تفسير القرطبي الْحَاقَّةُ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحاقة (69): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا
الْحَاقَّةُ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ) يُرِيدُ
الْقِيَامَةَ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمُورَ تَحِقُّ
فِيهَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. كَأَنَّهُ جَعَلَهَا مِنْ بَابِ"
لَيْلٍ نَائِمٍ". وَقِيلَ: سُمِّيَتْ حَاقَّةً لِأَنَّهَا
تَكُونُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ
لِأَنَّهَا أَحَقَّتْ لِأَقْوَامٍ الْجَنَّةَ، وَأَحَقَّتْ
لِأَقْوَامٍ النَّارَ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ
فِيهَا يَصِيرُ كُلُّ إِنْسَانٍ حَقِيقًا بِجَزَاءِ عَمَلِهِ.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ حَاقَقْتُهُ فَحَقَقْتُهُ
أَحُقُّهُ، أَيْ غَالَبْتُهُ فَغَلَبْتُهُ. فَالْقِيَامَةُ
حَاقَّةٌ لِأَنَّهَا تَحُقُّ كُلَّ مُحَاقٍّ فِي دِينِ اللَّهِ
بِالْبَاطِلِ، أَيْ كُلَّ مُخَاصِمٍ. وَفِي الصِّحَاحِ:
وَحَاقَّهُ أَيْ خَاصَمَهُ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْحَقَّ، فَإِذَا غَلَبَهُ قِيلَ حَقُّهُ. وَيُقَالُ
لِلرَّجُلِ إِذَا خَاصَمَ فِي صِغَارِ الْأَشْيَاءِ: إِنَّهُ
لَنَزِقُ الْحِقَاقَ. وَيُقَالُ: مَالُهُ فِيهِ حَقٌّ وَلَا
حِقَاقٌ، أَيْ خُصُومَةٌ. وَالتَّحَاقُّ التَّخَاصُمِ.
وَالِاحْتِقَاقُ: الِاخْتِصَامُ. وَالْحَاقَّةُ وَالْحَقَّةُ
وَالْحَقُّ ثَلَاثُ لُغَاتٍ بِمَعْنًى. وَقَالَ الكسائي
والمورج: الْحَاقَّةُ يَوْمَ الْحَقِّ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ:
لَمَّا عَرَفَ الْحَقَّةَ مِنِّي هَرَبَ. وَالْحَاقَّةُ
الْأُولَى رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ الْمُبْتَدَأُ
الثَّانِي وَخَبَرُهُ وَهُوَ مَا الْحَاقَّةُ لِأَنَّ
مَعْنَاهَا مَا هِيَ. وَاللَّفْظُ اسْتِفْهَامٌ، مَعْنَاهُ
التَّعْظِيمُ وَالتَّفْخِيمُ لِشَأْنِهَا، كَمَا تَقُولُ:
زَيْدٌ مَا زَيْدٌ! عَلَى التَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ. (وَما
أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) استفهام أيضا، أي أي شي أَعْلَمَكَ
مَا ذَلِكَ الْيَوْمُ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِالْقِيَامَةِ وَلَكِنْ بِالصِّفَةِ
فَقِيلَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَ،
كَأَنَّكَ لَسْتَ تَعْلَمُهَا إِذْ لَمْ تُعَايِنْهَا. وَقَالَ
يحيى بن سلام: بلغني أن كل شي فِي الْقُرْآنِ وَما أَدْراكَ
فَقَدْ أَدْرَاهُ إِيَّاهُ وعلمه. وكل شي قَالَ:" وَمَا
يُدْرِيكَ" فَهُوَ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ. وقال سفيان بن
عيينة: كل شي قال فيه: وَما أَدْراكَ فإنه أخبر به، وكل شي قال
فيه:" وما يدريك" فإنه لم يخبر به.
[سورة الحاقة (69): آية 4]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
ذَكَرَ مَنْ كَذَّبَ بِالْقِيَامَةِ. وَالْقَارِعَةُ
الْقِيَامَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْرَعُ
النَّاسَ بِأَهْوَالِهَا. يُقَالُ: أَصَابَتْهُمْ قَوَارِعُ
الدَّهْرِ، أَيْ أَهْوَالُهُ وَشَدَائِدُهُ. وَنَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنْ قَوَارِعِ فُلَانٍ ولواذعه
(18/257)
فَأَمَّا ثَمُودُ
فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا
بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ
لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ
فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)
وَقَوَارِصِ لِسَانِهِ، جَمْعُ قَارِصَةٍ
وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْمُؤْذِيَةُ. وَقَوَارِعُ الْقُرْآنِ:
الْآيَاتُ الَّتِي يَقْرَؤُهَا الْإِنْسَانُ إِذَا فَزِعَ مِنَ
الْجِنِّ أَوِ الْإِنْسِ، نَحْوَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ،
كَأَنَّهَا تَقْرَعُ الشَّيْطَانَ. وَقِيلَ: الْقَارِعَةُ
مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْقُرْعَةِ فِي رَفْعِ قَوْمٍ وَحَطِّ
آخَرِينَ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَقِيلَ: عَنَى
بِالْقَارِعَةِ الْعَذَابَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ فِي
الدُّنْيَا، وَكَانَ نَبِيُّهُمْ يُخَوِّفُهُمْ بِذَلِكَ
فَيُكَذِّبُونَهُ. وَثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ، وَكَانَتْ
مَنَازِلُهُمْ بِالْحِجْرِ فِيمَا بَيْنَ الشَّامِ
وَالْحِجَازِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ وَادِي
الْقُرَى، وَكَانُوا عُرْبًا. وَأَمَّا عَادٌ فَقَوْمُ هُودٍ،
وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بِالْأَحْقَافِ. وَالْأَحْقَافُ:
الرَّمْلُ بَيْنَ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ وَالْيَمَنِ
كُلِّهِ، وَكَانُوا عُرْبًا ذَوِي خَلْقٍ وَبَسْطَةٍ، ذَكَرَهُ
محمد بن إسحاق. وقد تقدم «1».
[سورة الحاقة (69): آية 5]
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ بِالْفَعْلَةِ الطَّاغِيَةِ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: أَيْ بِالصَّيْحَةِ الطَّاغِيَةِ، أَيِ
الْمُجَاوِزَةُ لِلْحَدِّ، أَيْ لِحَدِّ الصَّيْحَاتِ مِنَ
الْهَوْلِ. كَمَا قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ
صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ»
[القمر: 31]. وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ:
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الحاقة: 11] أَيْ جَاوَزَ
الْحَدَّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بِالطَّاغِيَةِ
بِالصَّاعِقَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالذُّنُوبِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: بِالطُّغْيَانِ، فَهِيَ مَصْدَرٌ كَالْكَاذِبَةِ
وَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ. أَيْ أُهْلِكُوا
بِطُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الطَّاغِيَةَ
عَاقِرُ النَّاقَةِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. أَيْ أُهْلِكُوا
بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ طَاغِيَتُهُمْ مِنْ عَقْرِ
النَّاقَةِ، وَكَانَ وَاحِدًا، وَإِنَّمَا هَلَكَ الْجَمِيعُ
لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِفِعْلِهِ وَمَالَئُوهُ. وَقِيلَ لَهُ
طَاغِيَةٌ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ رَاوِيَةُ الشِّعْرِ، وداهية
وعلامة ونسابة.
[سورة الحاقة (69): الآيات 6 الى 7]
وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6)
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ
حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ
نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7)
__________
(1). راجع ج 7 ص (236)
(2). راجع ج 17 ص 142
(18/258)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا عادٌ
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أَيْ بَارِدَةٍ تُحْرِقُ
بِبَرْدِهَا كَإِحْرَاقِ النَّارِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الصِّرِّ
وَهُوَ الْبَرْدُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا
الشَّدِيدَةُ الصَّوْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشَّدِيدَةُ
السَّمُومِ. عاتِيَةٍ أَيْ عَتَتْ عَلَى خُزَّانِهَا فَلَمْ
تُطِعْهُمْ، وَلَمْ يُطِيقُوهَا مِنْ شِدَّةِ هُبُوبِهَا،
غَضِبَتْ لِغَضَبِ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَتَتْ عَلَى عَادٍ
فَقَهَرَتْهُمْ. رَوَى سفيان الثوري عن موسى ابن الْمُسَيَّبِ
عَنْ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا
أَرْسَلَ اللَّهُ مِنْ نَسَمَةٍ «1» مِنْ رِيحٍ إِلَّا
بِمِكْيَالٍ وَلَا قَطْرَةٍ مِنْ مَاءٍ إِلَّا بِمِكْيَالٍ
إِلَّا يَوْمَ عَادٍ وَيَوْمَ نُوحٍ فَإِنَّ الْمَاءَ يَوْمَ
نُوحٍ طَغَى عَلَى الْخُزَّانِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهِ
سَبِيلٌ- ثُمَّ قَرَأَ- إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ
حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ وَالرِّيحُ لَمَّا كَانَ يَوْمَ
عَادٍ عَتَتْ عَلَى الْخُزَّانِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
عَلَيْهَا سَبِيلٌ- ثُمَّ قَرَأَ- بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) أَيْ أَرْسَلَهَا وَسَلَّطَهَا
عَلَيْهِمْ. وَالتَّسْخِيرُ: اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ
بِالِاقْتِدَارِ. (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ
حُسُوماً) أَيْ مُتَتَابِعَةً لَا تَفْتُرُ وَلَا تَنْقَطِعُ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ
الْفَرَّاءُ: الْحُسُومُ التِّبَاعُ، مِنْ حَسْمِ الدَّاءِ
إِذَا كُوِيَ صَاحِبُهُ، لِأَنَّهُ يُكْوَى بِالْمِكْوَاةِ
ثُمَّ يُتَابَعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ زُرَارَةَ الْكِلَابِيُّ:
فَفَرَّقَ بَيْنَ بَيْنِهِمْ «2» زَمَانٌ ... تَتَابَعَ فِيهِ
أَعْوَامٌ حُسُومُ
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مِنْ قَوْلِكَ حَسَمْتُ الشَّيْءَ
إِذَا قَطَعْتَهُ وَفَصَلْتَهُ عَنْ غَيْرِهِ. وَقِيلَ:
الْحَسْمُ الِاسْتِئْصَالُ. وَيُقَالُ لِلسَّيْفِ حُسَامٌ،
لِأَنَّهُ يَحْسِمُ الْعَدُوَّ عَمَّا يُرِيدُهُ مِنْ بُلُوغِ
عَدَاوَتِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
حُسَامٌ إِذَا قُمْتَ مُعْتَضِدًا بِهِ ... كَفَى الْعَوْدَ
مِنْهُ الْبَدْءُ لَيْسَ بِمِعْضَدِ «3»
وَالْمَعْنَى أَنَّهَا حَسَمَتْهُمْ، أَيْ قَطَعَتْهُمْ
وَأَذْهَبَتْهُمْ. فَهِيَ الْقَاطِعَةُ بِعَذَابِ
الِاسْتِئْصَالِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَسَمَتْهُمْ فَلَمْ
تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَعَنْهُ أَنَّهَا حَسَمَتِ
اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ حَتَّى استوعبتها.
__________
(1). وردت هذه الكلمة في نسخ الأصل:" نسفه" بالفاء. والذي في
الزمخشري:" سفيه".
(2). البين: من الأضداد، يطلق على الوصل وعلى الفرقة.
(3). المعضد والمعضاد (بكسر الميم): من السيوف الممتهن في قطع
الشجر.
(18/259)
لِأَنَّهَا بَدَأَتْ طُلُوعَ الشَّمْسِ
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ وَانْقَطَعَتْ غُرُوبَ الشَّمْسِ مِنْ
آخِرِ يَوْمٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْحُسُومُ الشُّؤْمُ.
وَيُقَالُ: هَذِهِ لَيَالِي الْحُسُومِ، أَيْ تَحْسِمُ
الْخَيْرَ عَنْ أَهْلِهَا، وَقَالَهُ فِي الصِّحَاحِ. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَشَائِيمُ، دليله قوله
تعالى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ «1» [فصلت: 16]. عَطِيَّةُ
الْعَوْفِيُّ: حُسُوماً أَيْ حَسَمَتِ الْخَيْرَ عَنْ
أَهْلِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِهَا، فَقِيلَ: غَدَاةَ
يَوْمِ الْأَحَدِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: غَدَاةَ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقِيلَ:
غَدَاةَ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ
وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. قَالَ وَهْبٌ: وَهَذِهِ الْأَيَّامُ
هِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ أَيَّامَ الْعَجُوزِ،
ذَاتَ بَرْدٍ وَرِيحٍ شَدِيدَةٍ، وَكَانَ أَوَّلُهَا يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ وَآخِرُهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَنُسِبَتْ
إِلَى الْعَجُوزِ لِأَنَّ عَجُوزًا مِنْ عَادٍ دَخَلَتْ
سَرَبًا فَتَبِعَتْهَا الرِّيحُ فَقَتَلَتْهَا فِي الْيَوْمِ
الثَّامِنِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ أَيَّامَ الْعَجُوزِ
لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي عَجُزِ الشِّتَاءِ. وَهِيَ فِي آذَارَ
مِنْ أَشْهُرِ السُّرْيَانِيِّينَ. وَلَهَا أَسَامٍ
مَشْهُورَةٌ، وَفِيهَا يَقُولُ الشَّاعِرُ وَهُوَ ابْنُ
أَحْمَرَ: «2»
كُسِعَ «3» الشِّتَاءُ بِسَبْعَةٍ غُبْرٍ ... أَيَّامِ
شَهْلَتِنَا «4» مِنَ الشَّهْرِ
فَإِذَا انْقَضَتْ أَيَّامُهَا وَمَضَتْ «5» ... صِنٌّ
وَصِنَّبْرٌ مَعَ الْوَبْرِ
وَبِآمِرٍ وَأَخِيهِ مُؤْتَمِرٍ ... وَمُعَلِّلٍ وَبِمُطْفِئِ
الْجَمْرِ
ذَهَبَ الشِّتَاءُ مُوَلِّيًا عَجِلًا «6» ... وَأَتَتْكَ
وَاقِدَةٌ مِنَ النَّجْرِ «7»
وحُسُوماً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ عَلَى الْمَصْدَرِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ تَحْسِمُهُمْ حُسُومًا أَيْ
تَفِنِيهِمْ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ
الْمُدَّةَ لِلِاسْتِئْصَالِ، أَيْ لِقَطْعِهِمْ
وَاسْتِئْصَالِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ حَاسِمٍ.
وَقَرَأَ السُّدِّيُّ حُسُوماً بِالْفَتْحِ، حَالًا مِنَ
الرِّيحِ، أي سخرها عليهم مستأصلة.
__________
(1). راجع ج 15 ص (346)
(2). في اللسان مادة كسع أنه أبو شبل الاعرابي.
(3). الكسع: شدة المر. وكسعه بكذا وكذا إذا جعله تابعا له
ومذهبا به.
(4). الشهلة: العجوز. [ ..... ]
(5). في اللسان: فإذا انقضت أيام شهلتنا.
(6). في اللسان:" هربا".
(7). النجر: الحر.
(18/260)
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ
مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَرَى الْقَوْمَ
فِيها) أَيْ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ. (صَرْعى)
جَمْعُ صَرِيعٍ، يَعْنِي مَوْتَى. وَقِيلَ: فِيها أَيْ فِي
الرِّيحِ. (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ) أَيْ أُصُولٌ. (نَخْلٍ
خاوِيَةٍ) أَيْ بَالِيَةٍ، قَالَهُ أَبُو الطُّفَيْلِ.
وَقِيلَ: خَالِيَةُ الْأَجْوَافِ لَا شي فِيهَا. وَالنَّخْلُ
يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ
آخَرَ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «1» [القمر:
20] فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ شُبِّهُوا بِالنَّخْلِ الَّتِي
صُرِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ عِظَمِ
أَجْسَامِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ
الْأُصُولَ دُونَ الْجُذُوعِ، أَيْ إِنَّ الرِّيحَ قَدْ
قَطَعَتْهُمْ حَتَّى صَارُوا كَأُصُولِ النَّخْلِ خَاوِيَةٍ
أَيِ الرِّيحُ كَانَتْ تَدْخُلُ أَجْوَافَهُمْ فَتَصْرَعُهُمْ
كَالنَّخْلَةِ الْخَاوِيَةِ الْجَوْفِ. وَقَالَ ابْنُ
شَجَرَةَ: كَانَتِ الرِّيحُ تَدْخُلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ
فَتُخْرِجُ مَا فِي أَجْوَافِهِمْ مِنَ الْحَشْوِ مِنْ
أَدَبَارِهِمْ، فَصَارُوا كَالنَّخْلِ الْخَاوِيَةِ. وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ، إِنَّمَا قَالَ خاوِيَةٍ لِأَنَّ
أَبْدَانَهُمْ خَوَتْ مِنْ أَرْوَاحِهِمْ مِثْلَ النَّخْلِ
الْخَاوِيَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ عَنْ أُصُولِهَا مِنَ
الْبِقَاعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ
خاوِيَةً «2» [النمل: 52] أَيْ خَرِبَةً لَا سُكَّانَ فِيهَا.
وَيَحْتَمِلُ الْخَاوِيَةُ بِمَعْنَى الْبَالِيَةِ كَمَا
ذَكَرْنَا، لِأَنَّهَا إِذَا بَلِيَتْ خَلَتْ أَجْوَافُهَا.
فَشُبِّهُوا بَعْدَ أَنْ هَلَكُوا بِالنَّخْلِ الخاوية.
[سورة الحاقة (69): آية 8]
فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8)
أَيْ مِنْ فِرْقَةٍ بَاقِيَةٍ أَوْ نَفْسٍ بَاقِيَةٍ. وَقِيلَ:
مِنْ بَقِيَّةٍ. وَقِيلَ: مِنْ بَقَاءٍ. فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى
الْمَصْدَرِ، نَحْوُ الْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ اسْمًا، أَيْ هَلْ تَجِدُ لَهُمْ أَحَدًا
بَاقِيًا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانُوا سَبْعَ لَيَالٍ
وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ أَحْيَاءً فِي عَذَابِ اللَّهِ مِنَ
الرِّيحِ، فَلَمَّا أَمْسَوْا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ
مَاتُوا، فَاحْتَمَلَتْهُمُ الرِّيحُ فألقتهم في البحر فذلك
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ،
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلَّا
مَساكِنُهُمْ «3» [الأحقاف: 25].
[سورة الحاقة (69): آية 9]
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ
بِالْخاطِئَةِ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ)
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ (وَمَنْ قِبَلَهُ)
بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ وَمَنْ مَعَهُ
وَتَبِعَهُ مِنْ جُنُودِهِ. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم
اعتبارا
__________
(1). راجع ج 17 ص (137)
(2). راجع ج 13 ص (218)
(3). راجع ج 16 ص 207
(18/261)
فَعَصَوْا رَسُولَ
رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا
طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ
(12)
بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبِيٍّ"
وَمَنْ مَعَهُ". وَقَرَأَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ" وَمَنْ
تِلْقَاءَهُ". الْبَاقُونَ قَبْلَهُ بِفَتْحِ الْقَافِ
وَسُكُونِ الْبَاءِ، أَيْ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْقُرُونِ
الْخَالِيَةِ وَالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. (وَالْمُؤْتَفِكاتُ)
أَيْ أَهْلُ قُرَى لُوطٍ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ
بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ"
وَالْمُؤْتَفِكَةُ" عَلَى التَّوْحِيدِ. قَالَ قَتَادَةُ:
إِنَّمَا سُمِّيَتْ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ" مُؤْتَفِكَاتٍ"
لِأَنَّهَا ائْتَفَكَتْ بِهِمْ، أَيِ انْقَلَبَتْ. وَذَكَرَ
الطَّبَرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ:
خَمْسُ قَرْيَاتٍ: صَبْعَةَ وَصِعْرَةَ وَعُمْرَةَ وَدَوْمَا
وَسَدُومَ، وَهِيَ الْقَرْيَةُ «1» الْعُظْمَى.
(بِالْخاطِئَةِ) أَيْ بِالْفَعْلَةِ الْخَاطِئَةِ وَهِيَ
الْمَعْصِيَةُ وَالْكُفْرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْخَطَايَا
الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ:
أَيْ بِالْخَطَأِ الْعَظِيمِ، فَالْخَاطِئَةُ مَصْدَرٌ.
[سورة الحاقة (69): آية 10]
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً
(10)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) قَالَ
الْكَلْبِيُّ: هُوَ مُوسَى. وَقِيلَ: هُوَ لُوطٌ لِأَنَّهُ
أَقْرَبُ وَقِيلَ: عَنَى مُوسَى وَلُوطًا عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ، كَمَا قَالَ تعالى قُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ
«2» [الشعراء: 16]. وَقِيلَ: رَسُولَ بِمَعْنَى رِسَالَةٍ.
وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الرِّسَالَةِ بِالرَّسُولِ، قَالَ
الشَّاعِرُ: «3»
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ
وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
(فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أَيْ عَالِيَةً زَائِدَةً
عَلَى الْأَخَذَاتِ وَعَلَى عَذَابِ الْأُمَمِ. وَمِنْهُ
الرِّبَا إِذَا أَخَذَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَكْثَرَ
مِمَّا أَعْطَى. يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو أَيْ زَادَ
وَتَضَاعَفَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَدِيدَةٌ. كَأَنَّهُ أَرَادَ
زَائِدَةً فِي الشدة.
[سورة الحاقة (69): الآيات 11 الى 12]
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ
(11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ
واعِيَةٌ (12)
__________
(1). راجع تاريخ الطبري ص 343 من القسم الأول طبع أوربا.
(2). راجع ج 13 ص 93.
(3). هو كثير عزة.
(18/262)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْماءُ) أَيِ ارْتَفَعَ وَعَلَا. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: طَغَى عَلَى خُزَّانِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
غَضَبًا لِرَبِّهِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى حَبْسِهِ. قَالَ
قَتَادَةُ: زَادَ على كل شي خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: طَغَى الْمَاءُ زَمَنَ نُوحٍ عَلَى خُزَّانِهِ
فَكَثُرَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَدْرُوا كَمْ خَرَجَ. وَلَيْسَ
مِنَ الْمَاءِ قَطْرَةٌ تَنْزِلُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ
إِلَّا بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَدْ
مَضَى هَذَا مَرْفُوعًا أَوَّلَ السُّورَةِ. وَالْمَقْصُودُ
مِنْ قَصَصِ هَذِهِ الْأُمَمِ وَذِكْرِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ
الْعَذَابِ: زَجْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنِ الِاقْتِدَاءِ
بِهِمْ فِي مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ. ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِمْ
بِأَنْ جَعَلَهُمْ ذُرِّيَّةَ مَنْ نَجَا مِنَ الْغَرَقِ
بِقَوْلِهِ: حَمَلْناكُمْ أَيْ حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ
وَأَنْتُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ. (فِي الْجارِيَةِ) أَيْ فِي
السُّفُنِ الْجَارِيَةِ. وَالْمَحْمُولُ فِي الْجَارِيَةِ
نُوحٌ وَأَوْلَادُهُ، وَكُلُّ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
مِنْ نَسْلِ أُولَئِكَ. (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً)
يَعْنِي سَفِينَةَ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
جَعَلَهَا اللَّهُ تَذْكِرَةً وَعِظَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ
حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَائِلُهُمْ، فِي قَوْلِ قَتَادَةَ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتْ أَلْوَاحُهَا عَلَى
الْجُودِيِّ. وَالْمَعْنَى: أَبْقَيْتُ لَكُمْ تِلْكَ
الْخَشَبَاتِ حَتَّى تَذْكُرُوا مَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ،
وَإِنْجَاءَ اللَّهِ آبَاءَكُمْ، وَكَمْ مِنْ سَفِينَةٍ هلكت
وصارت ترابا ولم يبق منها شي. وَقِيلَ: لِنَجْعَلَ تِلْكَ
الْفَعْلَةَ مِنْ إِغْرَاقِ قَوْمِ نُوحٍ وَإِنْجَاءِ مَنْ
آمَنَ مَعَهُ مَوْعِظَةً لَكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)
أَيْ تَحْفَظُهَا وَتَسْمَعُهَا أُذُنٌ حَافِظَةٌ لِمَا جَاءَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالسَّفِينَةُ لَا تُوصَفُ بِهَذَا.
