تفسير القرطبي

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)

[تفسير سورة الفيل]
تَفْسِيرُ سُورَةِ" الْفِيلِ" وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ. وَهِيَ خمس آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفيل (105): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَيْ أَلَمْ تُخْبَرْ. وَقِيلَ أَلَمْ تَعْلَمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَمْ تَسْمَعْ؟ وَاللَّفْظُ اسْتِفْهَامٌ، وَالْمَعْنَى تَقْرِيرٌ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ عَامٌّ، أَيْ أَلَمْ تَرَوْا مَا فَعَلْتُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَيْ قَدْ رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، وَعَرَفْتُمْ مَوْضِعَ مِنَّتِي عَلَيْكُمْ، فَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ؟ وكَيْفَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ- فَعَلَ رَبُّكَ لَا بِ- أَلَمْ تَرَ كَيْفَ في مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ. الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: بِأَصْحابِ الْفِيلِ الْفِيلُ مَعْرُوفٌ، وَالْجَمْعُ أَفْيَالٌ: وَفُيُولٌ، وَفِيَلَةٌ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَلَا تَقُلْ أَفِيلَةٌ. [وَالْأُنْثَى فِيلَةٌ «1»] وَصَاحِبُهُ «2» فَيَّالٌ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ فِيلٍ فُعْلًا، فَكُسِرَ مِنْ أَجْلِ الْيَاءِ، كَمَا قَالُوا: أَبْيَضُ وَبِيضٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْوَاحِدِ، إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَمْعِ. وَرَجُلٌ فِيلُ الرَّأْيِ، أَيْ ضَعِيفُ الرَّأْيِ. وَالْجَمْعُ أَفْيَالٍ. وَرَجُلٌ فَالٌّ، أَيْ ضَعِيفُ الرَّأْيِ، مُخْطِئُ الْفَرَاسَةِ. وَقَدْ فَالَ الرَّأْيُ يَفِيلُ فُيُولَةً، وَفَيَّلَ رَأْيَهُ تَفْيِيلًا: أَيْ ضَعَّفَهُ، فَهُوَ فَيِّلُ الرَّأْيِ. الثَّالِثَةُ: فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ (أَبْرَهَةَ) بَنَى الْقُلَّيْسَ بِصَنْعَاءَ، وَهِيَ كَنِيسَةٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي زَمَانِهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ: إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِكٍ كَانَ قَبْلَكَ، وَلَسْتُ بمنته حتى أصرف إليها حج العرب
__________
(1). من تتمة قول ابن السكيت. [ ..... ]
(2). في اللسان: (وصاحبها).

(20/187)


فلما تحدثت الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ ذَلِكَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، غَضِبَ رَجُلٌ مِنَ النَّسَأَةِ «1»، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْكَنِيسَةَ، فَقَعَدَ فِيهَا- أَيْ أَحْدَثَ- ثُمَّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأَرْضِهِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبْرَهَةُ، فَقَالَ: مَنْ صَنَعَ هَذَا؟ فَقِيلَ: صَنَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي تَحُجُّ إِلَيْهِ الْعَرَبُ بِمَكَّةَ، لَمَّا سَمِعَ قَوْلَكَ: (أَصْرِفُ إِلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ) غَضِبَ، فَجَاءَ فَقَعَدَ فِيهَا. أَيْ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ. فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ، وَحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إِلَى الْبَيْتِ حَتَّى يَهْدِمَهُ، وَبَعَثَ رَجُلًا كَانَ عِنْدَهُ إِلَى بَنِي كِنَانَةَ «2» يَدْعُوهُمْ إِلَى حَجِّ تِلْكَ الْكَنِيسَةِ، فَقَتَلَتْ بَنُو كِنَانَةَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَزَادَ أَبْرَهَةَ ذَلِكَ غَضَبًا وَحَنَقًا، ثُمَّ أَمَرَ الْحَبَشَةَ فَتَهَيَّأَتْ وَتَجَهَّزَتْ، ثُمَّ سَارَ وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيلِ، وَسَمِعَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ، فَأَعْظَمُوهُ وَفَظِعُوا بِهِ، وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ، حِينَ سَمِعُوا أَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الْكَعْبَةِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ، يُقَالُ لَهُ ذُو نَفْرٍ، فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ إِلَى حَرْبِ أَبْرَهَةَ، وَجِهَادِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَمَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وَإِخْرَابِهِ، فَأَجَابَهُ مَنْ أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فَقَاتَلَهُ، فَهُزِمَ ذُو نَفْرٍ وَأَصْحَابُهُ، وَأُخِذَ لَهُ ذُو نَفْرٍ فَأُتِيَ بِهِ أَسِيرًا، فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ قَالَ لَهُ ذُو نَفْرٍ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلْنِي، فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَائِي مَعَكَ خَيْرًا لَكَ مِنْ قَتْلِي، فَتَرَكَهُ مِنَ الْقَتْلِ، وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ، وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا. ثُمَّ مَضَى أَبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ، يُرِيدُ مَا خَرَجَ لَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمَ عرض له نفيل ابن حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيِّ فِي قَبِيلَتَيْ خَثْعَمَ: شَهْرَانَ وَنَاهِسٍ، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ، وَأُخِذَ لَهُ نُفَيْلٌ أَسِيرًا، فَأُتِيَ بِهِ، فَلَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ قَالَ لَهُ نُفَيْلٌ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلْنِي فَإِنِّي دَلِيلُكَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، وَهَاتَانِ يَدَايَ لَكَ عَلَى قَبِيلَتَيْ خَثْعَمَ: شَهْرَانَ وَنَاهِسٍ، بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ. وَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ يَدُلُّهُ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبٍ فِي رِجَالٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّمَا نَحْنُ عَبِيدُكَ، سَامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ، لَيْسَ عِنْدَنَا لَكَ خِلَافٌ، وَلَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي تُرِيدُ- يَعْنُونَ اللَّاتَ «3» - إِنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ،
__________
(1). في سيرة ابن هشام: (من النسأة أحد بني فقيم بن عدي ...... والنسأة: الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية فيحلون الشهر من أشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر ففيه أنزل الله تبارك وتعالى: (إنما النسي زيادة في الكفر. ((راجع سيرة ابن هشام طبع أوربا ص
(2). (29) بنو كنانة: قبيلة ذلك الرجل الذي أحدث في الكنيسة.
(3). في سيرة ابن هشام: (واللات: بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة).

(20/188)


نَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ. وَبَعَثُوا مَعَهُ أَبَا رِغَالٍ، حَتَّى أَنْزَلَهُ الْمُغَمِّسَ «1» فَلَمَّا أَنْزَلَهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَالٍ هُنَاكَ، فَرَجَمَتْ قَبْرَهُ الْعَرَبُ، فَهُوَ الْقَبْرُ الَّذِي يَرْجُمُ النَّاسَ بِالْمُغَمِّسِ، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرَ:
وَأَرْجُمُ قَبْرَهُ فِي كُلِّ عَامٍ ... كَرَجْمِ النَّاسِ قَبْرَ أَبِي رِغَالِ
فَلَمَّا نَزَلَ أَبْرَهَةُ بِالْمُغَمِّسِ، بَعَثَ رَجُلًا مِنْ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودٍ «2» عَلَى خَيْلٍ لَهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ فَسَاقَ إِلَيْهِ أَمْوَالَ أَهْلِ تِهَامَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَأَصَابَ فِيهَا مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، فَهَمَّتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ وَمَنْ كَانَ بِذَلِكَ الْحَرَمِ بِقِتَالِهِ، ثُمَّ عَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ. وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ حِنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ لَهُ: سَلْ عَنْ سَيِّدِ هَذَا الْبَلَدِ «3» وَشَرِيفِهِمْ، ثُمَّ قُلْ لَهُ: إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ: إِنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ، إِنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِنْ لَمْ تَعْرِضُوا لِي بِحَرْبٍ، فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ، فَإِنْ هُوَ لَمْ يُرِدْ حَرْبِي فَأْتِنِي بِهِ. فَلَمَّا دَخَلَ حِنَاطَةُ مَكَّةَ، سَأَلَ عَنْ سَيِّدِ قُرَيْشٍ وَشَرِيفِهَا، فَقِيلَ لَهُ: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبْرَهَةُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ، وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْهُ طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبئت خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ حَرَمُهُ وَبَيْتُهُ، وَإِنْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ حِنَاطَةُ: فَانْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِكَ، فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَمَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ، حَتَّى أَتَى الْعَسْكَرَ، فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفْرٍ، وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَحْبِسِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا ذَا نَفْرٍ، هَلْ عِنْدَكَ مِنْ غَنَاءٍ فِيمَا نَزَلَ بِنَا؟ فَقَالَ لَهُ ذُو نَفْرٍ، وَمَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ بِيَدَيْ مَلِكٍ، يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ غُدُوًّا وَعَشِيًّا! مَا عندي غناء في شي مِمَّا نَزَلَ بِكَ، إِلَّا أَنَّ أُنَيْسًا سَائِسَ الْفِيلِ صَدِيقٌ لِي، فَسَأُرْسِلُ إِلَيْهِ، وَأُوصِيهِ بِكَ، وَأُعْظِّمُ عَلَيْهِ حَقَّكَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى الْمَلِكِ، فَتُكَلِّمُهُ بِمَا بَدَا لَكَ، وَيَشْفَعَ لَكَ عِنْدَهُ بِخَيْرٍ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ حَسْبِي. فَبَعَثَ ذُو نَفْرٍ إِلَى أُنَيْسٍ، فقال له:
__________
(1). المغمس: موضع قرب مكة في طريق الطائف.
(2). كذا في بعض نسخ الأصل وتفسير الثعلبي وتاريخ الطبري (قسم أول ص 937 طبع أوربا) وتاريخ ابن الأثير (ج 1 ص 321 طبع أروبا). وفي بعض الأصول: تفسير الطبري وسيرة ابن هشام (ص 33 طبع أوربا):" مفصود" بالفاء بدل القاف.
(3). في هامش نسخة:" عن سيد هذا البيت.

(20/189)


إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ سَيِّدَ قُرَيْشٍ، وَصَاحِبَ عَيْنِ مَكَّةَ، وَيُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ، وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَقَدْ أَصَابَ لَهُ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ، فَاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ، وَانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتَطَعْتَ، فَقَالَ: أَفْعَلُ. فَكَلَّمَ أُنَيْسٌ أَبْرَهَةَ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِبَابِكَ، يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ، وَهُوَ صَاحِبُ عَيْنِ مَكَّةَ، يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ، وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَأْذَنْ لَهُ عَلَيْكَ، فَيُكَلِّمَكَ فِي حَاجَتِهِ. قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ أَبْرَهَةُ. وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَوْسَمَ النَّاسِ، وَأَعْظَمَهُمْ وَأَجْمَلَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلَّهُ، وَأَعْظَمَهُ عَنْ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ، فَنَزَلَ أَبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إِلَى جَنْبِهِ. ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ التُّرْجُمَانُ، فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي. فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ لَقَدْ كُنْتُ أَعْجَبْتنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي، أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ، قَدْ جِئْتُ لِهَدْمِهِ؟ لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ! قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَمْنَعُهُ. قَالَ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي! قَالَ أَنْتَ وَذَاكَ. فَرَدَّ عَلَيْهِ إِبِلَهُ. وَانْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ وَالتَّحَرُّزِ فِي شَعَفِ «1» الْجِبَالِ وَالشِّعَابِ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مَعَرَّةَ «2» الْجَيْشِ. ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ:
لَا هُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْ ... - نَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكَ «3»
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ عدوا «4» محالك
إن يدخلوا البلد الحرا ... م فأمر ما بدا لك
__________
(1). شعف الجبال: رءوسها.
(2). المعرة الأذى. ومعرة الجيش: أن ينزلوا بقوم فيأكلوا من زروعهم بغير علم. وقيل: وطأتهم من مروا به من مسلم أو معاهد وإصابتهم إياهم في حريمهم وأموالهم وزروعهم بما لم يؤذن لهم فيه.
(3). الحلال (بالكسر): القوم المقيمون المتجاورون. يريد بهم سكان الحرم.
(4)." عدوا" بالعين المهملة ومعناه الاعتداء وفي السان مادة (غدا): (غدوا) بالغين المعجمة. قال: (الغدو أصل الغد وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك فحذفت لامه ولم يستعمل تاما إلا في الشعر. ولم يرد عبد المطلب الغد بعينه وأنما أراد القريب من الزمان (.)

(20/190)


يقول: أي: شي مَا بَدَا لَكَ، لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ بِنَا. وَالْحِلَالُ: جَمْعُ حِلٍّ. وَالْمِحَالُ: الْقُوَّةُ وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَمَّا أَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ قَالَ:
يَا رَبِّ لَا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمْ حِمَاكَا
إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا ... إِنَّهُمْ لَنْ يَقْهَرُوا قُوَاكَا
وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ:
لَا هُمَّ أَخْزِ الْأَسْوَدَ بْنَ مَقْصُودْ ... الْأَخِذَ الْهَجْمَةَ فِيهَا التَّقْلِيدْ «1»
بَيْنَ حِرَاءٍ وَثَبِيرٍ فَالْبِيدْ ... يَحْبِسُهَا وَهِيَ أُولَاتُ التَّطْرِيدْ «2»
فَضَمَّهَا إِلَى طَمَاطِمٍ سُودْ ... قَدْ أَجْمَعُوا أَلَّا يَكُونَ مَعْبُودْ «3»
وَيَهْدِمُوا الْبَيْتَ الْحَرَامَ الْمَعْمُودْ ... وَالْمَرْوَتَيْنِ وَالْمَشَاعِرِ السُّودْ «4» [

أَخْفِرْهُ «5» يَا رَبِّ وَأَنْتَ مَحْمُودْ

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَلْقَةَ بَابِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ، فَتَحَرَّزُوا فِيهَا، يَنْتَظِرُونَ مَا أَبْرَهَةُ فَاعِلٌ بِمَكَّةَ إِذَا دَخَلَهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ، وَعَبَّأَ جَيْشَهُ، وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا، وَأَبْرَهَةُ مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْبَيْتِ، ثُمَّ الِانْصِرَافِ إِلَى الْيَمَنِ، فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ إِلَى مَكَّةَ، أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ، حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِ الْفِيلِ، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ فَقَالَ لَهُ: ابْرُكْ مَحْمُودُ، وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ. ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ، فَبَرَكَ الْفِيلُ. وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ، حَتَّى أَصْعَدَ فِي الْجَبَلِ. وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَضَرَبُوا في رأسه بالطبرزين «6» ليقوم فأبى، فأدخلوا
__________
(1). الهجمة: القطعة الضخمة من الإبل. قيل هي ما بين الثلاثين والمائة. وقيل أولها الأربعون. وقيل ما بين السبعين إلى المائة (انظر كتب اللغة). وتقليدها أنه جعل في عنقها شعارا ليعلم أنه هدى.
(2). حراء وثبير: جبلان بمكة. والبيد: جمع البيداء وهي الفلاة. وتطريد الإبل: تتابعها.
(3). السهيلي:" طماطم سود" يعني العلوج. [ ..... ]
(4). ما بين المربعين لم يذكره ابن إسحاق في روايته.
(5). أخفره: أي انقض عهده وعزمه فلا تؤمنه.
(6). الطبر (محركة): الفأس من السلاح (معربة). والطبرزين آلة من السلاح تشبه الطبر. وقيل هو الطبر بعينه.

