ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ
(3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ
وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ
(5)
{ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر
منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك
رجع بعيد قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ بل
كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} قوله عز وجل: {ق}
فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم
بها , قاله ابن عباس. الثاني: أنه اسم من أسماء القرآن ,
قاله قتادة. الثالث: أن معناه قضى والله , كما قيل في حم:
حم والله , وهذا معنى قول مجاهد. الرابع: أنه اسم الجبل
المحيط بالدنيا , قاله الضحاك. قال مقاتل: وعروق الجبال
كلها منه. ويحتمل خامساً: أن يكون معناه قف؛ كما قال
الشاعر:
(5/339)
(قلت لها قفي فقالت قاف ... ... ... ... )
أي وقفت. ويحتمل ما أريد بوقفه عليه وجهين: أحدهما: قف على
إبلاغ الرسالة لئلا تضجر بالتكذيب. الثاني: قف على العمل
بما يوحى إليك لئلا تعجل على ما لم تؤمر به.
{وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه
الكريم , قاله الحسن. الثاني: أنه مأخوذ من كثرة القدرة
والمنزلة , لا من كثرة العدد من قولهم فلان كثير في النفوس
, ومنه قول العرب في المثل السائر: لها في كل الشجر نار ,
واستجمد المرخ والعفار , أي استكثر هذان النوعان من النار
وزاد على سائر الشجر , قاله ابن بحر. الثالث: أنه العظيم ,
مأخوذ من قولهم قد مجدت الإبل إذا أعظمت بطونها من كلأ
الربيع. {والْقُرْءَانِ المَجِيدِ} قسم أقسم الله به
تشريفاً له وتعظيماً لخطره لأن عادة جارية في القسم ألا
يكون إلا بالمعظم. وجواب القسم محذوف ويحتمل وجهين:
أحدهما: هو أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل
قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ
مِّنهُمْ}. الثاني: أنكم مبعوثون بدليل قوله: {إِئِذَا
مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً}. قوله عز وجل: {بَلْ عَجِبُواْ
أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ} يعني محمداً صلى الله
عليه وسلم. {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيءٌ عَجِيبٌ}
فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم عجبوا أن دعوا إلى إله واحد،
قاله قتادة. الثاني: عجبوا أن جاءهم منذر منهم , من قبل
الله تعالى. الثالث: أنهم عجبوا من إنذارهم بالبعث
والنشور. قوله عز وجل: {قَدْ عَلمْنَا مَا تَنقُصُ
الأَرْضُ مِنْهُم} فيه وجهان: أحدهما: من يموت منهم، قاله
قتادة.
(5/340)
الثاني: يعني ما تأكله الأرض من لحومهم
وتبليه من عظامهم , قاله الضحاك. {وَعِندَنَا كِتَابٌ
حَفِيظٌ} يعني اللوح المحفوظ. وفي حفيظ وجهان: أحدهما:
حفيظ لأعمالهم. الثاني: لما يأكله التراب من لحومهم
وأبدانهم وهو الذي تنقصه الأرض منهم. قوله عز وجل: {بَلْ
كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ... } الآية. الحق
يعني القرآن في قول الجميع. {مَرِيجٍ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن المريج المختلط. قاله الضحاك. الثاني: المختلف ,
قاله قتادة. الثالث: الملتبس , قاله الحسن. الرابع: الفاسد
, قاله أبو هريرة. ومنه قول أبي دؤاد:
(مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد)
(5/341)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ
وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا
فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا
لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ
الْخُرُوجُ (11)
{أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها
وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها
رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد
منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب
الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به
بلدة ميتا كذلك الخروج} قوله عز وجل: {وَمَا لَهَا مِن
فُرُوجٍ} فيه وجهان: أحدهما: من شقوق. الثاني: من فتوق ,
قاله ابن عيسى إلا أن الملك تفتح له أبواب السماء عند
العروج. قوله عز وجل: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أي
بسطناها.
(5/341)
{وَألْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} يعني
الجبال الرواسي الثوابت , واحدها راسية قال الشاعر:
(رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال
طويل)
{مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي من كل نوع. {بَهِيجٍ} فيه وجهان:
أحدهما: حسن، مأخوذ من البهجة وهي الحسن. الثاني: سارّ
مأخوذ من قولهم قد أبهجني هذا الأمر أي سرني , لأن السرور
يحدث في الوجه من الإسفار والحمرة ما يصير به حسناً. قال
الشعبي: الناس نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم , ومن
دخل النار فهو لئيم. قوله عز وجل: {تَبْصِرَةً} فيها ثلاثة
أوجه: أحدها: يعني بصيرة للإنسان , قاله مجاهد. الثاني:
نعماً بصر الله بها عباده , قاله قتادة. الثالث: يعني
دلالة وبرهاناً. {وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} فيه
ثلاثة أوجه: أحدها: أن المنيب المخلص , قاله السدي.
الثاني: أنه التائب إلى ربه , قاله قتادة. الثالث: أنه
الراجع المتذكر , قاله ابن بحر. وقد عم الله بهذه التبصرة
والذكرى وإن خص بالخطاب كل عبد منيب لانتفاعه بها واهتدائه
إليها. قوله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مََآءً
مُّبَارَكاً} يعني المطر , لأنه به يحيا النبات والحيوان.
{فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} فيها هنا وجهان: أحدهما:
أنها البساتين، قاله الجمهور. الثاني: الشجر، قاله ابن
بحر. {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} يعني البر والشعير، وكل ما يحصد
من الحبوب، إذا تكامل واستحصد سمي حصيداً، قال الأعشى:
(5/342)
(لسنا كما إياد دارها ... تكريث ينظر حبه
أن يحصدا)
قوله عز وجل: {وَالنَّخْلَ بِاسَقَاتٍ} فيها وجهان:
أحدهما: أنها الطوال , قاله ابن عباس ومجاهد. قاله الشاعر:
(يا ابن الذين بفضلهم ... بسقت على قيس فزاره)
أي طالت عليهم. (الثاني) أنها التي قد ثقلت من الحمل ,
قاله عكرمة. وقال الشاعر:
(فلما تركنا الدار ظلت منيفة ... بقران فيه الباسقات
المواقر)
{نَضِيدٌ} أي منضود , فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن النضيد
المتراكم المتراكب , قاله ابن عباس في رواية عكرمة عنه.
الثاني: أنه المنظوم , وهذا يروى عن ابن عباس أيضاً.
الثالث: أنه القائم المعتدل , قاله ابن الهاد. قوله عز
وجل: {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} يعني ما أنزله من السماء من
ماء مبارك , وما أخرجه من الأرض بالماء من نبات وحب الحصيد
وطلع نضيد. {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مِّيتاً كَذِلكَ
الْخُرُوجُ} جعل هذا كله دليلاً على البعث والنشور من
وجهين: أحدهما: أن النشأة الأولى إذا خلقها من غير أصل
كانت النشأة الثانية بإعادة ما له أصل أهون. الثاني: أنه
لما شوهد من قدرته , إعادة ما مات من زرع ونبات كان إعادة
من مات من العباد أولى للتكليف الموجب للجزاء.