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيُقَالُ وَعَيْتُ كَذَا أَيْ حَفِظْتُهُ
فِي نَفْسِي، أَعِيهِ وَعْيًا. وَوَعَيْتُ الْعِلْمَ،
وَوَعَيْتُ مَا قُلْتَ، كُلُّهُ بِمَعْنًى. وَأَوْعَيْتُ
الْمَتَاعَ فِي الْوِعَاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ
لِكُلِّ مَا حَفِظْتَهُ فِي غَيْرِ نَفْسِكَ:" أَوْعَيْتُهُ"
بِالْأَلِفِ، وَلِمَا حَفِظْتَهُ فِي نَفْسِكَ" وَعَيْتُهُ"
بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وحميد والأعرج وَتَعِيَها
بإسكان العين، تشبيها بقوله: أَرِنا «1» [البقرة: 128].
وَاخْتُلِفَ فِيهَا عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ كَثِيرٍ. الْبَاقُونَ
بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَنَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَعِيَها
أُذُنٌ واعِيَةٌ
، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «2» [ق:
37]. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأُذُنُ الْوَاعِيَةُ أُذُنٌ
عَقَلَتْ عَنِ الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من
__________
(1). في قوله تعالى: وَأَرِنا مَناسِكَنا راجع ج 2 ص (127)
(2). راجع ج 17 ص 23
(18/263)
فَإِذَا نُفِخَ فِي
الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى
مَكْحُولٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: (سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ
يَجْعَلَهَا أُذُنَ عَلِيٍّ). قَالَ مَكْحُولٌ: فَكَانَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا
قَطُّ فَنَسِيتُهُ إِلَّا وَحَفِظْتُهُ. ذَكَرَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ. وَعَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ ذَكَرَهُ
الثَّعْلَبِيُّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَتَعِيَها أُذُنٌ
واعِيَةٌ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَكَ يَا عَلِيُّ)
قَالَ عَلِيٌّ: فَوَاللَّهِ مَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدُ، وَمَا
كَانَ لِي أَنْ أَنْسَى. وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ
الْأَسْلَمِيُّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: (يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي
أَنْ أُدْنِيَكَ وَلَا أُقْصِيَكَ وَأَنْ أُعَلِّمَكَ وَأَنْ
تَعِيَ وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ تَعِيَ).
[سورة الحاقة (69): آية 13]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى لِقِيَامِ
السَّاعَةِ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا مَاتَ. وَجَازَ
تَذْكِيرُ نُفِخَ لِأَنَّ تَأْنِيثَ النَّفْخَةِ غَيْرُ
حَقِيقِيٍّ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ النَّفْخَةَ هِيَ
الْأَخِيرَةُ. وَقَالَ: نَفْخَةٌ واحِدَةٌ أَيْ لَا تُثَنَّى.
قَالَ الْأَخْفَشُ: وَوَقَعَ الْفِعْلُ عَلَى النَّفْخَةِ إِذْ
لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا اسْمٌ مَرْفُوعٌ فَقِيلَ: نَفْخَةٌ.
وَيَجُوزُ (نَفْخَةً) نَصْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ. وَبِهَا
قَرَأَ أَبُو السِّمَالِ. أَوْ يُقَالُ: اقْتَصَرَ عَلَى
الْإِخْبَارِ عَنِ الْفِعْلِ كَمَا تَقُولُ: ضُرِبَ ضَرْبًا.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي الصُّورِ يقوم مقام ما لم يسم فاعله.
[سورة الحاقة (69): آية 14]
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً
(14)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ)
قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، أَيْ رُفِعَتْ
مِنْ أَمَاكِنِهَا. (فَدُكَّتا) أَيْ فُتَّتَا وَكُسِرَتَا.
(دَكَّةً واحِدَةً) لَا يَجُوزُ فِي دَكَّةً إلا النصب لارتفاع
الضمير في فَدُكَّتا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ يَقُلْ
فَدُكِكْنَ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجِبَالَ كُلَّهَا
كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْأَرْضَ كَالْجُمْلَةِ
الْوَاحِدَةِ. ومثله: أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا
رَتْقاً «1» [الأنبياء: 30] وَلَمْ يَقُلْ كُنَّ. وَهَذَا
الدَّكُّ كَالزَّلْزَلَةِ، كَمَا قال تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: 1]. وقيل: فَدُكَّتا
__________
(1). راجع ج 11 ص 282
(18/264)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ
الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ
وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ
عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
أَيْ بُسِطَتَا بَسْطَةً وَاحِدَةً،
وَمِنْهُ انْدَكَّ سَنَامُ الْبَعِيرِ إِذَا انْفَرَشَ فِي
ظَهْرِهِ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" الْأَعْرَافِ" «1»
الْقَوْلُ فِيهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنِ ابْنِ
عَامِرٍ (وَحُمِّلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ) بِالتَّشْدِيدِ
عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي.
كَأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ وَحُمِّلَتْ قُدْرَتَنَا أَوْ مَلَكًا
مِنْ مَلَائِكَتِنَا الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ، ثُمَّ أُسْنِدَ
الْفِعْلُ إلى المفعول الثاني فبني له. ولو جئ بِالْمَفْعُولِ
الْأَوَّلِ لَأُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
وَحُمِّلَتْ قُدْرَتُنَا الْأَرْضَ. وَقَدْ يَجُوزُ بِنَاؤُهُ
لِلثَّانِي عَلَى وَجْهِ الْقَلْبِ فَيُقَالُ: حُمِّلْتِ
الْأَرْضُ الْمَلَكَ، كَقَوْلِكَ: أُلْبِسَ زَيْدٌ الْجُبَّةَ،
وَأَلْبَسْتُ الْجُبَّةَ زَيْدًا.
[سورة الحاقة (69): الآيات 15 الى 17]
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ
السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمانِيَةٌ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أَيْ
قَامَتِ الْقِيَامَةُ. (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) أَيِ
انْصَدَعَتْ وَتَفَطَّرَتْ. وَقِيلَ: تَنْشَقُّ لِنُزُولِ مَا
فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ
الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] وَقَدْ تَقَدَّمَ «2».
(فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أَيْ ضَعِيفَةٌ. يُقَالُ: وَهَى
الْبِنَاءُ يَهِي وَهْيًا فَهُوَ وَاهٍ إِذَا ضَعُفَ جِدًّا.
وَيُقَالُ: كَلَامٌ وَاهٍ، أَيْ ضَعِيفٌ. فَقِيلَ: إِنَّهَا
تَصِيرُ بَعْدَ صَلَابَتِهَا بِمَنْزِلَةِ الصُّوفِ فِي
الْوَهْيِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا
ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: لِهَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ:
واهِيَةٌ أَيْ مُتَخَرِّقَةٌ، قَالَهُ ابْنُ شَجَرَةَ.
مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَهِيَ السِّقَاءُ إِذَا
تَخَرَّقَ. وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ:
خَلِّ سَبِيلَ مَنْ وَهَى سِقَاؤُهُ ... وَمَنْ هُرِيقَ
بِالْفَلَاةِ مَاؤُهُ
أَيْ مَنْ كَانَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ.
(وَالْمَلَكُ) يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، اسْمٌ لِلْجِنْسِ.
(عَلى أَرْجائِها) أَيْ عَلَى أَطْرَافِهَا حِينَ تَنْشَقُّ،
لِأَنَّ السَّمَاءَ مَكَانَهُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَعَلَّهُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ.
وَحَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: عَلَى
أَطْرَافِهَا مِمَّا لم ينشق منها.
__________
(1). راجع ج 7 ص (278)
(2). راجع ج 13 ص 23 [ ..... ]
(18/265)
يُرِيدُ أَنَّ السَّمَاءَ مَكَانُ
الْمَلَائِكَةِ فَإِذَا انْشَقَّتْ صَارُوا فِي أَطْرَافِهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمَعْنَى وَالْمَلَكُ عَلَى
حَافَاتِ الدُّنْيَا، أَيْ يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ
وَيَحْرُسُونَ أَطْرَافَهَا. وَقِيلَ: إِذَا صَارَتِ
السَّمَاءُ قِطَعًا تَقِفُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى تِلْكَ
الْقِطَعِ الَّتِي لَيْسَتْ مُتَشَقِّقَةً فِي أَنْفُسِهَا.
وَقِيلَ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا جَهَنَّمَ هَالَتْهُمْ،
فَيَنِدُّوا كَمَا تَنِدُّ الْإِبِلُ، فَلَا يَأْتُونَ قُطْرًا
مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ إِلَّا رَأَوْا مَلَائِكَةً
فَيَرْجِعُونَ مِنْ حَيْثُ جَاءُوا. وَقِيلَ: عَلى أَرْجائِها
يَنْتَظِرُونَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ فِي أَهْلِ النَّارِ مِنَ
السَّوْقِ إِلَيْهَا، وَفِي أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ
التَّحِيَّةِ وَالْكَرَامَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى
مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ جُبَيْرٍ. ويدل عليه: وَنُزِّلَ
الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] وَقَوْلَهُ تَعَالَى:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ
تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1»
[الرحمن: 33] عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ. وَالْأَرْجَاءُ
النَّوَاحِي وَالْأَقْطَارُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، وَاحِدُهَا
رَجًا مَقْصُورٌ، وَتَثْنِيَتُهُ رَجَوَانِ، مِثْلَ عَصًا
وَعَصَوَانِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَا يُرْمَى بِي الرَّجَوَانُ أَنِّي ... أَقَلُّ الْقَوْمِ
مَنْ يُغْنِي مَكَانِي
وَيُقَالُ ذَلِكَ لِحَرَفِ الْبِئْرِ وَالْقَبْرِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمانِيَةٌ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ ثَمَانِيَةُ أَمْلَاكٍ. وَعَنِ
الْحَسَنِ: اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ هُمْ، ثَمَانِيَةٌ أَمْ
ثَمَانِيَةُ آلَافٍ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ الْيَوْمَ
أَرْبَعَةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَيَّدَهُمُ
اللَّهُ تَعَالَى بِأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ فَكَانُوا ثَمَانِيَةً
(. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَخَرَّجَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) يَحْمِلُهُ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَمَانِيَةٌ (. وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ: هُمْ ثَمَانِيَةُ أَمْلَاكٍ عَلَى صُورَةِ
الْأَوْعَالِ «2». وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الْحَدِيثِ (إِنَّ لِكُلِّ مَلَكٍ
مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ وَجْهُ رَجُلٍ وَوَجْهُ أَسَدٍ
وَوَجْهُ ثَوْرٍ وَوَجْهُ نَسْرٍ وَكُلُّ وَجْهٍ مِنْهَا
يَسْأَلُ اللَّهَ الرِّزْقَ لِذَلِكَ الْجِنْسِ (. وَلَمَّا
أُنْشِدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أبي الصلت:
__________
(1). راجع ج 17 ص (169)
(2). الوعل- بكسر العين- التيس الجبلي.
(18/266)
يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ
... وَالنَّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ «1» كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ... حَمْرَاءَ
يُصْبِحُ «2» لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ
لَيْسَتْ «3» بِطَالِعَةٍ لَهُمْ فِي رِسْلِهَا ... إِلَّا
مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(صَدَقَ). وَفِي الخبر (أن فوق السماء السابعة ثمانية أو عال
بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ وَرُكَبِهِنَّ مِثْلُ مَا بَيْنَ
سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ وَفَوْقَ ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ (.
ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ
حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقَدْ مَضَى
فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" بِكَمَالِهِ «4». وَذَكَرَ نَحْوَهُ
الثَّعْلَبِيُّ وَلَفْظُهُ. وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ (أَنَّ
حَمَلَةَ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةُ أَمْلَاكٍ عَلَى صُورَةِ
الْأَوْعَالِ مَا بَيْنَ أَظْلَافِهَا إِلَى رُكَبِهَا
مَسِيرَةَ سَبْعِينَ عَامًا لِلطَّائِرِ الْمُسْرِعِ (. وَفِي
تَفْسِيرِ الْكَلْبِيِّ: ثَمَانِيَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةِ
أَجْزَاءٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَعَنْهُ: ثَمَانِيَةُ
أَجْزَاءٍ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. ثُمَّ
ذَكَرَ عِدَّةَ الْمَلَائِكَةِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ. حَكَى
الْأَوَّلَ عَنْهُ الثَّعْلَبِيُّ وَالثَّانِيَ
الْقُشَيْرِيُّ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
ثَمَانِيَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةٍ وَهُمُ الْكُرُوبِيُّونَ
«5». وَالْمَعْنَى يَنْزِلُ بِالْعَرْشِ. ثُمَّ إِضَافَةُ
الْعَرْشِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَإِضَافَةِ الْبَيْتِ،
وَلَيْسَ الْبَيْتُ لِلسُّكْنَى، فَكَذَلِكَ الْعَرْشُ.
وَمَعْنَى: فَوْقَهُمْ أي فوق رؤوسهم. قَالَ السُّدِّيُّ:
الْعَرْشُ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ الْحَمَلَةُ فَوْقَهُمْ
وَلَا يَحْمِلُ حَمَلَةَ الْعَرْشِ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ:
فَوْقَهُمْ أَيْ إِنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ فَوْقَ
الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ عَلَى أَرْجَائِهَا.
وَقِيلَ: فَوْقَهُمْ أي فوق أهل القيامة.
[سورة الحاقة (69): آية 18]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) أَيْ، عَلَى
اللَّهِ، دَلِيلُهُ:- عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
وَلَيْسَ ذَلِكَ عَرْضًا يَعْلَمُ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ
عَالِمًا بِهِ، بَلْ مَعْنَاهُ الْحِسَابُ وَتَقْرِيرُ
الْأَعْمَالِ عَلَيْهِمْ لِلْمُجَازَاةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله
عليه وسلم: (يعرض
__________
(1). في الأصول هنا:" تصبح".
(2). في الأغاني ج 4 ص 130 طبعه دار الكتب المصرية:
حمراء مطلع لونها متورد
(3). في الأغاني:
تأبى فلا تبدو لنا في رسلها
(4). راجع ج 1 ص 259
(5). الكروبيون: سادة الملائكة، وهم المقربون، مأخوذ من الكرب
وهو القرب.
(18/267)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا
كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ
(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ
(22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا
بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا
لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا
حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا
أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ
(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا
فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
(34)
النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ
عَرْضَاتٍ فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي
الْأَيْدِي فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ (.
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: وَلَا يَصِحُّ مِنْ قِبَلِ
أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.) لَا
تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أَيْ هُوَ عَالِمٌ بكل شي من
أعمالكم. ف خافِيَةٌ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى خَفِيَّةٍ، كَانُوا
يُخْفُونَهَا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ شَجَرَةَ.
وَقِيلَ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ إِنْسَانٌ، أَيْ لَا يَبْقَى
إِنْسَانٌ لَا يحاسب. وقال عبد الله بن عمرو ابن الْعَاصِ: لَا
يَخْفَى الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ وَلَا الْبَرُّ مِنَ
الْفَاجِرِ. وَقِيلَ: لَا تَسْتَتِرُ مِنْكُمْ عَوْرَةٌ، كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً). وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ
إِلَّا عَاصِمًا (لَا يَخْفَى) بِالْيَاءِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ
الْخَافِيَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ «1» [هود: 67]
وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، لِأَنَّهُ قَدْ حَالَ بَيْنَ
الْفِعْلِ وَبَيْنَ الِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ الْجَارِّ
وَالْمَجْرُورِ. الْبَاقُونَ بالتاء. واختاره أبو حاتم لتأنيث
الخافية.
[سورة الحاقة (69): الآيات 19 الى 34]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ
اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ
حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ
عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي
الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ
(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (26) يَا لَيْتَها كانَتِ
الْقاضِيَةَ (27) مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها
سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لَا
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
__________
(1). راجع ج 9 ص 61
(18/268)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) إِعْطَاءُ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ
دَلِيلٌ عَلَى النَّجَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ
مَنْ يُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَلَهُ شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ.
قِيلَ لَهُ: فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالَ هَيْهَاتَ
هَيْهَاتَ! زَفَّتْهُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْجَنَّةِ.
ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مَرْفُوعًا مِنْ
حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ فِي كتاب"
التذكرة". والحمد لله. فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ
أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ ثِقَةً بِالْإِسْلَامِ وَسُرُورًا
بِنَجَاتِهِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ
دَلَائِلِ الْفَرَحِ، وَالشِّمَالِ مِنْ دَلَائِلِ الْغَمِّ.
قَالَ الشَّاعِرُ: «1»
أَبِينِي أَفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي ... فَأَفْرَحُ
أَمْ صَيَّرْتِنِي فِي شِمَالِكِ
وَمَعْنَى: هاؤُمُ تَعَالَوْا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: هَلُمَّ. وَقِيلَ: أَيْ خُذُوا، وَمِنْهُ الْخَبَرُ
فِي الرِّبَا (إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ) أَيْ يَقُولُ كُلُّ
وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ: خُذْ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ
وَالْكِسَائِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ هَاءَ يَا رَجُلُ اقْرَأْ،
وَلِلِاثْنَيْنِ هَاؤُمَا يَا رَجُلَانِ، وهاؤم يا رجال،
وللمرأة هاء (بكسر الهمزة) وهاؤما وهاؤمن. والأصل ها كم فأبدلت
الهمزة من الكاف، قاله الْقُتَيْبِيُّ «2». وَقِيلَ: إِنَّ
هاؤُمُ كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِإِجَابَةِ الدَّاعِي عِنْدَ
النَّشَاطِ وَالْفَرَحِ. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِصَوْتٍ
عَالٍ فَأَجَابَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هاؤُمُ يُطَوِّلُ صَوْتَهُ. وكِتابِيَهْ مَنْصُوبٌ
بِ هاؤُمُ عند الكوفيين. وعند البصريين ب اقْرَؤُا لِأَنَّهُ
أَقْرَبُ الْعَامِلَيْنِ. وَالْأَصْلُ" كِتَابِي" فَأُدْخِلَتِ
الْهَاءُ لِتُبَيِّنَ فَتْحَةَ الْيَاءِ، وَكَانَ الْهَاءُ
لِلْوَقْفِ، وَكَذَلِكَ في أخواته: حِسابِيَهْ، ومالِيَهْ،
وسُلْطانِيَهْ وفي القارعة ما هِيَهْ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ
بِالْهَاءِ فِيهِنَّ فِي الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ مَعًا،
لِأَنَّهُنَّ وَقَعْنَ فِي الْمُصْحَفِ بِالْهَاءِ فَلَا
تُتْرَكُ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنْ يَتَعَمَّدَ
الْوَقْفَ عَلَيْهَا لِيُوَافِقَ اللُّغَةَ فِي إِلْحَاقِ
الْهَاءِ فِي السَّكْتِ وَيُوَافِقُ الْخَطَّ. وَقَرَأَ ابْنُ
مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَيَعْقُوبُ بِحَذْفِ
الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَإِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ فِيهِنَّ
جَمْعٌ. وَوَافَقَهُمْ حَمْزَةُ فِي مالِيَهْ وسُلْطانِيَهْ،
وما هِيَهْ فِي الْقَارِعَةِ. وَجُمْلَةُ هَذِهِ الْحُرُوفِ
سَبْعَةٌ. وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةَ يَعْقُوبَ
وَمَنْ مَعَهُ اتِّبَاعًا للغة. ومن قرأهن في الوصل بالهاء
__________
(1). هو ابن الدمينة.
(2). وفيها لغات أخرى فارجع إليها في كتب اللغة.
(18/269)
فَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ. (إِنِّي
ظَنَنْتُ) أَيْ أَيْقَنْتُ وَعَلِمْتُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: أَيْ إِنِّي ظَنَنْتُ إِنْ يُؤَاخِذْنِي
اللَّهُ بِسَيِّئَاتِي عَذَّبَنِي»
فَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيَّ بِعَفْوِهِ وَلَمْ يُؤَاخِذْنِي
بِهَا. قَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ ظَنٍّ فِي الْقُرْآنِ مِنَ
الْمُؤْمِنِ فَهُوَ يَقِينٌ. وَمِنَ الْكَافِرِ فَهُوَ شَكٌّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ظَنُّ الْآخِرَةِ يَقِينٌ، وَظَنُّ
الدُّنْيَا شَكٌّ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَحْسَنَ
الْعَمَلَ وَإِنَّ الْمُنَافِقَ أَسَاءَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ
فَأَسَاءَ الْعَمَلَ. (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أَيْ فِي
الْآخِرَةِ وَلَمْ أُنْكِرِ الْبَعْثَ، يَعْنِي أَنَّهُ مَا
نَجَا إِلَّا بِخَوْفِهِ مِنْ يَوْمِ الْحِسَابِ، لِأَنَّهُ
تَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُهُ فَعَمِلَ لِلْآخِرَةِ.
(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أَيْ فِي عَيْشٍ يَرْضَاهُ لَا
مَكْرُوهَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ:
راضِيَةٍ أَيْ مَرْضِيَّةٌ، كَقَوْلِكَ: مَاءٌ دَافِقٌ، أَيْ
مَدْفُوقٌ. وَقِيلَ: ذَاتُ رِضًا، أَيْ يَرْضَى بِهَا
صَاحِبُهَا. مِثْلَ لَابِنٍ وَتَامِرٍ، أَيْ صَاحِبُ اللَّبَنِ
وَالتَّمْرِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ فَلَا يَمُوتُونَ
أَبَدًا وَيَصِحُّونَ فَلَا يَمْرَضُونَ أَبَدًا وَيَنْعَمُونَ
فَلَا يَرَوْنَ بُؤْسًا أَبَدًا وَيَشِبُّونَ فَلَا
يَهْرَمُونَ أَبَدًا (.) (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أَيْ
عَظِيمَةٌ فِي النُّفُوسِ. (قُطُوفُها دانِيَةٌ) أَيْ
قَرِيبَةُ التَّنَاوُلِ، يَتَنَاوَلُهَا الْقَائِمُ
وَالْقَاعِدُ وَالْمُضْطَجِعُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي
سُورَةِ" الْإِنْسَانِ" «2». وَالْقُطُوفُ جَمْعُ قِطْفٍ
(بِكَسْرِ الْقَافِ) وَهُوَ مَا يُقْطَفُ مِنَ الثِّمَارِ.
وَالْقَطْفُ (بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ. وَالْقِطَافُ
(بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ) وَقْتُ الْقَطْفِ. (كُلُوا
وَاشْرَبُوا) أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ. (هَنِيئاً) لَا
تَكْدِيرَ فِيهِ وَلَا تَنْغِيصَ. (بِما أَسْلَفْتُمْ)
قَدَّمْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. (فِي الْأَيَّامِ
الْخالِيَةِ) أَيْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ: كُلُوا بَعْدَ
قَوْلِهِ: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ لقوله: فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ ومَنْ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْجَمْعِ. وَذَكَرَ
الضَّحَّاكُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي
سَلَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ
الْمَخْزُومِيِّ، وَقَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَالْآيَةُ الَّتِي
تَلِيهَا فِي أَخِيهِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ، فِي
قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ أَيْضًا، قَالَهُ
الثَّعْلَبِيُّ. وَيَكُونُ هَذَا الرَّجُلُ وَأَخُوهُ سَبَبَ
نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَيَعُمُّ الْمَعْنَى جَمِيعَ
أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَأَهْلِ السَّعَادَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا. وقد قيل:
__________
(1). كذا في نسخ الأصل. ولعلها" فيعذبني" وقد أورد الخطيب في
تفسيره هذا القول ولم يذكر فيه هذه الكلمة.
(2). راجع ج 19 ص 134.
