تفسير الماوردي
النكت والعيون سورة الطور
بسم الله الرحمن الرحيم
(5/376)
وَالطُّورِ (1)
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ
الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا
لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)
وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ
(12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)
هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ
عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
{والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت
المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع ما
له من دافع يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا فويل يومئذ
للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون يوم يدعون إلى نار جهنم دعا
هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون
اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم
تعملون} قوله تعالى {وَالطُّورِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه اسم
للجبل بالسريانية , قاله مجاهد. قال مقاتل: يسمى هذا الطور
زبير. الثاني: أن الطور ما أنبت , وما لا ينبت فليس بطور ,
قاله ابن عباس , وقال الشاعر:
(لو مر بالطور بعض ناعقة ... ما أنبت الطور فوقه ورقة)
(5/376)
ثم في هذا الطور الذي أقسم الله به ثلاثة
أقاويل: أحدها: أنه طور سيناء , قاله السدي. الثاني: أنه الطور
الذي كلم الله عليه موسى , قاله ابن قتيبة. الثالث: أنه جبل
مبهم , قاله الكلبي. وأقسم الله به تذكيراً بما فيه من
الدلائل. وقال بعض المتعمقة: إن الطور ما يطوى على قلوب
الخائفين. {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} أي مكتوب , وفي أربعة
أقاويل: أحدها: أنه الكتاب الذي كتب الله لملائكته في السماء
يقرؤون فيه ما كان وما يكون. الثاني: أنه القرآن مكتوب عند
الله في اللوح المحفوظ. الثالث: هي صحائف الأعمال فمن أخذ
كتابه بيمينه , ومن آخذ كتابه بشماله , قاله الفراء. الرابع:
التوراة قاله ابن بحر. {فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: الصحيفة المبسوطة وهي التي تخرج للناس أعمالهم , وكل
صحيفة فهي رق لرقة حواشيها , قال المتلمس:
(فكأنما هي من تقادم عهدها ... رق أتيح كتابها مسطور)
الثاني: هو ورق مكتوب , قاله أبو عبيدة. الثالث: هو ما بين
المشرق والمغرب , قاله ابن عباس.
(5/377)
{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} فيه أربعة
أوجه: أحدها: ما روى قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُتِيَ بِيَ إِلَى
السَّمَاءِ فَرُفِعَ لَنَا الْبَيتُ المَعْمُورُ , فَإِذَا
هُوَ حِيالُ الكَعْبَةِ , لَوْ خَرَّ خَرَّ عَلَيهَا ,
يَدْخُلُهُ كُلَّ يَومٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ , إِذَا
خَرَجُوا مِنهُ لَمْ يَعُودُوا إِلَيهِ) قاله علي وابن عباس.
الثاني: ما قاله السدي: أن البيت المعمور , هو بيت فوق ست
سموات , ودون السابعة , يدعى الضراح , يصلي فيه كل يوم سبعون
ألف ملك من قبيلة إبليس لا يرجعون إليه أبداً , وهو بحذاء
البيت العتيق. الثالث: ما قاله الربيع بن أنس , أن البيت
المعمور كان في الأرض في موضع الكعبة في زمان آدم , حتى إذا
كان زمان نوح أمرهم أن يحجوا , فأبوا عليه وعصوه , فما طغى
الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا , فيعمره , فبوأ الله
لإبراهيم الكعبة البيت الحرام حيث كان , قاله الله تعالى:
{وَإِِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيْمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الآية.
الرابع: ما قاله الحسن أن البيت المعمور هو البيت الحرام. وفي
{الْمَعْمُورِ} وجهان: أحدهما: أنه معمور بالقصد إليه. الثاني:
بالمقام عليه , قال الشاعر:
(عمر البيت عامر ... إذ أتته جآذر)
(من ظباء روائح ... وظباء تباكر)
وتأول سهل أنه القلب , عمارته إخلاصه , وهو بعيد. {وَالسَّقْفِ
المَرْفُوعِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه السماء , قاله علي.
