تفسير القرطبي

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)

[تفسير سورة التحريم]
سُورَةُ التَّحْرِيمِ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهِيَ اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً. وَتُسَمَّى سُورَةَ" النَّبِيِّ".
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التحريم (66): آيَةً 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ لله عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا، قَالَتْ فَتَوَاطَأْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا مَا دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ ريح مغافير! «1» أكلت مغافيرا؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ: (بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ). فَنَزَلَ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنْ تَتُوبا (لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ)، وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً [التحريم 3] لِقَوْلِهِ: (بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا). وَعَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ، فَسَقَتْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَرْبَةً. فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ وَقُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَقَوْلِي لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ لَا. فَقَوْلِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يوجد منه الريح- فإنه
__________
(1). سيذكر المؤلف رحمه الله معنى هذه الكلمة والكلمات الآتية في هذا الحديث.

(18/177)


سَيَقُولُ لَكِ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ. فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ. وَسَأَقُولُ ذَلِكَ لَهُ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ- قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِئَهُ بِالَّذِي قُلْتِ لِي، وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ، فَرَقًا «1» مِنْكِ. فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: (لَا) قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قال: (سقتني حفصة شربة عسل) قالت: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ فَقَالَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَسْقِيكَ مِنْهُ. قَالَ (لَا حَاجَةَ لِي بِهِ) قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ! وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ «2». قَالَتْ: قُلْتُ لَهَا اسْكُتِي. فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الَّتِي شَرِبَ عِنْدَهَا الْعَسَلَ حَفْصَةُ. وَفِي الْأُولَى زَيْنَبُ. وَرَوَى ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ سَوْدَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا هِيَ أُمُّ سَلَمَةَ، رَوَاهُ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ. وَقَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا كُلُّهُ جَهْلٌ أَوْ تَصَوُّرٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ. فَقَالَ بَاقِيَ نِسَائِهِ حَسَدًا وَغَيْرَةً لِمَنْ شَرِبَ ذَلِكَ عِنْدَهَا: إِنَّا لَنَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الْمَغَافِيرِ. وَالْمَغَافِيرُ: بَقْلَةٌ أَوْ صَمْغَةٌ مُتَغَيِّرَةُ الرَّائِحَةِ، فِيهَا حَلَاوَةٌ. وَاحِدُهَا مَغْفُورٌ، وَجَرَسَتْ: أَكَلَتْ. وَالْعُرْفُطُ: نَبْتٌ لَهُ رِيحٌ كَرِيحِ الْخَمْرِ. وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُعْجِبُهُ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ أَوْ يَجِدَهَا، وَيَكْرَهُ الرِّيحَ الْخَبِيثَةَ لِمُنَاجَاةِ الْمَلَكِ. فَهَذَا قَوْلٌ. وَقَوْلٌ آخَرُ- أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا لِأَجْلِ أَزْوَاجِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ. وَالْمَرْأَةُ أُمُّ شَرِيكٍ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ- إِنَّ الَّتِي حَرَّمَ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ، وَكَانَ قَدْ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ مَلِكُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هِيَ مِنْ كُورَةِ أَنْصِنَا «3» مِنْ بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ حَفْنُ فَوَاقَعَهَا فِي بَيْتِ حَفْصَةَ. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ وَلَدِهِ مَارِيَةَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَوَجَدَتْهُ حَفْصَةُ مَعَهَا- وَكَانَتْ حَفْصَةُ غَابَتْ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا- فَقَالَتْ لَهُ: تُدْخِلُهَا بَيْتِي!
__________
(1). قولها:" أن أبادئه"، أي أبدوه وأناديه وهو لدى الباب لم يدن منى بعد بالكلام الذي علمتنيه. و" فرقا" أي خوفا من لومك.
(2). أي منعناه شربة عسل.
(3). أنصنا (بالفتح ثم السكون وكسر الصاد المهملة والنون، مقصور): مدينة من نواحي الصعيد على شرقي النيل.

(18/178)


مَا صَنَعْتَ بِي هَذَا مِنْ بَيْنِ نِسَائِكَ إِلَّا مِنْ هَوَانِي عَلَيْكَ. فَقَالَ لَهَا: (لَا تَذْكُرِي هَذَا لِعَائِشَةَ فَهِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ قَرِبْتُهَا) قَالَتْ حَفْصَةُ: وَكَيْفَ تَحْرُمُ عَلَيْكَ وَهِيَ جَارِيَتُكَ؟ فَحَلَفَ لَهَا أَلَّا يَقْرَبَهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَذْكُرِيهِ لِأَحَدٍ). فَذَكَرَتْهُ لِعَائِشَةَ، فَآلَى لَا يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا، فَاعْتَزَلَهُنَّ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الْآيَةَ. الثَّانِيَةُ- أَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَوَّلُهَا. وَأَضْعَفُهَا أَوْسَطُهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" أَمَّا ضَعْفُهُ فِي السَّنَدِ فَلِعَدَمِ عَدَالَةِ رُوَاتِهِ، وَأَمَّا ضَعْفُهُ فِي مَعْنَاهُ فَلِأَنَّ رَدَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَوْهُوبَةِ لَيْسَ تَحْرِيمًا لَهَا، لِأَنَّ مَنْ رَدَّ مَا وُهِبَ لَهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، إِنَّمَا حَقِيقَةُ التَّحْرِيمِ بَعْدَ التَّحْلِيلِ. وَأَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ فَهُوَ أَمْثَلُ فِي السَّنَدِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ لَمْ يُدَوَّنْ فِي الصَّحِيحِ. وَرُوِيَ مُرْسَلًا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: (أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَاللَّهِ لَا آتِيَنَّكِ). فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ وَرَوَى مِثْلَهُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: رَاجَعَتْ عُمَرَ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ في شي فَاقْشَعَرَّ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: مَا كَانَ النِّسَاءُ هَكَذَا! قَالَتْ: بَلَى، وَقَدْ كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاجِعْنَهُ. فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَخَرَجَ إِلَى حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا: أَتُرَاجِعِينَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتِ: نَعَمْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَكْرَهُ مَا فَعَلْتُ. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَجَرَ نِسَاءَهُ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ حَفْصَةَ. وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَسَلِ وَأَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ زَيْنَبَ، وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ فِيهِ، فَجَرَى مَا جَرَى فَحَلَفَ أَلَّا يَشْرَبَهُ وَأَسَرَّ ذَلِكَ. وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْجَمِيعِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَ تُحَرِّمُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ وَلَمْ يَحْلِفْ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِيَمِينٍ عِنْدِنَا. وَلَا يُحَرِّمُ قَوْلُ الرَّجُلِ:" هَذَا عَلَيَّ حَرَامٌ" شَيْئًا حَاشَا الزَّوْجَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أُطْلِقَ حُمِلَ عَلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ دُونَ الْمَلْبُوسِ، وَكَانَتْ يَمِينًا توجب

(18/179)


الْكَفَّارَةَ. وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ يَمِينٌ فِي الْكُلِّ حَتَّى فِي الْحَرَكَةِ وَالْكَوْنِ. وَعَوَّلَ الْمُخَالِفُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْعَسَلَ فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ
[التحريم: 2] فَسَمَّاهُ يَمِينًا. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [المائدة: 87]، «1» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ «2» [يونس: 59]. فَذَمَّ اللَّهُ الْمُحَرِّمَ لِلْحَلَالِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ. وَلَمْ يَجْعَلْ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحَرِّمَ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَلَمْ يَنْوِ طَلَاقًا وَلَا ظِهَارًا فَهَذَا اللَّفْظُ يُوجِبُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ. وَلَوْ خَاطَبَ بِهَذَا اللَّفْظِ جَمْعًا مِنَ الزَّوْجَاتِ وَالْإِمَاءِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ طَعَامًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ كَفَّارَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. وَتَجِبُ بِذَلِكَ كَفَّارَةٌ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِزَوْجَتِهِ:" أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ" عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا: أحدها- لا شي عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَأَصْبَغُ. وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَتَحْرِيمِ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 87] وَالزَّوْجَةُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَمِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ»
[النحل: 116]. وَمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَهُ، وَلَا أَنْ يَصِيرَ بِتَحْرِيمِهِ حَرَامًا. وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ مَارِيَةَ لِيَمِينٍ تَقَدَّمَتْ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُهَا بَعْدَ الْيَوْمِ) فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، أَيْ لِمَ تَمْتَنِعُ مِنْهُ بسبب اليمين. يعني أقدم عليه وكفر.
__________
(1). راجع ج 6 ص (260)
(2). راجع ج 8 ص (354) [ ..... ]
(3). راجع ج 10 ص 195

(18/180)


ثانيها- أَنَّهَا يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْآيَةِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَإِنَّمَا هِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، يَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَرَّمَ جَارِيَتَهُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ- إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى- قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ فَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَصَيَّرَ الْحَرَامَ يَمِينًا. خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَثَالِثُهَا- أَنَّهَا تَجِبُ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ. وَالْآيَةُ تَرُدُّهُ عَلَى مَا يَأْتِي. وَرَابِعُهَا- هِيَ ظِهَارٌ، فَفِيهَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، قَالَهُ عُثْمَانُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ. وَخَامِسُهَا- أَنَّهُ إِنْ نَوَى الظِّهَارَ وَهُوَ يَنْوِي أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ كَتَحْرِيمِ ظَهْرِ أُمِّهِ كَانَ ظِهَارًا. وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا وَجَبَتْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَسَادِسُهَا- أَنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالزُّهْرِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ. وَسَابِعُهَا- أَنَّهَا طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ، قَالَهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ عَنْ مالك. وثامنها- أنها ثلات تَطْلِيقَاتٍ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَتَاسِعُهَا- هِيَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثٌ، وَيَنْوِي فِي غَيْرِ المدخول بها، قاله الحسن وعلي ابن زَيْدٍ وَالْحَكَمُ. وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَعَاشِرُهَا- هِيَ ثَلَاثٌ، وَلَا يَنْوِي بِحَالٍ وَلَا فِي مَحِلٍّ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ، «1» قَالَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْمَبْسُوطِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى.
__________
(1). كلمة" وإن لم يدخل" ليست في ابن العربي. وعبارة البحر لابي حيان (ج 8 ص 289):" هي ثلاث في الوجهين ولا ينوي في شي" ونسبه أيضا لعبد الملك بن الماجشون وابن أبى ليلى.

(18/181)


وَحَادِي عَشَرَهَا- هِيَ فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَاحِدَةٌ، وَفِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا ثَلَاثٌ، قَالَهُ أَبُو مُصْعَبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ «1». وَثَانِي عَشَرَهَا- أَنَّهُ إِنْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوِ الظِّهَارَ كَانَ مَا نَوَى. فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا. فَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ فَوَاحِدَةٌ. فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَتْ يَمِينًا وَكَانَ الرَّجُلُ مُولِيًا مِنَ امْرَأَتِهِ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَبِمِثْلِهِ قَالَ زُفَرُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِذَا نَوَى اثْنَتَيْنِ أَلْزَمْنَاهُ. وَثَالِثَ عَشَرَهَا- أَنَّهُ لَا تَنْفَعُهُ نِيَّةُ الظِّهَارِ وَإِنَّمَا يَكُونُ طَلَاقًا، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَرَابِعَ عَشَرَهَا- قَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ: يَكُونُ طَلَاقًا، فَإِنِ ارْتَجَعَهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ. وَخَامِسَ عَشَرَهَا- إِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَمَا أَرَادَ مِنْ أَعْدَادِهِ. وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ رَجْعِيَّةٌ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَسَادِسَ عَشَرَهَا- إِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثًا، وَإِنْ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً. وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَهِيَ يَمِينٌ. وَإِنْ لَمْ ينو شيئا فلا شي عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ. وَبِمِثْلِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا: إِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهِيَ وَاحِدَةٌ. وَسَابِعَ عَشَرَهَا- لَهُ نِيَّتُهُ وَلَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ وَاحِدَةٍ، قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يكن شي، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَرَأَيْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَهُوَ: الثَّامِنَ عَشَرَ- أَنَّ عَلَيْهِ عِتْقَ رَقَبَةٍ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهَا ظِهَارًا. وَلَسْتُ أَعْلَمَ لَهَا وَجْهًا وَلَا يَبْعُدُ «2» فِي الْمَقَالَاتِ عِنْدِي. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ
__________
(1). في ى:" محمد بن الحكم".
(2). في ابن العربي:" ولا يتعدد".

(18/182)


عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي جَعَلْتُ امْرَأَتِي عَلَيَّ حَرَامًا. فَقَالَ: كَذَبْتَ! لَيْسَتْ عَلَيْكَ بِحَرَامٍ، ثُمَّ تَلَا يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ عَلَيْكَ أَغْلَظُ الْكَفَّارَاتِ: عِتْقُ رَقَبَةٍ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، وَعَادَ إِلَى مَارِيَةَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ. الْخَامِسَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ وَلَا ظَاهِرٌ صَحِيحٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَتَجَاذَبَهَا الْعُلَمَاءُ لِذَلِكَ. فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَقَالَ: لَا حكم، فلا يلزم بها شي. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهَا يَمِينٌ، فَقَالَ: سَمَّاهَا اللَّهُ يَمِينًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: تَجِبُ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، فَبَنَاهُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِيهَا وَإِنْ «1» لَمْ تَكُنْ يَمِينًا. وَالثَّانِي- أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ عِنْدَهُ التَّحْرِيمُ، فَوَقَعَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَعْنَى. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، فَإِنَّهُ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى أَقَلِّ وُجُوهِهِ، والرجعية محرمة الوطي كَذَلِكَ، فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَلْزَمُ مَالِكًا، لقوله: إن الرجعية محرمة الوطي. وَكَذَلِكَ وَجْهُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا ثَلَاثٌ، فَحَمَلَهُ عَلَى أَكْبَرِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ظِهَارٌ، فَلِأَنَّهُ أَقَلُّ دَرَجَاتِ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ تَحْرِيمٌ لَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ، فَعَوَّلَ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُحَرِّمُ الْمُطَلَّقَةَ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ يُحَرِّمُهَا. وَأَمَّا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ احْتَاطَ بِأَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا، فَلَمَّا ارْتَجَعَهَا احْتَاطَ بِأَنْ يَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ ظِهَارٌ وَطَلَاقٌ فِي مَعْنَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، فَلَا وَجْهَ لِلِاحْتِيَاطِ فِيمَا لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ فِي الدَّلِيلِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُنْوَى فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تُبِينُهَا وَتُحَرِّمُهَا شَرْعًا إِجْمَاعًا. وَكَذَلِكَ قَالَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِاعْتِبَارِ نِيَّتِهِ: إِنَّ الْوَاحِدَةَ تَكْفِي قَبْلَ الدُّخُولِ فِي التَّحْرِيمِ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَكْفِي أَخْذًا بِالْأَقَلِّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ثَلَاثٌ فِيهِمَا، فَلِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالْحُكْمِ الْأَعْظَمِ، فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالثَّلَاثِ لَنَفَذَتْ فِي التي لم يدخل بها
__________
(1). في ابن العربي:" ولم تكن".

(18/183)


نُفُوذَهَا فِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا. وَمِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِثْلَهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الزَّوْجَةِ. وَأَمَّا فِي الامة فلا يلزم فيها شي من ذلك، إلا أن يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ عِنْدَ مَالِكٍ. وَذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الطَّلَاقَ لَكَانَ أَقَلَّهُ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ إِلَّا أَنْ يُعَدِّدَهُ. كَذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ التَّحْرِيمَ يَكُونُ أَقَلَّهُ إِلَّا أَنْ يُقَيِّدَهُ بِالْأَكْثَرِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، فَهَذَا نَصَّ عَلَى الْمُرَادِ. قُلْتُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَفْصَةَ لَمَّا خَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا بِجَارِيَتِهِ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَحْرُمُ عَلَيْكَ مَا حَرَّمْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَلَكِنْ عَلَيْكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ فِي تَحْرِيمِ الْعَسَلِ وَالْجَارِيَةِ أَيْضًا. فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْكَ مَا حَرَّمْتَهُ، وَلَكِنْ ضَمَمْتَ إِلَى التَّحْرِيمِ يَمِينًا فَكَفِّرْ عَنِ الْيَمِينِ. وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ ثُمَّ حَلَفَ، كَمَا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ مَعْنَاهُ فِي قِصَّةِ الْعَسَلِ عَنْ عُبَيْدِ ابن عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ عَسَلًا وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا، فَتَوَاطَأْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتِنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ إِنِّي لَأَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ! قَالَ: (لَا وَلَكِنْ شَرِبْتُ عَسَلًا وَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا). يَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِهِ. فَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (وَلَنْ أَعُودَ لَهُ عَلَى جِهَةِ التَّحْرِيمِ. وَبِقَوْلِهِ:) حَلَفْتُ) أَيْ بِاللَّهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ مُعَاتَبَتَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَحَوَالَتَهُ عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ يَعْنِي الْعَسَلَ الْمُحَرَّمَ بِقَوْلِهِ: (لَنْ أَعُودَ لَهُ). تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ أَيْ تَفْعَلُ ذَلِكَ طَلَبًا لِرِضَاهُنَّ. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ غَفُورٌ لِمَا أَوْجَبَ الْمُعَاتَبَةَ، رَحِيمٌ بِرَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ ذَنْبًا مِنَ الصَّغَائِرِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُعَاتَبَةٌ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى، وَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ صَغِيرَةٌ ولا كبيرة.

(18/184)


قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)

[سورة التحريم (66): آية 2]
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) تَحْلِيلُ الْيَمِينِ كَفَّارَتُهَا. أَيْ إِذَا أَحْبَبْتُمُ اسْتِبَاحَةَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ" الْمَائِدَةِ": فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ «1» [المائدة: 89]. وَيَتَحَصَّلُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لِلْيَمِينِ لَا لِلتَّحْرِيمِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَاهُ يَمِينًا فِي كُلِّ شي، وَيَعْتَبِرُ الِانْتِفَاعَ الْمَقْصُودَ فِيمَا يُحَرِّمُهُ، فَإِذَا حَرَّمَ طَعَامًا فَقَدْ حَلَفَ عَلَى أَكْلِهِ، أَوْ أَمَةً فَعَلَى وَطْئِهَا، أَوْ زَوْجَةً فَعَلَى الْإِيلَاءِ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ فَظِهَارٌ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَطَلَاقٌ بَائِنٌ. وَكَذَلِكَ إِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. وَإِنْ قَالَ: نَوَيْتُ الْكَذِبَ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ بِإِبْطَالِ الْإِيلَاءِ. وَإِنْ قَالَ: كُلُّ حَلَالٍ عَلَيْهِ حَرَامٌ، فَعَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِذَا لَمْ يَنْوِ، وَإِلَّا فَعَلَى مَا نَوَى. وَلَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ يَمِينًا وَلَكِنْ سَبَبًا فِي الْكَفَّارَةِ فِي النِّسَاءِ «2» وَحْدَهُنَّ. وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ رَجْعِيٌّ عِنْدَهُ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَهُ حَنِثَ وَيَبَرَّ بِالْكَفَّارَةِ. الثَّانِيَةُ- فَإِنْ حَرَّمَ أَمَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا حَرَّمَ للرجل عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا. وَقَالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. الثَّالِثَةُ- قِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: لَمْ يُكَفِّرْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّمَا أَمَرَ بِهَا الْأُمَّةَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1). راجع ج 6 ص 264.
(2). زيادة عن الكشاف يقتضيها السياق.

(18/185)


وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)

ثُمَّ إِنَّ الْأُمَّةَ تَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَفَّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَ رَقَبَةً فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: أَيْ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحْلِيلَ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَبَيَّنَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ «1» لَهُ [الأحزاب: 38] أَيْ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُ فِي النِّسَاءِ الْمُحَلَّلَاتِ. أَيْ حَلَّلَ لَكُمْ مِلْكَ الْأَيْمَانِ، فَلِمَ تُحَرِّمُ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِكَ مَعَ تَحْلِيلِ اللَّهِ إِيَّاهَا لَكَ. وَقِيلَ: تَحِلَّةُ الْيَمِينِ الِاسْتِثْنَاءُ، أَيْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُخْرِجَ عَنِ الْيَمِينِ. ثُمَّ عِنْدَ قَوْمٍ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْأَيْمَانِ مَتَى شَاءَ وَإِنْ تَحَلَّلَ مُدَّةً. وَعِنْدَ الْمُعْظَمِ لَا يَجُوزُ إِلَّا مُتَّصِلًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اسْتَثْنِ بَعْدَ هَذَا فِيمَا تَحْلِفُ عَلَيْهِ. وَتَحِلَّةُ الْيَمِينِ تَحْلِيلُهَا بِالْكَفَّارَةِ، وَالْأَصْلُ تَحْلِلَةٌ، فَأُدْغِمَتْ. وَتَفْعِلَةٌ مِنْ مَصَادِرِ فَعَّلَ، كَالتَّسْمِيَةِ وَالتَّوْصِيَةِ. فَالتَّحِلَّةُ تَحْلِيلُ الْيَمِينِ. فَكَأَنَّ اليمين عقد والكفارة حل. وقيل: النحلة الْكَفَّارَةُ، أَيْ إِنَّهَا تُحِلُّ لِلْحَالِفِ مَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ، أَيْ إِذَا كَفَّرَ صَارَ كَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ. (وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ) وَلِيُّكُمْ وَنَاصِرُكُمْ بِإِزَالَةِ الْحَظْرِ فِيمَا تُحَرِّمُونَهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَبِالتَّرْخِيصِ لَكُمْ فِي تَحْلِيلِ أَيْمَانِكُمْ بِالْكَفَّارَةِ، وَبِالثَّوَابِ عَلَى مَا تخرجونه في الكفارة.

[سورة التحريم (66): آية 3]
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) أَيْ وَاذْكُرْ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى حَفْصَةَ حَدِيثًا" يَعْنِي تَحْرِيمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَاسْتِكْتَامِهِ إِيَّاهَا ذَلِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسَرَّ إِلَيْهَا أَنَّ أَبَاكِ وَأَبَا عَائِشَةَ يَكُونَانِ خَلِيفَتَيَّ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ: أَسَرَّ أَمْرَ الْخِلَافَةِ بَعْدَهُ إِلَى حَفْصَةَ فَذَكَرَتْهُ حَفْصَةُ. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً
__________
(1). راجع ج 14 ص 195

(18/186)


قَالَ: اطَّلَعَتْ حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: (لَا تُخْبِرِي عَائِشَةَ) وَقَالَ لَهَا (إِنَّ أَبَاكِ وَأَبَاهَا سَيَمْلِكَانِ أَوْ سَيَلِيَانِ بَعْدِي فَلَا تُخْبِرِي عَائِشَةَ) قَالَ: فَانْطَلَقَتْ حَفْصَةُ فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةَ فَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَعَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ. قَالَ أَعْرَضَ عَنْ قَوْلِهِ: (إِنَّ أَبَاكِ وَأَبَاهَا يَكُونَانِ بَعْدِي). كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْشُرَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ. (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أَيْ أَخْبَرَتْ بِهِ عَائِشَةَ لِمُصَافَاةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، وَكَانَتَا مُتَظَاهِرَتَيْنِ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهَا قَدْ نَبَّأَتْ بِهِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ فَلَمَّا أَنْبَأَتْ وَهُمَا لُغَتَانِ: أَنْبَأَ وَنَبَّأَ. وَمَعْنَى عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ عَرَّفَ حَفْصَةَ بَعْضَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ بِمَا نَهَاهَا عَنْ أَنْ تُخْبِرَهَا، وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ تَكَرُّمًا، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَخْبَرَهَا بِبَعْضِ مَا قَالَتْ لِعَائِشَةَ، وَهُوَ حَدِيثُ أُمِّ وَلَدِهِ وَلَمْ يُخْبِرْهَا بِبَعْضٍ وَهُوَ قَوْلُ حَفْصَةَ لِعَائِشَةَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ سَيَمْلِكَانِ بَعْدَهُ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ عَرَّفَ مُشَدَّدًا، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أَيْ لَمْ يُعَرِّفْهَا إِيَّاهُ. وَلَوْ كَانَتْ مُخَفَّفَةً لَقَالَ فِي ضِدِّهِ وَأَنْكَرَ بَعْضًا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ (عَرَفَ) مُخَفَّفَةً. قَالَ عَطَاءٌ: كَانَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ إِذَا قَرَأَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ عَرَّفَ مُشَدَّدَةً حَصَبَهُ بِالْحِجَارَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (عَرَفَ بَعْضَهُ) بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ غَضِبَ فِيهِ وَجَازَى عَلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ: لا عرفن لَكَ مَا فَعَلْتَ، أَيْ لَأُجَازِيَنَّكَ عَلَيْهِ. وَجَازَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً. فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ كَانَ فِي آلِ الْخَطَّابِ خَيْرٌ لَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَكِ. فَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ بِمُرَاجَعَتِهَا وَشَفَعَ فِيهَا. وَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ شَهْرًا، وَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةِ مَارِيَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ التَّحْرِيمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: هَمَّ بِطَلَاقِهَا حَتَّى قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: (لَا تُطَلِّقُهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ

(18/187)


إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)

قَوَّامَةٌ وَإِنَّهَا مِنْ نِسَائِكَ فِي الْجَنَّةِ) فَلَمْ يُطَلِّقْهَا. (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أَيْ أَخْبَرَ حَفْصَةَ بِمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. (قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا) يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي. فَظَنَّتْ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي الذي لا يخفى عليه شي. وَهَذَا سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ أَنْبَأَ. وَ (نَبَّأَ) الأول تعدى إلى مفعول، وَ (نَبَّأَ) الثَّانِي تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ نَبَّأَ وَأَنْبَأَ إِذَا لَمْ يَدْخُلَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ جَازَ أَنْ يُكْتَفَى فِيهِمَا بِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَبِمَفْعُولَيْنِ، فَإِذَا دَخَلَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ تعدى كل واحد منهما إلى ثلاثة مفعولين. وَلَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الِاثْنَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ، لِأَنَّ الثَّالِثَ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُقْتَصَرُ دُونَهُ، كَمَا لَا يُقْتَصَرُ عَلَى المبتدأ دون الخبر.