(5/343)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ
الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ
فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ
بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
{كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود
وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب
الرسل فحق وعيد أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق
جديد}
(5/343)
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ
نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} في الرس وجهان: أحدهما: أنه
كل حفرة في الأرض من بئر وقبر. الثاني: أنها البئر التي لم
تطو بحجر ولا غيره. وأما أصحاب الرس ففيهم أربعة أقاويل:
أحدها: أنها بئر قتل فيها صاحب ياسين ورسوه، قاله الضحاك.
الثاني: أنهم أهل بئر بأذربيجان , قاله ابن عباس. الثالث:
أنهم قوم باليمامة كان لهم آبار، قاله قتادة. قال الزهير:
(بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن ووادي الرس كاليد في
الفم)
الرابع: أنهم أصحاب الأخدود. {وَثَمُودُ} وهم قوم صالح ,
وكانوا عرباً بوادي القرى وما حولها. وثمود مأخوذ من الثمد
وهو الماء القليل الكدر , قال النابغة:
(واحكم بحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد
الثمد)
{وَعَادٌ} وهو اسم رجل كان من العماليق كثر ولده , فصاروا
قبائل وكانوا باليمن بالأحقاف , والأحقاف الرمال , وهم قوم
هود. {فِرْعَوْنَ} وقد اختلف في أصله فحكي عن مجاهد أنه
كان فارسياً من أهل إصطخر. وقال ابن لهيعة: كان من أهل مصر
وحكي عن ابن عباس أنه عاش ثلاثمائة سنة منها مائتان وعشرون
سنة لا يرى ما يقذي عينه , فدعاه موسى ثمانين سنة. وحكى
غيره أنه عاش أربعمائة سنة. واختلف في نسبه فقال بعضهم هو
من لخم , وقال آخرون هو من تبَّع. {وَإِخْوَانُ لُوطٍ}
يعني قومه وأتباعه , قال مجاهد: كانوا أربعمائة ألف بيت،
في كل بيت عشرة مردة، فكانوا أربعة آلاف ألف.
(5/344)
وقال عطاء: ما من أحد من الأنبياء إلا وقد
يقوم معه قوم إلا لوط فإنه يقوم وحده. {وَأَصَحَابُ
الأَيْكَةِ} والأيكة الغيضة ذات الشجر الملتف كما قال أبو
داود الإيادي:
(كأن عرين أيكته تلاقى ... بها جمعان من نبط وروم)
قال قتادة: وكان عامة شجرها الدوم , وكان رسولهم شعيباً ,
وأرسل إليهم , وإلى أهل مدين , أرسل إلى أمتين من الناس ,
وعذبتا بعذابين , أما أهل مدين فأخذتهم الصيحة , وأما
أصحاب الأيكة فكانوا أهل شجر متكاوس. {وَقَوْمُ تُبَّعٍ}
وتبع كان رجلاً من ملوك العرب من حِمير , سُمّي تبعاً
لكثرة من تبعه. قال وهب: إن تبعاً أسلم وكفر قومه , فلذلك
ذكر قومه , ولم يذكر تبع. قال قتادة وهو الذي حير الحيرة
وفتح سمرقند حتى أخربها , وكان يكتب إذا كتب: بسم الله
الذي تَسمَّى وملك براً وبحراً وضحى وريحاً. {كُلٌّ
كَذَّبَ الرَّسَلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} يعني أن كل هؤلاء
كذبوا من أرسل إليهم , فحق عليهم وعيد الله وعذابه. فذكر
الله قصص هؤلاء لهذه الأمة , ليعلم المكذبون منهم بالنبي
صلى الله عليه وسلم أنهم كغيرهم من مكذبي الرسل إن أقاموا
على التكذيب فلم يأمنوا , حتى أرشد الله منهم من أرشد
وتبعهم رغباً ورهباً من تبع. قوله عز وجل: {أَفَعِيِينَا
بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هَمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ} أما اللبس فهو اكتساب الشك , ومنه قول الخنساء:
(صدق مقالته واحذر عداوته ... والبس عليه بشك مثل ما لبسا)
والخلق الجديد هو إعادة خلق ثان بعد الخلق الأول. وفي معنى
الكلام تأويلان: أحدهما: أفعجزنا عن إهلاك الخلق الأول ,
يعني من تقدم ذكره حين كذبوا رسلي مع قوتهم , حتى تشكوا في
إهلاكنا لكم مع ضعفكم إن كذبتم , فيكون هذا خارجاً منه
مخرج الوعيد.
(5/345)
الثاني: معناه أننا لم نعجز عن إنشاء الخلق
الأول , فكيف تشكون في إنشاء خلق جديد , يعني بالبعث بعد
الموت , فيكون هذا خارجاً مخرج البرهان والدليل.
(5/346)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
(19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ
غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
{ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به
نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن
اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور
ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في
غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} قوله عز
وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا
تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} الوسوسة كثرة حديث النفس بما لا
يتحصل في حفاء وإسرار , ومنه قول رؤبة:
(وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق ... ... ... ... ... )
{وَنَحْنُ أَقْرَبٌ إِلَيهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ} فيه
ثلاثة أوجه: أحدها: أنه حبل معلق به القلب , قاله الحسن.
والأصم وهو الوتين. الثاني: أنه عرق في الحلق , قاله أبو
عبيدة. الثالث: ما قاله ابن عباس , عرق العنق ويسمى حبل
العاتق , وهما وريدان عن يمين وشمال , وسمي وريداً , لأنه
العرق الذي ينصب إليه ما يرد من الرأس. وفي قوله {وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ} تأويلان: أحدهما:
ونحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه.
(5/346)
الثاني: ونحن أملك به من حبل وريده , مع
استيلائه عليه. ويحتمل ثالثاً: ونحن أعلم بما توسوس به
نفسه من حبل وريده , الذي هو من نفسه , لأنه عرق يخالط
القلب , فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب. قوله عز وجل:
{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ. .} الآية. قال الحسن
ومجاهد وقتادة: المتلقيان ملكان يتلقيان عملك , أحدهما عن
يمينك , يكتب حسناتك , والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. قال
الحسن: حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة:
{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيباً} عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. وفي
{قَعِيدٌ} وجهان: أحدهما: أنه القاعدة , قاله المفضل.
الثاني: المرصد الحافظ , قاله مجاهد. وهو مأخوذ من القعود.
قال الحسن: الحفظة أربعة: ملكان بالنهار وملكان بالليل.
قوله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} أي ما يتكلم بشيء
, مأخوذ من لفظ الطعام , وهو إخراجه من الفم. {إِلاَّ
لَدَيْهِ رَقِيبٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المتتبع
للأمور. الثاني: أنه الحافظ , قاله السدي. الثالث: أنه
الشاهد , قاله الضحاك. وفي {عَتِيدٌ} وجهان: أحدهما: أنه
الحاضر الذي لا يغيب. الثاني: أنه الحافظ المعد إما للحفظ
وإما للشهادة. قوله عز وجل: {وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ
بِالْحَقِّ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما يراه عند المعاينة من
ظهور الحق فيما كان الله قد أوعده.
(5/347)
الثاني: أن يكون الحق هو الموت , سمي حقاً
, إما لاسحقاقه , وإما لانتقاله إلى دار الحق. فعلى هذا
يكون في الكلام تقديم وتأخير. وتقديره: وجاءت سكرة الحق
بالموت , ووجدتها في قراءة ابن مسعود كذلك. {ذلِكَ مَا
كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه كان يحيد
من الموت , فجاءه الموت. الثاني: أنه يحيد من الحق , فجاءه
الحق عند المعاينة. وفي معنى التحيد وجهان: أحدهما: أنه
الفرار , قاله الضحاك. (الثاني): العدول , قاله السدي.