(20/191)


مَحَاجِنَ «1» لَهُمْ فِي مَرَاقِّهِ، فَبَزَغُوهُ «2» بِهَا لِيَقُومَ، فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَامَ يُهَرْوِلُ وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ. وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ، أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ «3»، مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ: حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، أَمْثَالَ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ، لَا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ كُلَّهُمْ أَصَابَتْ. وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ الَّتِي جَاءُوا مِنْهَا، ويسألون عن نفيل ابن حَبِيبٍ، لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى الْيَمَنِ. فَقَالَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حِينَ رَأَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ:
أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبُ ... وَالْأَشْرَمُ «4» الْمَغْلُوبُ لَيْسَ الْغَالِبُ
وَقَالَ أَيْضًا:
حَمِدْتُ اللَّهَ إِذْ أَبْصَرْتُ طَيْرًا ... وَخِفْتُ حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا
فَكُلُّ الْقَوْمِ يَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ ... كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا
فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَيَهْلِكُونَ [بِكُلِّ مَهْلِكٍ «5»] عَلَى كُلِّ سَهْلٍ «6»، وَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ يَسْقُطُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً «7»، كُلَّمَا سَقَطَتْ مِنْهُ أُنْمُلَةٌ أَتْبَعَتْهَا مِنْهُ مِدَّةٌ تَمُثُّ»
قَيْحًا وَدَمًا، حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ، فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ، فِيمَا يَزْعُمُونَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ- يَزِيدُ أَحَدَهُمَا وَيَنْقُصُ-: سَبَبُ الْفِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّ فِتْيَةً مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجُوا تُجَّارًا إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ، فَنَزَلُوا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى بِيعَةٍ لِلنَّصَارَى، تُسَمِّيهَا النَّصَارَى الْهَيْكَلَ، فَأَوْقَدُوا نَارًا لِطَعَامِهِمْ وَتَرَكُوهَا وَارْتَحَلُوا، فَهَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ عَلَى النَّارِ فَأَضْرَمَتِ الْبَيْعَةَ نَارًا، فَاحْتَرَقَتْ، فَأَتَى الصَّرِيخُ إلى النجاشي فأخبره،
__________
(1). المحجن: العصا المنعطفة الرأس كالصولجان.
(2). بزغوه: شرطوه.
(3). في اللسان والنهاية مادة (بلس): (قال عباد بن موسى أظنها الزرازير).
(4). الاشرم: أبرهة سمى بذلك لأنه جاءه حجر فشرم أنفه فسمى الاشرم.
(5). زيادة عن سيرة ابن هشام.
(6). في سيرة ابن هشام: (منهل)
(7). أي ينتثر جسمه والأنملة طرف الإصبع. ويعبر بها عن الصغير من الأشياء.
(8). مث السقاء: رشح.

(20/192)


فَاسْتَشَاطَ غَضَبًا. فَأَتَاهُ أَبْرَهَةُ بْنُ الصَّبَّاحِ وَحُجْرُ بْنُ شُرَحْبِيلَ وَأَبُو يَكْسُومَ الْكِنْدِيُّونَ، وَضَمِنُوا لَهُ إِحْرَاقَ الْكَعْبَةِ وَسَبْيَ مَكَّةَ. وَكَانَ النَّجَاشِيُّ هُوَ الْمَلِكُ، وَأَبْرَهَةُ صَاحِبُ الْجَيْشِ، وَأَبُو يَكْسُومَ نَدِيمُ الْمَلِكِ، وَقِيلَ وَزِيرٌ، وَحُجْرُ بْنُ شُرَحْبِيلَ مِنْ قُوَّادِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَبُو يَكْسُومُ هُوَ أَبْرَهَةُ ابن الصَّبَّاحِ. فَسَارُوا وَمَعَهُمُ الْفِيلُ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ فِيلٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ ثَمَانِيَةُ فِيَلَةٍ. وَنَزَلُوا بِذِي الْمَجَازِ، وَاسْتَاقُوا سَرْحَ مَكَّةَ، وَفِيهَا إِبِلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَتَى الرَّاعِي نَذِيرًا، فَصَعِدَ الصفا، فصاح: وا صباحاه! ثُمَّ أَخْبَرَ النَّاسَ بِمَجِيءِ الْجَيْشِ وَالْفِيلِ. فَخَرَجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى أَبْرَهَةَ، وَسَأَلَهُ فِي إِبِلِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي النَّجَاشِيِّ، هَلْ كَانَ مَعَهُمْ، فَقَالَ قَوْمٌ كَانَ مَعَهُمْ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ. وَنَظَرَ أَهْلُ مَكَّةَ بِالطَّيْرِ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَحْرِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنَّ هَذِهِ الطَّيْرَ غَرِيبَةٌ بِأَرْضِنَا، وَمَا هِيَ بِنَجْدِيَّةٍ وَلَا تِهَامِيَّةٍ وَلَا حِجَازِيَّةٍ" وَإِنَّهَا أَشْبَاهُ الْيَعَاسِيبِ «1». وَكَانَ فِي مَنَاقِيرِهَا وَأَرْجُلِهَا حِجَارَةٌ، فَلَمَّا أَطَلَّتْ «2» عَلَى الْقَوْمِ أَلْقَتْهَا عَلَيْهِمْ، حَتَّى هَلَكُوا. قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: جَاءَتِ الطَّيْرُ عَشِيَّةً، فَبَاتَتْ ثُمَّ صَبَّحَتْهُمْ بِالْغَدَاةِ فَرَمَتْهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي مَنَاقِيرِهَا حَصًى كَحَصَى الْخَذْفِ «3»، أَمَامَ كُلِّ فِرْقَةٍ طَائِرٌ يَقُودُهَا، أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ، أَسْوَدُ الرَّأْسِ، طَوِيلُ الْعُنُقِ. فَلَمَّا جَاءَتْ عَسْكَرَ الْقَوْمِ وَتَوَافَتْ، أَهَالَتْ مَا فِي مَنَاقِيرِهَا عَلَى مَنْ تَحْتَهَا، مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ صَاحِبِهِ المقتول به. وقيل: كان كُلِّ حَجَرٍ مَكْتُوبٌ: مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ نَجَا، وَمَنْ عَصَاهُ غَوَى. ثُمَّ انْصَاعَتْ «4» رَاجِعَةً مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: سَأَلْتُ عَنْهَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَقَالَ: حَمَامُ مَكَّةَ مِنْهَا. وَقِيلَ: كَانَ يَقَعُ الْحَجَرُ عَلَى بَيْضَةِ «5» أَحَدِهِمْ فَيَخْرِقُهَا، وَيَقَعُ فِي دِمَاغِهِ، وَيَخْرِقُ الْفِيلَ وَالدَّابَّةَ. وَيَغِيبُ الْحَجَرُ فِي الْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ وَقْعِهِ. وَكَانَ أَصْحَابُ الْفِيلِ سِتِّينَ أَلْفًا، لَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ أحد إِلَّا أَمِيرُهُمْ، رَجَعَ وَمَعَهُ شِرْذِمَةٌ لَطِيفَةٌ. فَلَمَّا أَخْبَرُوا بِمَا رَأَوْا هَلَكُوا. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَبْرَهَةُ جَدُّ النَّجَاشِيِّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبْرَهَةُ هُوَ الْأَشْرَمُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَفَاتَنَ «6» مَعَ أَرِيَاطٍ، حتى تزاحفا،
__________
(1). اليعسوب: أمير النحل.
(2). في نسخة: (أقبلت).
(3). الخذف: الرمي بالحصى الصغار بأطراف الأصابع. [ ..... ]
(4). انصاع الرجل: انفتل راجعا ومر مسرعا.
(5). هي بيضة الحديد.
(6). المفاتنة: اختلاف الناس في الآراء وما يقع بينهم من القتال.

(20/193)


ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَلْتَقِيَا بِشَخْصَيْهِمَا، فَمَنْ غَلَبَ فَلَهُ الْأَمْرُ. فَتَبَارَزَا- وَكَانَ أَرِيَاطُ جَسِيمًا عَظِيمًا، فِي يَدِهِ حَرْبَةٌ، وَأَبْرَهَةُ قَصِيرًا حَادِرًا «1» حليما ذَا دِينٍ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَمَعَ أَبْرَهَةَ وَزِيرٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ عَتْوَدَةُ- فَلَمَّا دَنَوْا ضَرَبَ أَرِيَاطٌ بِحَرْبَتِهِ رَأْسَ أَبْرَهَةَ، فَوَقَعَتْ عَلَى جَبِينِهِ، فَشَرَمَتْ عَيْنَهُ وَأَنْفَهُ وَجَبِينَهُ وَشَفَتَهُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْأَشْرَمُ. وَحَمَلَ عَتْوَدَةُ عَلَى أَرِيَاطٍ فَقَتَلَهُ. فَاجْتَمَعَتْ الْحَبَشَةُ لِأَبْرَهَةَ، فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، وَحَلَفَ لَيَجُزَّنَّ نَاصِيَةَ أَبْرَهَةَ، وَيَطَأْنَ بِلَادَهُ. فَجَزَّ أَبْرَهَةُ نَاصِيَتَهَ" وَمَلَأَ مِزْوَدًا مِنْ تُرَابِ أَرْضِهِ، وَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ عَبْدُكَ، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا أَقُومُ بِأَمْرِ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ جَزَزْتُ نَاصِيَتِي، وَبَعَثْتُ إِلَيْكَ بِتُرَابِ أَرْضِي، لِتَطَأَهُ وَتَبَرَّ فِي يَمِينِكَ، فَرَضِيَ عَنْهُ النَّجَاشِيُّ. ثُمَّ بَنَى أَبْرَهَةُ كَنِيسَةً بِصَنْعَاءَ، لِيَصْرِفَ إِلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. الرَّابِعَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ عَامُ الْفِيلِ قَبْلَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ [وُلِدْتُ عَامَ الْفِيلِ]. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: [يَوْمَ الْفِيلِ]. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي التَّفْسِيرِ لَهُ. وَقَالَ فِي كِتَابِ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ بَعْدَ الْفِيلِ بِخَمْسِينَ يَوْمًا. وَوَافَقَ مِنْ شُهُورِ الرُّومِ الْعِشْرِينَ مِنْ أَسْبَاطٍ «2»، فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَشْرَةَ مِنْ مُلْكِ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ. قَالَ: وَحَكَى أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ مَوْلِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِاثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِ أَنُوشِرْوَانَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ آمِنَةُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَوُلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَكَانَتْ مُدَّةُ حَمْلِهِ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ كُمْلًا وَيَوْمَيْنِ مِنَ التَّاسِعِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ، حَكَاهُ ابْنُ شَاهِينَ «3» أَبُو حَفْصٍ، فِي فَضَائِلِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ لَهُ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ، وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ: وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ. وَقَدْ رَوَى النَّاسُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قال:
__________
(1). الحادر: المجتمع الخلق.
(2). في نسخة:" شباط" (بالشين المعجمة كغراب)، وورد بالسين المهملة.
(3). في بعض نسخ الأصل:" أبو شاهين حفص".

(20/194)


أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)

مِنْ مُرُوءَةِ الرَّجُلِ أَلَّا يُخْبِرَ بِسِنِّهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ صَغِيرًا اسْتَحْقَرُوهُ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا اسْتَهْرَمُوهُ. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَالِكًا لَا يُخْبِرُ بِسِنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكْتُمُ سِنَّهُ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعُلَمَاءِ قُدْوَةً بِهِ. فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُخْبِرَ الرَّجُلَ بِسِنِّهِ كَانَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا". وَقَالَ عَبْدُ الملك ابن مَرْوَانَ لِعَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ: أَنْتَ أَكْبَرُ أَمُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا أَسَنُّ مِنْهُ، وُلِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ، وَأَنَا أَدْرَكْتُ سَائِسَهُ وَقَائِدَهُ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ، وَقِيلَ لِبَعْضِ الْقُضَاةِ: كَمْ سِنُّكَ؟ قَالَ: سِنُّ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ حِينَ وَلَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَكَانَ سِنَّهُ يَوْمَئِذٍ دُونَ الْعِشْرِينَ. الْخَامِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَتْ قِصَّةُ الْفِيلِ فِيمَا بَعْدُ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ وَقَبْلَ التَّحَدِّي، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَوْكِيدًا لِأَمْرِهِ، وَتَمْهِيدًا لِشَأْنِهِ. وَلَمَّا تَلَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ، كَانَ بِمَكَّةَ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ شَهِدَ تِلْكَ الْوَقْعَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَلَمْ تَرَ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ رَأَى قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِقَهُ أَعْمَيَيْنِ يَتَكَفَّفَانِ النَّاسَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَعَ حَدَاثَةِ سِنِّهَا: لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِقَهُ أَعْمَيَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: رَأَيْتُ فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوًا مِنْ قَفِيزَيْنِ من تلك الحجارة، سودا مخططة بحمرة.

[سورة الفيل (105): آية 2]
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) أَيْ فِي إِبْطَالٍ وَتَضْيِيعٍ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكِيدُوا قُرَيْشًا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَالْبَيْتَ بِالتَّخْرِيبِ وَالْهَدْمِ. فَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ بَعَثَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، يَنْظُرُ مَا لَقُوا مِنْ تِلْكَ الطَّيْرِ، فَإِذَا الْقَوْمُ مُشَدَّخِينَ جَمِيعًا، فَرَجَعَ يَرْكُضُ فَرَسُهُ، كَاشِفًا عَنْ فَخِذِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُوهُ قَالَ: إِنَّ ابْنِي هَذَا أَفْرَسُ الْعَرَبِ. وَمَا كَشَفَ عَنْ فَخِذِهِ إِلَّا بَشِيرًا أَوْ نَذِيرًا. فَلَمَّا دَنَا مِنْ نَادِيهِمْ بِحَيْثُ يُسْمِعُهُمُ الصَّوْتَ، قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: هَلَكُوا جَمِيعًا. فَخَرَجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ. وكانت

(20/195)


وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)

أَمْوَالُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْهَا، وَبِهَا تَكَامَلَتْ رئاسة عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لِأَنَّهُ احْتَمَلَ مَا شَاءَ مِنْ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ، ثُمَّ خَرَجَ أَهْلُ مَكَّةَ بَعْدَهُ وَنَهَبُوا. وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ حَفَرَ حُفْرَتَيْنِ فَمَلَأَهُمَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوْهَرِ، ثُمَّ قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ- وَكَانَ خَلِيلًا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ-: اخْتَرْ أَيّهمَا شِئْتَ. ثُمَّ أَصَابَ النَّاسُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى ضَاقُوا ذَرْعًا، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ ذَلِكَ:
أَنْتَ مَنَعْتَ الْحَبَشَ «1» وَالْأَفْيَالَا ... وَقَدْ رَعَوْا بمكة الا جبالا «2»
وَقَدْ خَشِينَا مِنْهُمُ الْقِتَالَا ... وَكُلُّ أَمْرٍ لَهُمُ «3» مِعْضَالَا

شُكْرًا وَحَمْدًا لَكَ ذَا الْجَلَالَا «4»

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ الْحَبَشَةَ عَنْ مَكَّةَ عَظَّمَتِ الْعَرَبُ قُرَيْشًا، وَقَالُوا: [هُمْ «5»] أَهْلُ اللَّهِ، قَاتَلَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَفَاهُمْ مَئُونَةَ عَدُوِّهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ:
أَنْتَ الْجَلِيلُ رَبَّنَا لَمْ تَدْنِسِ ... أَنْتَ حَبَسْتَ الْفِيلَ بِالْمُغَمِّسِ
مِنْ بَعْدِ مَا هَمَّ بِشَرٍّ مُبْلِسِ ... حَبَسْتَهُ فِي هَيْئَةِ الْمُكَرْكَسِ

وَمَا لَهُمْ مِنْ فَرَجٍ وَمَنْفَسِ

والمكركس: المنكوس المطروح.

[سورة الفيل (105): آية 3]
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3)
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ طَيْرًا مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يُرَ قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا مِثْلُهَا. وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [إِنَّهَا طَيْرٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تُعَشِّشُ وَتُفَرِّخُ [. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ، وَأَكُفٍّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَتْ طَيْرًا خُضْرًا، خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، لَهَا رُءُوسٌ كَرُءُوسِ السِّبَاعِ. وَلَمْ تُرَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: هِيَ أَشْبَهُ شي بِالْخَطَاطِيفِ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ أَشْبَاهُ الْوَطَاوِيطِ، حَمْرَاءُ وسوداء. وعن
__________
(1). الظاهر أنه جمع (أحبش) بوزن أحمر، وإن لم ينطقوا به. قال في تاج العروس: كأنه جمع أحبش (بوزن أحمر).
(2). في روح المعاني، (الاحبالا) بالحاء.
(3). في روح المعاني (منهم) بدل (لهم).
(4). كذا في نسخ الأصل وغيرها من المصادر.
(5). زيادة عن سيرة ابن هشام.