[سورة التحريم (66): آية 4]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ) يَعْنِي حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ، حَثَّهُمَا عَلَى التَّوْبَةِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمَا مِنَ الْمَيْلِ إِلَى خِلَافِ مَحَبَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أَيْ زَاغَتْ وَمَالَتْ عَنِ الْحَقِّ. وَهُوَ أَنَّهُمَا أَحَبَّتَا مَا كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اجْتِنَابِ جَارِيَتِهِ وَاجْتِنَابِ الْعَسَلِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحِبُّ الْعَسَلَ وَالنِّسَاءَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَالَتْ قُلُوبُهُمَا بِأَنْ سَرَّهُمَا أَنْ يَحْتَبِسَ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ، فَسَرَّهُمَا مَا كَرِهَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: فَقَدْ مَالَتْ قُلُوبُكُمَا إِلَى التَّوْبَةِ. وَقَالَ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما
وَلَمْ يَقُلْ: فَقَدْ صَغَى قلبا كما، وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرُوا الشَّيْئَيْنِ، مِنَ اثْنَيْنِ جَمَعُوهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يُشْكِلُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْمَائِدَةِ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «1» [المائدة: 38]. وَقِيلَ: كُلَّمَا ثَبَتَتِ الْإِضَافَةُ فِيهِ مَعَ التَّثْنِيَةِ فَلَفْظُ الْجَمْعِ أَلْيَقُ بِهِ، لِأَنَّهُ أَمْكَنُ وَأَخَفُّ. وليس قوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما
__________
(1). راجع ج 6 ص 173

(18/188)


جَزَاءً لِلشَّرْطِ، لِأَنَّ هَذَا الصَّغْوَ كَانَ سَابِقًا، فَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ. أَيْ إِنْ تَتُوبَا كَانَ خَيْرًا لَكُمَا، إِذْ قَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أَيْ تَتَظَاهَرَا وَتَتَعَاوَنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْإِيذَاءِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَكَثْتُ سَنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ فَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ «1» لِحَاجَةٍ لَهُ، فَوَقَفْتُ حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أَزْوَاجِهِ؟ فَقَالَ: تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ. قَالَ فَقُلْتُ له: والله إن كنت لأريد أن سألك عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ فَسَلْنِي عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتُ أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُكَ ... وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ) أَيْ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ، فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ التظاهر منهما. (وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، لِأَنَّهُمَا أَبَوَا عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَقَدْ كَانَا عَوْنًا لَهُ عَلَيْهِمَا. وَقِيلَ: صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ. وَصَالِحٌ: اسْمُ جِنْسٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 2]، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، قَالَهُ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادَةَ وَقَتَادَةُ وَسُفْيَانُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ. السُّدِّيُّ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ لَفْظُ الْوَاحِدِ وَإِنَّمَا هُوَ صَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ: فَأَضَافَ الصَّالِحِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكُتِبَ بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَاحِدٌ فِيهِ. كَمَا جَاءَتْ أَشْيَاءُ فِي الْمُصْحَفِ مُتَنَوِّعٌ فِيهَا حُكْمُ اللَّفْظِ دُونَ وَضْعِ الْخَطِّ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ قَالَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ «2» بِالْحَصَى وَيَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ «3» وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ- وَذَلِكَ قَبْلَ أن يؤمرن بالحجاب- فقال عمر:
__________
(1). الأراك: الشجر، واحدته أراكة.
(2). أي يضربون به الأرض، كفعل المهموم المفكر.
(3). ما بين المربعين ساقط من أ، ح، س.

(18/189)


فقلت لا علمن ذَلِكَ الْيَوْمَ، قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يا بنة أَبِي بَكْرٍ، أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تؤذي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَقَالَتْ: مَالِي وَمَالَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ! «1» قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَقُلْتُ لَهَا: يَا حَفْصَةُ، أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شأنك أن تؤذي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُحِبُّكِ، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتِ: هُوَ فِي خِزَانَتِهِ فِي الْمَشْرُبَةِ. فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ «2» الْمَشْرُبَةِ مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ، وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْحَدِرُ. فَنَادَيْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغَرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغَرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَرْبِ عُنُقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا، وَرَفَعْتُ صَوْتِي فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنِ ارْقَهْ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ، وَإِذَا أَفِيقٌ «3» مُعَلَّقٌ- قَالَ- فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ. قَالَ: (ما يبكيك يا بن الخطاب)؟ قلت يا نبي الله، وما لي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى! وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكَسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). أَيُّ عليك بوعظ بنتك حفصة. والعيبة: وعاه يجعل الإنسان فيه أفضل ثيابه ونفيس متاعه، فثبهت ابنته بها.
(2). الأسكفة: العتبة. [ ..... ]
(3). الأفيق: هو الجلد الذي لم يتم دباغه.

(18/190)


وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ! فَقَالَ: (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا) قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ حِينَ دَخَلْتُ وَأَنَا أَرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ، فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلَائِكَتُهُ وَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ. وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ- وَأَحْمَدُ اللَّهَ- بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ «1» وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، آيَةُ التَّخْيِيرِ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ [التحريم: 5]. وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ. وَكَانَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ عَلَى سَائِرِ نِسَاءِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قَالَ: (لَا). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي دَخَلَتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرُهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِنْ شِئْتَ). فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى تَحَسَّرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ، وَحَتَّى كَشَرَ «2» فَضَحِكَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا. ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلْتُ، فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بِالْجِذْعِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا يَمَسُّهُ بِيَدِهِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنْتَ فِي الْغُرْفَةِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. قَالَ: (إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ) فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ. وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ «3» مِنْهُمْ [النساء: 83]. فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّخْيِيرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجِبْرِيلُ فِيهِ لُغَاتٌ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «4». وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْلاهُ وَالْمَعْنَى: اللَّهُ وَلِيُّهُ وَجِبْرِيلُ وَلِيُّهُ، فَلَا يُوقَفُ عَلَى مَوْلاهُ وَيُوقَفُ عَلَى جِبْرِيلُ وَيَكُونُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ مُبْتَدَأٌ وَالْمَلائِكَةُ مَعْطُوفًا عليه. وظَهِيرٌ خبرا،
__________
(1). زيادة من صحيح مسلم.
(2). أي أبدى أسنانه تبسما.
(3). راجع ج 5 ص (291)
(4). راجع ج 2 ص 37

(18/191)


وَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ. وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَهُ الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: عُمَرُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَرَوَى شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: إِنَّ صَالِحَ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلِيٌّ. عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ). وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا مِمَّا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَجِبْرِيلُ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ. وَالْخَبَرُ ظَهِيرٌ وَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ أَيْضًا. فَيُوقَفُ عَلَى هَذَا عَلَى مَوْلاهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْلاهُ فَيُوقَفُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيَكُونُ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ابْتِدَاءً وَخَبَرًا. وَمَعْنَى ظَهِيرٌ أَعْوَانٌ. وَهُوَ بِمَعْنَى ظُهَرَاءَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَسُنَ أُولئِكَ، رَفِيقاً «1» [النساء: 69]. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَدْ جَاءَ فَعِيلٌ لِلْكَثْرَةِ كقوله تعالى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ «2» [المعارج: 11 - 10]. وَقِيلَ: كَانَ التَّظَاهُرُ مِنْهُمَا فِي التَّحَكُّمِ عَلَى النبي صلي اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّفَقَةِ، وَلِهَذَا آلَى مِنْهُنَّ شَهْرًا وَاعْتَزَلَهُنَّ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ لَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، قَالَ: فَأُذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا- قَالَ- فَقَالَ لَأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: (هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ). فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلَاهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ! فَقُلْنَ: وَاللَّهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْدَهُ. ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ حَتَّى بَلَغَ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 29 - 28] الحديث. وقد ذكراه في سورة «3» " الأحزاب".
__________
(1). راجع ج 5 ص (271)
(2). راجع ص 284 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 14 ص 163

(18/192)


عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

[سورة التحريم (66): آية 5]
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «1». ثُمَّ قِيلَ: كُلُّ عَسى فِي الْقُرْآنِ وَاجِبٌ إِلَّا هَذَا. وَقِيلَ: هُوَ وَاجِبٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ وَهُوَ التَّطْلِيقُ وَلَمْ يُطَلِّقْهُنَّ. (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ) لِأَنَّكُنَّ لَوْ كُنْتُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ مَا طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَعْنَاهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ طَلَّقَهُنَّ فِي الدُّنْيَا أَنْ يُزَوِّجَهُ فِي الدنيا نساء خيرا منهن. وقرى" أَنْ يُبَدِّلَهُ" بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ. وَالتَّبْدِيلُ وَالْإِبْدَالُ بِمَعْنًى، كَالتَّنْزِيلِ وَالْإِنْزَالِ. وَاللَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ كَانَ لَا يُطَلِّقُهُنَّ، وَلَكِنْ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَهُنَّ أَبْدَلَهُ خَيْرًا مِنْهُنَّ تَخْوِيفًا لَهُنَّ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ «2» [محمد: 38]. وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْقُدْرَةِ وَتَخْوِيفٌ لَهُمْ، لَا أَنَّ فِي الْوُجُودِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُسْلِماتٍ) يَعْنِي مُخْلِصَاتٍ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُسْلِمَاتٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ. (مُؤْمِناتٍ) مُصَدِّقَاتٍ بِمَا أُمِرْنَ بِهِ وَنُهِينَ عَنْهُ. (قانِتاتٍ) مُطِيعَاتٍ. وَالْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «3». (تائِباتٍ) أَيْ مِنْ ذُنُوبِهِنَّ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: رَاجِعَاتٌ إِلَى أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارِكَاتٌ لِمَحَابِّ أَنْفُسِهِنَّ. (عابِداتٍ) أَيْ كَثِيرَاتِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ عِبَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ التوحيد. (سائِحاتٍ) صائبات، قاله ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَيَمَانُ: مُهَاجِرَاتٌ. قَالَ زَيْدٌ: وَلَيْسَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). راجع ص 191 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 16 ص (258)
(3). راجع ج 2 ص 86 وج 3 ص 213

(18/193)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)

سِيَاحَةٌ إِلَّا الْهِجْرَةَ. وَالسِّيَاحَةُ الْجَوَلَانُ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْقُتَبِيُّ وَغَيْرُهُمَا: سُمِّيَ الصَّائِمُ سَائِحًا لِأَنَّ السَّائِحَ لَا زَادَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْ حَيْثُ يَجِدُ الطَّعَامَ. وَقِيلَ: ذَاهِبَاتٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ سَاحَ الْمَاءُ إذا ذهب. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" بَرَاءَةَ" «1» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) أَيْ مِنْهُنَّ ثَيِّبٌ وَمِنْهُنَّ بِكْرٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الثَّيِّبُ ثَيِّبًا لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى زَوْجِهَا إِنْ أَقَامَ مَعَهَا، أَوْ إِلَى غَيْرِهِ إِنْ فَارَقَهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا ثَابَتْ إِلَى بَيْتِ أَبَوَيْهَا. وَهَذَا أَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ ثَيِّبٍ تَعُودُ إِلَى زَوْجٍ. وَأَمَّا الْبِكْرُ فَهِيَ الْعَذْرَاءُ، سُمِّيَتْ بِكْرًا لِأَنَّهَا عَلَى أَوَّلِ حَالَتِهَا الَّتِي خُلِقَتْ بِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَرَادَ بِالثَّيِّبِ مِثْلَ آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَبِالْبِكْرِ مِثْلَ مَرْيَمَ بنة عِمْرَانَ. قُلْتُ: وَهَذَا إِنَّمَا يَمْشِي عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّبْدِيلَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ لَوْ طَلَّقَهُنَّ فِي الدُّنْيَا زَوَّجَهُ فِي الآخرة خيرا منهن. والله أعلم.

[سورة التحريم (66): آية 6]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ- وَهِيَ الْأَمْرُ بِوِقَايَةِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ النَّارَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ قُوا أَنْفُسَكُمْ، وَأَهْلُوكُمْ فَلْيَقُوا أَنْفُسَهُمْ نَارًا. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأْمُرُوا أَهْلِيكُمْ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ حَتَّى يَقِيَهُمُ اللَّهُ بِكُمْ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: قُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَفْعَالِكُمْ وَقُوا أَهْلِيكُمْ بِوَصِيَّتِكُمْ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالْفِقْهُ الَّذِي يُعْطِيهِ الْعَطْفُ الَّذِي يَقْتَضِي التَّشْرِيكُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، كقوله:
علفتها تبنا وماء باردا «2»
__________
(1). راجع ج 8 ص 269.
(2). رجز مشهور لم يعرف قائله. وتمامه:
حتى شتت همالة عيناها

راجع كتاب الانصاف وشرح الشواهد. وج 6 ص 95.

(18/194)


وَكَقَوْلِهِ:
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
فَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ بِالطَّاعَةِ، وَيُصْلِحَ أَهْلَهُ إِصْلَاحَ الرَّاعِي لِلرَّعِيَّةِ. فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ (. وَعَنْ هَذَا عَبَّرَ الْحَسَنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَمَّا قَالَ: قُوا أَنْفُسَكُمْ دَخَلَ فِيهِ الْأَوْلَادُ، لِأَنَّ الْوَلَدَ بَعْضٌ مِنْهُ. كَمَا دَخَلَ فِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ «1» [النور: 61] فَلَمْ يُفْرَدُوا بِالذِّكْرِ إِفْرَادَ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ. فَيُعَلِّمُهُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَيُجَنِّبُهُ الْمَعَاصِيَ وَالْآثَامَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (حَقُّ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ وَيُعَلِّمَهُ الْكِتَابَةَ وَيُزَوِّجَهُ إِذَا بَلَغَ). وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ). وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ). خَرَّجَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ فَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا). وَكَذَلِكَ يُخْبِرُ أَهْلَهُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ وَوُجُوبِ الصِّيَامِ وَوُجُوبِ الْفِطْرِ إِذَا وَجَبَ، مُسْتَنِدًا فِي ذَلِكَ إِلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوْتَرَ يَقُولُ: (قُومِي فَأَوْتِرِي يَا عَائِشَةُ). وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى فَأَيْقَظَ أَهْلَهُ فَإِنْ لَمْ تَقُمْ رَشَّ وَجْهَهَا بِالْمَاءِ. رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ تُصَلِّي وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِذَا لَمْ يَقُمْ رَشَّتْ عَلَى وَجْهِهِ مِنَ الْمَاءِ (. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ (. وَيَدْخُلُ هَذَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى «2» [المائدة: 2]. وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: يَا رَسُولَ
__________
(1). راجع ج 12 ص (314) [ ..... ]
(2). راجع ج 6 ص 46

(18/195)


الله، نقي أنفسنا، فكيف لنبإ علينا؟. فَقَالَ: (تَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ وَتَأْمُرُونَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ). وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ذَلِكَ حَقٌّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَعَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ. قَالَ الْكِيَا: فَعَلَيْنَا تَعْلِيمُ أَوْلَادِنَا وَأَهْلِينَا الدِّينَ وَالْخَيْرَ، وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنَ الْأَدَبِ. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ «1» عَلَيْها [طه: 132]. وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ «2» الْأَقْرَبِينَ. [الشعراء: 214]. وَفِي الْحَدِيثِ:" مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ". (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" القول فيه «3». (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الزَّبَانِيَةَ غِلَاظَ الْقُلُوبِ لَا يَرْحَمُونَ إِذَا اسْتُرْحِمُوا، خُلِقُوا مِنَ الْغَضَبِ، وَحُبِّبَ إِلَيْهِمْ عَذَابُ الْخَلْقِ كَمَا حُبِّبَ لِبَنِي آدَمَ أَكْلُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. شِدادٌ أَيْ شِدَادُ الْأَبْدَانِ. وَقِيلَ: غِلَاظُ الْأَقْوَالِ شِدَادُ الْأَفْعَالِ. وَقِيلَ غِلَاظٌ فِي أَخْذِهِمْ أَهْلَ النَّارِ شِدَادٌ عَلَيْهِمْ. يُقَالُ: فُلَانٌ شَدِيدٌ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ قَوِيٌّ عَلَيْهِ يُعَذِّبُهُ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْغِلَاظِ ضَخَامَةَ أَجْسَامِهِمْ، وَبِالشِّدَّةِ الْقُوَّةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ. وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في خَزَنَةِ جَهَنَّمَ: (مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْ أَحَدِهِمْ كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) أَيْ لَا يُخَالِفُونَهُ فِي أَمْرِهِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ. (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) أَيْ فِي وَقْتِهِ، فَلَا يُؤَخِّرُونَهُ وَلَا يُقَدِّمُونَهُ. وَقِيلَ أَيْ لَذَّتُهُمْ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، كَمَا أَنَّ سُرُورَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ، ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ التَّكْلِيفُ غَدًا. وَلَا يَخْفَى مُعْتَقَدُ أَهْلِ الْحَقِّ فِي أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ الْعَبْدَ الْيَوْمَ وَغَدًا، وَلَا يُنْكَرُ التَّكْلِيفُ فِي حَقِّ الملائكة. ولله أن يفعل ما يشاء.
__________
(1). راجع ج 11 ص (263)
(2). راجع ج 13 ص (143)
(3). راجع ج 1 ص 235

(18/196)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)

[سورة التحريم (66): آية 7]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) فَإِنَّ عُذْرَكُمْ لَا يَنْفَعُ. وَهَذَا النَّهْيُ لِتَحْقِيقِ الْيَأْسِ. (إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فِي الدُّنْيَا. وَنَظِيرُهُ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الروم: 57]. وقد تقدم».

[سورة التحريم (66): آية 8]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ أَمْرٌ بِالتَّوْبَةِ وَهِيَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ وَكُلِّ الْأَزْمَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا وَالْقَوْلُ فِيهَا فِي" النِّسَاءِ" وَغَيْرِهَا «2». تَوْبَةً نَصُوحاً اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الْعُلَمَاءِ وَأَرْبَابِ الْقُلُوبِ فِي التَّوْبَةِ النَّصُوحِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ قَوْلًا، فَقِيلَ: هِيَ الَّتِي لا عودة بعدها كمالا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَرَفَعَهُ مُعَاذٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: النَّصُوحُ الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ. وَقِيلَ الْخَالِصَةُ، يُقَالُ: نَصَحَ أَيْ أَخْلَصَ لَهُ الْقَوْلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النَّصُوحُ أَنْ يُبْغِضَ الذَّنْبَ الَّذِي أَحَبَّهُ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْهُ إِذَا ذَكَرَهُ. وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي لَا يَثِقُ بِقَبُولِهَا وَيَكُونُ عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا. وَقِيلَ: هِيَ التي لا يحتاج
__________
(1). راجع ج 14 ص (49)
(2). راجع ج 5 ص 90

(18/197)


مَعَهَا إِلَى تَوْبَةٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ النَّدَمُ بِالْقَلْبِ، وَالِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالِاطْمِئْنَانُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ .. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ التَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ، وَلَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: خَوْفُ أَلَّا تُقْبَلَ، وَرَجَاءُ أَنْ تُقْبَلَ، وَإِدْمَانُ الطَّاعَاتِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَوْبَةٌ تَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَإِقْلَاعٌ بِالْأَبْدَانِ، وَإِضْمَارُ تَرْكِ الْعَوْدِ بِالْجِنَانِ، وَمُهَاجَرَةُ سَيِّئِ الْخِلَّانِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَلَامَةُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ أَرْبَعَةٌ: الْقِلَّةُ وَالْعِلَّةُ وَالذِّلَّةُ وَالْغُرْبَةُ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الذَّنْبُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَلَا يَزَالُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ. وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ السِّمَاكِ: أَنْ تَنْصِبَ الذَّنْبَ الَّذِي أَقْلَلْتَ فِيهِ الْحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ أَمَامَ عَيْنِكَ وَتَسْتَعِدُّ لِمُنْتَظِرِكَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: هُوَ أَنْ تَضِيقَ عَلَيْكَ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَتَضِيقَ عَلَيْكَ نَفْسُكَ، كَالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا «1». وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ: هِيَ تَوْبَةٌ لَا لِفَقْدِ عِوَضٍ، لِأَنَّ مَنْ أَذْنَبَ فِي الدُّنْيَا لِرَفَاهِيَةِ نَفْسِهِ ثُمَّ تَابَ طَلَبًا لِرَفَاهِيَتِهَا فِي الْآخِرَةِ، فَتَوْبَتُهُ عَلَى حِفْظِ نَفْسِهِ لَا لِلَّهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ الْمِصْرِيُّ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ هِيَ رَدُّ الْمَظَالِمِ، وَاسْتِحْلَالُ الْخُصُومِ، وَإِدْمَانُ الطَّاعَاتِ. وَقَالَ رُوَيْمٌ: هُوَ أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ وَجْهًا بِلَا قَفًا، كَمَا كُنْتَ لَهُ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ قَفًا بِلَا وَجْهٍ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: عَلَامَةُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ ثَلَاثٌ: قِلَّةُ الْكَلَامِ، وَقِلَّةُ الطَّعَامِ، وَقِلَّةُ الْمَنَامِ. وَقَالَ شَقِيقٌ: هُوَ أَنْ يُكْثِرَ صَاحِبُهَا لِنَفْسِهِ الْمَلَامَةَ، وَلَا يَنْفَكَّ مِنَ النَّدَامَةِ، لِيَنْجُوَ مِنْ آفَاتِهَا بِالسَّلَامَةِ. وَقَالَ سَرِيٌّ السَّقَطِيُّ: لَا تَصْلُحُ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ إِلَّا بِنَصِيحَةٍ النَّفْسِ والمؤمنين، لان من صحب تَوْبَتُهُ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مِثْلَهُ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ هُوَ أَنْ يَنْسَى الذَّنْبَ فَلَا يَذْكُرُهُ أَبَدًا، لِأَنَّ مَنْ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ صَارَ مُحِبًّا لِلَّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ نَسِيَ مَا دُونَ اللَّهِ. وَقَالَ ذُو الْأُذُنَيْنِ: «2» هُوَ أن يكون
__________
(1). الثلاثة الذين خلفوا هم: كعب بن مالك، مرارة بن ربيعة العامري، هلال بن أمية الواقفي. راجع ج 8 ص 282 وج 2 ص 907 من سيرة ابن هشام طبع أو ربا.
(2). ذو الأذنين: لقب أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك قيل: معناه الحض على حسن الاستماع والوعى. وقيل: إن هذا القول من جملة مزحه صلوات الله وسلامه عليه.