الثاني: أنه العرش، قاله الربيع. {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}
فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه جهنم , رواه صفوان بن يعلى عن
النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: هو بحر تحت العرش، رواه أبو
صالح عن علي رضي الله عنه. الثالث: هو بحر الأرض، وهو الظاهر.
(5/378)
وفي قوله: {الْمَسْجُورِ} سبعة تأويلات:
أحدها: المحبوس، قاله ابن عباس والسدي. الثاني: أنه المرسل،
قاله سعيد بن جبير. الثالث: الموقد ناراً، قاله مجاهد. الرابع:
أنه الممتلىء، قاله قتادة. الخامس: أنه المختلط، قاله ابن بحر.
السادس: أنه الذي قد ذهب ماؤه ويبس، رواه ابن أبي وحشية عن
سعيد بن جبير. السابع: هو الذي لا يشرب من مائه ولا يسقى به
زرع، قاله العلاء بن زيد. هذا آخر القسم، وجوابه: {إِنَّ
عَذَابَ رَبِّكَ لوَاقِعٌ} روى الكلبي: أن جبير بن مطعم قدم
المدينة ليفدي حريفاً له يقال له مالك أسر يوم بدر، فوجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم في صلاة [المغرب] يقرأ {وَالطُّورِ}
فجلس مستمعاً، حتى بلغ قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ
لَوَاقِعٌ} فأسلم جبير خوفاً من العذاب، وجعل يقول: ما كنت أظن
أن أقوم من مقامي، حتى يقع بي العذاب. {يَوْمَ تَمُورُ
السَّمَآءُ مَوْراً} فيه سبعة تأويلات أحدها: معناه تدور دوراً
, قاله مجاهد , قال طرفة بن العبد:
(صهابية العثنون موجدة القرا ... بعيدة وخد الرجل موارة اليد.)
الثاني: تموج موجاً , قاله الضحاك. الثالث: تشقق السماء , قاله
ابن عباس لقوله تعالى {فَإِذَا بُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً}
الآية. الرابع: تجري السماء جرياً , ومنه قول جرير:
(وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل)
الخامس: تتكفأ بأهلها , قاله أبو عبيدة وأنشد بيت الأعشى:
(5/379)
(كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة
لا ريث ولا عجل)
السادس: تنقلب انقلاباً. السابع: أن السماء ها هنا الفلك ,
وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره , قاله ابن بحر. {يَوْمَ
يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} فيه تأويلان:
أحدهما: يدفعون دفعاً عنيفاً ومنه قول الراجز:
(يدعه بصفحتي حيزومه ... دع الوصي جانبي يتيمه)
قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وابن زيد. الثاني: يزعجون
إزعاجاً , قاله قتادة. ويحتمل ثالثاً: أن يدعهم زبانيتها
بالدعاء عليهم.
(5/380)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ
رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ
بِحُورٍ عِينٍ (20)
{إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما
آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئا بما
كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين}
{فَاكِهِينَ بِمَآ ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ} فيه خمسة أوجه: أحدها:
معجبين، قاله ابن عباس. الثاني: ناعمين، قاله قتادة. الثالث:
فرحين، قاله السدي. الرابع: المتقابلين بالحديث الذي يسر ويؤنس
, مأخوذ من الفكاهة , قاله ابن بحر. الخامس: ذوي فاكهة كما
قيل: لابن وتامر , أي ذو لبن وتمر , قاله عبيدة , ومعنى ذلك،
أنهم ذوو بساتين فيها فواكه. {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ
مَّصْفُوفَةٍ} والسرر الوسائد , وفي المصفوفة ثلاثة أوجه:
أحدها: المصفوفة بين العرش , قاله عكرمة.
(5/380)
الثاني: هي الموصولة بالذهب. الثالث: أنها
الموصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفاً، قاله ابن بحر.
{وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} والعين الواسعة الأعين في
صفائها , وهو جمع عيناء , ومنه قول الشاعر:
(فحُور قد لهون وهن عين ... نواعم في المروط وفي الرياط)
وفي تسميتهن حوراً وجهان: أحدهما: لأنه يحار فيهن الطرف، قاله
مجاهد. الثاني: لبياضهن، قاله الضحاك، ومنه قيل للخبز حوار
لبياضه.
(5/381)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ
(22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا
تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ
كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا
قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا
مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
{والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان
ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما
كسب رهين وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون يتنازعون فيها كأسا
لا لغو فيها ولا تأثيم ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا
مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل
ندعوه إنه هو البر الرحيم} {وَالَّذِينَءَآمَنُواْ
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانِ} فيه أربعة
تأويلات: أحدها: أن الله يدخل الذرية بإيمان الأباء الجنة ,
قاله ابن عباس. الثاني: أن الله تعالى يعطي الذرية مثل أجور
الآباء من غير أن ينقص الآباء من أجورهم شيئاً , قاله إبراهيم.
الثالث: أنهم البالغون عملوا بطاعة الله مع آبائهم فألحقهم
الله بآبائهم , قاله قتادة. الرابع: أنه لما أدرك أبناؤهم
الأعمال التي عملوها تبعوهم عليها فصاروا مثلهم فيها، قاله ابن
زيد.
(5/381)
{وَمآ أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِمِ مِّن
شَيْءٍ} فيه تأويلان: أحدهما: ما نقصناهم , قاله ابن عباس ,
قال رؤبة:
(وليلة ذات سرى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت)
أي لم ينقصني , ومعنى الكلام: ولم ينقص الآباء بما أعطينا
الأبناء. الثاني: معناه وما ظلمناهم , قاله ابن جبير , قال
الحطيئة:
(أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتاً ولا
كذباً)
أي لا ظلماً , ولا كذباً. ومعنى الكلام: لم نظلم الآباء بما
أعطينا الأبناء , وإنما فعل تعالى ذلك بالأبناء كرمة للآباء.
{كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} فيه وجهان: أحدهما:
مؤاخذة كما تؤخذ الحقوق من الرهون. الثاني: أنه يحبس , ومنه
الرهن لاحتباسه بالحق قال الشاعر:
(وما كنت أخشى أن يكون رهينة ... لأحمر قبطي من القوم معتق)
{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي , يتعاطون ويتساقون بأن
يناول بضعهم بعضاً , وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة.
والكأس إناء مملوء من شراب وغيره فهو كأس , فإذا فرغ لم يسم
كاساً , وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل:
(وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحضور ولا فيها بسوار)
(نازعته طيب الراح السمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعه
الساري.)
{لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} فيها أربعة أوجه: أحدها:
لا باطل في الخمر ولا مأثم , قاله ابن عباس وقتادة , وإنما ذلك
في الدنيا من الشيطان. الثاني: لا كذب فيها ولا خلف , قاله
الضحاك. الثالث: لا يتسابون عليها ولا يؤثم بعضهم بعضاً , قاله
مجاهد.