(20/196)


سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا: هِيَ طَيْرٌ خُضْرٌ لَهَا مَنَاقِيرٌ صُفْرٌ. وَقِيلَ: كَانَتْ بِيضًا. وَقَالَ محمد ابن كَعْبٍ: هِيَ طَيْرٌ سُودٌ بَحْرِيَّةٌ، فِي مَنَاقِيرِهَا وَأَظْفَارِهَا الْحِجَارَةُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا الْعَنْقَاءُ الْمُغْرِبُ «1» الَّتِي تُضْرَبُ بِهَا الْأَمْثَالُ، قَالَ عِكْرِمَةُ: أَبابِيلَ أَيْ مُجْتَمِعَةٌ. وَقِيلَ: مُتَتَابِعَةٌ، بَعْضُهَا فِي إِثْرِ بَعْضٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. وَقِيلَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ، تجئ من كل ناحية من ها هنا وها هنا، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَّفِقَةٌ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّهَا جَمَاعَاتٌ عِظَامٌ. يُقَالُ: فُلَانٌ يُؤَبِّلُ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ يَعْظُمُ عَلَيْهِ وَيَكْثُرُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِبِلِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَاحِدِ (أَبابِيلَ)، فَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ الْأَخْفَشُ يُقَالُ: جَاءَتْ إِبِلُكَ أَبَابِيلَ، أَيْ فرقا، وطيرا أبابيل. قال: وهذا يجئ فِي مَعْنَى التَّكْثِيرِ، وَهُوَ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا وَاحِدَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاحِدُهُ إِبَّوْلٌ. مِثْلُ عِجَّوْلٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ- وَهُوَ الْمُبَرِّدُ-: إِبِّيلٌ مثل سكين. فال: وَلَمْ أَجِدِ الْعَرَبَ تَعْرِفُ لَهُ وَاحِدًا فِي غَيْرِ الصِّحَاحِ. وَقِيلَ فِي وَاحِدِهِ إِبَّالٌ. وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ فِي الْجَمْعِ:
وَلَعِبَتْ طَيْرٌ بِهِمْ أَبَابِيلْ ... فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
طَرِيقٌ وَجَبَّارٌ «2» رِوَاءٌ أُصُولُهُ ... عَلَيْهِ أَبَابِيلٌ مِنَ الطَّيْرِ تَنْعَبُ
وَقَالَ آخَرُ:
كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إِذْ سَالَتِ الْأَرْضُ بِالْجُرْدِ «3» الْأَبَابِيلِ
وَقَالَ آخَرُ:
تَرَاهُمْ إِلَى الدَّاعِي سِرَاعًا كأنهم ... أبابيل طير تحت دجن مسخن «4»
__________
(1). هي التي أغربت في البلاد فنأت ولم تحس ولم تر.
(2). الجبار من النخل: ما طال وفات اليد.
(3). الجرد (بالضم كالجريدة): خيل لا رجالة فيها. والجرد- أيضا-: قصر شعر الجلد في الفرس، وهو من الأوصاف المحمودة في الخيل. [ ..... ]
(4). كذا في نسخ الأصل، (بالخاء المعجمة والنون). وفي تفسير الثعلبي: ... تحت دجن مسحر. (بالحاء المهملة والراء). وقد نسبه إلى امرئ القيس، ولم نجده في ديوانه. ولعل صوابه: ... تحت دجن مسخر. (بالخاء المعجمة والراء).

(20/197)


تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)

قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَزَعَمَ الرُّؤَاسِيُّ- وَكَانَ ثِقَةً- أَنَّهُ سَمِعَ فِي وَاحِدِهَا" إِبَّالَةً" مُشَدَّدَةً. وَحَكَى الْفَرَّاءُ" إِبَالَةً" مُخَفَّفًا. قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: ضِغْثٌ «1» عَلَى إِبَالَةٍ. يُرِيدُ: خِصْبًا عَلَى خِصْبٍ. قَالَ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إِيبَالٌ كَانَ صَوَابًا، مِثْلَ دِينَارٍ وَدَنَانِيرَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ: الْأَبَابِيلُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِبِلِ المؤبلة، وهي الاقاطيع.

[سورة الفيل (105): آية 4]
تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
في الصحاح: بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قَالُوا: حِجَارَةٌ مِنْ طِينٍ، طُبِخَتْ بِنَارِ جَهَنَّمَ، مَكْتُوبٌ فِيهَا أَسْمَاءُ الْقَوْمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً «2» [الذاريات: 34 - 33]. وقال عبد الرحمن ابن أَبْزَى: مِنْ سِجِّيلٍ: مِنَ السَّمَاءِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ. وَقِيلَ مِنَ الْجَحِيمِ. وَهِيَ" سِجِّينٌ" ثُمَّ أُبْدِلَتِ اللَّامُ نُونًا، كَمَا قَالُوا فِي أُصَيْلَانَ أُصَيْلَالٍ. قَالَ ابْنُ مقبل:
ضَرْبًا تَوَاصَتْ بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينَا «3»

وَإِنَّمَا هُوَ سِجِّيلًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنْ سِجِّيلٍ أَيْ مِمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعَذَّبُوا بِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ السِّجِلِّ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي سِجِّيلٍ فِي" هُودٍ" «4» مُسْتَوْفًى. قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَتْ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مَعَهَا، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَهُمْ حَجَرٌ مِنْهَا خَرَجَ بِهِ الْجُدَرِيُّ لَمْ يُرَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَكَانَ الْحَجَرُ كَالْحِمَّصَةِ وَفَوْقَ الْعَدَسَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْحَجَرُ إِذَا وَقَعَ عَلَى أَحَدِهِمْ نَفِطَ جِلْدُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلُ الْجُدَرِيِّ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ تَرْمِيهِمْ بِالتَّاءِ، لِتَأْنِيثِ جَمَاعَةِ الطَّيْرِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَطَلْحَةُ" يَرْمِيهِمْ" بِالْيَاءِ، أَيْ يَرْمِيهِمُ اللَّهُ، دليله قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «5» [الأنفال: 17] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الطَّيْرِ، لِخُلُوِّهَا مِنْ عَلَامَاتِ التَّأْنِيثِ، وَلِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيِّ.
__________
(1). الضغث: قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس. والابالة: الحزمة من الحطب. في فرائد اللآل: يضرب لمن حملك مكروها ثم زادك عليه.
(2). آية 33 سورة الذاريات.
(3). صدر البيت كما في اللسان:
ورجلة يضربون البيض عن عرض

(4). راجع ج 9 ص 81.
(5). آية 17 سورة الأنفال.

(20/198)


فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

[سورة الفيل (105): آية 5]
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
أَيْ جَعَلَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْفِيلِ كَوَرَقِ الزَّرْعِ إِذَا أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ، فَرَمَتْ بِهِ مِنْ أَسْفَلَ. شَبَّهَ تَقَطُّعَ أَوْصَالِهِمْ بِتَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي الْعَصْفِ فِي سُورَةِ" الرَّحْمَنِ" «1». وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَرَقُ الزَّرْعِ قَوْلُ عَلْقَمَةَ:
تَسْقِي مَذَانِبَ قَدْ مَالَتْ عَصِيفَتُهَا ... حَدُورُهَا مِنْ أَتِيِّ الْمَاءِ مَطْمُومُ «2»
وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
وَمَسَّهُمْ مَا مَسَّ أَصْحَابَ الْفِيلْ ... تَرْمِيهِمْ حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلْ
وَلَعِبَتْ طَيْرٌ بِهِمْ أَبَابِيلْ ... فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ
الْعَصْفُ: جَمْعٌ، وَاحِدَتُهُ عَصْفَةٌ وَعُصَافَةٌ، وَعَصِيفَةٌ. وَأَدْخَلَ الْكَافَ فِي كَعَصْفٍ لِلتَّشْبِيهِ مَعَ مِثْلِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «3» [الشورى: 11]. وَمَعْنَى مَأْكُولٍ مَأْكُولٌ حَبُّهُ. كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنٌ، أَيْ حَسَنٌ وَجْهُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قِشْرُ الْبُرِّ، يَعْنِي الْغِلَافَ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ حَبَّةُ الْقَمْحِ. وَيُرْوَى أَنَّ الْحَجَرَ كَانَ يَقَعُ عَلَى أَحَدِهِمْ فَيُخْرِجُ كُلَّ مَا فِي جَوْفِهِ، فَيَبْقَى كَقِشْرِ الْحِنْطَةِ إِذَا خَرَجَتْ مِنْهُ الْحَبَّةُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَمَّا رَمَتِ الطَّيْرُ بِالْحِجَارَةِ، بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا فَضَرَبَتِ الْحِجَارَةَ فَزَادَتْهَا شِدَّةً، فَكَانَتْ لَا تَقَعُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا هَلَكَ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلٌ «4» مِنْ كِنْدَةَ، فَقَالَ:
فَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ وَلَمْ تَرِيهِ «5» ... لَدَى جَنْبِ المغمس ما لقينا
__________
(1). راجع ج 17 ص 156.
(2). المذانب: مسايل الماء. وَالْعَصِيفَةُ: الْوَرَقُ الْمُجْتَمِعُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ السُّنْبُلُ. وحدورها: ما انحدر منها واطمأن. والآتي (كغنى): الجدول. والمطموم: المملوء بالماء.
(3). آية 11 سورة الشورى.
(4). هو نفيل بن حبيب كما في تاريخ الطبري وابن الأثير.
(5). في نسخ الأصل: (ولو ترانا) وهو تحريف لأنه يخاطب امرأة. والأبيات كما أوردها الطبري (ص 942 قسم أول طبع أوربا) وابن الأثير (ج 1 ص 322 طبع أوربا):
ألا حييت عنا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا
أتانا قابس منكم عشاء ... فلم يقدر لقابسكم لدينا
ردينة لو رأيت ولم تريه ... لدى جنب المحصب ما رأينا
إذن لعذرتني وحمدت رأيى ... ولم تأسى على ما فات بينا
حمدت الله إذ عاينت طيرا ... وخفت حجارة تلقى علينا
لكل الْقَوْمِ يَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ ... كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دينا

(20/199)


لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)

خَشِيَتِ اللَّهَ إِذْ قَدْ بَثَّ طَيْرًا ... وَظِلَّ سَحَابَةٍ مَرَّتْ عَلَيْنَا
وَبَاتَتْ كُلُّهَا تَدْعُو بِحَقٍّ ... كَأَنَّ لَهَا عَلَى الْحُبْشَانِ دَيْنَا
وَيُرْوَى أَنَّهَا لَمْ تُصِبْهُمْ كُلَّهمْ، لَكِنَّهَا أَصَابَتْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَمِيرَهُمْ رَجَعَ وشر ذمة لَطِيفَةٌ مَعَهُ، فَلَمَّا أَخْبَرُوا بِمَا رَأَوْا هَلَكُوا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا رَدَّ اللَّهُ الْحَبَشَةَ عَنْ مَكَّةَ، عَظَّمَتِ الْعَرَبُ قُرَيْشًا وَقَالُوا: أَهْلُ اللَّهِ، قَاتَلَ عَنْهُمْ، وَكَفَاهُمْ مَئُونَةَ عَدُوِّهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.

[تفسير سورة قريش]
تَفْسِيرُ سُورَةِ" قُرَيْشٍ" مَكِّيَّةٌ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ وَهِيَ أَرْبَعُ آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة قريش (106): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1)
قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُتَّصِلَةٌ بِالَّتِي قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى. يَقُولُ: أَهْلَكْتُ أَصْحَابَ الْفِيلِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، أَيْ لِتَأْتَلِفَ، أَوْ لِتَتَّفِقَ قُرَيْشٌ، أَوْ لِكَيْ تَأْمَنَ قُرَيْشٌ فَتُؤَلِّفُ رِحْلَتَيْهَا. وَمِمَّنْ عَدَّ السُّورَتَيْنِ وَاحِدَةً أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَلَا فَصْلَ بَيْنَهُمَا فِي مُصْحَفِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ لَنَا إِمَامٌ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَيَقْرَؤُهُمَا مَعًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ: صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ خَلْفَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فقرأ في الاولى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين: 1] وفي الثانية (ألم تر كيف) [الفيل: 1] و (لإيلاف قريش) [قُرَيْشٍ: 1]. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذِهِ السُّورَةُ مُتَّصِلَةٌ بِالسُّورَةِ الْأُولَى «1»، لِأَنَّهُ ذَكَّرَ أَهْلَ مَكَّةَ عَظِيمَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا فَعَلَ بِالْحَبَشَةِ، ثُمَّ قَالَ: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ نِعْمَةً مِنَّا عَلَى قُرَيْشٍ. وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَخْرُجُ فِي تِجَارَتِهَا، فَلَا يُغَارُ عَلَيْهَا وَلَا تُقْرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. يَقُولُونَ هُمْ أَهْلُ بَيْتِ الله عز وجل، حتى جاء صاحب الفيل
__________
(1). الذي في كتاب الفراء:" قال بعضهم كانت موصولة ب (- ألم تر كيف فعل ربك) إلخ.

(20/200)


لِيَهْدِمَ الْكَعْبَةَ، وَيَأْخُذَ حِجَارَتَهَا، فَيَبْنِيَ بِهَا بَيْتًا فِي الْيَمَنِ يَحُجُّ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَذَكَّرَهُمْ نِعْمَتَهُ. أَيْ فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، أَيْ لِيَأْلَفُوا الْخُرُوجَ وَلَا يجترئ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ. ذَكَرَهُ النحاس: حدثنا أحمد ابن شُعَيْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ- وَكَانَ ثِقَةً مِنْ خِيَارِ النَّاسِ- قَالَ حَدَّثَنِي خَطَّابُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ قَالَ: نِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. قَالَ: كَانُوا يَشْتُونَ بِمَكَّةَ، وَيَصِيفُونَ بِالطَّائِفِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ تَامًّا، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ أَثْنَاءَ السُّورَةِ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِمُتَّصِلَةٍ، لِأَنَّ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى انْقِضَاءِ السُّورَةِ وَافْتِتَاحِ الْأُخْرَى، وَأَنَّ اللَّامَ مُتَعَلِّقَةٌ بقوله تعالى: لْيَعْبُدُوا
أَيْ فَلْيَعْبُدُوا هَؤُلَاءِ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، لِإِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ لِلِامْتِيَارِ «1». وَكَذَا قَالَ الْخَلِيلُ: لَيْسَتْ مُتَّصِلَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: أَلَّفَ اللَّهُ قُرَيْشًا إِيلَافًا فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. وَعَمِلَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ فِيمَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ غَيْرُ عَاطِفَةٍ، كَقَوْلِكَ: زَيْدًا فَاضْرِبْ. وَقِيلَ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ لَامُ التَّعَجُّبِ، أَيِ اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: بمعنى إلى. وقرا ابن عامر: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ مَهْمُوزًا مُخْتَلَسًا بِلَا يَاءٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ" لِيلَافِ" بِلَا هَمْزٍ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ. الْبَاقُونَ لِإِيلافِ بِالْيَاءِ مَهْمُوزًا مُشْبَعًا، مِنْ آلَفْتُ أؤلف إِيلَافًا. قَالَ الشَّاعِرُ:
الْمُنْعِمِينَ إِذَا النُّجُومُ تَغَيَّرَتْ ... وَالظَّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ
وَيُقَالُ: أَلِفْتُهُ إِلْفًا وَإِلَافًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا:" لِإِلْفِ قُرَيْشٍ" وَقَدْ جَمَعَهُمَا مَنْ قَالَ:
زَعَمْتُمْ أَنَّ إِخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ «2» ... لَهُمْ إِلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَافُ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وفلان قد ألف هذا الموضع (بالكسر) يألفه إِلْفًا، وَآلَفَهُ إِيَّاهُ غَيْرُهُ. وَيُقَالُ أَيْضًا: آلَفْتُ الموضع أولفه إيلافا. وكذلك: آلفت الموضع أولفه مؤالفة وإلافا،
__________
(1). أي لجلب الطعام.
(2). كذا في نسخ الأصل بالرفع على الخبر. وفي اللسان وشرح القاموس: (قريشا) بالنصب على البدل. [ ..... ]