(18/270)
إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ كُلُّ مَنْ
كَانَ مَتْبُوعًا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. فَإِذَا كَانَ
الرَّجُلُ رَأْسًا فِي الْخَيْرِ، يَدْعُو إِلَيْهِ وَيَأْمُرُ
بِهِ وَيَكْثُرُ تَبَعُهُ عَلَيْهِ، دُعِيَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ
أَبِيهِ فَيَتَقَدَّمُ حَتَّى إِذَا دَنَا أُخْرِجَ لَهُ
كِتَابٌ أَبْيَضُ بِخَطٍّ أَبْيَضَ، فِي بَاطِنِهِ
السَّيِّئَاتُ وَفِي ظَاهِرِهِ الْحَسَنَاتُ فَيَبْدَأُ
بِالسَّيِّئَاتِ فَيَقْرَأَهَا فَيُشْفِقُ وَيَصْفَرُّ
وَجْهُهُ وَيَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ فَإِذَا بَلَغَ آخِرَ
الْكِتَابِ وَجَدَ فِيهِ" هَذِهِ سَيِّئَاتُكَ وَقَدْ غَفَرْتُ
لَكَ" فَيَفْرَحُ عِنْدَ ذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، ثُمَّ
يُقَلِّبُ كِتَابَهُ فَيَقْرَأُ حَسَنَاتِهِ فَلَا يَزْدَادُ
إِلَّا فَرَحًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ آخِرَ الْكِتَابِ وَجَدَ
فِيهِ" هَذِهِ حَسَنَاتُكَ قَدْ ضُوعِفَتْ لَكَ" فَيَبْيَضُّ
وَجْهُهُ وَيُؤْتَى بِتَاجٍ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ،
وَيُكْسَى حُلَّتَيْنِ، وَيُحَلَّى كُلَّ مَفْصِلٍ مِنْهُ
وَيَطُولُ سِتِّينَ ذِرَاعًا وَهِيَ قَامَةُ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَيُقَالُ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ
فَأَخْبِرْهُمْ وَبَشِّرْهُمْ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ
مِنْهُمْ مِثْلَ هَذَا. فَإِذَا أَدْبَرَ قَالَ: هَاؤُمُ
اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ
حِسَابِيَهْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ
راضِيَةٍ أَيْ مَرْضِيَّةٍ قَدْ رَضِيَهَا فِي جَنَّةٍ
عالِيَةٍ فِي السَّمَاءِ قُطُوفُها ثِمَارُهَا
وَعَنَاقِيدُهَا. دانِيَةٌ أُدْنِيَتْ مِنْهُمْ. فَيَقُولُ
لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَعْرِفُونِي؟ فَيَقُولُونَ: قَدْ
غَمَرَتْكَ كَرَامَةٌ، مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا فُلَانُ
بْنُ فُلَانٍ أُبَشِّرُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمِثْلِ هَذَا.
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي
الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أَيْ قَدَّمْتُمْ فِي أَيَّامِ
الدُّنْيَا. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ رَأْسًا فِي الشَّرِّ،
يَدْعُو إِلَيْهِ وَيَأْمُرُ بِهِ فَيَكْثُرُ تَبَعُهُ
عَلَيْهِ، نُودِيَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ فَيَتَقَدَّمُ
إِلَى حِسَابِهِ، فَيُخْرَجُ لَهُ كِتَابٌ أَسْوَدُ بِخَطٍّ
أَسْوَدَ فِي بَاطِنِهِ الْحَسَنَاتُ وَفِي ظَاهِرِهِ
السَّيِّئَاتُ، فَيَبْدَأُ بِالْحَسَنَاتِ فَيَقْرَأَهَا
وَيَظُنُّ أَنَّهُ سَيَنْجُو، فَإِذَا بَلَغَ آخِرَ الْكِتَابِ
وَجَدَ فِيهِ" هَذِهِ حَسَنَاتُكَ وَقَدْ رُدَّتْ عَلَيْكَ"
فَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ وَيَعْلُوهُ الْحُزْنُ وَيَقْنَطُ مِنَ
الْخَيْرِ، ثُمَّ يُقَلِّبُ كِتَابَهُ فَيَقْرَأُ سَيِّئَاتِهِ
فَلَا يَزْدَادُ إِلَّا حُزْنًا، وَلَا يَزْدَادُ وَجْهُهُ
إِلَّا سَوَادًا، فَإِذَا بَلَغَ آخِرَ الْكِتَابِ وَجَدَ
فِيهِ" هَذِهِ سَيِّئَاتُكَ وَقَدْ ضُوعِفَتْ عَلَيْكَ" أَيْ
يُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْعَذَابُ. لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ
يُزَادُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْمَلْ- قَالَ- فَيَعْظُمُ
لِلنَّارِ وَتَزْرَقُّ عَيْنَاهُ وَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ،
وَيُكْسَى سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ وَيُقَالُ لَهُ: انْطَلِقْ
إِلَى أَصْحَابِكَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ
مِنْهُمْ مِثْلَ هَذَا، فَيَنْطَلِقُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا
لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا
حِسابِيَهْ. يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ يَتَمَنَّى
الْمَوْتَ.
(18/271)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ تَفْسِيرُ
ابْنِ عَبَّاسٍ: هَلَكَتْ عَنِّي حُجَّتِي. وَهُوَ قَوْلُ
مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ
ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي سُلْطَانِيَهْ فِي الدُّنْيَا الَّذِي
هُوَ الْمُلْكُ. وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مُطَاعًا فِي
أَصْحَابِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ)
قِيلَ: يَبْتَدِرُهُ مِائَةُ أَلْفِ مَلَكٍ ثُمَّ تُجْمَعُ
يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
فَغُلُّوهُ أَيْ شُدُّوهُ بِالْأَغْلَالِ (ثُمَّ الْجَحِيمَ
صَلُّوهُ) أَيِ اجْعَلُوهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ (ثُمَّ فِي
سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) اللَّهُ أَعْلَمُ
بِأَيِ ذِرَاعٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
سَبْعُونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْمَلَكِ. وَقَالَ نَوْفٌ:
كُلُّ ذِرَاعٍ سَبْعُونَ بَاعًا، وَكُلُّ بَاعٍ أَبْعَدُ مَا
بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَكَّةَ. وَكَانَ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَوْ أَنَّ حَلْقَةً مِنْهَا وُضِعَتْ
عَلَى ذِرْوَةِ جَبَلٍ لَذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ.
وَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ حَلْقَةً مِنَ السِّلْسِلَةِ الَّتِي
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا- أَنَّ
حَلْقَةً مِنْهَا- مِثْلَ جَمِيعِ حَدِيدِ الدُّنْيَا.
(فَاسْلُكُوهُ) قَالَ سُفْيَانُ: بَلَغَنَا أَنَّهَا تَدْخُلُ
فِي دُبُرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ فِيهِ. وَقَالَهُ
مُقَاتِلٌ. وَالْمَعْنَى ثُمَّ اسْلُكُوا فِيهِ سِلْسِلَةً.
وَقِيلَ: تُدْخَلُ عُنُقَهُ فِيهَا ثم يجربها. وَجَاءَ فِي
الْخَبَرِ: أَنَّهَا تُدْخَلُ مِنْ دُبُرِهِ وَتُخْرَجُ مِنْ
مَنْخِرَيْهِ. وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: تُدْخَلُ مِنْ فِيهِ
وَتُخْرَجُ مِنْ دُبُرِهِ، فَيُنَادِي أَصْحَابَهُ هَلْ
تَعْرِفُونِي؟ فَيَقُولُونَ لَا، وَلَكِنْ قَدْ نَرَى مَا بِكَ
مِنَ الْخِزْيِ فَمَنْ أَنْتَ؟ فَيُنَادِي أَصْحَابَهُ أَنَا
فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مِثْلَ
هَذَا. قُلْتُ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ
نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ «1» [الاسراء: 71]. وَفِي
الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ خَرَّجَهُ
التِّرْمِذِيُّ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ" سُبْحَانَ"
«2» فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ. (إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ)
أَيْ عَلَى الْإِطْعَامِ، كَمَا يُوضَعُ الْعَطَاءُ مَوْضِعَ
الْإِعْطَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ
عَطَائِكَ المائة الرتاعا «3»
__________
(1). راجع ج 10 ص (396)
(2). راجع ج 10 ص (396) [ ..... ]
(3). البيت من قصيدة للقطامى مدح بها زفر بن الحارث الكلابي.
قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء:" كان القطامي أسره زفر في
الحرب التي كانت بين قيس وتغلب فأرادت قيس قتله فحال زفر بينهم
ومن عليه وأعطاه مائة من الإبل وأطلقه، فقال: أكفرا إلخ".
والرتاع (بكسر الراء): التي ترتع. (راجع خزانة الأدب في الشاهد
التاسع والتسعين بعد الخمسمائة).
(18/272)
فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ
غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
أَرَادَ بَعْدَ إِعْطَائِكَ. فَبَيَّنَ
أَنَّهُ عُذِّبَ عَلَى تَرْكِ الْإِطْعَامِ وَعَلَى الْأَمْرِ
بِالْبُخْلِ، كَمَا عُذِّبَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ. وَالْحَضُّ:
التَّحْرِيضُ وَالْحَثُّ. وَأَصْلُ طَعامِ أَنْ يَكُونَ
مَنْصُوبًا بِالْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ. وَالطَّعَامُ
عِبَارَةٌ عَنِ الْعَيْنِ، وَأُضِيفَ لِلْمِسْكِينِ
لِلْمُلَابَسَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا. وَمَنْ أَعْمَلَ
الطَّعَامَ كَمَا يُعْمِلُ الْإِطْعَامَ فَمَوْضِعُ
الْمِسْكِينِ نَصْبٌ. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى إِطْعَامِ
الْمُطْعِمِ الْمِسْكِينَ، فحذف الفاعل وأضيف المصدر إلى
المفعول.
[سورة الحاقة (69): الآيات 35 الى 37]
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ
إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ
(37)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ)
خبر فَلَيْسَ قوله: لَهُ ولا يكون الخبر قوله: هاهُنا لِأَنَّ
الْمَعْنَى يَصِيرُ: لَيْسَ هَا هُنَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ
غِسْلِينٍ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، لِأَنَّ ثم طعاما غيره.
وهاهُنا مُتَعَلِّقٌ بِمَا فِي لَهُ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ.
وَالْحَمِيمُ هَا هُنَا الْقَرِيبُ. أَيْ لَيْسَ لَهُ قَرِيبٌ
يَرِقُّ لَهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ
الْحَمِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ، كَأَنَّهُ الصَّدِيقُ
الَّذِي يَرِقُّ وَيَحْتَرِقُ قَلْبُهُ لَهُ. وَالْغِسْلِينُ
فِعْلِينٌ مِنَ الْغِسْلِ، فَكَأَنَّهُ يَنْغَسِلُ مِنْ
أَبْدَانِهِمْ، وَهُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ السَّائِلِ
مِنْ جُرُوحِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ شَجَرٌ يَأْكُلُهُ
أَهْلُ النَّارِ. وَالْغِسْلُ (بِالْكَسْرِ): مَا يُغْسَلُ
بِهِ الرَّأْسُ مِنْ خِطْمِيٍّ وَغَيْرِهِ. الْأَخْفَشُ:
وَمِنْهُ الْغِسْلِينُ، وَهُوَ مَا انْغَسَلَ مِنْ لُحُومِ
أَهْلِ النَّارِ وَدِمَائِهِمْ. وَزِيدَ فِيهِ الْيَاءُ
وَالنُّونُ كَمَا زِيدَ فِي عِفْرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
هُوَ شَرُّ الطَّعَامِ وَأَبْشَعُهُ. ابْنُ زَيْدٍ: لَا
يُعْلَمُ مَا هُوَ وَلَا الزَّقُّومُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ
آخَرَ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ «1»
[الغاشية: 6] يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّرِيعُ مِنَ
الْغِسْلِينِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ،
وَالْمَعْنَى فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ
إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، وَيَكُونُ الْمَاءَ الْحَارَّ. وَلا
طَعامٌ أَيْ وَلَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ يَنْتَفِعُونَ بِهِ. (لَا
يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أَيِ الْمُذْنِبُونَ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. وقرى
__________
(1). راجع ج 20 ص 29
(18/273)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا
تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا
مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا
تَذَكَّرُونَ (42)
الْخاطِؤُنَ بإبدال الهمزة ياء، و"
الخاطؤن" بطرحها. وعن ابن عباس: ما الخاطؤن! كُلُّنَا نَخْطُو.
وَرَوَى أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ: مَا الخاطؤن؟
إِنَّمَا هُوَ الْخَاطِئُونَ. مَا الصَّابُونُ! إِنَّمَا هُوَ
الصَّابِئُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الَّذِي يَتَخَطَّوْنَ
الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ.
[سورة الحاقة (69): الآيات 38 الى 40]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لَا تُبْصِرُونَ
(39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
قوله تَعَالَى: (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لَا
تُبْصِرُونَ) الْمَعْنَى أُقْسِمُ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مَا
تَرَوْنَ مِنْهَا وَمَا لَا تَرَوْنَ. وَ (لَا) صِلَةٌ.
وَقِيلَ: هُوَ رَدٌّ لِكَلَامٍ سَبَقَ، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ
كَمَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سَبَبُ
ذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ: إِنَّ
مُحَمَّدًا سَاحِرٌ. وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: شَاعِرٌ. وَقَالَ
عُقْبَةُ: كَاهِنٌ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلا
أُقْسِمُ أي أقسم. وقيل: فَلا هَا هُنَا نَفْيٌ لِلْقَسَمِ،
أَيْ لَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى قَسَمٍ لِوُضُوحِ الْحَقِّ
فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَجَوَابُهُ كَجَوَابِ الْقَسَمِ.
(إِنَّهُ) يَعْنِي الْقُرْآنَ (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)
يُرِيدُ جِبْرِيلَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ
وَمُقَاتِلٌ. دَلِيلُهُ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ.
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ «1» [التكوير: 20 - 19].
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ أَيْضًا وَالْقُتَبِيُّ: الرَّسُولُ هَا
هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
لِقَوْلِهِ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ وَلَيْسَ الْقُرْآنُ
قَوْلَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنُسِبَ
الْقَوْلُ إِلَى الرَّسُولِ لِأَنَّهُ تَالِيهِ وَمُبَلِّغُهُ
وَالْعَامِلُ بِهِ، كَقَوْلِنَا: هذا قول مالك.
[سورة الحاقة (69): الآيات 41 الى 42]
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا
بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
__________
(1). راجع ج 19 ص 238
(18/274)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما هُوَ بِقَوْلِ
شاعِرٍ) لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِصُنُوفِ الشِّعْرِ كُلِّهَا.
(وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) لِأَنَّهُ وَرَدَ بِسَبِ الشَّيَاطِينِ
وَشَتْمِهِمْ فَلَا يُنَزِّلُونَ شيئا على من يسبهم. وما
زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، قَلِيلًا
مَا تَذَكَّرُونَ، وَالْمَعْنَى: قَلِيلًا تُؤْمِنُونَ
وَقَلِيلًا تَذَّكَّرُونَ. وَذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنْ
إِيمَانِهِمْ هُوَ أَنَّهُمْ إِذَا سُئِلُوا مَنْ خَلَقَهُمْ
قَالُوا: اللَّهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَعَ
الْفِعْلِ مَصْدَرًا وَتُنْصَبُ قَلِيلًا بِمَا بَعْدَ مَا،
لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيمِ الصِّلَةِ عَلَى الْمَوْصُولِ،
لِأَنَّ مَا عَمِلَ فِيهِ الْمَصْدَرُ مِنْ صِلَةِ
الْمَصْدَرِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ
وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ (مَا يُؤْمِنُونَ)، وَ
(يَذَّكَّرُونَ) بِالْيَاءِ. الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِأَنَّ
الْخِطَابَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. أَمَّا قَبْلُهُ فَقَوْلُهُ:
تُبْصِرُونَ وأما بعده: فَما مِنْكُمْ الآية.
[سورة الحاقة (69): آية 43]
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَنْزِيلٌ) أَيْ هُوَ تَنْزِيلٌ. (مِنْ
رَبِّ الْعالَمِينَ) وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ
لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40]، أي إنه لقوله رَسُولٍ
كَرِيمٍ، وَهُوَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
[سورة الحاقة (69): الآيات 44 الى 46]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ
الْوَتِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الْأَقاوِيلِ) تَقَوَّلَ أَيْ تكلف وأتى بقول من قبل نفسه.
وقرى (وَلَوْ تَقَوَّلَ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.
(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أَيْ بِالْقُوَّةِ
وَالْقُدْرَةِ، أَيْ لَأَخَذْنَاهُ بِالْقُوَّةِ. ومِنْ صِلَةٌ
زَائِدَةٌ. وَعَبَّرَ عَنِ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ
بِالْيَمِينِ لان قوة كل شي فِي مَيَامِنِهِ، قَالَهُ
الْقُتَبِيُّ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابن عباس ومجاهد. ومنه
قول الشماخ:
إذ مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ
بِالْيَمِينِ
أَيْ بِالْقُوَّةِ. عَرَابَةُ اسْمُ رَجُلٍ «1» مِنَ
الْأَنْصَارِ من الأوس. وقال آخر:
__________
(1). هو عرابة بن أوس بن قيظى الأوسي الحارثي الأنصاري. من
سادات المدينة الأجواد المشهورين. أدرك حياة النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلم صغيرا وتوفى بالمدينة نحو
سنة ستين.
(18/275)
فَمَا مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ (48)
وَلَمَّا رَأَيْتُ الشَّمْسَ أَشْرَقَ
نُورُهَا ... تَنَاوَلْتُ مِنْهَا حَاجَتِي بِيَمِينِي
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالْحَكَمُ: بِالْيَمِينِ بِالْحَقِّ.
قَالَ:
تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
أَيْ بِالِاسْتِحْقَاقِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَقَطَعْنَا
يَدَهُ الْيَمِينَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَقَبَضْنَا
بِيَمِينِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ، قَالَهُ نَفْطَوَيْهِ. وَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ
مَخْرَجَ الْإِذْلَالِ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ فِي الْأَخْذِ
بِيَدِ مَنْ يُعَاقِبُ. كَمَا يَقُولُ السُّلْطَانُ لِمَنْ
يُرِيدُ هَوَانَهُ: خُذُوا يَدَيْهِ. أَيْ لَأَمَرْنَا
بِالْأَخْذِ بِيَدِهِ وَبَالَغْنَا فِي عِقَابِهِ. (ثُمَّ
لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) يَعْنِي نِيَاطَ الْقَلْبِ،
أَيْ لَأَهْلَكْنَاهُ. وَهُوَ عِرْقٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ
الْقَلْبُ إِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ، قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ النَّاسِ. قَالَ:
إِذَا بَلَّغْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... عَرَابَةَ
فَاشْرَقِي «1» بِدَمِ الْوَتِينِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ حَبْلُ الْقَلْبِ الَّذِي فِي
الظَّهْرِ وَهُوَ النُّخَاعُ، فَإِذَا انْقَطَعَ بَطَلَتِ
الْقُوَى ومات صاحبه. والمؤتون الَّذِي قُطِعَ وَتِينُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّهُ الْقَلْبُ
وَمَرَاقُّهُ وَمَا يَلِيهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ
عِرْقٌ بَيْنَ الْعِلْبَاءِ وَالْحُلْقُومِ. وَالْعِلْبَاءُ:
عَصَبُ الْعُنُقِ. وَهُمَا عِلْبَاوَانِ بَيْنَهُمَا يَنْبُتُ
الْعِرْقُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ الْوَتِينَ إِذَا قُطِعَ
لَا إِنْ جاع عرف، ولا إن شبع عرف.
[سورة الحاقة (69): الآيات 47 الى 48]
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ
لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حاجِزِينَ) فَما نفي وأَحَدٍ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ،
فَلِذَلِكَ نَعَتَهُ بِالْجَمْعِ، أَيْ فَمَا مِنْكُمْ قَوْمٌ
يَحْجِزُونَ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «2» [البقرة: 285] هَذَا جَمْعٌ، لِأَنَّ
بَيْنَ لَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى اثْنَيْنِ فَمَا زَادَ. قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَمْ تَحِلَّ
الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ سود الرؤوس قبلكم). لفظه واحد ومعناه
الجمع. ومِنْ زائدة.
__________
(1). شرق (من باب طرب): غص.
(2). راجع ج 3 ص 424
(18/276)
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ
أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى
الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
والحجز: المنع. وحاجِزِينَ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ صِفَةً لِأَحَدٍ عَلَى الْمَعْنَى كَمَا ذَكَرْنَا،
فَيَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ. وَالْخَبَرُ مِنْكُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ خبر
ومِنْكُمْ مُلْغًى، وَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِ حاجِزِينَ.
وَلَا يَمْنَعُ الْفَصْلُ بِهِ مِنَ انْتِصَابِ الْخَبَرِ فِي
هَذَا، كَمَا لَمْ يَمْتَنِعِ الْفَصْلُ بِهِ فِي" إِنَّ فِيكَ
زَيْدًا رَاغِبٌ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ) يَعْنِي
الْقُرْآنَ (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أَيْ لِلْخَائِفِينَ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ الله. ونظيره: فِيهِ هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ أَوَّلَ
سُورَةِ «1» الْبَقَرَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ هو تذكرة ورحمة
ونجاة.
[سورة الحاقة (69): الآيات 49 الى 52]
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ
لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
(52)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ
مُكَذِّبِينَ) قَالَ الرَّبِيعُ: بِالْقُرْآنِ. (وَإِنَّهُ
لَحَسْرَةٌ) يَعْنِي التَّكْذِيبَ. وَالْحَسْرَةُ:
النَّدَامَةُ. وَقِيلَ: أَيْ وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَحَسْرَةٌ
عَلَى الْكَافِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا رَأَوْا
ثَوَابَ مَنْ آمَنَ بِهِ. وَقِيلَ: هِيَ حَسْرَتُهُمْ فِي
الدُّنْيَا حِينَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مُعَارَضَتِهِ عِنْدَ
تَحَدِّيهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. (وَإِنَّهُ
لَحَقُّ الْيَقِينِ) يَعْنِي أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ
تَنْزِيلٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ لَحَقُّ
الْيَقِينِ. وَقِيلَ: أَيْ حَقًّا يَقِينًا لَيَكُونَنَّ
ذَلِكَ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَعَلَى
هَذَا وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ أَيْ لَتَحَسُّرٌ، فَهُوَ مَصْدَرٌ
بِمَعْنَى التَّحَسُّرِ، فَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِكَ: لَعَيْنُ الْيَقِينِ
وَمَحْضُ الْيَقِينِ. وَلَوْ كَانَ الْيَقِينُ نَعْتًا لَمْ
يَجُزْ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ، كَمَا لَا تَقُولُ: هَذَا
رَجُلُ الظَّرِيفِ. وَقِيلَ: أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ
لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ) أَيْ فَصَلِّ لِرَبِّكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: أَيْ نَزِّهِ اللَّهَ عَنِ السُّوءِ والنقائص.
__________
(1). راجع ج 1 ص 161
(18/277)
سَأَلَ سَائِلٌ
بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ
وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ (4)
[تفسير سورة المعارج]
سُورَةُ الْمَعَارِجِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ. وَهِيَ
أَرْبَعٌ وأربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المعارج (70): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ
دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) قَرَأَ
نَافِعٌ وابن عامر سَأَلَ سائِلٌ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ.
الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ. فَمَنْ هَمَزَ فَهُوَ مِنَ
السُّؤَالِ. وَالْبَاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً،
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى عَنْ. وَالسُّؤَالُ
بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، أَيْ دَعَا دَاعٍ بِعَذَابٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. يُقَالُ: دَعَا عَلَى فُلَانٍ
بِالْوَيْلِ، وَدَعَا عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ. وَيُقَالُ:
دَعَوْتُ زَيْدًا، أَيِ الْتَمَسْتُ إِحْضَارَهُ. أَيِ
الْتَمَسَ مُلْتَمِسٌ عَذَابًا لِلْكَافِرِينَ، وَهُوَ وَاقِعٌ
بِهِمْ لَا مَحَالَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَعَلَى هَذَا
فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْبُتُ
بِالدُّهْنِ «1» [المؤمنون: 20]، وقوله. وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ «2» [مريم: 25] فَهِيَ تَأْكِيدٌ. أَيْ
سَأَلَ سَائِلٌ عَذَابًا وَاقِعًا. (لِلْكافِرينَ) أي على
الكافرين. وهو النضر ابن الْحَارِثِ حَيْثُ قَالَ: اللَّهُمَّ
إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ
عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ
أَلِيمٍ «3» [الأنفال: 32] فَنَزَلَ سُؤَالُهُ، وَقُتِلَ
يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا «4» هُوَ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي
مُعَيْطٍ، لَمْ يُقْتَلْ صَبْرًا غَيْرُهُمَا، قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: إِنَّ السَّائِلَ هُنَا هُوَ
الْحَارِثُ بْنُ النُّعْمَانِ الْفِهْرِيُّ. وَذَلِكَ أَنَّهُ
لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (مَنْ كُنْتُ
مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ) رَكِبَ نَاقَتَهُ فَجَاءَ
حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ بِالْأَبْطَحِ ثُمَّ قَالَ: يَا
مُحَمَّدُ، أَمَرْتَنَا عَنِ اللَّهِ أَنْ نشهد أن لا إله
__________
(1). راجع ج 12 ص (114)
(2). راجع ج 11 ص (94)
(3). راجع ج 81 ص (398)
(4). الصبر: نصب الإنسان للقتل.
(18/278)
إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ
فَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ، وَأَنْ نُصَلِّيَ خَمْسًا فَقَبِلْنَاهُ
مِنْكَ، وَنُزَكِّيَ أَمْوَالَنَا فَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ،
وَأَنَّ نَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي كُلِّ عَامٍ
فَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ، وَأَنْ نَحُجَّ فَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ،
ثُمَّ لَمْ تَرْضَ بِهَذَا حَتَّى فَضَّلْتَ ابن عمك علينا!
أفهذا شي مِنْكَ أَمْ مِنَ اللَّهِ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاللَّهِ الَّذِي لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا هُوَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ) فَوَلَّى
الْحَارِثُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ
مُحَمَّدٌ حَقًّا فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ
السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. فَوَاللَّهِ مَا
وَصَلَ إِلَى نَاقَتِهِ حَتَّى رَمَاهُ اللَّهُ بِحَجَرٍ
فَوَقَعَ عَلَى دِمَاغِهِ فَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ فَقَتَلَهُ،
فَنَزَلَتْ: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ الْآيَةَ. وَقِيلَ:
إِنَّ السَّائِلَ هُنَا أَبُو جَهْلٍ وَهُوَ الْقَائِلُ
لِذَلِكَ، قَالَهُ الرَّبِيعُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَوْلُ
جَمَاعَةٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: هُوَ نُوحٌ
عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ الْعَذَابَ عَلَى الْكَافِرِينَ.
وَقِيلَ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَيُّ دَعَا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعِقَابِ
وَطَلَبَ أَنْ يُوقِعَهُ اللَّهُ بِالْكُفَّارِ، وَهُوَ
وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ. وَامْتَدَّ الْكَلَامُ إِلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا [المعارج: 5]
أَيْ لَا تَسْتَعْجِلْ فَإِنَّهُ قَرِيبٌ. وَإِذَا كَانَتِ
الْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ- وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ- فَكَأَنَّ
سَائِلًا سَأَلَ عَنِ الْعَذَابِ بِمَنْ يَقَعُ أَوْ متى يقع.
قال الله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً «1» [الفرقان: 59]
أَيْ سَلْ عَنْهُ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النسا
طَبِيبُ
أَيْ عَنِ النِّسَاءِ. وَيُقَالُ: خَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ
فُلَانٍ وَبِفُلَانٍ. فَالْمَعْنَى سَأَلُوا بِمَنْ يَقَعُ
الْعَذَابُ وَلِمَنْ يَكُونُ فَقَالَ اللَّهُ: لِلْكافِرينَ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ: وَإِذَا كَانَ مِنَ
السُّؤَالِ فَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ
وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَإِذَا اقْتَصَرَ
عَلَى أَحَدِهِمَا جَازَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفِ
جَرٍّ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ سَأَلَ سَائِلٌ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْمُسْلِمِينَ
بِعَذَابٍ أَوْ عَنْ عَذَابٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ هَمْزٍ
فَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لُغَةٌ فِي السُّؤَالِ
وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، تَقُولُ الْعَرَبُ: سَالَ يَسَالُ،
مِثْلَ نَالَ يَنَالُ وَخَافَ يَخَافُ. وَالثَّانِي أَنْ
يَكُونَ مِنَ السَّيَلَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ
عَبَّاسٍ" سَالَ سَيْلٌ". قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
زَيْدٍ: سَالَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جهنم يقال له:
__________
(1). راجع ج 13 ص 63.
(18/279)
سَائِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ،
كَقَوْلِ الْأَعْشَى «1» فِي تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ:
سَالَتَانِي الطَّلَاقَ إِذْ رَأَتَانِي ... قَلَّ مَالِي قَدْ
جِئْتُمَانِي بِنُكْرِ
وَفِي الصِّحَاحِ: قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ خَرَجْنَا
نَسْأَلُ عَنْ فُلَانٍ وَبِفُلَانٍ. وَقَدْ تُخَفَّفُ
هَمْزَتُهُ فَيُقَالُ: سَالَ يَسَالُ. وَقَالَ:
وَمُرْهَقٍ سَالَ إِمْتَاعًا بِأُصْدَتِهِ ... لَمْ يَسْتَعِنْ
وَحَوَامِي الْمَوْتِ تَغْشَاهُ «2»
الْمُرْهَقُ: الَّذِي أُدْرِكَ لِيُقْتَلَ. وَالْأُصْدَةُ
بِالضَّمِّ: قَمِيصٌ صَغِيرٌ يُلْبَسُ تَحْتَ الثَّوْبِ.
الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ قَرَأَ" سَالَ" جَازَ أَنْ يَكُونَ
خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا، وَهُوَ الْبَدَلُ
عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ
مُنْقَلِبَةً عَنْ وَاوٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: سِلْتُ
أَسَالَ، كَخِفْتُ أَخَافُ. النَّحَّاسُ: حَكَى سِيبَوَيْهِ
سِلْتُ أَسَالَ، مِثْلُ خِفْتُ أَخَافَ، بِمَعْنَى سَأَلْتُ.
وَأَنْشَدَ:
سَالَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحِشَةً ... ضَلَّتْ
هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ «3»
وَيُقَالُ: هُمَا يَتَسَاوَلَانِ. الْمَهْدَوِيُّ: وَجَازَ
أَنْ تَكُونَ مُبْدَلَةً مِنْ يَاءٍ، مِنْ سَالَ يسيل. ويكون
سائل واديا في جهنم، فهمزه سائل عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
أَصْلِيَّةٌ، وَعَلَى الثَّانِي بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ، وَعَلَى
الثَّالِثِ بَدَلٌ مِنْ يَاءٍ. الْقُشَيْرِيُّ: وَسَائِلٌ
مَهْمُوزٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ سَأَلَ بِالْهَمْزِ
فَهُوَ مَهْمُوزٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْهَمْزِ كَانَ
مَهْمُوزًا أَيْضًا، نَحْوَ قَائِلٍ وَخَائِفٍ، لِأَنَّ
الْعَيْنَ اعْتَلَّ فِي الْفِعْلِ وَاعْتَلَّ فِي اسْمِ
الْفَاعِلِ أَيْضًا. وَلَمْ يَكُنِ الِاعْتِلَالُ بِالْحَذْفِ
لِخَوْفِ الِالْتِبَاسِ، فَكَانَ بِالْقَلْبِ إِلَى
الْهَمْزَةِ، وَلَكَ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ حَتَّى تَكُونَ
بَيْنَ بَيْنَ. واقِعٍ أي يقع بالكفار بين
__________
(1). لم تجد البيت في شعر الاعشين. وفى كتاب سيبويه (ج 1 ص
291، ج 2 ص 170) أنه لزيد بن عمرو ابن نفيل القرشي. وعلق عليه
الأعلم الشنتمرى أنه يروى لنبيه بن الحجاج.
(2). لم يستعن، أي لم يحلق عانته. وحوامى الموت وحوائمه:
أسبابه. قال ابن برى: أنشده أبو على الباهلي غيث بن عبد الكريم
لبعض العرب يصف رجلا شريفا، ارتث في بعض المعارك فسألهم أن
يمتعوه بقميصه، أي لا يسلب. [ ..... ]
(3). البيت لحسان بن ثابت.
(18/280)
أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ فَقَالَ لِمَنْ هُوَ؟ فَقَالَ لِلْكَافِرِينَ،
فَاللَّامُ فِي الْكَافِرِينَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ واقِعٍ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ بِعَذَابٍ لِلْكَافِرِينَ
وَاقِعٍ، فَالْوَاقِعُ مِنْ نَعْتِ الْعَذَابِ وَاللَّامُ
دَخَلَتْ لِلْعَذَابِ لَا لِلْوَاقِعِ، أَيْ هَذَا الْعَذَابُ
لِلْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ لَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ
أَحَدٌ. وَقِيلَ إِنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى عَلَى،
وَالْمَعْنَى: وَاقِعٌ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَرُوِيَ أَنَّهَا
فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى عَنْ،
أَيْ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ عَنِ الْكَافِرِينَ مِنَ اللَّهِ.
أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ أَيْ
ذِي الْعُلُوِّ وَالدَّرَجَاتِ الْفَوَاضِلِ وَالنِّعَمِ،
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ فَالْمَعَارِجُ مَرَاتِبُ
إِنْعَامِهِ عَلَى الْخَلْقِ وَقِيلَ ذِي الْعَظَمَةِ
وَالْعَلَاءِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مَعَارِجُ السَّمَاءِ.
وَقِيلَ: هِيَ مَعَارِجُ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ
الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ إِلَى السَّمَاءِ فَوَصَفَ نَفْسَهُ
بِذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمَعَارِجُ الْغُرَفُ، أَيْ إِنَّهُ ذُو
الْغُرَفِ، أَيْ جَعَلَ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْجَنَّةِ
غُرَفًا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ" ذِي الْمَعَارِيجِ"
بِالْيَاءِ. يُقَالُ: مَعْرَجٌ وَمِعْرَاجٌ وَمَعَارِجُ
وَمَعَارِيجُ، مِثْلَ مِفْتَاحٍ وَمَفَاتِيحَ. وَالْمَعَارِجُ
الدرجات، ومنه: وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ «1» [الزخرف:
33]. (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) أَيْ تَصْعَدُ فِي
الْمَعَارِجِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ. وَقَرَأَ
ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ وَالسُّلَمِيُّ
وَالْكِسَائِيُّ" يَعْرُجُ" بِالْيَاءِ عَلَى إِرَادَةِ
الْجَمْعِ، وَلِقَوْلِهِ: ذَكِّرُوا الْمَلَائِكَةَ وَلَا
تُؤَنِّثُوهُمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى
إِرَادَةِ الْجَمَاعَةِ. وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. دَلِيلُهُ قَوْلُهُ
تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «2» [الشعراء: 193].
وَقِيلَ: هُوَ مَلَكٌ آخَرُ عَظِيمُ الْخِلْقَةِ. وَقَالَ
أَبُو صَالِحٍ: إِنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَهَيْئَةِ
النَّاسِ وَلَيْسَ بِالنَّاسِ. قَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ:
إِنَّهُ رُوحُ الْمَيِّتِ حِينَ يُقْبَضُ. إِلَيْهِ أَيْ إِلَى
الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّهُمْ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ،
لِأَنَّهَا مَحَلُّ بِرِّهِ وَكَرَامَتِهِ. وَقِيلَ: هُوَ
كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي «3»
[الصافات: 99]. أَيْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَنِي
بِهِ. وَقِيلَ: إِلَيْهِ أَيْ إِلَى عَرْشِهِ. (فِي يَوْمٍ
كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قَالَ وَهْبٌ
وَالْكَلْبِيُّ ومحمد ابن إِسْحَاقَ: أَيْ عُرُوجُ
الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّهُمْ فِي
وَقْتٍ كَانَ مِقْدَارُهُ عَلَى غيرهم
__________
(1). راجع ج 16 ص (85)
(2). راجع ج 13 ص (138)
(3). راجع ج 15 ص 97
(18/281)
لَوْ صَعِدَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةً.
وَقَالَ وَهْبٌ أَيْضًا: مَا بَيْنَ أَسْفَلِ الْأَرْضِ إِلَى
الْعَرْشِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ
مُجَاهِدٍ. وَجَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ
قَوْلِهِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ
فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ، «1» فَقَالَ: فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ مُنْتَهَى أَمْرِهِ
مِنْ أَسْفَلِ الْأَرْضِينَ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِ مِنْ
فَوْقِ السَّمَوَاتِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقَوْلُهُ
تَعَالَى فِي (الم تَنْزِيلُ): فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ
أَلْفَ سَنَةٍ [السجدة: 5] يَعْنِي بِذَلِكَ نُزُولَ الْأَمْرِ
مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنَ الْأَرْضِ
إِلَى السَّمَاءِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَذَلِكَ مِقْدَارُ
أَلْفِ سَنَةٍ لِأَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ
مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا
وَالْحَكَمِ وَعِكْرِمَةَ: هُوَ مُدَّةُ عُمُرِ الدُّنْيَا
مِنْ أَوَّلِ مَا خُلِقَتْ إِلَى آخِرِ مَا بَقِيَ خَمْسُونَ
أَلْفَ سَنَةٍ. لا يدري أحدكم مَضَى وَلَا كَمْ بَقِيَ إِلَّا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، أَيْ مِقْدَارُ الْحُكْمِ فِيهِ لَوْ تَوَلَّاهُ
مَخْلُوقٌ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ
أَيْضًا وَالْكَلْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. يَقُولُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَا أَفْرُغُ مِنْهُ فِي سَاعَةٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ لَا نَفَادَ لَهُ فَالْمُرَادُ ذِكْرُ
مَوْقِفِهِمْ لِلْحِسَابِ فَهُوَ فِي خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
مِنْ سِنِي الدُّنْيَا، ثُمَّ حِينَئِذٍ يَسْتَقِرُّ أَهْلُ
الدَّارَيْنِ فِي الدَّارَيْنِ. وَقَالَ يَمَانُ: هُوَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ، فِيهِ خَمْسُونَ مَوْطِنًا كُلُّ مَوْطِنٍ
أَلْفُ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ، جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَى الْكَافِرِينَ مِقْدَارَ
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ النَّارَ
لِلِاسْتِقْرَارِ. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ مَا
قِيلَ فِي الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ
قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ. فَقُلْتُ: مَا أَطْوَلُ هَذَا! فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَنِ الْمُؤْمِنِ حَتَّى
يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ
يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا (. وَاسْتَدَلَّ النَّحَّاسُ عَلَى
صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:) مَا مِنْ رَجُلٍ لَمْ
يُؤَدِّ زَكَاةَ ماله إِلَّا جُعِلَ شُجَاعًا «2» مِنْ نَارٍ
تُكْوَى بِهِ جَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ وَجَنْبَاهُ فِي يَوْمٍ
كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يَقْضِيَ
اللَّهُ بَيْنَ الناس (.
__________
(1). راجع ج 14 ص 86.
(2). الشجاع (بالضم والكسر): الحية الذكر.
(18/282)
فَاصْبِرْ صَبْرًا
جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ
قَرِيبًا (7)
قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا
قَدْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الْمُؤْمِنِ إِلَّا قَدْرَ مَا
بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَرَوَى هَذَا الْمَعْنَى
مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (يُحَاسِبُكُمُ
اللَّهُ تَعَالَى بِمِقْدَارِ مَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ
وَلِذَلِكَ سَمَّى نَفْسَهُ سَرِيعَ الْحِسَابِ وَأَسْرَعَ
الْحَاسِبِينَ). ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: بَلْ
يَكُونُ الْفَرَاغُ لِنِصْفِ يَوْمٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا
وَأَحْسَنُ مَقِيلًا «1» [الفرقان: 24]. وَهَذَا عَلَى قَدْرِ
فَهْمِ الْخَلَائِقِ، وَإِلَّا فَلَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ
شَأْنٍ. وَكَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي سَاعَةٍ كَذَا يُحَاسِبُهُمْ
فِي لَحْظَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «2» [لقمان: 28]. وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ
وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ
سَنَةٍ [السجدة: 5] فَقَالَ: أَيَّامٌ سَمَّاهَا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ هُوَ أَعْلَمُ بِهَا كَيْفَ تَكُونُ، وَأَكْرَهُ أَنْ
أَقُولَ فِيهَا مَا لَا أَعْلَمُ. وَقِيلَ: مَعْنَى ذَكَرَ
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ تَمْثِيلٌ، وَهُوَ تَعْرِيفُ طُولِ
مُدَّةِ الْقِيَامَةِ فِي الْمَوْقِفِ، وَمَا يَلْقَى النَّاسُ
فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ. وَالْعَرَبُ تَصِفُ أَيَّامَ
الشِّدَّةِ بِالطُّولِ، وَأَيَّامَ الْفَرَحِ بِالْقِصَرِ،
قَالَ الشَّاعِرَ:
وَيَوْمٌ كَظِلِّ الرُّمْحِ قَصَّرَ طُولَهُ ... دَمُ الزِّقِّ
عَنَّا وَاصْطِفَاقُ الْمَزَاهِرِ «3»
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى:
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ
مِنَ اللَّهِ دَافِعٌ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ مَعْنَى مَا اخْتَرْنَاهُ، والموفق
الإله.
[سورة المعارج (70): الآيات 5 الى 7]
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً
(6) وَنَراهُ قَرِيباً (7)
__________
(1). راجع ج 13 ص 22.
(2). راجع ج 14 ص 78.
(3). قال ابن برى: نسب الجوهري هذا البيت ليزيد بن الطثرية،
وصوابه لشبرمة بن الطفيل. (انظر لسان العرب مادة صفق). والزق:
وعاء من جلد. ويريد بدم الزق الخمر. والمزاهر: العيدان.
واصطفقت المزاهر: جاوب بعضها بعضا.
(18/283)
يَوْمَ تَكُونُ
السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ
(9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاصْبِرْ صَبْراً
جَمِيلًا) أَيْ عَلَى أَذَى قَوْمِكَ. وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ:
هُوَ الَّذِي لَا جَزَعَ فِيهِ وَلَا شَكْوَى لِغَيْرِ
اللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمُصِيبَةِ فِي
الْقَوْمِ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ.
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) يُرِيدُ أَهْلَ مَكَّةَ
يَرَوْنَ الْعَذَابَ بِالنَّارِ بَعِيدًا، أَيْ غَيْرَ
كَائِنٍ. (وَنَراهُ قَرِيباً) لِأَنَّ مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ
قَرِيبٌ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: يَرَوْنَ الْبَعْثَ بَعِيدًا
لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ كَأَنَّهُمْ يَسْتَبْعِدُونَهُ
عَلَى جِهَةِ الْإِحَالَةِ. كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُنَاظِرُهُ:
هَذَا بَعِيدٌ لَا يَكُونُ! وَقِيلَ: أَيْ يَرَوْنَ هَذَا
الْيَوْمَ بَعِيدًا وَنَراهُ أَيْ نَعْلَمُهُ، لِأَنَّ
الرُّؤْيَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ. وَهُوَ
كَقَوْلِكَ: الشَّافِعِيُّ يَرَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
كَذَا وكذا.
[سورة المعارج (70): الآيات 8 الى 10]
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ)
الْعَامِلُ فِي يَوْمٍ واقِعٍ، تَقْدِيرُهُ يَقَعُ بِهِمُ
الْعَذَابُ يَوْمَ. وَقِيلَ: نَراهُ أَوْ يُبَصَّرُونَهُمْ
أَوْ يَكُونُ بَدَلًا مِنْ قَرِيبٍ. وَالْمُهْلُ: دُرْدِيُّ
الزَّيْتِ وَعَكَرُهُ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا أُذِيبَ مِنَ الرَّصَاصِ
وَالنُّحَاسِ وَالْفِضَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَالْمُهْلِ
كَقَيْحٍ مِنْ دَمٍ وَصَدِيدٍ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ"
الدُّخَانِ"، وَ" الْكَهْفِ" الْقَوْلُ «1» فِيهِ. (وَتَكُونُ
الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أَيْ كَالصُّوفِ الْمَصْبُوغِ. وَلَا
يُقَالُ لِلصُّوفِ عِهْنٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَصْبُوغًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وَهُوَ
الصُّوفُ الْأَحْمَرُ، وَهُوَ أَضْعَفُ الصُّوفِ. وَمِنْهُ
قَوْلُ زُهَيْرٍ:
كَأَنَّ فُتَاتَ الْعِهْنِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ ... نَزَلْنَ
بِهِ حَبُّ الْفَنَا لم يحطم «2»
__________
(1). راجع ج 10 ص 394 وج 16 ص (149)
(2). الفنا (مقصور والواحدة فناة): عنب الثعلب. وقيل: هو شجر
دو حب أحمر ما لم يكسر يتخذ منه قرار يط يوزن بها، كل حبة
قيراط. وقيل: يتخذ منه القلائد. وقوله:" لم يحطم" أراد أن حب
الفنا صحيح، لأنه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة.
(18/284)
يُبَصَّرُونَهُمْ
يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ
بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ
الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ
يُنْجِيهِ (14)
الْفُتَاتُ الْقِطَعُ. وَالْعِهْنُ
الصُّوفُ الْأَحْمَرُ، وَاحِدُهُ عِهْنَةٌ. وَقِيلَ: الْعِهْنُ
الصُّوفُ ذُو الْأَلْوَانِ، فَشَبَّهَ الْجِبَالَ بِهِ فِي
تَلَوُّنِهَا أَلْوَانًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَلِينُ
بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَتَتَفَرَّقُ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ.
وَقِيلَ: أَوَّلُ مَا تَتَغَيَّرُ الْجِبَالُ تَصِيرُ رَمْلًا
«1» مَهِيلًا، ثُمَّ عهنا منفوشا، ثم هباء منبثا. (وَلا
يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أَيْ عَنْ شَأْنِهِ لِشُغْلِ كُلِّ
إِنْسَانٍ بِنَفْسِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. كَمَا قَالَ
تَعَالَى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ
يُغْنِيهِ «2» [عبس: 37]. وَقِيلَ: لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ عَنْ
حَمِيمٍ، فَحَذَفَ الجار ووصل الفعل. وقراءة العامة يَسْئَلُ
بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَالْبَزِّيُّ عَنْ
عَاصِمٍ" وَلَا يُسْأَلُ بِالضَّمِّ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ
فَاعِلُهُ، أَيْ لَا يُسْأَلُ حَمِيمٌ عَنْ حَمِيمِهِ وَلَا
ذُو قَرَابَةٍ عَنْ قَرَابَتِهِ، بَلْ كُلُّ إِنْسَانٍ
يُسْأَلُ عَنْ عَمَلِهِ. نَظِيرُهُ: كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ «3» رَهِينَةٌ [المدثر: 38].
[سورة المعارج (70): الآيات 11 الى 14]
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ
عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُبَصَّرُونَهُمْ) أَيْ يَرَوْنَهُمْ.
وَلَيْسَ فِي الْقِيَامَةِ مَخْلُوقٌ إِلَّا وَهُوَ نَصْبُ
عَيْنِ صَاحِبِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. فَيُبْصِرُ
الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ وَقَرَابَتَهُ وَعَشِيرَتَهُ
وَلَا يَسْأَلُهُ وَلَا يُكَلِّمُهُ، لِاشْتِغَالِهِمْ
بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَعَارَفُونَ
سَاعَةً ثُمَّ لَا يَتَعَارَفُونَ بَعْدَ تِلْكَ السَّاعَةِ.
