهُمْ، إِنَّمَا يَغْفِرُ لَهُمْ إِذَا آمَنُوا وَجَاهَدُوا. وَقَرَأَ زَيْدُ بن علي تؤمنوا، وتجاهدوا عَلَى إِضْمَارِ لَامِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ:
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إِذَا مَا خِفْتَ مِنْ شي تَبَالَا «1»
أَرَادَ لِتَفْدِ. وَأَدْغَمَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: يَغْفِرْ لَكُمْ وَالْأَحْسَنُ تَرْكُ الْإِدْغَامِ، لِأَنَّ الرَّاءَ حَرْفٌ مُتَكَرِّرٌ قَوِيٌّ فَلَا يَحْسُنُ إِدْغَامُهُ فِي اللَّامِ، لِأَنَّ الْأَقْوَى لَا يُدْغَمُ فِي الْأَضْعَفِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) خَرَّجَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْآجُرِّيُّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلْتُ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فَقَالَا: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، سَأَلْنَا رسول الله صلى الله عيلة وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ: (قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ فِي الْجَنَّةِ فِيهِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ في كل دار سبعون بيتا من زبر جدة خَضْرَاءَ فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرًا عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ فِرَاشًا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ سَبْعُونَ امْرَأَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مَائِدَةً عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْنًا مِنَ الطَّعَامِ فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفًا وَوَصِيفَةً فَيُعْطِي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْمُؤْمِنَ مِنَ الْقُوَّةِ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ مَا يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ (. فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أَيْ إِقَامَةً. (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أَيِ السَّعَادَةُ الدَّائِمَةُ الْكَبِيرَةُ. وَأَصْلُ الْفَوْزِ الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: أُخْرى مَعْطُوفَةٌ عَلَى تِجارَةٍ فَهِيَ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ. وَقِيلَ: مَحَلُّهَا رَفْعٌ أَيْ وَلَكُمْ خَصْلَةٌ أُخْرَى وَتِجَارَةٌ أُخْرَى تُحِبُّونَهَا (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ) أَيْ هُوَ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ، ف نَصْرٌ على هذا تفسير
__________
(1). اختلف في قائله، فقيل إنه لحسان، وقيل لابي طالب عم الرسول صلوات الله عليه، وقيل للأعشى. (راجع خزانة الأدب في الشاهد الثمانين بعد المائة). والتبال: سوء العاقبة، وهو بمعنى الوبال. وقد ورد صدر هذا البيت في ح، وز، وس، ط مضطربا وغير واضح.

(18/88)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

وَأُخْرى. وَقِيلَ: رَفْعٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أُخْرى أَيْ وَلَكُمْ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ. (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أَيْ غَنِيمَةٌ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ فَتْحُ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فَتْحَ فَارِسَ والروم. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) برضا الله عنهم.

[سورة الصف (61): آية 14]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
أكد أمر الجهاد، أي كونوا حوارى نَبِيِّكُمْ لِيُظْهِرَكُمُ اللَّهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكُمْ كَمَا أظهر حواري عِيسَى عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ أَنْصَارًا لِلَّهِ بِالتَّنْوِينِ. قَالُوا: لِأَنَّ مَعْنَاهُ اثْبُتُوا وَكُونُوا أَعْوَانًا لِلَّهِ بِالسَّيْفِ عَلَى أَعْدَائِهِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَالشَّامِ أَنْصارَ اللَّهِ بِلَا تَنْوِينٍ، وَحَذَفُوا لَامَ الْإِضَافَةِ مِنَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِقَوْلِهِ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وَلَمْ يُنَوَّنْ، وَمَعْنَاهُ كُونُوا أَنْصَارًا لِدِينِ اللَّهِ. ثُمَّ قِيلَ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ ابْتِدَاءُ خِطَابٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ كُونُوا أَنْصَارًا كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ عِيسَى فَكَانُوا بِحَمْدِ اللَّهِ أَنْصَارًا وَكَانُوا حَوَارِيِّينَ. وَالْحَوَارِيُّونَ خَوَاصُّ الرُّسُلِ. قَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ، أَيْ نَصَرُوهُ وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَهُمُ الَّذِينَ بَايَعُوهُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ. وَقِيلَ: هُمْ مِنْ قُرَيْشٍ. وَسَمَّاهُمْ قَتَادَةُ: أبا بكر وعمر وعلي وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَسَعْدَ بْنَ مَالِكٍ وَأَبَا عُبَيْدَةَ- وَاسْمُهُ عَامِرٌ- وَعُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَحَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ يَذْكُرْ سَعِيدًا فِيهِمْ، وَذَكَرَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) وَهُمْ أَصْفِيَاؤُهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَقَدْ مَضَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي" آلِ عِمْرَانَ" «1»، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَهُ ابْنُ عباس. وقال مقاتل:
__________
(1). راجع ج 4 ص 97، ويلاحظ أنه لم تذكر أسماؤهم، بل ذكر سبب تسميتهم.

(18/89)


قَالَ اللَّهُ لِعِيسَى إِذَا دَخَلْتَ الْقَرْيَةَ فَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي عَلَيْهِ الْقَصَّارُونَ «1» فَاسْأَلْهُمُ النُّصْرَةَ، فَأَتَاهُمْ عِيسَى وَقَالَ: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ؟ قَالُوا: نَحْنُ نَنْصُرُكَ. فَصَدَّقُوهُ وَنَصَرُوهُ. وَمَعْنَى مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ أَيْ مَنْ أَنْصَارِي مَعَ اللَّهِ، كَمَا تَقُولُ: الذَّوْدُ إِلَى الذَّوْدِ إِبِلٌ، أَيْ مَعَ الذَّوْدِ. وَقِيلَ: أَيْ مَنْ أَنْصَارِي فِيمَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهُ." وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ «2» (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) وَالطَّائِفَتَانِ فِي زَمَنِ عِيسَى افْتَرَقُوا بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ" بَيَانُهُ." فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسَى. فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أَيْ غَالِبِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيَّدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فِي زَمَنِ عِيسَى بِإِظْهَارِ مُحَمَّدٍ عَلَى دِينِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أُيِّدُوا فِي زَمَانِهِمْ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِعِيسَى. وَقِيلَ أَيَّدْنَا الْآنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفِرْقَتَيْنِ الضَّالَّتَيْنِ، مَنْ قَالَ كَانَ اللَّهَ فَارْتَفَعَ، وَمَنْ قَالَ كَانَ ابْنَ الله فرفعه الله إليه، لان عيسى بن مَرْيَمَ لَمْ يُقَاتِلْ أَحَدًا وَلَمْ يَكُنْ فِي دِينِ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ قِتَالٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَتَادَةُ: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ غَالِبِينَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَا رُوِيَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَنَامُ وَاللَّهُ لَا يَنَامُ، وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يَأْكُلُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْكُلُ!. وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رُسُلِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الذي بعثهم عيسى من الحواريين والاتباع فطرس وبولس إلى رومية، واندراييس ومثى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي يَأْكُلُ أَهْلُهَا النَّاسَ. وَتُومَاسَ إِلَى أَرْضِ بَابِلَ مِنْ أَرْضِ الْمَشْرِقِ. وَفِيلِبْسَ إِلَى قَرْطَاجَنَّةَ وَهِيَ أَفْرِيقِيَّةُ. وَيُحَنَّسَ إِلَى دَقْسُوسَ قرية أهل الكهف. ويعقوبس إلى أوريشلم وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ،. وَابْنَ تُلِمَّا إِلَى الْعُرَابِيَّةِ وَهِيَ أَرْضُ الْحِجَازِ. وَسِيمُنَ إِلَى أَرْضِ الْبَرْبَرِ. وَيَهُودَا وَبِرَدْسَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَمَا حَوْلَهَا «3». فَأَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِالْحُجَّةِ. فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أَيْ عَالِينَ، مِنْ قَوْلِكَ: ظَهَرْتُ عَلَى الْحَائِطِ أَيْ عَلَوْتُ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ والمآب «4».
__________
(1). القصار: محور الثياب ومبيضها راجع ج 4 ص 97 وص (100)
(2). القصار: محور الثياب ومبيضها راجع ج 4 ص 97 وص (100)
(3). يلاحظ أن هذه الأسماء وردت محرفة في نسخ الأصل، وأئبتناها كما وردت في تاريخ الطبري (ج 3 قسم أول ص 737 طبع أوربا).
(4). ما بين المربعين ساقط من ح، ز، س، ط

(18/90)


يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)

[تفسير سورة الجمعة]
سُورَةُ الْجُمْعَةِ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ (. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ «1» يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ «2» بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ هَدَانَا اللَّهُ لَهُ- قَالَ- يَوْمُ الْجُمْعَةِ فَالْيَوْمُ لَنَا وَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجمعة (62): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الْعَزِيزُ الحكيم) كلها رفعا، أي هو الملك.

[سورة الجمعة (62): آية 2]
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأُمِّيُّونَ الْعَرَبُ كُلُّهُمْ، مَنْ كَتَبَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يَكْتُبْ، لِأَنَّهُمْ لم يكونوا أهل كتاب. وقيل: الأميون
__________
(1). زيادة عن صحيح مسلم.
(2)." بيد": بمعنى غير.