(20/201)


فَصَارَ صُورَةُ أَفْعَلَ وَفَاعَلَ فِي الْمَاضِي وَاحِدَةً. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ" لِيَأْلَفَ" بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى الْأَمْرِ. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفَتْحُ لَامِ الْأَمْرِ لُغَةٌ حَكَاهَا ابْنُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرُهُ. وَكَانَ عِكْرِمَةُ يَعِيبُ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ لِإِيلافِ. وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ" إِلَافِ قُرَيْشٍ" اسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ أَبِي طَالِبٍ يُوصِي أَخَاهُ أَبَا لَهَبٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَلَا تُتْرَكَنْهُ مَا حَيِيتَ لِمُعْظَمٍ ... وَكُنْ رَجُلًا ذَا نَجْدَةٍ وَعَفَافِ
تَذُودُ الْعِدَا عَنْ عُصْبَةٍ هَاشِمِيَّةٍ ... إِلَافُهُمُ فِي النَّاسِ خَيْرُ إِلَافِ
وَأَمَّا قُرَيْشٌ فَهُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنُ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ دُونَ بَنِي كِنَانَةَ وَمَنْ فَوْقَهُ. وَرُبَّمَا قَالُوا: قريشي، وهو القياس، قال الشاعر:
بكل قريشي عليه مهابة»

فَإِنْ أَرَدْتَ بِقُرَيْشٍ الْحَيَّ صَرَفْتَهُ، وَإِنْ أَرَدْتَ به القبيلة لم تصرفه، قال الشاعر:
وَكَفَى قُرَيْشَ الْمَعْضِلَاتِ وَسَادَهَا «2»

وَالتَّقْرِيشُ: الِاكْتِسَابُ، وَتَقَرَّشُوا أَيْ تَجَمَّعُوا. وَقَدْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، فَجَمَعَهُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ فِي الْحَرَمِ، حَتَّى اتَّخَذُوهُ مَسْكَنًا. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبُونَا قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا ... بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا بَنُو فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ. فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَلِدْهُ فِهْرٌ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: [إِنَّا وَلَدُ النَّضْرِ ابن كنانة لا نقفوا «3» أُمَّنَا، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا]. وَقَالَ وَائِلَةُ بن الأسقع: قال النبي صلى الله
__________
(1). تمامه
سريع إلى داعي الندى والتكرم

(2). هذا عجز بيت لعدي بن الرقاع يمدح الوليد بن عبد الملك. وصدره كما في اللسان:
غلب المساميح الوليد سماحة

(3). قفا فلان فلانا: إذا قذفه بما ليس فيه أي لا نتهمها ولا نقذفها، وقيل: معناه لا نترك النسب إلى الآباء، وننتسب إلى الأمهات.

(20/202)


إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ]. صَحِيحٌ ثَابِتٌ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ قُرَيْشًا عَلَى أَقْوَالٍ: أحدهما: لِتَجَمُّعِهِمْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَالتَّقَرُّشُ: التَّجَمُّعُ وَالِالْتِئَامُ. قَالَ أَبُو جِلْدَةَ الْيَشْكُرِيُّ: «1»
إِخْوَةٌ قَرَّشُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنَا ... فِي حَدِيثٍ مِنْ دَهْرِهِمْ وَقَدِيمِ
الثَّانِي-: لِأَنَّهُمْ كَانُوا تُجَّارًا يَأْكُلُونَ مِنْ مَكَاسِبِهِمْ. وَالتَّقَرُّشُ: التَّكَسُّبُ. وَقَدْ قَرَشَ يَقْرُشُ قَرْشًا: إِذَا كَسَبَ وَجَمَعَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَبِهِ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ. الثَّالِثُ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُفَتِّشُونَ الْحَاجَّ «2» مِنْ ذِي الْخَلَّةِ، فَيَسُدُّونَ خَلَّتَهُ. وَالْقَرْشُ: التَّفْتِيشُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا ... عِنْدَ عَمْرٍو فَهَلْ لَهُ إِبْقَاءُ «3»
الرَّابِعُ: مَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ لِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا؟ فَقَالَ: لِدَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَقْوَى دَوَابِّهِ يُقَالُ لَهَا الْقِرْشُ، تَأْكُلُ وَلَا تُؤْكَلُ، وَتَعْلُو وَلَا تُعْلَى. وَأَنْشَدَ قَوْلَ تُبَّعٍ:
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْ ... - رَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
تَأْكُلُ الرَّثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا تَتْ ... - رُكُ فِيهَا لِذِي جَنَاحَيْنِ رِيشَا
هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ... يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا «4»
وَلَهُمْ آخِرُ الزَّمَانِ نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا «5»

[سورة قريش (106): آية 2]
إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2)
قَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ" إِلْفِهِمْ" سَاكِنَةَ اللَّامِ بِغَيْرِ يَاءٍ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَكَذَلِكَ رَوَتْ أَسْمَاءُ أَنَّهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ" إلفهم". وروي عن ابن عباس
__________
(1). ضبطه في التاج بكسر الجيم.
(2). الحاج: جماعة الحجاج. والخلة (بالفتح): الحاجة والفقر.
(3). البيت للحارث بن حلزة اليشكري في معلقته. وروايته كما في شرح المعلقات:
أيها الناطق المرقش عنا ... عند عمرو وهل لذاك بقاء
قال التبريزي: (المرقش: المزين القول بالباطل ليقبل منه الملك باطله. ويقال إنه يخاطب بها عمرو بن كلثوم. ومعنى (وهل لذاك بقاء): (إن الباطل لا يبقى). وعلى هذه الرواية لا شاهد فيه.
(4). أي سريعا.
(5). الخموش: (جمع الخمش) وهو مثل الخدش يكون في البدن والوجه.

(20/203)


وَغَيْرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْوَلِيدُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَبُو حَيْوَةَ" إِلَافِهِمْ" مَهْمُوزًا مُخْتَلَسًا بِلَا ياء. وقرا أبو بكر عن عاصم (إيلافهم) بِهَمْزَتَيْنِ، الْأُولَى مَكْسُورَةٍ وَالثَّانِيَةِ سَاكِنَةٍ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ شَاذٌّ. الْبَاقُونَ إِيلافِهِمْ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْإِيلَافِ الْأَوَّلِ لِلْبَيَانِ. وَهُوَ مَصْدَرُ آلَفَ: إِذَا جَعَلْتَهُ يَأْلَفُ. وَأَلِفَ هُوَ إِلْفًا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ، أَيْ وَمَا قَدْ أَلِفُوهُ مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. رَوَى ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ قَالَ: لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ رِحْلَةُ شِتَاءٍ وَلَا صَيْفٍ، مِنَّةً مِنْهُ عَلَى قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ أَصْحَابُ الْإِيلَافِ أَرْبَعَةَ إِخْوَةٍ: هَاشِمٌ، وَعَبْدُ شَمْسٍ، وَالْمُطَّلِبُ، وَنَوْفَلٌ، بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ. فَأَمَّا هَاشِمٌ فَإِنَّهُ كَانَ يُؤْلِفُ مَلِكَ الشَّامِ، أَيْ أَخَذَ مِنْهُ حَبْلًا وَعَهْدًا يَأْمَنُ بِهِ فِي تِجَارَتِهِ إِلَى الشَّامِ. وَأَخُوهُ عَبْدُ شَمْسٍ كَانَ يُؤْلِفُ إِلَى الْحَبَشَةِ. وَالْمُطَّلِبُ إِلَى الْيَمَنِ. وَنَوْفَلٌ إِلَى فَارِسَ. وَمَعْنَى يُؤْلِفُ يُجِيرُ. فَكَانَ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ يُسَمَّوْنَ الْمُجِيرِينَ. فَكَانَ تُجَّارُ قُرَيْشٍ يَخْتَلِفُونَ إِلَى الْأَمْصَارِ بِحَبْلِ هؤلاء الاخوة، فلا يتعرض لهم. قال الأزهري: الْإِيلَافُ: شَبَّهَ الْإِجَارَةَ بِالْخَفَارَةِ «1»، يُقَالُ: آلَفَ يُؤْلِفُ: إِذَا أَجَارَ الْحَمَائِلَ بِالْخَفَارَةِ. وَالْحَمَائِلُ: جَمْعُ حَمُولَةٍ «2». قَالَ: وَالتَّأْوِيلُ: أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا سُكَّانَ الْحَرَمِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ زَرْعٌ وَلَا ضَرْعٌ، وَكَانُوا يَمِيرُونَ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ آمِنِينَ، وَالنَّاسِ يُتَخَطَّفُونَ مِنْ حَوْلِهِمْ، فَكَانُوا إِذَا عَرَضَ لَهُمْ عَارِضٌ قَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ، فَلَا يَتَعَرَّضُ النَّاسُ لَهُمْ. وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ فَارِسِ بْنِ زَكَرِيَّا فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَهْلٍ الدِّمْيَاطِيِّ، بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إلفهم رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا إِذَا أَصَابَتْ وَاحِدًا مِنْهُمْ «3» مَخْمَصَةٌ، جَرَى هُوَ وَعِيَالُهُ إِلَى مَوْضِعٍ مَعْرُوفٍ، فَضَرَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ خِبَاءً فَمَاتُوا، حَتَّى كَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مناف، وكان سيدا
__________
(1). في بعض نسخ الأصل: (الإجارة والخفارة) ولم نجد هذا في كتاب التهذيب للأزهري ولا في غيره من كتب اللغة. والإجارة: الإغاثة والحماية. والخفارة (مثلثة الخاء): الأمان.
(2). الحمولة (بالفتح): الإبل التي تحمل.
(3). المخمصة: المجاعة.

(20/204)


في زَمَانِهِ، وَلَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ أَسَدٌ، وَكَانَ لَهُ تِرْبٌ «1» مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، يُحِبُّهُ وَيَلْعَبُ مَعَهُ. فَقَالَ لَهُ: نَحْنُ غَدًا نَعْتَفِدُ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: هَذِهِ لَفْظَةٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ لَا أَدْرِي: بِالدَّالِ هِيَ أَمْ بِالرَّاءِ، فَإِنْ كَانَتْ بِالرَّاءِ فَلَعَلَّهَا مِنَ الْعَفْرِ، وَهُوَ التُّرَابُ، وإن كان بِالدَّالِ، فَمَا أَدْرِي مَعْنَاهَا «2»، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَا أَظُنُّهُ: ذَهَابُهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْخِبَاءِ، وَمَوْتُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. قَالَ: فَدَخَلَ أَسَدٌ عَلَى أُمِّهِ يَبْكِي، وَذَكَرَ مَا قَالَهُ تِرْبُهُ. قَالَ: فَأَرْسَلَتْ أُمُّ أَسَدٍ إِلَى أُولَئِكَ بِشَحْمٍ وَدَقِيقٍ، فَعَاشُوا بِهِ أَيَّامًا. ثُمَّ إِنَّ تِرْبَهُ أَتَاهُ أَيْضًا فَقَالَ: نَحْنُ غَدًا نَعْتَفِدُ، فَدَخَلَ أَسَدٌ عَلَى أَبِيهِ يَبْكِي، وَخَبَّرَهُ خَبَرَ تِرْبِهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى عَمْرِو بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَامَ خَطِيبًا فِي قُرَيْشٍ وَكَانُوا يُطِيعُونَ أَمْرَهُ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ حَدَثًا تَقِلُّونَ فِيهِ وَتَكْثُرُ الْعَرَبُ، وَتَذِلُّونَ وتعز العرب، وأنتم أهل حرم الله عز وجل، وَأَشْرَفُ وَلَدِ آدَمَ، وَالنَّاسُ لَكُمْ تَبَعٌ، وَيَكَادُ هَذَا الِاعْتِفَادُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: نَحْنُ لَكَ تبع. قال: ابتدءوا بِهَذَا الرَّجُلِ- يَعْنِي أَبَا تِرْبِ أَسَدٍ- فَأَغْنُوهُ عَنِ الِاعْتِفَادِ، فَفَعَلُوا. ثُمَّ إِنَّهُ نَحَرَ الْبُدْنَ، وَذَبَحَ الْكِبَاشَ وَالْمَعْزَ، ثُمَّ هَشَّمَ الثَّرِيدَ، وَأَطْعَمَ النَّاسَ، فَسُمِّيَ هَاشِمًا. وَفِيهِ قَالَ الشَّاعِرُ:
عَمْرُو الَّذِي «3» هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ «4» عِجَافُ
ثُمَّ جَمَعَ كُلَّ بَنِي أَبٍ عَلَى رِحْلَتَيْنِ: فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ، وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ لِلتِّجَارَاتِ، فَمَا رَبِحَ الْغَنِيُّ قَسَمَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَقِيرِ، حَتَّى صَارَ فَقِيرُهُمْ كَغَنِيِّهِمْ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهُمْ عَلَى هَذَا، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ بَنُو أَبٍ أَكْثَرَ مَالًا وَلَا أَعَزَّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ قَوْلُ شَاعِرِهِمْ:
وَالْخَالِطُونَ فَقِيرَهُمْ بِغَنِيِّهِمْ ... حَتَّى يَصِيرَ فَقِيرُهُمْ كَالْكَافِي
فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ بِصَنِيعِ هَاشِمٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أَنْ تَكْثُرَ الْعَرَبُ ويقلوا.
__________
(1). الترب (بالكسر): اللدة ومساويك في السن ومن ولد معك.
(2). في اللسان مادة عفد: (الاعتفاد: أن يغلق الرجل بابه على نفسه فلا يسأل أحدا حتى يموت جوعا).
(3). في اللسان: (عمرو العلا ... ) [ ..... ]
(4). مسنتون: أي أصابتهم السنة. والسنة: الجدب والقحط.

(20/205)


قَوْلُهُ تَعَالَى: رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ رِحْلَةَ نُصِبَ بِالْمَصْدَرِ، أَيِ ارْتِحَالِهِمْ رِحْلَةَ، أَوْ بِوُقُوعِ إِيلافِهِمْ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الظَّرْفِ. وَلَوْ جَعَلْتَهَا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، عَلَى مَعْنَى هُمَا رِحْلَةُ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، لَجَازَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالرِّحْلَةُ الِارْتِحَالُ. وَكَانَتْ إِحْدَى الرِّحْلَتَيْنِ إِلَى الْيَمَنِ فِي الشِّتَاءِ، لِأَنَّهَا بِلَادٌ حَامِيَةٌ، وَالرِّحْلَةُ الْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ، لِأَنَّهَا بِلَادٌ بَارِدَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: كَانُوا يَشْتُونَ بِمَكَّةَ لِدِفْئِهَا، وَيَصِيفُونَ بِالطَّائِفِ لِهَوَائِهَا. وَهَذِهِ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ أَنْ يَكُونَ لِلْقَوْمِ نَاحِيَةُ حَرٍّ تَدْفَعُ عَنْهُمْ بَرْدَ الشِّتَاءِ، وَنَاحِيَةُ بَرْدٍ تَدْفَعُ عَنْهُمْ حَرَّ الصَّيْفِ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ النِّعْمَةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَشْتِي بِمَكَّةَ نَعْمَةٌ ... وَمَصِيفُهَا بِالطَّائِفِ
وَهُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- اخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِإِيلافِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالسُّورَةِ الْأُخْرَى- وَقَدْ قُطِعَ عَنْهُ بِكَلَامٍ مُبْتَدَأٍ، وَاسْتِئْنَافِ بَيَانٍ وَسَطْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ جَوَازُ الْوَقْفِ فِي الْقِرَاءَةِ «1» لِلْقُرَّاءِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ، وَلَيْسَتِ الْمَوَاقِفُ الَّتِي يَنْتَزِعُ «2» بِهَا الْقُرَّاءُ شَرْعًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْوِيًّا، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِهِ تَعْلِيمَ الطَّلَبَةِ الْمَعَانِيَ، فَإِذَا عَلِمُوهَا وَقَفُوا حَيْثُ شَاءُوا. فَأَمَّا الْوَقْفُ عِنْدَ انْقِطَاعِ النَّفْسِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَا تُعِدْ مَا قَبْلَهُ إِذَا اعْتَرَاكَ ذَلِكَ، وَلَكِنِ ابْدَأْ مِنْ حَيْثُ وَقَفَ بِكَ نَفَسُكَ. هَذَا رَأْيِي فِيهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى مَا قَالُوهُ، بِحَالٍ، وَلَكِنِّي أَعْتَمِدُ الْوَقْفَ عَلَى التَّمَامِ، كَرَاهِيَةَ الْخُرُوجِ عَنْهُمْ. قُلْتُ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا، قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ثُمَّ يَقِفُ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ يَقِفُ. وَقَدْ مَضَى فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ «3». وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ
__________
(1). في ابن العربي: (في القرآن).
(2). في ابن العربي: (تنزع).
(3). راجع ج 1 ص 10 فيما بعد.