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ
يَفِرُّونَ مِنَ الْمَعَارِفِ مَخَافَةَ الْمَظَالِمِ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: يُبَصَّرُونَهُمْ يُبْصِرُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا فَيَتَعَارَفُونَ ثُمَّ يَفِرُّ بَعْضُهُمْ مِنْ
بَعْضٍ. فَالضَّمِيرُ فِي يُبَصَّرُونَهُمْ عَلَى هَذَا
لِلْكُفَّارِ، وَالْمِيمُ لِلْأَقْرِبَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
الْمَعْنَى يُبَصِّرُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْكُفَّارَ فِي
يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَالضَّمِيرُ فِي يُبَصَّرُونَهُمْ
لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ لِلْكُفَّارِ. ابْنُ
زَيْدٍ: المعنى يبصر الله
__________
(1). المهيل: الذي يحرك أسفله فينهال عليه من أعلاه.
(2). راجع ج 19 ص 222 وص 84
(3). راجع ج 19 ص 222 وص 84 [ ..... ]
(18/285)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى
(15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ
وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
الْكُفَّارَ فِي النَّارِ الَّذِينَ
أَضَلُّوهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَالضَّمِيرُ فِي
يُبَصَّرُونَهُمْ لِلتَّابِعِينَ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ
لِلْمَتْبُوعِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يُبَصِّرُ الْمَظْلُومَ
ظَالِمَهُ وَالْمَقْتُولَ قَاتِلَهُ. وَقِيلَ:
يُبَصَّرُونَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، أَيْ
يَعْرِفُونَ أَحْوَالَ النَّاسِ فَيَسُوقُونَ كُلَّ فَرِيقٍ
إِلَى مَا يَلِيقُ بِهِمْ. وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ
قَوْلِهِ: يُبَصَّرُونَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: (يَوَدُّ
الْمُجْرِمُ) أَيْ يَتَمَنَّى الْكَافِرُ. (لَوْ يَفْتَدِي
مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) يَعْنِي مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ
بِأَعَزَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ
أَقَارِبِهِ فَلَا يَقْدِرُ. ثُمَّ ذَكَرَهُمْ فَقَالَ:
(بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ) زَوْجَتِهِ. (وَأَخِيهِ.
وَفَصِيلَتِهِ) أَيْ عَشِيرَتِهِ. (الَّتِي تُؤْوِيهِ)
تَنْصُرُهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ
مَالِكٌ: أُمُّهُ الَّتِي تُرَبِّيهِ. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ
وَرَوَاهُ عَنْهُ أَشْهَبُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
الْفَصِيلَةُ دُونَ الْقَبِيلَةِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُمْ
آبَاؤُهُ الْأَدْنَوْنَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْفَصِيلَةُ
الْقِطْعَةُ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ، وَهِيَ دُونُ
الْقَبِيلَةِ. وَسُمِّيَتْ عِتْرَةُ الرَّجُلِ فَصِيلَتُهُ
تَشْبِيهًا بِالْبَعْضِ مِنْهُ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ"
الْحُجُرَاتِ" الْقَوْلُ فِي الْقَبِيلَةِ وَغَيْرِهَا»
. وَهُنَا مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ: إِذَا حَبَسَ عَلَى فَصِيلَتِهِ
أَوْ أَوْصَى لَهَا فَمَنِ ادَّعَى الْعُمُومَ حَمَلَهُ عَلَى
الْعَشِيرَةِ، وَمَنِ ادَّعَى الْخُصُوصَ حَمَلَهُ عَلَى
الْآبَاءِ، الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ
فِي النُّطْقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَعْنَى: تُؤْوِيهِ
تَضُمُّهُ وَتُؤَمِّنُهُ مِنْ خَوْفٍ إِنْ كَانَ بِهِ. (وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أَيْ وَيَوَدُّ لَوْ فُدِيَ بِهِمْ
لَافْتَدَى (ثُمَّ يُنْجِيهِ) أَيْ يُخَلِّصُهُ ذَلِكَ
الْفِدَاءُ. فَلَا بُدَ مِنْ هَذَا الْإِضْمَارِ، كَقَوْلِهِ:
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ «2» أَيْ وَإِنَّ أَكْلَهُ لَفِسْقٌ.
وَقِيلَ: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ يَقْتَضِي جَوَابًا بِالْفَاءِ،
كَقَوْلِهِ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ «3» [القلم:
9]. وَالْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ يُنْجِيهِ
لِأَنَّهَا مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ، أَيْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ
لَوْ يفتدى فينجيه الافتداء.
[سورة المعارج (70): الآيات 15 الى 18]
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا
مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها لَظى 15 نَزَّاعَةً
لِلشَّوى 16 تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى 17 وَجَمَعَ
فَأَوْعى 18
__________
(1). راجع ج 16 ص (345)
(2). راجع ج 7 ص (74)
(3). راجع ص 230 من هذا الجزء.
(18/286)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَلَّا) تَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِي كَلَّا وَأَنَّهَا تَكُونُ بِمَعْنَى حَقًّا،
وَبِمَعْنَى «1» لَا. وَهِيَ هُنَا تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ،
فَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى حَقًّا كَانَ تَمَامُ الْكَلَامِ
يُنْجِيهِ. وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى لَا كَانَ تَمَامُ
الْكَلَامِ عَلَيْهَا، أَيْ لَيْسَ يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ الِافْتِدَاءُ ثُمَّ قَالَ: (إِنَّها لَظى) أَيْ هِيَ
جَهَنَّمُ، أَيْ تَتَلَظَّى نيرانها، كقوله تعالى:
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً «2» تَلَظَّى [الليل: 14] وَاشْتِقَاقُ
لَظَى مِنَ التَّلَظِّي. وَالْتِظَاءُ النَّارِ الْتِهَابُهَا،
وَتَلَظِّيهَا تَلَهُّبُهَا. وَقِيلَ: كَانَ أَصْلُهَا"
لَظَظَ" أَيْ مَا دَامَتْ لِدَوَامِ عَذَابِهَا، فَقُلِبَتْ
إِحْدَى الظَّاءَيْنِ أَلِفًا فَبَقِيَتْ لَظَى. وَقِيلَ: هِيَ
الدَّرَكَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ طَبَقَاتِ جَهَنَّمَ. وَهِيَ
اسْمٌ مُؤَنَّثٌ مَعْرِفَةٌ فَلَا يَنْصَرِفُ. (نَزَّاعَةً
لِلشَّوى) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ
وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ وَالْأَعْمَشُ
وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (نَزَّاعَةٌ)
بِالرَّفْعِ. وَرَوَى أَبُو عَمْرٍو عَنْ عَاصِمٍ نَزَّاعَةً
بِالنَّصْبِ. فَمَنْ رَفَعَ فَلَهُ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا أَنْ تُجْعَلَ لَظى خَبَرَ (إِنَّ) وَتُرْفَعَ
(نَزَّاعَةً) بِإِضْمَارِ هِيَ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ
يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى لَظى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ
تَكُونَ لَظى ونَزَّاعَةً خَبَرَانِ لِإِنَّ. كَمَا تَقُولُ
إِنَّهُ خُلُقُ مُخَاصِمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ
تَكُونَ نَزَّاعَةً بَدَلًا مِنْ لَظى ولَظى خَبَرُ (إِنَّ).
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ تَكُونَ لَظى بدلا من أسم (إن)
ونَزَّاعَةً خَبَرُ (إِنَّ). وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنْ
يَكُونَ الضَّمِيرُ في إنها للقصة ولَظى مبتدأ ونَزَّاعَةً
خَبَرُ الِابْتِدَاءِ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ (إِنَّ)
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقِصَّةَ وَالْخَبَرَ لَظَى نَزَّاعَةً
لِلشَّوَى وَمَنْ نَصَبَ نَزَّاعَةً حَسُنَ لَهُ أَنْ يَقِفَ
عَلَى لَظى وَيَنْصِبَ نَزَّاعَةً عَلَى الْقَطْعِ مِنْ لَظى
إِذْ كَانَتْ نَكِرَةً مُتَّصِلَةً بِمَعْرِفَةٍ. وَيَجُوزُ
نَصْبُهَا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ، كَمَا قَالَ: وَهُوَ
الْحَقُّ مُصَدِّقاً «3» [البقرة: 91]. وَيَجُوزُ أَنْ
تُنْصَبَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تَتَلَظَّى نَزَّاعَةً، أَيْ
فِي حَالِ نَزْعِهَا لِلشَّوَى. وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا دَلَّ
عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ مَعْنَى التَّلَظِّي. وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ حَالًا، عَلَى أَنَّهُ حال للمكذبين بخبرها. ويجوز
نصبها
__________
(1). راجع ج 11 ص 147.
(2). راجع ج 20 ص 86.
(3). راجع ج 2 ص 29.
(18/287)
عَلَى الْقَطْعِ، كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ
بِزَيْدٍ الْعَاقِلَ الْفَاضِلَ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ
لِلنَّصْبِ أَيْضًا. وَالشَّوَى. جَمْعُ شَوَاةٍ وَهِيَ
جِلْدَةُ الرَّأْسِ. قَالَ الْأَعْشَى:
قالت قتيلة ماله ... قَدْ جُلِّلَتْ شَيْبًا شَوَاتُهُ
وَقَالَ آخَرُ:
لَأَصْبَحْتَ هَدَّتْكَ الْحَوَادِثُ هَدَّةً ... لَهَا
فَشَوَاةُ الرَّأْسِ بَادٍ قَتِيرُهَا
الْقَتِيرُ: الشَّيْبُ. وَفِي الصِّحَاحِ:" وَالشَّوَى":
جَمْعُ شَوَاةٍ وَهِيَ جِلْدَةُ الرَّأْسِ". وَالشَّوَى:
الْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالرَّأْسُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ،
وَكُلُّ مَا لَيْسَ مَقْتَلًا. يُقَالُ: رَمَاهُ فَأَشْوَاهُ
إِذَا لَمْ يُصِبِ الْمَقْتَلَ. قَالَ الْهُذَلِيُّ:
فَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ الَّتِي لَا شَوَى لَهَا ... إِذَا
زَلَّ عَنْ ظَهْرِ اللِّسَانِ انْفِلَاتُهَا
يَقُولُ: إِنَّ مِنَ الْقَوْلِ كَلِمَةَ لَا تَشْوِي وَلَكِنْ
تَقْتُلُ. قَالَ الْأَعْشَى:
قَالَتْ قُتَيْلَةُ ماله ... قَدْ جُلِّلَتْ شَيْبًا شَوَاتُهُ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَنْشَدَهَا أَبُو الْخَطَّابِ
الْأَخْفَشُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ فَقَالَ لَهُ:"
صَحَّفْتَ! إِنَّمَا هُوَ سَرَاتُهُ، أَيْ نَوَاحِيهِ «1»
فَسَكَتَ أَبُو الْخَطَّابِ ثُمَّ قَالَ لَنَا: بَلْ هُوَ
صَحَّفَ، إِنَّمَا هُوَ شَوَاتُهُ". وَشَوَى الْفَرَسُ:
قَوَائِمُهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: عَبْلُ «2» الشَّوَى، وَلَا
يَكُونُ هَذَا لِلرَّأْسِ، لِأَنَّهُمْ وَصَفُوا الْخَيْلَ
بِإِسَالَةِ الْخَدَّيْنِ وَعِتْقِ الْوَجْهِ وَهُوَ
رِقَّتُهُ. وَالشَّوَى: رُذَالُ الْمَالِ. وَالشَّوَى: هُوَ
الشَّيْءُ الْهَيِّنُ الْيَسِيرُ. وَقَالَ ثَابِتٌ
الْبُنَانِيُّ وَالْحَسَنُ: نَزَّاعَةً لِلشَّوى أَيْ
لِمَكَارِمَ وَجْهِهِ. أَبُو الْعَالِيَةِ: لِمَحَاسِنِ
وَجْهِهِ. قَتَادَةُ: لِمَكَارِمَ خِلْقَتِهِ وَأَطْرَافِهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَفْرِي اللَّحْمَ وَالْجِلْدَ عَنِ
الْعَظْمِ حَتَّى لَا تَتْرُكَ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ: هِيَ الْمَفَاصِلُ. وَقَالَ بَعْضُ
الْأَئِمَّةِ: هِيَ الْقَوَائِمُ وَالْجُلُودُ. قَالَ امْرُؤُ
الْقَيْسِ:
سَلِيمُ الشَّظَى عَبْلُ الشَّوَى شَنِجِ النَّسَا ... لَهُ
حجبات مشرفات على الفال «3»
__________
(1). الزيادة من لسان العرب.
(2). أي غليظ القوائم.
(3). الشظى: عظم لازق بالذراع. وقيل: انشقاق العصب. و" عبل
الشوى" غليظ اليدين والرجلين. و" الشنج" محركة: تقبض الجلد
والأصابع. و" النسا" مقصور: عرق في الفخذ، وفرس شنج النسا:
منقبضة، وهو مدح له. و" الحجبات": رءوس عظام الوركين. و"
الفال": لغة في الفائل وهو اللحم الذي على الورك.
(18/288)
إِنَّ الْإِنْسَانَ
خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20)
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: أَطْرَافُ
الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا نَظَرْتَ عَرَفْتَ الْفَخْرَ مِنْهَا ... وَعَيْنَيْهَا
وَلَمْ تَعْرِفْ شَوَاهَا
يَعْنِي أَطْرَافَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ أيضا: الشوى الهام.
(تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) أَيْ تَدْعُو لَظَى مَنْ
أَدْبَرَ فِي الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَتَوَلَّى عَنِ
الْإِيمَانِ. وَدُعَاؤُهَا أَنْ تَقُولَ: إِلَيَّ يَا
مُشْرِكُ، إِلَيَّ يَا كَافِرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
تَدْعُو الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِأَسْمَائِهِمْ
بِلِسَانٍ فَصِيحٍ: إِلَيَّ يَا كَافِرُ، إِلَيَّ يَا
مُنَافِقُ، ثُمَّ تَلْتَقِطُهُمْ كما يلتقط الطير الحب. وقال
ثعلب: تَدْعُوا أَيْ تُهْلِكُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: دَعَاكَ
اللَّهُ، أَيْ أَهْلَكَكَ اللَّهُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ:
إِنَّهُ لَيْسَ كَالدُّعَاءِ" تَعَالَوْا" وَلَكِنْ
دَعْوَتُهَا إِيَّاهُمْ تَمَكُّنُهَا مِنْ تَعْذِيبِهِمْ.
وَقِيلَ: الدَّاعِي خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، أُضِيفَ دُعَاؤُهُمْ
إِلَيْهَا. وَقِيلَ هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ، أَيْ إِنَّ مَصِيرَ
مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى إِلَيْهَا، فَكَأَنَّهَا
الدَّاعِيَةُ لَهُمْ. ومثله قول الشاعر:
ولقد هبطنا الواديين فؤاديا ... يَدْعُو الْأَنِيسَ بِهِ
الْعَضِيضُ «1» الْأَبْكَمُ
الْعَضِيضُ الْأَبْكَمُ: الذُّبَابُ. وَهُوَ لَا يَدْعُو
وَإِنَّمَا طَنِينُهُ نَبَّهَ عَلَيْهِ فَدَعَا إِلَيْهِ.
قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْحَقِيقَةُ، حَسْبَ مَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بِآيِ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ
الصَّحِيحَةِ. الْقُشَيْرِيُّ: وَدُعَاءُ لَظَى بِخَلْقِ
الْحَيَاةِ فِيهَا حِينَ تَدْعُو، وَخَوَارِقُ الْعَادَةِ
غَدًا كَثِيرَةٌ. (وَجَمَعَ فَأَوْعى) أَيْ جَمَعَ الْمَالَ
فَجَعَلَهُ فِي وِعَائِهِ وَمَنَعَ مِنْهُ حَقَّ اللَّهِ
تَعَالَى، فَكَانَ جَمُوعًا مَنُوعًا. قَالَ الْحَكَمُ: كَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ لَا يَرْبِطُ كِيسَهُ وَيَقُولُ
سَمِعْتُ الله يقول: وَجَمَعَ فَأَوْعى.
[سورة المعارج (70): الآيات 19 الى 21]
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ
مَنُوعاً (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً)
يَعْنِي الْكَافِرَ، عَنِ الضَّحَّاكِ. وَالْهَلَعُ فِي
اللُّغَةِ: أَشَدُّ الْحِرْصِ وَأَسْوَأُ الْجَزَعِ
وَأَفْحَشُهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ
وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ هَلِعَ (بِالْكَسْرِ) يَهْلَعُ فَهُوَ
هلع وَهَلُوعٌ، عَلَى التَّكْثِيرِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا
يَصْبِرُ عَلَى خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ حَتَّى يَفْعَلَ فِيهِمَا
__________
(1). وردت هذه الكلمة في نسخ الأصل مضطربة، ففي ح، ط:" العضيض"
بالعين المهملة والضاد المعجمة. وفى ل:" الفصيص" بالفاء والصاد
المهملة وفى ز:" الفضيض" بالفاء والضاد،. وفى هـ:" العصيص"
بالعين والصاد المهملتين. ولم نهتد إلى المعنى الذي ذكره لواحد
من هذه الكلمات في كتب اللغة.
(18/289)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ
(22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ
بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ
مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
(29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)
أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
مَا لَا يَنْبَغِي. عِكْرِمَةُ: هُوَ
الضَّجُورُ. الضَّحَّاكُ: هُوَ الَّذِي لَا يَشْبَعُ.
وَالْمَنُوعُ: هُوَ الَّذِي إِذَا أَصَابَ الْمَالَ مَنَعَ
مِنْهُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ:
خَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ مَا يَسُرُّهُ
وَيُرْضِيهِ، وَيَهْرُبُ مِمَّا يَكْرَهُهُ ويسخط، ثُمَّ
تَعَبَّدَهُ اللَّهُ بِإِنْفَاقِ مَا يُحِبُّ وَالصَّبْرِ
عَلَى مَا يَكْرَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْهَلُوعُ
هُوَ الَّذِي إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ لَمْ يَشْكُرْ، وَإِذَا
مَسَّهُ الضُّرُّ لَمْ يَصْبِرْ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ. وَقَالَ
ثَعْلَبٌ أَيْضًا: قَدْ فَسَّرَ اللَّهُ الْهَلُوعَ، وَهُوَ
الَّذِي إِذَا نَالَهُ الشَّرُّ أَظْهَرَ شِدَّةَ الْجَزَعِ،
وَإِذَا نَالَهُ الْخَيْرُ بَخِلَ بِهِ وَمَنَعَهُ النَّاسُ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (شَرُّ
مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ).
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: نَاقَةٌ هِلْوَاعَةٌ وَهِلْوَاعٌ، إِذَا
كَانَتْ سَرِيعَةَ السَّيْرِ خَفِيفَةً. قَالَ: «1»
صَكَّاءُ ذِعْلِبَةٌ إِذَا اسْتَدْبَرْتَهَا ... حَرَجٌ إِذَا
اسْتَقْبَلْتَهَا هِلْوَاعُ
الذِّعْلِبُ والذعلبة الناقة السريعة. وجَزُوعاً ومَنُوعاً
نَعْتَانِ لِهَلُوعٍ. عَلَى أَنْ يَنْوِيَ بِهِمَا
التَّقْدِيمَ قَبْلَ (إِذَا). وَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ كَانَ
مُضْمَرَةٍ.
[سورة المعارج (70): الآيات 22 الى 35]
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)
إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
(30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ
(31)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32)
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ
هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ
مُكْرَمُونَ (35)
__________
(1). في اللسان مادة هلع:" وأنشد الباهلي للمسيب بن علس يصف
ناقة شبهها بالنعامة" وذكر البيت. قال الباهلي: قوله" صكاء"
شبهها بالنعامة،" ثم وصف النعامة بالصكك وليس الصكاء من وصف
الناقة".
(18/290)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ)
دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَهُ فِي الْكُفَّارِ،
فَالْإِنْسَانُ اسْمُ جِنْسٍ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ
الَّذِي يَعْقُبُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر: 3 - 2]. قال
النخعي: المراد بالمصلين الذين يُؤَدُّونَ الصَّلَاةَ
الْمَكْتُوبَةَ. ابْنُ مَسْعُودٍ: الَّذِينَ يُصَلُّونَهَا
لِوَقْتِهَا، فَأَمَّا تَرْكُهَا فَكُفْرٌ. وَقِيلَ: هُمُ
الصَّحَابَةُ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ عَامَّةً،
فَإِنَّهُمْ يَغْلِبُونَ فَرْطَ الْجَزَعِ بِثِقَتِهِمْ
بِرَبِّهِمْ وَيَقِينِهِمْ (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
دائِمُونَ) أَيْ عَلَى مَوَاقِيتِهَا. وَقَالَ عُقْبَةُ ابن
عَامِرٍ: هُمُ الَّذِينَ إِذَا صَلَّوْا لَمْ يَلْتَفِتُوا
يَمِينًا وَلَا شِمَالًا. وَالدَّائِمُ السَّاكِنُ، وَمِنْهُ:
نُهِيَ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، أَيِ
السَّاكِنِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْحَسَنُ: هُمُ
الَّذِينَ يُكْثِرُونَ فِعْلَ التَّطَوُّعِ مِنْهَا.
(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) يُرِيدُ
الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ
سِيرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سِوَى الزَّكَاةِ. وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صِلَةُ
رَحِمٍ وَحَمْلٍ كَلٍّ «1». وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ
وَصَفَ الْحَقَّ بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، وَسِوَى الزَّكَاةِ
لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ،
وَذَلِكَ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
تَقَدَّمَ فِي" الذَّارِيَاتِ" «2». (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ
بِيَوْمِ الدِّينِ) أَيْ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ وَهُوَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" الْفَاتِحَةِ"
الْقَوْلُ فِيهِ. (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ
مُشْفِقُونَ) أَيْ خَائِفُونَ. (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ
مَأْمُونٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنْ أَشْرَكَ أَوْ
كَذَّبَ أَنْبِيَاءَهُ. وَقِيلَ: لَا يَأْمَنُهُ أَحَدٌ، بَلِ
الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَخَافَهُ وَيُشْفِقَ
مِنْهُ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا
عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ «3» أَيْمانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ
فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي
سُورَةِ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ). «4» (وَالَّذِينَ
هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) تَقَدَّمَ أَيْضًا.
(وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) عَلَى مَنْ
كَانَتْ عَلَيْهِ «5» مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، يقومون بها
عند
__________
(1). الكل- بالفتح-: الثقل من كل ما يتكلف. والكل: العيال.
والكل: اليتيم.
(2). راجع ج 17 ص (38)
(3). راجع ج 1 ص (141) [ ..... ]
(4). راجع ج 12 ص (102)
(5). زيادة عن الخطيب الشربينى.
(18/291)
فَمَالِ الَّذِينَ
كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا
خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
الْحَاكِمِ وَلَا يَكْتُمُونَهَا وَلَا
يُغَيِّرُونَهَا. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي الشَّهَادَةِ
وَأَحْكَامِهَا فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «1». وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: بِشَهاداتِهِمْ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ
لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وقرى"
لِأَمَانَتِهِمْ عَلَى التَّوْحِيدِ. وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ
كَثِيرٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. فَالْأَمَانَةُ اسْمُ جِنْسٍ،
فَيَدْخُلُ فِيهَا أَمَانَاتُ الدِّينِ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ
أَمَانَاتٌ ائْتَمَنَ اللَّهُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ. وَيَدْخُلُ
فِيهَا أَمَانَاتُ النَّاسِ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَقَدْ مَضَى
هَذَا كُلُّهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ" «2».
وَقَرَأَ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبَ
بِشَهاداتِهِمْ جَمْعًا. الْبَاقُونَ" بِشَهَادَتِهِمْ" عَلَى
التَّوْحِيدِ، لِأَنَّهَا تُؤَدِّي عَنِ الْجَمْعِ.
وَالْمَصْدَرُ قَدْ يُفْرَدُ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى جَمْعٍ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ
الْحَمِيرِ «3». [لقمان: 19] وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَدُلُّ
عَلَى أَنَّهَا" بِشَهَادَتِهِمْ" تَوْحِيدًا قوله تعالى:
وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ [الطلاق: 2]. (وَالَّذِينَ
هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) قَالَ قَتَادَةُ: عَلَى
وُضُوئِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا. وَقَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: التَّطَوُّعُ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ"
الْمُؤْمِنُونَ" «4». فَالدَّوَامُ خِلَافُ الْمُحَافَظَةِ.