(18/91)


وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)

الَّذِينَ لَا يَكْتُبُونَ. وَكَذَلِكَ كَانَتْ قُرَيْشٌ. وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: الْأُمِّيُّ الَّذِي يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «1». (رَسُولًا مِنْهُمْ) يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا مِنْ حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ قَرَابَةٌ وَقَدْ وَلَدُوهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِلَّا حَيَّ تَغْلِبَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَهَّرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ لِنَصْرَانِيَّتِهِمْ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ عَلَيْهِ وِلَادَةٌ. وَكَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ مِنْ كِتَابٍ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَإِنْ قِيلَ مَا وَجْهُ الامتنان فإن بَعَثَ نَبِيًّا أُمِّيًّا؟ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لِمُوَافَقَتِهِ مَا تَقَدَّمَتْ بِهِ بِشَارَةُ الْأَنْبِيَاءِ. الثَّانِي: لِمُشَاكَلَةِ حَالٍ لِأَحْوَالِهِمْ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ. الثَّالِثُ: لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ سُوءُ الظَّنِّ في تعليمه ما دعى إِلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي قَرَأَهَا وَالْحِكَمِ الَّتِي تَلَاهَا. قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلُ مُعْجِزَتِهِ وَصِدْقِ نبوته. قوله تعالى: (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) يَعْنِي الْقُرْآنَ (وَيُزَكِّيهِمْ) أَيْ يَجْعَلُهُمْ أَزْكِيَاءَ الْقُلُوبِ بِالْإِيمَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَأْخُذُ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) يَعْنِي الْقُرْآنَ (وَالْحِكْمَةَ) السُّنَّةَ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكِتابَ الْخَطُّ بِالْقَلَمِ، لِأَنَّ الْخَطَّ فَشَا فِي الْعَرَبِ بِالشَّرْعِ لَمَّا أُمِرُوا بِتَقْيِيدِهِ بِالْخَطِّ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: الْحِكْمَةَ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ" «2». (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أَيْ مِنْ قَبْلِهِ وَقَبْلِ أَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ. (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أَيْ فِي ذَهَابٍ عن الحق.

[سورة الجمعة (62): آية 3]
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) هُوَ عَطْفٌ عَلَى الْأُمِّيِّينَ أَيْ بُعِثَ فِي الْأُمِّيِّينَ وَبُعِثَ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْعَطْفِ عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي يُعَلِّمُهُمُ وَيُزَكِّيهِمْ،
__________
(1). راجع ج 2 ص 5 وص 136
(2). راجع ج 2 ص 5 وص 136

(18/92)


ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

أَيْ يُعَلِّمُهُمْ وَيُعَلِّمُ آخَرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ التَّعْلِيمَ إِذَا تَنَاسَقَ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ كَانَ كُلُّهُ مُسْنَدًا إِلَى أَوَّلِهِ فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى كُلَّ مَا وُجِدَ مِنْهُ. (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أَيْ لَمْ يَكُونُوا فِي زَمَانِهِمْ وَسَيَجِيئُونَ بعدهم. قال ابن عمرو سعيد بْنُ جُبَيْرٍ: هُمُ الْعَجَمُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ" الْجُمُعَةِ" فَلَمَّا قَرَأَ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قَالَ رَجُلٌ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَأَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. قَالَ وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ. قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ: (لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ). فِي رِوَايَةٍ (لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ فَارِسَ- أَوْ قَالَ- مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ التَّابِعُونَ. مُجَاهِدٌ: هُمُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، يَعْنِي مَنْ بَعْدَ الْعَرَبِ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقاله ابن زيد ومقاتل ابن حَيَّانَ. قَالَا: هُمْ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ فِي أَصْلَابِ أُمَّتِي رِجَالًا وَنِسَاءً يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ- ثُمَّ تَلَا- وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (رَأَيْتُنِي أَسْقِي غَنَمًا سُودًا ثُمَّ أَتْبَعْتُهَا غَنَمًا عُفْرًا أَوِّلْهَا يَا أَبَا بَكْرٍ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَّا السُّودُ فَالْعَرَبُ، وَأَمَّا الغفر فَالْعَجَمُ تَتْبَعُكَ بَعْدَ الْعَرَبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَذَا أَوَّلَهَا الْمَلَكُ) يَعْنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو علي ابن أبي طالب رضي الله عنه.

[سورة الجمعة (62): آية 4]
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَيْثُ ألحق العجم بقريش. وقيل: يَعْنِي الْإِسْلَامَ، فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ: يَعْنِي الْوَحْيَ وَالنُّبُوَّةَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ: إِنَّهُ الْمَالُ

(18/93)


مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)

يُنْفَقُ فِي الطَّاعَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي صَالِحٍ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. فَقَالَ: (وَمَا ذَاكَ)؟ قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً). قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ). وَقَوْلٌ خَامِسٌ: أَنَّهُ انْقِيَادُ النَّاسِ إِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُخُولُهُمْ فِي دِينِهِ وَنُصْرَتِهِ. وَاللَّهُ اعلم.

[سورة الجمعة (62): آية 5]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
ضَرَبَ مَثَلًا لِلْيَهُودِ لَمَّا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِالتَّوْرَاةِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حُمِّلُوا التَّوْراةَ أَيْ كُلِّفُوا الْعَمَلَ بِهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ مِنَ الْحَمَالَةِ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ، أَيْ ضَمِنُوا أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ. (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) هِيَ جَمْعُ سِفْرٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْكَبِيرُ، لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عَنِ الْمَعْنَى إِذَا قُرِئَ. قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: الْحِمَارُ لَا يَدْرِي أَسِفْرٌ عَلَى ظَهْرِهِ أَمْ زبيل، «1» فَهَكَذَا الْيَهُودُ. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ حَمَلَ الْكِتَابَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَعَانِيَهُ وَيَعْلَمَ مَا فِيهِ، لِئَلَّا يَلْحَقَهُ مِنَ الذَّمِّ ما لحق هؤلاء. وقال الشاعر: «2»
__________
(1). في ح، ز، س، هـ:" أم ز بل".
(2). هو مَرْوَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي حفصة، يهجو قوما من رواة الشعر.

(18/94)


زوامل للأسفار لا علم عندهم ... وبجيدها إِلَّا كَعِلْمِ الْأَبَاعِرِ
لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي الْبَعِيرُ إِذَا غَدَا ... بِأَوْسَاقِهِ «1» أَوْ رَاحَ مَا فِي الْغَرَائِرِ «2»
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَمَانَ: يَكْتُبُ أَحَدُهُمُ الْحَدِيثَ وَلَا يَتَفَهَّمُ وَلَا يَتَدَبَّرُ، فَإِذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ جَلَسَ كَأَنَّهُ مُكَاتَبٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الرُّوَاةَ عَلَى جَهْلٍ بِمَا حَمَلُوا ... مِثْلَ الْجِمَالِ عَلَيْهَا يُحْمَلُ الْوَدَعُ
لَا الْوَدْعُ يَنْفَعُهُ حَمْلُ الْجِمَالِ لَهُ ... وَلَا الْجِمَالُ بِحَمْلِ الْوَدْعِ تَنْتَفِعُ
وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَحْسَنَ:
انْعِقْ بِمَا شِئْتَ تَجِدْ أنصارا ... ووزم أَسْفَارًا تَجِدْ حِمَارَا
يَحْمِلُ مَا وَضَعْتَ مِنْ أَسْفَارٍ ... يَحْمِلُهُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ
يَحْمِلُ أَسْفَارًا لَهُ وَمَا دَرَى ... إِنْ كَانَ مَا فِيهَا صَوَابًا وخطاء «3»
إِنْ سُئِلُوا قَالُوا كَذَا رَوَيْنَا ... مَا إِنْ كَذَبْنَا وَلَا اعْتَدَيْنَا
كَبِيرُهُمْ يَصْغُرُ عِنْدَ الْحَفْلِ ... لِأَنَّهُ قَلَّدَ «4» أَهْلَ الْجَهْلِ
ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أَيْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا. شَبَّهَهُمْ- وَالتَّوْرَاةُ فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِهَا- بِالْحِمَارِ يَحْمِلُ كُتُبًا وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا ثِقْلُ الْحَمْلِ مِنْ غير فائدة. ويَحْمِلُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ حَامِلًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْوَصْفِ، لِأَنَّ الْحِمَارَ كَاللَّئِيمِ. قَالَ:
وَلَقَدْ أَمُرُّ على اللئيم يسبني «5»

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبْنَاهُ لَهُمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أَيْ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يَكُونُ كافرا.
__________
(1). الوسق (بفتح الواو وسكون السين): حمل البعير. [ ..... ]
(2). الغرائر: جمع الغرارة (بالكسر) الجوالق.
(3). كذا في الأصول، مع هذه الزيادة التي يستقيم بها الوزن. ويحتمل أن يكون صوابه:
أكان ما فيها جمانا أو بري

والجمان (بالضم): اللؤلؤ. والبرى: التراب.
(4). في نسخة:" قدر".
(5). وتمامه:
فضيت ثمت قلت لا يعنيني

(18/95)


قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)

[سورة الجمعة (62): الآيات 6 الى 7]
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
لَمَّا ادَّعَتِ الْيَهُودُ الْفَضِيلَةَ وَقَالُوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَلِلْأَوْلِيَاءِ عِنْدَ اللَّهِ الْكَرَامَةُ. (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لِتَصِيرُوا إِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أَيْ أَسْلَفُوهُ مِنْ تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ تَمَنَّوْهُ لَمَاتُوا، فَكَانَ فِي ذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ وَمَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْوِلَايَةِ. وَفِي حَدِيثٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ مَا بَقِيَ عَلَى ظَهْرِهَا يَهُودِيٌّ إِلَّا مَاتَ). وَفِي هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ، وَمُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ مَضَى مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي" الْبَقَرَةِ" فِي قَوْلُهُ تَعَالَى-: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» [البقرة: 94].

