تفسير القرطبي

[تفسير سورة والعاديات]
سورة" والعاديات" وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَالْحُسْنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ. وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عباس وأنس ومالك وقتادة. وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة العاديات (100): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) أَيِ الْأَفْرَاسُ تْعدُو. كَذَا قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ، أَيْ تَعْدُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَضْبَحُ. قَالَ قَتَادَةُ: تَضْبَحُ إِذَا عَدَتْ، أي تحمحم. وقال
__________
(1). قال أبو أحمد العسكري: (وقد وهم بعضهم في صعصعة بن معاوية عم الأحنف بن قيس فقال: صعصعة عم الفرزدق وهو غلط). والمعروف أن صعصعة بن ناجية هو جد الفرزدق وليس له عم يسمى صعصعة. راجع كتاب الإصابة وأسد الغابة في ترجمة صعصعة.
(2). هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يرى منها البحر ولها طريقان فكل من سلك واحدا منهما أفضى به إلى موضع واحد. في معجم البلدان لياقوت: خذا أنف هرشى ... وفي اللسان: خذا جنب هرشى ...

(20/153)


الْفَرَّاءُ: الضَّبْحُ: صَوْتُ أَنْفَاسِ الْخَيْلِ إِذَا عَدَوْنَ. ابن عباس: ليس شي مِنَ الدَّوَابِّ يَضْبَحُ غَيْرُ الْفَرَسِ وَالْكَلْبِ وَالثَّعْلَبِ. وَقِيلَ: كَانَتْ تُكْعَمُ «1» لِئَلَّا تَصْهَلَ، فَيَعْلَمَ الْعَدُوُّ بِهِمْ، فَكَانَتْ تَتَنَفَّسُ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِقُوَّةٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 2 - 1]، وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ فَقَالَ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ
«2»، [الحجر: 72]، وَأَقْسَمَ بِخَيْلِهِ وَصَهِيلِهَا وَغُبَارِهَا، وَقَدْحِ حَوَافِرِهَا النَّارَ مِنَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ... الْآيَاتُ الْخَمْسُ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ «3»:
وَطَعْنَةٍ ذَاتِ رَشَاشٍ وَاهِيهْ ... طَعَنْتُهَا عِنْدَ صُدُورِ الْعَادِيَهْ
يَعْنِي الْخَيْلَ. وَقَالَ آخَرُ:
وَالْعَادِيَاتُ أَسَابِيُّ الدِّمَاءِ بِهَا ... كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا أَنْصَابُ تَرْجِيبِ «4»
يَعْنِي الْخَيْلَ. وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
وَالْخَيْلُ تُعْلَمُ حِينَ تَضْ ... - بَحُ فِي حِيَاضِ الْمَوْتِ ضَبْحًا
وَقَالَ آخَرُ:
لَسْتُ بِالتُّبَّعِ الْيَمَانِيِّ إِنْ لَمْ ... تَضْبَحِ الْخَيْلُ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ
وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَأَصْلُ الضَّبْحِ وَالضُّبَاحِ لِلثَّعَالِبِ، فَاسْتُعِيرَ لِلْخَيْلِ. وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: ضَبَحَتْهُ النَّارُ: إِذَا غَيَّرَتْ لَوْنَهُ وَلَمْ تُبَالِغْ فِيهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَمَّا أَنْ تَلَهْوَجْنَا شِوَاءً ... بِهِ اللَّهَبَانُ مَقْهُورًا ضَبِيحًا «5»
وَانْضَبَحَ لَوْنُهُ: إِذَا تَغَيَّرَ إِلَى السَّوَادِ قَلِيلًا. وَقَالَ:
عُلِقْتُهَا قَبْلَ انْضِبَاحِ لَوْنِي
__________
(1). الكعام: شي يجعل على فم البعير.
(2). آية 72 سورة الحجر.
(3). قوله: (قال أهل اللغة ... ) إلى آخر البيت. هكذا ورد في جميع نسخ الأصل وظاهر أن فيه سقطا يوضحه أبو حيان في البحر بقوله: (قال أهل اللغة: أصله للثعلب فاستعير للخيل ... ) إلخ. على أن المؤلف أورده فيما يأتي.
(4). البيت لسلامة بن جندل. والاسابي: الطرق من الدم. وأسابي الدماء: طرائقها. والترحيب: أن تدعم الشجرة إذا كثر حملها لئلا تتكسر أغصانها. قال ابن منظور: (فإنه شبه أعناق الخيل بالمرجب. وقيل: شبه أعناقها بالحجارة التي تذبح عليها النسائك).
(5). البيت لمضرس الأسدي. والملهوج من الشواء: الذي لم يتم نضجه. واللهبان: اتقاد النار واشتعالها.

(20/154)


وَإِنَّمَا تَضْبَحُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُهَا مِنْ فَزَعٍ وَتَعَبٍ أَوْ طَمَعٍ. وَنَصَبَ ضَبْحاً عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ وَالْعَادِيَاتِ تَضْبَحُ ضَبْحًا. وَالضَّبْحُ «1» أَيْضًا الرَّمَادُ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: ضَبْحاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ضَبَحَتِ الْخَيْلُ ضَبْحًا مِثْلُ ضَبَعَتْ، وَهُوَ السَّيْرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الضَّبْحُ وَالضَّبْعُ: بِمَعْنَى الْعَدْوِ وَالسَّيْرِ. وَكَذَا قَالَ الْمُبَرِّدُ: الضَّبْحُ مَدُّ أَضْبَاعِهَا فِي السَّيْرِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى أُنَاسٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ خَبَرُهَا، وَكَانَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّهُمْ قُتِلُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ إِخْبَارًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَلَامَتِهَا، وَبِشَارَةً لَهُ بِإِغَارَتِهَا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَادِيَاتِ الْخَيْلَ، ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ. وَالْمُرَادُ الْخَيْلُ الَّتِي يَغْزُو عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ. وَفِي الْخَبَرِ: (مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حُرْمَةَ فرس الغازي، فيه شُعْبَةٌ مِنَ النِّفَاقِ). وَقَوْلٌ ثَانٍ: أَنَّهَا الْإِبِلُ، قَالَ مُسْلِمٌ: نَازَعْتُ فِيهَا عِكْرِمَةَ فَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ الْخَيْلُ. وَقُلْتُ: قَالَ عَلِيٌّ هِيَ الْإِبِلُ فِي الْحَجِّ، وَمَوْلَايَ أَعْلَمُ مِنْ مَوْلَاكَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَمَارَى «2» عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْعادِياتِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: هِيَ الْإِبِلُ تَعْدُو فِي الْحَجِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْخَيْلُ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً [العاديات: 4] فَهَلْ تُثِيرُ إِلَّا بِحَوَافِرِهَا! وَهَلْ تَضْبَحُ الْإِبِلُ! فَقَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ كَمَا قُلْتَ، لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا مَعَنَا إِلَّا فَرَسٌ أَبْلَقُ لِلْمِقْدَادِ، وَفَرَسٌ لِمَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَتُفْتِي النَّاسَ بِمَا لَا تَعْلَمُ! وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَأَوَّلَ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ وَمَا مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ: فَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ، وَفَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْعَادِيَاتُ ضَبْحًا! إِنَّمَا الْعَادِيَاتُ الْإِبِلُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَمِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى عَرَفَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَجَعْتُ إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالسُّدِّيُّ. وَمِنْهُ قَوْلُ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
فَلَا وَالْعَادِيَاتِ غَدَاةَ جَمْعٍ ... بِأَيْدِيهَا إِذَا سَطَعَ الْغُبَارُ
__________
(1). في القاموس: (والضبح بالكسر الرماد).
(2). التماري والمماراة: المجادلة.

(20/155)


يَعْنِي الْإِبِلَ. وَسُمِّيَتِ الْعَادِيَاتُ لِاشْتِقَاقِهَا مِنَ الْعَدْوِ، وَهُوَ تَبَاعُدُ الْأَرْجُلِ فِي سُرْعَةِ الْمَشْيِ. وَقَالَ آخَرُ:
رَأَى صَاحِبِي فِي الْعَادِيَاتِ نَجِيبَةً ... وَأَمْثَالَهَا فِي الْوَاضِعَاتِ الْقَوَامِسِ «1»

وَمَنْ قَالَ هِيَ الْإِبِلُ فَقَوْلُهُ ضَبْحاً بِمَعْنَى ضَبْعًا، فَالْحَاءُ عِنْدَهُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْعَيْنِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: ضَبَعَتِ الْإِبِلُ وَهُوَ أَنْ تَمُدَّ أَعْنَاقَهَا فِي السَّيْرِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الضبع مد أضباعها في السير. والضبح أكثر مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْلِ. وَالضَّبْعُ فِي الْإِبِلِ. وَقَدْ تُبَدَّلُ الْحَاءُ مِنَ الْعَيْنِ. أَبُو صَالِحٍ: الضَّبْحُ مِنَ الْخَيْلِ: الْحَمْحَمَةُ، وَمِنَ الْإِبِلِ التَّنَفُّسُ. وقال عطاء: ليس شي مِنَ الدَّوَابِّ يَضْبَحُ إِلَّا الْفَرَسَ وَالثَّعْلَبَ وَالْكَلْبَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: ضَبَحَ الثَّعْلَبُ، وَضَبَحَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَيْضًا. قَالَ تَوْبَةُ:
وَلَوْ أَنَّ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةَ سَلَّمَتْ ... عَلَيَّ وَدُونِي تُرْبَةٌ «2» وَصَفَائِحُ
لَسَلَّمْتُ تَسْلِيمَ الْبَشَاشَةِ أَوْ زَقَا ... إِلَيْهَا صَدًى مِنْ جَانِبٍ الْقَبْرِ ضَابِحُ «3»
زَقَا الصَّدَى يَزْقُو زُقَاءً «4»: أَيْ صَاحَ. وَكُلُّ زَاقٍ صَائِحٍ. وَالزَّقْيَةُ: الصَّيْحَةُ. (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ: هِيَ الْخَيْلُ حِينَ تُورِي النَّارَ بِحَوَافِرِهَا، وَهِيَ سَنَابِكُهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَوْرَتْ بِحَوَافِرِهَا غُبَارًا. وَهَذَا يُخَالِفُ سَائِرَ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي قَدْحِ النَّارِ، وَإِنَّمَا هَذَا فِي الْإِبِلِ. وَرَوَى ابْنُ نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ فِي الْقِتَالِ وَهُوَ فِي الْحَجِّ. ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ الْإِبِلُ تَطَأُ الْحَصَى، فَتَخْرُجُ مِنْهَا النَّارُ. وَأَصْلُ الْقَدْحِ الِاسْتِخْرَاجُ،
__________
(1). في اللسان مادة (عدا): (وحكى الأزهري عن ابن السكيت (وابل عادية: ترعى الخلة ولا ترعى الحمض .. ) وقال: وكذلك العاديات) وساق البيت. وفي اللسان أيضا مادة (رضع): (وناقة واضع وواضعة ونوق واضعات: ترعى الحمض حول الماء. وأنشد ابن برى قول الشاعر ... ) إلخ. ولفظ (القوامس) هكذا ورد في اللسان وشرح القاموس. وبعض نسخ الأصل. وفي نسخة: (القرامس) بالراء. ولعل الصواب: (العرامس) جمع عرمس (بكسر العين): وهي الناقة الصلبة الشديدة.
(2). في نسخة: (جندل) وهي رواية في البيت.
(3). في رواية صائح. ولا شاهد فيه. [ ..... ]
(4). في اللسان: (زقا يزقو ويزقى زقوا وزقاء وزقوا وزقيا وزقيا وزقيا.)