(18/198)


لِصَاحِبِهَا دَمْعٌ مَسْفُوحٌ، وَقَلْبٌ عَنِ الْمَعَاصِي جَمُوحٌ. وَقَالَ فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ: عَلَامَتُهَا ثَلَاثٌ: مُخَالَفَةُ الْهَوَى، وَكَثْرَةُ الْبُكَاءِ، وَمُكَابَدَةُ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: هِيَ التَّوْبَةُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا تَوْبَةَ لَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَجَبَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ أَنْ يَتُوبَ). وَعَنْ حُذَيْفَةَ: بِحَسْبَ الرَّجُلِ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ يَعُودَ فِيهِ. وَأَصْلُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنَ الْخُلُوصِ، يُقَالُ: هَذَا عَسَلٌ نَاصِحٌ إِذَا خَلَصَ مِنَ الشَّمْعِ. وَقِيلَ: هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّصَاحَةِ وَهِيَ الْخِيَاطَةُ. وَفِي أَخْذِهَا مِنْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ قَدْ أَحْكَمَتْ طَاعَتَهُ وَأَوْثَقَتْهَا كَمَا يُحْكِمُ الْخَيَّاطُ الثَّوْبَ بِخِيَاطَتِهِ وَيُوثِقُهُ. وَالثَّانِي- لِأَنَّهَا قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَلْصَقَتْهُ بِهِمْ، كَمَا يَجْمَعُ الْخَيَّاطَ الثَّوْبَ وَيُلْصِقُ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ نَصُوحاً بِفَتْحِ النُّونِ، عَلَى نَعْتِ التَّوْبَةِ، مِثْلَ امْرَأَةٍ صَبُورٍ، أَيْ تَوْبَةً بَالِغَةً فِي النُّصْحِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَخَارِجَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالضَّمِّ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: تَوْبَةَ نُصْحٍ لِأَنْفُسِكُمْ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصُوحاً، جَمْعُ نُصْحٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، يُقَالُ: نَصَحَ نَصَاحَةً وَنُصُوحًا. وَقَدْ يَتَّفِقُ فَعَالَةُ وَفُعُولٌ فِي الْمَصَادِرِ، نَحْوَ الذَّهَابِ وَالذُّهُوبِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَرَادَ تَوْبَةً ذَاتِ نُصْحٍ، يُقَالُ: نَصَحْتُ نُصْحًا وَنَصَاحَةً وَنُصُوحًا. الثَّانِيَةُ- فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُتَابُ مِنْهَا وَكَيْفَ التَّوْبَةُ مِنْهَا. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الذَّنْبُ الَّذِي تَكُونُ مِنْهُ التَّوْبَةُ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِلَّهِ أَوْ لِلْآدَمِيِّينَ. فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ كَتَرْكِ صَلَاةٍ فَإِنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَى النَّدَمِ قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنْهَا. وَهَكَذَا إِنْ كَانَ تَرْكَ صَوْمٍ أَوْ تَفْرِيطًا فِي الزَّكَاةِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَتْلَ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَأَنْ يُمَكِّنَ مِنَ الْقِصَاصِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَكَانَ مَطْلُوبًا بِهِ. وَإِنْ كَانَ قَذْفًا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَبْذُلُ ظَهْرَهُ لِلْجَلْدِ إِنْ كَانَ مَطْلُوبًا بِهِ. فَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ كَفَاهُ النَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ بِالْإِخْلَاصِ. وَكَذَلِكَ إِنْ عُفِيَ عَنْهُ فِي الْقَتْلِ بِمَالٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ إِنْ كَانَ وَاجِدًا لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ «1» [البقرة: 178]. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ كائنا ما كان فإنه
__________
(1). راجع ج 2 ص 253

(18/199)


إِذَا تَابَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ الصَّحِيحِ سَقَطَ عَنْهُ. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ عَنِ الْمُحَارِبِينَ إِذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ إِذَا تَابُوا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ «1». وَكَذَلِكَ الشُّرَّابُ وَالسُّرَّاقُ وَالزُّنَاةُ إِذَا أَصْلَحُوا وَتَابُوا وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، ثُمَّ رُفِعُوا إِلَى الْإِمَامِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحُدَّهُمْ. وَإِنْ رُفِعُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: تُبْنَا، لَمْ يُتْرَكُوا، وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمُحَارِبِينَ إِذَا غُلِبُوا. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ فَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى صَاحِبِهِ وَالْخُرُوجِ عَنْهُ- عَيْنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ- إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فَالْعَزْمُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ إِذَا قَدَرَ فِي أَعْجَلِ وَقْتٍ وَأَسْرَعِهِ. وَإِنْ كَانَ أَضَرَّ بِوَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ الْوَاحِدُ لَا يَشْعُرُ بِهِ أَوْ لَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُتِيَ، فَإِنَّهُ يُزِيلُ ذَلِكَ الضَّرَرَ عَنْهُ، ثُمَّ يَسْأَلُهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَإِذَا عَفَا عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ الذَّنْبُ عَنْهُ. وَإِنْ أَرْسَلَ مَنْ يَسْأَلُ ذَلِكَ لَهُ، فَعَفَا ذَلِكَ الْمَظْلُومُ عَنْ ظَالِمِهِ- عَرَّفَهُ بِعَيْنِهِ أَوْ لَمْ يُعَرِّفْهُ- فَذَلِكَ صَحِيحٌ. وَإِنْ أَسَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ بِأَنْ فَزَّعَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ غَمَّهُ أَوْ لَطَمَهُ، أَوْ صَفَعَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ فَآلَمَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مُسْتَعْفِيًا نَادِمًا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، عَازِمًا عَلَى أَلَّا يَعُودَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَذَلَّلْ لَهُ حَتَّى طَابَتْ نَفْسُهُ فَعَفَا عَنْهُ، سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الذَّنْبُ. وَهَكَذَا إِنْ كَانَ شَانَهُ بِشَتْمٍ لَا حَدَّ فِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) عَسى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ). وأَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ اسْمِ عَسَى «2». قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُدْخِلَكُمْ) مَعْطُوفٌ عَلَى يُكَفِّرَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ (وَيُدْخِلْكُمْ) مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ عَسَى أَنْ يُكَفِّرَ. كَأَنَّهُ قِيلَ: تُوبُوا يُوجِبْ تَكْفِيرَ سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار. (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) الْعَامِلُ فِي يَوْمَ: يُدْخِلَكُمْ أَوْ فِعْلٌ مُضْمَرٌ. وَمَعْنَى يُخْزِي هُنَا يُعَذِّبُ، أَيْ لَا يُعَذِّبُهُ وَلَا يُعَذِّبُ الذين آمنوا معه.
__________
(1). راجع ج 6 ص (174)
(2). ما بين المربعين من ط. وبياض فيما هداها

(18/200)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)

(نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" الْحَدِيدِ" «1». (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: هَذَا دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ أَطْفَأَ اللَّهُ نُورَ الْمُنَافِقِينَ، حَسْبَ ما تقدم بيانه في سورة" الحديد" «2».

[سورة التحريم (66): آية 9]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ- وَهُوَ التَّشْدِيدُ فِي دِينِ اللَّهِ. فَأَمَرَهُ أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ وَالْمَوَاعِظِ الْحَسَنَةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ. وَالْمُنَافِقِينَ بِالْغِلْظَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَأَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَحْوَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا نُورَ لَهُمْ يَجُوزُونَ بِهِ الصِّرَاطَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ جَاهِدْهُمْ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْتَكِبُونَ مُوجِبَاتِ الْحُدُودِ. وَكَانَتِ الْحُدُودُ تُقَامُ عَلَيْهِمْ. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) يَرْجِعُ إلى الصنفين. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع.

[سورة التحريم (66): آية 10]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَثَلَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُغْنِي أَحَدٌ فِي الْآخِرَةِ عَنْ قَرِيبٍ وَلَا نَسِيبٍ إِذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الدِّينُ. وَكَانَ اسْمُ امْرَأَةِ نُوحٍ وَالِهَةَ، وَاسْمُ امْرَأَةِ لُوطٍ وَالِعَةَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ اسْمَ امْرَأَةِ نُوحٍ وَاغِلَةُ وَاسْمَ امْرَأَةِ لُوطٍ وَالِهَةُ. (فَخانَتاهُما) قال عكرمة
__________
(1). راجع ج 17 ص (243)
(2). راجع ج 17 ص 245

(18/201)


وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)

وَالضَّحَّاكُ. بِالْكُفْرِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ رُقَيَّةَ «1» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ تَقُولُ لِلنَّاسِ إِنَّهُ مَجْنُونٌ. وَكَانَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ تُخْبِرُ بِأَضْيَافِهِ. وَعَنْهُ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ. وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا ذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ. إِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا فِي الدِّينِ وَكَانَتَا مُشْرِكَتَيْنِ. وَقِيلَ: كَانَتَا مُنَافِقَتَيْنِ. وَقِيلَ: خِيَانَتُهُمَا النَّمِيمَةُ إِذَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمَا شَيْئًا أَفْشَتَاهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: كَانَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ إِذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ دَخَّنَتْ لِتُعْلِمَ قَوْمَهَا أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ، لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ إِتْيَانِ الرِّجَالِ. (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أَيْ لَمْ يَدْفَعْ نُوحٌ وَلُوطٌ مَعَ كَرَامَتِهِمَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْ زَوْجَتَيْهِمَا- لَمَّا عَصَتَا- شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ يُدْفَعُ بِالطَّاعَةِ لَا بِالْوَسِيلَةِ. وَيُقَالُ: إِنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ اسْتَهْزَءُوا وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لَنَا، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ شَفَاعَتَهُ لَا تَنْفَعُ كُفَّارَ مَكَّةَ وَإِنْ كَانُوا أَقْرِبَاءَ، كَمَا لَا تَنْفَعُ شَفَاعَةُ نُوحٍ لِامْرَأَتِهِ وَشَفَاعَةُ لُوطٍ لِامْرَأَتِهِ، مَعَ قُرْبِهِمَا لَهُمَا لِكُفْرِهِمَا. وَقِيلَ لَهُمَا: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا يُقَالُ لِكُفَّارِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تكون امْرَأَتَ نُوحٍ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: مَثَلًا عَلَى تَقْدِيرِ حذف المضاف، أي ضرب الله مثلا مثل امرأة نوح. ويجوز أن يكونا مفعولين.

[سورة التحريم (66): آية 11]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) وَاسْمُهَا آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: قَوْلُهُ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ يُحَذِّرَ بِهِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فِي الْمُخَالَفَةِ حِينَ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ضَرَبَ لهما مثلا بامرأة فرعون ومريم بنة عِمْرَانَ، تَرْغِيبًا فِي التَّمَسُّكِ بِالطَّاعَةِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الدين.
__________
(1). في ل:" قتة". وفى تفسير الطبري:" قيس". [ ..... ]

(18/202)


وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

وَقِيلَ: هَذَا حَثٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الصَّبْرِ فِي الشِّدَّةِ، أَيْ لَا تَكُونُوا فِي الصَّبْرِ عِنْدَ الشِّدَّةِ أَضْعَفَ مِنَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ حِينَ صَبَرَتْ عَلَى أَذَى فِرْعَوْنَ. وَكَانَتْ آسِيَةُ آمَنَتْ بِمُوسَى. وَقِيلَ: هِيَ عَمَّةُ مُوسَى آمَنَتْ بِهِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: اطَّلَعَ فِرْعَوْنُ عَلَى إِيمَانِ امْرَأَتِهِ فَخَرَجَ عَلَى الْمَلَأِ فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَعْلَمُونَ مِنْ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ؟ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا. فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهَا تَعَبُّدُ رَبًّا غَيْرِي. فَقَالُوا لَهُ: أقتلها. فأوتد لها أوتادا وشديديها وَرِجْلَيْهَا فَقَالَتْ: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) وَوَافَقَ ذَلِكَ حُضُورَ فِرْعَوْنَ، فَضَحِكَتْ حِينَ رَأَتْ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ فِرْعَوْنُ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ جُنُونِهَا! إِنَّا نُعَذِّبُهَا وَهِيَ تَضْحَكُ، فَقُبِضَ رُوحُهَا. وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فِيمَا رَوَى عَنْهُ عُثْمَانُ النَّهْدِيُّ: كَانَتْ تُعَذَّبُ بِالشَّمْسِ، فَإِذَا أَذَاهَا حَرُّ الشَّمْسِ أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا. وَقِيلَ: سَمَرَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا فِي الشَّمْسِ وَوَضَعَ عَلَى ظَهْرِهَا رَحًى، فَأَطْلَعَهَا اللَّهُ. حَتَّى رَأَتْ مَكَانَهَا فِي الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: لَمَّا قَالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ أُرِيَتْ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ يُبْنَى. وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ دُرَّةٍ، عَنِ الْحَسَنِ. وَلَمَّا قَالَتْ: (وَنَجِّنِي) نَجَّاهَا اللَّهُ أَكْرَمَ نَجَاةٍ فَرَفَعَهَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَهِيَ تأكل وتشرب وتتنعم. ومعنى (مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ تَعْنِي بِالْعَمَلِ الْكُفْرَ. وَقِيلَ: مِنْ عَمَلِهِ مِنْ عَذَابِهِ وَظُلْمِهِ وَشَمَاتَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجِمَاعُ. (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَهْلُ مِصْرَ. مُقَاتِلٌ: الْقِبْطُ. قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: نَجَّاهَا اللَّهُ أَكْرَمَ نَجَاةٍ، وَرَفَعَهَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَهِيَ فِيهَا تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ.

[سورة التحريم (66): آية 12]
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
قوله تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ) أَيْ وَاذْكُرْ مَرْيَمَ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ. وَالْمَعْنَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لمريم بنة عِمْرَانَ وَصَبْرِهَا عَلَى أَذَى الْيَهُودِ. (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أَيْ عَنِ الْفَوَاحِشِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِالْفَرْجِ هُنَا الْجَيْبَ لِأَنَّهُ قَالَ: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا نَفَخَ فِي جَيْبِهَا وَلَمْ يَنْفُخْ فِي فَرْجِهَا. وهي

(18/203)


فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فَنَفَخْنَا فِي جَيْبِهَا مِنْ رُوحِنَا. وَكُلُّ خَرْقٍ فِي الثَّوْبِ يُسَمَّى جَيْبًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ «1» [ق: 6]. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا وَنَفَخَ الرُّوحَ فِي جَيْبِهَا. وَمَعْنَى فَنَفَخْنا أَرْسَلْنَا جِبْرِيلَ فَنَفَخَ فِي جَيْبِهَا مِنْ رُوحِنا أَيْ رُوحًا مِنْ أَرْوَاحِنَا وَهِيَ رُوحُ عِيسَى. وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ سُورَةِ" النِّسَاءِ" بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى «2» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" وَصَدَّقَتْ" بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ وَالْأُمَوِيُّ" وَصَدَقَتْ" بِالتَّخْفِيفِ. بِكَلِماتِ رَبِّها قَوْلُ جِبْرِيلَ لَهَا: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
[مريم: 19] الْآيَةَ «3». وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْكَلِمَاتِ عِيسَى وَأَنَّهُ نَبِيٌّ وَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «4». وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ بِكَلِمَةِ رَبِّهَا وَكِتَابِهِ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ" وَكُتُبِهِ" جَمْعًا. وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ" وَكُتُبِهِ" مُخَفَّفُ التَّاءِ. وَالْبَاقُونَ" بِكِتَابِهِ" عَلَى التَّوْحِيدِ. وَالْكِتَابُ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى كُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أَيْ مِنَ الْمُطِيعِينَ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُصَلِّينَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ مِنَ الْقَانِتَاتِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ وَكَانَتْ مِنَ الْقَوْمِ الْقَانِتِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرْجِعَ هَذَا إِلَى أَهْلِ بَيْتِهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال لِخَدِيجَةَ وَهِيَ تَجُودُ بِنَفْسِهَا:" أَتَكْرَهِينَ مَا قَدْ نَزَلَ بِكِ وَلَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الْكُرْهِ خَيْرًا فَإِذَا قَدِمْتِ عَلَى ضَرَّاتِكِ «5» فَأَقْرِئِيهِنَّ مِنِّي السَّلَامَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ وَكَلِيمَةَ «6» - أَوْ قَالَ حَكِيمَةَ «7» - بِنْتِ عِمْرَانَ أُخْتِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (. فَقَالَتْ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:) حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنة عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بِنْتُ مُزَاحِمٍ (. وَقَدْ مَضَى في (عِمْرَانَ) الْكَلَامُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
__________
(1). راجع ج 17 ص 6.
(2). راجع ج 6 ص (22)
(3). راجع ج 11 ص (91)
(4). راجع ج 4 ص (83)
(5). أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى".
(6). في ب، ح، ز، س، ط، ل، هـ:" كلمة"
(7). في ب، ح، ز، س، ط، ل، هـ:" حليمة".

(18/204)


تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

[تفسير سورة الملك]
سُورَةُ الْمُلْكِ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَتُسَمَّى الْوَاقِيَةُ وَالْمُنْجِيَةُ. وَهِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ لَا يَحْسِبُ أَنَّهُ قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة" الملك" حَتَّى خَتَمَهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ وَأَنَا لَا أَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة" الملك" حتى خَتَمَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هِيَ الْمَانِعَةُ هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ). قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَدِدْتُ أَنَّ" تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ" فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى أَخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ وَهِيَ سُورَةُ" تَبَارَكَ"). خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَيُقَالُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُومُ بِسُورَةِ" الْمُلْكِ" عَلَى قَدَمَيْهِ. ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ لِسَانُهُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِي سُورَةَ" الْمُلْكِ" ثُمَّ قَالَ: هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَهِيَ فِي التَّوْرَاةِ سُورَةُ" الْمُلْكِ" مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ فَقَدْ أَكْثَرَ وَأَطْيَبَ. وَرُوِيَ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ الْفَتَّانُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الملك (67): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
تَبارَكَ تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». وَقَالَ الْحَسَنُ: تَقَدَّسَ. وَقِيلَ دَامَ. فَهُوَ الدَّائِمُ الَّذِي لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ وَلَا آخِرَ لِدَوَامِهِ. (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) أي ملك السموات
__________
(1). راجع ج 7 ص 223

(18/205)


الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)

وَالْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَهُ مُلْكُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَعَزَّ بِهَا مَنِ اتَّبَعَهُ وَذَلَّ بِهَا مَنْ خَالَفَهُ. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من إنعام وانتقام.

[سورة الملك (67): آية 2]
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) قِيلَ: الْمَعْنَى خَلَقَكُمْ لِلْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، يَعْنِي لِلْمَوْتِ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ فِي الْآخِرَةِ وَقَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ إِلَى الْقَهْرِ أَقْرَبُ، كَمَا قَدَّمَ الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ فَقَالَ: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ «1» إِناثاً [الشورى: 49]. وَقِيلَ: قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَقْدَمَ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَوْتِ كَالنُّطْفَةِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذَلَّ بَنِي آدَمَ بِالْمَوْتِ وَجَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ حَيَاةٍ ثُمَّ دَارَ مَوْتٍ وَجَعَلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ ثُمَّ دَارَ بَقَاءٍ (. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) لَوْلَا ثَلَاثٌ مَا طَأْطَأَ ابْنُ آدَمَ رَأْسَهُ الفقر والمرض والموت وإنه مع ذلك لو ثاب (. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ، لِأَنَّ أَقْوَى النَّاسِ دَاعِيًا إِلَى الْعَمَلِ مَنْ نَصَبَ مَوْتَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقُدِّمَ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْآيَةُ أَهَمُّ «2» قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمَوْتَ لَيْسَ بِعَدَمٍ مَحْضٍ وَلَا فَنَاءٍ صِرْفٍ، وَإِنَّمَا هُوَ انْقِطَاعُ تَعَلُّقِ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ وَمُفَارَقَتُهُ، وَحَيْلُولَةٌ بَيْنَهُمَا، وَتَبَدُّلُ حَالٍ وَانْتِقَالٌ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ. وَالْحَيَاةُ عَكْسُ ذَلِكَ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: أَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ جِسْمَانِ، فَجُعِلَ الْمَوْتُ فِي هَيْئَةِ كَبْشٍ لَا يَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَهُ إِلَّا مَاتَ، وَخَلَقَ الْحَيَاةَ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ أُنْثَى بَلْقَاءَ- وَهِيَ الَّتِي كَانَ جِبْرِيلُ وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَرْكَبُونَهَا- خُطْوَتُهَا مَدَّ الْبَصَرِ، فوق الحمار ودون البغل،
__________
(1). راجع ج 16 ص (48)
(2). هذه عبارة الكشاف أيضا. وعبارة الخطيب الشربينى في تفسيره:" وقيل إنما قدم الموت على الحياة لان من نصب الموت بين عينيه كان أقوى الدواعي إلى العمل.

(18/206)


لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ يَجِدُ رِيحَهَا إِلَّا حَيِيَ، ولا تطأ على شي إِلَّا حَيِيَ. وَهِيَ الَّتِي أَخَذَ السَّامِرِيُّ مِنْ أَثَرِهَا فَأَلْقَاهُ عَلَى الْعِجْلِ فَحَيِيَ «1». حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمَاوَرْدِيُّ مَعْنَاهُ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ. قُلْتُ: وَفِي التَّنْزِيلِ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ «2» بِكُمْ، [السجدة: 11]، وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ «3» [الأنفال: 50] ثم تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا «4» [الانعام: 61]، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «5» [الزمر: 42]. فَالْوَسَائِطُ مَلَائِكَةٌ مُكْرَمُونَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُمِيتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يُمَثَّلُ الْمَوْتُ بِالْكَبْشِ فِي الْآخِرَةِ وَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ، حَسْبَ مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ. وَمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ صَحِيحٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَيْضًا: خَلَقَ الْمَوْتَ، يَعْنِي النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ، وَخَلَقَ الْحَيَاةَ، يَعْنِي خَلَقَ إِنْسَانًا وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَصَارَ إِنْسَانًا. قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي سُورَةِ" الْكَهْفِ" «6». وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أكثر كم لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُ اسْتِعْدَادًا، وَمِنْهُ أَشَدُّ خَوْفًا وَحَذَرًا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ- حَتَّى بَلَغَ- أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَقَالَ: (أَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَأَسْرَعُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ). وقيل: معنى لِيَبْلُوَكُمْ ليعاملكم معا ملة الْمُخْتَبِرِ، أَيْ لِيَبْلُوَ الْعَبْدَ بِمَوْتِ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ لِيُبَيِّنَ صَبْرَهُ، وَبِالْحَيَاةِ لِيُبَيِّنَ شُكْرَهُ. وَقِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ الْمَوْتَ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَخَلَقَ الْحَيَاةَ لِلِابْتِلَاءِ. فَاللَّامُ فِي لِيَبْلُوَكُمْ تَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ الْحَيَاةِ لَا بِخَلْقِ الْمَوْتِ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ أَيْضًا: لَمْ تَقَعِ الْبَلْوَى عَلَى" أَيَّ" لِأَنَّ فِيمَا بَيْنَ الْبَلْوَى وَ" أَيَّ" إِضْمَارِ فِعْلٍ، كَمَا تَقُولُ: بَلَوْتُكُمْ لِأَنْظُرَ أَيُّكُمْ أَطْوَعُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ «7» [القلم: 40] أَيْ سَلْهُمْ ثُمَّ انْظُرْ أَيَّهُمْ. فَ أَيُّكُمْ رفع بالابتداء وأَحْسَنُ خَبَرُهُ. وَالْمَعْنَى: لِيَبْلُوَكُمْ فَيَعْلَمَ أَوْ فَيَنْظُرَ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عصاه. (الْغَفُورُ) لمن تاب.
__________
(1). راجع ج 11 ص (239)
(2). راجع ج 14 ص (93)
(3). راجع ج 8 ص (28)
(4). راجع ج 7 ص 7 [ ..... ]
(5). راجع ج 15 ص (260)
(6). راجع ج 10 ص (395)
(7). راجع ص 247 من هذا الجزء.

(18/207)


الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)

[سورة الملك (67): آية 3]
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أَيْ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. وَالْمُلْتَزِقُ مِنْهَا أَطْرَافُهَا، كَذَا رُوِيَ عَنِ ابن عباس. وطِباقاً نَعْتٌ لِ سَبْعَ فَهُوَ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمُطَابَقَةِ، أَيْ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَطَبَّقَهَا تَطْبِيقًا أَوْ مُطَابَقَةً. أَوْ عَلَى طُوبِقَتْ طِبَاقًا. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: نُصِبَ طِباقاً لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ. قُلْتُ: فَيَكُونُ خَلَقَ بِمَعْنَى جَعَلَ وَصَيَّرَ. وَطِبَاقٌ جَمْعُ طَبَقٍ، مِثْلَ جَمَلٍ وَجِمَالٍ. وَقِيلَ: جَمْعُ طَبَقَةٍ. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْأَعْرَابِ يَذُمُّ رَجُلًا فَقَالَ: شَرُّهُ طِبَاقٌ، وَخَيْرُهُ غَيْرُ بَاقٍ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ سبع سموات طباق، بالخفض على النعت لسماوات. ونظيره وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ «1» [يوسف: 46]. (مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ" مِنْ تَفَوُّتٍ" بِغَيْرِ أَلِفٍ مُشَدَّدَةٍ. وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ. الْبَاقُونَ مِنْ تَفاوُتٍ بِأَلِفٍ. وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ التَّعَاهُدِ وَالتَّعَهُّدِ، وَالتَّحَمُّلِ وَالتَّحَامُلِ، وَالتَّظَهُّرِ وَالتَّظَاهُرِ، وَتَصَاغُرٍ وَتَصَغُّرٍ، وَتَضَاعُفٍ وَتَضَعُّفٍ، وَتَبَاعُدٍ وَتَبَعُّدٍ، كُلُّهُ بِمَعْنًى. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ" مِنْ تَفَوُّتٍ" وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ:" أَمِثْلِي يُتَفَوَّتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ"! «2» النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَمْرٌ مَرْدُودٌ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ، لِأَنَّ يُتَفَوَّتُ يُفْتَاتُ: بِهِمْ وَتَفَاوُتٌ فِي الْآيَةِ أَشْبَهُ. كَمَا يُقَالُ تَبَايَنَ يُقَالُ: تَفَاوَتَ الْأَمْرُ إِذَا تَبَايَنَ وَتَبَاعَدَ أَيْ فَاتَ بَعْضُهَا بَعْضًا. أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْلَهُ قَوْلُهُ تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَالْمَعْنَى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنَ اعْوِجَاجٍ وَلَا تَنَاقُضٍ وَلَا تَبَايُنٍ- بَلْ هِيَ مُسْتَقِيمَةٌ مُسْتَوِيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى خَالِقِهَا- وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صُوَرُهُ وَصِفَاتُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ السَّمَوَاتُ خَاصَّةً، أَيْ مَا تَرَى فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ مِنْ عَيْبٍ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَوْتِ، وَهُوَ أَنْ يفوت شي شيئا فيقع الخلل لقلة استوائها،
__________
(1). راجع ج 9 ص (201)
(2). أي يفعل في شأنين شي بغير أمره. قال هذا عند ما علم أن أخته السيدة عائشة زوجت ابنه وهو غائب من المنذر بن الزبير. والرواية في الحديث:" أمثل بفتات" بدل" يتفوت".