فَدَوَامُهُمْ عَلَيْهَا أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى أَدَائِهَا
لَا يُخِلُّونَ بِهَا وَلَا يَشْتَغِلُونَ عَنْهَا بِشَيْءٍ
مِنَ الشَّوَاغِلِ، وَمُحَافَظَتُهُمْ عَلَيْهَا أَنْ
يُرَاعُوا إِسْبَاغَ الْوُضُوءِ لَهَا وَمَوَاقِيتَهَا،
وَيُقِيمُوا أَرْكَانَهَا، وَيُكْمِلُوهَا بِسُنَنِهَا
وَآدَابِهَا، وَيَحْفَظُوهَا مِنَ الْإِحْبَاطِ بِاقْتِرَابِ
الْمَأْثَمِ. فَالدَّوَامُ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِ الصَّلَوَاتِ
وَالْمُحَافَظَةُ إِلَى أَحْوَالِهَا. (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ
مُكْرَمُونَ) أَيْ أَكْرَمَهُمُ الله فيها بأنواع الكرامات.
[سورة المعارج (70): الآيات 36 الى 39]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ
الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ
إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ
مُهْطِعِينَ) قَالَ الْأَخْفَشُ: مُسْرِعِينَ. قَالَ:
بِمَكَّةَ أَهْلُهَا وَلَقَدْ أَرَاهُمْ ... إِلَيْهِ
مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ
__________
(1). راجع ج 3 ص (415)
(2). راجع ج 5 ص (255)
(3). راجع ج 14 ص (71)
(4). راجع ج 12 ص 107
(18/292)
وَالْمَعْنَى: مَا بَالُهُمْ يُسْرِعُونَ
إِلَيْكَ وَيَجْلِسُونَ حَوَالَيْكَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا
تَأْمُرُهُمْ. وَقِيلَ: أَيْ مَا بَالُهُمْ مُسْرِعِينَ فِي
التَّكْذِيبِ لَكَ. وَقِيلَ: أَيْ مَا بَالُ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُسْرِعُونَ إِلَى السَّمَاعِ منك ليعيبوك ويستهزءوا
بِكَ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: مُهْطِعِينَ: مُعْرِضِينَ.
الْكَلْبِيُّ: نَاظِرِينَ إِلَيْكَ تَعَجُّبًا. وَقَالَ
قَتَادَةُ: عَامِدِينَ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، أي ما بالهم
مسرعين عليك، ما دين أَعْنَاقَهُمْ، مُدْمِنِي النَّظَرِ
إِلَيْكَ. وَذَلِكَ مِنْ نَظَرِ الْعَدُوِّ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ
عَلَى الْحَالِ. نَزَلَتْ فِي جَمْعٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ، كَانُوا يَحْضُرُونَهُ- عَلَيْهِ السلام-
ولا يؤمنون به. وقِبَلَكَ أَيْ نَحْوَكَ. (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أَيْ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشِمَالِهِ حِلَقًا
حِلَقًا وَجَمَاعَاتٍ. وَالْعِزِينُ: جَمَاعَاتٌ فِي
تَفْرِقَةٍ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَمِنْهُ حَدِيثَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَرَجَ
عَلَى أَصْحَابِهِ فَرَآهُمْ حِلَقًا فَقَالَ: (مَالِي
أَرَاكُمْ عِزِينِ أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ
الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا- قَالُوا: وَكَيْفَ تَصُفُّ
الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ-: يُتِمُّونَ
الصُّفُوفَ الْأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ) خَرَّجَهُ
مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَانَا عِنْدَهُ وَاللَّيْلُ دَاجٍ ... عَلَى أَبْوَابِهِ
حِلَقًا عِزِينَا
أَيْ مُتَفَرِّقِينَ. وَقَالَ الرَّاعِي:
أَخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إِنَّ عَشِيرَتِي ... أَمْسَى
سَرَاتُهُمْ إِلَيْكَ عِزِينَا
أَيْ مُتَفَرِّقِينَ. وَقَالَ آخَرُ:
كَأَنَّ الْجَمَاجِمَ مِنْ وَقْعِهَا ... خَنَاطِيلُ «1»
يَهْوِينَ شَتَّى عِزِينَا
أَيْ مُتَفَرِّقِينَ. وَقَالَ آخَرُ:
فَلَمَّا أَنْ أَتَيْنَ عَلَى أُضَاخٍ ... ضَرَحْنَ حَصَاهُ
أَشْتَاتًا عِزِينَا «2»
وَقَالَ الْكُمَيْتُ:
وَنَحْنُ وَجَنْدَلٌ بَاغٍ تَرَكْنَا ... كتائب جندل شتى عزينا
__________
(1). الخناطيل: لا واحد لها من جنسها، وهى جماعات من الوحش
والطير في تفرقة.
(2). أضاخ (بالضم): جبل يذكر ويؤنث. وقيل: هو موضع بالبادية
يصرف ولا يصرف. ومعنى" ضرحن" نحين ودفعن.
(18/293)
وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
وَقِرْنٍ قَدْ تَرَكْتُ لِذِي وَلِيٍّ ... عَلَيْهِ الطَّيْرُ
كَالْعُصَبِ الْعِزِينِ
وَوَاحِدُ عِزِينَ عِزَةٌ، جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ
لِيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضًا مِمَّا حُذِفَ مِنْهَا. وَأَصْلُهَا
عِزْهَةٌ، فَاعْتَلَّتْ كَمَا اعْتَلَّتْ سَنَةً فِيمَنْ
جَعَلَ أَصْلَهَا سِنْهَةً. وَقِيلَ: أَصْلُهَا عِزْوَةٌ، مِنْ
عَزَاهُ يَعْزُوهُ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَكُلٌّ
وَاحِدٌ مِنَ الْجَمَاعَاتِ مُضَافَةٌ إِلَى الْأُخْرَى،
وَالْمَحْذُوفُ مِنْهَا الْوَاوُ. وَفِي الصِّحَاحِ:"
وَالْعِزَةُ الْفِرْقَةُ مِنَ النَّاسِ، وَالْهَاءِ عِوَضٌ
مِنَ الْيَاءِ، وَالْجَمْعُ عِزًى- عَلَى فِعَلٍ- وَعِزُونَ
وَعُزُونَ أَيْضًا بِالضَّمِّ، وَلَمْ يَقُولُوا عِزَاتٌ كَمَا
قَالُوا ثِبَاتٌ". قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ فِي الدَّارِ
عِزُونَ، أَيْ أصناف من الناس. وعَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمالِ متعلق ب مُهْطِعِينَ ويجوز أن يتعلق ب عِزِينَ عَلَى
حَدِّ قَوْلِكَ: أَخَذْتُهُ عَنْ زَيْدٍ. (أَيَطْمَعُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَمِعُونَ
كَلَامَهُ فَيُكَذِّبُونَهُ وَيَكْذِبُونَ عَلَيْهِ،
وَيَسْتَهْزِئُونَ بِأَصْحَابِهِ وَيَقُولُونَ: لَئِنْ دَخَلَ
هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم، ولين أُعْطُوا مِنْهَا شَيْئًا
لَنُعْطَيَنَّ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَنَزَلَتْ: أَيَطْمَعُ الآية.
وقيل: كان المستهزءون خمسة أرهط. وقرا الحسن طلحة بْنُ
مُصَرِّفٍ وَالْأَعْرَجُ أَنْ يُدْخَلَ بِفَتْحِ الْيَاءِ
وَضَمِّ الْخَاءِ مُسَمَّى الْفَاعِلِ. وَرَوَاهُ الْمُفَضَّلُ
عَنْ عَاصِمٍ. الْبَاقُونَ أَنْ يُدْخَلَ عَلَى الْفِعْلِ
الْمَجْهُولِ. (كَلَّا) لَا يَدْخُلُونَهَا. ثُمَّ ابْتَدَأَ
فَقَالَ: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أَيْ
إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ نُطْفَةٍ
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، كَمَا خُلِقَ
سَائِرُ جِنْسِهِمْ. فَلَيْسَ لَهُمْ فَضْلٌ يَسْتَوْجِبُونَ
بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِنَّمَا تُسْتَوْجَبُ بِالْإِيمَانِ
وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ:
كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ
وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: إِنَّا خَلَقْناهُمْ
مِمَّا يَعْلَمُونَ مِنَ الْقَذَرِ، فَلَا يَلِيقُ بِهِمْ
هَذَا التَّكَبُّرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هذه الآية: إنما
خلقت يا بن آدَمَ مِنْ قَذَرٍ فَاتَّقِ اللَّهَ. وَرُوِيَ
أَنَّ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رَأَى
المهلب ابن أَبِي صُفْرَةَ يَتَبَخْتَرُ فِي مُطْرَفٍ «1»
خَزٍّ وَجُبَّةِ خَزٍّ فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا
هذه المشية التي يبغضها
__________
(1). المطرف (بكسر الميم وضمها): واحد المطارف، وهى أردية من
خز مربعة لها أعلام.
(18/294)
فَلَا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ (41)
الله؟! فقال له: أتعرفني؟ قال نعم، أو لك
نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، «1» وَآخِرُكَ جِيفَةُ قَذِرَةٌ، وَأَنْتَ
فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ «2» تَحْمِلُ الْعَذِرَةَ. فَمَضَى
الْمُهَلَّبُ وَتَرَكَ مِشْيَتَهُ. نَظَمَ الْكَلَامَ
مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ فَقَالَ:
عَجِبْتُ مِنْ مُعْجَبٍ بِصُورَتِهِ ... وَكَانَ فِي الْأَصْلِ
نُطْفَةً مَذِرَهْ
وَهُوَ غَدًا بَعْدَ حُسْنِ صُورَتِهِ ... يَصِيرُ فِي
اللَّحْدِ جِيفَةً قَذِرَهْ
وَهُوَ عَلَى تِيهِهِ وَنَخْوَتِهِ ... مَا بَيْنَ ثَوْبَيْهِ
يَحْمِلُ الْعَذِرَهْ
وَقَالَ آخَرُ:
هَلْ فِي ابْنِ آدَمَ غَيْرَ الرَّأْسِ مَكْرُمَةٌ ... وَهُوَ
بِخَمْسٍ مِنَ الْأَوْسَاخِ مَضْرُوبُ
أَنْفٌ يَسِيلُ وَأُذْنٌ رِيحُهَا سَهِكٌ «3» ... -
وَالْعَيْنُ مُرْمَصَةٌ وَالثَّغْرُ مَلْهُوبُ
يَا ابْنَ التُّرَابِ وَمَأْكُولَ التُّرَابِ غَدًا ...
قَصِّرْ فَإِنَّكَ مَأْكُولٌ وَمَشْرُوبُ
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مِنْ أَجْلِ مَا يَعْلَمُونَ، وَهُوَ
الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. كَقَوْلِ
الشَّاعِرِ وَهُوَ الْأَعْشَى:
أَأَزْمَعْتَ مِنْ آلِ لَيْلَى ابْتِكَارًا ... وَشَطَّتْ
عَلَى ذِي هَوًى أن تزارا
أي من أجل ليلى.
[سورة المعارج (70): الآيات 40 الى 41]
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا
لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما
نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا أُقْسِمُ) أَيْ أُقْسِمُ. وفَلا
صِلَةٌ. (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) هِيَ مَشَارِقُ
الشَّمْسِ وَمَغَارِبُهَا. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا.
وَقَرَأَ أَبُو حيوة وابن محيصن وحميد بِرَبِّ الْمَشارِقِ
وَالْمَغارِبِ عَلَى التَّوْحِيدِ. (إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى
أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) يَقُولُ: نَقْدِرُ عَلَى
إِهْلَاكِهِمْ وَالذَّهَابِ بِهِمْ وَالْمَجِيءِ بِخَيْرٍ
مِنْهُمْ فِي الْفَضْلِ وَالطَّوْعِ وَالْمَالِ. (وَما نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ) أَيْ لَا يَفُوتُنَا شي ولا يعجزنا أمر نريده.
__________
(1). المذر: الفساد.
(2). زيادة عن الخطيب الشربينى.
(3). السهك- محركة- ريح كريهة تجدها من الإنسان إذا عرق.
(18/295)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا
وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ
(42)
[سورة المعارج (70): آية 42]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ
الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
أَيِ اتْرُكْهُمْ يَخُوضُوا فِي بَاطِلِهِمْ وَيَلْعَبُوا فِي
دُنْيَاهُمْ، عَلَى جِهَةِ الْوَعِيدِ. وَاشْتَغِلْ أَنْتَ
بِمَا أُمِرْتَ بِهِ وَلَا يَعْظُمَنَّ عَلَيْكَ شِرْكُهُمْ،
فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمًا يَلْقَوْنَ فِيهِ مَا وُعِدُوا. وقرا
ابن محيصن ومجاهد وحميد حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي
يُوعَدُونَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السيف.
[سورة المعارج (70): آية 43]
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى
نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
يَوْمَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَهُمُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقِرَاءَةُ
الْعَامَّةِ يَخْرُجُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ
عَلَى أَنَّهُ مُسَمَّى الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ
وَالْمُغِيرَةُ وَالْأَعْشَى عَنْ عَاصِمٍ (يُخْرَجُونَ)
بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ
الْمَجْهُولِ. وَالْأَجْدَاثُ: الْقُبُورُ، وَاحِدُهَا جَدَثٌ.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" يس" «1». سِراعاً حِينَ يَسْمَعُونَ
الصَّيْحَةَ الْآخِرَةَ إِلَى إِجَابَةِ الدَّاعِي، وَهُوَ
نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ
قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ النُّونِ وَجَزْمِ الصَّادِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ.
وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَأَبُو رَجَاءٍ
وَغَيْرُهُمَا بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ.
وَالنُّصْبُ وَالنَّصْبُ لُغَتَانِ مِثْلَ الضُّعْفِ،
وَالضَّعْفِ. الْجَوْهَرِيُّ: وَالنَّصْبُ مَا نُصِبَ فَعُبِدَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ النُّصْبُ بِالضَّمِّ، وَقَدْ
يُحَرَّكُ. قَالَ الْأَعْشَى:
وَذَا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ ...
لِعَافِيَةٍ وَاللَّهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا
أَرَادَ" فَاعْبُدَنْ" فَوَقَفَ بِالْأَلِفِ، كَمَا تَقُولُ:
رَأَيْتُ زَيْدًا. وَالْجَمْعُ الْأَنْصَابُ. وَقَوْلُهُ:"
وَذَا النُّصُبِ" بِمَعْنَى إِيَّاكَ وَذَا النُّصُبِ.
وَالنُّصُبُ الشَّرُّ وَالْبَلَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ «2»
[ص: 41]. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: النُّصُبُ جَمْعُ
النَّصْبِ مِثْلَ رَهْنٍ وَرُهُنٍ، وَالْأَنْصَابُ جَمْعُ
نُصُبٍ، فَهُوَ جَمْعُ الجمع. وقيل: النصب والأنصاب واحد.
وقيل:
__________
(1). راجع ج 15 ص 40 وص 207.
(2). راجع ج 15 ص 40 وص 207. [ ..... ]
(18/296)
خَاشِعَةً
أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي
كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
النُّصُبُ جَمْعُ نِصَابٍ، هُوَ حَجَرٌ
أَوْ صَنَمٌ يُذْبَحُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ «1» [المائدة: 3 [. وَقَدْ قِيلَ:
نَصْبٌ وَنُصْبٌ وَنُصُبٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا قِيلَ
عَمْرٌ وَعُمْرٌ وَعُمُرٌ. ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: إِلى نُصُبٍ إِلَى غَايَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَنْصِبُ
إِلَيْهَا بَصَرَكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إلى شي مَنْصُوبٍ،
عَلَمٌ أَوْ رَايَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا
يَبْتَدِرُونَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَى نُصُبِهِمُ
الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا
يَلْوِي أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ. (يُوفِضُونَ)
يُسْرِعُونَ وَالْإِيفَاضُ الْإِسْرَاعُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَوَارِسُ ذُبْيَانَ تَحْتَ الْحَدِي ... دِ كَالْجِنِّ
يُوفِضْنَ مِنْ عَبْقَرِ
عَبْقَرٌ: مَوْضِعٌ تَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّهُ مِنْ أَرْضِ
الْجِنِّ. قَالَ لَبِيَدٌ:
كُهُولٌ وَشُبَّانٌ كَجِنَّةِ عَبْقَرِ «2»
وَقَالَ اللَّيْثُ: وَفَضَتِ الْإِبِلُ تَفِضْ وَفْضًا،
وَأَوْفَضَهَا صَاحِبُهَا. فَالْإِيفَاضُ مُتَعَدٍّ، وَالَّذِي
فِي الْآيَةِ لَازِمٌ. يُقَالُ: وُفِضَ وَأَوْفَضَ واستوفض
بمعنى أسرع.
[سورة المعارج (70): آية 44]
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ
الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أَيْ ذَلِيلَةٌ
خَاضِعَةٌ، لَا يَرْفَعُونَهَا لِمَا يَتَوَقَّعُونَهُ مِنْ
عَذَابِ اللَّهِ. (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أَيْ يَغْشَاهُمُ
الْهَوَانُ. قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ سَوَادُ الْوُجُوهِ.
وَالرَّهَقُ: الْغَشَيَانُ، وَمِنْهُ غُلَامٌ مُرَاهِقٌ إِذَا
غَشِيَ الِاحْتِلَامَ. رَهِقَهُ (بِالْكَسْرِ) يَرْهَقُهُ
رَهَقًا أَيْ غَشِيَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا
يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ «3» [يونس: 26].
(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أَيْ
يُوعَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا أَنَّ لَهُمْ فِيهِ الْعَذَابَ.
وَأُخْرِجَ الْخَبَرُ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّ مَا وَعَدَ
اللَّهُ به يكون ولا محالة.
__________
(1). راجع ج 6 ص 57.
(2). هذا عجز بيت، وصدره:
ومن فاد من إخوانهم وبنيهم
(3). راجع ج 8 ص 330
(18/297)
إِنَّا أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)
[تفسير سورة نوح]
سُورَةُ نُوحٍ مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ آيَةً
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة نوح (71): آيَةً 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ
قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1)
قَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي" الْأَعْرَافِ" «1» أَنَّ نُوحًا
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ. وَرَوَاهُ
قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ نُوحٌ
وَأُرْسِلَ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ). فَلِذَلِكَ
لَمَّا كَفَرُوا أَغْرَقَ اللَّهُ أَهْلَ الْأَرْضِ جَمِيعًا.
وَهُوَ نُوحُ بْنُ لامك ابن مَتُّوشَلَخَ بْنِ أَخْنُوخَ
وَهُوَ إِدْرِيسُ بْنُ يَرْدِ بْنِ مَهْلَايِلَ بْنِ أَنُوشَ
بْنِ قَيْنَانَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ وَهْبٌ: كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ. أُرْسِلَ إِلَى قَوْمِهِ
وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ابْنُ
أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ:
بُعِثَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" الْعَنْكَبُوتِ"»
الْقَوْلُ فِيهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (أَنْ أَنْذِرْ
قَوْمَكَ) أَيْ بِأَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ، فَمَوْضِعُ أَنْ
نَصْبٌ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ. وَقِيلَ: مَوْضِعُهَا جَرٌّ
لِقُوَّةِ خِدْمَتِهَا مَعَ أَنْ. وَيَجُوزُ أَنْ بِمَعْنَى
الْمُفَسِّرَةِ فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ
الْإِعْرَابِ، لِأَنَّ فِي الْإِرْسَالِ مَعْنَى الْأَمْرِ،
فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارِ الْبَاءِ. وَقِرَاءَةُ عَبْدِ
اللَّهِ أَنْذِرْ قَوْمَكَ بِغَيْرِ أَنْ بِمَعْنَى قُلْنَا
لَهُ أَنْذِرْ قَوْمَكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى
الْإِنْذَارِ فِي أَوَّلِ" الْبَقَرَةِ" «3». (مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَعْنِي عَذَابَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: هُوَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطُّوفَانِ.
وَقِيلَ: أَيْ أَنْذِرْهُمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ عَلَى
الْجُمْلَةِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. فَكَانَ يدعو قومه وينذرهم
فلا يرى
__________
(1). راجع ج 7 ص (232)
(2). راجع ج 13 ص (332)
(3). راجع ج 1 ص 184
(18/298)
قَالَ يَا قَوْمِ
إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ
أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (4)
مِنْهُمْ مُجِيبًا، وَكَانُوا
يَضْرِبُونَهُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ فَيَقُولُ (رَبِّ
اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). وَقَدْ مَضَى
هَذَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ" الْعَنْكَبُوتِ" «1» والحمد
لله.
[سورة نوح (71): الآيات 2 الى 4]
قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ
لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ)
أَيْ مُخَوِّفٌ. (مُبِينٌ) أَيْ مُظْهِرٌ لَكُمْ بِلِسَانِكُمُ
الذي تعرفونه. (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ) وأَنِ
الْمُفَسِّرَةُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَنْ أَنْذِرْ.
اعْبُدُوا أَيْ وَحِّدُوا. وَاتَّقُوا: خَافُوا.
(وَأَطِيعُونِ) أَيْ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ، فَإِنِّي رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكُمْ. (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)
جُزِمَ يَغْفِرْ بِجَوَابِ الامر. ومِنْ صِلَةٌ زَائِدَةٌ.
وَمَعْنَى الْكَلَامِ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، قَالَهُ
السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ كَوْنُهَا زَائِدَةً،
لِأَنَّ مِنْ لَا تُزَادُ فِي الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا هِيَ
هُنَا لِلتَّبْعِيضِ، وَهُوَ بَعْضُ الذُّنُوبِ، وَهُوَ مَا
لَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْمَخْلُوقِينَ. وَقِيلَ: هِيَ
لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَفِيهِ بُعْدٌ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ
جنس يليق به. وقال زيد ابن أَسْلَمَ: الْمَعْنَى يُخْرِجُكُمْ
مِنْ ذُنُوبِكُمْ. ابْنُ شَجَرَةَ: الْمَعْنَى يَغْفِرْ لَكُمْ
مِنْ ذُنُوبِكُمْ مَا اسْتَغْفَرْتُمُوهُ مِنْهَا
(وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَيْ يُنْسِئُ فِي أَعْمَارِكُمْ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى كَانَ قَضَى قَبْلَ خَلْقِهِمْ أَنَّهُمْ إِنْ
آمَنُوا بَارَكَ فِي أَعْمَارِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا
عُوجِلُوا بِالْعَذَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُؤَخِّرُكُمْ
إِلَى مُنْتَهَى آجَالِكُمْ فِي عَافِيَةٍ، فَلَا
يُعَاقِبُكُمْ بِالْقَحْطِ وَغَيْرِهِ. فَالْمَعْنَى عَلَى
هَذَا يُؤَخِّرُكُمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ وَالشَّدَائِدِ إِلَى
آجَالِكُمْ. وَقَالَ: الزَّجَّاجُ أَيْ يُؤَخِّرُكُمْ عَنِ
الْعَذَابِ فَتَمُوتُوا غَيْرَ مَوْتَةِ الْمُسْتَأْصَلِينَ
بِالْعَذَابِ. وَعَلَى هَذَا قِيلَ: أَجَلٍ مُسَمًّى
عِنْدَكُمْ تَعْرِفُونَهُ، لَا يُمِيتُكُمْ غَرَقًا وَلَا
حَرْقًا وَلَا قَتْلًا، ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ. وَعَلَى
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَجَلٍ مُسَمًّى عِنْدَ اللَّهِ. (إِنَّ
أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ) أَيْ إِذَا جَاءَ
الْمَوْتُ لَا يُؤَخَّرُ بِعَذَابٍ كَانَ أَوْ بِغَيْرِ
عَذَابٍ. وَأَضَافَ الأجل
__________
(1). راجع ج 13 ص 332
(18/299)
قَالَ رَبِّ إِنِّي
دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ
لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا
اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ
إِسْرَارًا (9)
إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُ الَّذِي
أَثْبَتَهُ. وَقَدْ يُضَافُ إِلَى الْقَوْمِ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ [النحل: 61] لأنه مضروب لهم.