ومنه قول الشاعر:
(ولقد قلت حين لم يك عنه ... لي ولا للرجال عنه محيد.)
فروى عاصم بن أبي بهدلة , عن أبي وائل , أن عائشة قالت عند
أبيها وهو يقضي:
(لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً ,
وضاق بها الصدر)
فقال أبو بكر: (هلا قلت كما قال الله]: وَجَآءَتْ سَكْرَتُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}.
قوله عز وجل: {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ
وَشَهِيدٌ} أما السائق ففيه قولان: أحدهما: أنه ملك يسوقه
إلى المحشر , قاله أبو هريرة وابن زيد. الثاني: أنه أمر من
الله يسوقه إلى موضع الحساب , قاله الضحاك. وأما الشهيد
ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه ملك يشهد عليه بعمله , وهذا
قول عثمان بن عفان والحسن. الثاني: أنه الإنسان , يشهد على
نفسه بعمله، رواه أبو صالح.
(5/348)
الثالث: أنها الأيدي والأرجل تشهد عليه
بعمله بنفسه , قاله أبو هريرة. ثم في الآية قولان: أحدهما:
أنها عامة في المسلم والكافر , وهو قول الجمهور. الثاني:
أنها خاصة في الكافر , قاله الضحاك. قوله عز وجل: {لَقَدْ
كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّن هَذَا} فيه وجهان: أحدهما أنه
الكافر , كان في غفلة من عواقب كفره , قاله ابن عباس.
الثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم , كان في غفلة عن
الرسالة مع قريش في جاهليتهم , قاله عبد الرحمن بن زيد.
ويحتمل ثالثاً: لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس
معها سائق وشهيد لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية.
{فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه
إذا كان في بطن أمه فولد , قاله السدي. الثاني: إذا كان في
القبر فنشر , وهذا معنى قول ابن عباس. الثالث: أنه وقت
العرض في القيامة , قاله مجاهد. الرابع: أنه نزول الوحي
وتحمل الرسالة , وهذا معنى قول ابن زيد. {فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ} وفي المراد بالبصر هنا وجهان: أحدهما:
بصيرة القلب لأنه يبصر بها من شواهد الأفكار , ونتائج
الاعتبار ما تبصر العين ما قابلها من قبلها من الأشخاص
والأجسام , فعلى هذا في قوله: {حَدِيدٌ} تأويلان: أحدهما:
سريع كسرعة مور الحديد. الثاني: صحيح كصحة قطع الحديد.
الوجه الثاني: أن المراد به بصر العين وهو الظاهر , فعلى
هذا في قوله: {حَدِيدٌ} تأويلان: أحدهما: شديد، قاله
الضحاك. الثاني: بصير، قاله ابن عباس.
(5/349)
وماذا يدرك البصر؟ فيه خمسة أوجه: أحدها:
يعاين الآخرة , قاله قتادة. الثاني: لسان الميزان , قاله
الضحاك. الثالث: ما يصير إليه من ثواب أو عقاب , وهو معنى
قول ابن عباس. الرابع: ما أمر به من طاعة وحذره من معصية ,
وهو معنى قول ابن زيد. الخامس: العمل الذي كان يعمله في
الدنيا , قاله الحسن.
(5/350)
وَقَالَ قَرِينُهُ
هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ
كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ
مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ
قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي
ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ
وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا
يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ (29)
{وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ألقيا في جهنم
كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها
آخر فألقياه في العذاب الشديد قال قرينه ربنا ما أطغيته
ولكن كان في ضلال بعيد قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم
بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} قوله عز
وجل: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أما
قرينه ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الملك الشهيد عليه ,
قاله الحسن وقتادة. الثاني: أنه قرينه الذي قيض له من
الشياطين , قاله مجاهد. الثالث: أنه قرينه من الإنس , قاله
ابن زيد في رواية ابن وهب عنه. وفي قوله: {هَذَا مَا
لَدَيَّ عَتِيدٌ} وجهان: أحدهما: هذا الذي وكلت به أحضرته
, قاله مجاهد. الثاني: هذا الذي كنت أحبه ويحبني قد حضر ,
قاله ابن زيد. قوله عز وجل: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ
كُلَّ كَفَّارِ عَنِيدٍ} في ألقيا ثلاثة أقاويل: أحدها: أن
المأمور بألقيا كل كافر في النار ملكان. الثاني: يجوز أن
يكون واحد ويؤمر بلفظ الاثنين كقول الشاعر:
(فإن تزجراني يابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً
ممنعاً)
الثالث: أنه خارج مخرج تثنية القول على معنى قولك ألق ألق،
قف قف،
(5/350)
تأكيداً للأمر. والكفار [بفتح الكاف] أشد
مبالغة من الكافر. ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه الكافر الذي
كفر بالله ولم يطعه , وكفر بنعمه ولم يشكره. الثاني: أنه
الذي كفر بنفسه وكفر غيره بإغوائه. وأما العنيد ففيه خمسة
أوجه: أحدها: أنه المعاند للحق , قاله بعض المتأخرين.
الثاني: أنه المنحرف عن الطاعة , قاله قتادة. الثالث: أنه
الجاحد المتمرد , قاله الحسن. الرابع: أنه المشاق , قاله
السدي. الخامس: أنه المعجب بما عنده المقيم على العمل به ,
قاله ابن بحر. فأما العاند ففيه وجهان: أحدهما: أنه الذي
يعرف بالحق ثم يجحده. الثاني: أنه الذي يدعى إلى الحق
فيأباه. قوله عز وجل: {مَنَّاعٍ لِّلْخير} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منع الزكاة المفروضة , قاله قتادة. الثاني: أن
الخير المال كله , ومنعه حبسه عن النفقه في طاعة الله ,
قاله بعض المتأخرين. الثالث: محمول على عموم الخير من قول
وعمل. {مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} في المريب ثلاثة أوجه: أحدها:
أنه الشاك في الله , قاله السدي. الثاني: أنه الشاك في
البعث , قاله قتادة. الثالث: أنه المتهم. قال الشاعر:
(بثينة قالت يا جميل أربتنا ... فقلت كلانا يا بثين مريب)
(5/351)
(وأريبنا من لا يؤدي أمانة ... ولا يحفظ
الأسرار حين يغيب)
قال الضحاك: هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي حين
استشاره بنو أخيه في الدخول في الإسلام فمنعهم. قوله عز
وجل: {قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ} فيه وجهان:
أحدهما: أن اختصامهم هو اعتذار كل واحد منهم فيما قدم من
معاصيه , قاله ابن عباس. الثاني: أنه تخاصم كل واحد مع
قرينه الذي أغواه في الكفر , قاله أبو العالية. فأما
اختصامهم في مظالم الدنيا , فلا يجوز أن يضاع لأنه يوم
التناصف. أحدها: أن الوعيد الرسول , قاله ابن عباس.