(5/382)
الرابع: لا لغو في الجنة ولا كذب , وهذا
مروي عن ابن عباس أيضاً. واللغو ها هنا فحش الكلام كما قال ذو
الرمة:
(فلا الفحش فيه يرهبون ولا الخنا ... عليهم ولكن هيبة هي ما
هيا)
(بمستحكم جزل المروءة مؤمن ... من القوم لا يهوى الكلام
اللواغيا)
{وَيَطُوفُ عَلَيْهُمْ غِلُمَانٌ لَّهُمْ} ذكر ابن بحر فيه
وجهين: أحدهما: ان يكون الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم ,
فأقَرَّ الله بهم أعينهم. الثاني: أنهم من أخدمهم الله إياهم
من أولاد غيرهم. {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} أي مصون
بالكن والغطاء , ومنه قول الشاعر:
(قد كنت أعطيهم مالاً وأمنعهم ... عرضي , وودهم في الصدر
مكنون)
قال قتادة: بلغني أنه قيل يا رسول الله هذا الخدم مثل اللؤلؤ
المكنون فكيف المخدوم؟ قال: (والذي نفسي بيده لفضل ما بينهم ,
كفضل القمر ليلة البدر على النجوم). {فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْنَا} يحتمل وجهين: أحدهما: بالجنة والنعيم. الثاني:
بالتوفيق والهداية. {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} فيه ثلاثة
أوجه: أحدها: أنه عذاب النار , قاله ابن زيد. وقال الأصم:
السموم اسم من أسماء جهنم. الثاني: أنه وهج جهنم , وهو معنى
قول ابن جريج. الثالث: لفح الشمس والحر , وقد يستعمل في لفح
البرد , كما قال الراجز:
(اليوم يوم بارد سمومه ... من جزع اليوم فلا نلومه)
{إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها:
أن البر الصادق، قاله ابن جريج. الثاني: اللطيف، قاله ابن
عباس.
(5/383)
الثالث: أنه فاعل البر المعروف به , قاله
ابن بحر.
(5/384)
فَذَكِّرْ فَمَا
أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ
(30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ
بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ
تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ
مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)
{فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون
أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من
المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون
تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين أم
خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} {فَذَكِّرْ} يعني بالقرآن.
{فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} يعني برسالة ربك. {بِكَاهِنٍ
وَلاَ مَجْنُونٍ} تكذيباً لعتبة بن ربيعة حيث قال إنه ساحر ,
وتكذيباً لعقبة بن معيط , حيث قال: إنه مجنون. {أَمْ
يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} قال
قتادة: قال ناس من الكفار: تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه , كما
كفاكم شاعر بني فلان , وشاعر بني فلان , قال الضحاك: هؤلاء بنو
عبد الدار , نسبوه إلا أنه شاعر. وفي {ريب المنون} وجهان:
أحدهما: الموت , قاله ابن عباس. الثاني: حوادث الدهر , قاله
مجاهد. المنون: الدهر , قال أبو ذؤيب:
(أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع)
(5/384)
أَمْ خَلَقُوا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ
عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ
مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ
وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ
مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ
فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ
كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ
اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
{أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم
عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت
مستمعهم بسلطان مبين أم له البنات ولكم البنون أم تسألهم أجرا
فهم من مغرم مثقلون أم
(5/384)
عندهم الغيب فهم يكتبون أم يريدون كيدا
فالذين كفروا هم المكيدون أم لهم إله غير الله سبحان الله عما
يشركون} {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ} فيه وجهان:
أحدهما: مفاتيح الرحمة. الثاني: خزائن الرزق. {أَمْ هُمْ
الْمُصَيْطِرُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: المسلطون , قاله ابن
عباس والضحاك. الثاني: أنهم الأرباب , قاله الحسن وأبو عبيد.
الثالث: معناه: أم هم المتولون , وهذا قد روي عن ابن عباس
أيضاً. الرابع: أنهم الحفظة , مأخوذ من تسطير الكتاب , الذي
يحفظ ما كتب فيه فصار المسيطر هنا حافظاً ما كتبه الله في
اللوح المحفوظ , قاله ابن بحر. {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ
يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن السلم المرتقى إلى
السماء , ومنه قول ابن مقبل:
(لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا ... يبنى له في السموات
السلاليم)
الثاني: أنه السبب الذي يتوصل به إلى عوالي الأشياء , قال
الشاعر:
(تجنيت لي ذنباً وما إن جنيته ... لتتخذي عذراً إلى الهجر
سلماً)
وقوله {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: يستمعون من
السماء ما يقضيه الله على خلقه. الثاني: يستمعون منها ما ينزل
الله على رسله من وحيه. {فلْيَأْتِ مْسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ
مُّبِينٍ} فيه وجهان: أحدهما: فليأت صاحبهم بحجة ظاهرة تدل على
صدقه. الثاني: فليأت بقوة تتسلط على الأسماع وتدل على قدرته.