[سورة الجمعة (62): آية 8]
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يقال: إن زيدا فمنطلق، وها هنا قَالَ: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ «2» لِمَا فِي مَعْنَى الَّذِي مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ، وَيَكُونُ مُبَالَغَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْفِرَارُ مِنْهُ. قَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
قُلْتُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتِمَّ الكلام عند قوله قَوْلِهِ: الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ. وقال طرقة:
__________
(1). راجع ج 2 ص (33)
(2). ما بين المربعين ساقط من ح، س.

(18/96)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)

وَكَفَى بِالْمَوْتِ فَاعْلَمْ وَاعِظًا ... لِمَنِ الْمَوْتُ عَلَيْهِ قَدْ قُدِرْ
فَاذْكُرِ الْمَوْتَ وَحَاذِرْ ذِكْرَهُ ... إِنَّ في الموت لذي اللب عبر
كل شي سَوْفَ يَلْقَى حَتْفَهُ ... فِي مَقَامٍ أَوْ عَلَى ظَهْرِ سَفَرْ
وَالْمَنَايَا حَوْلَهُ تَرْصُدُهُ ... لَيْسَ يُنْجِيهِ من الموت الحذر

[سورة الجمعة (62): آية 9]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
فِيهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُمَا (الْجُمْعَةِ) بِإِسْكَانِ الْمِيمِ عَلَى التَّخْفِيفِ. وَهُمَا لُغَتَانِ. وَجَمْعُهُمَا جُمَعٌ وَجُمُعَاتٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ الْجُمْعَةُ (بِسُكُونِ الْمِيمِ) والْجُمُعَةِ (بِضَمِ الْمِيمِ) وَالْجَمْعَةُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ) فَيَكُونُ صِفَةَ الْيَوْمِ، أَيْ تَجْمَعُ النَّاسَ. كَمَا يُقَالُ: ضُحَكَةٌ لِلَّذِي يَضْحَكُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّفْخِيمِ فَاقْرَءُوهَا جُمُعَةً، يَعْنِي بِضَمِ الْمِيمِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: وَالتَّخْفِيفُ أَقْيَسُ وَأَحْسَنُ، نَحْوَ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَطُرْفَةٍ وَطُرَفٍ، وَحُجْرَةٍ وَحُجَرٍ. وَفَتْحُ الْمِيمِ لُغَةُ بَنِي عَقِيلٍ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لُغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّمَا سُمِّيَتْ جُمُعَةً لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهَا خَلْقَ آدَمَ). وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ فِيهَا مِنْ خَلْقِ كل شي فَاجْتَمَعَتْ فِيهَا الْمَخْلُوقَاتُ. وَقِيلَ: لِتَجْتَمِعَ الْجَمَاعَاتُ فِيهَا. وقيل: لاجتماع الناس فيها للصلاة. ومِنْ بِمَعْنَى فِي، أَيْ فِي يَوْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ «1» [فاطر: 40] أَيْ فِي الْأَرْضِ. الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: أَوَّلُ مَنْ قَالَ:" أَمَّا بَعْدُ" كَعْبُ بْنُ لوي، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَمَّى الْجُمُعَةَ جُمُعَةً. وَكَانَ يُقَالُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ: الْعَرُوبَةُ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ سماها جمعة الأنصار.
__________
(1). راجع ج 15 ص 58

(18/97)


قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: جَمَّعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْجُمُعَةُ، وَهُمُ الَّذِينَ سَمَّوْهَا الْجُمُعَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ لِلْيَهُودِ يَوْمًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمٌ وَهُوَ السَّبْتُ. وَلِلنَّصَارَى يَوْمٌ مِثْلَ ذَلِكَ وَهُوَ الْأَحَدُ فَتَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ حَتَّى نَجْعَلَ يَوْمًا لَنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنُصَلِّي فِيهِ- وَنَسْتَذْكِرُ- أَوْ كَمَا قَالُوا- فَقَالُوا: يَوْمُ السَّبْتِ لِلْيَهُودِ، وَيَوْمُ الْأَحَدِ لِلنَّصَارَى، فَاجْعَلُوهُ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ. فَاجْتَمَعُوا إِلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ (أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) فَصَلَّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ رَكْعَتَيْنِ وَذَكَّرَهُمْ، فَسَمَّوْهُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ حِينَ اجْتَمَعُوا. فَذَبَحَ لَهُمْ أَسْعَدُ شَاةً فَتَعَشَّوْا وَتَغَدَّوْا مِنْهَا لِقِلَّتِهِمْ. فَهَذِهِ أَوَّلُ جُمُعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ. قُلْتُ: وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا عَلَى مَا يَأْتِي. وَجَاءَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الَّذِي جَمَّعَ بِهِمْ وَصَلَّى أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِّينَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ ابن شهاب الزهري أن مصعب ابن عُمَيْرٍ كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ الْجُمْعَةَ بِالْمَدِينَةِ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُصْعَبٌ جَمَّعَ بِهِمْ بِمَعُونَةِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَأَضَافَهُ كَعْبٌ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا أَوَّلُ جُمْعَةٍ جَمَّعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، فَقَالَ أَهْلُ السَّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرًا حَتَّى نَزَلَ بِقُبَاءٍ، عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى. وَمِنْ تِلْكَ السَّنَةِ يُعَدُّ التَّارِيخُ. فَأَقَامَ بِقُبَاءٍ إِلَى يَوْمِ الْخَمِيسِ وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُمْ. ثُمَّ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فِي بَطْنِ وَادٍ لَهُمْ قَدِ اتَّخَذَ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَسْجِدًا، فَجَمَّعَ بِهِمْ وَخَطَبَ. وَهِيَ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ فِيهَا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ وَأَسْتَغْفِرُهُ وَأَسْتَهْدِيهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَلَا أَكْفُرُهُ، وَأُعَادِي مَنْ يَكْفُرُ بِهِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وأشهد أن محمدا عبده ورسول، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَالنُّورِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْحِكْمَةِ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَقِلَّةٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَضَلَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَانْقِطَاعٍ

(18/98)


مِنَ الزَّمَانِ، وَدُنُوٍّ مِنَ السَّاعَةِ، وَقُرْبٍ مِنَ الْأَجَلِ. مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ. وَمَنْ يعص الله ورسول فَقَدْ غَوَى وَفَرَّطَ وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا. أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ خَيْرُ مَا أَوْصَى بِهِ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَحُضَّهُ عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ. وَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ عَلَى وَجَلٍ وَمَخَافَةٍ مِنْ رَبِّهِ عَوْنُ صِدْقٍ عَلَى مَا تَبْغُونَ مِنْ أَمْرِ «1» الْآخِرَةِ. وَمَنْ يُصْلِحُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ أَمْرِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، لَا يَنْوِي بِهِ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ يَكُنْ لَهُ ذِكْرًا فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ، وَذُخْرًا فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، حِينَ يَفْتَقِرُ الْمَرْءُ إِلَى مَا قَدَّمَ. وَمَا كَانَ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ يَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ»
[آل عمران: 30]. وهو الذي صدق قول، وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ، لَا خُلْفَ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «3» [ق: 29]. فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي عَاجِلِ أَمْرِكُمْ وَآجِلِهِ فِي السر والعلانية، فإنه وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً «4» [الطلاق: 5]. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا. وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تَوَقِّي مَقْتَهُ وَتَوَقِّي عُقُوبَتَهُ وَتَوَقِّي سَخَطَهُ. وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تُبَيِّضُ الْوُجُوهَ، وَتُرْضِي الرَّبَّ، وَتَرْفَعُ الدَّرَجَةَ. فَخُذُوا بِحَظِّكُمْ وَلَا تُفَرِّطُوا فِي جَنْبِ اللَّهِ، فَقَدْ عَلَّمَكُمْ كِتَابَهُ، وَنَهَجَ لَكُمْ سَبِيلَهُ، لِيَعْلَمَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَيَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ. فَأَحْسِنُوا كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَسَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُصْلِحْ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ يَكْفِهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْضِي عَلَى النَّاسِ وَلَا يَقْضُونَ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكُ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ. اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ (. وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَهَا جُمُعَةٌ بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا
:" جُوَاثِي" مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَمَّاهَا الْجُمُعَةَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ لِاجْتِمَاعِ قُرَيْشٍ فِيهِ إلى كعب، كما تقدم. والله اعلم.
__________
(1). زيادة عن تاريخ الطبري والبداية والنهاية.
(2). ج 4 ص (59)
(3). ج 17 ص (17)
(4). ص 166 من هذا الجزء.