الثاني: أنه القرآن , قاله جعفر بن سليمان. الثالث: أنه
الأمر والنهي , قاله ابن زيد. ويحتمل رابعاً: أنه الوعد
بالثواب والعقاب. قوله عز وجل: {مَا يُبَدَّلُ الْقَولُ
لَدَيَّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: فيما أوجه من أمر ونهي ,
وهذا معنى قول ابن زيد. الثاني: فيما وعد به من طاعة
ومعصية , وهو محتمل. الرابع: في أن بالحسنة عشر أمثالها
وبخمس الصلوات خمسين صلاة , قاله قتادة. {وَمَآ أَنَا
بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} فيه وجهان: أحدهما: ما أنا بمعذب
من لم يجرم , قاله ابن عباس. الثاني: ما أزيد في عقاب مسيء
ولا أنقص من ثواب محسن , وهو محتمل.
(5/352)
يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ
(30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ
بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ
حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ
بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ
يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا
وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
{يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من
مزيد وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل
أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها
بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد}
(5/352)
قوله عز وجل: {يَوْمَ نُقُولُ لِجَهَنَّمَ
هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنَ مَّزِيدٍ} فيه ثلاثة
أوجه: أحدها: هل يزاد إلى من ألقي غيرهم؟ فالاستخبار عمن
بقي , قاله زيد بن أسلم. الثاني: معناه إني قد امتلأت ,
ممن ألقي في , فهل أسع غيرهم؟ قاله مقاتل. الثالث: معناه
هل يزاد في سعتي؟ لإلقاء غير من ألقي في , قاله معاذ. وفي
قوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} وجهان: أحدهما: أن
زبانية جهنم قالوا هذا. الثاني: أن حالها كالمناطقة بهذا
القول , كما قال الشاعر:
(امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني)
قوله عز وجل: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ
حَفِيظٍ} في الأواب الحفيظ ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الذاكر
ذنبه في الخلاء , قاله الحكم. الثاني: أنه الذي إذا ذكر
ذنباً تاب واستغفر الله منه، قاله ابن مسعود ومجاهد
والشعبي. الثالث: أنه الذي لا يجلس مجلساً فيقوم حتى
يستغفر الله فيه، قاله عبيد بن عمير. وأما الحفيظ هنا ففيه
ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المطيع فيما أمر، وهو معنى قول
السدي. الثاني: الحافظ لوصية الله بالقبول، وهو معنى قول
الضحاك. الثالث: أنه الحافظ لحق الله بالاعتراف ولنعمه
بالشكر، وهو معنى قول
(5/353)
مجاهد. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَافَظَ عَلَى
أَرْبعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ كَانَ
أَوَّاباً حَفِيظاً). قوله عز وجل: {مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه الذي
يحفظ نفسه من الذنوب في السر كما يحفظها في الجهر. الثاني:
أنه التائب في السر من ذنوبه إذا ذكرها , كما فعلها سراً.
ويحتمل ثالثاً: أنه الذي يستتر بطاعته لئلا يداخلها في
الظاهر رياء. ووجدت فيه لبعض المتكلمين. رابعاً: أنه الذي
أطاع الله بالأدلة ولم يره. {وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ}
فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المنيب المخلص , قاله السدي.
الثاني: أنه المقبل على الله , قاله سفيان. الثالث: أنه
التائب , قاله قتادة. {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ} يعني ما
تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم. {وَلَدَينَا مَزِيدٍ} فيه
وجهان: أحدهما: أن المزيد من يزوج بهن من الحور العين ,
رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً. الثاني: أنها الزيادة التي
ضاعفها الله من ثوابه بالحسنة عشر أمثالها. وروى أنس عن
النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل أخبره: أن يوم الجمعة
يدعى في الآخرة يوم المزيد. وفيه وجهان: أحدهما: لزيادة
ثواب العمل فيه.
(5/354)
الثاني: لما روي أن الله تعالى يقضي فيه
بين خلقه يوم القيامة.
(5/355)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ
عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ
اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
{وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا
فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له
قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ولقد خلقنا السماوات والأرض
وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما
يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن
الليل فسبحه وأدبار السجود} قوله عز وجل: {فَنَقَّبُواْ
فِي الْبِلاَدِ} فيه أربعة أوجه: احدها: أثروا في البلاد ,
قاله ابن عباس. الثاني: أنهم ملكوا في البلاد , قاله
الحسن. الثالث: ساروا في البلاد وطافوا , قاله قتادة ,
ومنه قول امرىء القيس:
(وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب)
الرابع: أنهم اتخذوا فيها طرقاً ومسالك , قاله ابن جريج.
ويحتمل خامساً: أنه اتخاذ الحصون والقلاع. {هَلْ مِن
مَّحِيصٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هل من منجٍ من الموت ,
قاله ابن زيد. الثاني: هل من مهرب , قال معمر عن قتادة:
حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله تعالى لهم مدركاً. الثالث:
هل من مانع؟ قال سعيد عن قتادة: حاص الفجرة , فوجدوا أمر
الله منيعاً. قوله عز وجل: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى
لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فيه وجهان: أحدهما: لمن كان له
عقل , قاله مجاهد , لأن القلب محل العقل.
(5/355)
الثاني: لمن كانت له حياة ونفس مميزة ,
فعبر عن النفس الحية بالقلب لأنه وطنها ومعدن حياتها. كما
قال امرؤ القيس:
(أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل)
{أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ألقى السمع فيما غاب عنه بالأخبار , وهو شهيد فيما
عاينه بالحضور. الثاني: معناه سمع ما أنزل الله من الكتب
وهو شهيد بصحته. الثالث: سمع ما أنذر به من ثواب وعقاب ,
وهو شهيد على نفسه بما عمل من طاعة أو معصية. وفي الآية
ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها في جميع أهل الكتب , قاله
قتادة. الثاني: أنها في اليهود والنصارى خاصة , قاله
الحسن. الثالث: أنها في أهل القرآن خاصة , قاله محمد بن
كعب وأبو صالح. قوله عز وجل: {وَمَا مَسَّنَا مِن
لُّغُوبٍ} واللغوب التعب والنصب. قال الراجز:
(إذا رقى الحادي المطي اللغبا ... وانتعل الظل فصار جوربا)
قال قتادة والكلبي: نزلت هذه الآية في يهود المدينة ,
زعموا أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام أولها يوم
الأحد , وآخرها يوم الجمعة , واستراح في يوم السبت , ولذلك
جعلوه يوم راحة , فأكذبهم الله في ذلك. قوله عز وجل:
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} هذا خطاب للنبي صلى الله
عليه وسلم , أمر فيه بالصبر على ما يقوله المشركون , إما
من تكذيب أو وعيد. {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} الآية. وهذا وإن
كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم , فهو عام له ولأمته.
وفي هذا التسبيح وجهان: أحدهما: أنه تسبيحه بالقول تنزيهاً
قبل طلوع الشمس وقبل الغروب , قاله أبو الأحوص.
(5/356)
الثاني: أنها الصلاة ومعناه فصلِّ بأمر ربك
قبل طلوع الشمس , يعني صلاة الصبح , وقبل الغروب , يعني
صلاة العصر , قاله أبو صالح ورواه جرير بن عبد الله
مرفوعاً. قوله عز وجل: {وَمِنَ اللَّيلِ فَسَبِّحْهُ} فيه
أربعة أوجه: أحدها: أنه تسبيح الله تعالى قولاً في الليل ,
قاله أبو الأحوص. الثاني: أنها صلاة الليل , قاله مجاهد.