(20/206)


الوقف عند قوله: كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 5] لَيْسَ بِقَبِيحٍ. وَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ قَبِيحٌ وَهَذِهِ السُّورَةُ تُقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالَّتِي بَعْدَهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَيَتَخَلَّلُهَا مِنْ قَطْعِ الْقِرَاءَةِ أَرْكَانٌ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَمَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 5] انْتِهَاءُ آيَةٍ. فَالْقِيَاسُ عَلَى ذَلِكَ: أَلَّا يَمْتَنِعَ الْوَقْفُ عِنْدَ أَعْجَازِ الْآيَاتِ سَوَاءٌ كَانَ الْكَلَامُ يَتِمُّ، وَالْغَرَضُ يَنْتَهِي، أَوْ لَا يَتِمُّ، وَلَا يَنْتَهِي. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَوَاصِلَ حِلْيَةٌ وَزِينَةٌ لِلْكَلَامِ الْمَنْظُومِ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يَتَبَيَّنِ الْمَنْظُومُ مِنَ الْمَنْثُورِ. وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَنْظُومَ أَحْسَنُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْفَوَاصِلَ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَنْظُومِ، فَمَنْ أَظْهَرَ فَوَاصِلَهُ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهَا فَقَدْ أَبْدَى مَحَاسِنَهُ، وَتَرْكُ الْوُقُوفِ يُخْفِي تِلْكَ الْمَحَاسِنَ، وَيُشَبِّهُ الْمَنْثُورَ بِالْمَنْظُومِ، وَذَلِكَ إِخْلَالٌ بِحَقِّ الْمَقْرُوءِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ مَالِكٌ: الشِّتَاءُ نِصْفُ السَّنَةِ، وَالصَّيْفُ نِصْفُهَا، وَلَمْ أزل أرى ربيعة ابن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ «1» وَمَنْ مَعَهُ، لَا يَخْلَعُونَ عَمَائِمَهُمْ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا، وَهُوَ يَوْمُ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ بَشَنْسَ، وَهُوَ يَوْمُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ عَدَدِ «2» الرُّومِ أَوِ الْفَرَسِ. وَأَرَادَ «3» بِطُلُوعِ الثُّرَيَّا أَنْ يَخْرُجَ السُّعَاةُ، وَيَسِيرَ النَّاسُ بِمَوَاشِيهِمْ إِلَى مِيَاهِهِمْ، وَأَنَّ طُلُوعَ الثُّرَيَّا أَوَّلَ «4» الصَّيْفِ وَدُبُرَ الشِّتَاءِ. وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ عَنْهُ. وَقَالَ عَنْهُ أَشْهَبُ وَحْدَهُ: إِذَا سَقَطَتِ الْهَقْعَةُ «5» نَقَصَ اللَّيْلُ، فَلَمَّا جَعَلَ طُلُوعَ الثُّرَيَّا أَوَّلَ الصَّيْفِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي مُطْلَقِ السَّنَةَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الشِّتَاءَ مِنْ بَعْدِ ذَهَابِ الصَّيْفِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَقَدْ سُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَمَّنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ امْرَأً حَتَّى يَدْخُلَ الشِّتَاءُ؟ فَقَالَ: لَا يُكَلِّمُهُ حَتَّى يَمْضِيَ سَبْعَةَ عشر من هاتور. ولو قال حتى يَدْخُلُ الصَّيْفُ، لَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى يَمْضِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ بَشَنْسَ. قَالَ الْقُرَظِيُّ: أَمَّا ذِكْرُ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ فِي بَشَنْسَ، فَهُوَ سَهْوٌ، إِنَّمَا هُوَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْ بَشَنْسَ، لِأَنَّكَ إذ حسبت المنازل
__________
(1). هو ربيعة الرأى أدرك بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأكابر من التابعين وكان صاحب الفتوى بالمدينة وعنه أخذ مالك بن أنس وغيره. توفى سنة 136 هـ.
(2). كذا في الأصول وابن العربي. أي من عدد شهورهم
(3). كذا في ابن العربي. وفي نسخ الأصل: (وأرى).
(4). في ابن العربي: (قبل الصيف).
(5). الهقعة: ثلاثة كواكب نيرة قريب بعضها من بعض فوق منكب الجوزاء، وهي منزل من منازل القمر.

(20/207)


فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)

عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً كُلَّ مَنْزِلَةٍ، عَلِمْتَ أَنَّ مَا بَيْنَ تسع عشرة من هاتور لا تنقضي منازله إِلَّا بِدُخُولِ تِسْعَ عَشْرَةَ مِنْ بَشَنْسَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- قَالَ قَوْمٌ: الزَّمَانُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: شِتَاءٌ، وَرَبِيعٌ، وَصَيْفٌ، وَخَرِيفٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ شِتَاءٌ، وَصَيْفٌ، وَقَيْظٌ، وَخَرِيفٌ. وَالَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ أَصَحُّ، لِأَنَّ اللَّهَ قَسَمَ الزَّمَانَ قِسْمَيْنِ «1» وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمَا ثَالِثًا. الرَّابِعَةُ- لَمَّا امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قُرَيْشٍ بِرِحْلَتَيْنِ، شِتَاءً وَصَيْفًا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ الرَّجُلِ فِي الزَّمَانَيْنِ بَيْنَ مَحِلَّيْنِ، يَكُونُ حَالُهُمَا فِي كُلِّ زَمَانٍ أَنْعَمَ مِنَ الْآخَرِ، كَالْجُلُوسِ فِي الْمَجْلِسِ الْبَحْرِيِّ فِي الصَّيْفِ، وَفِي الْقِبْلِيِّ فِي الشِّتَاءِ، وَفِي اتِّخَاذِ الْبَادَهْنَجَاتِ «2» وَالْخَيْشِ للتبريد، واللبد واليانوسة «3» للدفء.

[سورة قريش (106): آية 3]
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3)
أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، لِأَجْلِ إِيلَافِهِمْ رِحْلَتَيْنِ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِأَجْلِ مَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِمَّا لَا فَلْيَعْبُدُوهُ لِإِيلَافِهِمْ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لَا تُحْصَى، فَإِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ لِسَائِرِ نِعَمِهِ، فَلْيَعْبُدُوهُ لِشَأْنِ هَذِهِ الْوَاحِدَةِ، الَّتِي هِيَ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَالْبَيْتُ: الْكَعْبَةُ. وَفِي تَعْرِيفِ نَفْسِهِ لَهُمْ بِأَنَّهُ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُ كَانَتْ لهم أوثان فميز نَفْسَهُ عَنْهَا. الثَّانِي: لِأَنَّهُمْ بِالْبَيْتِ شُرِّفُوا عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ، فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، تَذْكِيرًا لِنِعْمَتِهِ. وقيل: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
أَيْ لِيَأْلَفُوا عِبَادَةَ رَبِّ الْكَعْبَةِ، كَمَا كَانُوا يَأْلَفُونَ الرِّحْلَتَيْنِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ أَلِفُوا رِحْلَةً إِلَى بُصْرَى
__________
(1). في الأصول: (لان قسمة الله الزمان قسمين، ولم يجعل لهما ثالثا) وهي غير مستقيمة. وفي ابن العربي (لأجل قسمة الله الزمان قسمين ... إلخ)
(2). في كتاب شفاء العليل للشهاب الخفاجي: (الباد هنج) معرب باد خون أو باد كير، منفذ الهواء في سقف البيت.
(3). في ابن العربي: (اليانوس). ولم نجد في المعاجم العربية هذه المادة.

(20/208)


الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

ورحلة إلى اليمن، فقيل لهم: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
أَيْ يُقِيمُوا بِمَكَّةَ. رِحْلَةَ «1» الشتاء، إلى اليمن، والصيف: إلى الشام.

[سورة قريش (106): آية 4]
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أَيْ بَعْدَ جُوعٍ. وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ «2» [البقرة: 126]. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ يُغِيرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَيَسْبِي بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَأَمِنَتْ قريش من ذلك المكان الْحَرَمِ- وَقَرَأَ- أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ «3» كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57]. وَقِيلَ: شَقَّ عَلَيْهِمُ السَّفَرُ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْحَبَشَةِ أَنْ يَحْمِلُوا إِلَيْهِمْ طَعَامًا فِي السُّفُنِ، فَحَمَلُوهُ، فَخَافَتْ قُرَيْشٌ مِنْهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدِمُوا لِحَرْبِهِمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ مُتَحَرِّزِينَ، فَإِذَا هُمْ قَدْ جَلَبُوا إِلَيْهِمُ الطَّعَامَ، وَأَغَاثُوهُمْ بِالْأَقْوَاتِ، فَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ إِلَى جَدَّةَ بِالْإِبِلِ وَالْحُمُرِ، فَيَشْتَرُونَ الطَّعَامَ، عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَتَيْنِ. وَقِيلَ: هَذَا الْإِطْعَامُ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: [اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ [فَاشْتَدَّ الْقَحْطُ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ ادْعُ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا مُؤْمِنُونَ. فَدَعَا فَأَخْصَبَتْ تَبَالَةُ وَجُرَشُ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، فَحَمَلُوا الطَّعَامَ إِلَى مَكَّةَ، وَأَخْصَبَ أَهْلُهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ وَشَرِيكٌ وَسُفْيَانُ: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أَيْ مِنْ خَوْفِ الْجُذَامِ، لَا يُصِيبُهُمْ بِبَلَدِهِمُ الْجُذَامُ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أَيْ مِنْ خَوْفِ الْحَبَشَةِ مَعَ الْفِيلِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَآمَنَهُمْ مِنْ [خَوْفٍ «4»]: أَنْ تَكُونَ الْخِلَافَةُ إِلَّا فِيهِمْ. وَقِيلَ: أَيْ كَفَاهُمْ أَخْذَ الْإِيلَافِ مِنَ الملوك. فالله أعلم، واللفظ يعم.
__________
(1). يريد: يقيموا بمكة: ويتركوا الرحلة ... إلخ.
(2). آية 126 سورة البقرة. [ ..... ]
(3). آية 57 سورة القصص.
(4). التكملة عن تفسير الخطيب.

(20/209)


أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

[تفسير سورة الماعون]
تفسير سورة" الماعون" وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ عَطَاءٍ وَجَابِرٍ وَأَحَدِ قولي ابن عباس. وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلٍ لَهُ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُ قتادة وغيره. وهي سبع آيات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الماعون (107): الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) أَيْ بِالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْفَاتِحَةِ". وأَ رَأَيْتَ بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ، إِذْ لَا يُقَالُ «1» فِي أَرَأَيْتَ: رَيْتَ، وَلَكِنَّ أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ سَهَّلَتِ الْهَمْزَةَ أَلِفًا، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ: أَمُصِيبٌ هُوَ أَمْ مُخْطِئٌ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ نَزَلَ هَذَا فِيهِ، فَذَكَرَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الوليد ابن الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ فِي أَبِي جَهْلٍ. الضَّحَّاكُ: فِي عَمْرِو بْنِ عَائِذٍ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ يَنْحَرُ فِي كُلَّ أُسْبُوعٍ جَزُورًا، فَطَلَبَ مِنْهُ يَتِيمٌ شَيْئًا، فَقَرَعَهُ بعصاه، فأنزل الله هذه السورة. ويَدُعُّ أَيْ يَدْفَعُ، كَمَا قَالَ: يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا «2» [الطور: 13] وقد
__________
(1). راجع ج 1 ص (143)
(2). آية 13 سورة الطور. راجع ج 17 ص 64

(20/210)


تَقَدَّمَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ أَيْ يَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ. قَتَادَةُ: يَقْهَرُهُ وَيَظْلِمُهُ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ"»
أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الصِّغَارَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا يَحُوزُ الْمَالَ مَنْ يَطْعَنُ بِالسِّنَانِ، وَيَضْرِبُ بِالْحُسَامِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: [مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ [. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «2». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي لَا يَأْمُرُ بِهِ، مِنْ أَجْلِ بُخْلِهِ وَتَكْذِيبِهِ بِالْجَزَاءِ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الحاقة: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ «3» [الحاقة: 34] وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَلَيْسَ الذَّمُّ عَامًّا حَتَّى يَتَنَاوَلَ مَنْ تَرَكَهُ عَجْزًا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَبْخَلُونَ وَيَعْتَذِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَقُولُونَ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «4» [يس: 47]، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ، وَتَوَجَّهَ الذَّمُّ إِلَيْهِمْ. فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: لَا يَفْعَلُونَهُ إِنْ قَدَرُوا، وَلَا يَحُثُّونَ عَلَيْهِ إِنْ عَسِرُوا. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) أَيْ عَذَابٌ لَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «5» .. (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ)، فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الْمُصَلِّيَ الَّذِي إِنْ صَلَّى لَمْ يَرْجُ لَهَا ثَوَابًا، وَإِنْ تَرَكَهَا لَمْ يَخْشَ عَلَيْهَا عِقَابًا. وَعَنْهُ أَيْضًا: الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا. وَكَذَا رَوَى الْمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَاهُونَ بِإِضَاعَةِ الْوَقْتِ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: لَا يُصَلُّونَهَا لِمَوَاقِيتِهَا، وَلَا يُتِمُّونَ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ [مريم: 59] حَسْبُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" مَرْيَمَ" «6» عَلَيْهَا السَّلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَيْضًا: أَنَّهُ الَّذِي إِذَا سَجَدَ قَامَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا مُلْتَفِتًا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ أَلَّا يَقْرَأَ وَلَا يَذْكُرَ اللَّهَ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ لَاهُونَ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فِي قَوْلِهِ]:
__________
(1). راجع ج 5 ص (46)
(2). راجع ج 2 ص 14 طبعه ثانية.
(3). آية 34 راجع ج 18 ص (272)
(4). آية 47 سورة يس.
(5). راجع ج 2 ص 7 طبعه ثانية.
(6). راجع ج 11 ص 121

(20/211)


فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ- قَالَ-: [الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، تَهَاوُنًا بِهَا [. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُمُ الْمُنَافِقُونَ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ سِرًّا، يُصَلُّونَهَا عَلَانِيَةً وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
«1» [النساء: 142] ... الْآيَةَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ، وقاله ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَوْ قَالَ فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ لَكَانَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ عَنْ صَلاتِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ فِي صَلَاتِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتُ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: عَنْ صَلاتِهِمْ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ: فِي صَلَاتِهِمْ؟ قُلْتُ: مَعْنَى عَنْ أَنَّهُمْ سَاهُونَ عَنْهَا سَهْوَ تَرْكٍ لَهَا، وَقِلَّةِ الْتِفَاتٍ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ فِعْلُ الْمُنَافِقِينَ، أَوِ الْفَسَقَةِ الشُّطَّارِ «2» مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْنَى (فِي) أَنَّ السَّهْوَ يَعْتَرِيهِمْ فِيهَا، بِوَسْوَسَةِ شَيْطَانٍ، أَوْ حَدِيثِ نَفْسٍ، وَذَلِكَ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْهُ مُسْلِمٌ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَعُ لَهُ السَّهْوُ فِي صَلَاتِهِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَثْبَتَ الْفُقَهَاءُ بَابَ سُجُودِ السَّهْوِ فِي كُتُبِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِأَنَّ السَّلَامَةَ مِنَ السَّهْوِ مُحَالٌ، وَقَدْ سَهَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صَلَاتِهِ وَالصَّحَابَةُ: وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ، فَذَلِكَ رَجُلٌ لَا يَتَدَبَّرُهَا، وَلَا يَعْقِلُ قِرَاءَتَهَا، وَإِنَّمَا هَمُّهُ فِي أَعْدَادِهَا، وَهَذَا رَجُلٌ يَأْكُلُ الْقُشُورَ، وَيَرْمِي اللُّبَّ. وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ إِلَّا لِفِكْرَتِهِ فِي أَعْظَمِ مِنْهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ إِذَا قَالَ لَهُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَضِلَّ الرَّجُلُ أَنْ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى. الرابعة- قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) أَيْ يُرِي النَّاسَ أَنَّهُ يُصَلِّي طَاعَةً وَهُوَ يُصَلِّي تَقْيَةً، كَالْفَاسِقِ، يُرِي أَنَّهُ يُصَلِّي عِبَادَةً وَهُوَ يُصَلِّي لِيُقَالَ: إِنَّهُ يُصَلِّي. وَحَقِيقَةُ الرِّيَاءِ طَلَبُ مَا فِي الدُّنْيَا بِالْعِبَادَةِ، وَأَصْلُهُ طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. وَأَوَّلُهَا تَحْسِينُ السَّمْتِ «3»، وَهُوَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ الْجَاهَ وَالثَّنَاءَ. وَثَانِيهَا: الرِّيَاءُ بِالثِّيَابِ الْقِصَارِ وَالْخَشِنَةِ، لِيَأْخُذَ بذلك هيئة
__________
(1). آية 142 سورة النساء.
(2). في نسخة من الأصل: (الشياطين). والشطار: جمع شاطر، وهو الذي ترك موافقة أهله وأعياهم لؤما وخبثا.
(3). في اللسان: السمت: حسن القصد والمذهب في الدين والدنيا.