(20/156)


وَمِنْهُ قَدَحْتُ الْعَيْنَ: إِذَا أَخْرَجْتُ مِنْهَا الْمَاءَ الْفَاسِدَ. وَاقْتَدَحْتُ بِالزَّنْدِ. وَاقْتَدَحْتُ الْمَرَقَ: غَرَفْتُهُ. وَرَكِيٌّ قَدُوحٌ: تُغْتَرَفُ بِالْيَدِ. وَالْقَدِيحُ: مَا يَبْقَى فِي أَسْفَلِ الْقِدْرِ، فَيُغْرَفُ بِجَهْدٍ. وَالْمِقْدَحَةُ: مَا تُقْدَحُ بِهِ النَّارَ. وَالْقَدَّاحَةُ وَالْقَدَّاحُ: الْحَجَرُ الَّذِي يُورِي النَّارَ. يُقَالُ: وَرَى الزَّنْدُ (بِالْفَتْحِ) يَرِي وَرْيًا: إِذَا خَرَجَتْ نَارُهُ. وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى: وَرِيَ الزَّنْدُ (بِالْكَسْرِ) يَرِي فِيهِمَا. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَةِ" الْوَاقِعَةٍ" «1». وقَدْحاً انْتُصِبَ بِمَا انْتُصِبَ بِهِ ضَبْحاً. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْخَيْلِ، وَلَكِنَّ إِيرَاءَهَا: أَنْ تُهَيِّجَ الْحَرْبَ بَيْنَ أَصْحَابِهَا وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ. وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْحَرْبِ إِذَا الْتَحَمَتْ: حَمِيَ الْوَطِيسُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ «2» [المائدة: 64]. وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَقَالَهُ قَتَادَةُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَقَالَهُ قَتَادَةُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُورَيَاتِ قَدْحًا: مَكْرُ الرِّجَالِ فِي الْحَرْبِ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِذَا أَرَادَ الرَّجُلَ أَنْ يَمْكُرَ بِصَاحِبِهِ: وَاللَّهِ لَأَمْكُرَنَّ بِكَ، ثُمَّ لَأُورِيَنَّ لَكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُمُ الَّذِينَ يَغْزُونَ فَيُورُونَ نِيرَانَهُمْ بِاللَّيْلِ، لِحَاجَتِهِمْ وَطَعَامِهِمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهَا نِيرَانُ الْمُجَاهِدِينَ إِذَا كَثُرَتْ نَارُهَا إِرْهَابًا. وَكُلُّ مَنْ قَرُبَ مِنَ الْعَدُوِّ يُوقِدُ نِيرَانًا كَثِيرَةً لِيَظُنَّهُمُ الْعَدُوُّ كَثِيرًا. فَهَذَا إِقْسَامٌ بِذَلِكَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هِيَ النَّارُ تُجْمَعُ. وَقِيلَ: هِيَ أَفْكَارُ الرِّجَالِ تُورِي نَارَ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هِيَ أَلْسِنَةُ الرِّجَالِ تُورِي النَّارَ مِنْ عَظِيمِ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيَظْهَرُ بِهَا، مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَجِ، وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ، وَإِيضَاحِ الْحَقِّ، وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْحٍ عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: فَالْمُنْجِحَاتِ أَمْرًا وَعَمَلًا، كَنَجَاحِ الزَّنْدِ إِذَا أَوُرِيَ. قُلْتُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ مَجَازٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ يُورِي زِنَادَ الضَّلَالَةِ. وَالْأَوَّلُ: الْحَقِيقَةُ، وَأَنَّ الْخَيْلَ مِنْ شِدَّةِ عَدْوِهَا تَقْدَحُ النَّارَ بِحَوَافِرِهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْعَرَبُ تُسَمِّي تِلْكَ النَّارَ نَارَ أَبِي حُبَاحِبٍ، وَكَانَ أَبُو حُبَاحِبٍ شَيْخًا مِنْ مُضَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِنْ أَبْخَلِ النَّاسِ، وَكَانَ لَا يُوقِدُ نَارًا لِخُبْزٍ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى تَنَامَ الْعُيُونُ، فَيُوقِدَ نُوَيْرَةً تَقِدُ مَرَّةً وَتَخْمَدُ أُخْرَى، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ لها أحد
__________
(1). راجع ج 17 ص (221)
(2). آية 64 سورة المائدة.

(20/157)


فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)

أَطْفَأَهَا، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا أَحَدٌ. فَشَبَّهَتِ العرب هذه النار بناره، لأنه لا ينتقع بِهَا. وَكَذَلِكَ إِذَا وَقَعَ السَّيْفُ عَلَى الْبَيْضَةِ فَاقْتَدَحَتْ نَارًا، فَكَذَلِكَ يُسَمُّونَهَا. قَالَ النَّابِغَةُ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
تَقُدُّ السَّلُوقِيَّ الْمُضَاعَفَ نَسْجُهُ ... وَتُوقِدُ بِالصِّفَاحِ نَارَ الحباحب «1»

[سورة العاديات (100): آية 3]
فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3)
الْخَيْلُ تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ عِنْدَ الصُّبْحِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا الْغَارَةَ سَرَوْا لَيْلًا، وَيَأْتُونَ الْعَدُوَّ صُبْحًا، لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ غَفْلَةِ النَّاسِ. وَمِنْهُ قوله تعالى: فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ «2» [الصافات: 177]. وَقِيلَ: لِعِزِّهِمْ أَغَارُوا نَهَارًا، وصُبْحاً عَلَى هَذَا، أَيْ عَلَانِيَةً، تَشْبِيهًا بِظُهُورِ الصُّبْحِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ الْإِبِلُ تُدْفَعُ بِرُكْبَانِهَا يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ مِنًى إِلَى جَمْعٍ. وَالسُّنَّةُ أَلَّا تُدْفَعَ حَتَّى تُصْبِحَ، وَقَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَالْإِغَارَةُ: سُرْعَةُ السَّيْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَشْرِقْ ثبير «3»، كيما نغير.

[سورة العاديات (100): آية 4]
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
أَيْ غُبَارًا، يَعْنِي الْخَيْلُ تُثِيرُ الْغُبَارَ بِشِدَّةِ الْعَدْو فِي الْمَكَانِ الَّذِي أغارت به. قال عبد الله ابن رَوَاحَةَ:
عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كَدَاءِ «4»
وَالْكِنَايَةُ فِي بِهِ تَرْجِعُ إِلَى الْمَكَانِ أَوْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ الْإِغَارَةُ. وَإِذَا عُلِمَ الْمَعْنَى جَازَ أَنْ يُكَنَّى عَمَّا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ بالتصريح، كما قال حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «5» [ص: 32]. وقيل: فَأَثَرْنَ بِهِ،
__________
(1). السلوقي: الدرع المنسوبة إلى سلوق قرية باليمن. والصفاح: جمع صفاحة وهي الحجر العريض.
(2). آية 177 سورة الصافات.
(3). ثبير: جبل بقرب مكة وهو على يمين الذاهب إلى عرفة. أي ادخل في الشروق وهو ضوء الشمس.
(4). كداء (بفتح الكاف ومد الدال): جبل بمكة. والهاء في تروها: راجعة إلى الخيل المفهومة من السياق. ورواية صدر البيت في الشوكاني 469/ 5: (عدمنا خيلنا ... ).
(5). آية 32 سورة ص.

(20/158)


أَيْ بِالْعَدْوِ (نَقْعاً). وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعَدْوِ. وَقِيلَ: النَّقْعُ: مَا بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى، قاله محمد ابن كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّهُ طَرِيقُ الْوَادِي، وَلَعَلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْغُبَارِ الْمُثَارِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَفِي الصِّحَاحِ: النَّقْعُ: الْغُبَارُ، وَالْجَمْعُ: نِقَاعٍ. وَالنَّقْعُ: مَحْبِسُ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ مَا اجْتَمَعَ فِي الْبِئْرِ مِنْهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُمْنَعَ نَقْعُ الْبِئْرِ. وَالنَّقْعُ الْأَرْضُ الْحَرَّةُ الطِّينِ يُسْتَنْقَعُ فِيهَا الْمَاءُ، وَالْجَمْعُ: نِقَاعٌ وَأَنْقُعٌ، مِثْلُ بَحْرٍ وَبِحَارٍ وَأَبْحُرٍ. قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ النَّقْعُ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ حِينَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ النِّسَاءَ قَدِ اجْتَمَعْنَ يَبْكِينَ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَقَالَ: وَمَا عَلَى نِسَاءِ بَنِي الْمُغِيرَةِ أَنْ يَسْفِكْنَ مِنْ دُمُوعِهِنَّ وَهُنَّ جُلُوسٌ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ، وَلَا لَقْلَقَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي بِالنَّقْعِ رَفْعَ الصَّوْتِ، عَلَى هَذَا رَأَيْتُ قَوْلَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
فَمَتَى يَنْقَعْ صُرَاخٌ صَادِقٌ ... يُحْلِبُوهَا ذَاتَ جَرْسٍ وَزَجَلْ
وَيُرْوَى" يَحْلِبُوهَا" أَيْضًا. يَقُولُ: مَتَى سَمِعُوا صُرَاخًا أَحَلَبُوا الْحَرْبَ، أَيْ جَمَعُوا لَهَا. وَقَوْلُهُ" يَنْقَعْ صُرَاخٌ": يَعْنِي رَفْعَ الصَّوْتِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: قَوْلُهُ" نَقْعٌ وَلَا لَقْلَقَةٌ" النَّقْعُ: صَنْعَةُ الطَّعَامِ، يَعْنِي فِي الْمَأْتَمِ. يُقَالُ مِنْهُ: نَقَعْتُ أَنْقَعُ نَقْعًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ذَهَبَ بِالنَّقْعِ إِلَى النَّقِيعَةِ، وَإِنَّمَا النَّقِيعَةُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ: صَنْعَةُ الطَّعَامِ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ سَفَرٍ، لَا فِي الْمَأْتَمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُرِيدُ عُمَرُ بِالنَّقْعِ: وَضْعُ التُّرَابِ عَلَى الرَّأْسِ، يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ النَّقْعَ هُوَ الْغُبَارُ. وَلَا أَحْسَبُ عُمَرَ ذَهَبَ إِلَى هَذَا، وَلَا خَافَهُ مِنْهُنَّ، وَكَيْفَ يَبْلُغُ خَوْفُهُ ذَا وَهُوَ يَكْرَهُ لَهُنَّ الْقِيَامَ. فَقَالَ: يَسْفِكْنَ مِنْ دُمُوعِهِنَّ وَهُنَّ جُلُوسٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: النَّقْعُ: شَقُّ الْجُيُوبِ، وَهُوَ الَّذِي لَا أَدْرِي مَا هُوَ مِنَ الْحَدِيثِ وَلَا أَعْرِفُهُ، وَلَيْسَ النَّقْعُ عِنْدِي فِي الْحَدِيثِ إِلَّا الصَّوْتَ الشَّدِيدَ، وَأَمَّا اللَّقْلَقَةُ: فَشِدَّةُ الصَّوْتِ، وَلَمْ أَسْمَعْ فِيهِ اخْتِلَافًا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ (فَأَثَّرْنَ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ أَرَتْ آثَارَ ذَلِكَ. وَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ مِنْ أَثَارَ: إذا حرك، ومنه وَأَثارُوا الْأَرْضَ «1» [الروم: 9].
__________
(1). آية 9 سورة الروم.

(20/159)


فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)

[سورة العاديات (100): آية 5]
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5)
جَمْعاً مفعول ب فَوَسَطْنَ، أَيْ فَوَسَطْنَ بِرُكْبَانِهِنَّ الْعَدُوَّ، أَيِ الْجَمْعَ الَّذِي أَغَارُوا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً: يَعْنِي مُزْدَلِفَةَ، وَسُمِّيَتْ جَمْعًا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ. وَيُقَالُ: وَسَطْتُ الْقَوْمَ أَسِطُهُمْ وَسْطًا وَسِطَةً، أَيْ صِرْتُ وَسْطُهُمْ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (فَوَسَّطْنَ) بِالتَّشْدِيدِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ قَتَادَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي رَجَاءٍ، لُغَتَانِ بِمَعْنًى، يُقَالُ: وَسَطْتُ الْقَوْمَ (بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ) وَتَوَسَّطَهُمْ: بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى التَّشْدِيدِ: جَعْلُهَا الْجَمْعَ قِسْمَيْنِ. وَالتَّخْفِيفِ: صِرْنَ فِي وَسَطِ الْجَمْعِ، وَهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنَى الْجَمْعِ.

[سورة العاديات (100): آية 6]
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ طُبِعَ الْإِنْسَانُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَكَنُودٌ لَكَفُورٌ جَحُودٍ لِنِعَمِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ. وَقَالَ: يَذْكُرُ الْمَصَائِبَ وَيَنْسَى النِّعَمَ. أَخَذَهُ الشَّاعِرُ فَنَظَمَهُ:
يَا أَيُّهَا الظَّالِمُ فِي فِعْلِهِ ... وَالظُّلْمُ مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ ظَلَمْ
إِلَى مَتَى أَنْتَ وَحَتَّى مَتَى ... تَشْكُو الْمُصِيبَاتِ وَتَنْسَى النِّعَمْ!
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْكَنُودُ، هُوَ الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ «1»، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ). وَرَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ)؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (مَنْ نَزَلَ وَحْدَهُ، وَمَنَعَ رِفْدَهُ، وَجَلَدَ عَبْدَهُ). خَرَّجَهُمَا التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الْكَنُودُ بِلِسَانِ كِنْدَةَ وَحَضْرَمَوْتَ: الْعَاصِي، وَبِلِسَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ: الْكَفُورُ. وَبِلِسَانِ كِنَانَةَ: الْبَخِيلُ السَّيِّئُ الْمَلَكَةِ، وَقَالَهُ مُقَاتِلٌ: وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَنُودٌ لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ وَمَنْ يَكُنْ ... كَنُودًا لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ يُبَعَّدِ
__________
(1). الرفد (بكسر الراء): العطاء والصلة.