(18/208)


ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)

يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ تَفَرَّقَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ: تَفَوَّتَ الشَّيْءَ أَيْ فَاتَ. ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ يَنْظُرُوا فِي خَلْقِهِ لِيَعْتَبِرُوا بِهِ فَيَتَفَكَّرُوا فِي قُدْرَتِهِ: فَقَالَ: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أَيِ ارْدُدْ طَرْفَكَ إِلَى السَّمَاءِ. وَيُقَالُ: قَلِّبِ الْبَصَرُ فِي السَّمَاءِ. وَيُقَالُ: اجْهَدْ بِالنَّظَرِ إِلَى السَّمَاءِ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَإِنَّمَا قَالَ: فَارْجِعِ بِالْفَاءِ وَلَيْسَ قَبْلَهُ فِعْلٌ مَذْكُورٌ، لِأَنَّهُ قَالَ:" مَا تَرَى". وَالْمَعْنَى انْظُرْ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالْفُطُورُ: الشُّقُوقُ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنْ خَلَلٍ. السُّدِّيُّ: مِنْ خُرُوقٍ. ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ وَهَنٍ. وَأَصْلُهُ مِنَ التَّفَطُّرِ وَالِانْفِطَارِ وَهُوَ الِانْشِقَاقُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
بَنَى لَكُمْ بِلَا عَمَدٍ سَمَاءً ... وَزَيَّنَهَا فَمَا فِيهَا فُطُورُ
وَقَالَ آخَرُ:
شَقَقْتِ الْقَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ ... هَوَاكِ فَلِيمَ فَالْتَأَمَ الْفُطُورُ
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... وَلَا سكر ولم يبلغ سرور

[سورة الملك (67): آية 4]
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) كَرَّتَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ رَجْعَتَيْنِ، أَيْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالنَّظَرِ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَظَرَ فِي الشَّيْءِ مَرَّةً لَا يَرَى عَيْبَهُ مَا لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَإِنْ نَظَرَ فِي السَّمَاءِ مَرَّتَيْنِ لَا يَرَى فِيهَا عَيْبًا بَلْ يَتَحَيَّرُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً أَيْ خَاشِعًا صَاغِرًا مُتَبَاعِدًا عَنْ أَنْ يَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. يُقَالُ: خَسَأْتُ الْكَلْبَ أَيْ أَبْعَدْتُهُ وَطَرَدْتُهُ. وَخَسَأَ الْكَلْبُ بِنَفْسِهِ، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. وَانْخَسَأَ الْكَلْبُ أَيْضًا. وَخَسَأَ بَصَرُهُ خَسْأً وَخُسُوءًا أَيْ سَدِرَ، «1» وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً. وقال ابن عباس:
__________
(1). لم يكد يبصر.

(18/209)


وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)

الْخَاسِئُ الَّذِي لَمْ يَرَ مَا يَهْوَى. (وَهُوَ حَسِيرٌ) أَيْ قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْإِعْيَاءِ. فَهُوَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، مِنَ الْحُسُورِ الَّذِي هُوَ الْإِعْيَاءُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ حَسَرَهُ بُعْدُ الشَّيْءِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَنْ مَدَّ طَرْفًا إِلَى مَا فَوْقَ غَايَتِهِ ... ارْتَدَّ خَسْآنَ مِنْهُ الطَّرْفُ قَدْ حَسِرَا
يُقَالُ: قَدْ حَسَرَ بَصَرُهُ يَحْسِرُ حُسُورًا، أَيْ كَلَّ وَانْقَطَعَ نَظَرُهُ مِنْ طُولِ مَدًى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهُوَ حَسِيرٌ وَمَحْسُورٌ أَيْضًا. قَالَ:
نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى ... فَعَادَ إِلَيَّ الطَّرْفُ وَهُوَ حَسِيرُ
وَقَالَ آخَرُ يصف ناقة:
فَشَطْرَهَا نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ مَحْسُورُ «1»

نُصِبَ" شَطْرَهَا" عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ نَحْوَهَا. وَقَالَ آخَرُ:
وَالْخَيْلُ شُعْثٌ مَا تَزَالُ جِيَادُهَا ... حَسْرَى تُغَادِرُ بِالطَّرِيقِ سِخَالَهَا
وَقِيلَ: إِنَّهُ النَّادِمُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَا أنا اليوم على شي خلا ... يا بنة القين تولى بحسر
المراد ب كَرَّتَيْنِ ها هنا التَّكْثِيرُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَثْرَةِ النظر.

[سورة الملك (67): الآيات 5 الى 6]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) جَمْعُ مِصْبَاحٍ وَهُوَ السِّرَاجُ. وَتُسَمَّى الْكَوَاكِبُ مَصَابِيحَ لِإِضَاءَتِهَا. (وَجَعَلْناها رُجُوماً) أي جعلنا شهبها، فحذف المضاف.
__________
(1). هذا عجز بيت لقيس بن خويلد الهذلي. وصدره:
إن العسير بها داه مخامرها

والعسير: الناقة التي لم ترض (لم تذلل).

(18/210)


إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)

دَلِيلُهُ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ «1» [الصافات: 10]. وَعَلَى هَذَا فَالْمَصَابِيحُ لَا تَزُولُ وَلَا يُرْجَمُ بِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصَابِيحِ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ مِنْ أَنْفُسِ الْكَوَاكِبِ، وَلَا يسقط الكوكب نفسه إنما ينفصل منه شي يُرْجَمُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ ضَوْءُهُ وَلَا صُورَتُهُ. قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ: كَيْفَ تَكُونُ زِينَةً وَهِيَ رُجُومٌ لَا تَبْقَى. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الِاسْتِرَاقُ مِنْ مَوْضِعِ الْكَوَاكِبِ. وَالتَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الِاسْتِرَاقُ مِنَ الْهَوَى الَّذِي هُوَ دُونَ مَوْضِعِ الْكَوَاكِبِ. الْقُشَيْرِيُّ: وَأَمْثَلُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ أَنْ نَقُولَ: هِيَ زِينَةٌ قَبْلَ أَنْ يُرْجَمَ بِهَا الشَّيَاطِينُ. وَالرُّجُومُ جَمْعُ رَجْمٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يُرْجَمُ بِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى النُّجُومَ لِثَلَاثٍ: زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْأَوْقَاتِ. فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَتَعَدَّى وَظَلَمَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ مَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الْكِهَانَةَ سَبِيلًا»
وَيَتَّخِذُونَ النُّجُومَ عِلَّةً. (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) أَيْ أَعْتَدْنَا لِلشَّيَاطِينِ أَشَدَّ الْحَرِيقِ، يُقَالُ: سُعِرَتِ النَّارُ فَهِيَ مَسْعُورَةٌ وَسَعِيرٌ، مِثْلَ مَقْتُولَةٍ وَقَتِيلٍ. (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

[سورة الملك (67): آية 7]
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذا أُلْقُوا فِيها) يَعْنِي الْكُفَّارَ. (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) أَيْ صَوْتًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشَّهِيقُ لِجَهَنَّمَ عِنْدَ إِلْقَاءِ الْكُفَّارِ فِيهَا، تَشْهَقُ إِلَيْهِمْ شَهْقَةَ الْبَغْلَةِ لِلشَّعِيرِ، ثُمَّ تَزْفِرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا خَافَ. وَقِيلَ: الشَّهِيقُ مِنَ الْكُفَّارِ عِنْدَ إِلْقَائِهِمْ فِي النَّارِ قَالَهُ عَطَاءٌ. وَالشَّهِيقُ فِي الصَّدْرِ، وَالزَّفِيرُ فِي الْحَلْقِ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" هُودٍ" «3». (وَهِيَ تَفُورُ) أَيْ تَغْلِي، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ:
تركتم قدركم لا شي فيها ... وقدر القوم حامية تفور
__________
(1). راجع ج 15 ص (66)
(2). كلمة" سبيلا" ساقطة من ح، ز، س، ل، هـ.
(3). راجع ج 9 ص 98

(18/211)


تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)

قَالَ مُجَاهِدٌ: تَفُورُ بِهِمْ كَمَا يَفُورُ الْحَبُّ الْقَلِيلُ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَغْلِي بِهِمْ عَلَى الْمِرْجَلِ، وَهَذَا مِنْ شِدَّةِ لَهَبِ النَّارِ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ، كَمَا تَقُولُ فلان يفور غيظا.

[سورة الملك (67): الآيات 8 الى 11]
تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يَعْنِي تَتَقَطَّعُ وَيَنْفَصِلُ بعضها من بعض، قاله سعيد ابن جُبَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: تَتَفَرَّقُ. مِنَ الْغَيْظِ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: مِنَ الْغَيْظِ مِنَ الْغَلَيَانِ. وَأَصْلُ تَمَيَّزُ تَتَمَيَّزُ. (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) أَيْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ. (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) أَيْ رَسُولٌ فِي الدُّنْيَا يُنْذِرُكُمْ هَذَا الْيَوْمَ حَتَّى تَحْذَرُوا. (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) أَنْذَرَنَا وَخَوَّفَنَا. (فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) أَيْ عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ. (إِنْ أَنْتُمْ) يَا مَعْشَرَ الرُّسُلِ. (إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) اعْتَرَفُوا بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، ثُمَّ اعْتَرَفُوا بِجَهْلِهِمْ فَقَالُوا وهم في النار: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) مِنَ النُّذُرِ- يَعْنِي الرُّسُلَ- مَا جَاءُوا بِهِ (أَوْ نَعْقِلُ) عَنْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ الْهُدَى أَوْ نَعْقِلُهُ، أَوْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ سَمَاعَ مَنْ يَعِي وَيُفَكِّرُ، أَوْ نَعْقِلُ عَقْلَ مَنْ يُمَيِّزُ وَيَنْظُرُ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَمْ يُعْطَ مِنَ الْعَقْلِ شَيْئًا. وَقَدْ مَضَى فِي" الطُّورِ" «1» بَيَانُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) يَعْنِي مَا كُنَّا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" لَقَدْ نَدِمَ الْفَاجِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا
__________
(1). راجع ج 17 ص 73

(18/212)


إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)

فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ أي بتكذيبهم الرسل. والذنب ها هنا بِمَعْنَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلِ. يُقَالُ: خَرَجَ عَطَاءُ النَّاسِ أَيْ أَعْطِيَتُهُمْ. (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أَيْ فَبُعْدًا لَهُمْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو صَالِحٍ: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ السُّحْقُ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ فَسُحْقاً بِضَمِ الْحَاءِ، وَرُوِيَتْ عَنْ عَلِيٍّ. الْبَاقُونَ بِإِسْكَانِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ السُّحُتِ وَالرُّعُبِ. الزَّجَّاجُ: وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ أَسْحَقَهُمُ اللَّهُ سُحْقًا، أَيْ بَاعَدَهُمْ بُعْدًا. قال امرؤ القيس:
يحول بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ مُغَرِّبًا ... وَتَسْحَقُهُ رِيحُ الصَّبَا كُلَّ مَسْحَقِ
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْقِيَاسُ إِسْحَاقًا، فَجَاءَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْحَذْفِ، كَمَا قِيلَ:
وَإِنْ أَهْلَكْ فَذَلِكَ كَانَ قَدْرِي

أَيْ تَقْدِيرِي. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ من قول خزنة جهنم لأهلها.

[سورة الملك (67): آية 12]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) نَظِيرُهُ: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [ق: 33] وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ «1» فِيهِ. أَيْ يَخَافُونَ اللَّهَ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ الَّذِي هُوَ بِالْغَيْبِ، وَهُوَ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لِذُنُوبِهِمْ (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو الجنة.

[سورة الملك (67): الآيات 13 الى 14]
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) اللَّفْظُ لَفْظُ الْأَمْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَبَرُ، يَعْنِي إِنْ أَخْفَيْتُمْ كَلَامَكُمْ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ جَهَرْتُمْ به ف إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
__________
(1). راجع ج 17 ص 20

(18/213)


هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

يَعْنِي بِمَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَنَالُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ كَيْ لَا يَسْمَعَ رَبُّ مُحَمَّدٍ، فَنَزَلَتْ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ. يَعْنِي: أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ فِي سَائِرِ الْأَقْوَالِ. أَوِ اجْهَرُوا بِهِ، أَعْلِنُوهُ. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ذَاتِ الصُّدُورِ مَا فِيهَا، كَمَا يُسَمَّى وَلَدُ الْمَرْأَةِ وَهُوَ جَنِينٌ" ذَا بَطْنِهَا". ثُمَّ قَالَ: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) يَعْنِي أَلَا يَعْلَمُ السِّرَّ مَنْ خَلَقَ السِّرَّ. يَقُولُ أَنَا خَلَقْتُ السِّرَّ فِي الْقَلْبِ أَفَلَا أَكُونُ عَالِمًا بِمَا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ مَنْ اسْمًا لِلْخَالِقِ جَلَّ وَعَزَّ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَلَا يَعْلَمُ الْخَالِقُ خَلْقَهُ. وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ اسْمًا لِلْمَخْلُوقِ، وَالْمَعْنَى: أَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ مَنْ خَلَقَ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ عَالِمًا بِمَا خَلَقَهُ وَمَا يَخْلُقُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِاللَّيْلِ فِي شَجَرٍ كَثِيرٍ وَقَدْ عَصَفَتِ الرِّيحُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِ الرَّجُلِ: أَتَرَى اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَسْقُطُ مِنْ هَذَا الْوَرَقِ؟ فَنُودِيَ مِنْ جَانِبِ الْغَيْضَةِ «1» بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. وقال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني: مِنْ أَسْمَاءِ صِفَاتِ الذَّاتِ مَا هُوَ لِلْعِلْمِ، مِنْهَا (الْعَلِيمُ) وَمَعْنَاهُ تَعْمِيمُ جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. وَمِنْهَا الْخَبِيرُ وَيَخْتَصُّ بِأَنْ يَعْلَمَ مَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ. وَمِنْهَا" الْحَكِيمُ" وَيَخْتَصُّ بِأَنْ يَعْلَمَ دَقَائِقَ الْأَوْصَافِ. وَمِنْهَا" الشَّهِيدُ" وَيَخْتَصُّ بِأَنْ يَعْلَمَ الغائب والحاضر ومعناه ألا يغيب عنه شي. وَمِنْهَا" الْحَافِظُ" وَيَخْتَصُّ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَى. وَمِنْهَا" الْمُحْصِي" وَيَخْتَصُّ بِأَنَّهُ لَا تَشْغَلُهُ الْكَثْرَةُ عَنِ الْعِلْمِ، مِثْلَ ضَوْءِ النُّورِ وَاشْتِدَادِ الرِّيحِ وَتَسَاقُطِ الْأَوْرَاقِ، فَيَعْلَمُ عِنْدَ ذَلِكَ أَجْزَاءَ الْحَرَكَاتِ فِي كُلِّ وَرَقَةٍ. وَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ! وَقَدْ قَالَ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.

[سورة الملك (67): آية 15]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا) أَيْ سَهْلَةً تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا. وَالذَّلُولُ الْمُنْقَادُ الَّذِي يَذِلُّ لَكَ وَالْمَصْدَرُ الذُّلُّ وَهُوَ اللِّينُ وَالِانْقِيَادُ. أَيْ لَمْ يَجْعَلِ الْأَرْضَ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ
__________
(1). الغيضة: الشجر الكثير الملتف.

(18/214)


أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)

الْمَشْيُ فِيهَا بِالْحُزُونَةِ وَالْغِلْظَةِ. وَقِيلَ: أَيْ ثَبَتَّهَا بِالْجِبَالِ لِئَلَّا تَزُولَ بِأَهْلِهَا، وَلَوْ كَانَتْ تَتَكَفَّأُ مُتَمَائِلَةً لَمَا كَانَتْ مُنْقَادَةً لَنَا. وَقِيلَ: أَشَارَ إِلَى التَّمَكُّنِ مِنَ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَشَقِّ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ وَحَفْرِ الْآبَارِ. (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) هُوَ أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَفِيهِ إِظْهَارُ الِامْتِنَانِ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، أَيْ لِكَيْ تَمْشُوا فِي أَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا وَآكَامِهَا وَجِبَالِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَبَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ: فِي مَناكِبِها فِي جِبَالِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ بَشِيرَ بْنَ كَعْبٍ كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةً فَقَالَ لَهَا: إِنْ أَخْبَرْتِنِي مَا مَنَاكِبُ الْأَرْضِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ؟ فَقَالَتْ: مَنَاكِبُهَا جِبَالُهَا. فَصَارَتْ حُرَّةً، فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَسَأَلَ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ. مُجَاهِدٌ: فِي أَطْرَافِهَا. وَعَنْهُ أَيْضًا: فِي طُرُقِهَا وَفِجَاجِهَا. وَقَالَهُ السُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي جَوَانِبِهَا. وَمَنْكِبَا الرَّجُلِ: جَانِبَاهُ. وَأَصْلُ الْمَنْكِبِ الْجَانِبِ، وَمِنْهُ مَنْكِبُ الرَّجُلِ. وَالرِّيحُ النَّكْبَاءُ. وَتَنَكَّبَ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ. يَقُولُ: امْشُوا حَيْثُ أَرَدْتُمْ فَقَدْ جَعَلْتُهَا لَكُمْ ذَلُولًا لَا تَمْتَنِعُ. وَحَكَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْجَلَدِ: أَنَّ الْأَرْضَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ فَرْسَخٍ، فَلِلسُّودَانِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَلِلرُّومِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، وَلِلْفُرْسِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَلِلْعَرَبِ أَلْفٌ. (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أَيْ مِمَّا أَحَلَّهُ لَكُمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: مِمَّا أَتَيْتُهُ لَكُمْ. (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الْمَرْجِعُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا، وَالْأَرْضَ ذلولا قادر على أن ينشركم.

[سورة الملك (67): آية 16]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَأَمِنْتُمْ عَذَابَ مَنْ فِي السَّمَاءِ إِنْ عَصَيْتُمُوهُ. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ قُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ وَعَرْشُهُ وَمَمْلَكَتُهُ. وَخَصَّ السَّمَاءَ وَإِنْ عَمَّ مُلْكُهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي تَنْفُذُ قُدْرَتُهُ فِي السَّمَاءِ لَا مَنْ يُعَظِّمُونَهُ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب «1».
__________
(1). كلمة" العذاب" ساقطة من ح، س، هـ. [ ..... ]

(18/215)


أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)

قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَأَمِنْتُمْ خَالِقَ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ كَمَا خَسَفَهَا بِقَارُونَ. (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أَيْ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ. وَالْمَوْرُ: الِاضْطِرَابُ بِالذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
رَمَيْنَ فَأَقْصَدْنَ الْقُلُوبَ وَلَنْ تَرَى ... دَمًا مَائِرًا إِلَّا جَرَى فِي الْحَيَازِمِ
جَمْعُ حَيْزُومٍ وَهُوَ وَسَطُ الصَّدْرِ. وَإِذَا خُسِفَ بِإِنْسَانٍ دَارَتْ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ الْمَوْرُ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: أَمِنْتُمْ مَنْ فَوْقَ السَّمَاءِ، كَقَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ «1» [التوبة: 2] أَيْ فَوْقَهَا لَا بِالْمُمَاسَّةِ وَالتَّحَيُّزِ لَكِنْ بِالْقَهْرِ وَالتَّدْبِيرِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَمِنْتُمْ مَنْ عَلَى السَّمَاءِ، كقوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «2» [طه: 71] أَيْ عَلَيْهَا. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مُدِيرُهَا وَمَالِكُهَا، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ، أَيْ وَالِيهَا وَأَمِيرُهَا. وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ مُنْتَشِرَةٌ، مُشِيرَةٌ إِلَى الْعُلُوِّ، لَا يَدْفَعُهَا إِلَّا مُلْحِدٌ أَوْ جَاهِلٌ مُعَانِدٌ. وَالْمُرَادُ بِهَا تَوْقِيرُهُ وَتَنْزِيهُهُ عَنِ السُّفْلِ وَالتَّحْتِ. وَوَصْفُهُ بِالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ لَا بِالْأَمَاكِنِ وَالْجِهَاتِ وَالْحُدُودِ لِأَنَّهَا صِفَاتُ الْأَجْسَامِ. وَإِنَّمَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ السَّمَاءَ مَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَمَنْزِلُ الْقَطْرِ، وَمَحَلُّ الْقُدُسِ، وَمَعْدِنُ الْمُطَهَّرِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِلَيْهَا تُرْفَعُ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، وَفَوْقَهَا عَرْشُهُ وَجَنَّتُهُ، كَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ قِبْلَةً لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ خَلَقَ الْأَمْكِنَةَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا، وَكَانَ فِي أَزَلِهِ قَبْلَ خَلْقِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ. وَلَا مَكَانَ لَهُ وَلَا زَمَانَ. وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ. وَقَرَأَ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ النُّشُورُ وأَمِنْتُمْ بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَاوًا وَتَخْفِيفِ الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ وَأَهْلُ الشَّامِ سِوَى أَبِي عَمْرٍو وَهِشَامٍ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْهَمْزَتَيْنِ، وَخَفَّفَ الْبَاقُونَ. وقد تقدم جميعه.

[سورة الملك (67): آية 17]
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
__________
(1). راجع ج 8 ص (64)
(2). راجع ج 11 ص 224

(18/216)


وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أَيْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ كَمَا أَرْسَلَهَا عَلَى قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْفِيلِ. وَقِيلَ: رِيحٌ فِيهَا حِجَارَةٌ وَحَصْبَاءُ. وَقِيلَ: سَحَابٌ فِيهِ حِجَارَةٌ. (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أَيْ إِنْذَارِي. وَقِيلَ: النَّذِيرُ بِمَعْنَى الْمُنْذِرِ. يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَتَعْلَمُونَ صِدْقَهُ وَعَاقِبَةَ تكذيبكم.

[سورة الملك (67): آية 18]
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يَعْنِي كُفَّارَ الْأُمَمِ، كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ. (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أَيْ إِنْكَارِي وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». وَأَثْبَتَ وَرْشٌ الْيَاءَ فِي" نَذِيرِي، ونكيري" فِي الْوَصْلِ. وَأَثْبَتَهَا يَعْقُوبُ فِي الْحَالَيْنِ. وَحَذَفَ الباقون اتباعا للمصحف.

[سورة الملك (67): آية 19]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أَيْ كَمَا ذَلَّلَ الْأَرْضَ لِلْآدَمِيِّ ذلل الهواء للطيور. وصافَّاتٍ أَيْ بَاسِطَاتٍ أَجْنِحَتَهُنَّ فِي الْجَوِّ عِنْدَ طَيَرَانِهَا، لِأَنَّهُنَّ إِذَا بَسَطْنَهَا صَفَفْنَ قَوَائِمَهَا صَفًّا. وَيَقْبِضْنَ أَيْ يَضْرِبْنَ بِهَا جُنُوبَهُنَّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: يُقَالُ لِلطَّائِرِ إِذَا بَسَطَ جَنَاحَيْهِ: صَافٌّ، وَإِذَا ضَمَّهُمَا فَأَصَابَا جَنْبَهُ: قَابِضٌ، لِأَنَّهُ يَقْبِضُهُمَا. قَالَ أَبُو خِرَاشٍ:
يُبَادِرُ جُنْحَ اللَّيْلِ فَهُوَ موائل «2» ... يحث الجناح بالتبسط والقبض
__________
(1). راجع ج 12 ص (73)
(2). كذا في نسخ الأصل. وواءل الطائر: لجأ وخلص. والى المكان: بادر. والذي في ديوان أشعار الهذليين وكتب اللغة:" فهو مهابذ" والمهابذة: الإسراع.

(18/217)


أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)

وقيل: ويقبض أَجْنِحَتَهُنَّ بَعْدَ بَسْطِهَا إِذَا وَقَفْنَ مِنَ الطَّيَرَانِ. وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى صافَّاتٍ عَطَفَ الْمُضَارِعَ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ، كَمَا عَطَفَ اسْمَ الْفَاعِلِ عَلَى الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
بَاتَ يُعَشِّيهَا بِعَضْبٍ بَاتِرِ ... يَقْصِدُ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ «1»
مَا يُمْسِكُهُنَّ أَيْ مَا يُمْسِكُ الطَّيْرَ فِي الْجَوِّ وَهِيَ تَطِيرُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ.

[سورة الملك (67): آية 20]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
قوله تعالى: (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حِزْبٌ وَمَنَعَةٌ لَكُمْ. (يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) فَيَدْفَعُ عَنْكُمْ مَا أَرَادَ بِكُمْ إِنْ عَصَيْتُمُوهُ. وَلَفْظُ الْجُنْدِ يُوَحَّدُ، وَلِهَذَا قَالَ: هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ لَا جُنْدَ لَكُمْ يَدْفَعُ عَنْكُمْ عَذَابَ اللَّهِ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أَيْ مَنْ سِوَى الرَّحْمَنِ. (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) مِنَ الشَّيَاطِينِ، تَغُرُّهُمْ بِأَنْ لَا عَذَابَ وَلَا حِسَابَ.

[سورة الملك (67): آية 21]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) أَيْ يُعْطِيكُمْ مَنَافِعَ الدُّنْيَا. وَقِيلَ الْمَطَرُ مِنْ آلِهَتِكُمْ. (إِنْ أَمْسَكَ) يَعْنِي اللَّهُ تَعَالَى رِزْقَهُ. (بَلْ لَجُّوا) أَيْ تَمَادَوْا وَأَصَرُّوا. (فِي عُتُوٍّ) طُغْيَانٍ (وَنُفُورٍ) عَنِ الْحَقِّ.
__________
(1). لم يعلم قائله، وهو من الرجز المسدس. و" يعشيها" أي يطعمها العشاء. ويروى:" يغشيها" بالغين المعجمة من الغشاء كالغطاء، أي يشملها ويعمها. وضمير المؤنث للإبل، وهو في وصف كريم بادر بعقر إبله لضيوفه. والعضب: السيف. و" يقصد": من القصد وهو ضد الجور. و" أسوقها": جمع ساق، وهو ما بين الركبة إلى القدم. و" جائر" من جار إذا ظلم. أي يجور. (راجع خزانة الأدب في الشاهد السادس والخمسين بعد الثلاثمائة).