(5/385)
وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ
(44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ
يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ
شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
{وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا
سحاب مركوم فذرهم حتى يلاقوا
(5/385)
يومهم الذي فيه يصعقون يوم لا يغني عنهم
كيدهم شيئا ولا هم ينصرون وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن
أكثرهم لا يعلمون واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك
حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم} {وَإِن يَرَواْ
كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها:
يعني قطعاً من السماء، قاله قتادة. الثاني: جانباً من السماء.
الثالث: عذاباً من السماء، قاله المفضل. وسمي كسفاً لتغطيته،
والكسف: التغطية , ومنه أخذ كسوف الشمس والقمر. {يَقُولُواْ
سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} في مركوم وجهان: أحدهما: أنه الغليظ ,
قاله ابن بحر. الثاني: أنه الكثير المتراكب , قاله الضحاك.
ومعنى الآية: أنهم لو رأو سقوط كسف من السماء عليهم عقاباً لهم
لم يؤمنوا ولقالوا إنه سحاب مركوم بعضه على بعضه. {فَذَرْهُمْ
حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يوم
يموتون , قاله قتادة. الثاني: النفخة الأولى , حكاه ابن عيسى.
الثالث: يوم القيامة يغشى عليهم من هول ما يشاهدونه , ومنه
قوله تعالى: {وَخَرَّ مُوْسَى صَعِقاً} أي مغشياً عليه.
{وَإِنَّ لِلَّذِينَ صَعِقاً} أي مغشياً عليه. {وَإِنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} فيه ثلاثة
أقاويل: أحدها: عذاب القبر , قاله علي. الثاني: الجوع , قاله
مجاهد. الثالث: مصابهم في الدنيا , قاله الحسن. وفي المراد
بالذين ظلموا ها هنا قولان: أحدهما: أنهم أهل الصغائر من
المسلمين. الثاني: أنهم مرتكبو الحدود منهم.
(5/386)
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فيه وجهان:
أحدهما: لقضائه فيما حملك من رسالته. الثاني: لبلائه فيما
ابتلاك به من قومك. {فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنَا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: بعلمنا، قاله السدي. الثاني: بمرأى منا، حكاه ابن عيسى.
الثالث: بحفظنا وحراستنا، ومنه قوله تعالى لموسى: {وَلتُصنَعَ
عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] بحفظي وحراستي، قاله الضحاك.
{وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: أن يسبح الله إذا قام من مجلسه , قاله أبو الأحوص ,
ليكون تكفيراً لما أجرى في يومه. الثاني: حين تقوم من منامك ,
ليكون مفتتحاً لعمله بذكر الله , قاله حسان بن عطية. الثالث:
حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر , قاله زيد بن أسلم.
الرابع: أنه التسبيح في الصلاة , إذا قام إليها. وفي هذا
التسبيح قولان: أحدهما: هو قول: سبحان ربي العظيم , في الركوع
, وسبحان ربي الأعلى , في السجود. الثاني: التوجه في الصلاة
بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك [وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله
غيرك] , قاله الضحاك. {وَمِنَ الِّيْلِ فَسَبِّحْهُ
وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها صلاة
الليل. الثاني: التسبيح فيها. الثالث: أنه التسبيح في صلاة
وغير صلاة.
(5/387)
وأما {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} فيه ثلاثة
أقاويل: أحدها: أنها ركعتان قبل الفجر , رواه ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رَكْعَتَانِ قَبْلَ
الْفَجْرِ , إِدْبَارُ النُّجومِ , وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ
المَغْرِبِ إِدْبَارُ السُّجُودِ). الثاني: أنها ركعتا الفجر
قبل الغداة. الثالث: أنه التسبيح بعد الصلاة , وهذا مروي عن
ابن عباس أيضاً , وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا صلاة
بعد الفجر إلا ركعتي الفجر.