(20/160)


أَيْ كَفُورٌ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ الَّذِي يَكْفُرُ بِالْيَسِيرِ، وَلَا يَشْكُرُ الْكَثِيرَ. وَقِيلَ: الْجَاحِدُ لِلْحَقِّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ كِنْدَةُ كِنْدَةَ، لِأَنَّهَا جَحَدَتْ أَبَاهَا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَرْمَةَ الشَّاعِرُ:
دَعِ الْبُخَلَاءَ إِنْ شَمَخُوا وَصَدُّوا ... وَذِكْرَى بُخْلِ غَانِيَةٍ كَنُودِ
وَقِيلَ: الْكَنُودُ: مِنْ كَنَدَ إِذَا قَطَعَ، كَأَنَّهُ يَقْطَعُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَاصِلَهُ مِنَ الشُّكْرِ. وَيُقَالُ: كَنَدَ الْحَبْلَ: إِذَا قَطَعَهُ. قَالَ الْأَعْشَى:
أَمِيطِي «1» تُمِيطِي بِصُلْبِ الْفُؤَادِ ... وَصُولِ حِبَالٍ وَكَنَّادِهَا
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ. وَيُقَالُ: كَنَدَ يَكْنُدُ كُنُودًا: أَيْ كَفَرَ النِّعْمَةَ وَجَحَدَهَا، فَهُوَ كنود. وامرأة كنود أيضا، وكند مِثْلُهُ. قَالَ الْأَعْشَى:
أَحْدِثْ لَهَا تُحْدِثُ لِوَصْلِكَ إِنَّهَا ... كُنُدٌ لِوَصْلِ الزَّائِرِ الْمُعْتَادِ «2»
أَيْ كَفُورٌ لِلْمُوَاصَلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِنْسَانُ هُنَا الْكَافِرُ، يَقُولُ إِنَّهُ لَكَفُورٌ، وَمِنْهُ الْأَرْضُ الْكَنُودُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْكَنُودُ: الْمَانِعُ لِمَا عَلَيْهِ. وَأَنْشَدَ لِكَثِيرٍ:»
أَحْدِثْ لَهَا تُحْدِثُ لِوَصْلِكَ إِنَّهَا ... كُنُدٌ لِوَصْلِ الزَّائِرِ الْمُعْتَادِ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ: الْكَنُودُ: الَّذِي يُنْفِقُ نِعَمَ اللَّهِ فِي مَعَاصِي اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْكَنُودُ: الَّذِي يَرَى النِّعْمَةَ مِنْ نَفْسِهِ وَأَعْوَانِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: الَّذِي يَرَى النِّعْمَةَ وَلَا يَرَى الْمُنْعِمَ. وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: الْهَلُوعُ وَالْكَنُودُ: هُوَ الَّذِي إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعٌ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعٌ. وَقِيلَ: هُوَ الْحَقُودُ الْحَسُودُ. وَقِيلَ: هُوَ الْجَهُولُ لِقَدْرِهِ. وَفِي الْحِكْمَةِ: من جهل قدرة: هتك ستره.
__________
(1). ماط الأذى ميطا وأماطه: نجاه ودفنه. يقول إن تنحيت عنى باني صلب الفؤاد وصول لمن وصل، كفور لمن كفر. ورواية صدر البيت في اللسان. فميطى أي تنحى واذهبي.
(2). المعتاد: الذي يعود مرة بعد أخرى.
(3). تقدم أن هذا البيت للأعشى وهو في ديوان، ولم نجده في ديوان كثير الذي بين أيدينا.

(20/161)


وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)

قُلْتُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْكُفْرَانِ وَالْجُحُودِ. وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى الْكَنُودِ بِخِصَالٍ مَذْمُومَةٍ، وَأَحْوَالٍ غَيْرِ مَحْمُودَةٍ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ أَعْلَى مَا يقال، ولا يبقى لاحد معه مقال.

[سورة العاديات (100): آية 7]
وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
أَيْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنِ ابْنِ آدَمَ لَشَهِيدٌ. كَذَا رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ عباس. وقال الحسن وقتادة ومحمد ابن كَعْبٍ: وَإِنَّهُ أَيْ وَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَشَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يَصْنَعُ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا.

[سورة العاديات (100): آية 8]
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ) أَيِ الْإِنْسَانَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. (لِحُبِّ الْخَيْرِ) أَيِ الْمَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً «1» [البقرة: 180]. وَقَالَ عَدِيٌّ:
مَاذَا تُرَجِّي النُّفُوسُ مِنْ طَلَبٍ الْ ... - خَيْرِ وَحُبُّ الْحَيَاةِ كَارِبُهَا «2»
(لَشَدِيدٌ) أَيْ لَقَوِيٌّ فِي حُبِّهِ لِلْمَالِ. وَقِيلَ: لَشَدِيدٌ لَبَخِيلٌ. وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ: شَدِيدٌ وَمُتَشَدِّدٌ. قَالَ طَرَفَةُ:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ

يُقَالُ: اعْتَامَهُ وَاعْتَمَاهُ، أَيِ اخْتَارَهُ. وَالْفَاحِشُ: الْبَخِيلُ أَيْضًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ «3» [البقرة: 268] أَيِ الْبُخْلِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: سَمَّى اللَّهُ الْمَالَ خَيْرًا، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ شَرًّا وَحَرَامًا «4»، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَهُ خَيْرًا، فَسَمَّاهُ اللَّهُ خَيْرًا لذلك. وسمي الجهاد سواء، فَقَالَ: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ «5» [آل عمران: 174] عَلَى مَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: نَظْمُ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّهُ لَشَدِيدُ الْحُبِّ لِلْخَيْرِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ الْحُبُّ قَالَ: شَدِيدٌ، وَحُذِفَ مِنْ آخره
__________
(1). آية 180 سورة البقرة. [ ..... ]
(2). كاربها: غامها من كربه الامر: اشتد عليه.
(3). آية 268 سورة البقرة.
(4). في بعض نسخ الأصل: (شرا وخيرا).
(5). آية 174 سورة آل عمران.

(20/162)


أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

ذِكْرُ الْحُبِّ، لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ، وَلِرُءُوسِ الآي، كقوله تعالى: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «1» [إبراهيم: 18] وَالْعُصُوفُ: لِلرِّيحِ لَا الْأَيَّامِ، فَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الرِّيحِ قَبْلَ الْيَوْمِ، طُرِحَ مِنْ آخِرِهِ ذِكْرُ الرِّيحِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيحِ.

[سورة العاديات (100): الآيات 9 الى 11]
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَلا يَعْلَمُ) أَيِ ابْنُ آدَمَ (إِذا بُعْثِرَ) أَيْ أُثِيرَ وَقُلِبَ وَبُحِثَ، فَأُخْرِجَ مَا فِيهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بَعْثَرْتُ الْمَتَاعَ: جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: ذَلِكَ حِينَ يُبْعَثُونَ. الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَعْرَابِ بَنِي أَسَدٍ يَقْرَأُ:" بُحْثِرَ" بِالْحَاءِ مَكَانَ الْعَيْنِ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُمَا بِمَعْنًى. (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) أَيْ مُيِّزَ مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، كَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُبْرِزَ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ" وَحَصَلَ" بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ وَفَتْحِهَا، أَيْ ظَهَرَ. (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أَيْ عَالِمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ. وَهُوَ عَالِمٌ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَوْلُهُ: إِذا بُعْثِرَ الْعَامِلُ فِي إِذا: بُعْثِرَ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ يَعْلَمُ، إِذْ لَا يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ مِنَ الْإِنْسَانِ ذَلِكَ الْوَقْتَ، إِنَّمَا يُرَادُ في الدنيا. ولا يعمل فيه لَخَبِيرٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِنَّ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قبلها. والعامل في يَوْمَئِذٍ: لَخَبِيرٌ، وَإِنْ فَصَلَتِ اللَّامُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ مَوْضِعَ اللَّامِ الِابْتِدَاءُ. وَإِنَّمَا دَخَلَتْ فِي الْخَبَرِ لِدُخُولِ إِنَّ عَلَى الْمُبْتَدَأِ. وَيُرْوَى أَنَّ الْحَجَّاجَ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَحُضُّهُمْ عَلَى الْغَزْوِ، فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ: أَنَّ رَبَّهُمْ بِفَتْحِ الْأَلِفِ، ثُمَّ استدركها فقال: لَخَبِيرٌ بِغَيْرِ لَامٍ. وَلَوْلَا اللَّامُ لَكَانَتْ مَفْتُوحَةً، لِوُقُوعِ الْعِلْمِ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ أَنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ خَبِيرٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
__________
(1). آية 18 سورة إبراهيم.

(20/163)


الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)

[تفسير سورة القارعة]
تَفْسِيرُ سُورَةِ" الْقَارِعَةِ" وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ. وَهِيَ عشر آيات «1» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القارعة (101): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) أَيِ الْقِيَامَةُ وَالسَّاعَةُ، كَذَا قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ. وَذَلِكَ أَنَّهَا تَقْرَعُ الْخَلَائِقَ بِأَهْوَالِهَا وَأَفْزَاعِهَا. وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: تَقُولُ الْعَرَبُ قَرَعَتْهُمُ الْقَارِعَةُ، وَفَقَرَتْهُمُ الْفَاقِرَةُ، إِذَا وَقَعَ بِهِمْ أَمْرٌ فَظِيعٌ. قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ:
وَقَارِعَةٍ مِنَ الْأَيَّامِ لَوْلَا ... سَبِيلُهُمْ لَزَاحَتْ «2» عَنْكَ حِينَا
وَقَالَ آخَرُ:
مَتَى تَقْرَعْ بِمَرْوَتِكُمْ «3» نَسُؤْكُمْ ... وَلَمْ تُوقَدْ لَنَا فِي الْقِدْرِ نَارُ
وَقَالَ تَعَالَى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ «4» [الرعد: 31] وَهِيَ الشَّدِيدَةُ مِنْ شَدَائِدِ الدَّهْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا الْقارِعَةُ) استفهام، أي أي شي هِيَ الْقَارِعَةُ؟ وَكَذَا (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهَا، كَمَا قَالَ: الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ. وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1] على ما تقدم «5».
__________
(1). في كتاب روح المعاني: وآيها إحدى عشرة آية في الكوفي وعشر في الحجازي وثمان في البصري والشامي.
(2). في بعض النسخ: (لراحت) بالراء.
(3). المروة: حجر يقدح منه النار.
(4). آية 31 سورة الرعد.
(5). راجع ج 18 ص 257.

(20/164)


يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)

[سورة القارعة (101): آية 4]
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، تَقْدِيرُهُ: تَكُونُ الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ. قَالَ قَتَادَةُ: الْفَرَاشُ الطَّيْرُ الَّذِي يَتَسَاقَطُ فِي النَّارِ وَالسِّرَاجِ. الْوَاحِدُ فَرَاشَّةٌ، وَقَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ الْهَمَجُ الطَّائِرُ، مِنْ بَعُوضٍ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُ الْجَرَادُ. وَيُقَالُ: هُوَ أَطْيَشُ مِنْ فَرَاشَةٍ. وَقَالَ:
طُوَيِّشٌ مِنْ نَفَرٍ أَطْيَاشِ ... أَطْيَشُ مِنْ طَائِرَةِ الْفَرَاشِ
وَقَالَ آخَرُ:
وَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ رَدَدْتُ قُلُوبَهُمْ ... إِلَيْهِمْ «1» وَكَانُوا كَالْفَرَاشِ مِنَ الْجَهْلِ
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا، وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي (. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْمَبْثُوثُ الْمُتَفَرِّقُ. وَقَالَ في موضع آخر: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ «2» [القمر: 7]. فَأَوَّلُ حَالِهِمْ كَالْفَرَاشِ لَا وَجْهَ لَهُ، يَتَحَيَّرُ فِي كُلِّ وَجْهٍ، ثُمَّ يَكُونُونَ كَالْجَرَادِ، لِأَنَّ لَهَا وَجْهًا تَقْصِدُهُ. وَالْمَبْثُوثُ: الْمُتَفَرِّقُ وَالْمُنْتَشِرُ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ عَلَى اللَّفْظِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «3» [القمر: 20] وَلَوْ قَالَ الْمَبْثُوثَةُ [فَهُوَ «4»] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «5» [الحاقة: 7]. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْفَرَّاءُ: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ كَغَوْغَاءِ الْجَرَادِ، يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. كَذَلِكَ النَّاسُ، يَجُولُ بعضهم في بعض إذا بعثوا.