الثالث: أنها ركعتا الفجر , قاله ابن عباس. الرابع: أنها
صلاة العشاء الآخرة , قاله ابن زيد. ثم قال {وَأَدْبَارَ
السُّجُودِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه التسبيح في أدبار
الصلوات , قاله أبو الأحوص. الثاني: أنها النوافل بعد
المفروضات , قاله ابن زيد. الثالث: أنها ركعتان بعد المغرب
, قاله علي رضي الله عنه وأبو هريرة. وروى ابن عباس قال:
بت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم , فصلى ركعتين
قبل الفجر , ثم خرج إلى الصلاة فقال: (يا ابن عباس
رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ أَدْبَارَ النُّجُومِ ,
وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمِغْرِبِ أَدْبَارَ السُّجُودِ).
(5/357)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ
يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ
وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ
عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ
(45)
{واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم
يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج إنا نحن نحيي ونميت
وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا
يسير نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار
(5/357)
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} قوله عز وجل:
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنَادِ} هذه الصيحة التي
ينادي بها المنادي من مكان قريب هي النفخة الثانية التي
للبعث إلى أرض المحشر. ويحتمل وجهاً آخر , أنه نداؤه في
المحشر للعرض والحساب. وفي قوله: {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ}
وجهان: أحدهما: أنه يسمعها كل قريب وبعيد , قاله ابن جريج.
الثاني: أن الصيحة من مكان قريب. قال قتادة: كنا نحدث أنه
ينادي من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الأرض: يا أيتها
العظام البالية , قومي لفصل القضاء وما أعد من الجزاء.
وحدثنا , أن كعباً قال: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية
عشر ميلاً. قوله عز وجل: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ
بِالْحَقِّ} فيه وجهان: أحدهما: يعني بقول الحق. الثاني:
بالبعث الذي هو حق. {ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} فيه وجهان:
أحدهما: الخروج من القبور. الثاني: أن الخروج من أسماء
القيامة. قال العجاج:
(وليس يوم سمي الخروجا ... أعظم يوم رجه رجوجا)
قوله عز وجل: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} يحتمل
وجهين: أحدهما: نحن أعلم بما يجيبونك من تصديق أو تكذيب.
الثاني: بما يسرونه من إيمان أو نفاق. {وَمَا أَنتَ
عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني برب،
قاله الضحاك، لأن الجبار هو الله تعالى سلطانه.
(5/358)
الثاني: متجبر عليهم متسلط، قاله مجاهد.
ولذلك قيل لكل متسلط جبار. قال الشاعر:
(وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من صعره فتقوما)
وهو من صفات المخلوقين ذم. الثالث: أنك لا تجبرهم على
الإسلام من قولهم قد جبرته على الأمر إذا قهرته على أمر ,
قاله الكلبي. {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ
وَعِيدِ} الوعيد العذاب , والوعد الثواب. قال الشاعر:
(وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي)
قال قتادة: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك. وروي
أنه قيل: يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت {فَذَكِّرْ
بِالْقُرءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}.
(5/359)
سورة الذاريات
بسم الله الرحمن الرحيم
(5/360)
وَالذَّارِيَاتِ
ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ
يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا
تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ
(11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ
هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا
فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
(14)
{والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات
يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع
والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك قتل
الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسألون أيان يوم الدين
يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به
تستعجلون} قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً}
الذاريات: الرياح , واحدتها ذارية لأنها تذرو التراب
والتبن أي تفرقه في الهواء , كما قال تعالى: {فَأَصْبَحَ
هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} وفي قوله {ذَرْواً} وجهان:
أحدهما: مصدر. الثاني: أنه بمعنى ما ذرت , قاله الكلبي.
فكأنما أقسم بالرياح وما ذرت الرياح. ويحتمل قولاً ثالثاً:
أن الذاريات النساء الولودات لأن في ترائبهن ذرو الخلق ,
لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات , وأقسم بهن لما في
ترائبهن من خيرة عباده
(5/360)
الصالحين , وخص النساء بذلك دون الرجال وإن
كان كل واحد منهما ذارياً لأمرين. أحدهما: لأنهن اوعية دون
الرجال فلاجتماع الذروين خصصن بالذكر. الثاني: أن الذرو
فيهن أطول زماناً وهن بالمباشرة أقرب عهداً.
{فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً} فيها قولان: أحدهما: أنها السحب
[يحملن] وِقْراً بالمطر. الثاني أنها الرياح [يحملن]
وِقْراً بالسحاب , فتكون الريح الأولى مقدمة السحاب لأن
أمام كل سحابة ريحاً , والريح الثانية حاملة السحاب. لأن
السحاب لا يستقل ولا يسير إلا بريح. وتكون الريح الثانية
تابعة للريح الأولى من غير توسط , قاله ابن بحر. ويجري فيه
احتمال قول: ثالث: أنهن الحاملات من النساء إذا ثقلن
بالحمل , والوقر ثقل الحمل على ظهر أو في بطن , وبالفتح
ثقل الأذن. {فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} فيها قولان: أحدهما:
السفن تجري بالريح يسراً إلى حيث سيرت. الثاني: أنه السحاب
, وفي جريها يسراً على هذا القول وجهان: أحدهما: إلى حيث
يسيرها الله تعالى من البقاع والبلاد. الثاني: هو سهولة
تسييرها , وذلك معروف عند العرب كما قال الأعشى:
(كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة ولا ريث لا
عجل)
{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} فيه قولان: أحدهما: أنه
السحاب يقسم الله به الحظوظ بين الناس. الثاني: الملائكة
التي تقسم أمر الله في خلقه , قاله الكلبي. وهم: جبريل وهو
صاحب الوحي والغلظة , وميكائيل وهو صاحب الرزق والرحمة ,
وإسرافيل وهو صاحب الصور واللوح , وعزرائيل وهو ملك الموت
وقابض الأرواح , عليهم السلام.
(5/361)
والواو التي فيها واو القسم , أقسم الله
بها لما فيها من الآيات والمنافع. {إِنَّمَا تُوعَدُونَ
لَصَادِقٌ} فيه وجهان: أحدهما: إن يوم القيامة لكائن ,
قاله مجاهد. الثاني: ما توعدون من الجزاء بالثواب والعقاب
حق , وهذا جواب القسم. {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} فيه
وجهان: أحدهما: إن الحساب لواجب , قاله مجاهد. الثاني:
[أن] الدين الجزاء ومعناه أن جزاء أعمالكم بالثواب والعقاب
لكائن , وهو معنى قول قتادة , ومنه قول لبيد.
(قوم يدينون بالنوعين مثلهما ... بالسوء سوء وبالإحسان
إحسانا)
{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} في السماء ها هنا وجهان:
أحدهما: أنها السحاب الذي يظل الأرض. الثاني: وهو المشهور
أنها السماء المرفوعة , قال عبد الله بن عمر: هي السماء
السابعة. وفي {الْحُبُكِ} سبعة أقاويل: أحدها: أن الحبك
الاستواء , وهو مروي عن ابن عباس على اختلاف. الثاني: أنها
الشدة , وهو قول أبي صالح. الثالث: الصفاقة , قاله خصيف.