ولَوْ بِمَعْنَى (إِنْ) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
لَعَلِمْتُمْ أَنَّ أجل الله إذا جاءكم لم يؤخر.
[سورة نوح (71): الآيات 5 الى 6]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5)
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي
لَيْلًا وَنَهاراً) أَيْ سِرًّا وَجَهْرًا. وَقِيلَ: أَيْ
وَاصَلْتُ الدُّعَاءَ. (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا
فِراراً) أَيْ تَبَاعُدًا مِنَ الْإِيمَانِ. وَقِرَاءَةُ
الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ (دُعَائِي) وَأَسْكَنَهَا
الْكُوفِيُّونَ وَيَعْقُوبُ وَالدُّورِيُّ عَنْ أَبِي عمرو.
[سورة نوح (71): آية 7]
وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ
وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) أَيْ
إِلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَهِيَ الْإِيمَانُ بِكَ
وَالطَّاعَةُ لَكَ. (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ)
لِئَلَّا يَسْمَعُوا دُعَائِي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ)
أَيْ غَطَّوْا بِهَا وُجُوهَهُمْ لِئَلَّا يَرَوْهُ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلُوا ثِيَابَهُمْ عَلَى رؤوسهم لِئَلَّا
يَسْمَعُوا كَلَامَهُ. فَاسْتِغْشَاءُ الثِّيَابِ إِذًا
زِيَادَةٌ فِي سَدِّ الْآذَانِ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا، أَوْ
لِتَنْكِيرِهِمْ أَنْفُسَهُمْ حَتَّى يَسْكُتَ، أَوْ
لِيُعَرِّفُوهُ إِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ
عَنِ الْعَدَاوَةِ. يُقَالُ: لَبِسَ لِي فُلَانٌ ثِيَابَ
الْعَدَاوَةِ. (وَأَصَرُّوا) أَيْ عَلَى الْكُفْرِ فَلَمْ
يَتُوبُوا. (وَاسْتَكْبَرُوا) عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ،
لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ
الْأَرْذَلُونَ «1» [الشعراء: 111]. (اسْتِكْباراً) تفخيم.
[سورة نوح (71): الآيات 8 الى 9]
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي
أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
__________
(1). راجع ج 13 ص 119.
(18/300)
فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ إِنِّي
دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) أَيْ مُظْهِرًا لَهُمُ الدَّعْوَةَ.
وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِ دَعَوْتُهُمْ نَصْبَ الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ
الدُّعَاءَ أَحَدُ نَوْعَيْهِ الْجِهَارُ، فَنُصِبَ بِهِ
نَصْبَ الْقُرْفُصَاءِ بِقَعَدَ، لِكَوْنِهَا أَحَدَ أَنْوَاعِ
الْقُعُودِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِ دَعَوْتُهُمْ
جَاهَرْتُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرِ
دَعَا، أَيْ دُعَاءً جِهَارًا، أَيْ مُجَاهِرًا بِهِ.
وَيَكُونُ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ دَعَوْتُهُمْ
مُجَاهِرًا لَهُمْ بِالدَّعْوَةِ. (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ
لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أَيْ لَمْ أُبْقِ
مَجْهُودًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى أَعْلَنْتُ: صِحْتُ،
وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً. بِالدُّعَاءِ عَنْ بَعْضِهِمْ
مِنْ بَعْضٍ. وَقِيلَ: أَسْرَرْتُ لَهُمْ أَتَيْتُهُمْ فِي
مَنَازِلِهِمْ. وَكُلُّ هَذَا مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
مُبَالَغَةٌ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ، وَتَلَطُّفٌ فِي
الِاسْتِدْعَاءِ. وَفَتَحَ الْيَاءَ مِنْ إِنِّي أَعْلَنْتُ
لَهُمْ الْحَرَمِيُّونَ وَأَبُو عَمْرٍو. وَأَسْكَنَ
الْبَاقُونَ.
[سورة نوح (71): الآيات 10 الى 12]
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10)
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ أَنْهاراً (12)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أَيْ سَلُوهُ
الْمَغْفِرَةَ مِنْ ذُنُوبِكُمُ السَّالِفَةِ بِإِخْلَاصِ
الْإِيمَانِ. (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) وَهَذَا مِنْهُ
تَرْغِيبٌ في التوبة. وقد روى حذيفة ابن الْيَمَانِ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(الِاسْتِغْفَارُ مِمْحَاةٌ لِلذُّنُوبِ). وَقَالَ
الْفُضَيْلُ: يَقُولُ الْعَبْدُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ،
وَتَفْسِيرُهَا أَقِلْنِي. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أَيْ يُرْسِلْ
مَاءَ السَّمَاءِ، فَفِيهِ إِضْمَارٌ. وَقِيلَ: السَّمَاءُ
المطر، أي يرسل المطر. قَالَ الشَّاعِرُ: «1»
إِذَا سَقَطَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ
وَإِنْ كانوا غضابا
__________
(1). هو معود الحكماء، معاوية بن مالك.
(18/301)
ومِدْراراً ذَا غَيْثٍ كَثِيرٍ. وَجُزِمَ
يُرْسِلِ جَوَابًا لِلْأَمْرِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا
كَذَّبُوا نُوحًا زَمَانًا طَوِيلًا حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمُ
الْمَطَرَ، وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ أَرْبَعِينَ
سَنَةً، فَهَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ وَزُرُوعُهُمْ، فَصَارُوا
إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَغَاثُوا بِهِ. فَقَالَ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أَيْ لَمْ
يَزَلْ كَذَلِكَ لِمَنْ أَنَابَ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ
تَرْغِيبًا فِي الْإِيمَانِ: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً. قَالَ
قَتَادَةُ: عَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ أَهْلُ حِرْصٍ عَلَى الدُّنْيَا فَقَالَ:
(هَلُمُّوا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ
دَرْكَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). الثَّالِثَةُ- فِي هَذِهِ
الْآيَةِ وَالَّتِي فِي" هُودٍ" «1» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الِاسْتِغْفَارَ يُسْتَنْزَلُ بِهِ الرِّزْقُ وَالْأَمْطَارُ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: خَرَجَ عُمَرُ يَسْتَسْقِي فَلَمْ يَزِدْ
عَلَى الِاسْتِغْفَارِ حَتَّى رَجَعَ، فَأُمْطِرُوا فَقَالُوا:
مَا رَأَيْنَاكَ اسْتَسْقَيْتَ؟ فَقَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ
الْمَطَرَ بِمَجَادِيحِ «2» السَّمَاءِ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ
بِهَا الْمَطَرُ، ثُمَّ قَرَأَ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: خَرَجَ النَّاسُ
يَسْتَسْقُونَ، فَقَامَ فِيهِمْ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ فَحَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا
سَمِعْنَاكَ تقول: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «3»
[التوبة: 91] وَقَدْ أَقْرَرْنَا بِالْإِسَاءَةِ، فَهَلْ
تَكُونُ مَغْفِرَتُكَ إِلَّا لِمِثْلِنَا؟! اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لَنَا وَارْحَمْنَا وَاسْقِنَا! فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعُوا
أَيْدِيَهُمْ فَسُقُوا. وَقَالَ ابْنُ صُبَيْحٍ: شَكَا رَجُلٌ
إِلَى الْحَسَنِ الْجُدُوبَةَ فَقَالَ لَهُ: اسْتَغْفِرِ
اللَّهَ. وَشَكَا آخَرُ إِلَيْهِ الْفَقْرَ فَقَالَ لَهُ:
اسْتَغْفِرِ اللَّهَ. وَقَالَ لَهُ آخَرُ. ادْعُ اللَّهَ أَنْ
يَرْزُقَنِي وَلَدًا، فَقَالَ لَهُ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ.
وَشَكَا إِلَيْهِ آخَرُ جَفَافَ بُسْتَانِهِ، فَقَالَ لَهُ:
اسْتَغْفِرِ اللَّهَ. فَقُلْنَا لَهُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا
قُلْتُ مِنْ عِنْدِي شَيْئًا، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ
فِي سُورَةِ" نُوحٍ": اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ
غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً.
__________
(1). راجع ج 9 ص (51)
(2). قال ابن الأثير:" المجاديح" واحدها مجدح والياء زائدة
للإشباع. والقياس أن يكون واحدها مجداح. والمجدح: نجم من
النجوم، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر. فجعل
الاستغفار مشبها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفونه، لا قولا
بالأنواء. وجاء بلفظ الجمع لأنه أراد الأنواء جميعها التي
يزعمون أن من شأنها المطر.
(3). راجع ج 8 ص 227.
(18/302)
مَا لَكُمْ لَا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا
(14)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" آلِ عِمْرَانَ" «1» كَيْفِيَّةُ
الِاسْتِغْفَارِ، وَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَنْ إِخْلَاصٍ
وَإِقْلَاعٍ مِنَ الذُّنُوبِ. وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الإجابة.
[سورة نوح (71): الآيات 13 الى 14]
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ
خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
قِيلَ: الرَّجَاءُ هُنَا بِمَعْنَى الْخَوْفِ، أي مالكم لَا
تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً وَقُدْرَةً عَلَى أَحَدِكُمْ
بِالْعُقُوبَةِ. أَيْ أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ فِي تَرْكِ
الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وأبو
العالية وعطاء ابن أَبِي رَبَاحٍ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ
لِلَّهِ ثَوَابًا وَلَا تَخَافُونَ لَهُ عِقَابًا. وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مالكم لَا
تَخْشَوْنَ لِلَّهِ عِقَابًا وَتَرْجُونَ مِنْهُ ثَوَابًا.
وَقَالَ الْوَالِبِيُّ وَالْعَوْفِيُّ عَنْهُ: مَا لَكُمْ لَا
تَعْلَمُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا
ومجاهد: مالكم لَا تَرَوْنَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَعَنْ
مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ: مَا لَكُمْ لَا تُبَالُونَ لِلَّهِ
عَظَمَةً. قَالَ قُطْرُبٌ: هَذِهِ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ.
وَهُذَيْلٌ وَخُزَاعَةُ وَمُضَرُ يَقُولُونَ: لَمْ أَرْجُ:
لَمْ أُبَالِ. وَالْوَقَارُ: الْعَظَمَةُ. وَالتَّوْقِيرُ:
التَّعْظِيمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ
لِلَّهِ عَاقِبَةً، كَأَنَّ الْمَعْنَى مَا لَكُمْ لَا
تَرْجُونَ لِلَّهِ عَاقِبَةَ الْإِيمَانِ. وَقَالَ ابْنُ
كَيْسَانَ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ
وَطَاعَتِهِ أَنْ يُثِيبَكُمْ عَلَى تَوْقِيرِكُمْ خَيْرًا.
وقال ابن زيد: مالكم لا تؤدون لله طاعة. وقال الحسن: مالكم لَا
تَعْرِفُونَ لِلَّهِ حَقًّا وَلَا تَشْكُرُونَ لَهُ نعمة.
وقيل: مالكم لَا تُوَحِّدُونَ اللَّهَ، لِأَنَّ مَنْ عَظَّمَهُ
فَقَدْ وَحَّدَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْوَقَارَ الثَّبَاتُ
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَرْنَ
فِي بُيُوتِكُنَّ «2» [الأحزاب: 33] أَيِ اثْبُتْنَ.
وَمَعْنَاهُ مَا لَكُمْ لَا تُثْبِتُونَ وَحْدَانِيَّةَ
اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ إِلَهُكُمْ لَا إِلَهَ لَكُمْ
سِوَاهُ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ
فَقَالَ: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أَيْ جَعَلَ لَكُمْ
فِي أَنْفُسِكُمْ آيَةً تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطْواراً يَعْنِي نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً
ثُمَّ مُضْغَةً، أَيْ طَوْرًا بَعْدَ طَوْرٍ إِلَى تَمَامِ
الْخَلْقِ، كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ" الْمُؤْمِنُونَ" «3».
وَالطَّوْرُ فِي اللُّغَةِ: الْمَرَّةُ، أَيْ مَنْ فَعَلَ
هَذَا وَقَدَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ تُعَظِّمُوهُ.
وَقِيلَ: أَطْواراً صِبْيَانًا، ثُمَّ شَبَابًا، ثم شيوخا
وضعفاء، ثم أقوياء.
__________
(1). راجع ج 4 ص 39.
(2). راجع ج 14 ص 178. [ ..... ]
(3). راجع ج 12 ص 108.
(18/303)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ
خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ
الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)
وَقِيلَ: أَطْوَارًا أَيْ أَنْوَاعًا:
صَحِيحًا وَسَقِيمًا، وَبَصِيرًا وَضَرِيرًا، وَغَنِيًّا
وَفَقِيرًا. وَقِيلَ: إِنَّ أَطْواراً اخْتِلَافُهُمْ في
الأخلاق والافعال.
[سورة نوح (71): الآيات 15 الى 16]
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً
(15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ
سِراجاً (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ
سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) ذَكَرَ لَهُمْ دَلِيلًا آخَرَ، أَيْ
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى هَذَا، فَهُوَ
الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ! وَمَعْنَى طِباقاً بَعْضُهَا
فَوْقَ بَعْضٍ، كُلُّ سَمَاءٍ مُطْبَقَةٍ عَلَى الْأُخْرَى
كَالْقِبَابِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا عَلَى
سَبْعِ أَرَضِينَ، بَيْنَ كُلِّ أَرْضٍ وَأَرْضٍ، وَسَمَاءٍ
وَسَمَاءٍ خَلْقٌ وَأَمْرٌ. وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَوْا عَلَى
جِهَةِ الْإِخْبَارِ لَا الْمُعَايَنَةِ، كَمَا تَقُولُ:
أَلَمْ تَرَنِي كَيْفَ صَنَعْتُ بِفُلَانٍ كَذَا. وطِباقاً
نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَيْ مُطَابِقَةً طِبَاقًا.
أَوْ حَالٌ بِمَعْنَى ذَاتِ طِبَاقٍ، فَحَذَفَ ذَاتَ وَأَقَامَ
طِبَاقًا مَقَامَهُ. (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً)
أَيْ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، كَمَا يُقَالُ: أَتَانِي بَنُو
تَمِيمٍ وَأَتَيْتُ بَنِي تَمِيمٍ وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ،
قَالَهُ الْأَخْفَشُ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِذَا كَانَ فِي
إِحْدَاهِنَّ فَهُوَ فِيهِنَّ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: فِيهِنَّ
بِمَعْنَى مَعَهُنَّ، وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ. أَيْ خَلَقَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مَعَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَقَالَ جُلَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي قَوْلِ امْرِئِ
الْقَيْسِ:
وَهَلْ يَنْعَمَنَّ مَنْ كَانَ آخِرُ «1» عَهْدِهِ ...
ثَلَاثِينَ شَهْرًا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ
فِي بِمَعْنَى مَعَ. النَّحَّاسُ: وَسَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ
بْنَ كَيْسَانَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: جَوَابُ
النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ إِذَا جَعَلَهُ فِي إِحْدَاهِنَّ
فَقَدْ جَعَلَهُ فِيهِنَّ، كَمَا تَقُولُ: أَعْطِنِي
الثِّيَابَ الْمُعْلَمَةَ وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا أَعْلَمْتَ
أَحَدَهَا. وَجَوَابٌ آخَرُ: أَنَّهُ يُرْوَى أَنَّ وَجْهَ
الْقَمَرِ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا كَانَ إِلَى دَاخِلِهَا
فهو متصل بالسماوات، وَمَعْنَى نُوراً أَيْ لِأَهْلِ
الْأَرْضِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. (هامش)
__________
(1). الذي في ديوان امرى القيس ص 50 ط هندية" أحدث".
(18/304)
وَاللَّهُ
أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ
فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا
فِجَاجًا (20)
وَقَالَ عَطَاءٌ: نُورًا لِأَهْلِ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ ابن عباس وابن عمر: وجهه يضئ
لأهل الأرض وظهره يضئ لِأَهْلِ السَّمَاءِ. (وَجَعَلَ
الشَّمْسَ سِراجاً) يَعْنِي مِصْبَاحًا لِأَهْلِ الْأَرْضِ
لِيَتَوَصَّلُوا إِلَى التَّصَرُّفِ لِمَعَايِشِهِمْ. وَفِي
إِضَاءَتِهَا لِأَهْلِ السَّمَاءِ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ،
حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ الشَّمْسَ وَجْهُهَا فِي السَّمَوَاتِ
وَقَفَاهَا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: عَلَى الْعَكْسِ. وَقِيلَ
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: مَا بَالُ الشَّمْسِ تَقْلِينَا
أَحْيَانًا وَتَبْرُدُ عَلَيْنَا أَحْيَانًا؟ فَقَالَ:
إِنَّهَا فِي الصَّيْفِ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَفِي
الشِّتَاءِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عِنْدَ عَرْشِ
الرَّحْمَنِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا لما
قام لها شي.
[سورة نوح (71): الآيات 17 الى 18]
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ
يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18)
يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلَقَهُ مِنْ أَدِيمِ
الْأَرْضِ كُلِّهَا، قَالَهُ ابْنُ جريج. وقد مضى في سورة"
الانعام «1» والبقرة" بَيَانُ ذَلِكَ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ
مَعْدَانَ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ طِينٍ، فَإِنَّمَا
تَلِينُ الْقُلُوبُ فِي الشتاء. ونَباتاً مَصْدَرٌ عَلَى
غَيْرِ الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَصْدَرَهُ أَنْبَتَ إِنْبَاتًا،
فَجَعَلَ الِاسْمَ الَّذِي هُوَ النَّبَاتُ فِي مَوْضِعِ
الْمَصْدَرِ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" آلِ
عِمْرَانَ" «2» وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ مَحْمُولٌ
عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى: أَنْبَتَكُمْ جَعَلَكُمْ
تَنْبُتُونَ نَبَاتًا، قَالَهُ الْخَلِيلُ وَالزَّجَّاجُ.
وَقِيلَ: أَيْ أَنْبَتَ لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ النَّبَاتَ. فَ
نَباتاً عَلَى هَذَا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ.
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «3»
أَنْبَتَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِالْكِبَرِ بَعْدَ الصِّغَرِ
وَبِالطُّولِ بَعْدَ الْقِصَرِ. (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها)
أَيْ عِنْدَ مَوْتِكُمْ بِالدَّفْنِ. (وَيُخْرِجُكُمْ
إِخْراجاً) بالنشور للبعث يوم القيامة.
[سورة نوح (71): الآيات 19 الى 20]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا
مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)
__________
(1). راجع ج 6 ص (279)
(2). راجع ج 4 ص (69)
(3). في ح، ز، ل:" وقال ابن بحر".
(18/305)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ
إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ
وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) أَيْ مَبْسُوطَةً. (لِتَسْلُكُوا
مِنْها سُبُلًا فِجاجاً) السُّبُلُ: الطُّرُقُ. وَالْفِجَاجُ
جَمْعُ فَجٍّ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعَةُ، قَالَهُ
الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: الْفَجُّ الْمَسْلَكُ بَيْنَ
الْجَبَلَيْنِ. وقد مضى في سورة" الأنبياء «1» والحج".
[سورة نوح (71): آية 21]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ
يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21)
شَكَاهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ عَصَوْهُ
وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ.
وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ
إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا دَاعِيًا لَهُمْ وَهُمْ عَلَى
كُفْرِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَجَا
نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأَبْنَاءَ بَعْدَ الْآبَاءِ،
فَيَأْتِي بِهِمُ الْوَلَدَ بَعْدَ الْوَلَدِ حَتَّى بَلَغُوا
سَبْعَ قُرُونٍ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِيَاسِ
مِنْهُمْ، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ عَامًا حَتَّى
كَثُرَ النَّاسُ وَفَشَوْا. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ قَوْمُ
نُوحٍ يَزْرَعُونَ فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ، حَكَاهُ
الْمَاوَرْدِيُّ. وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ
وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً يَعْنِي كُبَرَاءَهُمْ
وَأَغْنِيَاءَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَزِدْهُمْ كُفْرُهُمْ
وَأَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِلَّا ضَلَالًا فِي
الدُّنْيَا وَهَلَاكًا فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ أهل المدنية
وَالشَّامِ وَعَاصِمٌ وَوَلَدُهُ بِفَتْحِ الْوَاوِ
وَاللَّامِ. الْبَاقُونَ (وُلْدُهُ) بِضَمِّ الْوَاوِ
وَسُكُونِ اللَّامِ وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْوَلَدِ. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لِلْوَلَدِ، كالفلك فإنه واحد وجمع. وقد
تقدم «2».
[سورة نوح (71): آية 22]
وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)
أَيْ كَبِيرًا عَظِيمًا. يُقَالُ: كَبِيرٌ وَكُبَارٌ
وَكُبَّارٌ، مِثْلُ عَجِيبٍ وَعُجَابٍ وَعُجَّابٍ بِمَعْنًى،
وَمِثْلُهُ طَوِيلٌ وَطُوَالٌ وَطُوَّالٌ. يُقَالُ: رَجُلٌ
حَسَنٌ وَحُسَّانٌ، وَجَمِيلٌ وَجُمَّالٌ، وَقُرَّاءٌ
لِلْقَارِئِ، وَوُضَّاءٌ لِلْوَضِيءِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ
السِّكِّيتِ:
بَيْضَاءُ تَصْطَادُ الْقُلُوبَ «3» وتستبي ... وبالسحن قلب
المسلم القراء
__________
(1). راجع ج 11 ص 285 وج 12 ص (40)
(2). راجع ج 2 ص (194)
(3). في اللسان (مادة قرأ):" الغوى" بالغين المعجمة.
(18/306)
وَقَالُوا لَا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا
وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا
كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
وَقَالَ آخَرُ:
وَالْمَرْءُ يُلْحِقُهُ بِفِتْيَانِ النَّدَى ... خُلُقُ
الْكَرِيمِ وَلَيْسَ بِالْوُضَّاءِ
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: كُبَّاراً (بِالتَّشْدِيدِ)
لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ
وَمُجَاهِدٌ (كُبَارًا) بِالتَّخْفِيفِ. وَاخْتُلِفَ فِي
مَكْرِهِمْ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: تَحْرِيشُهُمْ سَفَلَتَهُمْ
عَلَى قَتْلِ نُوحٍ. وَقِيلَ: هُوَ تَعْزِيرُهُمُ النَّاسَ
بِمَا أُوتُوا مِنَ الدُّنْيَا وَالْوَلَدِ، حَتَّى قَالَتِ
الضَّعَفَةُ: لَوْلَا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ لَمَا أُوتُوا
هَذِهِ النِّعَمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ مَا جَعَلُوهُ
لِلَّهِ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ. وَقِيلَ: مَكْرُهُمْ
كُفْرُهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ قَوْلُ كُبَرَائِهِمْ
لِأَتْبَاعِهِمْ: لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ
وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً.