[سورة القارعة (101): آية 5]
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
أَيِ الصُّوفِ الَّذِي يُنْفَشُ بِالْيَدِ، أَيْ تَصِيرُ هَبَاءً وَتَزُولُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: هَباءً مُنْبَثًّا «6» [الواقعة: 6] وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: الْعِهْنُ الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ. وَقَدْ مضى في سورة (سأل سائل) «7».
__________
(1). في بعض النسخ: (عليهم).
(2). آية 7 سورة القمر.
(3). آية 20 سورة القمر.
(4). الزيادة من تفسير ابن عادل يقتضيها السياق. [ ..... ]
(5). آية 7 سورة الحاقة.
(6). آية 6 سورة الواقعة.
(7). راجع ج 18 ص 284.

(20/165)


فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)

[سورة القارعة (101): الآيات 6 الى 11]
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ (10)
نارٌ حامِيَةٌ (11)
قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْمِيزَانِ فِي" الْأَعْرَافِ وَالْكَهْفِ وَالْأَنْبِيَاءِ" «1». وَأَنَّ لَهُ كِفَّةً وَلِسَانًا تُوزَنُ فِيهِ الصحف المكتوب فيها الحسانات وَالسَّيِّئَاتُ. ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ بِيَدِ جِبْرِيلَ يَزِنُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بلفظ الجوع. وقيل: موازين، كما قال:
فَلِكُلِّ حَادِثَةٍ لَهَا مِيزَانُ «2»

وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ «3». وَذَكَرْنَاهُ أَيْضًا فِي كِتَابٍ" التَّذْكِرَةِ" وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوَازِينَ الْحُجَجُ وَالدَّلَائِلُ، قَالَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَدْ كُنْتُ قل لِقَائِكُمْ ذَا مِرَّةٍ ... عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهُ
ومعنى (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أَيْ عَيْشٍ مَرْضِيٍّ، يَرْضَاهُ صَاحِبُهُ. وَقِيلَ: عِيشَةٍ راضِيَةٍ أَيْ فَاعِلَةٍ لِلرِّضَا، وَهُوَ اللِّينُ وَالِانْقِيَادُ لِأَهْلِهَا. فَالْفِعْلُ لِلْعِيشَةِ لِأَنَّهَا أَعْطَتِ الرِّضَا مِنْ نَفْسِهَا، وَهُوَ اللِّينُ وَالِانْقِيَادُ. فَالْعِيشَةُ كَلِمَةٌ تَجْمَعُ النِّعَمَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ، فَهِيَ فَاعِلَةٌ لِلرِّضَا، كَالْفُرُشِ الْمَرْفُوعَةِ، وَارْتِفَاعُهَا مِقْدَارُ مِائَةِ عَامٍ، فَإِذَا دَنَا مِنْهَا وَلِيُّ اللَّهِ اتَّضَعَتْ حَتَّى يَسْتَوِيَ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَرْتَفِعُ كَهَيْئَتِهَا، وَمِثْلُ الشَّجَرَةِ فَرْعُهَا، كَذَلِكَ أَيْضًا مِنَ الِارْتِفَاعِ، فَإِذَا اشْتَهَى وَلِيُّ اللَّهِ ثَمَرَتَهَا تَدَلَّتْ إِلَيْهِ، حَتَّى يَتَنَاوَلَهَا وَلِيُّ اللَّهِ قَاعِدًا وَقَائِمًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: قُطُوفُها دانِيَةٌ «4» [الحاقة: 23]. وَحَيْثُمَا مَشَى أَوْ يَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، جَرَى مَعَهُ نَهْرٌ حَيْثُ شَاءَ، عُلُوًّا وسفلا، وذلك قوله تعالى: يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً «5» [الإنسان: 6]. فيروى في الخبر (إنه يشير بقضيبه فَيَجْرِي مِنْ غَيْرِ أُخْدُودٍ حَيْثُ شَاءَ مِنْ قُصُورِهِ وَفِي مَجَالِسِهِ). فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا عِيشَةٌ قد أعطت الرضا من نفسها، فهي
__________
(1). راجع ج 7 ص 165 وما بعدها. وج 11 ص 66 وص (293)
(2). صدر البيت:
ملك تقوم الحادثات لعدله

(3). راجع ج 11 ص (293)
(4). آية 23 سورة الحاقة.
(5). آية 6 سورة الإنسان.

(20/166)


فَاعِلَةٌ لِلرِّضَا، وَهِيَ انْذَلَّتْ وَانْقَادَتْ بَذْلًا وَسَمَاحَةً. وَمَعْنَى (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) يَعْنِي جَهَنَّمُ. وَسَمَّاهَا أُمًّا، لِأَنَّهُ يَأْوِي إِلَيْهَا كَمَا يَأْوِي إِلَى أُمِّهِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَمِنْهُ قَوْلِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
فَالْأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أُمَّنَا ... فِيهَا مَقَابِرُنَا وَفِيهَا نُولَدُ
وَسُمِّيَتِ النَّارُ هَاوِيَةً، لِأَنَّهُ يُهْوَى فِيهَا مَعَ بُعْدِ قَعْرِهَا. وَيُرْوَى أَنَّ الْهَاوِيَةَ اسْمُ الْبَابِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ فَمَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ. عِكْرِمَةُ: لِأَنَّهُ يَهْوِي فِيهَا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ. الأخفش: فَأُمُّهُ: مستقره، والمعنى متقارب. وقال الشاعر:
يا عمر لَوْ نَالَتْكُ أَرْمَاحُنَا ... كُنْتَ كَمَنْ تَهْوِي بِهِ الْهَاوِيَةُ
وَالْهَاوِيَةُ: الْمَهْوَاةُ. وَتَقُولُ: هَوَتْ أُمُّهُ، فَهِيَ هَاوِيَةٌ، أَيْ ثَاكِلَةٌ، قَالَ كَعْبُ بْنُ سَعْدٍ الْغَنَوِيُّ:
هَوَتْ أُمُّهُ «1» مَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ غَادِيًا ... وَمَاذَا يُؤَدِّي اللَّيْلُ حِينَ يَئُوبُ
وَالْمَهْوَى وَالْمَهْوَاةُ: مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَتَهَاوَى الْقَوْمُ فِي الْمَهْوَاةِ: إِذَا سَقَطَ بَعْضُهُمْ فِي إِثْرِ بَعْضٍ. (وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ) الْأَصْلُ" مَا هِيَ" فَدَخَلَتِ الْهَاءُ لِلسَّكْتِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" مَا هِيَ نَارٌ" بِغَيْرِ هَاءٍ فِي الْوَصْلِ، وَوَقَفُوا بِهَا. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ «2» بَيَانُهُ. (نارٌ حامِيَةٌ) أَيْ شَدِيدَةُ الْحَرَارَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ) قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ (فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا). وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا ثَقُلَ مِيزَانُ مَنْ ثَقُلَ مِيزَانُهُ، لِأَنَّهُ وُضِعَ فِيهِ الْحَقُّ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ يَكُونُ فِيهِ الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا. وَإِنَّمَا خَفَّ مِيزَانُ مَنْ خَفَّ مِيزَانُهُ، لِأَنَّهُ وُضِعَ فِيهِ الْبَاطِلُ، وَحَقَّ لِمِيزَانٍ يَكُونُ فِيهِ الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا. وَفِي الْخَبَرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّ الْمَوْتَى يَسْأَلُونَ الرَّجُلَ يَأْتِيهِمْ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ قَبْلَهُ، فَيَقُولُ ذَلِكَ مَاتَ قَبْلِي، أَمَا مَرَّ بِكُمْ؟ فَيَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ، فَيَقُولُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجحون! ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الام، وبئست الْمُرَبِّيَةُ (. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِكَمَالِهِ فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ"، وَالْحَمْدُ لله.
__________
(1). البيت في اللسان: (أمم).
(2). راجع ج 18 ص 269

(20/167)


أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)

[تفسير سورة التكاثر]
تَفْسِيرُ سُورَةِ" التَّكَاثُرِ" وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَهِيَ ثمان آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التكاثر (102): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى (ألهاكم التكاثر) أَلْهاكُمُ شغلكم. قال:
فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمِ مُغْيَلِ «1»

أَيْ شَغَلَكُمُ الْمُبَاهَاةُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْعَدَدِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، حَتَّى مِتُّمْ وَدُفِنْتُمْ فِي الْمَقَابِرِ. وَقِيلَ أَلْهاكُمُ: أَنْسَاكُمْ. التَّكاثُرُ أَيْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيِ التَّفَاخُرُ بِالْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ أَلْهَاكُمُ التَّشَاغُلُ بِالْمَعَاشِ وَالتِّجَارَةِ. يُقَالُ: لَهِيتُ عَنْ كَذَا (بِالْكَسْرِ) أَلْهَى لُهِيًّا وَلِهْيَانًا: إِذَا سَلَوْتُ عَنْهُ، وَتَرَكْتُ ذِكْرَهُ، وَأَضْرَبْتُ عَنْهُ. وَأَلْهَاهُ: أَيْ شَغَلَهُ. وَلَهَّاهُ بِهِ تَلْهِيَةً أَيْ عَلَّلَهُ. وَالتَّكَاثُرُ: الْمُكَاثَرَةُ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، وَبَنُو فُلَانٍ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، أَلْهَاهُمْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا ضُلَّالًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي فَخِذٍ مِنْ الْأَنْصَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي حَيَّيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ: بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَنِي سَهْمٍ، تَعَادُّوا وَتَكَاثَرُوا بِالسَّادَةِ وَالْأَشْرَافِ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ كُلُّ حَيٍّ مِنْهُمْ نَحْنُ أَكْثَرُ سَيِّدًا، وَأَعَزُّ عَزِيزًا، وَأَعْظَمُ نَفَرًا، وَأَكْثَرُ عَائِذًا، فَكَثَرَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ سَهْمًا. ثُمَّ تَكَاثَرُوا بِالْأَمْوَاتِ، فَكَثَرَتْهُمْ سَهْمٌ، فَنَزَلَتْ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ بأحيائكم فلم ترضوا
__________
(1). هذا عجز بيت من معلقة امرئ القيس وصدره:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

ويروى: (تمام محول)، أي قد أتى عليه الحول. و (المغيل): الذي تؤتى أمه وهي ترضعه.

(20/168)


حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ مُفْتَخِرِينَ بِالْأَمْوَاتِ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، وَنَحْنُ أَعَدُّ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ كُلُّ يَوْمٍ يَتَسَاقَطُونَ إِلَى آخِرِهِمْ، والله ما زالوا كَذَلِكَ حَتَّى صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ كُلُّهمْ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: حَلَفَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي التُّجَّارِ. وَعَنْ شَيْبَانَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. قُلْتُ: الْآيَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ وَغَيْرِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قَالَ: (يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي! وَهَلْ لَكَ يا بن آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت [وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس «1»]. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ، لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ (. قَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ: كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ، حَتَّى نَزَلَتْ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مَلِيحٌ،. غَابَ عَنْ أهل التفسير فجهلوا وجهلوا، وَالْحَمْدِ لِلَّهِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قَالَ: (تَكَاثُرُ الْأَمْوَالِ: جَمْعُهَا مِنْ غَيْرِ حَقِّهَا، وَمَنْعُهَا مِنْ حَقِّهَا، وَشَدُّهَا فِي الْأَوْعِيَةِ). الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أَيْ حَتَّى أَتَاكُمُ الْمَوْتُ، فَصِرْتُمْ فِي الْمَقَابِرِ زُوَّارًا، تَرْجِعُونَ مِنْهَا كَرُجُوعِ الزَّائِرِ إِلَى مَنْزِلِهِ مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ. يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ: قَدْ زَارَ قَبْرَهُ. وَقِيلَ: أَيْ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى عَدَدْتُمُ الْأَمْوَاتَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: هَذَا وَعِيدٌ. أَيِ اشْتَغَلْتُمْ بِمُفَاخَرَةِ الدُّنْيَا، حَتَّى تَزُورُوا الْقُبُورَ، فَتَرَوْا مَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: الْمَقابِرَ جَمْعُ مَقْبَرَةٍ وَمَقْبُرَةٍ (بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا). وَالْقُبُورُ: جمع القبر قال:
__________
(1). ما بين المربعين من رواية أبي هريرة في سند آخر لا من رواية مطرف (راجع صحيح مسلم).