الرابع: أنها الطرق , مأخوذ من حبك الحمام طرائق على
جناحه، قاله الأخفش، وأبو عبيدة. الخامس: أنه الحسن
والزينة، قاله علي وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير ومنه قول
الراجز:
(كأنما جللها الحواك ... كنقشة في وشيها حباك)
(5/362)
السادس: أنه مثل حبك الماء إذا ضربته الريح
, قاله الضحاك. قال زهير:
(مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح الشمال لضاحي مائة حبك)
السابع: لأنها حبكت بالنجوم , قاله الحسن. وهذا قسم ثان.
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يعني في أمر مختلف , فمطيع وعاص , ومؤمن وكافر ,
قاله السدي. الثاني: أنه القرآن فمصدق له ومكذب به , قاله
قتادة. الثالث: انهم أهل الشرك مختلف عليهم بالباطل , قاله
ابن جريج. ويحتمل رابعاً: أنهم عبدة الأوثان والأصنام
يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره. وهذا جواب القسم
الثاني. {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} فيه ستة تأويلات:
أحدها: يضل عنه من ضل , قاله ابن عباس. الثاني: يصرف عنه
من صرف , قاله الحسن. الثالث: يؤفن عنه من أفن , قاله
مجاهد , والأفن فساد العقل. الرابع: يخدع عنه من خدع ,
قاله قطرب. الخامس: يكذب فيه من كذب , قاله مقاتل. السادس:
يدفع عنه من دفع , قاله اليزيدي. {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}
فيه أربعة تأويلات: أحدها: لعن المرتابون، قاله ابن عباس.
الثاني: لعن الكذابون، قاله الحسن. الثالث: أنهم أهل
الظنون والفرية، قاله قتادة. الرابع: أنهم المنهمكون , وهو
مروي عن ابن عباس أيضاً. وقوله: {قُتِلَ} ها هنا، بمعنى
لعن، والقتل اللعن. وأما الخراصون فهو جمع خارص. وفي الخرص
ها هنا وجهان:
(5/363)
أحدهما: أنه تعمد الكذب , قاله الأصم.
الثاني: ظن الكذب , لأن الخرص حزر وظن , ومنه أخذ خرص
الثمار. وفيما يخرصونه وجهان: أحدهما: تكذيب الرسول صلى
الله عليه وسلم. الثاني: التكذيب بالبعث. وفي معنى الأربع
تأويلات وقد تقدم ذكرها في أولها {الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ سَاهُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في غفلة لاهون
, قاله ابن عباس. الثاني: في ضلالاتهم متمادون , وهو مروي
عن ابن عباس أيضاً. الثالث: في عمى وشبهة يترددون , قاله
قتادة. ويحتمل رابعاً: الذين هم في مأثم المعاصي ساهون عن
أداء الفرائض. {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي
متى يوم الجزاء. وقيل: إن أيان كلمة مركبة من أي وآن.
{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} في
{يُفْتَنُونَ} ثلاثة أوجه: أحدها: أي يعذبون , قاله ابن
عباس , ومنه قول الشاعر:
(كل امرىء من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور مفتون)
الثاني: يطبخون ويحرقون , كما يفتن الذهب بالنار , وهو
معنى قول عكرمة والضحاك. الثالث: يكذبون توبيخاً وتقريعاً
زيادة في عذابهم. {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} الآية. فيه
ثلاثة أوجه: أحدها: معنى فتنتكم أي عذابكم , قاله ابن زيد.
الثاني: حريقكم , قاله مجاهد. الثالث: تكذبيكم , قاله ابن
عباس.
(5/364)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ
رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
(16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
(17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي
أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ
رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ
تَنْطِقُونَ (23)
{إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم
ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما
يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم
(5/364)
حق للسائل والمحروم وفي الأرض آيات
للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما
توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون}
{ءَآخِذِينَ مَآ َاتَاهُمْ رَبُّهُمْ} فيه وجهان: أحدهما:
من الفرائض , قاله ابن عباس. الثاني: من الثواب , قاله
الضحاك. {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذلِكَ مُحسِنِينَ} أي
قبل الفرائض محسنين بالإجابة، قاله ابن عباس. الثاني: قبل
يوم القيامة محسنين بالفرائض، قاله الضحاك. {كَانُواْ
قَلْيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: راجع على ما تقدم من قوله {إِنَّهُمْ كَانُوا
قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً} بمعنى أن
المحسنين كانوا قليلاً , ثم استأنف: من الليل ما يهجعون ,
قاله الضحاك. الثاني: أنه خطاب مستأنف بعد تمام ما تقدمه ,
ابتداؤه كانوا قليلاً , الآية. والهجوع: النوم , قال
الشاعر:
(أزالكم الوسمي أحدث روضه ... بليل وأحداق الأنام هجوع)
وفي تأويل ذلك أربعة أوجه: أحدها {كانوا قليلاً من الليل
ما يهجعون} أي يستيقظون فيه فيصلون ولا ينامون إلا قليلاً
, قاله الحسن. الثاني: أن منهم قليلاً ما يهجعون للصلاة في
الليل وإن كان أكثرهم هجوعاً , قاله الضحاك. الثالث: أنهم
كانوا في قليل من الليل ما يهجعون حتى يصلوا صلاة المغرب
وعشاء الآخرة , قاله أبو مالك. الرابع: أنهم كانوا قليلاً
يهجعون , وما: صلة زائدة , وهذا لما كان قيام الليل
(5/365)
فرضاً. وكان أبو ذر يحتجن يأخذ العصا
فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ
قَلِيلاً}. {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فيه
وجهان: أحدهما: وبالأسحار هم يصلون , قاله الضحاك. الثاني:
أنهم كانوا يؤخرون الاستغفار من ذنوبهم إلى السحر
ليستغفروا فيه , قاله الحسن. قال ابن زيد: وهو الوقت الذي
أخر يعقوب الاستغفار لبنيه حتى استغفر لهم فيه حين قال لهم
{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98]. قال ابن
زيد: والسحر السدس الأخير من الليل. وقيل إنما سمي سحراً
لاشتباهه بين النور والظلمة. {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ}
فيه وجهان: أحدهما: أنها الزكاة , قاله ابن سيرين وقتادة
وابن أبي مريم. الثاني: أنه حق سوى الزكاة تصل له رحماً أو
تقري به ضيفاً أو تحمل به كلاًّ أو تغني به محروماً , قاله
ابن عباس. {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أما السائل فهو
مَن يسأل الناس لفاقته , وأما المحروم , ففيه ثمانية
أقوال: أحدها: المتعفف الذي يسأل الناس شيئاً ولا يعلم
بحاجته , قاله قتادة. الثاني: أنه الذي يجيء بعد الغنيمة
وليس له فيها سهم , قاله الحسن ومحمد بن الحنفية. وروي أن
النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا وغنموا , فجاء
قوم بعدما فرغوا فنزلت الآية. الثالث: أنه من ليس له سهم
في الإسلام , قاله ابن عباس. الرابع: المحارف الذي لا يكاد
يتيسر له مكسبه , وهذا قول عائشة. الخامس: أنه الذي يطلب
الدنيا وتدبر عنه , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. السادس:
أنه المصاب بثمره وزرعه يعينه من لم يصب , قاله ابن زيد:
السابع: أنه المملوك , قاله عبد الرحمن بن حميد.