(5/388)
سورة النَجم
مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر، وقال ابن عباس وقتادة:
إلا آية، وهي: {الذين يحتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا
اللمم}. بسم الله الرحمن الرحيم
(5/389)
وَالنَّجْمِ إِذَا
هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى
(4)
{والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما
ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى} فيه خمسة أقاويل: أحدها: نجوم القرآن إذا نزلت
لأنه كان ينزل نجوماً , قاله مجاهد. الثاني: أنها الثريا، رواه
ابن أبي نجيح، لأنهم كانوا يخافون الأمراض عند طلوعها. الثالث:
أنها الزهرة، قاله السدي، لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها.
الرابع: أنها جماعة النجوم، قاله الحسن، وليس بممتنع أن يعبر
عنها بلفظ الواحد كما قال عمر بن أبي ربيعة:
(أحسن النجم في السماء الثريا ... والثريا في الأرض زين
النساء)
الخامس: أنها النجوم المنقضة , وسببه أن الله تعالى لما أراد
بعث محمد صلى الله عليه وسلم
(5/389)
رسولاً، كثر انقضاض الكواكب قبل مولده،
فذعر أكثر العرب منها، وفزعوا إلى كاهن لهم ضرير كان يخبرهم
بالحوادث، فسألوه عنها، فقال انظروا البروج الاثني عشر، فإن
انقض منها شيء , فهو ذهاب الدنيا , وإن لم ينقض منها شيء ,
فسيحدث في الدنيا أمر عظيم , فاستشعروا ذلك , فلما بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم , كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه
, فأنزل الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} أي ذلك النجم
الذي هوى , هو لهذه النبوة التي حدثت. وفي قوله تعالى {إِذَا
هَوى} ستة أقاويل: أحدها: النجوم إذا رقي إليها الشياطين ,
قاله الضحاك. الثاني: إذا سقط. الثالث: إذا غاب. الرابع: إذا
ارتفع. الخامس: إذا نزل. السادس: إذا جرى، ومهواها جريها،
لأنها لا تفتر في جريها في طلوعها وغروبها، وهذا قول أكثر
المفسرين. وهذا قسم , وعلى القول الخامس في انقضاض النجوم خبر.
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} يعني: محمداً صلى الله
عليه وسلم , وفيه وجهان: أحدهما: ما ضل عن قصد الحق ولا غوى في
اتباع الباطل. الثاني: ما ضل بارتكاب الضلال , وما غوى بأن خاب
سعيه , وألفى الخيبة كما قال الشاعر:
(فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي
لائماً)
أي: من خاب في طلبه لامه الناس , وهذا جواب القسم على قول
الأكثرين , قال مقاتل: وهي أول سورة أعلنها رسول الله بمكة.
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} فيه وجهان:
(5/390)
: أحدهما: وما ينطق عن هواه , وهو ينطق عن
أمر الله , قاله قتادة. الثاني: ما ينطق بالهوى والشهوة , إن
هو إلا وحي يوحى بأمر ونهي من الله تعالى له. {إِنْ هُوَ
إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} أي يوحيه الله إلى جبريل ويوحيه جبريل
إليه.
(5/391)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ
الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا
أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ
مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ
رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
{علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق
الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما
أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة
أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما
يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى}
{عَلَّمَهُ شَدِيدٌ الْقُوَى} يعني: جبريل في قول الجميع. {ذو
مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} فيه خمسة أوجه:
(5/391)
أحدها: ذو منظر حسن , قاله ابن عباس.