(20/169)


أَرَى أَهْلَ الْقُصُورِ إِذَا أُمِيتُوا ... بَنَوْا فَوْقَ الْمَقَابِرِ بِالصُّخُورِ
أَبَوْا إِلَّا مُبَاهَاةً وَفَخْرًا ... عَلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى فِي الْقُبُورِ
وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ (الْمَقْبَرِ) قَالَ:
لِكُلِّ أُنَاسٍ مَقْبَرٌ بِفِنَائِهِمْ ... فَهُمْ يَنْقُصُونَ وَالْقُبُورُ تَزِيدُ «1»
وَهُوَ الْمَقْبُرِيُّ وَالْمَقْبَرِيُّ: لِأَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ «2»، وَكَانَ يَسْكُنُ الْمَقَابِرَ. وَقَبَرْتُ الْمَيِّتَ أَقْبِرُهُ وَأُقْبِرُهُ قَبْرًا، أَيْ دَفَنْتُهُ. وَأَقْبَرْتُهُ أَيْ أَمَرْتُ بِأَنْ يُقْبَرَ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" عَبَسَ" الْقَوْلُ فِيهِ «3». وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الرَّابِعَةُ- لَمْ يَأْتِ فِي التَّنْزِيلِ ذِكْرُ الْمَقَابِرِ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَزِيَارَتُهَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّوَاءِ لِلْقَلْبِ الْقَاسِي، لِأَنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ وَالْآخِرَةَ. وَذَلِكَ يَحْمِلُ عَلَى قِصَرِ الْأَمَلِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَتَرْكِ الرَّغْبَةِ فِيهَا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ) رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ). وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ بُرَيْدَةَ: (فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ). قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ. قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخِّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِي رُخْصَتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَرِهَ زِيَارَةَ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ، وَكَثْرَةِ جَزَعِهِنَّ. قُلْتُ: زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلرِّجَالِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، مُخْتَلَفٌ فِيهِ لِلنِّسَاءِ. أَمَّا الشَّوَابُّ فَحَرَامٌ عَلَيْهِنَّ الْخُرُوجُ، وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ فَمُبَاحٌ لَهُنَّ ذَلِكَ. وَجَائِزٌ لِجَمِيعِهِنَّ. ذَلِكَ إِذَا انْفَرَدْنَ بِالْخُرُوجِ عَنِ الرِّجَالِ، وَلَا يُخْتَلَفُ فِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ قَوْلُهُ: (زُورُوا الْقُبُورَ) عَامًّا. وَأَمَّا مَوْضِعٌ أَوْ وَقْتٌ يُخْشَى فِيهِ الْفِتْنَةُ مِنِ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَلَا يَحِلُّ وَلَا يجوز.
__________
(1). ذكر البيت صاحب تاج العروس مع بيت بعده (قبر) ونسبهما إلى عبد الله بن قطبة الحنفي.
(2). قال ابن قنينة في المعارف: أبو سعيد المقبري: اسمه كيسان روى عن عمر. وتوفى سنة مية. [ ..... ]
(3). راجع ج 19 ص 217

(20/170)


فبينا الرجل يحرج لِيَعْتَبِرَ، فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ فَيُفْتَتَنُ، وَبِالْعَكْسِ فَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَأْزُورًا غَيْرَ مَأْجُورٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ عِلَاجَ قَلْبِهِ وَانْقِيَادِهِ بِسَلَاسِلِ الْقَهْرِ إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، أَنْ يُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ «1» اللَّذَّاتِ، وَمُفَرِّقِ الْجَمَاعَاتِ، وَمُوتِمِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَيُوَاظِبُ عَلَى مُشَاهَدَةِ الْمُحْتَضَرِينَ، وَزِيَارَةِ قُبُورِ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ، يَنْبَغِي لِمَنْ قَسَا قَلْبُهُ، وَلَزِمَهُ ذَنْبُهُ، أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى دَوَاءِ دَائِهِ، وَيَسْتَصْرِخُ بِهَا عَلَى فِتَنِ الشَّيْطَانِ وَأَعْوَانِهِ، فَإِنِ انْتَفَعَ بِالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَانْجَلَتْ بِهِ قَسَاوَةُ قَلْبِهِ فَذَاكَ، وَإِنْ عَظُمَ عَلَيْهِ رَانُ قَلْبِهِ، وَاسْتَحْكَمَتْ فِيهِ دَوَاعِي الذَّنْبِ، فَإِنَّ مُشَاهَدَةَ الْمُحْتَضَرِينَ، وَزِيَارَةَ قُبُورِ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ، تَبْلُغُ فِي دَفْعِ ذَلِكَ مَا لَا يَبْلُغُهُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَوْتِ إِخْبَارٌ لِلْقَلْبِ بِمَا إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَقَائِمٌ لَهُ مَقَامَ التَّخْوِيفِ وَالتَّحْذِيرِ. وَفِي مُشَاهَدَةِ مَنِ احْتُضِرَ، وَزِيَارَةِ قَبْرِ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُعَايَنَةٌ وَمُشَاهَدَةٌ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَبْلَغَ مِنَ الْأَوَّلِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ) رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. فَأَمَّا الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْمُحْتَضَرِينَ، فَغَيْرُ مُمْكِنٍ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ لِمَنْ أَرَادَ عِلَاجَ قَلْبِهِ فِي سَاعَةٍ مِنَ السَّاعَاتِ. وَأَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ فَوُجُودُهَا أَسْرَعُ، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا أَلْيَقُ وَأَجْدَرُ. فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَزَمَ عَلَى الزِّيَارَةِ، أَنْ يَتَأَدَّبَ بِآدَابِهَا، وَيُحْضِرَ قَلْبَهُ فِي إِتْيَانِهَا، وَلَا يَكُونَ حَظُّهُ مِنْهَا التَّطْوَافُ عَلَى الْأَجْدَاثِ فَقَطْ، فَإِنَّ هَذِهِ حَالَةٌ تُشَارِكُهُ فِيهَا بَهِيمَةٌ. وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. بَلْ يَقْصِدُ بِزِيَارَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِصْلَاحِ فَسَادِ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْعِ الْمَيِّتِ بِمَا يَتْلُو عِنْدَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالدُّعَاءِ، وَيَتَجَنَّبُ الْمَشْيَ عَلَى الْمَقَابِرِ، وَالْجُلُوسَ عَلَيْهَا وَيُسَلِّمُ إِذَا دَخَلَ الْمَقَابِرَ وَإِذَا وَصَلَ إِلَى قَبْرِ مَيِّتِهِ الَّذِي يَعْرِفُهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَأَتَاهُ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، لِأَنَّهُ فِي زِيَارَتِهِ كَمُخَاطَبَتِهِ حَيًّا، وَلَوْ خَاطَبَهُ حَيًّا لَكَانَ الْأَدَبُ استقباله بوجهه، فكذلك ها هنا. ثُمَّ يَعْتَبِرُ بِمَنْ صَارَ تَحْتَ التُّرَابِ، وَانْقَطَعَ عَنِ الْأَهْلِ وَالْأَحْبَابِ، بَعْدَ أَنْ قَادَ الْجُيُوشَ وَالْعَسَاكِرَ، وَنَافَسَ الْأَصْحَابَ وَالْعَشَائِرَ، وَجَمَعَ الْأَمْوَالَ وَالذَّخَائِرَ، فَجَاءَهُ الْمَوْتُ فِي وَقْتٍ لَمْ يَحْتَسِبْهُ، وَهَوْلٍ لَمْ يَرْتَقِبْهُ. فَلْيَتَأَمَّلِ الزَّائِرُ حَالَ مَنْ مَضَى من إخوانه، ودرج من
__________
(1). هاذم (بالذال المعجمة) بمعنى قاطع، والمراد الموت إما لان ذكره يزهد فيها وإما لأنه إذا جاء لا يبقى من لذائذ الدنيا شيئا.

(20/171)


كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)

أَقْرَانِهِ الَّذِينَ بَلَغُوا الْآمَالَ، وَجَمَعُوا الْأَمْوَالَ، كَيْفَ انْقَطَعَتْ آمَالُهُمْ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ، وَمَحَا التُّرَابُ مَحَاسِنَ وُجُوهِهِمْ، وَافْتَرَقَتْ فِي الْقُبُورِ أَجْزَاؤُهُمْ، وَتَرَمَّلَ مِنْ بَعْدِهِمْ نِسَاؤُهُمْ، وَشَمِلَ ذُلُّ الْيُتْمِ أَوْلَادَهُمْ، وَاقْتَسَمَ غَيْرُهُمْ طَرِيفَهُمْ وَتِلَادَهُمْ. وَلْيَتَذَكَّرْ تَرَدُّدَهُمْ»
فِي الْمَآرِبِ، وَحِرْصَهُمْ عَلَى نَيْلِ الْمَطَالِبِ، وَانْخِدَاعَهِمْ لِمُوَاتَاةِ الْأَسْبَابِ، وَرُكُونَهِمْ إِلَى الصِّحَّةِ وَالشَّبَابِ. وَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَيْلَهُ إِلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ كَمَيْلِهِمْ، وَغَفْلَتَهِ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الْفَظِيعِ، وَالْهَلَاكِ السَّرِيعِ، كَغَفْلَتِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ صَائِرٌ إِلَى مَصِيرِهِمْ، وَلْيُحْضِرْ بِقَلْبِهِ ذِكْرَ مَنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي أَغْرَاضِهِ، وَكَيْفَ تَهَدَّمَتْ رِجْلَاهُ. وَكَانَ يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا خُوِّلَهُ وَقَدْ سَالَتْ عَيْنَاهُ، وَيَصُولُ بِبَلَاغَةِ نُطْقِهِ وَقَدْ أَكَلَ الدُّودُ لِسَانَهُ، وَيَضْحَكُ لِمُوَاتَاةِ دَهْرِهِ وَقَدْ أَبْلَى التُّرَابُ أَسْنَانَهُ، وَلْيَتَحَقَّقْ أَنَّ حَالَهُ كَحَالِهِ، وَمَآلَهُ كَمَآلِهِ. وَعِنْدَ هَذَا التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ تَزُولُ عَنْهُ جَمِيعُ الْأَغْيَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَيَزْهَدُ فِي دُنْيَاهُ، وَيُقْبِلُ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ، وَيَلِينُ قَلْبُهُ، وتخشع جوارحه.

[سورة التكاثر (102): الآيات 3 الى 4]
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ وَالتَّمَامِ عَلَى هَذَا كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيْ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ هَذَا. (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ): وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَكْرَارُهُ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ وَالتَّغْلِيظِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْقَبْرِ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ فِي الْآخِرَةِ إِذَا حَلَّ بِكُمُ الْعَذَابُ. فَالْأَوَّلُ فِي الْقَبْرِ، وَالثَّانِي فِي الْآخِرَةِ، فَالتَّكْرَارُ لِلْحَالَتَيْنِ. وَقِيلَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، أَنَّ مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ حَقٌّ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ: عِنْدَ الْبَعْثِ أَنَّ مَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ صِدْقٌ. وَرَوَى زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَهُ: كُنَّا نَشُكُّ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يَعْنِي فِي الْقُبُورِ. وَقِيلَ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ
__________
(1). في نسخة: (تزودهم المآب).

(20/172)


كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)

، إِذَا نَزَلَ بِكُمُ الْمَوْتُ، وَجَاءَتْكُمْ رُسُلٌ لِتَنْزِعَ أَرْوَاحَكُمْ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ: إِذَا دَخَلْتُمْ قُبُورَكُمْ، وَجَاءَكُمْ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، وَحَاطَ بِكُمْ هَوْلُ السُّؤَالِ، وَانْقَطَعَ مِنْكُمُ الْجَوَابُ. قُلْتُ: فَتَضَمَّنَتِ السُّورَةُ الْقَوْلَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ" أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ وَاجِبٌ، وَالتَّصْدِيقَ بِهِ لَازِمٌ، حَسْبَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي الْعَبْدَ الْمُكَلَّفَ فِي قَبْرِهِ، بِرَدِ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ، وَيَجْعَلُ لَهُ مِنَ الْعَقْلِ فِي مِثْلِ الْوَصْفِ الَّذِي عَاشَ عَلَيْهِ، لِيَعْقِلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَمَا يُجِيبُ بِهِ، وَيَفْهَمَ مَا أَتَاهُ مِنْ رَبِّهِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُ فِي قَبْرِهِ، مِنْ كَرَامَةٍ وَهَوَانٍ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَقِيلَ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ عِنْدَ النُّشُورِ أَنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ فِي الْقِيَامَةِ أَنَّكُمْ مُعَذَّبُونَ. وَعَلَى هَذَا تَضَمَّنَتْ أَحْوَالُ الْقِيَامَةِ مِنْ بَعْثٍ وَحَشْرٍ، وَسُؤَالٍ وَعَرْضٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْوَالِهَا وَأَفْزَاعِهَا، حَسَبَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ، بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُورِ الْآخِرَةِ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يَعْنِي الْكُفَّارَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا، الْأُولَى بِالتَّاءِ وَالثَّانِيَةِ بِالْيَاءِ.