(18/99)


الثَّالِثَةُ: خَاطَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجُمُعَةِ دُونَ الْكَافِرِينَ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَكْرِيمًا فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ خَصَّهُ بِالنِّدَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «1» [المائدة: 58] لِيَدُلَّ عَلَى وُجُوبِهِ وَتَأْكِيدِ فَرْضِهِ. وَقَالَ بَعْضُ العلماء: كون الصلاة الجمعة ها هنا مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ لَا مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ بِنُكْتَةٍ وَهِيَ قَوْلُ: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ يُفِيدُهُ، لِأَنَّ النِّدَاءَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ نِدَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا غَيْرُهَا فَهُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِهِ نِدَاءُ الْجُمْعَةِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ بِهَا وَإِضَافَتِهِ إِلَيْهَا مَعْنًى وَلَا فَائِدَةَ. الرَّابِعَةُ: فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ الْأَذَانِ فِي سُورَةِ" الْمَائِدَةِ" مُسْتَوْفًى «2». وَقَدْ كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، يُؤَذِّنُ وَاحِدٌ إِذَا جَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ. ثُمَّ زَادَ عُثْمَانُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَانًا ثَالِثًا «3» عَلَى دَارِهِ الَّتِي تُسَمَّى" الزَّوْرَاءُ «4» " حِينَ كَثُرَ النَّاسُ بِالْمَدِينَةِ. فَإِذَا سَمِعُوا أَقْبَلُوا، حَتَّى إِذَا جَلَسَ عُثْمَانُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَخْطُبُ عُثْمَانُ. خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ، إِذَا خَرَجَ أَذَّنَ وَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ. وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى دَارٍ فِي السُّوقِ يُقَالُ لَهَا" الزَّوْرَاءُ"، فَإِذَا خَرَجَ أَذَّنَ وَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طُرُقٍ بِمَعْنَاهُ. وَفِي بَعْضِهَا: أَنَّ الْأَذَانَ الثَّانِيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حِينَ كَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا الْأَذَانُ الْأَوَّلُ فَمُحْدَثٌ، فَعَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِحُضُورِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ اتِّسَاعِ الْمَدِينَةِ وَكَثْرَةِ أَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه أمر أن
__________
(1). آية 58 سورة المائدة.
(2). راجع ج 6 ص 224 وما بعدها.
(3). أي أول الوقت عند الزوال. وسماه ثالثا باعتبار كونه مزيدا على الأذان بين يدي الامام والإقامة للصلاة. فهو أول باعتبار الوجود، ثالث باعتبار مشروعية عثمان له باجتهاده وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار. [ ..... ]
(4). الزوراء: موضع بالسوق بالمدينة، قيل إنه مرتفع كالمنارة. وقيل: حجر كبير عند باب المسجد.

(18/100)


يُؤَذَّنَ فِي السُّوقِ قَبْلَ الْمَسْجِدِ لِيَقُومَ النَّاسُ عَنْ بُيُوعِهِمْ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا أُذِّنَ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَذَانَيْنِ فِي المسجد. قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ الْأَذَانَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ زَادَ الْأَذَانَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ، وَسَمَّاهُ فِي الْحَدِيثِ ثَالِثًا لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى الْإِقَامَةِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ) يَعْنِي الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ. وَيَتَوَهَّمُ النَّاسُ أَنَّهُ أَذَانٌ أَصْلِيٌّ فَجَعَلُوا الْمُؤَذِّنَيْنِ ثَلَاثَةً فَكَانَ وَهْمًا، ثُمَّ جَمَعُوهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَكَانَ وَهْمًا عَلَى وَهْمٍ. وَرَأَيْتُهُمْ يُؤَذِّنُونَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ بَعْدَ أَذَانِ الْمَنَارِ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ تَحْتَ الْمِنْبَرِ فِي جَمَاعَةٍ.، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ عِنْدَنَا فِي الدُّوَلِ الْمَاضِيَةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) أختلف في معنى السعي ها هنا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَوَّلُهَا: الْقَصْدُ. قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِسَعْيٍ عَلَى الْأَقْدَامِ وَلَكِنَّهُ سَعْيٌ بِالْقُلُوبِ وَالنِّيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَمَلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ «1» [الاسراء: 19]، وقوله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى
«2» [الليل: 4]، وَقَوْلِهِ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى «3» [النجم: 39]. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمٌ لِكَيْ يُدْرِكُوهُمُ «4»

وَقَالَ أَيْضًا:
سَعَى سَاعِيًا غيظ بن مرة بعد ما ... تَبَزَّلَ مَا بَيْنَ الْعَشِيرَةِ بِالدَّمِ «5»
أَيْ فَاعْمَلُوا عَلَى الْمُضِيِّ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَاشْتَغِلُوا بِأَسْبَابِهِ مِنَ الْغُسْلِ وَالتَّطْهِيرِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السَّعْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ. وَذَلِكَ فَضْلٌ وليس بشرط. ففي البخاري: أن
__________
(1). راجع ج 10 ص (235)
(2). راجع ج 20 ص (82)
(3). راجع ج 17 ص (114)
(4). وعجزه:
فلم يفعلوا ولم يلاموا ولم يألوا

(5). في شرح ديوان زهير:" الساعيان": الحارث بن عوف، وهرم بن سنان، سعيا في الديات. وقيل: خارجة بن سنان والحارث بن عوف،" سعيا" أي عملا حسنا. و" غيظ بن مرة": حي من غطفان بن سعد. و" تبزل بالدم": أي تشقق. يقول: كان بينهم صلح فتشقق بالدم. يقول: سعيا بعد ما تشقق فأصلحا.

(18/101)


أَبَا عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ- وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ- مَشَى إِلَى الْجُمْعَةِ رَاجِلًا وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ). وَيَحْتَمِلُ ظَاهِرُهُ رَابِعًا: وَهُوَ الْجَرْيُ وَالِاشْتِدَادُ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الصَّحَابَةُ الْأَعْلَمُونَ وَالْفُقَهَاءُ الْأَقْدَمُونَ. وَقَرَأَهَا عُمَرُ:" فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" فِرَارًا عَنْ طَرِيقِ الْجَرْيِ وَالِاشْتِدَادِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الظَّاهِرِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَذَلِكَ وَقَالَ: لَوْ قَرَأْتُ فَاسْعَوْا لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي. وَقَرَأَ ابْنُ شِهَابٍ:" فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ سَالِكًا تِلْكَ السَّبِيلَ". وَهُوَ كُلُّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُمْ، لَا قِرَاءَةَ قُرْآنٍ مُنَزَّلٍ. وَجَائِزٌ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّفْسِيرِ فِي مَعْرِضِ التَّفْسِيرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ خَالَفَ الْمُصْحَفَ بِقِرَاءَةِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَّ خَرَشَةَ بْنَ الْحُرِّ قَالَ: رَآنِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَعِي قِطْعَةٌ فِيهَا فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فَقَالَ لِي عُمَرُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذَا؟ قُلْتُ أُبَيٌّ. فَقَالَ: إِنَّ أُبَيًّا أَقْرَؤُنَا لِلْمَنْسُوخِ. ثُمَّ قَرَأَ عُمَرُ" فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ". حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ قَالَ حَدَّثَنَا خَلَفٌ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ خَرَشَةَ، فَذَكَرَهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ وَهُوَ ابْنُ سَعْدَانَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ يَقْرَأُ قَطُّ إِلَّا" فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ". وَأَخْبَرَنَا إِدْرِيسُ قَالَ حَدَّثَنَا خَلَفٌ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ" فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" وَقَالَ: لَوْ كَانَتْ فَاسْعَوْا لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَاسْعَوْا بِرِوَايَةِ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَمَا صَحَّ عَنْهُ" فَامْضُوا" لِأَنَّ السَّنَدَ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، إِذْ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ لَمْ يَسْمَعْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ شَيْئًا، وَإِنَّمَا وَرَدَ" فَامْضُوا" عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدٌ بِمَا يُخَالِفُ الْآيَةَ وَالْجَمَاعَةَ كَانَ ذَلِكَ نِسْيَانًا مِنْهُ. وَالْعَرَبُ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ يَأْتِي بِمَعْنَى الْمُضِيِّ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنَ الْجِدِّ وَالِانْكِمَاشِ. قَالَ زهير:
سعى ساعيا غيظ بمرة بعد ما ... تَبَزَّلَ مَا بَيْنَ الْعَشِيرَةِ بِالدَّمِ

(18/102)


أَرَادَ بِالسَّعْيِ الْمُضِيَّ بِجِدٍّ وَانْكِمَاشٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ لِلْعَدْوِ وَالْإِسْرَاعِ فِي الْخَطْوِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى السَّعْيِ فِي الْآيَةِ الْمُضِيُّ. وَاحْتَجَّ الْفَرَّاءُ بِقَوْلِهِمْ: هُوَ يَسْعَى فِي الْبِلَادِ يَطْلُبُ فَضْلَ اللَّهِ، مَعْنَاهُ هُوَ يَمْضِي بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ. وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَسْعَى عَلَى جُلِّ بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي
فَهَلْ يَحْتَمِلُ السَّعْيَ فِي هَذَا الْبَيْتِ إِلَّا مَذْهَبَ الْمُضِيِّ بِالِانْكِمَاشِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَخْفَى هَذَا الْمَعْنَى عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى فَصَاحَتِهِ وَإِتْقَانِ عَرَبِيَّتِهِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ليس المراد ها هنا الْعَدْوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وَلَكِنِ ائْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ). قَالَ الْحَسَنُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالسَّعْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَلَقَدْ نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الصَّلَاةَ إِلَّا وَعَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلَكِنْ بِالْقُلُوبِ وَالنِّيَّةِ وَالْخُشُوعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: السَّعْيُ أَنْ تَسْعَى بِقَلْبِكَ وَعَمَلِكَ. وَهَذَا حَسَنٌ، فَإِنَّهُ جَمَعَ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الِاغْتِسَالِ لِلْجُمُعَةِ وَالتَّطَيُّبِ وَالتَّزَيُّنِ بِاللِّبَاسِ أَحَادِيثُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خِطَابٌ لِلْمُكَلَّفِينَ بِإِجْمَاعٍ. وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى وَالْمُسَافِرُونَ وَالْعَبِيدُ وَالنِّسَاءُ بِالدَّلِيلِ، وَالْعُمْيَانُ وَالشَّيْخُ الَّذِي لَا يَمْشِي إِلَّا بِقَائِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ فَمَنِ اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: وَلَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ عَنِ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ عَلَيْهِ إِتْيَانُهَا إِلَّا بِعُذْرٍ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ إِلَيْهَا، مِثْلَ الْمَرَضِ الْحَابِسِ، أَوْ خَوْفِ الزِّيَادَةِ فِي الْمَرَضِ، أَوْ خَوْفِ جَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِ فِي مَالٍ أَوْ بَدَنٍ دُونَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِحَقٍّ. وَالْمَطَرُ الْوَابِلُ مَعَ الْوَحَلِ عُذْرٌ إن لم ينقطع. ولو يَرَهُ مَالِكٌ عُذْرًا لَهُ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَلَوْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مُتَخَلِّفٌ عَلَى وَلِيٍّ حَمِيمٍ لَهُ قَدْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِ رَجَا أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ. وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ.