(18/218)


أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)

[سورة الملك (67): آية 22]
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ «1» مُكِبًّا أَيْ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ لَا يَنْظُرُ أَمَامَهُ وَلَا يَمِينَهُ وَلَا شِمَالَهُ، فَهُوَ لَا يَأْمَنُ مِنَ الْعُثُورِ وَالِانْكِبَابِ عَلَى وَجْهِهِ. كَمَنْ يَمْشِي سَوِيًّا مُعْتَدِلًا نَاظِرًا مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الدُّنْيَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ فَيَعْتَسِفُ، «2» فَلَا يَزَالُ يَنْكَبُّ عَلَى وَجْهِهِ. وَأَنَّهُ لَيْسَ كَالرَّجُلِ السَّوِيِّ الصَّحِيحِ الْبَصِيرِ الْمَاشِي فِي الطَّرِيقِ الْمُهْتَدِي لَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْكَافِرُ أَكَبَّ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ فِي الدُّنْيَا فَحَشَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجْهِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ: عَنَى بِالَّذِي يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَبَا جَهْلٍ، وَبِالَّذِي يَمْشِي سَوِيًّا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ أَبُو بَكْرٍ. وَقِيلَ حَمْزَةُ. وَقِيلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، أَيْ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَدْرِي أَعَلَى حَقٍّ هُوَ أَمْ عَلَى بَاطِلٍ. أَيْ أَهَذَا الْكَافِرُ أَهْدَى أَوِ الْمُسْلِمُ الَّذِي يَمْشِي سَوِيًّا مُعْتَدِلًا يُبْصِرُ لِلطَّرِيقِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَيُقَالُ: أَكَبَّ الرَّجُلُ عَلَى وَجْهِهِ، فِيمَا لَا يَتَعَدَّى بِالْأَلِفِ. فَإِذَا تَعَدَّى قيل: كبه الله لوجهه، بغير ألف.

[سورة الملك (67): آية 23]
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ قُبْحَ شِرْكِهِمْ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) يَعْنِي الْقُلُوبَ (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) أَيْ لَا تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ، وَلَا تُوَحِّدُونَ اللَّهَ تَعَالَى. تَقُولُ: قلما أفعل كذا، أي لا أفعله.

[سورة الملك (67): الآيات 24 الى 25]
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25)
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من س، هـ.
(2). الاعتساف: ركوب المفازة وقطعها بغير قصد ولا هداية، ولا توخى قصد ولا طريق مسلوك.

(18/219)


قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أَيْ خَلَقَكُمْ فِي الْأَرْضِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: نَشَرَكُمْ فِيهَا وَفَرَّقَكُمْ عَلَى ظَهْرِهَا، قَالَهُ ابْنُ شَجَرَةَ. (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) حَتَّى يُجَازِيَ كُلًّا بِعَمَلِهِ. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أَيْ مَتَى يَوْمُ الْقِيَامَةِ! وَمَتَى هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي تَعِدُونَنَا بِهِ وَهَذَا اسْتِهْزَاءٌ منهم. وقد تقدم «1».

[سورة الملك (67): آية 26]
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ عِلْمُ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ فَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ. نَظِيرُهُ: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف: 187] الْآيَةَ «2». (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أَيْ مُخَوِّفٌ ومعلم لكم.

[سورة الملك (67): آية 27]
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) مَصْدَرٌ بِمَعْنَى مُزْدَلَفًا أَيْ قَرِيبًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الْحَسَنُ عِيَانًا. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ يَعْنِي الْعَذَابَ، وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي عَذَابَ بَدْرٍ. وَقِيلَ: أَيْ رَأَوْا مَا وُعِدُوا مِنَ الْحَشْرِ قَرِيبًا مِنْهُمْ. وَدَلَّ عَلَيْهِ تُحْشَرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا رَأَوْا عَمَلَهُمُ السَّيِّئَ قَرِيبًا. (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْ فُعِلَ بِهَا السُّوءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَبَيَّنَ فِيهَا السُّوءُ أَيْ سَاءَهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ وَظَهَرَ عَلَى وُجُوهِهِمْ سِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «3» [آل عمران: 106]. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ" سُئَتْ" بِإِشْمَامِ الضَّمِّ. وَكَسَرَ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ إِشْمَامٍ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ. وَمَنْ ضَمَّ لَاحَظَ الْأَصْلَ. (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) قَالَ الْفَرَّاءُ: تَدَّعُونَ تَفْتَعِلُونَ مِنَ الدُّعَاءِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ العلماء أي تتمنون وتسألون.
__________
(1). راجع ج 8 ص (349)
(2). راجع ج 7 ص (335)
(3). راجع ج 4 ص 166

(18/220)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكْذِبُونَ، وَتَأْوِيلُهُ: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ مِنْ أَجْلِهِ تَدَّعُونَ الْأَبَاطِيلَ وَالْأَحَادِيثَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ تَدَّعُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَتَأْوِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالضَّحَّاكُ وَيَعْقُوبُ" تَدْعُونَ" مُخَفَّفَةً. قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ قَوْلُهُمْ رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا «1» [ص: 16]. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ قَوْلُهُمْ اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «2» [الأنفال: 32] الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: تَدَّعُونَ تَسْتَعْجِلُونَ، يُقَالُ: دَعَوْتُ بِكَذَا إِذَا طَلَبْتُهُ، وَادَّعَيْتُ افْتَعَلْتُ مِنْهُ. النَّحَّاسُ: تَدَّعُونَ وَتَدْعُونَ" بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ: قدر واقتدر، وعدي واعتدى، إلا أن في" أفتعل" معنى شي بعد شي، و" فعل" يقع على القليل والكثير.

[سورة الملك (67): آية 28]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ أَيْ «3» قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ- يُرِيدُ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ
«4» [الطور: 30]- أَرَأَيْتُمْ إِنْ مِتْنَا أَوْ رُحِمْنَا فَأُخِّرَتْ آجَالُنَا فَمَنْ يُجِيرُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى التَّرَبُّصِ بِنَا وَلَا إِلَى اسْتِعْجَالِ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَأَسْكَنَ الْيَاءَ فِي (أَهْلَكَنِي) ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْمُسَيَّبِيُّ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ. وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ. وَكُلُّهُمْ فَتَحَ الْيَاءَ فِي وَمَنْ مَعِيَ إِلَّا أَهْلَ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ سَكَّنُوهَا. وَفَتَحَهَا حَفْصٌ كَالْجَمَاعَةِ.

[سورة الملك (67): آية 29]
قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، وَرَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ. الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَهُوَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ. وَيُقَالُ: لِمَ أَخَّرَ مَفْعُولَ
__________
(1). راجع ج 15 ص (157)
(2). راجع ج 7 ص (398)
(3). كلمة" أي" ساقطة من ح، س.
(4). راجع ج 17 ص 71 [ ..... ]

(18/221)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

آمَنَّا وَقَدَّمَ مَفْعُولَ تَوَكَّلْنا فَيُقَالُ: لِوُقُوعِ آمَنَّا تَعْرِيضًا بِالْكَافِرِينَ حِينَ وَرَدَ عَقِيبَ ذِكْرِهِمْ. كَأَنَّهُ قِيلَ: آمَنَّا وَلَمْ نَكْفُرْ كَمَا كَفَرْتُمْ. ثُمَّ قَالَ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا خُصُوصًا لَمْ نَتَّكِلْ عَلَى مَا أَنْتُمْ مُتَّكِلُونَ عَلَيْهِ مِنْ رِجَالِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، قاله الزمخشري.

[سورة الملك (67): آية 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أَيْ غَائِرًا ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ لَا تَنَالُهُ الدِّلَاءُ. وَكَانَ مَاؤُهُمْ مِنْ بِئْرَيْنِ: بِئْرِ زَمْزَمَ وَبِئْرِ مَيْمُونٍ. (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أَيْ جَارٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَقُولُوا لَا يَأْتِينَا بِهِ إِلَّا اللَّهُ، فَقُلْ لَهُمْ لِمَ تُشْرِكُونَ بِهِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَكُمْ. يُقَالُ: غَارَ الْمَاءُ يَغُورُ غَوْرًا، أَيْ نَضَبَ. وَالْغَوْرُ: الْغَائِرُ، وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ: رَجُلٌ عَدْلٌ وَرِضًا. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" الْكَهْفِ" «1» وَمَضَى الْقَوْلُ فِي الْمَعْنَى فِي سُورَةِ" الْمُؤْمِنُونَ" «2» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِماءٍ مَعِينٍ أَيْ ظَاهِرٍ تَرَاهُ الْعُيُونُ، فَهُوَ مَفْعُولٌ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ مَعَنَ الْمَاءَ أَيْ كَثُرَ، فَهُوَ عَلَى هَذَا فَعِيلٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّ الْمَعْنَى فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ عَذْبٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ «3».

[تفسير سورة ن والقلم]
تَفْسِيرُ سُورَةِ" ن وَالْقَلَمِ" مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وقال ابن عباس وَقَتَادَةُ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: «4» [16) مَكِّيٌّ. وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «5» [القلم: 33] مَدَنِيٌّ. وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: يَكْتُبُونَ «6» [القلم: 47] مَكِّيٌّ. وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الصَّالِحِينَ «7» [القلم: 50] مدني، وما بقي مكي. قاله الماوردي
__________
(1). راجع ج 10 ص (409)
(2). راجع ج 2 ص (112)
(3). في هـ: ختمت السورة والحمد الله رب العالمين.
(4). آية (16)
(5). آية (33)
(6). آية (47)
(7). آية 50

(18/222)


ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القلم (68): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ن وَالْقَلَمِ أَدْغَمَ النُّونَ الثَّانِيَةَ فِي هِجَائِهَا فِي الْوَاوِ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَهُبَيْرَةُ وَوَرْشٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ ويعقوب. والباقون بالإظهار. وقرا عيسى ابن عُمَرَ بِفَتْحِهَا، كَأَنَّهُ أَضْمَرَ فِعْلًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَصْرٌ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِكَسْرِهَا عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ، الْقَسَمِ. وَقَرَأَ هَارُونُ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهِ، فَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ يَرْفَعْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ن (لَوْحٌ مِنْ نُورٍ). وَرَوَى ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ أَنَّ ن الدَّوَاةُ. وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قول تَعَالَى: ن وَالْقَلَمِ ثُمَّ قَالَ لَهُ اكْتُبْ قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ قَالَ: مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَثَرٍ فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ- قَالَ- ثُمَّ خَتَمَ فَمَ الْقَلَمِ فَلَمْ يَنْطِقْ وَلَا يَنْطِقْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ خَلَقَ الْعَقْلَ فَقَالَ الْجَبَّارُ مَا خَلَقْتُ خَلْقًا أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْكَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُكْمِلَنَّكَ فِيمَنْ أَحْبَبْتُ وَلَأُنْقِصَنَّكَ فِيمَنْ أَبْغَضْتُ) قَالَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلًا أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ وَأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ). وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ن الْحُوتُ الَّذِي تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. قَالَ: وَالْقَلَمِ الَّذِي كُتِبَ بِهِ الذِّكْرُ. وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ وَمُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: إِنَّ النُّونَ هُوَ الْحُوتُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَرَضُونَ. وَرَوَى أَبُو ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ، ثُمَّ رَفَعَ بُخَارَ الْمَاءِ فَخَلَقَ مِنْهُ السَّمَاءَ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ فَبَسَطَ الأرض

(18/223)


عَلَى ظَهْرِهِ، فَمَادَتِ الْأَرْضُ فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ، وَإِنَّ الْجِبَالَ لَتَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ ن وَالْقَلَمِ الْآيَةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: اسْمُهُ الْبَهْمُوتُ «1». قَالَ الرَّاجِزُ:
مَالِي أَرَاكُمْ كُلَّكُمْ سُكُوتَا ... وَاللَّهُ رَبِّي خَلَقَ الْبَهْمُوتَا
وَقَالَ أَبُو الْيَقْظَانِ وَالْوَاقِدِيُّ: لُيُوثًا. وَقَالَ كَعْبٌ: لُوثُوثَا. وَقَالَ: بَلَهَمُوثَا «2». وَقَالَ كَعْبٌ: أَنَّ إِبْلِيسَ تَغَلْغَلَ إِلَى الْحُوتِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ الْأَرَضُونَ فَوَسْوَسَ فِي قَلْبِهِ، وَقَالَ: أَتَدْرِي مَا عَلَى ظَهْرِكَ يَا لُوثُوثَا مِنَ الدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ وَالْأَرَضِينَ وَغَيْرِهَا، لَوْ لَفَظْتَهُمْ أَلْقَيْتَهُمْ عَنْ ظَهْرِكَ أَجْمَعَ، فَهَمَّ لُيُوثَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ دَابَّةً فَدَخَلَتْ مَنْخِرَهُ وَوَصَلَتْ إِلَى دِمَاغِهِ، فَضَجَّ الْحُوتُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا فَأَذِنَ اللَّهُ لَهَا فَخَرَجَتْ. قَالَ كَعْبٌ: فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ إِنْ هَمَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابن عباس: إن ن آخر حروف من حروف الرَّحْمنِ. قال: الر، ولَحْمَ، ون، الرَّحْمنِ تَعَالَى مُتَقَطِّعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ تَعَالَى بِهِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ فَاتِحَةُ السُّورَةِ. وَقِيلَ: اسْمُ السُّورَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ افْتِتَاحُ اسْمِهِ نَصِيرُ وَنُورٌ وَنَاصِرٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَصْرِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ حَقٌّ. بَيَانُهُ قوله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
«3» [الروم: 47] وَقَالَ جَعْفَرُ الصَّادِقِ: هُوَ نَهْرٌ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نُونٌ. وَقِيلَ: هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ مُعْرَبًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ فِي تَفْسِيرِهِ. قَالَ: لِأَنَّ ن حَرْفٌ لَمْ يُعْرَبْ، فَلَوْ كَانَ كَلِمَةً تَامَّةً أُعْرِبَ كَمَا أُعْرِبَ الْقَلَمُ، فَهُوَ إِذًا حَرْفُ هِجَاءٍ كَمَا فِي سَائِرِ مَفَاتِيحِ السُّوَرِ. وَعَلَى هَذَا قِيلَ: هُوَ اسْمُ السُّورَةِ، أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ ن. ثُمَّ قَالَ: وَالْقَلَمِ أَقْسَمَ بالقلم لما فيه من البيان
__________
(1). ضبطه الألوسي في تفسيره فقال:" اليهموت بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الهاء".
(2). اضطربت الأصول والمراجع التي بين أيدينا في هذه الأسماء. وقد خرج المؤلف رحمه الله عما اشترطه في مقدما كتابه ص (3) حيث قال:" ... وَأَضْرِبُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ قَصَصِ الْمُفَسِّرِينَ، وَأَخْبَارِ المؤرخين ... " إلخ.
(3). راجع ج 14 ص 43

(18/224)


كَاللِّسَانِ، وَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ قَلَمٍ مِمَّا يَكْتُبُ بِهِ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ:
إِذَا أَقْسَمَ الْأَبْطَالُ يَوْمًا بِسَيْفِهِمْ ... وَعَدُّوهُ مِمَّا يُكْسِبُ الْمَجْدَ وَالْكَرَمْ
كَفَى قَلَمَ الْكُتَّابِ عِزًّا وَرِفْعَةً ... مَدَى الدَّهْرِ أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِالْقَلَمْ
وَلِلشُّعَرَاءِ فِي تَفْضِيلِ الْقَلَمِ عَلَى السَّيْفِ أَبْيَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَا ذَكَرْنَاهُ أَعْلَاهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا قَسَمٌ بِالْقَلَمِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ، فَأَمَرَهُ فَجَرَى بِكِتَابَةِ جَمِيعِ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَهُوَ قَلَمٌ مِنْ نُورٍ طُولُهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَيُقَالُ. خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ فَانْشَقَّ نِصْفَيْنِ، فَقَالَ: اجْرِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ بِمَ أَجْرِي؟ قَالَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَجَرَى عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَوْصَانِي أَبِي عِنْدِ مَوْتِهِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، اتَّقِ اللَّهَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَتَّقِيَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْعِلْمَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ فَقَالَ يَا رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ فَقَالَ اكْتُبِ الْقَدَرَ فَجَرَى الْقَلَمُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَكَتَبَ فِيمَا كتب تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1]. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْقَلَمُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ. قَالَ غَيْرُهُ: فَخَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ الْأَوَّلَ فَكَتَبَ مَا يَكُونُ فِي الذِّكْرِ وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، ثُمَّ خَلَقَ الْقَلَمَ الثَّانِيَ لِيَكْتُبَ بِهِ فِي الْأَرْضِ، عَلَى مَا يَأْتِي بيانه في سورة (اقرأ باسم ربك) «1» [العلق: 1]. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما يَسْطُرُونَ) أَيْ وَمَا يَكْتُبُونَ. يُرِيدُ الْمَلَائِكَةَ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقِيلَ: وَمَا يَكْتُبُونَ أَيِ النَّاسُ وَيَتَفَاهَمُونَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَعْنَى وَما يَسْطُرُونَ وما يعلمون. وما مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ وَمَسْطُورَاتِهِمْ أَوْ وَسَطْرِهِمْ، وَيُرَادُ بِهِ كُلَّ مَنْ يُسَطِّرُ أَوِ الْحَفَظَةَ، عَلَى الْخِلَافِ. (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ وَهُوَ نَفْيٌ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ مجنون، به شيطان.
__________
(1). راجع ج 20 ص 117.

(18/225)


وَهُوَ قَوْلُهُمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «1» [الحجر: 6] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبًا لِقَوْلِهِمْ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ أَيْ بِرَحْمَةِ ربك. والنعمة ها هنا الرحمة. ويحتمل ثانيا- أن النعمة ها هنا قَسَمٌ، وَتَقْدِيرُهُ: مَا أَنْتَ وَنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، لِأَنَّ الْوَاوَ وَالْبَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ. وَقِيلَ هُوَ كَمَا تَقُولُ: مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ، وَالنِّعْمَةُ لِرَبِّكَ، كَقَوْلِهِمْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَيْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
وَأُفْرِدْتُ فِي الدُّنْيَا بِفَقْدِ عَشِيرَتِي ... وَفَارَقَنِي جَارٌ بِأَرْبَدَ نَافِعُ
أَيْ وَهُوَ أَرْبَدُ»
. وَقَالَ النَّابِغَةُ:
لَمْ يُحْرَمُوا حُسْنَ الْغِذَاءِ وَأُمُّهُمْ ... طَفَحَتْ عَلَيْكَ بِنَاتِقٍ مِذْكَارِ
أَيْ هُوَ نَاتِقٌ. وَالْبَاءُ فِي بِنِعْمَةِ رَبِّكَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَجْنُونٍ مَنْفِيًّا، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِغَافِلٍ مُثْبَتًا. كَمَا فِي قَوْلِكَ: أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ غَافِلٌ. وَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ مُنْعَمًا عَلَيْكَ بِذَلِكَ. (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) أَيْ ثَوَابًا عَلَى مَا تَحَمَّلْتَ مِنْ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ. (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ وَلَا مَنْقُوصٍ، يُقَالُ: مَنَنْتُ الْحَبْلَ إِذَا قَطَعْتُهُ. وَحَبْلٌ مَنِينٌ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَتِينٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
غُبْسًا كَوَاسِبَ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا «3»

أَيْ لَا يُقْطَعُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْرَ مَمْنُونٍ مَحْسُوبٍ. الْحَسَنُ: غَيْرَ مَمْنُونٍ غَيْرُ مُكَدَّرٍ بِالْمَنِّ. الضَّحَّاكُ: أَجْرًا بِغَيْرِ عَمَلٍ. وَقِيلَ: غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَهُوَ التَّفَضُّلُ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مُقَدَّرٌ وَالتَّفَضُّلُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، ذَكَرَهُ الماوردي، وهو معنى قول مجاهد.
__________
(1). راجع ج 10 ص 4
(2). الربدة (بضم فسكون): الغيرة. ورواية الديوان في هذا البيت:
وقد كنت في أكناف جار مضنة ... ففارقني .....
إلخ. و" جار مضنة": جار يضن به.
(3). هذا عجز للبيد. واختلف في صدره. راجع مادة (متن) في اللسان. والغبسة: لون الرماد. [ ..... ]

(18/226)


وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)

[سورة القلم (68): آية 4]
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ عَلَى خُلُقٍ، عَلَى دِينٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأَدْيَانِ، لَيْسَ دِينٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا أَرْضَى عِنْدَهُ مِنْهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ خُلُقَهُ كَانَ الْقُرْآنَ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَطِيَّةُ: هُوَ أَدَبُ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: هُوَ رِفْقُهُ بِأُمَّتِهِ وَإِكْرَامُهُ إِيَّاهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَيَنْتَهِي عَنْهُ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: أَيْ إِنَّكَ عَلَى طَبْعٍ كَرِيمٍ. الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَحَقِيقَةُ الْخُلُقِ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَا يَأْخُذُ بِهِ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنَ الْأَدَبِ يُسَمَّى خُلُقًا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْخِلْقَةِ فِيهِ. وَأَمَّا مَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدَبِ فَهُوَ الْخِيمُ (بِالْكَسْرِ): السَّجِيَّةُ وَالطَّبِيعَةُ، لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَخِيمٌ: اسْمُ جَبَلٍ. فَيَكُونُ الْخُلُقُ الطَّبْعُ الْمُتَكَلَّفُ. وَالْخِيمُ الطَّبْعُ الْغَرِيزِيُّ. وَقَدْ أَوْضَحَ الْأَعْشَى ذَلِكَ فِي شِعْرِهِ فَقَالَ:
وَإِذَا ذُو الْفُضُولِ ضَنَّ عَلَى الْمَوْ ... لَى وَعَادَتْ لِخِيمِهَا الْأَخْلَاقُ
أَيْ رَجَعَتِ الْأَخْلَاقُ إِلَى طَبَائِعِهَا. قُلْتُ: مَا ذَكَرْتُهُ عَنْ عَائِشَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ. وَسُئِلْتُ أَيْضًا عَنْ خُلُقِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَرَأَتْ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» [الْمُؤْمِنُونَ: 1] إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ، وَقَالَتْ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَحْسَنَ خُلُقًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا دَعَاهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا قَالَ لَبَّيْكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. وَلَمْ يُذْكَرْ خُلُقٌ مَحْمُودٌ إِلَّا وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: سُمِّيَ خُلُقُهُ عَظِيمًا لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ هِمَّةٌ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ سُمِّيَ خُلُقُهُ عَظِيمًا لِاجْتِمَاعِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِيهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إن الله بعثني لأتمم مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ). وَقِيلَ: لِأَنَّهُ امْتَثَلَ تَأْدِيبَ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «2» [الأعراف: 199]. وقد روي عنه عليه السلام
__________
(1). راجع ج 12 ص 103.
(2). راجع ج 7 ص 433.

(18/227)


فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)

أَنَّهُ قَالَ: (أَدَّبَنِي رَبِّي تَأْدِيبًا حَسَنًا إِذْ قَالَ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] فَلَمَّا قَبِلْتُ ذَلِكَ مِنْهُ قَالَ: إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. الثَّانِيَةُ- رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ). قَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (ما شي أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ البذي). قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا من شي يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ). قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: (تَقْوَى الله وحسن الخلق). وسيل عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ فَقَالَ: (الْفَمُ وَالْفَرْجُ) قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وعن عبد الله ابن الْمُبَارَكِ أَنَّهُ وَصَفَ حُسْنَ الْخُلُقِ فَقَالَ: هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى. وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا- قَالَ- وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ (. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ «1» وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ:) الْمُتَكَبِّرُونَ (. قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوجه «2».

[سورة القلم (68): الآيات 5 الى 7]
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
__________
(1). المتشدق: الذي يتطاول على الناس في الكلام ويبذو عليهم.
(2). زيادة عن صحيح الترمذي.

(18/228)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ فَسَتَعْلَمُ وَيَعْلَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: فَسَتَرَى وَيَرَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ. (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ أَيُّكُمُ الْمَفْتُونُ. أَيِ الَّذِي فُتِنَ بِالْجُنُونِ، كَقَوْلِهِ تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «1» [المؤمنون: 20] ويَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «2» [الإنسان: 6]. وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَالْأَخْفَشِ. وَقَالَ الرَّاجِزُ:
نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الْفَلَجْ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجِ «3»
وَقِيلَ: الْبَاءُ لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَالْمَعْنَى: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أَيِ الْفِتْنَةُ. وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْمَفْعُولِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْفُتُونُ، كَمَا قَالُوا: مَا لِفُلَانٍ مَجْلُودٍ وَلَا مَعْقُولٍ، أَيْ عَقْلٌ وَلَا جَلَادَةٌ. وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الرَّاعِي:
حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكُوا لِعِظَامِهِ ... لَحْمًا وَلَا لِفُؤَادِهِ مَعْقُولَا
أَيْ عَقْلًا. وَقِيلَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيرُ حَذْفِ مُضَافٍ، وَالْمَعْنَى: بِأَيِّكُمْ فِتْنَةُ الْمَفْتُونِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ المجنون، أبا لفرقة الَّتِي أَنْتَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْ بِالْفِرْقَةِ الْأُخْرَى. وَالْمَفْتُونُ: الْمَجْنُونُ الَّذِي فَتَنَهُ الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ: الْمَفْتُونُ الْمُعَذَّبُ. مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ إِذَا حَمَّيْتَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «4» [الذاريات: 13] أَيْ يُعَذَّبُونَ. وَمُعْظَمُ السُّورَةِ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: الْمَفْتُونُ هُوَ الشَّيْطَانُ، لِأَنَّهُ مَفْتُونٌ فِي دِينِهِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ بِهِ شَيْطَانًا، وَعَنَوْا بِالْمَجْنُونِ هَذَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَسَيَعْلَمُونَ غَدًا بِأَيِّهِمُ الْمَجْنُونُ، أَيِ الشَّيْطَانُ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ مَسِّهِ الْجُنُونُ وَاخْتِلَاطُ العقل.
__________
(1). راجع ج 12 ص (114)
(2). راجع ج 19 ص (124)
(3). الفلج (بفتح الفاء واللام): مدينة بأرض اليمامة لبنى جعدة. ويجوز فيه: نحن بنى ... بالنصب على الاختصاص. (راجع الشاهد التاسع والثمانين بعد السبعمائة في خزانة الأدب).
(4). راجع ج 17 ص 31

(18/229)


فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أَيْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالِمُ بِمَنْ حَادَ عَنْ دِينِهِ. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أَيِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى الْهُدَى فَيُجَازِي كُلًّا غَدًا بعمله.