[سورة التكاثر (102): آية 5]
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أَعَادَ كَلَّا وَهُوَ زَجْرٌ وَتَنْبِيهٌ، لِأَنَّهُ عَقَّبَ كُلَّ وَاحِدٍ بِشَيْءٍ آخَرَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّكُمْ تَنْدَمُونَ، لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّكُمْ تَسْتَوْجِبُونَ الْعِقَابَ. وَإِضَافَةُ الْعِلْمِ إِلَى الْيَقِينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «1» [الواقعة: 95]. وقيل: اليقين ها هنا: الْمَوْتُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الْبَعْثُ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ زَالَ الشَّكُّ، أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْبَعْثِ وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ الْيَوْمَ مِنَ الْبَعْثِ مَا تَعْلَمُونَهُ إِذَا جَاءَتْكُمْ نَفْخَةُ الصُّوَرِ، وَانْشَقَّتِ اللُّحُودُ عَنْ جُثَثِكُمْ، كَيْفَ يَكُونُ حَشْرُكُمْ؟ لَشَغَلَكُمْ ذَاكَ عَنِ التَّكَاثُرِ بِالدُّنْيَا. وَقِيلَ: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَيْ لَوْ «2» قَدْ تَطَايَرَتِ الصُّحُفُ، فَشَقِيٌّ وَسَعِيدٌ.
__________
(1). آية 95 سورة الواقعة.
(2). كذا في نسخ الأصل.

(20/173)


لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)

وَقِيلَ: إِنَّ كَلَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ بِمَعْنَى" أَلَا" قَالَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ بِمَعْنَى" حَقًّا" وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فيها مستوفى «1».

[سورة التكاثر (102): الآيات 6 الى 7]
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) هَذَا وَعِيدٌ آخَرُ. وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَسَمِ، أَيْ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ فِي الْآخِرَةِ. وَالْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ وَجَبَتْ لَهُمُ النَّارُ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «2» [مريم: 71] فَهُيِّئَ لِلْكُفَّارِ دَارٌ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَمَرٌّ. وَفِي الصَّحِيحِ: (فَيَمُرُّ أَوَّلُهُمْ كَالْبَرْقِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ، ثُمَّ كَالطَّيْرِ ... ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" مَرْيَمَ" «3». وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ (لَتُرَوُنَّ) بِضَمِّ التَّاءِ، مِنْ أَرَيْتُهُ الشَّيْءَ، أَيْ تُحْشَرُونَ إِلَيْهَا فَتَرَوْنَهَا. وَعَلَى فَتْحِ التَّاءِ، هِيَ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ، أَيْ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ بِأَبْصَارِكُمْ عَلَى الْبُعْدِ. (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) أَيْ مُشَاهَدَةً. وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ مَقَامِهِمْ فِي النَّارِ، أَيْ هِيَ رُؤْيَةٌ دَائِمَةٌ مُتَّصِلَةٌ. وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا لِلْكُفَّارِ. وَقِيلَ: مَعْنَى لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا، عِلْمَ الْيَقِينَ فِيمَا أَمَامَكُمْ، مِمَّا وَصَفْتُ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ بِعُيُونِ قُلُوبِكُمْ، فَإِنَّ عِلْمَ الْيَقِينِ يُرِيكَ الْجَحِيمَ بِعَيْنِ فُؤَادِكِ، وَهُوَ أَنْ تُتَصَوَّرَ لَكَ تَارَاتً الْقِيَامَةُ، وَقَطْعُ مَسَافَاتِهَا. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ: أَيْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ بِعَيْنِ الرَّأْسِ، فَتَرَاهَا يَقِينًا، لَا تَغِيبُ عن عينك. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ: فِي مَوْقِفِ السُّؤَالِ وَالْعَرْضِ.

[سورة التكاثر (102): آية 8]
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: (مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ)؟ قَالَا: الجوع يا رسول الله. قال: (وأنا
__________
(1). راجع ج 11 ص 147 فما بعدها.
(2). آية 71 سورة مريم.
(3). راجع ج 11 ص 137.

(20/174)


وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومَا) فَقَامَا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيْنَ فُلَانٌ)؟ قَالَتْ: يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ! مَا أحد اليوم أكرم إضافيا مِنِّي. قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ. وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ) فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ، وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ نَعِيمِ هَذَا الْيَوْمِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ (. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ [فِيهِ]:) هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ظِلٌّ بَارِدٌ، وَرُطَبٌ طَيِّبٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ) وَكَنَّى الرَّجُلُ الَّذِي مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: أَبُو الْهَيْثَمِ ابن التَّيْهَانِ. وَذَكَرَ قِصَّتَهُ. قُلْتُ: اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ الْأَنْصَارِيِّ مَالِكُ بْنُ التَّيْهَانِ، وَيُكَنَّى أَبَا الْهَيْثَمِ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، يَمْدَحُ بِهَا أَبَا الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانَ:
فَلَمْ أَرَ كَالْإِسْلَامِ عِزًّا لِأُمَّةٍ ... وَلَا مِثْلَ أَضْيَافِ الْإِرَاشِيِّ «1» مَعْشَرًا
نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَفَارُوقُ أُمَّةٍ ... وَخَيْرُ بَنِي «2» حَوَّاءَ فَرْعًا وَعُنْصُرَا
فَوَافَوْا لِمِيقَاتٍ وَقَدْرِ قَضِيَّةٍ ... وَكَانَ قَضَاءُ اللَّهِ قَدْرًا «3» مُقَدَّرَا
إِلَى رَجُلٍ نَجْدٍ يُبَارِي بِجُودِهِ ... شُمُوسَ الضُّحَى جُودًا وَمَجْدًا وَمَفْخَرَا
وَفَارِسِ خَلْقِ اللَّهِ فِي كُلِّ غَارَةٍ ... إِذَا لَبِسَ الْقَوْمُ الْحَدِيدَ الْمُسَمَّرَا
فَفَدَّى وَحَيَّا ثُمَّ أَدْنَى قِرَاهُمُ ... فَلَمْ يَقْرِهِمْ إلا سمينا متمرا «4»
__________
(1). كذا في جميع نسخ الأصل.
(2). في نسخة من الأصل: (وخير نبي جاء).
(3). في نسخة من الأصل: (أمرا).
(4). المقطع.

(20/175)


وقد ذكر أبو نعم الْحَافِظُ، عَنْ أَبِي عَسِيبٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: (أَطْعِمْنَا بُسْرًا) فَجَاءَ بِعِذْقٍ، فَوَضَعَهُ فَأَكَلُوا، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَشَرِبَ، فَقَالَ: (لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ: وَأَخَذَ عُمَرُ الْعِذْقَ، فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ نَحْوَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: كِسْرَةٍ يَسُدُّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ ثَوْبٍ يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، أَوْ حَجْرٍ يَأْوِي فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ). وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي النَّعِيمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. الثَّانِي- الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (نِعْمَتَانِ «1» مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ). الثَّالِثُ- الْإِدْرَاكُ بِحَوَاسِّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي التَّنْزِيلِ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ «2» عَنْهُ مَسْؤُلًا [الاسراء: 36]. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ لَهُ: أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا، وَمَالًا وَوَلَدًا ... )، الْحَدِيثَ. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. الرَّابِعُ- مَلَاذُّ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ قَالَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. الْخَامِسُ- أَنَّهُ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. السَّادِسُ- قَوْلُ مَكْحُولٍ الشَّامِيِّ-: أَنَّهُ شِبَعُ الْبُطُونِ وَبَارِدُ الشَّرَابِ، وَظِلَالُ الْمَسَاكِنِ، وَاعْتِدَالُ الْخَلْقِ، وَلَذَّةُ النَّوْمِ. وَرَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) يَعْنِي عَنْ شِبَعِ الْبُطُونِ ... (. فَذَكَرَهُ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ: وَهَذَا السُّؤَالُ يَعُمُّ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ، إِلَّا أَنَّ سؤال المؤمن
__________
(1). أي ذو خسران فيهما. والنعمة: ما يتنعم به الإنسان ويستلذه. والغبن: أن يشتري بأضعاف الثمن. أو يبيع بدون ثمن المثل. فمن صح بدنه: وتفرغ من الاشغال العائقة ولم يسع لصلاح آخرته فهو كالمغبون في البيع. والمقصود: بيان أن غالب الناس لا ينتفعون بالصحة والفراغ، بل يصرفونهما في غير محالهما. (عن شرح سنن ابن ماجة).
(2). آية 36 سورة الاسراء. [ ..... ]

(20/176)


تَبْشِيرٌ بِأَنْ يُجْمَعَ لَهُ بَيْنَ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَسُؤَالَ الْكَافِرِ تَقْرِيعٌ أَنْ قَابَلَ نَعِيمَ الدُّنْيَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا السُّؤَالُ عَنْ كُلِّ نِعْمَةٍ، إِنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَكْلَةً أَكَلْتُهَا مَعَكَ فِي بَيْتِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ، مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ وَلَحْمٍ وَبُسْرٍ قَدْ ذَنَّبَ «1»، وَمَاءٍ عَذْبٍ، أَتَخَافُ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي نُسْأَلُ عَنْهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ، ثم قرأ: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ «2» [سبأ: 17]. ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يُسْأَلُ عَنِ النَّعِيمِ إِلَّا أَهْلُ النَّارِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ: أَنَّ الْكُلَّ يُسْأَلُونَ، وَلَكِنَّ سُؤَالَ الْكُفَّارِ تَوْبِيخٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الشُّكْرَ. وَسُؤَالَ الْمُؤْمِنِ سُؤَالُ تَشْرِيفٍ، لِأَنَّهُ شَكَرَ. وَهَذَا النَّعِيمُ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ. قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَعُمُّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفِرْيَابِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: كل شي مِنْ لَذَّةِ الدُّنْيَا. وَرَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُعَدِّدُ نِعَمَهُ عَلَى الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يَعُدَّ عَلَيْهِ: سَأَلْتَنِي فُلَانَةً أَنْ أُزَوِّجَكَهَا، فَيُسَمِّيَهَا بِاسْمِهَا، فَزَوَّجْتُكَهَا (. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَنْ أَيِّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ؟ فَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ «3» وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، وَسُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا. قَالَ: (إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ). وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- يَعْنِي الْعَبْدَ- أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ) قَالَ: حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَعَا اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ، فَيُوقِفُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَسْأَلُهُ عَنْ جَاهِهِ كَمَا يَسْأَلُهُ عَنْ مَالِهِ (. وَالْجَاهُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا لَا مَحَالَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ صِحَّةُ الْبَدَنِ، وَطِيبُ النَّفْسِ. وَهُوَ الْقَوْلُ السَّابِعُ. وَقِيلَ: النَّوْمُ مَعَ الْأَمْنِ وَالْعَافِيَةِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّ مَا سَدَّ الْجُوعَ وَسَتَرَ الْعَوْرَةَ مِنْ خَشِنِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، لَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْمَرْءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنِ النَّعِيمِ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْكَنَ آدَمَ الْجَنَّةَ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى.
__________
(1). أي بدأ فيه الارطاب.
(2). آية 17 سورة سبأ وهذه قراءة نافع.
(3). الأسودان: التمر والماء.

(20/177)


وَالْعَصْرِ (1)

وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها «1» وَلا تَضْحى [طه: 119 - 118]. فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ- مَا يَسِدُّ بِهِ الْجُوعَ، وَمَا يَدْفَعُ بِهِ الْعَطَشَ، وَمَا يَسْتَكِنُّ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ، وَيَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ- لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِطْلَاقِ، لَا حِسَابَ عَلَيْهِ فِيهَا، لأنه لأبد لَهُ مِنْهَا. قُلْتُ: وَنَحْوَ هَذَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ، قَالَ: إِنَّ مِمَّا لَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْأَتَهُ، وَطَعَامًا يُقِيمُ صُلْبَهُ، وَمَكَانًا يُكِنُّهُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. قُلْتُ: وَهَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَيْسَ لِابْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ: بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَجِلْفُ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: جِلْفُ الْخُبْزِ: لَيْسَ مَعَهُ إِدَامٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: النَّعِيمُ: هُوَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي التَّنْزِيلِ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ «2» [آل عمران: 164]. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَالْمُفَضَّلُ: هُوَ تَخْفِيفُ الشَّرَائِعِ، وَتَيْسِيرُ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3» [الحج: 78]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «4» [القمر: 17]. قُلْتُ: وَكُلُّ هَذِهِ نِعَمٌ، فَيُسْأَلُ الْعَبْدُ عَنْهَا: هَلْ شَكَرَ ذَلِكَ أَمْ كَفَرَ. وَالْأَقْوَالُ الْمُتَقَدِّمَةُ أظهر. والله أعلم.