الثاني: ذو غناء، قاله الحسن. الثالث: ذو قوة، قاله مجاهد
وقتادة، ومن قول خفاف بن ندبة:
(إني امرؤ ذو مرة فاستبقني ... فيما ينوب من الخطوب صليب)
الرابع: ذو صحة في الجسم وسلامة من الآفات، ومن قول امرىء
القيس:
(كنت فيهم أبداً ذا حيلة ... محكم المرة مأمون العقد)
الخامس: ذو عقل , قاله ابن الأنباري، قال الشاعر:
(قد كنت عند لقاكم ذا مرة ... عندي لكل مخاصم ميزانه)
وفي قوله {فَاسْتَوَى} خمسة أوجه: أحدها: فاستوى جبريل في
مكانه، قاله سعيد بن جبير. الثاني: قام جبريل على صورته التي
خلق عليها لأنه كان يظهر له قبل ذلك في صورة لا رجل. حكى ابن
مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل على صورته إلا
مرتين: أما واحدة، فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما
الثانية، فإنه كان معه حين صعد , وذلك قوله {وَهُوَ
بِاْلأُفُقِ الأَعْلَى}. الثالث: فاستوى القرآن في صدره، وفيه
على هذا وجهان: أحدهما: فاعتدل في قوته. الثاني: في رسالته.
الرابع: يعني: فارتفع , وفيه على هذا وجهان: أحدهما: أنه جبريل
ارتفع إلى مكانه. الثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم ,
ارتفع بالمعراج. {وَهُوَ بِلأُفُقِ الأَعْلَى} فيه قولان:
أحدهما: أنه جبريل حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق
الأعلى , قاله السدي. الثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم
رأى جبريل بالأفق الأعلى , قاله عكرمة. وفي الأفق الأعلى ثلاثة
أقاويل: أحدها: هو مطلع الشمس , قاله مجاهد. الثاني: هو الأفق
الذي يأتي منه النهار , قاله قتادة , يعني طلوع الفجر. الثالث:
هو أفق السماء وهو جانب من جوانبها , قاله ابن زيد , ومنه قول
الشاعر:
(أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم والطوالع)
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} فيه قولان: أحدهما: أنه جبريل، قاله
قتادة.
(5/392)
الثاني: أنه الرب، قاله ابن عباس. وقوله
{فَتَدَلَّى} فيه وجهان: أحدهما: تعلق فيما بين والسفل لأنه
رآه منتصباً مرتفعاً ثم رآه متدلياً , قاله ابن بحر. الثاني:
معناه قرب , ومنه قوله تعالى: {وَتُدلُواْ بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ} أي تقربوها إليهم , وقال الشاعر:
(أتيتك لا أدلي بقربى قريبة ... إليك ولكني بجودك واثق)
وقيل فيه تقديم وتأخير , وتقديره: ثم تدلى فدنا , قاله ابن
الأنباري. {فَكَانَ قَابَ قَوْسَينِ أَوْ أَدْنَى} فيه أربعة
أقاويل: أحدها: قيد قوسين , قاله قتادة والحسن. الثاني: أنه
بحيث الوتر من القوس , قاله مجاهد. الثالث: من مقبضها إلى
طرفها , قاله عبد الحارث. الرابع: قدر ذراعين , قاله السدي ,
فيكون القاب عبارة عن القدر , والقوس عبارة عن الذراع. ثم
اختلفوا في المعنى بهذا الداني على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه
جبريل من ربه , قاله مجاهد وهو قول ابن عباس. الثاني: أنه محمد
صلى الله عليه وسلم من ربه , قاله محمد بن كعب. الثالث: أنه
جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم. {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ
مَآ أَوْحَى} في عبده الموحى إليه قولان: أحدهما: أنه جبريل
عليه السلام أوحى إليه ما يوحي إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قالته عائشة، والحسن، وقتادة. الثاني: أنه محمد صلى الله
عليه وسلم أوحي إليه على لسان جبريل، قاله ابن عباس والسدي.