(5/366)
الثامن: أنه الكلب , روي أن عمر بن عبد
العزيز كان في طريق مكة فجاء كلب فاحتز عمر كتف شاة فرمى
بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم. ويحتمل تاسعاً: أنه من
وجبت نفقته من ذوي الأنساب لأنه قد حرم كسب نفسه , حتى
وجبت نفقته في مال غيره. {وَفِي الأَرْضِءَآيَاتٌ
لِّلْمُوقِنِينَ} يعني عظات للمعتبرين من أهل اليقين وفيها
وجهان: أحدهما: ما فيها من الجبال والبحار والأنهار , قاله
مقاتل. الثاني: من أهلك من الأمم السالفة وأباد من القرون
الخالية , قاله الكلبي. {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ
تُبْصِرُونَ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه سبيل الغائط
والبول , قاله ابن الزبير ومجاهد. الثاني: تسوية مفاصل
أيديكم وأرجلكم وجوارحكم دليل على أنكم خلقتم لعبادته ,
قاله قتادة. الثالث: في خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر
تنتشرون , قاله ابن زيد. الرابع: في حياتكم وموتكم وفيما
يدخل ويخرج من طعامكم , قاله السدي. الخامس: في الكبر بعد
الشباب , والضعف بعد القوة , والشيب بعد السواد , قاله
الحسن. ويحتمل سادساً: أنه نجح العاجز وحرمان الحازم.
{وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}: {وَفِي
السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: ما ينزل من
السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق فهو رزق
لهم من السماء , قاله سعيد بن جبير والضحاك. الثاني: يعني
أن من عند الله الذي في السماء رزقكم.
(5/367)
ويحتمل وجهاً ثالثاً: وفي السماء تقدير
رزقكم وما قسمه لكم مكتوب في أم الكتاب. وأما قوله {وَمَا
تُوعَدُونَ} ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: من خير وشر , قاله
مجاهد. الثاني: من جنة ونار , قاله الضحاك. الثالث: من أمر
الساعة , قاله الربيع. {فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ
إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} فيه
وجهان: أحدهما: ما جاء به الرسول من دين وبلغه من رسالة.
الثاني: ما عد الله عليهم في هذه السورة من آياته وذكره من
عظاته. قال الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (قَاتَلَ اللَّهُ أَقْوَاماً أَقْسَمَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ [بِنَفْسِهِ] ثُمَّ لَمْ يُصَدِّقُوهُ). وقد كان
قس بن ساعدة في جاهليته ينبه بعقله على هذه العبر فاتعظ
واعتبر , فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(رَأَيتُهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ بِعُكَاظَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُواْ وَعُوا , مِنْ عَاشَ مَاتَ ,
وَمَن مَّاتَ فَاتَ , وَكُلُّ مَا هُوَاءَآتٍ ءآتٍ , مَا
لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلاَ يَرْجِعُونَ؟
أَرَضُواْ بِالإِقَامَةِ فَأَقَامُواْ؟ أَمْ تُرِكُوا
فَنَاموا؟ إِنَّ فِي السَّمَآءِ لَخَبَراً , وَإِنَّ فِي
الأَرْضِ لَعِبَراً , سَقْفٌ مَرْفُوعٌ , وَلَيلٌ مَوضُوعٌ
, وَبِحَارٌ تَثُورٌ , وَنُجُومٌ تَحُورُ ثُمَّ تَغُورُ ,
أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً مَاءَاثَمُ فِيهِ , إِنَّ للهِ
دِيناً هُوَ أَرْضَى مِن دِينٍ أَنتُم عَلَيهِ. ثُمَّ
تَكَلَّمَ بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ مَأ أَدْرِي مَا هِيَ) فقال
أبو بكر: كنت حاضراً إذ ذاك والأبيات عندي وأنشد:
(في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر)
(لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر)
(ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابر والأصاغر)
(لا يرجع الماضي إليَّ ... ولا من الباقين غابر)
(أيقنت أني لامحا ... له حيث صار القوم صائر)
(5/368)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يُبْعَثُ
يَوْمَ القِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ). ونحن نسأل الله
تعالى مع زاجر العقل ورادع السمع أن يصرف نوازع الهوى
ومواقع البلوى. فلا عذر مع الإنذار , ولا دالة مع الاعتبار
, وأن تفقهن الرشد تدرك فوزاً منه وتكرمة.
(5/369)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ
مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ
سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا
تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا
تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ
إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
{هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ
دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى
أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس
منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته
في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه
هو الحكيم العليم} {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ
إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} قال عثمان بن محسن: كانوا
أربعة من الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل ورفائيل. وفي
قوله {الْمُكْرَمِينَ} وجهان: أحدهما: أنهم عند الله
المعظمون. الثاني: مكرمون لإكرام إبراهيم لهم حين خدمهم
بنفسه , قاله مجاهد. قال عطاء: وكان إبراهيم إذا أراد أن
يتغذى , أو يتعشى خرج الميل والميلين والثلاثة , فيطلب من
يأكل معه. قال عكرمة: وكان إبراهيم يكنى أبا الضيفان ,
وكان لقصره أربعة أبواب لكي لا يفوته أحد. وسمي الضيف
ضيفاً , لإضافته إليك وإنزاله عليك. {إِذْ دَخَلُواْ
عَلَيهِ فَقَالُواْ سَلاَماً} فيه وجهان: أحدهما: قاله
الأخفش , أي مسالمين غير محاربين لتسكن نفسه.
(5/369)
الثاني: أنه دعا لهم بالسلامة , وهو قول
الجمهور , لأن التحية بالسلام تقتضي السكون والأمان , قال
الشاعر:
(أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم)
فأجابهم إبراهيم عن سلامتهم بمثله: {قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ
مَنكَرُونَ} لأنه رآهم على غير صورة البشر وعلى غير صورة
الملائكة الذين كان يعرفهم , فنكرهم وقال {قَوْمٌ
مَنكَرُونَ} وفيه وجهان: أحدهما: أي قوم لا يعرفون.
الثاني: أي قوم يخافون , يقال أنكرته إذا خفته , قال
الشاعر:
(فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب
والصلعا)
{فَرَاغَ إِلى أَهْلِهِ} فيه وجهان: أحدهما: فعدل إلى أهله
, قاله الزجاج. الثاني: أنه أخفى ميله إلى أهله. {فَجَآءَ
بِعِجْلٍ سَمِينٍ} أما العجل ففي تسميته بذلك وجهان:
أحدهما: لأن بني إسرائيل عجلوا بعبادته. الثاني: لأنه عجل
في اتباع أمه. قال قتادة: جاءهم بعجل لأن كان عامة مال
إبراهيم البقر , واختاره لهم سميناً زيادة في إكرامهم ,
وجاء به مشوياً , وهو محذوف من الكلام لما فيه من الدليل
عليه. فروى عون ابن أبي شداد أن جبريل مسح العجل بجناحه
فقام يدرج , حتى لحق بأمه , وأم العجل في الدار.
{فَقَرَّبَهُ إِلَيهِم قَالَ أَلاَ تَأَْكُلُونَ} لأنهم
امتنعوا من الأكل لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ,
فروى مكحول أنهم قالوا لا نأكله إلا بثمن , قال كلوا فإن
له ثمناً , قالوا وما ثمنه؟ قال: إذا وضعتم أيديكم أن
تقولوا: بسم الله , وإذا فرغتم أن تقولوا: الحمد لله ,
قالوا: بهذا اختارك الله يا إبراهيم.