(20/212)


الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ، بِإِظْهَارِ التَّسَخُّطِ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِظْهَارِ الْوَعْظِ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى مَا يَفُوتُ مِنَ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ. وَرَابِعُهَا: الرِّيَاءُ بِإِظْهَارِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، أَوْ بِتَحْسِينِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ، وَذَلِكَ يَطُولُ، وَهَذَا دَلِيلُهُ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ وَهُودٍ وَآخِرِ الْكَهْفِ" «1» الْقَوْلُ فِي الرِّيَاءِ وَأَحْكَامِهِ وَحَقِيقَتِهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الْخَامِسَةُ- وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُرَائِيًا بِإِظْهَارِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِنْ كَانَ فَرِيضَةً، فَمِنْ حَقِّ الْفَرَائِضِ الْإِعْلَانُ بِهَا وَتَشْهِيرُهَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: [وَلَا غُمَّةَ «2» فِي فَرَائِضِ اللَّهِ [لِأَنَّهَا أَعْلَامُ الْإِسْلَامِ، وَشَعَائِرُ الدِّينِ، وَلِأَنَّ تَارِكَهَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْمَقْتَ، فَوَجَبَ إِمَاطَةُ التُّهْمَةِ بِالْإِظْهَارِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَحَقُّهُ أَنْ يَخْفَى، لِأَنَّهُ لَا يُلَامُ تركه وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ قَاصِدًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ كَانَ جَمِيلًا. وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ أَنْ يَقْصِدَ بِالْإِظْهَارِ أَنْ تَرَاهُ الْأَعْيُنُ، فَتُثْنِيَ عَلَيْهِ بِالصَّلَاحِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي الْمَسْجِدِ قَدْ سَجَدَ سَجْدَةَ الشُّكْرِ فَأَطَالَهَا، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا لَوْ كَانَ فِي بَيْتِكَ. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ تَوَسَّمَ فِيهِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «3» عند قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ [البقرة: 271]، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) فِيهِ اثْنَا عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ- أَنَّهُ زَكَاةُ أَمْوَالِهِمْ. كَذَا رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَالَهُ مَالِكٌ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقُ يَمْنَعُهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ «4» بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مَالِكٍ قال: بلغني أن قوله الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ. وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا صَلَّى صَلَّى رِيَاءً، وَإِنْ فَاتَتْهُ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهَا، وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ الزَّكَاةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَوْ خَفِيَتْ لَهُمُ الصَّلَاةُ كَمَا خَفِيَتْ لَهُمُ الزَّكَاةُ مَا صَلُّوا. القول الثاني- أن الْماعُونَ المال، بلسان
__________
(1). راجع ج 5 ص 181 وج 9 ص 13 وج 11 ص 70. [ ..... ]
(2). أي لا تستر ولا تخفى فرائضه، وإنما تظهر وتعلن ويجهر بها.
(3). راجع ج 3 ص (332)
(4). في بعض نسخ الأصل: (أبو عمر) وفي بعضها: (أبو عبد). وفي ابن العربي: (أبو بكر بن عبد العزيز).

(20/213)


قُرَيْشٍ، قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ- أَنَّهُ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَنَافِعِ الْبَيْتِ كَالْفَأْسِ وَالْقِدْرِ وَالنَّارِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. قَالَ الْأَعْشَى:
بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَاعُونِهِ ... إِذَا مَا سَمَاؤُهُمْ لَمْ تَغِمْ
الرَّابِعُ- ذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ أَنَّ الْمَاعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كُلُّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ، حَتَّى الْفَأْسِ وَالْقِدْرِ وَالدَّلْوِ وَالْقَدَّاحَةِ، وَكُلِّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَأَنْشَدُوا بَيْتَ الْأَعْشَى. قَالُوا: وَالْمَاعُونُ فِي الْإِسْلَامِ: الطَّاعَةُ وَالزَّكَاةُ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الرَّاعِي:
أَخَلِيفَةُ الرَّحْمَنِ إِنَّا مَعْشَرٌ ... حُنَفَاءُ نَسْجُدُ بُكْرَةً وَأَصِيلَا
عَرَبٌ نَرَى لِلَّهِ مِنْ أَمْوَالِنَا ... حَقُّ الزَّكَاةِ مُنَزَّلًا تَنْزِيلَا
قَوْمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا يَمْنَعُوا ... ما عونهم وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلَا «1»
يَعْنِي الزَّكَاةَ. الْخَامِسُ- أَنَّهُ الْعَارِيَّةُ، روى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. السَّادِسُ- أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ الَّذِي يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْكَلْبِيُّ. السَّابِعُ- أَنَّهُ الْمَاءُ وَالْكَلَأُ. الثَّامِنُ- الْمَاءُ وَحْدَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: الْمَاعُونَ: الْمَاءُ، وَأَنْشَدَنِي فِيهِ:
يَمَجُّ صَبِيرُهُ الْمَاعُونَ صَبًّا

الصَّبِيرُ: السَّحَابُ. التَّاسِعُ- أَنَّهُ مَنْعُ الْحَقِّ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. الْعَاشِرُ- أَنَّهُ الْمُسْتَغَلُّ مِنْ مَنَافِعِ الْأَمْوَالِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَعْنِ وَهُوَ الْقَلِيلُ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ ابن عَبَّاسٍ «2». قَالَ قُطْرُبٌ: أَصْلُ الْمَاعُونَ مِنَ الْقِلَّةِ. والمعن: الشيء القليل، تقول العرب: ماله سعنة «3» ولا معنة، أي شي قَلِيلٍ. فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْمَعْرُوفِ مَاعُونًا، لِأَنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمَاعُونُ: أَصْلُهُ مَعُونَةٌ، وَالْأَلِفُ عِوَضٌ مِنَ الْهَاءِ، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمَاعُونَ: مَفْعُولٌ «4» مِنْ أَعَانَ يُعِينُ، وَالْعَوْنُ: هو الامداد
__________
(1). في اللسان:
قوم على التنزيل لما يمنعوا ... ما عونهم ويبدلوا التنزيلا

(2). كذا في بعض نسخ الأصل. وفي بعضها الآخر: (حكاه الطبري وابن عيسى).
(3). هذا مثل يضرب لمن لا مال له. والسعن: الكثير.
(4). هذا القول يأباه القياس اللغوي.

(20/214)


بِالْقُوَّةِ وَالْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ الْمُيَسِّرَةِ لِلْأَمْرِ. الْحَادِي عَشَرَ- أَنَّهُ الطَّاعَةُ وَالِانْقِيَادُ. حَكَى الْأَخْفَشُ عَنْ أَعْرَابِيٍّ فَصِيحٍ: لَوْ قَدْ نَزَلْنَا لَصَنَعْتُ بِنَاقَتِكَ صَنِيعًا تعطيك الماعون أي تنقاد لك وتطيعك. قَالَ الرَّاجِزُ:
مَتَى تُصَادِفْهُنَّ «1» فِي الْبَرِينِ ... يَخْضَعْنَ أَوْ يُعْطِينَ بِالْمَاعُونِ «2»
وَقِيلَ: هُوَ مَا لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ، كَالْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَالنَّارِ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: [الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْمِلْحُ [قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْمَاءُ، فَمَا بَالُ النَّارِ وَالْمِلْحِ؟ فَقَالَ: [يَا عَائِشَةُ مَنْ أَعْطَى نَارًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طُبِخَ بِتِلْكَ النَّارِ، وَمَنْ أَعْطَى مِلْحًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طَيَّبَ بِهِ ذَلِكَ الْمِلْحُ، وَمَنْ سَقَى شَرْبَةً مِنَ الْمَاءِ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ سِتِّينَ نَسَمَةً. وَمَنْ سَقَى شَرْبَةً مِنَ الْمَاءِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا نَفْسًا، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. وَفِي إِسْنَادِهِ لِينٌ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي عَشَرَ. الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ الْمَعُونَةُ بِمَا خَفَّ فِعْلُهُ وَقَدْ ثَقَّلَهُ اللَّهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ لِعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ مَنَعَ شَيْئًا مِنَ الْمَتَاعِ كَانَ لَهُ الْوَيْلُ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ مَنْ جَمَعَ ثَلَاثُهُنَّ فَلَهُ الْوَيْلُ، يَعْنِي: تَرْكُ الصَّلَاةِ، وَالرِّيَاءِ، وَالْبُخْلِ بِالْمَاعُونِ. قُلْتُ: كَوْنُهَا فِي الْمُنَافِقِينَ أَشْبَهُ، وَبِهِمْ أَخْلَقُ، لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ: تَرْكُ الصَّلَاةِ، وَالرِّيَاءِ، وَالْبُخْلِ بِالْمَالِ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
«3» [النساء: 142]، وقال: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ «4» [التوبة: 54]. وَهَذِهِ أَحْوَالُهُمْ وَيَبْعُدُ أَنْ تُوجَدَ مِنْ مُسْلِمٍ مُحَقِّقٍ، وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهَا فَيَلْحَقُهُ جُزْءٌ مِنَ التَّوْبِيخِ، وَذَلِكَ فِي مَنْعِ الْمَاعُونِ إِذَا تَعَيَّنَ، كَالصَّلَاةِ إِذَا تَرَكَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا يَكُونُ مَنْعًا قَبِيحًا فِي الْمُرُوءَةِ فِي غَيْرِ حَالِ الضرورة. والله أعلم.
__________
(1). في تفسير الثعلبي: متى تجاهدهن وهي الأوجه.
(2). البرين (بضم الباء وكسرها): جمع برة وهي هنا الحلقة في أنف البعير. وهي أيضا: كل حلقة من سوار وقرط وخلخال.
(3). آية 142 سورة النساء.
(4). آية 54 سورة التوبة.

(20/215)


إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)

[تفسير سورة الكوثر]
تَفْسِيرُ سُورَةِ" الْكَوْثَرِ" وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابن عباس والكلبي ومقاتل. ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة. وَهِيَ ثَلَاثُ آيَاتٍ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الكوثر (108): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ بِالْعَيْنِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ:" أَنْطَيْنَاكَ" بِالنُّونِ، وَرَوَتْهُ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْعَطَاءِ، أَنْطَيْتُهُ: أَعْطَيْتُهُ. والْكَوْثَرَ: فَوْعَلُ مِنَ الْكَثْرَةِ، مِثْلَ النَّوْفَلِ مِنَ النَّفْلِ، وَالْجَوْهَرِ مِنَ الْجَهْرِ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شي كَثِيرٍ فِي الْعَدَدِ وَالْقَدْرِ وَالْخَطَرِ كَوْثَرًا. قَالَ سُفْيَانُ: قِيلَ لِعَجُوزٍ رَجَعَ ابْنُهَا مِنَ السَّفَرِ: بِمَ آبَ ابْنُكِ؟ قَالَتْ بِكَوْثَرٍ، أَيْ بِمَالٍ كَثِيرٍ. وَالْكَوْثَرُ مِنَ الرِّجَالِ: السَّيِّدُ الْكَثِيرُ الْخَيْرِ. قَالَ الْكُمَيْتُ:
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا بْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ ... وَكَانَ أَبُوكَ ابْنُ الْعَقَائِلِ كَوْثَرَا
وَالْكَوْثَرُ: الْعَدَدُ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَصْحَابِ وَالْأَشْيَاعِ. وَالْكَوْثَرُ مِنَ الْغُبَارِ: الْكَثِيرُ. وَقَدْ تَكَوْثَرَ [إِذَا كَثُرَ]، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَدْ ثَارَ نَقْعُ الْمَوْتِ حَتَّى تَكَوْثَرَا «1»

الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْكَوْثَرِ الَّذِي أُعْطِيَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا
__________
(1). هذا عجز بيت لحسان بن نشبه. وصدره كما في اللسان:
أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوهم

(20/216)


وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْكَوْثَرُ: نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ (. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. الثَّانِي- أَنَّهُ حَوْضُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْقِفِ، قَالَهُ عَطَاءٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ «1» عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَزَلَتْ عَلِيَّ آنِفًا سُورَةٌ- فَقَرَأَ- بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ- ثُمَّ قَالَ- أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟. قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:" فَإِنَّهُ نَهَرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، فَيُخْتَلَجُ «2» الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ". وَالْأَخْبَارُ فِي حَوْضِهِ فِي الْمَوْقِفِ كَثِيرَةٌ، ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابٍ" التَّذْكِرَةِ". وَأَنَّ عَلَى أَرْكَانِهِ الاربعة خلفاء الْأَرْبَعَةُ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَأَنَّ مَنْ أَبْغَضَ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَمْ يَسْقِهِ الْآخَرُ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ مَنْ يَطَّرِدُ عَنْهُ. فَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ تَأَمَّلَهُ هُنَاكَ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى ذَلِكَ النَّهَرُ أَوِ الْحَوْضُ كَوْثَرًا، لِكَثْرَةِ الْوَارِدَةِ وَالشَّارِبَةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَاكَ. وَيُسَمَّى بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ وَالْمَاءِ الْكَثِيرِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَوْثَرَ النُّبُوَّةُ وَالْكِتَابَ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. الرَّابِعُ: الْقُرْآنُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. الْخَامِسُ: الْإِسْلَامُ، حَكَاهُ الْمُغِيرَةُ. السَّادِسُ- تَيْسِيرُ «3» الْقُرْآنِ وَتَخْفِيفُ الشَّرَائِعِ، قَالَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ. السَّابِعُ- هُوَ كَثْرَةُ الْأَصْحَابِ وَالْأُمَّةِ وَالْأَشْيَاعِ، قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بن عياش ويمان ابن رِئَابٍ. الثَّامِنُ- أَنَّهُ الْإِيثَارُ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ. التَّاسِعُ- أَنَّهُ رِفْعَةُ الذِّكْرِ. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ نُورٌ فِي قَلْبِكَ دَلَّكَ عَلَيَّ، وَقَطَعَكَ عَمَّا سِوَايَ. وَعَنْهُ: هُوَ الشَّفَاعَةُ، وَهُوَ الْحَادِي عَشَرَ. وَقِيلَ: مُعْجِزَاتُ الرَّبِّ هُدِيَ بِهَا أَهْلُ الإجابة لدعوتك، حكاه
__________
(1). في صحيح مسلم طبع الآستانة وبولاق: (بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يوم بين أظهرنا إذ أغفى ... ) الحديث.
(2). أي ينتزع ويقتطع. [ ..... ]
(3). في بعض نسخ الأصل: (تسهيل).