[سورة القلم (68): آية 8]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)
نَهَاهُ عَنْ «1» مُمَايَلَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانُوا يَدْعُونَهُ إِلَى أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ لِيَكُفُّوا عنه، فبين الله تعالى أن مما يلتهم كفر. وقال تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا «2» [الاسراء: 74]. وَقِيلَ: أَيْ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ فِيمَا دَعَوْكَ إِلَيْهِ مِنْ دِينِهِمُ الْخَبِيثِ. نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي قريش حين دعوه إلى دين آبائه.

[سورة القلم (68): آية 9]
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطِيَّةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُ فَيَتَمَادَوْنَ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَدُّوا لَوْ تُرَخِّصُ لَهُمْ فَيُرَخِّصُونَ لَكَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكَلْبِيُّ: لَوْ تَلِينَ فَيَلِينُونَ لَكَ. وَالِادِّهَانُ: التَّلْيِينُ لِمَنْ لَا يَنْبَغِي لَهُ التَّلْيِينُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى وَدُّوا لَوْ رَكَنْتَ إِلَيْهِمْ وَتَرَكْتَ الْحَقَّ فَيُمَالِئُونَكَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: وَدُّوا لَوْ تَكْذِبُ فَيَكْذِبُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَدُّوا لَوْ تَذْهَبُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ فَيَذْهَبُونَ مَعَكَ. الْحَسَنُ: وَدُّوا لَوْ تُصَانِعُهُمْ فِي دِينِكَ فَيُصَانِعُونَكَ فِي دِينِهِمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا: وَدُّوا لَوْ تَرْفُضُ بَعْضَ أَمْرِكَ فَيَرْفُضُونَ بَعْضَ أَمْرِهِمْ. زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَوْ تُنَافِقُ وَتُرَائِي فَيُنَافِقُونَ وَيُرَاءُونَ. وَقِيلَ: وَدُّوا لَوْ تَضْعُفُ فَيَضْعُفُونَ، قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ. وَقِيلَ: وَدُّوا لَوْ تُدَاهِنُ فِي دِينِكَ فَيُدَاهِنُونَ فِي أَدْيَانِهِمْ، قَالَهُ الْقُتَبِيُّ. وَعَنْهُ: طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ مُدَّةً وَيَعْبُدُوا إِلَهَهُ مُدَّةً. فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ قَوْلًا. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا نَحْوَ عَشَرَةِ أَقْوَالٍ كُلِّهَا دَعَاوَى عَلَى اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى. أَمْثَلُهَا قَوْلُهُمْ: وَدُّوا لَوْ تكذب فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون.
__________
(1). مايله ممايلة: مالاه.
(2). راجع ج 10 ص 300

(18/230)


وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)

قُلْتُ: كُلُّهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى صَحِيحَةٌ عَلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى، فَإِنَّ الِادِّهَانَ: اللِّينُ وَالْمُصَانَعَةُ. وَقِيلَ: مُجَامَلَةُ الْعَدُوِّ مُمَايَلَتُهُ. وَقِيلَ: الْمُقَارَبَةُ فِي الْكَلَامِ وَالتَّلْيِينُ فِي الْقَوْلِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَبَعْضُ الْغَشْمِ أَحْزَمُ فِي أُمُورٍ ... تَنُوبُكَ مِنْ مُدَاهَنَةِ الْعِدَهْ
وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: النِّفَاقُ وَتَرْكُ الْمُنَاصَحَةِ. فَهِيَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَذْمُومَةٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الأول غير مذمومة، وكل شي مِنْهَا لَمْ يَكُنْ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ ادَّهَنَ فِي دِينِهِ وَدَاهَنَ فِي أَمْرِهِ، أَيْ خَانَ فِيهِ وَأَظْهَرَ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ. وَقَالَ قَوْمٌ: دَاهَنْتُ بِمَعْنَى وَارَيْتُ، وَأَدْهَنْتُ بِمَعْنَى غَشَشْتُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ: فَيُدْهِنُونَ فَسَاقَهُ عَلَى الْعَطْفِ، وَلَوْ جَاءَ بِهِ جَوَابُ النَّهْيِ لَقَالَ فَيُدْهِنُوا. وَإِنَّمَا أَرَادَ: إِنْ تَمَنَّوْا لَوْ فَعَلْتَ فَيَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِكَ، عَطْفًا لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ وَلَا مُكَافَأَةَ، وإنما هو تمثيل وتنظير.

[سورة القلم (68): الآيات 10 الى 13]
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13)
يَعْنِي الْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ، فِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: الْأَسْوَدُ ابن عَبْدِ يَغُوثَ، أَوْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَرَضَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالًا وَحَلَفَ أَنْ يُعْطِيَهُ إِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ. وَالْحَلَّافُ: الْكَثِيرُ الْحَلِفِ. وَالْمَهِينُ: الضَّعِيفُ الْقَلْبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ. ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكَذَّابُ. وَالْكَذَّابُ مَهِينٌ. وَقِيلَ: الْمِكْثَارُ فِي الشَّرِّ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَهِينُ الْفَاجِرُ الْعَاجِزُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْحَقِيرُ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: إِنَّهُ الذَّلِيلُ. الرُّمَّانِيُّ: الْمَهِينُ الْوَضِيعُ لِإِكْثَارِهِ مِنَ الْقَبِيحِ. وَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ الْمَهَانَةِ بِمَعْنَى الْقِلَّةِ. وَهِيَ هُنَا الْقِلَّةُ فِي الرَّأْيِ وَالتَّمْيِيزِ. أَوْ هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ، وَالْمَعْنَى مُهَانٌ. (هَمَّازٍ) قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْهَمَّازُ الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِيَدِهِ وَيَضْرِبُهُمْ. وَاللَّمَّازُ بِاللِّسَانِ. وَقَالَ

(18/231)


الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَهْمِزُ نَاحِيَةً فِي الْمَجْلِسِ، كقول تعالى: هُمَزَةٍ. [الهمزة: 1]. وَقِيلَ: الْهَمَّازُ الَّذِي يَذْكُرُ النَّاسَ فِي وُجُوهِهِمْ. وَاللَّمَّازُ الَّذِي يَذْكُرُهُمْ فِي مَغِيبِهِمْ، قَالَهُ أَبُو العالية وعطاء ابن أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنُ أَيْضًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ ضِدَّ هذا الكلام: إن الهمزة الذي يغتاب بالغيبة. وَاللُّمَزَةُ الَّذِي يَغْتَابُ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ مُرَّةُ: هُمَا سَوَاءٌ. وَهُوَ الْقَتَّاتُ الطَّعَّانُ لِلْمَرْءِ إِذَا غَابَ. وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تُدْلِي بِوُدٍّ إِذَا لَاقَيْتَنِي كَذِبًا ... وَإِنْ أَغِبْ فَأَنْتَ الْهَامِزُ اللُّمَزَهْ
(مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أَيْ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ لِيُفْسِدَ بَيْنَهُمْ. يُقَالُ: نَمَّ يَنِمُّ نَمًّا وَنَمِيمًا وَنَمِيمَةً، أَيْ يَمْشِي وَيَسْعَى بِالْفَسَادِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَنِمُّ الْحَدِيثَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ). وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَوْلًى كَبَيْتِ النَّمْلِ لَا خَيْرَ عِنْدَهُ ... لِمَوْلَاهُ إِلَّا سَعْيُهُ بِنَمِيمِ
قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ: النَّمِيمُ جَمْعُ نَمِيمَةٍ. (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أَيْ لِلْمَالِ أَنْ يُنْفَقَ فِي وُجُوهِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَمْنَعُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَدَهُ وَعَشِيرَتَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ لَهُمْ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ لَا أَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا. (مُعْتَدٍ) أَيْ عَلَى النَّاسِ فِي الظُّلْمِ، مُتَجَاوِزٍ لِلْحَدِّ، صَاحِبِ بَاطِلٍ. (أَثِيمٍ) أَيْ ذِي إِثْمٍ، وَمَعْنَاهُ أَثُومٌ، «1» فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَعُولٍ. (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) الْعُتُلُّ الْجَافِي الشَّدِيدُ فِي كُفْرِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي يَعْتَلُّ النَّاسُ فَيَجُرُّهُمْ إِلَى حَبْسٍ أَوْ عَذَابٍ. مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَتْلِ وَهُوَ الْجَرُّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ «2» [الدخان: 47]. وَفِي الصِّحَاحِ: وَعَتَلْتُ الرَّجُلَ أَعْتِلُهُ وَأَعْتُلُهُ إِذَا جَذَبْتُهُ جَذْبًا عَنِيفًا. وَرَجُلٌ مِعْتَلٌ (بِالْكَسْرِ). وَقَالَ يَصِفُ «3» فَرَسًا:
نَفْرَعُهُ فَرْعًا وَلَسْنَا نَعْتِلُهُ

قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: عَتَلَهُ وَعَتَنَهُ، بِاللَّامِ وَالنُّونِ جَمِيعًا. والعتل الغليظ الجافي. والعتل أيضا:
__________
(1). في الأصول:" مأثوم".
(2). راجع ج 16 ص (15)
(3). هو أبو النجم الراجز. وفرع فرسه فرعا: كبحه وكفه.

(18/232)


الرُّمْحُ الْغَلِيظُ. وَرَجُلٌ عَتِلٌ (بِالْكَسْرِ) بَيِّنُ الْعَتَلِ، أَيْ سَرِيعٌ إِلَى الشَّرِّ. وَيُقَالُ: لَا أَنْعَتِلُ مَعَكَ، أَيْ لَا أَبْرَحُ مَكَانِي. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: الْعُتُلُّ الْأَكُولُ الشَّرُوبُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ فَلَا يَزِنُ شَعِيرَةً، يَدْفَعُ الْمَلَكُ مِنْ أُولَئِكَ فِي جَهَنَّمَ بِالدَّفْعَةِ الْوَاحِدَةِ سَبْعِينَ أَلْفًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنُ: الْعُتُلُّ الْفَاحِشُ السَّيِّئُ الْخُلُقِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: هُوَ الْفَاحِشُ اللَّئِيمُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
بِعُتُلٍّ مِنَ الرِّجَالِ زَنِيمِ ... غَيْرِ ذِي نَجْدَةٍ وَغَيْرِ كَرِيمِ
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ سَمِعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ- قَالُوا بَلَى قَالَ- كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ «1» لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ- قَالُوا بَلَى قَالَ- كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ (. فِي رِوَايَةِ عَنْهُ (كُلُّ جَوَّاظٍ زَنِيمٍ مُتَكَبِّرٍ). الْجَوَّاظُ: قِيلَ هُوَ الْجَمُوعُ الْمَنُوعُ. وَقِيلَ الْكَثِيرُ اللَّحْمِ الْمُخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، وَرَوَاهُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَوَّاظٌ وَلَا جَعْظَرِيٌّ وَلَا الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ). فَقَالَ رَجُلٌ: مَا الْجَوَّاظُ وَمَا الْجَعْظَرِيُّ وَمَا الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْجَوَّاظُ الَّذِي جَمَعَ وَمَنَعَ. وَالْجَعْظَرِيُّ الْغَلِيظُ. وَالْعُتُلُّ الزَّنِيمُ الشَّدِيدُ الْخَلْقِ الرَّحِيبُ الْجَوْفِ الْمُصَحَّحُ الْأَكُولُ الشَّرُوبُ الْوَاجِدُ لِلطَّعَامِ الظَّلُومُ لِلنَّاسِ (. وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ:) لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَوَّاظٌ وَلَا جَعْظَرِيٌّ وَلَا عُتُلٌّ زَنِيمٌ) سَمِعْتُهُنَّ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: وَمَا الْجَوَّاظُ؟ قَالَ: الْجَمَّاعُ الْمَنَّاعُ. قُلْتُ: وَمَا الْجَعْظَرِيُّ؟ قَالَ: الْفَظُّ الْغَلِيظُ. قُلْتُ: وَمَا الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ؟ قَالَ: الرَّحِيبُ الْجَوْفِ الْوَثِيرُ الْخَلْقِ الْأَكُولُ الشَّرُوبُ الْغَشُومُ الظَّلُومُ. قُلْتُ: فَهَذَا التَّفْسِيرُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُتُلِّ قَدْ أَرْبَى عَلَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ فِي تَفْسِيرِ الْجَوَّاظِ أَنَّهُ الْفَظُّ الْغَلِيظُ. ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ
__________
(1). روى بكسر العين وفتحها. والمشهور الفتح. ومعناه: يستضعفه الناس ويحقرونه ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا. ورواية الكسر معناها: متواضع متذلل خامل واضع من نفسه. قال القاضي: وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها وإخباتها للايمان. [ ..... ]

(18/233)


الْخُزَاعِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْجَوَّاظُ وَلَا الْجَعْظَرِيُّ) قَالَ: وَالْجَوَّاظُ الْفَظُّ الْغَلِيظُ. فَفِيهِ تَفْسِيرَانِ مَرْفُوعَانِ حَسْبَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. وَقَدْ قِيلَ: إنه ألجأ في القب وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَبْكِي السَّمَاءُ مِنْ رَجُلٍ أَصَحَّ اللَّهُ جِسْمَهُ وَرَحَّبَ جَوْفَهُ وَأَعْطَاهُ مِنَ الدُّنْيَا بَعْضًا فَكَانَ لِلنَّاسِ ظَلُومًا فَذَلِكَ الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ. وَتَبْكِي السَّمَاءُ مِنَ الشَّيْخِ الزَّانِي مَا تَكَادُ الْأَرْضُ تُقِلُّهُ (. وَالزَّنِيمُ الْمُلْصَقُ بِالْقَوْمِ الدَّعِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَالُ زِيَادَةً ... كَمَا زِيدَ فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ الْأَكَارِعُ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ لَهُ زَنَمَةٌ كَزَنَمَةِ الشَّاةِ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. أَنَّهُ الَّذِي يُعْرَفُ بِالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ اللَّئِيمُ الَّذِي يُعْرَفُ بِلُؤْمِهِ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي يَعْرِفُ بِالْأُبْنَةِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَعَنْهُ أَنَّهُ الظَّلُومُ. فَهَذِهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: زَنِيمٌ كَانَتْ لَهُ سِتَّةُ أَصَابِعَ فِي يَدِهِ، فِي كُلِّ إِبْهَامِ لَهُ إِصْبَعٌ زَائِدَةٌ. وَعَنْهُ أَيْضًا وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعِكْرِمَةُ: هو ولد الزنى الْمُلْحَقُ فِي النَّسَبِ بِالْقَوْمِ. وَكَانَ الْوَلِيدُ «1» دَعِيًّا فِي قُرَيْشٍ لَيْسَ مِنْ سِنْخِهِمْ، «2» ادَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْدَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ مَوْلِدِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
زَنِيمٌ لَيْسَ يُعْرَفُ مَنْ أَبَوْهُ ... بَغِيِّ الْأُمِّ ذُو حَسَبٍ لَئِيمِ
وَقَالَ حَسَّانُ:
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ
قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ الَّذِي لَا أَصْلَ لَهُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زنى وَلَا وَلَدُهُ وَلَا وَلَدُ وَلَدِهِ). وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إن أولاد الزنى يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ). وقالت ميمونة: سمعت النبي
__________
(1). هو الوليد بن المغيرة المخزومي.
(2). السنخ (بالكسر والخاء المعجمة): الأصل.

(18/234)


أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ وَلَدُ الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى أو شك أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ). وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِذَا كثر ولد الزنى قَحَطَ الْمَطَرُ. قُلْتُ: أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَمَا أَظُنُّ لَهُمَا سَنَدًا يَصِحُّ، وَأَمَّا حَدِيثُ مَيْمُونَةَ وَمَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَزِعًا مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ. فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ) وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا. قَالَتْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَثْرَةُ الْخَبَثِ ظُهُورُ الزنى وأولاد الزنى، كَذَا فَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ. وَقَوْلُ عِكْرِمَةَ" قَحَطَ الْمَطَرُ" تَبْيِينٌ لِمَا يَكُونُ بِهِ الْهَلَاكُ. وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ قَالَهُ. وَمُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ يُطْعِمُ أَهْلَ مِنًى حَيْسًا «1» ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيُنَادِي أَلَا لَا يُوقِدَنَّ أَحَدٌ تَحْتَ بُرْمَةٍ، أَلَا لَا يُدَخِّنَنَّ أَحَدٌ بِكُرَاعٍ، أَلَا وَمَنْ أَرَادَ الْحَيْسَ فَلْيَأْتِ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ. وَكَانَ يُنْفِقُ فِي الْحَجَّةِ الْوَاحِدَةِ عِشْرِينَ أَلْفًا وَأَكْثَرَ. وَلَا يُعْطِي الْمِسْكِينَ دِرْهَمًا واحدا فقيل: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ. وفية نزل: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ «2» [فصلت: 7 - 6]. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، لِأَنَّهُ حَلِيفٌ مُلْحَقٌ فِي بَنِي زُهْرَةَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ زَنِيمًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ نُعِتَ، فَلَمْ يُعْرَفْ حَتَّى قُتِلَ فَعُرِفَ، وَكَانَ لَهُ زَنَمَةٌ فِي عُنُقِهِ مُعَلَّقَةٌ يُعْرَفُ بِهَا. وَقَالَ مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ: إِنَّمَا ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة.

[سورة القلم (68): الآيات 14 الى 15]
أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
__________
(1). الحيس: الطعام المتخذ من التمر والأقط (الجبن المتخذ من اللين الحامض) والسمن.
(2). راجع ج 15 ص 340

(18/235)


سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْمُغِيرَةُ وَالْأَعْرَجُ" آنَ كَانَ" بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَمْدُودَةٍ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ الْمُفَضَّلُ وَأَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ" أَأَنْ كَانَ" بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْخَبَرِ، فَمَنْ قَرَأَ بِهَمْزَةٍ مُطَوَّلَةٍ أَوْ بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخُ، وَيَحْسُنُ لَهُ أَنْ يَقِفَ عَلَى زَنِيمٍ، وَيَبْتَدِئَ أَنْ كانَ عَلَى مَعْنَى أَلِأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ تُطِيعُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَلِأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ يَقُولُ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ!! وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَلِأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ يَكْفُرُ وَيَسْتَكْبِرُ. وَدَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ فَصَارَ كَالْمَذْكُورِ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ. وَمَنْ قَرَأَ أَنْ كانَ بِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ فَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ وَالْعَامِلِ فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يَكْفُرُ لِأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَلَا يَعْمَلُ فِي أَنْ: تُتْلى وَلَا قالَ لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِذا لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ إِذا تُضَافُ إِلَى الْجُمَلِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَلَا يَعْمَلُ الْمُضَافُ إليه فيما قبل المضاف. وقالَ جَوَابُ الْجَزَاءِ وَلَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَ الْجَزَاءِ، إذا حُكْمُ الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَعْمُولِ فِيهِ، وَحُكْمُ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ مُقَدَّمًا مُؤَخَّرًا فِي حَالٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا تُطِعْهُ لِأَنْ كَانَ ذَا يَسَارٍ وَعَدَدٍ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَمَنْ قَرَأَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يَقِفَ عَلَى زَنِيمٍ لان المعنى لان كان وبأن كان، ف أَنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا. قَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ وَالتَّقْدِيرُ يَمْشِي بِنَمِيمٍ لِأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ. وَأَجَازَ أَبُو علي أن يتعلق ب عُتُلٍّ. وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ: أَبَاطِيلُهُمْ وَتُرَّهَاتُهُمْ وَخُرَافَاتُهُمْ «1». وَقَدْ تَقَدَّمَ «2».

[سورة القلم (68): آية 16]
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: سَنَسِمُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى سَنَسِمُهُ سَنَخْطِمُهُ بِالسَّيْفِ. قَالَ: وَقَدْ خُطِمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ، فَلَمْ يَزَلْ مَخْطُومًا إلى أن مات.
__________
(1). في الأصول:" وخراريقهم" بالقاف.
(2). راجع ج 6 ص 05 4

(18/236)


وَقَالَ قَتَادَةُ: سَنَسِمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَنْفِهِ سِمَةً يُعْرَفُ بِهَا، يُقَالُ: وَسَمْتُهُ وَسْمًا وَسِمَةٌ إِذَا أَثَّرْتُ فِيهِ بِسِمَةٍ وَكَيٍّ. وَقَدْ قَالَ تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «1» [آل عمران: 106] فَهَذِهِ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَقَالَ تَعَالَى: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ «2» زُرْقاً [طه: 102] وَهَذِهِ عَلَامَةٌ أُخْرَى ظَاهِرَةٌ. فَأَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَامَةً ثَالِثَةً وَهِيَ الْوَسْمُ عَلَى الْأَنْفِ بِالنَّارِ، وهذا كقوله تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ «3» [الرحمن: 41] قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أَيْ عَلَى أَنْفِهِ، وَنُسَوِّدُ وَجْهَهُ فِي الْآخِرَةِ فَيُعْرَفُ بِسَوَادِ وَجْهِهِ. وَالْخُرْطُومُ: الْأَنْفُ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَمِنَ السِّبَاعِ: مَوْضِعُ الشَّفَةِ. وَخَرَاطِيمُ الْقَوْمِ: سَادَاتُهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنْ كَانَ الْخُرْطُومُ قَدْ خُصَّ بِالسِّمَةِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَجْهِ، لِأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْكُلِّ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: نُبَيِّنُ أَمْرَهُ تِبْيَانًا وَاضِحًا حَتَّى يَعْرِفُوهُ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ كَمَا لَا تَخْفَى السِّمَةُ عَلَى الْخَرَاطِيمِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى سَنُلْحِقُ بِهِ عَارًا وَسُبَّةً حَتَّى يَكُونَ كَمَنْ وُسِمَ عَلَى أَنْفِهِ. قَالَ الْقُتَبِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ يُسَبُّ سُبَّةَ سُوءٍ قَبِيحَةٍ بَاقِيَةٍ: قَدْ وُسِمَ مِيسَمَ سُوءٍ، أَيْ أُلْصِقَ بِهِ عَارٌ لَا يُفَارِقُهُ، كَمَا أَنَّ السِّمَةَ لَا يُمْحَى أَثَرُهَا. قَالَ جَرِيرٌ:
لَمَّا وَضَعْتُ عَلَى الْفَرَزْدَقِ مِيسَمِي ... وَعَلَى الْبَعِيثِ «4» جَدَعْتُ أَنْفَ الْأَخْطَلِ
أَرَادَ بِهِ الْهِجَاءَ. قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَلَغَ مِنْ ذِكْرِ عُيُوبِ أَحَدٍ مَا بَلَغَهُ مِنْهُ، فَأَلْحَقَهُ بِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَالْوَسْمِ عَلَى الْخُرْطُومِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ مِنْ سُوءٍ وَذُلٍّ وَصَغَارٍ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى:
فَدَعْهَا وَمَا يُغْنِيكَ وَاعْمِدْ لِغَيْرِهَا ... بِشَعْرِكَ وَاعْلُبْ «5» أَنْفَ من أنت واسم
__________
(1). راجع ج 4 ص (166)
(2). راجع ج 11 ص (244)
(3). راجع ج 17 ص (175)
(4). البعيث: هو خداش بن بشر (ويقال بشير) من بنى مجاشع، كان يهاجى جريرا.
(5). علبه يعلبه علبا وعلوبا: أثر فيه ووسمه أو خدشه.

(18/237)


إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)

وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْمَعْنَى سَنَحُدُّهُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْخُرْطُومُ: الْخَمْرُ، وَجَمْعُهُ خَرَاطِيمُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
تَظَلُّ يَوْمَكَ فِي لَهْوٍ وَفِي طَرَبٍ ... وأنت بالليل شراب الخراطيم
قال الراجز: «1»
صَهْبَاءُ خُرْطُومًا عَقَارًا قَرْقَفَا «2»

وَقَالَ آخَرُ:
أَبَا حَاضِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِنَاؤُهُ ... وَمَنْ يَشْرَبِ الْخُرْطُومَ يُصْبِحْ مُسْكَرَا
الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" كَانَ الْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ لِذِي الْمَعْصِيَةِ قَدِيمًا عِنْدَ النَّاسِ، حَتَّى إِنَّهُ رُوِيَ- كَمَا تَقَدَّمَ- أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَهْمَلُوا رَجْمَ الزَّانِي اعْتَاضُوا مِنْهُ بِالضَّرْبِ وَتَحْمِيمِ «3» الْوَجْهِ، وَهَذَا وَضْعٌ بَاطِلٌ. وَمِنَ الْوَسْمِ الصَّحِيحِ فِي الْوَجْهِ: مَا رَأَى الْعُلَمَاءُ مِنْ تَسْوِيدِ وَجْهِ شَاهِدِ الزُّورِ، عَلَامَةً عَلَى قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ وَتَشْدِيدًا لِمَنْ يَتَعَاطَاهَا لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يُرْجَى تَجَنُّبُهُ بِمَا يُرْجَى مِنْ عُقُوبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ وَشُهْرَتِهِ «4»، فَقَدْ كَانَ عَزِيزًا بِقَوْلِ الْحَقِّ وَقَدْ صَارَ مَهِينًا بِالْمَعْصِيَةِ. وَأَعْظَمُ الْإِهَانَةِ إِهَانَةُ الْوَجْهِ. وَكَذَلِكَ كَانَتِ الِاسْتِهَانَةُ بِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سَبَبًا «5» لِخِيرَةِ الْأَبَدِ وَالتَّحْرِيمِ لَهُ عَلَى النَّارِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنَ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ، حَسْبَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ.