(5/370)
{فَأوْجَسَ مِنهُمْ خِيفَةً} لأنهم لم
يأكلوا , خاف أن يكون مجيئهم إليه لشر يريدونه به.
{قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ} فيه
قولان: أحدهما: أنه إسحاق من سارة , استشهاداً بقوله تعالى
في آية أخرى {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112].
الثاني: أنه إسماعيل من هاجر , قاله مجاهد. {عَلِيمٍ} أي
يرزقه الله علماً إذا كبر. {فَأَقْبَلَتِ امْرَأتُهُ فِي
صَرَّةٍ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: الرنة والتأوه , قاله
قتادة , ومنه قول الشاعر:
(وشربة من شراب غير ذي نفس ... في صرة من تخوم الصيف وهاج)
الثاني: أنها الصيحة , قاله ابن عباس ومجاهد , ومنه أخذ
صرير الباب , ومنه قول امرىء القيس:
(فألحقه بالهاديات ودونه ... جواحرها في صرة لم تزيل)
الثالث: أنها الجماعة , قاله ابن بحر , ومنه المصراة من
الغنم لجمع اللبن في ضرعها. وسميت صرة الدراهم فيها , قال
الشاعر:
(رب غلام قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان سنبته)
وأما قوله {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} ففيه قولان: أحدهما:
معناه لطخت وجهها , قاله ابن عباس. الثاني: أنها ضربت
جبينها تعجباً. {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي , أتلد
عجوز عقيم؟ قاله مجاهد والسدي.
(5/371)
قَالَ فَمَا
خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ
عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ
فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا
غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا
فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ
(37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ
بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ
سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ
فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي
عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ
(41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا
جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ
لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا
كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
{قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا
أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل
(5/371)
عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين
فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت
من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم
وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه
وقال ساحر أو مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو
مليم وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء
أتت عليه إلا جعلته كالرميم وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا
حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما
استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين وقوم نوح من قبل إنهم
كانوا قوما فاسقين} {فَتَوَلَّى} يعني فرعون , وفي توليه
وجهان: أحدهما: أدبر. الثاني: أقبل , وهو من الأضداد.
{بِرُكْنِهِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: بجموعه وأجناده ,
قاله ابن زيد. الثاني: بقوته , قاله ابن عباس , ومنه قول
عنترة:
(فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني.)
الثالث: بجانبه , قاله الأخفش. الرابع: بميله عن الحق
وعناده بالكفر , قاله مقاتل. ويحتمل خامساً بماله لأنه
يركن إليه ويتقوى به. {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها:
أن العقيم هي الريح التي لا تلقح , قاله ابن عباس. الثاني:
هي التي لا تنبث , قاله قتادة. الثالث: هي التي ليس فيها
رحمة , قاله مجاهد.
(5/372)
الرابع: هي التي ليس فيها منفعة , قاله ابن
عباس. وفي الريح التي هي عقيم ثلاثة أقاويل: أحدها: الجنوب
, روى ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (الريح العقيم الجنوب). الثاني الدبور
, قاله مقاتل. قال عليه السلام: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد
بالدبور) الثالث: هي ريح الصبا , رواه ابن أبي نجيح عن
مجاهد. {إِلاَّ جَعَلْتْهُ كَالرَّمِيمِ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن الرميم التراب , قاله السدي. الثاني: أنه الذي
ديس من يابس النبات , وهذا معنى قول قتادة. الثالث أن
الرميم: الرماد , قاله قطرب. الرابع: أنه الشيء البالي
الهالك , قاله مجاهد , ومنه قول الشاعر:
(تركتني حين كف الدهر من بصري ... وإذ بقيت كعظم الرمة
البالي)
(5/373)
وَالسَّمَاءَ
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ
مُبِينٌ (51)
{والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض
فرشناها فنعم الماهدون ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم
تذكرون ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا
مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين} {وَالسَّمَآءِ
بَنَيْنَاهَا بِأيْدٍ} أي بقوة. {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}
فيه خمسة أوجه: أحدها: لموسعون في الرزق بالمطر , قاله
الحسن. الثاني: لموسعون السماء , قاله ابن زيد. الثالث:
لقادرون على الاتساع بأكثر من اتساع السماء.
(5/373)
الرابع: لموسعون بخلق سماء ملثها , قاله
مجاهد. الخامس: لذوو سعة لا يضيق علينا شيء نريده. {وَمِن
كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} فيه وجهان: أحدهما:
أنه خلق كل جنس نوعين. الثاني: أنه قضى أمر خلقه ضدين صحة
وسقم , وغنى وفقر , وموت وحياة , وفرح وحزن , وضحك وبكاء.
وإنما جعل بينكم ما خلق وقضى زوجين ليكون بالوحدانية
متفرداً. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما:
تعلمون بأنه واحد. الثاني: تعلمون أنه خالق. {فَفِرُّوْا
إِلّى اللَّهِ} أي فتوبوا إلى الله.
(5/374)
كَذَلِكَ مَا أَتَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا
سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ
قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ
بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ
رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ
(60)
{كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا
قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتول عنهم
فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن
يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فإن للذين ظلموا
ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون فويل للذين كفروا من
يومهم الذي يوعدون} {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: فذكر بالقرآن , قاله
قتادة. الثاني: فذكر بالعظة فإن الوعظ ينفع المؤمنين ,
قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: وذكر بالثواب والعقاب فإن
الرغبة والرهبة تنفع المؤمنين. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالإِ وَالإِنسَ إلاَّ لَيَعْبُدُونِ} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: إلا ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً , قاله ابن
عباس. الثاني: إلا لآمرهم وأنهاهم , قاله مجاهد.
(5/374)
الثالث: إلا لأجبلهم على الشقاء والسعادة ,
قاله زيد بن أسلم. الرابع: إلا ليعرفوني , قاله الضحاك.
الخامس: إلا للعبادة , وهو الظاهر , وبه قال الربيع بن
انس. {مَآ أُرِيدُ مِنْهُمْ مَّنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ
أَن يُطْعِمُونِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما أريد أن
يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم. الثاني: ما أنفسهم , قاله
أبو الجوزاء. الثالث: ما أريد منهم معونة ولا فضلاً.
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: عذاباً مثل عذاب
أصحابهم , قاله عطاء. الثاني: يعني سبيلاً , قاله مجاهد.
الثالث: يعني بالذنوب الدلو , قاله ابن عباس , قال الشاعر:
(لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب)
ولا يسمى الذنوب دلواً حتى يكون فيه ماء. الرابع: يعني
بالذنوب النصيب , قال الشاعر:
(وفي كل يوم قد خبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب)
ويعني بأصحابهم من كذب بالرسل من الأمم السالفة ليعتبروا
بهلاكهم. {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} أي فلا يستعجلوا نزول
العذاب بهم لأنهم قالوا: {يا مُحَمَّدُ ائْتِنَا بِمَا
تَعِدُنَا} الآية , فنزل بهم يوم بدر , ما حقق الله وعده ,
وعجل به انتقامه.
(5/375)