(20/217)


فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)

الثَّعْلَبِيُّ، وَهُوَ الثَّانِي عَشَرَ. الثَّالِثُ عَشَرَ: قَالَ هِلَالُ بْنُ يَسَافُ: هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ. وَقِيلَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَهُمَا الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ الْعَظِيمُ مِنَ الْأَمْرِ، وَذَكَرَ بَيْتَ لَبِيدٍ:
وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فجعنا بفقده ... وعند الوداع بَيْتُ آخَرَ كَوْثَرِ
أَيْ عَظِيمٍ «1». قُلْتُ: أَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَ فِي الْكَوْثَرِ. وَسَمِعَ أَنَسٌ قَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَوْضَ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنْ أَعِيشَ حَتَّى أَرَى أَمْثَالَكُمْ يَتَمَارَوْنَ فِي الْحَوْضِ، لَقَدْ تَرَكْتُ عَجَائِزَ خَلْفِي، مَا تُصَلِّي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا سَأَلَتِ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَهَا مِنْ حَوْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي حَوْضِهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ مَنْ يُدَانِيكَا ... وَأَنْتَ حَقًّا حَبِيبُ بَارِيكَا
وَجَمِيعُ مَا قِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِ قَدْ أُعْطِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةً عَلَى حَوْضِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليما كثيرا.

[سورة الكوثر (108): آية 2]
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَلِّ أَيْ أَقِمِ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْكَ، كَذَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ صَلَاةَ الْعِيدِ وَيَوْمَ النَّحْرِ. وَانْحَرْ نُسُكَكَ. وَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْحَرُ ثُمَّ يُصَلِّي، فَأُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ ثُمَّ يَنْحَرُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا: صَلِّ لِرَبِّكَ صَلَاةَ الصُّبْحِ الْمَفْرُوضَةِ بِجَمْعٍ «2»، وَانْحَرِ الْبُدْنَ بِمِنًى، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا: نَزَلَتْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ حُصِرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُصَلِّيَ وَيَنْحَرَ الْبُدْنَ وَيَنْصَرِفَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. قَالَ أبن العربي: أما من
__________
(1). ملحوب: ماء لبني أسد بن خزيمة. وصاحبه: عوف بن الأحوص. والرداع (بالكسر): اسم ماء أيضا. والكوثر أيضا: السيد الكثير الخير.
(2). جمع: المزدلفة.

(20/218)


قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَصَلِّ: الصَّلَوَاتُ الخمس، فإنها رُكْنُ الْعِبَادَاتِ، وَقَاعِدَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَعْظَمُ دَعَائِمِ الدِّينِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَلِأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالنَّحْرِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا صَلَاةَ فِيهِ قَبْلَ النَّحْرِ غَيْرَهَا، فَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَوَاتِ لِاقْتِرَانِهَا بِالنَّحْرِ). قُلْتُ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهَا صَلَاةُ الْعِيدِ، فَذَلِكَ بِغَيْرِ مَكَّةَ، إِذْ لَيْسَ بِمَكَّةَ صَلَاةُ عِيدٍ بِإِجْمَاعٍ، فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ عُمَرَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" فَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئًا، وَالَّذِي يَقَعُ فِي نَفْسِي أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ صَلَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَالنَّحْرُ بَعْدَهَا". وَقَالَ علي رضي الله عنه ومحمد ابن كَعْبٍ: الْمَعْنَى ضَعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى حِذَاءَ النَّحْرِ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرِ إِلَى نَحْرِهِ. وَكَذَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قَالَ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ أَوَّلُ مَا يُكَبِّرُ لِلْإِحْرَامِ إِلَى النَّحْرِ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: [مَا هَذِهِ النَّحِيرَةُ الَّتِي أَمَرَنِي اللَّهُ بِهَا [؟ قَالَ: [لَيْسَتْ بِنَحِيرَةٍ، وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُكَ إِذَا تَحَرَّمْتَ لِلصَّلَاةِ، أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ إِذَا كَبَّرْتَ، وَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَإِذَا سَجَدْتَ، فَإِنَّهَا صَلَاتُنَا وَصَلَاةُ الملائكة الذين هم في السموات السبع، وإن لكل شي زِينَةٌ، وَإِنَّ زِينَةَ الصَّلَاةِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ [. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ بِنَحْرِكَ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْأَحْوَصِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَبَا حَكَمٍ مَا أَنْتَ عَمُّ مُجَالِدٍ ... وَسَيِّدُ أَهْلِ الْأَبْطَحِ الْمُتَنَاحِرِ «1»
أَيِ الْمُتَقَابِلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بعض العرب يقول: منازلنا «2» تتناحر، أي نتقابل، نَحْرُ هَذَا بِنَحْرِ هَذَا، أَيْ قُبَالَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُوَ انْتِصَابُ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ بِإِزَاءِ الْمِحْرَابِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنَازِلُهُمْ تَتَنَاحَرُ، أَيْ تَتَقَابَلُ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أَمَرَهُ أَنْ يستوي بين السجدتين
__________
(1). في اللسان: نحر: (هل) في موضع (ما).
(2). الذي في كتاب الفراء: (منازلنا تتناحر: نحر هذا ... أي قبالته). وفية تحريف. والذي في اللسان: وقال الفراء: (سمعت بعض العرب يقول: منازلهم تتناحر: هذا بنحر هذا، أي قبالته).

(20/219)


جَالِسًا حَتَّى يَبْدُوَ نَحْرُهُ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: يَعْنِي وَارْفَعْ يَدَكَ بِالدُّعَاءِ إِلَى نَحْرِكَ. وَقِيلَ: فَصَلِّ مَعْنَاهُ: وَاعْبُدْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ يَقُولُ: إِنَّ نَاسًا يُصَلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَيَنْحَرُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَقَدْ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَلَا تَكُنْ صلاتك ولا نحرك إلا لله. قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ: اعْبُدْ رَبَّكَ، وَانْحَرْ لَهُ، فَلَا يَكُنْ عَمَلُكَ إِلَّا لِمَنْ خَصَّكَ بِالْكَوْثَرِ، وَبِالْحَرِيِّ «1» أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْعَمَلِ يُوَازِي هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةَ مِنَ الْكَوْثَرِ، وَهُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ، أَوِ النَّهَرُ الَّذِي طِينُهُ مِسْكٌ، وَعَدَدُ آنِيَتِهِ نُجُومُ السَّمَاءِ، أَمَّا أَنْ يُوَازِيَ هَذَا صَلَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَذَبْحِ كَبْشٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ، فَذَلِكَ يَبْعُدُ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ، وَمُوَازَنَةِ الثَّوَابِ لِلْعِبَادَةِ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- قَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي سُورَةِ" الصَّافَّاتِ" «2» فِي الْأُضْحِيَّةِ وَفَضْلِهَا، وَوَقْتِ ذَبْحِهَا، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَةِ ذَلِكَ. وَذَكَرْنَا أَيْضًا فِي سُورَةِ" الْحَجِّ" «3» جُمْلَةً مِنْ أَحْكَامِهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ عَجِيبِ الْأَمْرِ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: إِنَّ مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ النَّحْرِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ): (أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا: نُصَلِّي، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَصَابَ نُسُكَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأهله، ليس من النسك في شي (. وَأَصْحَابُهُ يُنْكِرُونَهُ، وَحَبَّذَا الْمُوَافَقَةُ). الثَّالِثَةُ- وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قَالَ: وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ (خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ)، فَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا تُوضَعُ فَرِيضَةً وَلَا نَافِلَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاعْتِمَادِ. وَلَا يَجُوزُ فِي الْفَرْضِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ فِي النَّفْلِ. الثَّانِي- لَا يَفْعَلُهَا فِي الْفَرِيضَةِ، وَيَفْعَلُهَا فِي النَّافِلَةِ اسْتِعَانَةً، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَرَخُّصٍ. الثَّالِثُ- يَفْعَلُهَا فِي الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى من حديث وائل
__________
(1). في (اللسان: حرى): والحري: الخليق: كقولك: بالحري إن يكون ذلك. وإنه لحري بكذا، وحر: وحرى.
(2). راجع ج 15 ص 107 وما بعدها.
(3). راجع ج 12 ص 42 وما بعدها.

(20/220)


ابن حُجْرٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرَأَتْ جَمَاعَةٌ إِرْسَالَ الْيَدِ. وَمِمَّنْ رُوِّينَا ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ»
وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ. قُلْتُ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِرْسَالُ الْيَدَيْنِ، وَوَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الشِّمَالِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تُوضَعُ عَلَيْهِ الْيَدُ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُ وَضَعَهُمَا عَلَى صَدْرِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: فَوْقَ السُّرَّةِ. وَقَالَ: لَا بَأْسَ إِنْ كَانَتْ تَحْتَ السُّرَّةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُوضَعُ تَحْتَ السُّرَّةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي مِجْلَزٍ. وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ. الْخَامِسَةُ: وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرِ عند الافتتاح والركوع وَالرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَإِذَا سَجَدَ. لَمْ يَرْوِهِ عَنْ حُمَيْدٍ مَرْفُوعًا إِلَّا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ. وَالصَّوَابُ: مِنْ فِعْلِ أَنَسٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ، حَتَّى تَكُونَا حَذْو مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَيَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مالك هذا القول. وبه أقوال، لِأَنَّهُ الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَرْفَعُ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ، وَلَا يَرْفَعُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. هَذَا قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
__________
(1). في بعض الأصول: (ابن الزبير).

(20/221)


إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

قُلْتُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، (خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقِ بْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إِلَّا أَوَّلًا عِنْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ. قَالَ إِسْحَاقُ: بِهِ نَأْخُذُ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ (وَكَانَ ضَعِيفًا) عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ. وَغَيْرُ حَمَّادٍ يَرْوِيهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ مُرْسَلًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ فِعْلِهِ، غَيْرَ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْبَرَاءِ: أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بهما أذنيه، ثم لم يعد إلى شي مِنْ ذَلِكَ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: [وَإِنَّمَا «1»] لُقِّنَ يَزِيدُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ:" ثُمَّ لَمْ يَعُدْ"، فَتَلَقَّنَهُ وَكَانَ قَدِ اخْتَلَطَ. وَفِي (مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ) عَنْ مالك: لا يرفع اليدين في شي مِنَ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَمْ أَرَ مَالِكًا يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، قَالَ: وَأَحَبُّ إلي ترك رفع اليدين عند الإحرام.

[سورة الكوثر (108): آية 3]
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
أَيْ مُبْغِضُكَ، وَهُوَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي مَنْ كَانَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، ثُمَّ مَاتَ الْبَنُونَ وَبَقِيَ الْبَنَاتُ: أَبْتَرُ. فَيُقَالُ: إِنَّ الْعَاصَ وَقَفَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُهُ، فَقَالَ لَهُ جَمْعٌ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ: مَعَ مَنْ كُنْتَ وَاقِفًا؟ فَقَالَ: مَعَ ذَلِكَ الْأَبْتَرِ. وَكَانَ قَدْ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ خَدِيجَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، أَيِ الْمَقْطُوعُ ذِكْرُهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَاتَ ابْنُ الرَّجُلِ قَالُوا: بُتِرَ فُلَانٌ. فَلَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: بُتِرَ محمد، فأنزل الله جل ثناؤه:
__________
(1). الزيادة من الدارقطني.

(20/222)


إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ يَعْنِي بِذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ. وَقَالَ شِمْرُ بْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. وَقِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَقُولُونَ لِمَنْ مَاتَ ذُكُورُ وَلَدِهِ: قَدْ بُتِرَ فُلَانٌ. فَلَمَّا مَاتَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُهُ الْقَاسِمُ: بِمَكَّةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بِالْمَدِينَةِ، قَالُوا: بُتِرَ مُحَمَّدٌ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بأمره من بعده، فنزلت هذه الآية، قاله السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ جَوَابٌ لِقُرَيْشٍ حِينَ قَالُوا لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ: نَحْنُ أَصْحَابُ السِّقَايَةِ وَالسَّدَانَةِ وَالْحِجَابَةِ وَاللِّوَاءِ، وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هَذَا الصُّنَيْبِرُ «1» الْأُبَيْتِرُ مِنْ قَوْمِهِ؟ قَالَ كَعْبٌ: بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ، فَنَزَلَتْ فِي كَعْبٍ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ «2» وَالطَّاغُوتِ [النساء: 51] الْآيَةَ. وَنَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ، وَدَعَا قُرَيْشًا إِلَى الْإِيمَانِ، قَالُوا: انْبَتَرَ مِنَّا مُحَمَّدٌ، أَيْ خَالَفَنَا وَانْقَطَعَ عَنَّا. فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَبْتُورُونَ، قَالَهُ أَيْضًا عِكْرِمَةُ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْأَبْتَرُ مِنَ الرِّجَالِ: الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ، وَمِنَ الدَّوَابِّ الَّذِي لَا ذَنَبَ لَهُ. وَكُلُّ أَمْرٍ انْقَطَعَ مِنَ الْخَيْرِ أَثَرُهُ، فَهُوَ أَبْتَرُ. وَالْبَتْرُ: الْقَطْعُ. بَتَرْتُ الشَّيْءَ بَتْرًا: قَطَعْتُهُ قَبْلَ الْإِتْمَامِ. وَالِانْبِتَارُ: الِانْقِطَاعُ. وَالْبَاتِرُ: السَّيْفُ الْقَاطِعُ. وَالْأَبْتَرُ: الْمَقْطُوعُ الذَّنَبِ. تَقُولُ مِنْهُ: بُتِرَ [بِالْكَسْرِ] يُبْتَرُ بَتْرًا. وَفِي الْحَدِيثِ [مَا هَذِهِ الْبُتَيْرَاءِ]. وَخَطَبَ زِيَادٌ خُطْبَتَهُ البتراء، لأنه لم يجمد اللَّهَ فِيهَا، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ابْنُ السِّكِّيتِ: الْأَبْتَرَانِ: الْعِيرُ وَالْعَبْدُ، قَالَ سُمِّيَا أَبْتَرَيْنِ لِقِلَّةِ خَيْرِهِمَا. وَقَدْ أَبْتَرَهُ اللَّهُ: أَيْ صَيَّرَهُ أَبْتَرَ. وَيُقَالُ: رَجُلٌ أُبَاتِرٌ (بِضَمِّ الْهَمْزَةِ): الَّذِي يَقْطَعُ رَحِمَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَئِيمٌ نَزَتْ فِي أَنْفِهِ خُنْزُوَانَةٌ ... عَلَى قطع ذي القربى أحذ أُبَاتِرُ
وَالْبُتَرِيَّةُ: فِرْقَةٌ مِنْ الزَّيْدِيَّةِ، نُسِبُوا إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعْدٍ، وَلَقَبُهُ الْأَبْتَرُ. وَأَمَّا الصُّنْبُورُ فَلَفْظٌ مُشْتَرَكٌ. قِيلَ: هُوَ النَّخْلَةُ تَبْقَى مُنْفَرِدَةٌ، وَيَدُقُّ أَسْفَلُهَا وَيَتَقَشَّرُ، يُقَالُ: صَنْبَرَ أَسْفَلُ النَّخْلَةِ.
__________
(1). في نسخة الصنبور. وسيأتي للمصنف بيان معناه.
(2). آية 51 سورة النساء.

(20/223)


وَقِيلَ: هُوَ الرَّجُلُ الْفَرْدُ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا أَخَ. وَقِيلَ: هُوَ مَثْعَبُ «1» الْحَوْضِ خَاصَّةً، حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَأَنْشَدَ:
مَا بَيْنَ صُنْبُورٍ إِلَى الْإِزَاءِ «2»

وَالصُّنْبُورِ: قَصَبَةٌ تَكُونُ فِي الْإِدَاوَةِ «3» مِنْ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ يُشْرَبُ مِنْهَا. حَكَى جَمِيعُهُ الْجَوْهَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى أعلم.