[تفسير سورة والعصر]
تَفْسِيرُ سُورَةِ" وَالْعَصْرِ" وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ مَدَنِيَّةٌ وَرَوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهِيَ ثَلَاثُ آيات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة العصر (103): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ أَيِ الدَّهْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. فَالْعَصْرُ مِثْلُ الدَّهْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
سَبِيلُ الْهَوَى وَعْرٌ وَبَحْرُ الْهَوَى غَمْرُ ... وَيَوْمُ الْهَوَى شَهْرٌ وَشَهْرُ الْهَوَى دَهْرُ
__________
(1). آية 118، 119 سورة طه.
(2). آية 164 سورة آل عمران.
(3). آية 78 سورة الحج.
(4). آية 17 سورة القمر.

(20/178)


إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)

أَيْ عَصْرٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ بِتَصَرُّفِ الْأَحْوَالِ وَتَبَدُّلِهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّانِعِ. وَقِيلَ: الْعَصْرُ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:
وَلَنْ يَلْبَثَ الْعَصْرَانِ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَيَمَّمَا
وَالْعَصْرَانِ أَيْضًا: الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ. قَالَ:
وَأَمْطُلُهُ الْعَصْرَيْنِ حَتَّى يَمَلَّنِي ... وَيَرْضَى بِنِصْفِ الدَّيْنِ وَالْأَنْفُ رَاغِمُ
يَقُولُ: إِذَا جَاءَنِي أَوَّلَ النَّهَارِ وَعَدْتُهُ آخِرَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْعَشِيُّ، وَهُوَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَرُوَّحُ بِنَا يَا عُمْرُوُ قَدْ قَصُرَ الْعَصْرُ ... وَفِي الرَّوْحَةِ الْأُولَى الْغَنِيمَةُ وَالْأَجْرُ
وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا: هُوَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ. وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَهِيَ الْوُسْطَى، لِأَنَّهَا أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. يُقَالُ: أُذِّنَ لِلْعَصْرِ، أَيْ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ. وَصَلَّيْتُ الْعَصْرَ، أَيْ صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ [الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ]. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «1» بَيَانُهُ. وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ بِعَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِفَضْلِهِ بِتَجْدِيدِ النُّبُوَّةِ فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَرَبِّ الْعَصْرِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ مَالِكٌ: مَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ رَجُلًا عَصْرًا: لَمْ يُكَلِّمْهُ سَنَةً. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" إِنَّمَا حَمَلَ مَالِكٌ يَمِينَ الْحَالِفِ أَلَّا يُكَلِّمَ امْرَأً عَصْرًا عَلَى السَّنَةِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ، وَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي تَغْلِيظِ الْمَعْنَى فِي الْأَيْمَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبَرُّ بِسَاعَةٍ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، وَبِهِ أَقُولُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ عَرَبِيًّا، فَيُقَالُ لَهُ: مَا أَرَدْتَ؟ فَإِذَا فَسَّرَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ قُبِلَ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَقَلَّ، وَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يُحْمَلَ على ما يفسر. والله أعلم.

[سورة العصر (103): آية 2]
إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْهُ قَالَ: يُرِيدُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ: الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، والعاص بن وائل، والأسود
__________
(1). راجع ج 3 ص 210

(20/179)


إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَالْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ. وَقِيلَ: يَعْنِي بِالْإِنْسَانِ جِنْسَ النَّاسِ. لَفِي خُسْرٍ: لَفِي غَبْنٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هَلَكَةٍ. الْفَرَّاءُ: عُقُوبَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها «1» خُسْراً [الطلاق: 9]. ابْنُ زَيْدٍ: لَفِي شَرٍّ. وَقِيلَ: لَفِي نَقْصٍ، الْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَرُوِيَ عَنْ سَلَّامٍ (وَالْعَصِرِ) بِكَسْرِ الصَّادِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ (خُسْرٍ) بِضَمِّ السِّينِ. وَرَوَى ذَلِكَ هَارُونُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَالْوَجْهُ فِيهِمَا الْإِتْبَاعُ. وَيُقَالُ: خُسْرٍ وَخُسُرٍ، مِثْلَ عُسْرٍ وَعُسُرٍ. وَكَانَ عَلِيٌّ يَقْرَؤُهَا وَالْعَصْرِ وَنَوَائِبِ الدَّهْرِ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. وَإِنَّهُ فِيهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عُمِّرَ فِي الدُّنْيَا وَهَرِمَ، لَفِي نَقْصٍ وَضَعْفٍ وَتَرَاجُعٍ، إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمْ تُكْتَبُ لَهُمْ أُجُورُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي حَالِ شَبَابِهِمْ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ. [التين: 5 - 4]. قَالَ: وَقِرَاءَتُنَا وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، وَإِنَّهُ فِي آخِرِ الدَّهْرِ. وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَالْمَصَاحِفُ. وَقَدْ مَضَى الرَّدُّ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَنْ خَالَفَ مُصْحَفَ عُثْمَانَ، وَأَنَّ ذلك ليس بقرآن يتلى، فتأمله هناك «2».

[سورة العصر (103): آية 3]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) استثناء مِنَ الْإِنْسَانِ، إِذْ هُوَ بِمَعْنَى النَّاسِ عَلَى الصَّحِيحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أَيْ أَدَّوُا الْفَرَائِضَ الْمُفْتَرَضَةَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَصْرِ ثُمَّ قُلْتُ: مَا تَفْسِيرُهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: وَالْعَصْرِ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ، أَقْسَمَ رَبُّكُمْ بِآخِرِ النَّهَارِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ: أَبُو جَهْلٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا: أَبُو بَكْرٍ، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عُمَرُ. وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ عُثْمَانُ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ" عَلِيٌّ" رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجمعين. وهكذا خطب
__________
(1). آية 9 سورة الطلاق.
(2). راجع ج 1 ص 80 طبعه ثانية أو ثالثة.

(20/180)


وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)

أبن عباس على المنبر موقوفا عليه. ومعنى (وَتَواصَوْا) أَيْ تَحَابَّوْا، أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَحَثَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. (بِالْحَقِّ) أَيْ بِالتَّوْحِيدِ، كَذَا رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ قَتَادَةُ: بِالْحَقِّ أَيِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْحَقُّ هُنَا هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّبْرِ عَنْ مَعَاصِيهِ. وَقَدْ تقدم «1». والله أعلم.

[تفسير سورة الهمزة]
تَفْسِيرُ سُورَةِ" الْهُمَزَةِ" مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ. وَهِيَ تِسْعُ آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الهمزة (104): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي" الْوَيْلِ" فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «2»، وَمَعْنَاهُ الْخِزْيُ وَالْعَذَابُ وَالْهَلَكَةُ. وَقِيلَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ «3» بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ، فَعَلَى هَذَا هُمَا بِمَعْنًى. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [شِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ [. وَعَنِ ابْنِ عباس أن الهمزة: القتات، وَاللُّمَزَةَ: الْعَيَّابُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: الْهُمَزَةُ: الَّذِي يَغْتَابُ وَيَطْعَنُ فِي وَجْهِ الرَّجُلِ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَغْتَابُهُ مِنْ خَلْفِهِ إِذَا غَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ:
هَمَزْتُكَ فَاخْتَضَعْتَ بِذُلِّ نَفْسٍ ... بِقَافِيَةٍ تَأَجَّجُ كَالشُّوَاظِ «4»
__________
(1). راجع ص 71 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 2 ص 7 طبعه ثانية.
(3). في بعض نسخ الأصل (المفرقون).
(4). رواية البيت كما في ديوانه:
مجللة تعممه شنارا ... مضرمة تأجج كالشواظ
كهمزة ضيغم يحمى عربنا ... شديد مغارز الأضلاع خاظي

[ ..... ]

(20/181)


وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ «1» [التوبة: 58]. وَقَالَ مُقَاتِلٌ ضِدَّ هَذَا الْكَلَامِ: إِنَّ الْهُمَزَةَ: الذي يغتاب بالغيبة، واللمزة: الذي يغتاب في الْوَجْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: الْهُمَزَةُ: الطَّعَّانُ فِي الناس، والهمزة: الطَّعَّانُ فِي أَنْسَابِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ الْهَامِزُ: الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِيَدِهِ وَيَضْرِبُهُمْ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَلْمِزُهُمْ بِلِسَانِهِ وَيَعِيبُهُمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَهْمِزُ بِلِسَانِهِ، وَيَلْمِزُ بِعَيْنَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْهُمَزَةُ الَّذِي يُؤْذِي جُلَسَاءَهُ بِسُوءِ اللَّفْظِ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَكْسِرُ عَيْنَهُ عَلَى جَلِيسِهِ، وَيُشِيرُ بِعَيْنِهِ وَرَأْسِهِ وَبِحَاجِبَيْهِ. وَقَالَ مُرَّةً: هُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ الْقَتَّاتُ الطَّعَّانُ لِلْمَرْءِ إِذَا غَابَ. وَقَالَ زِيَادٌ الْأَعْجَمُ:
تُدْلِي بِوُدِّي إِذَا لَاقَيْتَنِي كَذِبًا ... وَإِنْ أُغَيَّبْ فَأَنْتَ الْهَامِزُ اللُّمَزَهْ
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا لَقِيْتُكَ عَنْ سُخْطٍ تُكَاشِرُنِي ... وَإِنْ تَغَيَّبْتُ كُنْتَ الْهَامِزَ اللمزة
الشحط: العبد. وَالْهُمَزَةُ: اسْمٌ وُضِعَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا يُقَالُ: سُخَرَةٌ وَضُحَكَةٌ: لِلَّذِي يَسْخَرُ وَيَضْحَكُ بِالنَّاسِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْرَجُ (هُمْزَةً لُمْزَةً) بِسُكُونِ الْمِيمِ فِيهِمَا. فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضْ لِلنَّاسِ حَتَّى يَهْمِزُوهُ وَيَضْحَكُوا مِنْهُ، وَيَحْمِلَهُمْ عَلَى الِاغْتِيَابِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو وَائِلٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَعْمَشُ:" وَيْلٌ لِلْهُمَزَةِ اللُّمَزَةِ". وَأَصْلُ الْهَمْزِ: الْكَسْرُ، وَالْعَضُّ عَلَى الشَّيْءِ بِعُنْفٍ، وَمِنْهُ هَمْزُ الْحَرْفِ. وَيُقَالُ: هَمَزْتُ رَأْسَهُ. وَهَمَزْتُ الْجَوْزَ بِكَفِّي كَسَرْتُهُ. وَقِيلَ لِأَعْرَابِيٍّ: أَتَهْمِزُونَ (الْفَارَةَ)؟ فَقَالَ: إِنَّمَا تَهْمِزُهَا الْهِرَّةُ. الَّذِي فِي الصِّحَاحِ: وَقِيلَ لِأَعْرَابِيٍّ أَتَهْمِزُ الْفَارَةَ؟ فَقَالَ السِّنَّوْرُ يَهْمِزُهَا. وَالْأَوَّلُ قَالَهُ الثَّعْلَبِيُّ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهِرَّ يُسَمَّى الْهُمَزَةَ. قَالَ الْعَجَّاجُ:
وَمَنْ هَمَزْنَا رَأْسَهُ تَهَشَّمَا

وَقِيلَ: أَصْلُ الْهَمْزِ وَاللَّمْزِ: الدَّفْعُ وَالضَّرْبُ. لَمَزَهُ يَلْمِزُهُ لَمْزًا: إِذَا ضَرَبَهُ وَدَفَعَهُ. وَكَذَلِكَ هَمَزَهُ: أَيْ دَفَعَهُ وَضَرَبَهُ. قَالَ الرَّاجِزُ:
وَمَنْ هَمَزْنَا عِزَّهُ تَبَرْكَعَا ... عَلَى استه زوبعة أو زوبعا
__________
(1). آية 58 سورة التوبة.