[سورة نوح (71): الآيات 23 الى 24]
وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا
وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ
أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً
(24)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هِيَ أَصْنَامٌ وَصُوَرٌ،
كَانَ قَوْمُ نُوحٍ يَعْبُدُونَهَا ثُمَّ عَبَدَتْهَا
الْعَرَبُ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا
لِلْعَرَبِ لَمْ يَعْبُدْهَا غَيْرُهُمْ. وَكَانَتْ أَكْبَرَ
أَصْنَامِهِمْ وَأَعْظَمَهَا عِنْدَهُمْ، فَلِذَلِكَ خَصُّوهَا
بِالذِّكْرِ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَذَرُنَّ
آلِهَتَكُمْ. وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ كَمَا قَالَ قَوْمُ
نُوحٍ لِأَتْبَاعِهِمْ: لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ قَالَتِ
الْعَرَبُ لِأَوْلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ: لَا تَذَرُنَّ وَدًّا
وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، ثُمَّ
عَادَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، الْكَلَامُ كُلُّهُ
مَنْسُوقٌ فِي قَوْمِ نُوحٍ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُ: اشْتَكَى آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَعِنْدَهُ بَنُوهُ: وَدٌّ، وَسُوَاعٌ، وَيَغُوثُ، وَيَعُوقُ،
وَنَسْرٌ. وَكَانَ وَدٌّ أَكْبَرَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانَ لِآدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ خَمْسُ بَنِينَ: وَدٌّ وَسُوَاعٌ وَيَغُوثُ
وَيَعُوقُ وَنَسْرُ، وَكَانُوا عُبَّادًا فَمَاتَ وَاحِدٌ
مِنْهُمْ فَحَزِنُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ: أَنَا
أُصَوِّرُ لَكُمْ مِثْلَهُ إِذَا نَظَرْتُمْ إِلَيْهِ
ذَكَرْتُمُوهُ. قَالُوا: افْعَلْ. فَصَوَّرَهُ فِي الْمَسْجِدِ
مِنْ صُفْرٍ وَرَصَاصٍ. ثُمَّ مَاتَ آخَرُ،
(18/307)
فَصَوَّرَهُ حَتَّى مَاتُوا كُلُّهُمْ
فَصَوَّرَهُمْ. وَتَنَقَّصَتِ الْأَشْيَاءُ كَمَا تَتَنَقَّصُ
الْيَوْمَ إِلَى أَنْ تَرَكُوا عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى
بَعْدَ حِينٍ. فَقَالَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ: مالكم لَا
تَعْبُدُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: وَمَا نَعْبُدُ؟ قَالَ:
آلِهَتَكُمْ وَآلِهَةَ آبَائِكُمْ، أَلَا تَرَوْنَ فِي
مُصَلَّاكُمْ. فَعَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، حَتَّى بَعَثَ
اللَّهُ نُوحًا فَقَالُوا: لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا
تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً الْآيَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ كَعْبٍ أَيْضًا وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ: بَلْ كَانُوا
قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَكَانَ لَهُمْ
تَبَعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا زَيَّنَ لَهُمْ
إِبْلِيسُ أَنْ يُصَوِّرُوا صُوَرَهُمْ لِيَتَذَكَّرُوا بِهَا
اجْتِهَادَهُمْ، وَلِيَتَسَلَّوْا بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا،
فَصَوَّرَهُمْ. فَلَمَّا مَاتُوا هُمْ وَجَاءَ آخَرُونَ
قَالُوا: لَيْتَ شِعْرَنَا! هَذِهِ الصُّوَرُ مَا كَانَ
آبَاؤُنَا يَصْنَعُونَ بِهَا؟ فَجَاءَهُمُ الشَّيْطَانُ
فَقَالَ: كَانَ آبَاؤُكُمْ يَعْبُدُونَهَا فَتَرْحَمُهُمْ
وَتَسْقِيهِمُ الْمَطَرَ. فَعَبَدُوهَا فَابْتُدِئَ عِبَادَةُ
الْأَوْثَانِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ. قُلْتُ: وَبِهَذَا
الْمَعْنَى فُسِّرَ مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ
حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ
ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا «1» بِالْحَبَشَةِ تُسَمَّى
مَارِيَةَ، فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ «2» اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ
فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ
مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ
شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هَذِهِ
الْأَصْنَامُ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ،
فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ
انْصِبُوا فِي مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ
فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ تَذْكُرُوهُمْ
بِهَا، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ
أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَذُكِرَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ
السَّلَامُ، كَانَ يَحْرُسُ جَسَدَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
عَلَى جَبَلٍ بِالْهِنْدِ، فَيَمْنَعُ الْكَافِرِينَ أَنْ
يَطُوفُوا بِقَبْرِهِ، فَقَالَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ: إِنَّ
هَؤُلَاءِ يَفْخَرُونَ عَلَيْكُمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ
بَنُو آدَمَ دُونَكُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ جَسَدٌ، وَأَنَا
أُصَوِّرُ لَكُمْ مِثْلَهُ تَطُوفُونَ بِهِ، فَصَوَّرَ لَهُمْ
هَذِهِ الْأَصْنَامَ الْخَمْسَةَ وَحَمَلَهُمْ عَلَى
عِبَادَتِهَا. فَلَمَّا كَانَ أَيَّامَ الطُّوفَانِ دَفَنَهَا
الطِّينُ وَالتُّرَابُ وَالْمَاءُ، فَلَمْ تَزَلْ مَدْفُونَةً
حَتَّى أَخْرَجَهَا الشَّيْطَانُ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ. قال
الماوردي: فأما ود
__________
(1). قوله:" رأيتها" بنون الجمع على أن أقل الجمع اثنان. أو
على أنه كان معهما غيرهما من النسوة. (القسطلاني).
(2). قوله" لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
متعلق ب" ذكرتا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(18/308)
فَهُوَ أَوَّلُ صَنَمٍ مَعْبُودٍ، سُمِّيَ
وَدًّا لِوُدِّهِمْ لَهُ، وَكَانَ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ
لِكَلْبٍ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَعَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ. وَفِيهِ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ:
حَيَّاكَ وَدٌّ فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا ... لَهْوُ
النِّسَاءِ وَإِنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا
وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَ لِهُذَيْلٍ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، فِي
قَوْلِهِمْ. وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَ لِغُطَيْفٍ مِنْ مُرَادٍ
بِالْجَوْفِ مِنْ سَبَأٍ، فِي قَوْلِ قَتَادَةَ. وَقَالَ
الْمَهْدَوِيُّ. لِمُرَادٍ ثُمَّ لِغَطَفَانَ. الثَّعْلَبِيُّ:
وَأَخَذَتْ أعلى وأنعم- وهما من طئ- وَأَهْلُ جُرَشٍ مِنْ
مَذْحِجٍ يَغُوثُ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مُرَادٍ فَعَبَدُوهُ
زَمَانًا. ثُمَّ إِنَّ بَنِي نَاجِيَةَ أَرَادُوا نَزْعَهُ
مِنْ أَعْلَى «1» وَأَنْعَمَ، فَفَرُّوا به إلى الحصين أخي
ببني الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ. وَقَالَ أَبُو
عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: رَأَيْتُ يَغُوثَ وَكَانَ مِنْ
رَصَاصٍ، وَكَانُوا يَحْمِلُونَهُ عَلَى جَمَلٍ أَحْرَدَ «2»،
وَيَسِيرُونَ مَعَهُ وَلَا يُهَيِّجُونَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ
الَّذِي يَبْرُكُ، فَإِذَا بَرَكَ نَزَلُوا وَقَالُوا: قَدْ
رَضِيَ لَكُمُ الْمَنْزِلَ، فَيَضْرِبُونَ عَلَيْهِ بِنَاءً
يَنْزِلُونَ حَوْلَهُ. وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَ لِهَمْدَانَ
بِبَلْخَعَ، «3» فِي قَوْلِ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ.
ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَأَمَّا
يَعُوقُ فَكَانَ لِكَهْلَانَ مِنْ سَبَأٍ، ثُمَّ تَوَارَثَهُ
بَنُوهُ، الْأَكْبَرُ فَالْأَكْبَرُ «4» حَتَّى صَارَ إِلَى
هَمْدَانَ. وَفِيهِ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ
الْهَمْدَانِيُّ:
يَرِيشُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَيَبْرِي ... وَلَا يَبْرِي
يَعُوقُ وَلَا يَرِيشُ
وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَ لِذِي الْكُلَاعِ مِنْ حِمْيَرٍ، فِي
قَوْلِ قَتَادَةَ، وَنَحْوَهُ عَنْ مُقَاتِلٍ. وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ: كَانَ وَدٌّ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ، وَسُوَاعٌ
عَلَى صُورَةِ امْرَأَةٍ، وَيَغُوثُ عَلَى صُورَةِ أَسَدٍ،
وَيَعُوقُ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ، وَنَسْرٍ عَلَى صُورَةِ
نَسْرٍ مِنَ الطَّيْرِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ
وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا بِضَمِ الْوَاوِ. وَفَتَحَهَا
الْبَاقُونَ. قَالَ اللَّيْثُ: وَدٌّ (بِفَتْحِ الْوَاوِ) صنم
كان لقوم نوح.
__________
(1). زيادة عن تفسير الثعلبي.
(2). الحرد (بالتحريك): داء في القوائم إذا مشى البعير نفض
قوائمه فضرب بهن الأرض كثيرا.
(3). موضع باليمن.
(4). زيادة عن تفسير الثعلبي. [ ..... ]
(18/309)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
وَوُدٌّ (بِالضَّمِّ) صَنَمٌ لِقُرَيْشٍ،
وَبِهِ سُمِّيَ عَمْرُو بْنُ وُدٍّ. وَفِي الصِّحَاحِ:
وَالْوَدُّ (بِالْفَتْحِ) الْوَتِدُ فِي لُغَةِ أَهْلِ نَجْدٍ،
كَأَنَّهُمْ سَكَّنُوا التَّاءَ وَأَدْغَمُوهَا فِي الدَّالِ.
وَالْوَدُّ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
تُظْهِرُ الْوَدَّ إِذَا مَا أَشْجَذَتْ ... وَتُوَارِيهِ
إِذَا مَا تَعْتَكِرُ «1»
قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُوَ اسْمُ جَبَلٍ: وَوَدٌّ صَنَمٌ
كَانَ لِقَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ صَارَ
لِكَلْبٍ وَكَانَ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ، وَمِنْهُ سَمَّوْهُ
عَبْدَ وَدٍّ وَقَالَ: لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ثُمَّ قَالَ:
وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً الْآيَةَ. خَصَّهَا
بِالذِّكْرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ «2» نُوحٍ
[الأحزاب: 7]. (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) هَذَا مِنْ قَوْلِ
نُوحٍ، أَيْ أُضِلَّ كُبَرَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنْ
أَتْبَاعِهِمْ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَكَرُوا
مَكْراً كُبَّاراً. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَصْنَامَ أَضَلُّوا
كَثِيراً أَيْ ضَلَّ بِسَبَبِهَا كَثِيرٌ، نَظِيرُهُ قَوْلُ
إِبْرَاهِيمَ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ «3»
النَّاسِ [إبراهيم: 36] فَأَجْرَى عَلَيْهِمْ وَصْفَ مَا
يَعْقِلُ، لِاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ فِيهِمْ ذَلِكَ. (وَلا
تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا) أَيْ عَذَابًا، قَالَهُ
ابْنُ بَحْرٍ. وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تعالى: إِنَّ
الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ «4» وَسُعُرٍ [القمر: 47]. وَقِيلَ
إِلَّا خُسْرَانًا. وَقِيلَ إِلَّا فِتْنَةً بِالْمَالِ
والولد. وهو محتمل.
[سورة نوح (71): آية 25]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ
يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ «5» أُغْرِقُوا)
(مَا) صِلَةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْمَعْنَى مِنْ خَطَايَاهُمْ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مِنْ أَجْلِ خطاياهم، فأدت ما
هذا المعنى. قال: وما تَدُلُّ عَلَى الْمُجَازَاةِ.
وَقِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو خَطَايَاهُمْ على جمع التكسير،
الواحدة خطية. وكان
__________
(1). الضمير في" تظهر" للديمة (المطر) في البيت قبل هذا. والود
(بالفتح) الوتد. و" أشجذت" أقلعت وسكنت. و" تعتكر" تشتد، يقال:
اعتكر المطر إذا اشتد. ويروى:" تشتكر" أي تحتفل. يريد: أن هذه
السحابة توارى أوتاد البيوت إذا اشتدت وتبديها إذا كفت وأقلعت.
(2). راجع ج 14 ص 127.
(3). راجع ج 9 ص 368.
(4). راجع ج 17 ص 147.
(5). هكذا في نسخ الأصل، وهى قراءة.
(18/310)
الْأَصْلُ فِي الْجَمْعِ خَطَائِيَّ عَلَى
فَعَائِلَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْهَمْزَتَانِ قُلِبَتِ
الثَّانِيَةُ يَاءً، لِأَنَّ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ ثُمَّ
اسْتُثْقِلَتْ وَالْجَمْعُ ثَقِيلٍ، وَهُوَ مُعْتَلٌّ مَعَ
ذَلِكَ، فَقُلِبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا ثُمَّ قُلِبَتِ
الْهَمْزَةُ الْأُولَى يَاءً لِخَفَائِهَا بَيْنَ
الْأَلِفَيْنِ. الْبَاقُونَ خَطِيئاتِهِمْ عَلَى جَمْعِ
السَّلَامَةِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: قَوْمٌ كَفَرُوا أَلْفَ
سَنَةٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَّا خَطِيَّاتٌ، يُرِيدُ أَنَّ
الْخَطَايَا أَكْثَرُ مِنَ الْخَطِيَّاتِ. وَقَالَ قَوْمٌ:
خَطَايَا وَخَطِيَّاتٌ وَاحِدٌ، جَمْعَانِ مُسْتَعْمَلَانِ فِي
الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: ما نَفِدَتْ كَلِماتُ «1» اللَّهِ [لقمان: 27]
وَقَالَ الشَّاعِرُ: «2»
لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ بِالضُّحَى ...
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وقرى خَطِيئاتِهِمْ «3» وخطياتهم بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً
وَإِدْغَامِهَا. وَعَنِ الْجَحْدَرِيِّ وَعَمْرِو ابن عُبَيْدٍ
وَالْأَعْمَشِ وَأَبِي حَيْوَةَ وَأَشْهَبَ الْعُقَيْلِيِّ"
خَطِيئَتِهِمْ" عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْمُرَادُ الشِّرْكُ.
(فَأُدْخِلُوا نَارًا) أَيْ بَعْدَ إِغْرَاقِهِمْ. قَالَ
الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ.
وَمُنْكِرُوهُ يَقُولُونَ: صَارُوا مُسْتَحِقِّينَ دُخُولَ
النَّارِ، أَوْ عُرِضَ عَلَيْهِمْ أَمَاكِنَهُمْ مِنَ
النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا»
[غافر: 46]. وَقِيلَ: أَشَارُوا إِلَى مَا فِي الْخَبَرِ مِنْ
قوله: (البحر نار في نَارٍ). وَرَوَى أَبُو رَوْقٌ عَنِ
الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا
نَارًا قَالَ: يَعْنِي عُذِّبُوا بِالنَّارِ فِي الدُّنْيَا
مَعَ الْغَرَقِ فِي الدُّنْيَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، كَانُوا
يَغْرَقُونَ فِي جَانِبٍ وَيَحْتَرِقُونَ فِي الْمَاءِ مِنْ
جَانِبٍ. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو
الْقَاسِمِ الْحُبَيْبِيُّ قَالَ أَنْشَدَنَا أَبُو سَعِيدٍ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رُمَيْحٍ قَالَ أَنْشَدَنِي
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
الْخَلْقُ مُجْتَمِعٌ طَوْرًا وَمُفْتَرِقٌ ...
وَالْحَادِثَاتُ فُنُونٌ ذَاتُ أَطْوَارِ
لَا تَعْجَبَنَّ لِأَضْدَادٍ إِنِ اجْتَمَعَتْ ... فَاللَّهُ
يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ
(فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً) أَيْ
مَنْ يَدْفَعُ عنهم العذاب.
__________
(1). راجع ج 14 ص (77).
(2). هو حسان بن ثابت.
(3). في ا، ح:" خطاياهم".
(4). راجع ج 15 ص 319.
(18/311)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ
لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا
إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
[سورة نوح (71): الآيات 26 الى 27]
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ
يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً
(27)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: دَعَا عَلَيْهِمْ حِينَ
يَئِسَ مِنَ اتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: دَعَا
عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنَّهُ
لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «1» [هود:
36] فَأَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ وَأَغْرَقَ أُمَّتَهُ،
وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ مُنَزِّلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ
الْحِسَابِ «2» وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ
وَزَلْزِلْهُمْ). وَقِيلَ: سَبَبُ دُعَائِهِ أَنَّ رَجُلًا
مِنْ قَوْمِهِ حَمَلَ وَلَدًا صَغِيرًا عَلَى كَتِفِهِ فَمَرَّ
بِنُوحٍ فَقَالَ: (احْذَرْ هَذَا فَإِنَّهُ يُضِلُّكَ).
فَقَالَ: يَا أَبَتِ أَنْزِلْنِي، فَأَنْزَلَهُ فَرَمَاهُ
فَشَجَّهُ، فَحِينَئِذٍ غَضِبَ وَدَعَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُقَاتِلٌ وَالرَّبِيعُ وَعَطِيَّةُ
وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَمَا أَخْرَجَ
اللَّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَصْلَابِهِمْ وَأَرْحَامِ
نِسَائِهِمْ. وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ النِّسَاءِ وَأَصْلَابَ
الرِّجَالِ قَبْلَ الْعَذَابِ بِسَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ:
بِأَرْبَعِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ
صَبِيٌّ وَقْتَ الْعَذَابِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو
الْعَالِيَةِ: لَوْ أَهْلَكَ اللَّهُ أَطْفَالَهُمْ مَعَهُمْ
كَانَ عَذَابًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ وَعَدْلًا فِيهِمْ،
وَلَكِنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ أَطْفَالَهُمْ وَذُرِّيَّتَهُمْ
بِغَيْرِ عَذَابٍ، ثُمَّ أَهْلَكَهُمْ بِالْعَذَابِ، بِدَلِيلِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ
أَغْرَقْناهُمْ «3» [الفرقان: 37]. الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ:" دَعَا نُوحٌ عَلَى الْكَافِرِينَ أَجْمَعِينَ،
وَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
مَنْ تَحَزَّبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّبَ عَلَيْهِمْ.
وَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْكَافِرِينَ فِي
الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا كَافِرٌ مُعَيَّنٌ لَمْ تُعْلَمْ
خَاتِمَتُهُ فَلَا يُدْعَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَآلَهُ
عِنْدَنَا مَجْهُولٌ، وَرُبَّمَا كَانَ عِنْدَ اللَّهِ
مَعْلُومَ الْخَاتِمَةِ بِالسَّعَادَةِ. وَإِنَّمَا خَصَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدُّعَاءِ
عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأَصْحَابَهُمَا، لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِمْ
وَمَا كُشِفَ لَهُ مِنَ الْغِطَاءِ عَنْ حَالِهِمْ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ". قُلْتُ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
مُجَوَّدَةً فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «4» وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ.
__________
(1). راجع ج 9 ص (29).
(2). الزيادة عن ابن العربي.
(3). راجع ج 13 ص (31).
(4). راجع ج 2 ص 188.
(18/312)
رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:"
إِنْ قِيلَ لِمَ جَعَلَ نُوحٌ دَعْوَتَهُ عَلَى قَوْمِهِ
سَبَبًا لِتَوَقُّفِهِ عَنْ طَلَبِ الشَّفَاعَةِ لِلْخَلْقِ
مِنَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ؟ قُلْنَا قَالَ النَّاسُ فِي
ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ
نَشَأَتْ عَنْ غَضَبٍ وَقَسْوَةٍ، وَالشَّفَاعَةُ تَكُونُ عَنْ
رِضًا وَرِقَّةٍ، فَخَافَ أَنْ يُعَاتَبَ وَيُقَالَ: دَعَوْتَ
عَلَى الْكُفَّارِ بِالْأَمْسِ وَتَشْفَعُ لَهُمُ الْيَوْمَ.
الثَّانِي- أَنَّهُ دَعَا غَضَبًا بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إِذْنٍ
صَرِيحٍ فِي ذَلِكَ، فَخَافَ الدَّرْكَ «1» فِيهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أومر بقتلها). قال: وبهذا
أقول". قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدُّعَاءِ
نَصًّا فَقَدْ قِيلَ لَهُ: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ
قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36]. فَأُعْلِمَ
عَوَاقِبَهُمْ فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ، كَمَا دَعَا
نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْبَةَ
وَعُتْبَةَ وَنُظَرَائِهِمْ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ
بِهِمْ) لَمَّا أُعْلِمَ عَوَاقِبَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ
فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ
تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً
كَفَّاراً) أَيْ مَنْ يَسْكُنُ الدِّيَارَ، قَالَهُ
السُّدِّيُّ. وَأَصْلُهُ دَيْوَارٌ عَلَى فَيْعَالٍ مِنْ دَارٍ
يَدُورُ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا
فِي الْأُخْرَى. مِثْلَ الْقِيَامِ، أَصْلُهُ قِيْوَامٌ.
وَلَوْ كَانَ فَعَّالًا لَكَانَ دَوَّارًا. وَقَالَ
الْقُتَبِيُّ: أَصْلُهُ مِنَ الدَّارِ، أَيْ نَازِلٌ
بِالدَّارِ. يُقَالُ: مَا بِالدَّارِ دَيَّارٌ، أَيْ أَحَدٌ.
وَقِيلَ: الدَّيَّارُ صاحب الدار.
[سورة نوح (71): آية 28]
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ
مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) دَعَا
لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَكَانَا مُؤْمِنَيْنِ. وَهُمَا:
لَمْكُ «2» بْنُ مَتُّوشَلَخَ وَشَمْخَى بِنْتُ أَنُوشَ،
ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ. وَحَكَى
الْمَاوَرْدِيُّ فِي اسْمِ أُمِّهِ مِنْجَلُ.
__________
(1). الدرك (يسكن ويحرك): التبعة. [ ..... ]
(2). في حاشية الجمل" لمك" بفتحتين أو بفتح فسكون. و" متوشلخ"
بضم الميم وفتح التاء والواو وسكون الشين وكسر اللام. و" شمخى"
بوزن سكرى.
(18/313)
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَرَادَ
بِوَالِدَيْهِ أَبَاهُ وَجَدَّهُ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ" لِوَالِدِي" بِكَسْرِ الدَّالِّ عَلَى الْوَاحِدِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ عَشَرَةُ
آبَاءَ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ
يَكْفُرْ لِنُوحٍ وَالِدٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً)
«1» أَيْ مَسْجِدِي وَمُصَلَّايَ مُصَلِّيًا مُصَدِّقًا
بِاللَّهِ. وَكَانَ إِنَّمَا يَدْخُلُ بُيُوتَ الْأَنْبِيَاءِ
مَنْ آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالمغفرة. وَقَدْ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي
مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ
تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ)
الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ:
بَيْتِيَ مَسْجِدِي، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ وَقَالَهُ
الضَّحَّاكُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَيْ وَلِمَنْ
دَخَلَ دِينِي، فَالْبَيْتُ بِمَعْنَى الدِّينِ، حَكَاهُ
الْقُشَيْرِيُّ وَقَالَهُ جُوَيْبِرٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَيْضًا: يَعْنِي صَدِيقِي الدَّاخِلَ إِلَى مَنْزِلِي،
حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: أَرَادَ دَارِي. وَقِيلَ
سَفِينَتِي. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) عَامَّةً
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْمِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) أَيِ الْكَافِرِينَ. (إِلَّا
تَباراً) إِلَّا هَلَاكًا، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ
وَمُشْرِكٍ. وَقِيلَ: أَرَادَ مُشْرِكِي قَوْمِهِ.
وَالتَّبَارُ: الْهَلَاكُ. وَقِيلَ: الْخُسْرَانُ، حَكَاهُمَا
السُّدِّيُّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هؤُلاءِ
مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ «2» [الأعراف: 139]. وَقِيلَ:
التَّبَارُ الدَّمَارُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بذلك. وهو الموفق للصواب.
تم بعون الله الجزء الثامن عَشَرَ مِنْ تَفْسِيرِ
الْقُرْطُبِيِّ، يَتْلُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى الجزء
التاسع عشر، وأوله:" سورة (الجن). بعون الله وجميل توفيقه، قد
تم طبع الجزء الثامن عشر من" تفسير القرطبي" بمطبعة دار الكتب
والوثائق القومية في شهر صفر سنة 1386 هـ (مايو سنة 1966) محمد
حمدي جنيدي رئيس المطبعة
__________
(1). راجع ج 1 ص (351)
(2). راجع ج 7 ص 273.
(18/314)
|