[تفسير سورة الكافرون]
سورة" الكافرون" وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ. وَمَدَنِيَّةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة والضحاك. وهي ست آيات. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. وَفِي كِتَابِ (الرَّدِّ لِأَبِي بَكْرٍ الْأَنْبَارِيِّ): أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عن موسى ابن وَرْدَانَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [(قل يا أيها الْكَافِرُونَ) تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ [. وَرَوَاهُ مَوْقُوفًا عَنْ أَنَسٍ. وَخَرَّجَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الفجر في سفر، فقرأ (قل يا أيها الْكَافِرُونَ). و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، ثُمَّ قَالَ: [قَرَأْتُ بِكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَرُبُعَهُ [. وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [أَتُحِبُّ يَا جُبَيْرُ إِذَا خَرَجْتَ سَفْرًا أَنْ تَكُونَ مِنْ أَمْثَلِ أَصْحَابِكَ هَيْئَةً وَأَكْثَرِهِمْ زَادًا [؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: (فَاقْرَأْ هَذِهِ السُّوَرَ الْخَمْسَ مِنْ أَوَّلِ (قُلْ يَا أيها الكافرون) [الكافرون: 1] إلى- (قل أعوذ برب الناس) [النَّاسِ: 1] وَافْتَتِحْ قِرَاءَتَكَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (. قَالَ: فَوَاَللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ غَيْرَ كَثِيرِ الْمَالِ، إذا سافرت أكون أبدهم «4» هَيْئَةً، وَأَقَلَّهُمْ زَادًا، فَمُذْ قَرَأْتُهُنَّ صِرْتُ مِنْ أَحْسَنِهِمْ هَيْئَةً، وَأَكْثَرِهِمْ زَادًا، حَتَّى أَرْجِعَ مِنْ سفري ذلك.
__________
(1). مثعب الحوض: مسيله.
(2). الازاء: مصب الماء في الحوض. [ ..... ]
(3). الإداوة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء.
(4). بذ الهيئة: رثها.

(20/224)


قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)

وَقَالَ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي قَالَ: (أقرأ عند منامك (قل يا أيها الْكَافِرُونَ) فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ). خَرَّجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَشَدُّ غَيْظًا لِإِبْلِيسَ مِنْهَا، لِأَنَّهَا تَوْحِيدٌ وَبَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كَانَ يقال ل (- قل يا أيها الكافرون)، و (قل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) الْمُقَشْقِشَتَانِ، أَيْ أَنَّهُمَا تُبَرِّئَانِ مِنَ النِّفَاقِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَمَا يُقَشْقِشُ الْهِنَاءُ «1» الْجَرَبَ فَيُبْرِئُهُ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ لِلْقُرْحِ وَالْجُدَرِيِّ إِذَا يَبِسَ وَتَقَرَّفَ، وَلِلْجَرَبِ فِي الْإِبِلِ إِذَا قَفَلَ «2»: قَدْ تَوَسَّفَ جِلْدُهُ، وَتَقَشَّرَ جِلْدُهُ، وَتَقَشْقَشَ جِلْدُهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الكافرون (109): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصَ ابن وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، لَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ، وَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ خَيْرًا مِمَّا بِأَيْدِينَا، كُنَّا قَدْ شَارَكْنَاكَ فِيهِ، وَأَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْرًا مِمَّا بِيَدِكَ، كُنْتَ قَدْ شَرِكْتَنَا فِي أَمْرِنَا، وَأَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ اسْتَلَمْتَ «3» بَعْضَ هَذِهِ الْآلِهَةِ لَصَدَّقْنَاكَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ السُّورَةِ فَيَئِسُوا مِنْهُ، وَآذَوْهُ، وَآذَوْا أَصْحَابَهُ. وَالْأَلِفُ واللام ترجع إلى معنى المعهود
__________
(1). الهناء (بالكسر): القطران.
(2). قفل الجلد: يبس.
(3). استلم الحجر: لمسه بالقبلة أو باليد.

(20/225)


وَإِنْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا كَانَتْ صِفَةً لِأَيِّ، لِأَنَّهَا مُخَاطِبَةٌ لِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَمُوتُ عَلَى كُفْرِهِ، فَهِيَ مِنَ الْخُصُوصِ الَّذِي جَاءَ بِلَفْظِ الْعُمُومِ. وَنَحْوُهُ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ: نَزَلَتْ جَوَابًا، وَعَنَى بِالْكَافِرِينَ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ. لَا جَمِيعَ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، فَعَبَدَ اللَّهَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى كُفْرِهِ، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَقَرَأَ مَنْ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ: قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ، وَذَلِكَ افْتِرَاءٌ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَضْعِيفٌ لِمَعْنَى هَذِهِ السُّورَةِ، وَإِبْطَالُ مَا قَصَدَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَذِلَّ نَبِيُّهُ لِلْمُشْرِكِينَ بِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ الزَّرِيِّ، وَإِلْزَامِهِمْ مَا يَأْنَفُ مِنْهُ كُلُّ ذِي لُبٍّ وَحِجًا. وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَدَّعِيهِ مِنَ اللَّفْظِ الْبَاطِلِ، قِرَاءَتُنَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى، وَتَزِيدُ تَأْوِيلًا لَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ وَتَحْرِيفِهِمْ. فَمَعْنَى قِرَاءَتِنَا: قل للذين كفروا: يا أيها الْكَافِرُونَ، دَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا: أَنَّ الْعَرَبِيَّ إِذَا قَالَ لِمُخَاطَبِهِ قُلْ لِزَيْدٍ أَقْبِلْ إِلَيْنَا، فَمَعْنَاهُ قُلْ لِزَيْدٍ يَا زَيْدُ أَقْبِلْ إِلَيْنَا. فَقَدْ وَقَعَتْ قِرَاءَتُنَا عَلَى كُلِّ مَا عِنْدَهُمْ، وَسَقَطَ مِنْ بَاطِلِهِمْ أَحْسَنُ لَفْظٍ وَأَبْلَغُ مَعْنًى، إِذْ كَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْتَمِدُهُمْ فِي نَادِيهِمْ، فيقول لهم: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَغْضَبُونَ مِنْ أَنْ يُنْسَبُوا إِلَى الْكُفْرِ، وَيَدْخُلُوا فِي جُمْلَةِ أَهْلِهِ إِلَّا وَهُوَ مَحْرُوسٌ مَمْنُوعٌ مِنْ أَنْ تَنْبَسِطَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ يَدٌ، أَوْ تَقَعَ بِهِ مِنْ جهتهم أذية. فمن لم يقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ كَمَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ، أَسْقَطَ آيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَبِيلُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَلَّا يُسَارِعُوا إِلَى مِثْلِهَا، وَلَا يَعْتَمِدُوا نَبِيَّهُمْ بِاخْتِزَالِ الْفَضَائِلِ عَنْهُ، الَّتِي مَنَحَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَشَرَّفَهُ بِهَا. وَأَمَّا وَجْهُ التَّكْرَارِ فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ فِي قَطْعِ أَطْمَاعِهِمْ، كَمَا تَقُولُ: وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، ثُمَّ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُهُ. قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ الْعَرَب، وَمِنْ مَذَاهِبِهِمُ التَّكْرَارُ إِرَادَةَ التَّأْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ، كَمَا أَنَّ مِنْ مَذَاهِبِهِمُ الِاخْتِصَارَ إِرَادَةَ التَّخْفِيفِ وَالْإِيجَازِ، لِأَنَّ خُرُوجَ الْخَطِيبِ وَالْمُتَكَلِّمِ من شي إلى شي أولى من اقتصاره في المقام على شي وَاحِدٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 13]. فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المطففين: 10]. كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ: 5 - 4]. وفَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح: 6 - 5]. كُلُّ هَذَا عَلَى التَّأْكِيدِ.

(20/226)


وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: ارْمِ ارْمِ، أَعْجِلْ أَعْجِلْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (فَلَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، إِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي). خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ «1». وَقَالَ الشَّاعِرُ:
هَلَّا سَأَلْتَ جُمُوعَ كِنْدَةَ ... يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنَا
وَقَالَ آخَرُ:
يَا لَبَكْرٍ أَنْشِرُوا لِي كُلَيْبًا ... يَا لَبَكْرٍ أَيْنَ أَيْنَ الْفِرَارُ «2»
وَقَالَ آخَرُ:
يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ ... خَيْرُ تَمِيمٍ كُلِّهَا وَأَكْرَمَهْ
وَقَالَ آخَرُ:
يَا أَقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أَقْرَعُ ... إِنَّكَ إِنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعِ «3»
وَقَالَ آخَرُ:
أَلَا يَا اسْلَمِي ثم يا أسلمي ثمت اسلمي ... وثلاث تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكَلَّمِ
وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: هَذَا عَلَى مُطَابَقَةِ قَوْلِهِمْ: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا وَنَعْبُدُ إلهك، ثم تعبد آلِهَتَنَا وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ، ثُمَّ تَعْبُدُ آلِهَتَنَا وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ، فَنَجْرِي عَلَى هَذَا أَبَدًا سَنَةً وَسَنَةً. فَأُجِيبُوا عَنْ كُلِّ مَا قَالُوهُ بِضِدِّهِ، أَيْ إِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ أَبَدًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَتْ قُرَيْشُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ نُعْطِيكَ مِنَ الْمَالِ مَا تَكُونُ بِهِ أَغْنَى رَجُلٍ بِمَكَّةَ، وَنُزَوِّجُكَ مَنْ شِئْتَ، وَنَطَأُ عَقِبَكَ، أَيْ نَمْشِي خَلْفَكَ، وَتَكُفُّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَنَحْنُ نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً وَاحِدَةً هِيَ لَنَا وَلَكَ صَلَاحٌ، تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة،
__________
(1). لفظ الحديث كما في صحيح مسلم (باب الفضائل): ( ... أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر وهو يقول: إن بنى هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن لهم ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم إلا أن يجب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) والبضعة (بالفتح وقد تكسر): القطعة من اللحم.
(2). البيت من أبيات المهلهل بن ربيعة قالها بعد أن أخذ بثأر أخيه كليب (راجع الشاهد العاشر بعد المائة في خزانة الأدب).
(3). البيت لجرير بن عبد الله البجلي. وقيل لعمرو بن خثارم البجلي. (راجع خزانة الأدب في الشاهد الحادي والثمانين بعد الخمسمائة).

(20/227)


وَنَحْنُ نَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً «1»، فَنَزَلَتِ السُّورَةُ. فَكَانَ التَّكْرَارُ فِي لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَرَّرُوا عَلَيْهِ مَقَالَهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كُرِّرَ بِمَعْنَى التَّغْلِيظِ. وَقِيلَ: أَيْ لَا أَعْبُدُ السَّاعَةَ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ السَّاعَةَ مَا أَعْبُدُ. ثُمَّ قَالَ: وَلا أَنا عابِدٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا عَبَدْتُّمْ. وَلا أَنْتُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، فَإِذَا مَلُّوا وَثَنًا، وَسَئِمُوا الْعِبَادَةَ لَهُ، رَفَضُوهُ، ثُمَّ أَخَذُوا وَثَنًا غَيْرَهُ بِشَهْوَةِ نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِحِجَارَةٍ تُعْجِبُهُمْ أَلْقَوْا هَذِهِ وَرَفَعُوا تِلْكَ، فَعَظَّمُوهَا وَنَصَّبُوهَا آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا، فَأُمِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْيَوْمَ مِنْ هَذِهِ الْآلِهَةِ الَّتِي بين أيدكم. ثُمَّ قَالَ: (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) وَإِنَّمَا تَعْبُدُونَ الْوَثَنَ الَّذِي اتَّخَذْتُمُوهُ، وَهُوَ عِنْدَكُمُ الْآنَ. وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ أَيْ بِالْأَمْسِ مِنَ الْآلِهَةِ الَّتِي رَفَضْتُمُوهَا، وَأَقْبَلْتُمْ عَلَى هَذِهِ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ
فَإِنِّي أَعْبُدُ إِلَهِي. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ في الاستقبال. وقوله: (وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ) عَلَى نَفْيِ العبادة منه لما عبدوا في الماضي. ثُمَّ قَالَ: (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) عَلَى التَّكْرِيرِ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، مِنْ قِبَلِ أَنَّ التَّقَابُلَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا عَبَدْتُ، فَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ عَبَدْتُ إِلَى أَعْبُدُ، إِشْعَارًا بِأَنَّ مَا عُبِدَ فِي الْمَاضِي هُوَ الَّذِي يُعْبَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، مَعَ أَنَّ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ قَدْ يَقَعُ أَحَدُهُمَا مَوْقِعَ الْآخَرِ. وَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ: مَا أَعْبُدُ، وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ أَعْبُدُ، لِيُقَابِلَ بِهِ وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَهِيَ أَصْنَامٌ وَأَوْثَانٌ، وَلَا يَصْلُحُ فِيهَا إِلَّا (مَا) دُونَ (مَنْ) فَحَمَلَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي، لِيَتَقَابَلَ الْكَلَامُ وَلَا يَتَنَافَى. وَقَدْ جَاءَتْ (مَا) لِمَنْ يَعْقِلُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكُنَّ لَنَا. وَقِيلَ: إِنَّ معنى الآيات وتقديرها: قل يا أيها الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ الْأَصْنَامَ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أَعْبُدُهُ، لِإِشْرَاكِكُمْ بِهِ، وَاتِّخَاذِكُمُ الْأَصْنَامَ، فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَهُ، فَأَنْتُمْ كَاذِبُونَ، لِأَنَّكُمْ تَعْبُدُونَهُ مُشْرِكِينَ. فَأَنَا لَا أَعْبُدُ مَا عَبَدْتُمْ، أَيْ مِثْلَ عِبَادَتِكُمْ، ف (ما) مصدرية. وكذلك
__________
(1). في حاشية الجمل نقلا عن القرطبي: ثُمَّ تَعْبُدُ آلِهَتَنَا، وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ، فَنَجْرِي عَلَى هذا أبدا: سنة وسنة، فنزلت ... إلخ.

(20/228)


وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْضًا، مَعْنَاهُ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مِثْلَ عِبَادَتِي، الَّتِي هي توحيد.

[سورة الكافرون (109): آية 6]
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
فِيهِ مَعْنَى التَّهْدِيدِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ «1» [القصص: 55] أَيْ إِنْ رَضِيتُمْ بِدِينِكُمْ، فَقَدْ رَضِينَا بِدِينِنَا. وَكَانَ هَذَا قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، فَنُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: السُّورَةُ كُلُّهَا مَنْسُوخَةٌ. وَقِيلَ: مَا نسخ منها شي لِأَنَّهَا خَبَرٌ. وَمَعْنَى لَكُمْ دِينُكُمْ أَيْ جَزَاءُ دِينِكُمْ، وَلِيَ جَزَاءُ دِينِي. وَسَمَّى دِينَهُمْ دِينًا، لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوهُ وَتَوَلَّوْهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَكُمْ جَزَاؤُكُمْ وَلِيَ جَزَائِي، لِأَنَّ الدِّينَ الْجَزَاءُ. وَفَتَحَ الْيَاءَ مِنْ وَلِيَ دِينِ نَافِعٌ، وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ، وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ. وَأَثْبَتَ الْيَاءَ فِي" دِينِي" في الحالين نصر ابن عَاصِمٍ وَسَلَّامٌ وَيَعْقُوبُ، قَالُوا: لِأَنَّهَا اسْمٌ مِثْلُ الْكَافِ فِي دِينِكُمْ، وَالتَّاءِ فِي قُمْتُ. الْبَاقُونَ بِغَيْرِ يَاءٍ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُوَ يَهْدِينِ «2» [الشعراء: 78] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ «3» [آل عمران: 50] وَنَحْوِهِ، اكْتِفَاءً بِالْكِسْرَةِ، وَاتِّبَاعًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ، فَإِنَّهُ وَقَعَ فِيهِ بِغَيْرِ يَاءٍ.