(18/103)


وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَصَلَّى قَبْلَ الْإِمَامِ أَعَادَ، وَلَا
يَجْزِيهِ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَهُ. وَهُوَ فِي تَخَلُّفِهِ عَنْهَا مَعَ إِمْكَانِهِ لِذَلِكَ عَاصٍ لِلَّهِ بِفِعْلِهِ. السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ يَخْتَصُّ بِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى «1» الْقَرِيبِ الَّذِي يَسْمَعُ النِّدَاءَ، فَأَمَّا الْبَعِيدُ الدَّارِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ النِّدَاءَ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ يَأْتِي الْجُمْعَةَ مِنَ الدَّانِي وَالْقَاصِي، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ: تَجِبُ الْجُمْعَةُ عَلَى مَنْ فِي الْمِصْرِ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: اعْتِبَارُ سَمَاعِ الْأَذَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ صَيِّتًا، «2» وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةٌ، وَالرِّيحُ سَاكِنَةٌ وَمَوْقِفُ الْمُؤَذِّنِ عِنْدَ سُورِ الْبَلَدِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَنْتَابُونَ «3» الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَمِنَ الْعَوَالِي فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ «4» وَيُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ فَتَخْرُجُ مِنْهُمُ الرِّيحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو اغتسلتم ليؤمكم هَذَا) قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَالصَّوْتُ إِذَا كَانَ مَنِيعًا وَالنَّاسُ فِي هُدُوءٍ وَسُكُونٍ فَأَقْصَى سَمَاعِ الصَّوْتِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ. وَالْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ أَقْرَبُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ: تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّمَا الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ). وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ تَجِبُ عَلَى مَنْ فِي الْمِصْرِ، سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ، وَلَا تَجِبْ عَلَى مَنْ هُوَ خَارِجَ الْمِصْرِ وَإِنْ سَمِعَ النِّدَاءَ. حَتَّى سُئِلَ: وَهَلْ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى أَهْلِ زَبَارَةَ- بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكُوفَةِ مَجْرَى نَهْرٍ-؟ فَقَالَ لَا. وَرُوِيَ عَنْ رَبِيعَةَ أَيْضًا: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ وَخَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مَاشِيًا أَدْرَكَ الصَّلَاةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ. الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا بِالنِّدَاءِ، وَالنِّدَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدُخُولِ الْوَقْتِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ
__________
(1). التكملة عن ابن العربي.
(2). رجل صيت: شديد الصوت عاليه.
(3). أي يحضرونها نوبا. وفى رواية" يتناوبون".
(4). في ح، ز، س" في العباء" بفتح العين المهملة والمد، جمع عباءة.

(18/104)


عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا ثم أقيما وليومكما أكبر كما) قاله لمالك ابن الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبِهِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهَا تُصَلَّى قَبْلَ الزَّوَالِ. وَتَمَسَّكَ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ. وَبِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ. وَمِثْلُهُ عَنْ سَهْلٍ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَحَدِيثُ سَلَمَةَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّبْكِيرِ. رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ يَعْلَى بْنِ الْحَارِثِ عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ. وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ يَعْلَى عَنْ إِيَاسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ، وَقِيَاسًا عَلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَسَهْلٍ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَكِّرُونَ إِلَى الْجُمْعَةِ تَبْكِيرًا كَثِيرًا عِنْدَ الْغَدَاةِ أَوْ قَبْلَهَا، فَلَا يَتَنَاوَلُونَ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَأَى مَالِكٌ أَنَّ التَّبْكِيرَ بِالْجُمُعَةِ إِنَّمَا يَكُونُ قُرْبَ الزَّوَالِ بِيَسِيرٍ. وَتَأَوَّلَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مِنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ... ) الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَحَمَلَهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى سَاعَاتِ النَّهَارِ الزَّمَانِيَّةِ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً الْمُسْتَوِيَةَ أَوِ الْمُخْتَلِفَةَ بِحَسَبِ زِيَادَةِ النَّهَارِ وَنُقْصَانِهِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ أَصَحُّ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا كَانُوا يَقِيلُونَ وَلَا يَتَغَدَّوْنَ إِلَّا بَعْدَ الْجُمْعَةِ لِكَثْرَةِ الْبُكُورِ إِلَيْهَا. التَّاسِعَةُ: فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْجُمُعَةَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَنَقَلَ عَنْ مَالِكٍ مَنْ لَمْ يُحَقِّقْ: أَنَّهَا سُنَّةٌ. وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ. وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونَنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ (. وَهَذَا حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَفَرْضِيَّتِهَا. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمَرِيِّ- وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَهَاوُنًا بِهَا

(18/105)


طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ (. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ (. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:) الرَّوَاحُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ (. الْعَاشِرَةُ: أَوْجَبَ اللَّهُ السَّعْيَ إِلَى الْجُمُعَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَثَبَتَ شَرْطُ الْوُضُوءِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] الْآيَةَ «1». وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ). وَأَغْرَبَتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ غُسْلَ الْجُمْعَةِ فَرْضٌ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بَاطِلٌ، لِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ. وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ «2» فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى «3» فَقَدْ لَغَا «4» وَهَذَا نَصٌّ. وَفِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ ... - الْحَدِيثَ «5» إِلَى أَنْ قَالَ:- مَا زِدْتُ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ. فَأَمَرَ «6» عُمَرُ بِالْغُسْلِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالرُّجُوعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. فَلَمْ يُمْكِنْ وَقَدْ تَلَبَّسَ بِالْفَرْضِ- وَهُوَ الْحُضُورُ وَالْإِنْصَاتُ لِلْخُطْبَةِ- أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ إِلَى السُّنَّةِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرِ فُحُولِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ حَوَالَيْ عُمَرَ، وَفِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1). راجع ج 6 ص 6
(2). ما بين المربعين لم يرد في صحيح مسلم.
(3). أي سواه للسجود غير مرة في الصلاة.
(4). اللغو: الكلام المطرح الساقط. [ ..... ]
(5). الحديث كما ورد في الموطإ وشرحه:" دخل رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد يوم الجمعة وعمر يخطب. فقال عمر: أية ساعة هذه؟ (إشارة إلى أن هذه الساعة ليست من ساعات الرواح إلى الجمعة لأنه وقت طويت فيه الصحف) - فقال: يا أمير المؤمنين، انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت- (اعتذار منه على أنه لم يشتغل بغير الفرض مبادرة إلى سماع الخطبة والذكر) - فقال عمر: الوضوء أَيْضًا! وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمر بالغسل. (معناه أنك مع ما فاتك من التهجير فاتتك فضيلة الغسل الذي قد عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمر به)
(6). في الأصول:" فأقر" بالقاف. والتصويب عن ابن العربي.

(18/106)


الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- لَا تَسْقُطُ الْجُمُعَةُ لِكَوْنِهَا فِي يَوْمِ عِيدٍ، خِلَافًا لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا اجْتَمَعَ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ سَقَطَ فَرْضُ الْجُمُعَةِ، لِتَقَدُّمِ الْعِيدِ عَلَيْهَا وَاشْتِغَالِ النَّاسِ بِهِ عَنْهَا. وَتَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أَذِنَ فِي يَوْمِ عِيدٍ لِأَهْلِ الْعَوَالِي «1» أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِ الْجُمُعَةِ. وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِذَا خُولِفَ فِيهِ وَلَمْ يُجْمَعْ مَعَهُ عَلَيْهِ. وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ مُتَوَجِّهٌ يَوْمَ الْعِيدِ كَتَوَجُّهِهِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ: بِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى. 1] وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: 1] قَالَ: وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلَاتَيْنِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) أَيِ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ الْخُطْبَةُ وَالْمَوَاعِظُ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْجَمِيعِ، وَأَوَّلُهُ الْخُطْبَةُ. وَبِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا، إِلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ الْمَاجِشُونِ فَإِنَّهُ رَآهَا سُنَّةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا أَنَّهَا تُحَرِّمُ الْبَيْعَ وَلَوْلَا وُجُوبُهَا مَا حَرَّمَتْهُ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَا يُحَرِّمُ الْمُبَاحَ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الصَّلَاةُ فَالْخُطْبَةُ مِنَ الصَّلَاةِ. وَالْعَبْدُ يَكُونُ ذَاكِرًا لِلَّهِ بِفِعْلِهِ كَمَا يَكُونُ مُسَبِّحًا لِلَّهِ بِفِعْلِهِ. الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُفَسَّرُ ذِكْرُ اللَّهِ بِالْخُطْبَةِ وَفِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ! قُلْتُ: مَا كَانَ مِنْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَأَتْقِيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ فَهُوَ فِي حُكْمِ ذِكْرِ اللَّهِ. فَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ الظَّلَمَةِ وَأَلْقَابِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَهُمْ أَحِقَّاءُ بِعَكْسِ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى مَرَاحِلَ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) مَنَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ عِنْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَحَرَّمَهُ فِي وَقْتِهَا عَلَى مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِفَرْضِهَا. وَالْبَيْعُ لَا يَخْلُو عَنْ شِرَاءٍ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ «2» [النحل 81]. وَخَصَّ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ أَصْحَابُ الْأَسْوَاقِ. وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حُضُورُ الجمعة فلا ينهى عن البيع والشراء.
__________
(1). العوالي: أما كن بأعلى أراضي المدينة وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية.
(2). راجع ج 10 ص 160