(20/182)


الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)

الْبَرْكَعَةُ: الْقِيَامُ عَلَى أَرْبَعٍ. وَبَرْكَعَهُ فَتَبَرْكَعَ، أَيْ صَرَعَهُ فَوَقَعَ عَلَى اسْتِهِ، قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ. وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، فِيمَا رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَانَ يَلْمِزُ النَّاسَ وَيَعِيبُهُمْ: مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ يَغْتَابُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَائِهِ، وَيَقْدَحُ فِيهِ فِي وَجْهِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أُبَيِّ بن خلف. وقيل: في جميل ابن عَامِرٍ الثَّقَفِيِّ «1». وَقِيلَ: إِنَّهَا مُرْسَلَةٌ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْسَتْ بِخَاصَّةٍ لِأَحَدٍ، بَلْ لِكُلِّ مَنْ كانت هذه صفته. وقال الفراء: بجوز أَنْ يُذْكَرَ الشَّيْءُ الْعَامُّ وَيُقْصَدَ بِهِ الْخَاصُّ، قَصْدَ الْوَاحِدِ إِذَا قَالَ: لَا أَزُورُكَ أَبَدًا. فَتَقُولُ: مَنْ لَمْ يَزُرْنِي فَلَسْتُ بِزَائِرِهِ، يَعْنِي ذلك القائل.

[سورة الهمزة (104): آية 2]
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
أَيْ أَعَدَّهُ- زَعَمَ- لِنَوَائِبِ الدَّهْرِ، مِثْلُ كَرُمَ وَأَكْرَمَ. وَقِيلَ: أَحْصَى عَدَدَهُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ أَعَدَّ مَالَهُ لِمَنْ يَرِثُهُ مِنْ أَوْلَادِهِ. وَقِيلَ: أَيْ فَاخَرَ بِعَدَدِهِ وَكَثْرَتِهِ. وَالْمَقْصُودُ الذَّمُّ عَلَى إِمْسَاكِ الْمَالِ عَنْ سَبِيلِ الطَّاعَةِ. كَمَا قَالَ: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ «2» [ق: 25]، وقال: وجَمَعَ فَأَوْعى «3» [المعارج: 18]. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ جَمَعَ مُخَفَّفُ الْمِيمِ. وَشَدَّدَهَا ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عَلَى التَّكْثِيرِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، لِقَوْلِهِ: وَعَدَّدَهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ جَمَعَ مُخَفَّفًا، (وَعَدَدَهُ) مُخَفَّفًا أَيْضًا، فَأَظْهَرُوا التَّضْعِيفَ، لِأَنَّ أَصْلَهُ عَدَّهُ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمُصْحَفِ بِدَالَيْنِ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي الشِّعْرِ، لَمَّا أَبْرَزُوا التَّضْعِيفَ خففوه. قال:
مهلا «4» أمامة قد جريت مِنْ خُلُقِي ... إِنِّي أَجُودُ لِأَقْوَامٍ وَإِنْ ضَنِنُوا
__________
(1). كذا في نسخ الأصل. والذي في الطبري: (جميل بن عامر الجمحي). وفي سيرة ابن هشام (ص 229 طبع أوربا) وتاريخ الكامل لابن الأثير (ج 2 ص 66 طبع أوربا) وبعض كتب التفسير: (جميل بن معمر الجمحي).
(2). آية 25 سورة ق، وآية 12 سورة ن.
(3). آية 18 سورة المعارج.
(4). في اللسان وكتاب سيبويه: (مهلا أعاذل). وقد نسياه لقعنب بن أم صاحب.

(20/183)


يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)

أَرَادَ: ضَنُّوا وَبَخِلُوا، فَأَظْهَرَ التَّضْعِيفَ، لَكِنَّ الشِّعْرَ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ خَفَّفَ (وَعَدَّدَهُ) فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَالِ، أَيْ وَجَمَعَ عَدَدَهُ فَلَا يَكُونُ فِعْلًا عَلَى إِظْهَارِ التَّضْعِيفِ، لِأَنَّ ذلك لا يستعمل إلا في الشعر.

[سورة الهمزة (104): الآيات 3 الى 7]
يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَحْسَبُ) أَيْ يَظُنُّ (أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أَيْ يُبْقِيهِ حَيًّا لَا يَمُوتُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَيْ يَزِيدُ فِي عُمْرِهِ. وَقِيلَ: أَحْيَاهُ فِيمَا مَضَى، وَهُوَ مَاضٍ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ. يُقَالُ: هَلَكَ وَاللَّهِ فُلَانٌ وَدَخَلَ النَّارَ، أَيْ يَدْخُلُ. (كَلَّا) رَدٌّ لِمَا تَوَهَّمَهُ الْكَافِرُ، أَيْ لَا يَخْلُدُ وَلَا يَبْقَى لَهُ مَالٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي كَلَّا مُسْتَوْفًى «1». وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى غُفْرَةَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ كَلَّا فَإِنَّهُ يَقُولُ كَذَبْتَ. (لَيُنْبَذَنَّ) أَيْ لَيُطْرَحَنَّ وَلَيُلْقَيَنَّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَمُجَاهِدٍ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: لَيُنْبَذَانِ بِالتَّثْنِيَةِ، أَيْ هُوَ وَمَالُهُ. وعن الحسن أيضا" لينبدنه" عَلَى مَعْنَى لَيُنْبَذَنَّ مَالُهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا بِالنُّونِ" لَنَنْبِذَنَّهُ" عَلَى إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبِذُ صَاحِبَ الْمَالِ. وَعَنْهُ أَيْضًا (لَيُنْبَذُنَّ) بِضَمِّ الذَّالِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْهُمَزَةُ وَاللُّمَزَةُ وَالْمَالُ وَجَامِعُهُ. (فِي الْحُطَمَةِ) وَهِيَ نَارُ اللَّهِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَكْسِرُ كُلَّ مَا يُلْقَى فِيهَا وَتُحَطِّمُهُ وَتُهَشِّمُهُ. قَالَ الرَّاجِزُ:
إِنَّا حَطَمْنَا بِالْقَضِيبِ مُصْعَبَا ... يَوْمَ كَسَرْنَا أَنْفَهُ لِيَغْضَبَا
وَهِيَ الطَّبَقَةُ السَّادِسَةُ مِنْ طَبَقَاتِ جَهَنَّمَ. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ. وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ عَنْهُ: الْحُطَمَةِ الدَّرَكَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَكِ النَّارِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَهِيَ الدَّرَكُ الرَّابِعُ. ابْنُ زَيْدٍ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ. (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) عَلَى التَّعْظِيمِ لشأنها، والتفخيم لأمرها.
__________
(1). راجع ج 11 ص 147.

(20/184)


إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

ثم فسرها ما هي فقال: (نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ) أَيِ الَّتِي أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ، وَأَلْفَ عَامٍ، وَأَلْفَ عَامٍ، فَهِيَ غَيْرُ خَامِدَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْعُصَاةِ. (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: تَأْكُلُ النَّارُ جَمِيعَ مَا فِي أَجْسَادِهِمْ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ إِلَى الْفُؤَادِ، خُلِقُوا خَلْقًا جَدِيدًا، فَرَجَعَتْ تَأْكُلُهُمْ. وَكَذَا رَوَى خَالِدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ أَهْلَهَا، حَتَّى إِذَا اطَّلَعَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمُ انْتَهَتْ، ثُمَّ إِذَا صَدَرُوا تَعُودُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ:. وَخَصَّ الْأَفْئِدَةَ لِأَنَّ الْأَلَمَ إِذَا صَارَ إِلَى الْفُؤَادِ مَاتَ صَاحِبُهُ. أَيْ إِنَّهُ فِي حَالِ مَنْ يَمُوتُ وَهُمْ لَا يَمُوتُونَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى»
[طه: 74] فَهُمْ إِذًا أَحْيَاءٌ فِي مَعْنَى الْأَمْوَاتِ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أَيْ تَعْلَمُ مِقْدَارَ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ بِمَا اسْتَبَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: اطَّلَعَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا: أي علمه. وقد قال الله تعالى: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى «2» [المعارج: 17]. وَقَالَ تَعَالَى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً «3» [الفرقان: 12]. فَوَصَفَهَا بِهَذَا، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُوصَفَ بِالْعِلْمِ.

[سورة الهمزة (104): الآيات 8 الى 9]
إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
أَيْ مطبقة، قال الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" الْبَلَدِ" الْقَوْلُ «4» فِيهِ. وَقِيلَ: مُغْلَقَةٌ، بِلُغَةِ قُرَيْشٍ. يَقُولُونَ: آصَدْتُ الْبَابَ إِذَا أَغْلَقْتُهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَمِنْهُ قول عبيد الله ابن قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
إِنَّ فِي الْقَصْرِ لَوْ دَخَلْنَا غَزَالًا ... مُصْفَقًا مُوصَدًا «5» عَلَيْهِ الْحِجَابُ
(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) الفاء بمعنى الباء أي مؤصدة بِعَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهِيَ فِي قراءته" بعمد ممددة" وَفِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ إِلَيْهِمْ
__________
(1). آية 74 سورة طه.
(2). آية 17 سورة المعارج.
(3). آية 12 سورة الفرقان.
(4). راجع ص 72 من هذا الجزء.
(5). صفق الباب واصفقه: أغلقه.

(20/185)


مَلَائِكَةً بِأَطْبَاقٍ مِنْ نَارٍ، وَمَسَامِيرَ مِنْ نَارٍ وَعَمَدٍ مِنْ نَارٍ، فَتُطْبِقُ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَطْبَاقِ، وَتَشُدُّ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْمَسَامِيرِ وَتَمُدُّ بِتِلْكَ الْعَمَدِ، فَلَا يَبْقَى فِيهَا خَلَلٌ يَدْخُلُ فِيهِ رَوْحٌ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ غَمٌّ، وَيَنْسَاهُمُ الرَّحْمَنُ عَلَى عَرْشِهِ، وَيَتَشَاغَلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِنَعِيمِهِمْ، وَلَا يَسْتَغِيثُونَ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَيَنْقَطِعُ الْكَلَامُ، فَيَكُونُ كَلَامُهُمْ زَفِيرًا وَشَهِيقًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَمَدٍ يُعَذَّبُونَ بِهَا. وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْعَمَدَ الْمُمَدَّدَةَ أَغْلَالٌ فِي أَعْنَاقِهِمْ. وَقِيلَ: قُيُودٌ فِي أَرْجُلِهِمْ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْمُعْظَمُ عَلَى أَنَّ الْعَمَدَ أَوْتَادُ الْأَطْبَاقِ الَّتِي تُطْبَقُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ. وَتُشَدُّ تِلْكَ الْأَطْبَاقُ بِالْأَوْتَادِ، حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ غَمُّهَا وَحَرُّهَا، فَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ رَوْحٌ. وَقِيلَ: أَبْوَابُ النَّارِ مُطْبَقَةٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي عَمَدٍ، أَيْ فِي سَلَاسِلَ وَأَغْلَالٍ مُطَوَّلَةٍ، وَهِيَ أَحْكَمُ وَأَرْسَخُ مِنَ الْقَصِيرَةِ. وَقِيلَ: هُمْ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ، أَيْ فِي عَذَابِهَا وَآلَامِهَا يُضْرَبُونَ بِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي دَهْرٍ مَمْدُودٍ، أَيْ لَا انْقِطَاعَ لَهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (فِي عُمُدٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ: جَمْعُ عَمُودٍ. وَكَذَلِكَ عَمَدٍ أَيْضًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَمَدُ وَالْعُمُدُ: جَمْعَانِ صَحِيحَانِ لِعَمُودٍ، مِثْلُ أَدِيمٍ وَأَدَمٍ وَأُدُمٍ، وَأَفِيقٍ «1» وَأَفَقٍ وَأُفُقٍ. أَبُو عُبَيْدَةَ: عَمَدٌ: جَمْعُ عِمَادٍ، مِثْلُ إِهَابٍ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ عَمَدٍ بِفَتْحَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ، اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها «2» [الرعد: 2]. وَأَجْمَعُوا عَلَى فَتْحِهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَمُودُ: عَمُودُ الْبَيْتِ، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ: أَعْمِدَةٌ، وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ عُمُدٌ، وعمد، وقرى بهما قوله تعالى:" في عمود مُمَدَّدَةٍ". وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَمُودُ، كُلُّ مُسْتَطِيلٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ، وَهُوَ أَصْلٌ لِلْبِنَاءِ مِثْلُ الْعِمَادِ. عَمَدْتُ الشَّيْءَ فَانْعَمَدَ، أَيْ أَقَمْتُهُ بِعِمَادٍ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ. وَأَعْمَدْتُهُ جَعَلْتُ تَحْتَهُ عَمَدًا. والله أعلم.
__________
(1). الأديم. الجلد المدبوغ. والأفيق: الجلد الذي لم يدبغ. وقيل: هو الذي لم تتم دباغته.
(2). آية 2 سورة الرعد.

(20/186)