[سورة القلم (68): الآيات 17 الى 19]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19)
__________
(1). هو العجاج.
(2). كل هذا من أسماه الخمر. وقبله:
فغمها حولين ثم استودفا

وغممت الشيء: غطيته. واستودف اللين: صبه في الافاء.
(3). تحميم الوجه: تسخيمه بالفحم. [ ..... ]
(4). عبارة ابن العربي في أحكامه:" ... لغيره لمن يرجى تجنبه يمن يرى من عقوبة ... ".
(5). في ابن العربي:" سببا لحياة الأبد"

(18/238)


فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يُرِيدُ أَهْلَ مَكَّةَ. وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ. وَالْمَعْنَى أَعْطَيْنَاهُمْ أَمْوَالًا لِيَشْكُرُوا لَا لِيَبْطَرُوا، فَلَمَّا بَطِرُوا وَعَادَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِالْجُوعِ وَالْقَحْطِ كَمَا بَلَوْنَا أَهْلَ الْجَنَّةِ الْمَعْرُوفِ خَبَرُهَا عِنْدَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ عَلَى فَرَاسِخَ مِنْ صَنْعَاءَ- وَيُقَالُ بِفَرْسَخَيْنِ- وَكَانَتْ لِرَجُلٍ يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا، فَلَمَّا مَاتَ صَارَتْ إِلَى وَلَدِهِ، فَمَنَعُوا النَّاسَ خَيْرَهَا وَبَخِلُوا بِحَقِّ اللَّهِ فِيهَا، فَأَهْلَكَهَا اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُ مَا حَلَّ بِهَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَنْعَاءَ فَرْسَخَانِ، ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِأَنْ أَحْرَقَ جَنَّتَهُمْ. وَقِيلَ: هِيَ جَنَّةٌ بِضَوْرَانَ، وَضَوْرَانُ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ صَنْعَاءَ، وَكَانَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْجَنَّةِ بَعْدَ رَفْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَسِيرٍ- وَكَانُوا بُخَلَاءَ- فَكَانُوا يَجُدُّونَ التَّمْرَ لَيْلًا مِنْ أَجْلِ الْمَسَاكِينِ، وَكَانُوا أَرَادُوا حَصَادَ زَرْعِهَا وَقَالُوا: لَا يَدْخُلُهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، فَغَدَوْا عَلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدِ اقْتُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، أَيْ كَاللَّيْلِ. وَيُقَالُ أَيْضًا لِلنَّهَارِ صَرِيمٌ. فَإِنْ كَانَ أراد الليل فلاسوداد مَوْضِعِهَا. وَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا مَوْضِعَهَا حَمْأَةً. وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالصَّرِيمِ النَّهَارَ فَلِذَهَابِ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ وَنَقَاءِ الْأَرْضِ مِنْهُ. وَكَانَ الطَّائِفُ الَّذِي طَافَ عَلَيْهَا جبريل عليه السلام فاقتعلها. فَيُقَالُ: إِنَّهُ طَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ ثُمَّ وَضَعَهَا حَيْثُ مَدِينَةَ الطَّائِفِ الْيَوْمَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الطَّائِفُ. وَلَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ بَلْدَةٌ فِيهَا الشَّجَرُ وَالْأَعْنَابُ وَالْمَاءُ غَيْرَهَا. وَقَالَ الْبَكْرِيُّ فِي الْمُعْجَمِ: سُمِّيَتِ الطَّائِفُ لِأَنَّ رَجُلًا مِنَ الصَّدِفِ»
يُقَالُ لَهُ الدَّمُونُ، بَنَى حَائِطًا وَقَالَ: قَدْ بَنَيْتُ لَكُمْ طَائِفًا حَوْلَ بَلَدِكُمْ، فَسُمِّيَتِ الطَّائِفُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى مَنْ حَصَدَ زَرْعًا أَوْ جَدَّ ثَمَرَةً أَنْ يُوَاسِيَ مِنْهَا مَنْ حَضَرَهُ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الانعام: 141] وَأَنَّهُ «2» غَيْرُ الزَّكَاةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي" الْأَنْعَامِ" بَيَانُهُ «3». وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَعَلَيْهِ تَرَكَ مَا أخطأه الحصادون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم
__________
(1). الصدف (بالفتح ثم الكسر): مخلاف من اليمن منسوب إلى القبيلة.
(2). في ط:" عين".
(3). راجع ج 7 ص 99.

(18/239)


مِنْ هَذَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ نُهِيَ عَنِ الْحَصَادِ بِاللَّيْلِ. فَقِيلَ: إِنَّهُ لِمَا يَنْقَطِعُ عَنِ الْمَسَاكِينِ فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّفْقِ. وَتَأَوَّلَ مَنْ قَالَ هَذَا الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ" ن وَالْقَلَمِ". وقيل: إنما نهي عن ذلك خشية الحيات وهو ام الْأَرْضِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَالثَّانِي حَسَنٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ بِسَبَبِ، مَا أَرَادُوهُ مِنْ مَنْعِ الْمَسَاكِينِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى. رَوَى أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ بِالْيَمَنِ وَكَانَ أَبُوهُمْ رَجُلًا صَالِحًا، وكان إذا بلغ ثماره أتاه المساكين فلم يَمْنَعُهُمْ مِنْ دُخُولِهَا وَأَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا وَيَتَزَوَّدُوا، فَلَمَّا مَاتَ قَالَ بَنُوهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: عَلَامَ نعطي أموالنا هؤلاء المساكين! تعالوا فلندلج فنصر منها قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْمَسَاكِينُ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا، فَانْطَلَقُوا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ خَفْتًا: «1» لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَقْسَمُوا يَعْنِي حَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ يَعْنِي لَنَجُذُّنَّهَا وَقْتَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ الْمَسَاكِينُ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، يَعْنِي لَمْ يَقُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ تِلْكَ الْجَنَّةُ دُونَ صَنْعَاءَ بِفَرْسَخَيْنِ، غَرَسَهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَكَانَ لِلْمَسَاكِينِ كُلُّ مَا تَعَدَّاهُ الْمِنْجَلُ فَلَمْ يَجُذَّهُ مِنَ الكرم، فإذا طرح على البساط فكل شي سَقَطَ عَنِ الْبِسَاطِ فَهُوَ أَيْضًا لِلْمَسَاكِينِ، فَإِذَا حصدوا زرعهم فكل شي تَعَدَّاهُ الْمِنْجَلُ فَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ، فَإِذَا دَرَسُوا كَانَ لهم كل شي انْتَثَرَ، فَكَانَ أَبُوهُمْ يَتَصَدَّقُ مِنْهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَكَانَ يَعِيشُ فِي ذَلِكَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِمُ الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلُ وَالْمَسَاكِينُ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُمْ فَعَلُوا مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَقَالُوا: قَلَّ الْمَالُ وَكَثُرَ الْعِيَالُ، فَتَحَالَفُوا بَيْنَهُمْ لَيَغْدُوُنَّ غَدْوَةً قَبْلَ خروج الناس ثم ليصر منها وَلَا تَعْرِفُ الْمَسَاكِينُ. وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ أَقْسَمُوا أَيْ حَلَفُوا لَيَصْرِمُنَّها لَيَقْطَعُنَّ ثَمَرَ نَخِيلِهِمْ إِذَا أَصْبَحُوا بِسُدْفَةٍ «2» مِنَ اللَّيْلِ لِئَلَّا يَنْتَبِهَ الْمَسَاكِينُ لَهُمْ. وَالصَّرْمُ الْقَطْعُ. يُقَالُ: صَرَمَ الْعِذْقَ عَنِ النَّخْلَةِ. وَأَصْرَمَ النَّخْلَ أَيْ حَانَ وَقْتُ صِرَامِهِ. مِثْلُ أَرْكَبَ الْمُهْرَ وَأَحْصَدَ الزَّرْعَ، أَيْ حَانَ رُكُوبُهُ وَحَصَادُهُ. (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أَيْ وَلَمْ يَقُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بعضا.
__________
(1). الخفت (بوزن السبت): إسرار المنطق.
(2). السدقة: الظلمة، والضوء. وطائفة من الليل. وقيل: اختلاط الضوء والظلمة جميعا.

(18/240)


فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)

أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ عَازِمِينَ عَلَى الصِّرَامِ وَالْجِدَادِ. قَالَ قَتَادَةُ: حَاصِدِينَ زَرْعَكُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا كَانَ فِي جَنَّتِهِمْ مِنْ زَرْعٍ وَلَا نَخِيلٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ حَرْثُهُمْ عِنَبًا وَلَمْ يَقُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ قَوْلُهُمْ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّنَا وَقِيلَ: مَعْنَى وَلا يَسْتَثْنُونَ أَيْ لَا يَسْتَثْنُونَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. فَجَاءُوهَا لَيْلًا فَرَأَوُا الْجَنَّةَ مُسَوَّدَةً قَدْ طَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ. قِيلَ: الطَّائِفُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمْرٌ مِنْ رَبِّكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَذَابٌ مِنْ رَبِّكَ. ابْنُ جُرَيْجٍ: عُنُقٌ مِنْ نَارٍ خَرَجَ مِنْ وَادِي جَهَنَّمَ. وَالطَّائِفُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. الثَّالِثَةُ- قُلْتُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ الْإِنْسَانُ، لِأَنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يَفْعَلُوا فَعُوقِبُوا قَبْلَ فِعْلِهِمْ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ «1» [الحج: 25]. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: (إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ). وَقَدْ مَضَى مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ" آلِ عِمْرَانَ" عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا «2» [آل عمران: 135].

[سورة القلم (68): الآيات 20 الى 22]
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أَيْ كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ الْجَوْنُ البهيم ... فما ينجاب عن صبح بهيم «3»
__________
(1). راجع ج 12 ص (34)
(2). راجع ج 4 ص (215)
(3). في اللسان مادة صرم:
فما ينجاب عن ليل صريم

(18/241)


فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)

أَيِ احْتَرَقَتْ فَصَارَتْ كَاللَّيْلِ الْأَسْوَدِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: كَالرَّمَادِ الْأَسْوَدِ. قَالَ: الصَّرِيمُ الرَّمَادُ الْأَسْوَدُ بِلُغَةِ خُزَيْمَةَ. الثَّوْرِيُّ: كَالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ فَالصَّرِيمُ بِمَعْنَى الْمَصْرُومِ أَيِ الْمَقْطُوعُ مَا فِيهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: صُرِمَ عَنْهَا الْخَيْرُ أَيْ قُطِعَ، فَالصَّرِيمُ مَفْعُولٌ أَيْضًا. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: أَيْ كَالرَّمْلَةِ انْصَرَمَتْ مِنْ مُعْظَمِ الرَّمْلِ. يُقَالُ: صَرِيمَةٌ وَصَرَائِمُ، فَالرَّمْلَةُ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا يُنْتَفَعُ بِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ كَالصُّبْحِ انْصَرَمَ مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أي كالنهار، فلا شي فِيهَا. قَالَ شَمِرٌ: الصَّرِيمُ اللَّيْلُ وَالصَّرِيمُ النَّهَارُ، أَيْ يَنْصَرِمُ هَذَا عَنْ ذَاكَ وَذَاكَ عَنْ هَذَا. وَقِيلَ: سُمِّيَ اللَّيْلُ صَرِيمًا لِأَنَّهُ يَقْطَعُ بِظُلْمَتِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ، وَلِهَذَا يَكُونُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ النَّهَارَ يُسَمَّى صَرِيمًا وَلَا يَقْطَعُ عَنْ تَصَرُّفٍ.

[سورة القلم (68): الآيات 23 الى 25]
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) أَيْ يَتَسَارُّونَ، أَيْ يُخْفُونَ كَلَامَهُمْ وَيُسِرُّونَهُ لِئَلَّا يَعْلَمَ بِهِمْ أَحَدٌ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ. وَهُوَ مِنْ خَفَتَ يَخْفِتُ إِذَا سَكَنَ وَلَمْ يُبَيِّنْ. كَمَا قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ:
وَإِنِّي لَمْ أَهْلَكْ سُلَالًا وَلَمْ أَمُتْ ... خُفَاتًا وَكُلًّا ظَنَّهُ بِي عُوَّدِي
وَقِيلَ: يُخْفُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يَرَوْهُمْ. وَكَانَ أَبُوهُمْ يُخْبِرُ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ فَيَحْضُرُوا وَقْتَ الْحَصَادِ وَالصِّرَامِ. (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أَيْ عَلَى قَصْدٍ وَقُدْرَةٍ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ تَمَكَّنُوا مِنْ مُرَادِهِمْ. قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَالْحَرْدُ الْقَصْدُ. حَرَدَ يَحْرِدُ (بِالْكَسْرِ) حَرْدًا قَصَدَ. تَقُولُ: حَرَدْتُ حَرْدَكَ، أَيْ قَصَدْتُ قَصْدَكَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
أَقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدٍ اللَّهْ ... يَحْرِدُ حَرْدَ الْجَنَّةِ الْمُغِلَّهْ
أَنْشَدَهُ النَّحَّاسُ:
قَدْ جَاءَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ... يَحْرِدُ حَرْدَ الْجَنَّةِ الْمُغِلَّهْ

(18/242)


قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمُغِلَّةُ ذَاتُ الْغَلَّةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُغِلَّةُ الَّتِي يَجْرِي الْمَاءُ فِي غُلَلِهَا «1» أَيْ فِي أُصُولِهَا. وَمِنْهُ تَغَلَّلْتُ بِالْغَالِيَةِ. وَمِنْهُ تَغَلَّيْتُ، أَبْدَلَ مِنَ اللَّامِ يَاءً. وَمَنْ قَالَ تَغَلَّفْتُ فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ جَعَلْتُهَا غِلَافًا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: عَلى حَرْدٍ أَيْ عَلَى جَدٍّ. الْحَسَنُ: عَلَى حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْقُتَيْبِيُّ: عَلَى حَرْدٍ عَلَى مَنْعٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ حَارَدَتِ الْإِبِلُ حِرَادًا أَيْ قَلَّتْ أَلْبَانُهَا. وَالْحُرُودُ مِنَ النُّوقِ الْقَلِيلَةُ الدَّرِّ. وَحَارَدَتِ السَّنَةَ قَلَّ مَطَرُهَا وَخَيْرُهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَسُفْيَانُ: عَلى حَرْدٍ عَلَى غَضَبٍ. وَالْحَرْدُ الْغَضَبُ. قَالَ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ صَاحِبُ الْأَصْمَعِيِّ: وَهُوَ مُخَفَّفٌ، وَأَنْشَدَ شِعْرًا:
إِذَا جِيَادُ الْخَيْلِ جَاءَتْ تَرْدِي ... مَمْلُوءَةً مِنْ غَضَبٍ وَحَرَدِ
وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَقَدْ يُحَرَّكُ تَقُولُ مِنْهُ: حُرِدَ (بِالْكَسْرِ) حَرْدًا، فَهُوَ حَارِدٌ وَحَرْدَانُ. وَمِنْهُ قِيلَ: أَسَدٌ حَارِدٌ، وَلُيُوثٌ حَوَارِدُ. وَقِيلَ: عَلى حَرْدٍ عَلَى انْفِرَادٍ. يُقَالُ: حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُودًا، أَيْ تَنَحَّى عَنْ قَوْمِهِ وَنَزَلَ مُنْفَرِدًا وَلَمْ يُخَالِطْهُمْ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: رَجُلٌ حَرِيدٌ مِنْ قَوْمٍ حُرَدَاءَ. وَقَدْ حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُودًا، إِذَا تَرَكَ قَوْمَهُ وَتَحَوَّلَ عَنْهُمْ. وَكَوْكَبٌ حَرِيدٌ، أَيْ مُعْتَزِلٌ عَنِ الْكَوَاكِبِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: رَجُلٌ حَرِيدٌ، أَيْ فَرِيدٌ وَحِيدٌ. قَالَ وَالْمُنْحَرِدُ الْمُنْفَرِدُ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ. وَأَنْشَدَ لِأَبِي ذُؤَيْبٍ:
كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي الْجَوِّ مُنْحَرِدُ

وَرَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو بِالْجِيمِ، وَفَسَّرَهُ: مُنْفَرِدٌ. قَالَ: وَهُوَ سُهَيْلٌ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: حَرْدٌ اسْمُ قَرْيَتِهِمْ. السُّدِّيُّ: اسْمُ جَنَّتِهِمْ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: حَرْدٌ وَحَرَدٌ. وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِالْإِسْكَانِ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ السَّمَيْقَعِ بِالْفَتْحِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَمَعْنَى قادِرِينَ قَدْ قَدَّرُوا أَمْرَهُمْ وَبَنَوْا عَلَيْهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَادِرِينَ عَلَى جَنَّتِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قادِرِينَ يَعْنِي عَلَى الْمَسَاكِينِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مِنَ الْوُجُودِ، أي منعوا وهم واجدون.
__________
(1). الذي في كتب اللغة: الغلل: الماء الذي يجرى في أصول الشجر، أو الماء الظاهر الجاري.

(18/243)


فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)

[سورة القلم (68): الآيات 26 الى 27]
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي لما رأوها محترقة لا شي فِيهَا قَدْ صَارَتْ كَاللَّيْلِ الْأَسْوَدِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا كَالرَّمَادِ، أَنْكَرُوهَا وَشَكُّوا فِيهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّا لَضَالُّونَ أَيْ ضَلَلْنَا الطَّرِيقَ إِلَى جَنَّتِنَا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: أَيْ إِنَّا لَضَالُّونَ عَنِ الصواب في غدونا وعلى نِيَّةِ مَنْعِ الْمَسَاكِينِ، فَلِذَلِكَ عُوقِبْنَا. (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أَيْ حُرِمْنَا جَنَّتَنَا بِمَا صَنَعْنَا. رَوَى أَسْبَاطٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِيَّاكُمْ وَالْمَعَاصِي إِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحْرَمُ بِهِ رِزْقًا كان هي لَهُ- ثُمَّ تَلَا- فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ [القلم: 19]) الآيتين.

[سورة القلم (68): الآيات 28 الى 32]
قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أَيْ أَمْثَلُهُمْ وَأَعْدَلُهُمْ وَأَعْقَلُهُمْ. (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) أَيْ هَلَّا تَسْتَثْنُونَ. وَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ تَسْبِيحًا، قال مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَوْسَطَ كَانَ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَلَمْ يُطِيعُوهُ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ سُبْحَانَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُمْ: هَلَّا تُسَبِّحُونَ اللَّهَ، أَيْ تَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَشْكُرُونَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَصْلُ التَّسْبِيحِ التَّنْزِيهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَعَلَ مُجَاهِدٌ التَّسْبِيحَ فِي مَوْضِعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى تَنْزِيهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يكون شي إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ. وَقِيلَ: هَلَّا تَسْتَغْفِرُونَهُ مِنْ فِعْلِكُمْ وَتَتُوبُونَ إِلَيْهِ مِنْ خُبْثِ نِيَّتِكُمْ، فَإِنَّ أَوْسَطَهُمْ قَالَ لَهُمْ حِينَ عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ وَذَكَّرَهُمُ انْتِقَامَهُ مِنَ الْمُجْرِمِينَ (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) اعْتَرَفُوا بِالْمَعْصِيَةِ وَنَزَّهُوا اللَّهَ عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا فِيمَا فَعَلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِمْ: سُبْحانَ رَبِّنا أَيْ نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذَنْبِنَا. (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لِأَنْفُسِنَا

(18/244)


كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)

فِي مَنْعِنَا الْمَسَاكِينَ. (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أَيْ يَلُومُ هَذَا هَذَا فِي الْقَسَمِ وَمَنْعِ الْمَسَاكِينِ، وَيَقُولُ: بَلْ أَنْتَ أَشَرْتَ عَلَيْنَا بِهَذَا. (قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أَيْ عَاصِينَ بِمَنْعِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَتَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: طَغَيْنَا نِعَمَ اللَّهِ فَلَمْ نَشْكُرْهَا كَمَا شَكَرَهَا آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ. (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) تَعَاقَدُوا وَقَالُوا: إِنْ أَبْدَلَنَا اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا لَنَصْنَعَنَّ كَمَا صَنَعَتْ آبَاؤُنَا، فَدَعَوُا اللَّهَ وَتَضَرَّعُوا فَأَبْدَلَهُمُ اللَّهُ مِنْ لَيْلَتِهِمْ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا، وَأَمَرَ جِبْرِيلَ أَنْ يَقْتَلِعَ تِلْكَ الْجَنَّةَ الْمُحْتَرِقَةَ فَيَجْعَلَهَا بِزُغَرَ «1» مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَيَأْخُذَ مِنَ الشَّامِ جَنَّةً فَيَجْعَلَهَا مَكَانَهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْقَوْمَ أَخْلَصُوا وَعَرَفَ اللَّهُ مِنْهُمْ صِدْقَهُمْ فَأَبْدَلَهُمْ جَنَّةً يُقَالُ لَهَا الْحَيَوَانُ، فِيهَا عِنَبٌ يَحْمِلُ الْبَغْلُ مِنْهَا عُنْقُودًا وَاحِدًا. وَقَالَ الْيَمَانِيُّ أَبُو خَالِدٍ: دَخَلْتُ تِلْكَ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ كُلَّ عُنْقُودٍ مِنْهَا كَالرَّجُلِ الْأَسْوَدِ الْقَائِمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: قَوْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) لَا أَدْرِي إِيمَانًا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، أَوْ عَلَى حَدِّ مَا يَكُونُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمُ الشدة، فيوقف في كونهم مؤمنين. وسيل قَتَادَةُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ: أَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ فَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفْتَنِي تَعَبًا. وَالْمُعْظَمُ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ تَابُوا وَأَخْلَصُوا، حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ يُبْدِلَنا بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ: التَّبْدِيلُ تَغْيِيرُ الشَّيْءِ أَوْ تَغْيِيرُ حَالِهِ وَعَيْنُ الشَّيْءِ قَائِمٌ. وَالْإِبْدَالُ رَفْعُ الشَّيْءِ وَوَضْعُ آخَرَ مَكَانَهُ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ" القول في هذا «2».

[سورة القلم (68): آية 33]
كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذلِكَ الْعَذابُ) أَيْ عَذَابُ الدُّنْيَا وَهَلَاكُ الْأَمْوَالِ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا وَعْظٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ لَمَّا ابْتَلَاهُمْ بِالْجَدْبِ لِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ كَفِعْلِنَا بِهِمْ نَفْعَلُ بِمَنْ تَعَدَّى حُدُودَنَا فِي الدُّنْيَا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)
__________
(1). زغر: بضم الزاي وفتح الغين المعجمة وآخرها راء.
(2). راجع ج 5 ص 245)
(

(18/245)


إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَثَلٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ وَحَلَفُوا لَيَقْتُلُنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَلَيَرْجِعُنَّ «1» إِلَى مَكَّةَ حَتَّى يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَيَشْرَبُوا الْخَمْرَ، وَتَضْرِبَ القينات على رؤوسهم، فَأَخْلَفَ اللَّهُ ظَنَّهُمْ وَأُسِرُوا وَقُتِلُوا وَانْهَزَمُوا كَأَهْلِ هذه الحنة لَمَّا خَرَجُوا عَازِمِينَ عَلَى الصِّرَامِ فَخَابُوا. ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ الْحَقَّ الَّذِي مَنَعَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْمَسَاكِينَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ تَطَوُّعًا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، فَبَعُدَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ مِنَ الْقَحْطِ، وَعَلَى قتال بدر.

[سورة القلم (68): الآيات 34 الى 39]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ، أَيْ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْآخِرَةِ جَنَّاتٍ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا التَّنَعُّمُ الْخَالِصُ، لَا يَشُوبُهُ مَا يُنَغِّصُهُ كَمَا يَشُوبُ جَنَّاتِ الدُّنْيَا. وَكَانَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ يَرَوْنَ وُفُورَ حَظِّهِمْ مِنَ الدُّنْيَا وَقِلَّةَ حُظُوظِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، فَإِذَا سَمِعُوا بِحَدِيثِ الْآخِرَةِ وَمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: إِنْ صَحَّ أَنَّا نُبْعَثُ كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ وَمَنْ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ حَالُنَا وَحَالُهُمْ إِلَّا مِثْلَ مَا هِيَ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَّا لَمْ يَزِيدُوا عَلَيْنَا وَلَمْ يَفْضُلُونَا، وَأَقْصَى أَمْرِهِمْ أَنْ يُسَاوُونَا. فَقَالَ: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) أَيْ كَالْكَفَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: قَالَتْ كُفَّارُ مَكَّةَ: إِنَّا نُعْطَى فِي الْآخِرَةِ خَيْرًا مِمَّا تُعْطَوْنَ، فَنَزَلَتْ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ ونجهم فَقَالَ: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هَذَا الْحُكْمَ الْأَعْوَجَ، كَأَنَّ أَمْرَ الْجَزَاءِ مُفَوَّضٌ إِلَيْكُمْ حَتَّى تَحْكُمُوا فِيهِ بِمَا شِئْتُمْ أَنَّ لَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا لِلْمُسْلِمِينَ. (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) أَيْ لَكُمْ كِتَابٌ تَجِدُونَ فِيهِ الْمُطِيعَ كَالْعَاصِي. (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) تَخْتَارُونَ وَتَشْتَهُونَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لَكُمْ (بِالْفَتْحِ) وَلَكِنَّهُ كُسِرَ لِدُخُولِ اللَّامِ، تَقُولُ عَلِمْتُ أَنَّكَ عَاقِلٌ (بِالْفَتْحِ)، وعلمت
__________
(1). في ح. ز، ط، ل، هـ" وليرجعوا". [ ..... ]

(18/246)


سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)

إِنَّكَ لَعَاقِلٌ (بِالْكَسْرِ). فَالْعَامِلُ فِي إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ تَدْرُسُونَ فِي الْمَعْنَى. وَمَنَعَتِ اللَّامُ مِنْ فَتْحِ إِنَّ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: تَدْرُسُونَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أَيْ إِنَّ لَكُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِذًا مَا تَخَيَّرُونَ، أَيْ لَيْسَ لَكُمْ ذَلِكَ. وَالْكِنَايَةُ فِي فِيهِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْكِتَابِ. ثُمَّ زَادَ فِي التَّوْبِيخِ فَقَالَ: (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ) أَيْ عُهُودٌ وَمَوَاثِيقُ. (عَلَيْنا بالِغَةٌ) مُؤَكَّدَةٌ. وَالْبَالِغَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى. أَيْ أَمْ لَكُمْ عُهُودٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْتَوْثَقْتُمْ بِهَا فِي أَنْ يُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ. (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) كسرت أَيْمانٌ لِدُخُولِ اللَّامِ فِي الْخَبَرِ. وَهِيَ مِنْ صِلَةِ أَيْمانٌ، وَالْمَوْضِعُ النَّصْبُ وَلَكِنْ كُسِرَتْ لِأَجْلِ اللَّامِ، تَقُولُ: حَلَفْتُ إِنَّ لَكَ لَكَذَا. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ إِذًا، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ" أَيْنَ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ" أَيْنَ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ"، بِالِاسْتِفْهَامِ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ (بَالِغَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَكُمْ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَيْمانٌ فَفِيهِ ضَمِيرٌ مِنْهُ. وَإِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْنا إِنْ قَدَّرْتَ عَلَيْنا وَصْفًا لِلْأَيْمَانِ لَا مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْأَيْمَانِ، لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا مِنْهُ، كَمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ خَبَرًا عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ أَيْمانٌ وَإِنْ كَانَتْ نَكِرَةً، كَمَا أَجَازُوا نَصْبَ حَقًّا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَتاعٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ «1» [البقرة: 241]. وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بالِغَةٌ بِالرَّفْعِ نَعْتٌ لِ أَيْمانٌ.