(18/107)


فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)

وَفِي وَقْتِ التَّحْرِيمِ قَوْلَانِ: إِنَّهُ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ إِلَى الْفَرَاغِ مِنْهَا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ. الثَّانِي- مِنْ وَقْتِ أَذَانِ الْخُطْبَةِ إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنْ يُتْرَكَ الْبَيْعُ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ، وَيُفْسَخُ عِنْدَهُ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَلَا يُفْسَخُ الْعِتْقُ وَالنِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَغَيْرُهُ، إِذْ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ الِاشْتِغَالُ بِهِ كَاشْتِغَالِهِمْ بِالْبَيْعِ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ نَادِرٌ لَا يُفْسَخُ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ فَسْخُ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ إِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِلِاشْتِغَالِ بِهِ. فَكُلُّ أَمْرٍ يَشْغَلُ عَنِ الْجُمُعَةِ مِنَ الْعُقُودِ كُلِّهَا فَهُوَ حَرَامٌ شَرْعًا مَفْسُوخٌ رَدْعًا. الْمَهْدَوِيُّ. وَرَأَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَيْعَ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ جَائِزًا، وَتَأَوَّلَ النَّهْيُ عَنْهُ نَدْبًا، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ. قُلْتُ:- وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُ وَلَا يُفْسَخُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ عَامَّةَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَدِّي فَسَادَ الْبَيْعِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَحْرُمْ لِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ لِمَا فِيهِ مِنَ الذُّهُولِ عَنِ الْوَاجِبِ، فَهُوَ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ، وَالْوُضُوءِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ. وَعَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ فَاسِدٌ. قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ فَسَادُهُ وَفَسْخُهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ). أَيْ مَرْدُودٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الجمعة (62): آية 10]
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) هَذَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «1» [المائدة: 2]. يَقُولُ: إِذَا فَرَغْتُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ. (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) أَيْ مِنْ رِزْقِهِ. وَكَانَ عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دعوتك، وصليت
__________
(1). راجع ج 6 ص 44

(18/108)


وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتِنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وأنت خير الرازقين. وقال جعفر ابن مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ إِنَّهُ الْعَمَلُ فِي يَوْمِ السَّبَبِ. وَعَنِ الحسن ابن سعيد بن المسيب: طلب العلم. وقيل: صلاة التَّطَوُّعُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يُؤْمَرُوا بِطَلَبِ شي مِنَ الدُّنْيَا، إِنَّمَا هُوَ عِيَادَةُ الْمَرْضَى وَحُضُورُ الْجَنَائِزِ وَزِيَارَةُ الْأَخِ فِي اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً) أَيْ بِالطَّاعَةِ وَاللِّسَانَ، وَبِالشُّكْرِ عَلَى مَا بِهِ أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ مِنَ التَّوْفِيقِ لِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) كَيْ تُفْلِحُوا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الذِّكْرُ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ ذَكَرَهُ وَمَنْ لَمْ يُطِعْهُ فَلَيْسَ بِذَاكِرٍ وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ التَّسْبِيحِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا مَرْفُوعًا فِي" الْبَقَرَةِ" «1».

[سورة الجمعة (62): آية 11]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
فِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَتْ عِيرٌ «2» مِنَ الشَّامِ فَانْفَتَلَ «3» النَّاسُ إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا- فِي رِوَايَةٍ أَنَا فِيهِمْ- فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً. فِي رِوَايَةٍ: فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الَّذِي قَدِمَ بِهَا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ مِنَ الشَّامِ عِنْدَ مَجَاعَةٍ وَغَلَاءِ سِعْرٍ، وَكَانَ مَعَهُ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ مِنْ بُرٍّ وَدَقِيقٍ وَغَيْرِهِ، فَنَزَلَ عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ، «4» وَضَرَبَ بِالطَّبْلِ لِيُؤْذِنَ النَّاسَ بِقُدُومِهِ، فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. وَقِيلَ: أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانُوا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فَانْفَضُّوا إِلَيْهَا، وَبَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ رِجَالٍ، حكاه الثعلبي عن ابن عباس، وذكر
__________
(1). راجع ج 2 ص (171)
(2). العير- بكسر العين-: الإبل محمل الميرة، ثم غلب على كل قافلة. وانفئل الناس: انصرفوا.
(3). العير- بكسر العين-: الإبل محمل الميرة، ثم غلب على كل قافلة. وانفئل الناس: انصرفوا.
(4). أحجار الزيت: مكان في سوق المدينة.

(18/109)


الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ الطَّعَامَ حَتَّى نَزَلَتْ بِالْبَقِيعِ، «1» فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا وانفضوا إلها وَتَرَكُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعُونَ رَجُلًا أَنَا فِيهِمْ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً). قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَقُلْ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ" إِلَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا" غَيْرَ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ حُصَيْنٍ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُ حُصَيْنٍ فَقَالُوا: لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا. وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ خَرَجُوا جَمِيعًا لَأَضْرَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَارًا)، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ أَسْمَاءُ الِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، رَوَاهُ أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو وَالِدُ أَسَدِ بْنِ مُوسَى بْنِ أَسَدٍ. وَفِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص، وعبد الرحمن ابن عَوْفٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ. قُلْتُ: لَمْ يَذْكُرْ جَابِرًا، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا. فَيَكُونُونَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَإِنْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِيهِمْ فَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ السَّبَبَ الَّذِي تَرَخَّصُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي تَرْكِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَقَدْ كَانُوا خَلِيقًا بِفَضْلِهِمْ أَلَّا يَفْعَلُوا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو مُعَاذٍ بَكْرُ بْنُ مَعْرُوفٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ مِثْلَ الْعِيدَيْنِ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، وَقَدْ صَلَّى الْجُمُعَةَ، فَدَخَلَ، رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ قَدِمَ بِتِجَارَةٍ، «2» وَكَانَ دِحْيَةُ إِذَا قَدِمَ تَلَقَّاهُ أَهْلُهُ بِالدِّفَافِ، فَخَرَجَ النَّاسُ فَلَمْ يَظُنُّوا إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي تَرْكِ الخطبة شي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها. فَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ. وَكَانَ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ لِرُعَافٍ أَوْ أَحْدَاثٍ بَعْدَ النَّهْيِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يشير إليه
__________
(1). البقيع: مقبرة بالمدينة.
(2). في س، ز، ط، ل، هـ:" قدم بتجارته".

(18/110)


بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، فَيَأْذَنُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ. فَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ ثَقُلَ عَلَيْهِ الْخُطْبَةُ وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ إِذَا اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَامَ الْمُنَافِقُ إِلَى جَنْبِهِ مُسْتَتِرًا بِهِ حَتَّى يَخْرُجَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً «1» [النور: 63] الْآيَةَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ مِنْ وَجْهٍ ثَابِتٍ فَالظَّنُّ الْجَمِيلُ بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ مَرَّةٍ عِيرٌ تَقْدَمُ مِنَ الشَّامِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوَافِقُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ خُرُوجَهُمْ لِقُدُومِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ بِتِجَارَتِهِ وَنَظَرِهِمْ إِلَى الْعِيرِ تَمُرُّ، لَهْوٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مِمَّا لَا إِثْمَ فِيهِ لَوْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِهِ الْإِعْرَاضُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِانْفِضَاضُ عَنْ حَضْرَتِهِ، غَلُظَ وَكَبُرَ وَنَزَلَ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَتَهْجِينِهِ بِاسْمِ اللَّهْوِ مَا نَزَلَ. وَجَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ). الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ (الْأَنْفَالِ"»
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَتِ الْجَوَارِي إِذَا نَكَحْنَ يَمْرُرْنَ «3» بِالْمَزَامِيرِ وَالطَّبْلِ فَانْفَضُّوا إِلَيْهَا، فَنَزَلَتْ وَإِنَّمَا رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مصرف" وإذا رأوا التجار وَاللَّهْوَ انْفَضُّوا إِلَيْهَا". وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً انْفَضُّوا إِلَيْهَا، أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهِ فَحُذِفَ لِدَلَالَتِهِ. كَمَا قَالَ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَقِيلَ: الْأَجْوَدُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُجْعَلَ الرَّاجِعُ فِي الذِّكْرِ لِلْآخِرِ مِنَ الِاسْمَيْنِ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقَالَ الْحَسَنُ: تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِاثْنَيْنِ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَأَبُو يُوسُفَ، تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: بِأَرْبَعَةٍ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. وَذَكَرَ النَّجَّادُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ «4» قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ يَزِيدُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ طِهْمَانَ الدَّقَّاقُ، حَدَّثَنَا صُبْحُ بن دينار قال حدثنا
__________
(1). راجع ج 12 ص (322)
(2). راجع ج 8 ص (35)
(3). في أ:" يزمرن". [ ..... ]
(4). في بعض المصادر:" سلمان".