[سورة القلم (68): الآيات 40 الى 41]
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) أَيْ سَلْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُتَقَوِّلِينَ عَلَيَّ: أَيُّهُمْ كَفِيلٌ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَهُوَ أَنَّ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ «2» مَا لِلْمُسْلِمِينَ. وَالزَّعِيمُ: الْكَفِيلُ وَالضَّمِينُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الزَّعِيمُ هُنَا القائم بالحجة والدعوى. وقال الحسن:
__________
(1). راجع ج 3 ص 228.
(2). زيادة يقتضيها السياق.

(18/247)


يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)

الزَّعِيمُ الرَّسُولُ. (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أَيْ أَلَهُمْ وَالْمِيمُ صِلَةٌ. شُرَكاءُ أَيْ شُهَدَاءُ. (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) يَشْهَدُونَ عَلَى مَا زَعَمُوا. (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) دَعْوَاهُمْ. وَقِيلَ: أَيْ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ أَمْكَنَهُمْ، فهو أمر معناه التعجيز.

[سورة القلم (68): الآيات 42 الى 43]
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي يَوْمَ فَلْيَأْتُوا أَيْ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ لِيَشْفَعَ الشُّرَكَاءُ لَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيِ اذْكُرْ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، فَيُوقَفُ عَلَى صادِقِينَ وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ. وقرى" يَوْمَ نَكْشِفُ" بِالنُّونِ." وَقَرَأَ" ابْنُ عَبَّاسٍ" يَوْمَ تَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ" بِتَاءِ مُسَمَّى الْفَاعِلِ، أَيْ تَكْشِفُ الشِّدَّةُ أَوِ الْقِيَامَةُ. عَنْ سَاقِهَا، كَقَوْلِهِمْ: شَمَّرَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَتَى الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا «1»
وَقَالَ الرَّاجِزُ:
قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا فَشُدُّوا ... وَجَدَّتِ الْحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا
وَقَالَ آخَرُ:
عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي وَمِنْ إِشْفَاقِهَا ... وَمِنْ طِرَادِ الطَّيْرِ عَنْ أَرْزَاقِهَا
فِي سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا ... حَمْرَاءَ تَبْرِي اللَّحْمَ عَنْ عُرَاقِهَا «2»
وَقَالَ آخَرُ:
كَشَفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا ... وَبَدَا مِنَ الشَّرِّ الصُّرَاحْ
__________
(1). البيت لحاتم الطائي. ويروى: أخو الحرب. وأخا الحرب.
(2). العراق بضم العين: العظم بغير لحم، فإن كان عليه لحم فهو عرق بفتحها.

(18/248)


وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَأَبِي الْعَالِيَةِ" تُكْشَفُ" بِتَاءِ غَيْرِ مُسَمَّى الْفَاعِلِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنَى يُكْشَفُ وَكَأَنَّهُ قَالَ: يَوْمَ تكشف القيامة عن شدة. وقرى" يَوْمَ تُكْشِفُ" بِالتَّاءِ الْمَضْمُومَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ، مِنْ أَكْشَفَ إِذَا دَخَلَ فِي الْكَشْفِ. وَمِنْهُ: أَكْشَفَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُكْشَفٌ، إِذَا انْقَلَبَتْ شَفَتُهُ الْعُلْيَا. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قَالَ: عَنْ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: شِدَّةُ الْأَمْرِ وَجَدُّهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ أَشَدُّ سَاعَةً فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِذَا اشْتَدَّ الْحَرْبُ وَالْأَمْرُ قِيلَ: كَشَفَ الْأَمْرُ عَنْ سَاقِهِ. والأصل فيه أن من وقع في شي يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْجَدِّ شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ، فَاسْتُعِيرَ السَّاقُ وَالْكَشْفُ عَنْهَا فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ. وَقِيلَ: سَاقُ الشَّيْءِ أَصْلُهُ الَّذِي بِهِ قِوَامُهُ، كَسَاقِ الشَّجَرَةِ وَسَاقِ الْإِنْسَانِ. أَيْ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ أَصْلِ الْأَمْرِ فَتَظْهَرُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَأَصْلُهَا. وَقِيلَ: يُكْشَفُ عَنْ سَاقِ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: عَنْ سَاقِ الْعَرْشِ. وَقِيلَ: يُرِيدُ وَقْتَ اقْتِرَابِ الْأَجَلِ وَضَعْفِ الْبَدَنِ، أَيْ يَكْشِفُ الْمَرِيضُ عَنْ سَاقِهِ لِيَبْصُرَ ضَعْفَهُ، وَيَدْعُوَهُ الْمُؤَذِّنُ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ وَيَخْرُجَ. فَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَتَعَالَى عَنِ الْأَعْضَاءِ وَالتَّبْعِيضِ وَأَنْ يَكْشِفَ وَيَتَغَطَّى. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكْشِفَ عَنِ الْعَظِيمِ مِنْ أَمْرِهِ. وَقِيلَ: يَكْشِفُ عَنْ نُورِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى أَبُو مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَنْ ساقٍ قَالَ: (يَكْشِفُ عَنْ نُورٍ عَظِيمٍ يَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا). وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ مَنِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُدْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عُمَارَةَ الْقُرَشِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مُثِّلَ لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا فَيَذْهَبُ كُلُّ قَوْمٍ إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحد فَيُقَالُ لَهُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ إِنَّ لَنَا رَبًّا كُنَّا نَعْبُدُهُ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ نَرَهُ- قَالَ- وَتَعْرِفُونَهُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُقَالُ فَكَيْفَ تَعْرِفُونَهُ وَلَمْ تَرَوْهُ قَالُوا إِنَّهُ لَا شَبِيهَ لَهُ

(18/249)


فَيَكْشِفُ لَهُمُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا وَتَبْقَى أَقْوَامٌ ظُهُورُهُمْ مِثْلُ صَيَاصِي «1» الْبَقَرِ فَيَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيُرِيدُونَ السُّجُودَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ فيقول الله تعالى عباد ي ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَقَدْ جَعَلْتُ بَدَلَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي النَّارِ (. قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ حَدَّثَكَ أَبُوكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ؟ فَحَلَفَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا سَمِعْتُ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ حَدِيثًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ هَذَا. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ: حَدَّثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَامَ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَرْبَعِينَ عَامًا شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، حُفَاةً عُرَاةً يُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ، فَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ عَامًا، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَيْسَ عَدْلًا مِنْ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَصَوَّرَكُمْ وأماتكم وأحياكم ثم عبد تم غَيْرَهُ أَنْ يُوَلِّيَ كُلَّ قَوْمٍ مَا تَوَلَّوْا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَيُرْفَعُ لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَتْبَعُونَهَا حَتَّى تَقْذِفَهُمْ فِي النَّارِ، فَيَبْقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَا تَذْهَبُونَ قَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ حتى يأتينا ربنا، فيقال لهم: أو تعرفونه؟ فَيَقُولُونَ: إِنِ اعْتَرَفَ «2» لَنَا عَرَفْنَاهُ. قَالَ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيَتَجَلَّى لَهُمْ فَيَخِرُّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُهُ مُخْلِصًا سَاجِدًا، وَيَبْقَى الْمُنَافِقُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ كَأَنَّ فِي ظُهُورِهِمُ السَّفَافِيدَ «3»، فَيُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَيَدْخُلُ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أَيْ ذَلِيلَةً مُتَوَاضِعَةً، وَنَصْبُهَا عَلَى الْحَالِ. (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرْفَعُونَ رؤوسهم وَوُجُوهَهُمْ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ. وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ حَتَّى تَرْجِعَ أَشَدَّ سَوَادًا مِنَ الْقَارِ. قُلْتُ: مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَابْنِ مَسْعُودٍ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وغيره.
__________
(1). صياصي البقر: قرونها.
(2). أي إذا وصف نفسه بصفة تحققه بها.
(3). السفافيد: جمع السفود (وزن التنور): الحديدة التي يشوى بها اللحم.

(18/250)


فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أَيْ فِي الدُّنْيَا. (وَهُمْ سالِمُونَ) مُعَافُونَ أَصِحَّاءُ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: أَيْ يُدْعَوْنَ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فيأبونه. وقال سعيد ابن جُبَيْرٍ: كَانُوا يَسْمَعُونَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَلَا يُجِيبُونَ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا فِي الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ. وَقِيلَ: أَيْ بِالتَّكْلِيفِ الْمُوَجَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الشَّرْعِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ «1». وَكَانَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ قَدْ فُلِجَ وَكَانَ يُهَادَى «2» بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ: يَا أَبَا يَزِيدَ، لَوْ صَلَّيْتَ فِي بَيْتِكَ لَكَانَتْ لَكَ رُخْصَةٌ. فَقَالَ: مَنْ سَمِعَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَلْيُجِبْ وَلَوْ حَبْوًا. وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ طَارِقًا يُرِيدُ قَتْلَكَ فَتَغَيَّبْ. فَقَالَ: أَبِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ اللَّهُ عَلَيَّ؟ فَقِيلَ لَهُ: اجْلِسْ فِي بَيْتِكَ. فَقَالَ: أَسْمَعُ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، فلا أجيب!

[سورة القلم (68): الآيات 44 الى 45]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَذَرْنِي) أَيْ دَعْنِي. (وَمَنْ يُكَذِّبُ) مَنْ مَفْعُولٍ مَعَهُ أَوْ مَعْطُوفٍ عَلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ. (بِهذَا الْحَدِيثِ) يَعْنِي الْقُرْآنَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ فَأَنَا أُجَازِيهِمْ وأنتقم منهم. ثم قال (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) مَعْنَاهُ سَنَأْخُذُهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ، فَعُذِّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: نُسْبِغُ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ وَنُنْسِيهِمُ الشُّكْرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَمْ مُسْتَدْرَجٌ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَكَمْ مَفْتُونٌ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَكَمْ مَغْرُورٌ بِالسِّتْرِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: أَيْ كُلَّمَا أَحْدَثُوا خَطِيئَةً جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَةً وَأَنْسَيْنَاهُمُ الِاسْتِغْفَارَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَنَمْكُرُ بِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ نَأْخُذَهُمْ قَلِيلًا وَلَا نُبَاغِتَهُمْ. وَفِي حَدِيثٍ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ يَا رب كم أعصيك
__________
(1). راجع ج 1 ص 348.
(2). أي يمشى بينهما معتمدا عليهما لضعفه وتمايله، من" تهادت المرأة في مشيتها": إذا تمايلت.

(18/251)


أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)

وَأَنْتَ لَا تُعَاقِبُنِي- قَالَ- فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّ زَمَانِهِمْ أَنْ قُلْ لَهُ كَمْ مِنْ عُقُوبَةٍ لِي عَلَيْكَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ. إِنَّ جُمُودَ عَيْنَيْكَ وَقَسَاوَةَ قَلْبِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنِّي وَعُقُوبَةٌ لَوْ عَقَلْتَ (. وَالِاسْتِدْرَاجُ: تَرْكُ الْمُعَاجَلَةِ. وَأَصْلُهُ النَّقْلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ كَالتَّدَرُّجِ. وَمِنْهُ قِيلَ دَرَجَةٌ، وَهِيَ مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ. وَاسْتَدْرَجَ فُلَانٌ فُلَانًا، أَيِ اسْتَخْرَجَ مَا عِنْدَهُ قَلِيلًا. وَيُقَالُ: دَرَجَهُ إِلَى كَذَا وَاسْتَدْرَجَهُ بِمَعْنًى، أَيْ أَدْنَاهُ مِنْهُ عَلَى التَّدْرِيجِ فَتَدَرَّجَ هُوَ. (وَأُمْلِي لَهُمْ) أَيْ أُمْهِلُهُمْ وَأُطِيلُ لَهُمُ الْمُدَّةَ. وَالْمُلَاوَةُ: «1» الْمُدَّةُ مِنَ الدَّهْرِ. وَأَمْلَى اللَّهُ لَهُ أَيْ أَطَالَ لَهُ. وَالْمَلَوَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقِيلَ: وَأُمْلِي لَهُمْ أَيْ لَا أُعَاجِلُهُمْ بِالْمَوْتِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَعْرَافِ" بَيَانُ هَذَا «2». (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أَيْ إِنَّ عَذَابِي لَقَوِيٌّ شَدِيدٌ فَلَا يفوتني أحد.

[سورة القلم (68): آية 46]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)
عَادَ الْكَلَامُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ [القلم: 41]. أَيْ أَمْ تَلْتَمِسُ مِنْهُمْ ثَوَابًا عَلَى مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ؟ فَهُمْ مِنْ غَرَامَةِ ذَلِكَ مُثْقَلُونَ لِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ، أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ كُلْفَةٌ، بَلْ يَسْتَوْلُونَ بِمُتَابَعَتِكَ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَيَصِلُونَ إِلَى جنات النعيم.

[سورة القلم (68): آية 47]
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أَيْ عِلْمُ مَا غَابَ عَنْهُمْ. (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) وَقِيلَ: أَيَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْوَحْيُ بِهَذَا الَّذِي يَقُولُونَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْغَيْبُ هُنَا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ مِمَّا فِيهِ يُخَاصِمُونَكَ بِهِ، وَيَكْتُبُونَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْكُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُعَاقَبُونَ. وَقِيلَ: يَكْتُبُونَ يَحْكُمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا يريدون.

[سورة القلم (68): آية 48]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
__________
(1). مثلث الميم.
(2). راجع 7 ص 329

(18/252)


لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أَيْ لِقَضَاءِ رَبِّكَ. وَالْحُكْمُ هُنَا الْقَضَاءُ. وَقِيلَ: فَاصْبِرْ عَلَى مَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: فَاصْبِرْ لِنَصْرِ رَبِّكَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ لَا تَعْجَلْ وَلَا تُغَاضِبْ فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْرِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يَعْنِي يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَيْ لَا تَكُنْ مِثْلَهُ فِي الْغَضَبِ وَالضَّجَرِ وَالْعَجَلَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرُهُ بِالصَّبْرِ وَلَا يَعْجَلُ كَمَا عَجِلَ صَاحِبُ الْحُوتِ، وَقَدْ مَضَى خَبَرُهُ فِي سُورَةِ" يُونُسَ، «1» وَالْأَنْبِيَاءِ، «2» وَالصَّافَّاتِ" «3» وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِضَافَةِ ذِي وَصَاحِبِ فِي سُورَةِ" يُونُسَ" فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. (إِذْ نَادَى) أَيْ حِينَ دَعَا فِي بَطْنِ الْحُوتِ فَقَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87]. (وَهُوَ مَكْظُومٌ) أَيْ مَمْلُوءٌ غَمًّا. وَقِيلَ: كَرْبًا. الْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي قَوْلُ عَطَاءٍ وَأَبِي مَالِكٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْغَمَّ فِي الْقَلْبِ، وَالْكَرْبَ فِي الْأَنْفَاسِ. وَقِيلَ: مَكْظُومٌ مَحْبُوسٌ. وَالْكَظْمُ الْحَبْسُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ كَظَمَ غَيْظَهُ، أَيْ حَبَسَ غَضَبَهُ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمَأْخُوذُ بِكَظْمِهِ وَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا وغيره في" يوسف" «4».

[سورة القلم (68): الآيات 49 الى 50]
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
قوله تعالى: (لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ تَدارَكَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَالْحَسَنُ (تَدَّارَكُهُ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ، وَهُوَ مُضَارِعٌ أُدْغِمَتِ التَّاءُ مِنْهُ فِي الدَّالِ وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ حِكَايَةِ الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنْ كَانَ يُقَالُ فِيهِ تَتَدَارَكُهُ نِعْمَةٌ. ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ:" تَدَارَكَتْهُ" وَهُوَ خلاف المرسوم. وتَدارَكَهُ فعل ماض مذكر حمل على معنى
__________
(1). راجع ج 8 ص (383)
(2). راجع ج 11 ص (239)
(3). راجع ج 15 ص (121) [ ..... ]
(4). راجع ج 9 ص 259

(18/253)


وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)

النِّعْمَةِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ النِّعْمَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وَ" تَدَارَكَتْهُ" عَلَى لَفْظِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى النِّعْمَةِ هُنَا، فَقِيلَ النُّبُوَّةُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ عِبَادَتُهُ الَّتِي سَلَفَتْ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: نِدَاؤُهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87]، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقِيلَ: أَيْ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فَرَحِمَهُ وَتَابَ عَلَيْهِ. (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) أَيْ لَنُبِذَ مَذْمُومًا وَلَكِنَّهُ نُبِذَ سَقِيمًا غَيْرَ مَذْمُومٍ. وَمَعْنَى مَذْمُومٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُلِيمٌ. قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مُذْنِبٌ. وَقِيلَ: مَذْمُومٌ مُبْعَدٌ مِنْ كُلِّ، خَيْرٍ. وَالْعَرَاءُ: الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ الْفَضَاءِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ يَسْتُرُ. وَقِيلَ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَبَقِيَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ نُبِذَ بِعَرَاءِ الْقِيَامَةِ مَذْمُومًا. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «1» [الصافات: 144 - 143]. (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) أَيِ اصْطَفَاهُ وَاخْتَارَهُ. فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ الْوَحْيَ، وَشَفَّعَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي قَوْمِهِ، وَقَبِلَ تَوْبَتَهُ، وَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ بِأَنْ أَرْسَلَهُ إِلَى مائة ألف أو يزيدون.

[سورة القلم (68): آية 51]
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. لَيُزْلِقُونَكَ أَيْ يَعْتَانُونَكَ. (بِأَبْصارِهِمْ) أَخْبَرَ بِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوهُ بِالْعَيْنِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ وَلَا مِثْلَ حُجَجِهِ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْعَيْنُ فِي بَنِي أَسَدٍ، حَتَّى إِنَّ الْبَقَرَةَ السَّمِينَةَ أَوِ النَّاقَةَ السَّمِينَةَ تَمُرُّ بِأَحَدِهِمْ فَيُعَايِنُهَا ثُمَّ يَقُولُ: يَا جَارِيَةُ، خُذِي الْمِكْتَلَ «2» وَالدِّرْهَمَ فَأْتِينَا بِلَحْمِ هَذِهِ الناقة، فما تبرح حتى تقع للموت
__________
(1). راجع ج 15 ص (123)
(2). المكتل: زبيل يعمل من الخوص يحمل فيه التمر وغيره.

(18/254)


فَتُنْحَرَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ يَمْكُثُ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ يَرْفَعُ جَانِبَ الْخِبَاءِ فَتَمُرُّ بِهِ الْإِبِلُ أَوِ الْغَنَمُ فَيَقُولُ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ إِبِلًا وَلَا غَنَمًا أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ! فَمَا تَذْهَبُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تَسْقُطَ مِنْهَا طَائِفَةٌ هَالِكَةٌ. فَسَأَلَ الْكُفَّارُ هَذَا الرَّجُلَ أَنْ يُصِيبَ لَهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَيْنِ فَأَجَابَهُمْ، فَلَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْشَدَ:
قَدْ كَانَ قَوْمُكَ يَحْسِبُونَكَ سَيِّدًا ... وَإِخَالُ أَنَّكَ سَيِّدٌ مَعْيُونُ
فَعَصَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَتْ: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ. وَذَكَرَ نَحْوَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا- يَعْنِي فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ- تَجَوَّعَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَتَعَرَّضُ لِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَيَقُولُ: تَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَقْوَى مِنْهُ وَلَا أَشْجَعَ وَلَا أَكْثَرَ مِنْهُ وَلَا أَحْسَنَ، فَيُصِيبُهُ بِعَيْنِهِ فَيَهْلِكُ هُوَ وَمَالُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ الِاسْتِحْسَانِ وَالْإِعْجَابِ لَا مَعَ الْكَرَاهِيَةِ وَالْبُغْضِ، وَلِهَذَا قَالَ: (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أَيْ يَنْسُبُونَكَ إِلَى الْجُنُونِ إِذَا رَأَوْكَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ. قُلْتُ: أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ وَاللُّغَوِيِّينَ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَنَّ مُرَادَهُمْ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ قَتْلُهُ. وَلَا يَمْنَعُ كَرَاهَةُ الشَّيْءِ مِنْ أَنْ يُصَابَ بِالْعَيْنِ عَدَاوَةً حَتَّى يَهْلِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وابن مسعود والأعمش وأبو وائل ومجاهد لَيُزْلِقُونَكَ أَيْ لَيُهْلِكُونَكَ. وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ، مِنْ زَهِقَتْ نَفْسُهُ وَأَزْهَقَهَا. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ (لَيَزْلِقُونَكَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَضَمَّهَا الْبَاقُونَ، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى، يُقَالُ: زَلَقَهُ يَزْلِقُهُ وَأَزْلَقَهُ يُزْلِقُهُ إِزْلَاقًا إِذَا نَحَّاهُ وَأَبْعَدَهُ. وَزَلَقَ رَأْسَهُ يَزْلِقُهُ زَلْقًا إِذَا حَلَقَهُ. وَكَذَلِكَ أَزْلَقَهُ وَزَلَقَهُ تَزْلِيقًا. وَرَجُلٌ زَلِقٌ وَزُمَّلِقٌ- مِثَالُ هُدَبِدٌ- وَزُمَالِقٌ وَزُمَّلِقٌ- بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ- وَهُوَ الَّذِي يُنْزِلُ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَ، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ. فَمَعْنَى الْكَلِمَةِ إِذًا التَّنْحِيَةُ وَالْإِزَالَةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِهَلَاكِهِ وَمَوْتِهِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: أَرَادَ لَيَعْتَانُونَكَ بِعُيُونِهِمْ فَيُزِيلُونَكَ عَنْ مَقَامِكَ الَّذِي أَقَامَكَ اللَّهُ فِيهِ عَدَاوَةً لَكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْفُذُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ، يُقَالُ: زَلَقَ السَّهْمُ وَزَهَقَ إِذَا نَفَذَ،

(18/255)


وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. أَيْ يَنْفُذُونَكَ مِنْ شِدَّةِ نَظَرِهِمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَصْرَعُونَكَ. وَعَنْهُ أَيْضًا وَالسُّدِّيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَصْرِفُونَكَ عَمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ يَرْمُونَكَ. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: يُزِيلُونَكَ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَالْأَخْفَشُ: يفتنونك. وقال عبد العزيز ابن يَحْيَى: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرًا شَزْرًا بِتَحْدِيقٍ شَدِيدٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَيَمَسُّونَكَ. وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: لَيَأْكُلُونَكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: لَيَقْتُلُونَكَ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: صَرَعَنِي بِطَرْفِهِ، وَقَتَلَنِي بِعَيْنِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرْمِيكَ مُزْلَقَةُ الْعُيُونِ بِطَرْفِهَا ... وَتَكِلُّ عَنْكَ نِصَالُ نَبْلِ الرَّامِي
وَقَالَ آخَرُ:
يَتَقَارَضُونَ إِذَا الْتَقَوْا فِي مَجْلِسٍ ... نَظَرًا يُزِلُّ «1» مَوَاطِئَ الْأَقْدَامِ
وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِالْعَدَاوَةِ حَتَّى كَادُوا يُسْقِطُونَكَ. وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَنَّ الْمَعْنَى الْجَامِعَ: يُصِيبُونَكَ بِالْعَيْنِ. وَاللَّهُ أعلم.

[سورة القلم (68): آية 52]
وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أَيْ وَمَا الْقُرْآنُ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. وَقِيلَ: أَيْ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ شَرَفٌ، أَيِ الْقُرْآنُ. كَمَا قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «2» [الزخرف: 44] وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَفٌ لِلْعَالَمِينَ أَيْضًا. شَرُفُوا بِاتِّبَاعِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[تفسير سورة الحاقة]
سُورَةُ الْحَاقَّةِ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَهِيَ إِحْدَى وَخَمْسُونَ آيَةً رَوَى أَبُو الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَرَأَ إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْحَاقَّةِ أُجِيرَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. وَمَنْ قَرَأَهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ القيامة من فوق رأسه إلى قدمه (.
__________
(1). في اللسان" يزيل" وكلاهما صحيح.
(2). راجع 16 ج ص 99

(18/256)