(18/111)


الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُ نَزَلَ فِي دَارِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَجَمَّعَ بِهِمْ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ذَبَحَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ شَاةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي (كِتَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ): كُلُّ قَرْيَةٍ فِيهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا بَالِغِينَ عُقَلَاءَ أَحْرَارًا مُقِيمِينَ، لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا صَيْفًا وَلَا شِتَاءً إِلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ، وَأَنْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ مِنْ أَوَّلِ الْخُطْبَةِ إِلَى أَنْ تُقَامَ الْجُمُعَةُ وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ. وَمَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَلَمْ يَشْتَرِطَا هَذِهِ الشُّرُوطَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَتْ قَرْيَةً فِيهَا سُوقٌ وَمَسْجِدٌ فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ عَدَدٍ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَيُّ قَرْيَةٍ اجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثُونَ بَيْتًا فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ وَالْقُرَى، لَا يَجُوزُ لَهُمْ إِقَامَتُهَا فِيهَا. وَاشْتُرِطَ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَانْعِقَادِهَا: الْمِصْرُ الْجَامِعُ وَالسُّلْطَانُ الْقَاهِرُ وَالسُّوقُ الْقَائِمَةُ وَالنَّهْرُ الْجَارِي. وَاحْتُجَّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ: لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ وَرُفْقَةٍ تُعِينُهُمْ «1». وَهَذَا يَرُدُّهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمْعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ يُقَالُ لَهَا جُوَاثِي. وَحُجَّةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَرْبَعِينَ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ الَّذِي خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيِّ أَيْضًا وَدَلَائِلِ النبوة للبيهقي عن عبد الرحمن ابن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَإِذَا خَرَجْتُ بِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ فَسَمِعَ الْأَذَانَ، صَلَّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ- قَالَ- فَمَكَثَ كَذَلِكَ حِينًا لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ بِالْجُمُعَةِ إِلَّا فَعَلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَةِ، اسْتِغْفَارُكَ لِأَبِي أُمَامَةَ كُلَّمَا سَمِعْتَ أَذَانَ الْجُمُعَةِ، مَا هُوَ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِالْمَدِينَةِ فِي هَزْمٍ «2» مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ، قَالَ قُلْتُ: كَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله:
__________
(1). ما بين المربعين كذا ورد في نسخ الأصل.
(2). الهزم: ما اطمأن من الأرض. وحرة بنى بياضة: قرية على ميل من المدينة. و" بياضة": بطن من الأنصار.

(18/112)


مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ إِمَامًا، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ جُمُعَةً وَأَضْحَى وَفِطْرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ. خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَّادُ: قرئ على عبد الملك ابن مُحَمَّدٍ الرَّقَاشِيِّ وَأَنَا أَسْمَعُ حَدَّثَنِي رَجَاءُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ غُطَيْفٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى كَمْ تَجِبُ الْجُمْعَةُ مِنْ رَجُلٍ؟ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسِينَ رَجُلًا جَمَّعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُرِئَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ حَدَّثَنَا رجاء بن سلمة قال حدثنا عباد ابن عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى خَمْسِينَ رَجُلًا وَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ دُونَ ذَلِكَ). قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَيُّمَا قَرْيَةٍ اجْتَمَعَ فِيهَا خَمْسُونَ رَجُلًا فَلْيُصَلُّوا الْجُمُعَةَ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ الدَّوْسِيَّةِ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا أَرْبَعَةٌ). يَعْنِي بِالْقُرَى: الْمَدَائِنَ. لَا يَصِحُّ هَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ. فِي رِوَايَةٍ (الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ كُلِّ قَرْيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا ثَلَاثَةً رَابِعُهُمْ إِمَامُهُمْ). الزُّهْرِيُّ «1» لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ مِنْ الدَّوْسِيَّةِ. وَالْحُكْمُ «2» هَذَا «3» مَتْرُوكٌ. الثَّالِثَةُ- وَتَصِحُّ الْجُمُعَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ وَحُضُورِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مِنْ شَرْطِهَا الْإِمَامُ أَوْ خَلِيفَتُهُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ وَالِي الْكُوفَةِ أَبْطَأَ يَوْمًا فَصَلَّى ابْنُ مَسْعُودٍ بِالنَّاسِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى الْجُمُعَةَ يَوْمَ حُصِرَ عُثْمَانُ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِي وَالِي الْمَدِينَةِ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ صَلَّى أَبُو مُوسَى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ لِلَّهِ فَرَائِضَ فِي أَرْضِهِ لَا يُضَيِّعُهَا، وَلِيَهَا وَالٍ أَوْ لَمْ يَلِهَا. الرَّابِعَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَنْ شَرْطِ أَدَائِهَا الْمَسْجِدُ الْمُسَقَّفُ. قَالَ ابن العربي: ولا اعلم وجهه.
__________
(1). الزيادة عن الدارقطني.
(2). هو الحكم بن عبد الله، أحد رجال سند هذا الحديث.
(3). الزيادة عن الدارقطني.

(18/113)


قُلْتُ: وَجْهُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ «1» [الحج: 26]، وَقَوْلُهُ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ «2» [النور: 36 وَحَقِيقَةُ الْبَيْتِ أَنْ يَكُونَ ذَا حِيطَانٍ وَسَقْفٍ. هَذَا الْعُرْفُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَرَكُوكَ قائِماً) شَرْطٌ فِي قِيَامِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ. قَالَ عَلْقَمَةُ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا؟ فَقَالَ: أَمَا تَقْرَأُ وَتَرَكُوكَ قائِماً. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبِيثِ، يَخْطُبُ قَاعِدًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً. وَخَرَّجَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ، فَمَنْ نَبَّأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ، فَقَدْ وَاللَّهِ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ. وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ الْقِيَامُ بِشَرْطٍ فِيهَا. وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَبَ قَاعِدًا مُعَاوِيَةُ. وَخَطَبَ عُثْمَانُ قَائِمًا حَتَّى رَقَّ فَخَطَبَ قَاعِدًا. وَقِيلَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ إِنَّمَا خَطَبَ قَاعِدًا لِسِنِّهِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي قَعْدَتِهِ. رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ. وَرَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ. السَّادِسَةُ: وَالْخُطْبَةُ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْجُمْعَةِ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وقال الحسن: هي مستحبة. وكذا فال ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنَّهَا سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَإِذَا تَرَكَهَا وَصَلَّى الْجُمُعَةَ فَقَدْ تَرَكَ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَكُوكَ قائِماً. وَهَذَا ذَمٌّ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي يَذُمُّ تَارِكَهُ شَرْعًا، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّهَا إِلَّا بِخُطْبَةٍ. السَّابِعَةُ: وَيَخْطُبُ مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
__________
(1). راجع ج 12 ص 36. وص 265
(2). راجع ج 12 ص 36. وص 265

(18/114)


أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَطَبَ فِي الْحَرْبِ خَطَبَ عَلَى قَوْسٍ، وَإِذَا خَطَبَ فِي الْجُمْعَةِ خَطَبَ عَلَى عَصًا. الثَّامِنَةُ: وَيُسَلِّمَ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَلَمْ يَرَهُ مَالِكٌ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ سَلَّمَ. التَّاسِعَةُ: فَإِنْ خَطَبَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ الْخُطْبَةَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا أَسَاءَ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِذَا صَلَّى طَاهِرًا. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي إِيجَابِ الطَّهَارَةِ، فَشَرَطَهَا فِي الْجَدِيدِ وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي الْقَدِيمِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. الْعَاشِرَةُ: وَأَقَلُّ مَا يَجْزِي فِي الْخُطْبَةِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ وَيُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَيَقْرَأُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ. وَيَجِبُ فِي الثَّانِيَةِ أَرْبَعٌ كَالْأُولَى، إِلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلًا مِنْ قِرَاءَةِ الْآيَةِ في الاولى الدعاء، قال أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّحْمِيدِ أَوِ التَّسْبِيحِ أَوِ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ. وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَارْتُجَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يَعُدَّانِ لِهَذَا الْمَقَامِ مَقَالًا، وَإِنَّكُمْ إِلَى إِمَامٍ فَعَّالٍ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إِلَى إِمَامٍ قَوَّالٍ، وَسَتَأْتِيكُمُ الْخُطَبُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى. وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْوَاجِبُ مَا تَنَاوَلَهُ اسْمُ خُطْبَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَنادَوْا يَا مالِكُ «1» [الزخرف: 77]. وَفِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُخْتٍ لِعَمْرَةَ قَالَتْ: مَا أَخَذَتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] إِلَّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَقْرَأُ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ. وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ «2» " ق". وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ صَدْرُ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَحْمَدُهُ ونستعينه ونستغفره،
__________
(1). راجع ج 16 ص (116)
(2). راجع ج 17 ص 1

(18/115)


وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ. مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى. نَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يُطِيعُهُ وَيُطِيعُ رَسُولَهُ، وَيَتَّبِعُ رِضْوَانَهُ وَيَجْتَنِبُ سَخَطَهُ، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِهِ وَلَهُ (. وَعَنْهُ قَالَ: بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا خَطَبَ: (كُلُّ مَا هو آت قريب، و «1» لا بُعْدَ لِمَا هُوَ آتٍ. لَا يَعْجَلُ اللَّهُ لِعَجَلَةِ أَحَدٍ، «2» وَلَا يَخِفُّ لِأَمْرِ النَّاسِ. مَا شَاءَ اللَّهُ لَا مَا شَاءَ النَّاسُ. يُرِيدُ اللَّهُ أَمْرًا وَيُرِيدُ النَّاسُ أَمْرًا، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَلَوْ كَرِهَ النَّاسُ. وَلَا مُبْعِدَ لِمَا قَرَّبَ اللَّهُ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَعَّدَ الله. لا يكون شي إلا بإذن الله عز وجل. وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ يَخْطُبُ فَيَقُولُ بَعْدَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ وَيُصَلِّيَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لَكُمْ مَعَالِمَ فَانْتَهُوا إِلَى مَعَالِمِكُمْ، وَإِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ. إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ بَيْنَ أَجَلٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي مَا اللَّهُ قَاضٍ فِيهِ، وَبَيْنَ أَجَلٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ فِيهِ. فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْكِبَرِ، وَمِنَ الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ مُسْتَعْتَبٍ، وَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا مِنْ دَارٍ إِلَّا الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ (. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا خَطَبَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلَ جُمُعَةٍ عِنْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: السُّكُوتُ لِلْخُطْبَةِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا وُجُوبَ سُنَّةٍ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْكُتَ لَهَا مَنْ يَسْمَعُ وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ. وَمَنْ تَكَلَّمَ حِينَئِذٍ لَغَا، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ). الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا قَالَ الْمُنْصِتُ لِصَاحِبِهِ صَهْ، فَقَدْ لَغَا، أَفَلَا يَكُونُ الْخَطِيبُ الْغَالِي فِي ذَلِكَ لَاغِيًا؟ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غُرْبَةِ الْإِسْلَامِ وَنَكَدِ الْأَيَّامِ.
__________
(1). زيادة عن مراسيل أبى داود.
(2). في الأصول:" لعجله آت" والتصويب عن مراسيل أبى داود.

(18/116)


الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: وَيَسْتَقْبِلُ النَّاسُ الْإِمَامَ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُرْسَلًا عَنْ أَبَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا خَرَجَ الْإِمَامُ- أَوْ قَالَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ- اسْتَقْبَلَهُ وَقَالَ: هَكَذَا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ، فَزَادَ فِي الْإِسْنَادِ: عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ. قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا. قُلْتُ: وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عبد الله بن محمد ابن نَاجِيَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوهِنَا. تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ مَنْصُورٍ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَلَا يَرْكَعُ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرِهِ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ: فَخُرُوجُ الْإِمَامِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَكَلَامُهُ يَقْطَعُ الْكَلَامَ. وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ «1» فِيهِمَا). وَهَذَا نَصٌّ فِي الرُّكُوعِ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وغيره. الخامسة عشرة: .. «2» .... ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ النَّوْمَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَيَقُولُونَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: ثُمَّ لَقِيَنِي بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: تَدْرِي مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ مَثَلُهُمْ كَمِثْلِ سَرِيَّةٍ أَخْفَقُوا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا أَخْفَقُوا؟ لَمْ تَغْنَمْ شَيْئًا. وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَحَوَّلْ إِلَى مَقْعَدِ صَاحِبِهِ وَلْيَتَحَوَّلْ صَاحِبُهُ إِلَى مَقْعَدِهِ).
__________
(1). أي وليخفف أداءهما.
(2). بياض في أ. [ ..... ]

(18/117)


السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: نَذْكُرُ فِيهَا مِنْ فَضْلِ الْجُمْعَةِ وَفَرْضِيَّتِهَا مَا لَمْ نَذْكُرْهُ. رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَقَالَ: (فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ) وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا «1». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ). وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْطَأَ عَلَيْنَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْنَا: احْتَبَسْتَ! قَالَ: (ذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي كهيئة الْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَقُلْتُ مَا هَذِهِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذِهِ الْجُمْعَةُ فِيهَا خَيْرٌ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ وَقَدْ أَرَادَهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَأَخْطَئُوهَا وَهَدَاكُمُ اللَّهُ لَهَا قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ قَالَ هَذِهِ السَّاعَةُ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ أَوِ ادَّخَرَ لَهُ مِثْلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ خَيْرُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُسَمُّونَهُ يَوْمَ الْمَزِيدِ (. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ ابْنُ المبارك ويحيى ابن سَلَّامٍ قَالَا: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: تَسَارَعُوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ «2» مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ، فَيَكُونُونَ مِنْهُ فِي الْقُرْبِ- قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ- عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ إِلَى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام: كَمُسَارَعَتِهِمْ إِلَى الْجُمْعَةِ فِي الدُّنْيَا. وَزَادَ فَيُحْدِثُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ غَيْرَ الْمَسْعُودِيِّ يَزِيدُ فِيهِ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ «3» [ق: 35]. قُلْتُ: قَوْلُهُ فِي كَثِيبٍ يُرِيدُ أَهْلَ الْجَنَّةِ. أَيْ وَهُمْ عَلَى كَثِيبٍ، كَمَا رَوَى الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ لَا يُرَى طَرَفَاهُ وَفِيهِ نَهَرٌ جَارٍ حَافَتَاهُ المسك عليه جوار يقرأن القرآن بأحسن
__________
(1). أي يشير إلى قلة تلك الساعة وعدم امتدادها.
(2). الكثيب: الرمل المستطيل.
(3). راجع ج 17 ص 21

(18/118)


أَصْوَاتٍ سَمِعَهَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ فَإِذَا انْصَرَفُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ بِيَدِ مَا شَاءَ مِنْهُنَّ ثُمَّ يَمُرُّونَ عَلَى قَنَاطِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ إِلَى مَنَازِلِهِمْ مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهَا لِمَا يُحْدِثُ اللَّهُ لَهُمْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ) ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ تَحْتَ الْعَرْشِ سَبْعِينَ مَدِينَةً كُلُّ مَدِينَةٍ مِثْلُ مَدَائِنِكُمْ «1» هَذِهِ سَبْعِينَ مَرَّةً مَمْلُوءَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيُقَدِّسُونَهُ وَيَقُولُونَ فِي تَسْبِيحِهِمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِمَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِمَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَخَرَّجَ الْقَاضِي الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيُّ الْعِيسَوِيُّ مِنْ وَلَدِ عِيسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْعَثُ الْأَيَّامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى هَيْئَتِهَا وَيَبْعَثُ الْجُمْعَةَ زَهْرَاءَ مُنِيرَةً أَهْلُهَا يَحُفُّونَ بِهَا كَالْعَرُوسِ تُهْدَى إِلَى كَرِيمِهَا تُضِيءُ لَهُمْ يَمْشُونَ فِي ضَوْئِهَا، أَلْوَانُهُمْ كَالثَّلْجِ بَيَاضًا، وَرِيحُهُمْ يَسْطَعُ كَالْمِسْكِ، يَخُوضُونَ فِي جِبَالِ الْكَافُورِ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ الثَّقَلَانِ مَا يَطْرُقُونَ تَعَجُّبًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ لَا يُخَالِطُهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْمُؤَذِّنُونَ الْمُحْتَسِبُونَ («2». وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ (الْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةُ مَا بَيْنَهُمَا مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ) خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا (. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا. وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تُشْغَلُوا. وَصِلُوا الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ بِكَثْرَةِ ذِكْرِكُمْ لَهُ وَكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ تُرْزَقُوا وَتُنْصَرُوا وَتُؤْجَرُوا. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي عَامِي هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَمَاتِي وَلَهُ إِمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ اسْتِخْفَافًا بِهَا أَوْ جُحُودًا لَهَا فَلَا جَمَعَ الله شمله ولا بارك له
__________
(1). في: ح، س، ط، ل، هـ:" مثل دنياكم".
(2). أي الطالبون وجه الله وثوابه.

(18/119)


إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)

فِي أَمْرِهِ. أَلَا وَلَا صَلَاةَ لَهُ وَلَا زَكَاةَ لَهُ وَلَا حَجَّ لَهُ. أَلَا وَلَا صَوْمَ لَهُ وَلَا بِرَّ لَهُ حَتَّى يَتُوبَ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. أَلَا لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا وَلَا يَؤُمُّ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا وَلَا يَؤُمُّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إِلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ سُلْطَانٌ يَخَافُ سَيْفَهُ أَوْ سَوْطَهُ (. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَرَدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ الْحَجَّاجِ فَتَهَيَّأْتُ لِلذَّهَابِ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيْنَ أَذْهَبُ أُصَلِّي خَلْفَ هَذَا الْفَاجِرِ؟ فَقُلْتُ مَرَّةً: أَذْهَبُ، وَمَرَّةً لَا أَذْهَبُ، ثُمَّ أَجْمَعَ رَأْيِي عَلَى الذَّهَابِ، فَنَادَانِي مُنَادٍ مِنْ جَانِبِ الْبَيْتِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9]. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ثَوَابِ صَلَاتِكُمْ خَيْرٌ مِنْ لَذَّةِ لَهْوِكُمْ وَفَائِدَةِ تِجَارَتِكُمْ. الثَّانِي: مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِزْقِكُمُ الَّذِي قَسَمَهُ لَكُمْ خَيْرٌ مِمَّا أَصَبْتُمُوهُ مِنْ لَهْوِكُمْ وَتِجَارَتِكُمْ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ لِلَّذِينَ آمَنُوا. (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أَيْ خَيْرُ مَنْ رَزَقَ وَأَعْطَى، فَمِنْهُ فَاطْلُبُوا، وَاسْتَعِينُوا بِطَاعَتِهِ عَلَى نَيْلِ مَا عِنْدَهُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا والآخرة.