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} في الفؤاد قولان:
(5/393)
أحدهما: أنه أراد صاحب الفؤاد فعبر عنه
بالفؤاد لأنه قطب الجسد وقوام الحياة. الثاني: أنه أرد نفس
الفؤاد لأنه محل الإعتقاد وفيه قولان: أحدهما: معناه ما أوهمه
فؤداه ما هو بخلافه كتوهم السراب ماء , فيصير فؤاده بتوهم
المحال كالكاذب له، وهو تأويل من قرأ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ}
بالتخفيف. الثاني: معناه ما أنكر قلبه ما رأته عينه، وهو تأويل
من قرأ {كَذَّبَ} بالتشديد. وفي الذي رأى خمسة أقاويل: أحدها:
رأى ربه بعينه , قاله ابن عباس. الثاني: في المنام , قاله
السدي. الثالث: أنه بقلبه روى محمد بن كعب قال: قلنا يا رسول
الله [هل رأيت ربك]؟ قال: (رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ)
ثم قرأ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}. الرابع: أنه رأى
جلاله , قاله الحسن، وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (رَأَيتُ نَهْرَاً وَرَأَيتُ وَرَاءَ
النَّهْرِ حَجَاباً ورَأَيتُ وَرَاءَ الحِجَابِ نُوراً لَمْ
أَرَ غَيَرَ ذَلِكَ). الخامس: أنه رأى جبريل على صورته مرتين،
قاله ابن مسعود. {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} فيه ثلاثة
أوجه: أحدها: أفتجادلونه على ما يرى، قاله إبراهيم. الثاني:
أفتجادلونه على ما يرى، وهو مأثور.
(5/394)
الثالث: أفتشككونه على ما يرى , قاله
مقاتل. {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى} يعني أنه رأى ما
رآه ثانية بعد أُولى، قال كعب: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته
بين محمد وموسى عليهما السلام، فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى
مرتين. {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} روي فيها خبران. أحدهما:
ما روى طلحة بن مصرف عن مرة عن ابن مسعود قال: لما أسري بالنبي
صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء
السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرواح فيقبض منها، وإليها
ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها الخبر. الثاني: ما رواه
معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(رُفِعَتْ لِيَ سِدْرَةُ الْمُنتَهَى فِي السَّمَاءِ
السَّابِعَةِ، ثَمَرُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجْرٍ، وَوَرَقُهَا
مِثْلُ آذَانِ الفِيَلَة، يَخْرُجُ مِن سَاقِهَا نَهْرَانِ
ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بِاطِنَانِ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا
هَذَا؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ البَاطِنَانِ فَفِي
الجَنَّةِ، وَأَمَّا النَّهْرانِ الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ
وَالفُرَاتُ). وفي سبب تسميتها سدرة المنتهى خمسة أوجه: أحدها:
لانه ينتهي علم الأنبياء إليها , ويعزب علمهم عما وراءها، قاله
ابن عباس. الثاني: لأن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها، قاله
الضحاك. الثالث: لانتهاء الملائكة والنبيين إليها ووقوفهم
عندها، قاله كعب. الرابع: لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاجه، قاله الربيع بن أنس.
(5/395)
الخامس: لأنه ينتهي إليها كل ما يهبط من
فوقها ويصعد من تحتها , قاله ابن مسعود. {عِندَهَا جَنَّةُ
الْمَأْوَى} فيه قولان: أحدهما: جنة المبيت والإقامة , قاله
علي , وأبو هريرة. الثاني: أنها منزل الشهداء , قاله ابن عباس
, وهي عن يمين العرش وفي ذكر جنة المأوى وجهان على ما قدمناه
في سدرة المنتهى: أحدهما: أن المقصود بذكرها تعريف موضعها بأنه
عند سدرة المنتهى , قاله الجمهور. {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ
مَا يَغْشَى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الذي يغشاها فراش من
ذهب , قاله ابن مسعود ورواه مرفوعاً. الثاني: أنهم الملائكة ,
قاله ابن عباس. الثالث: أنه نور رب العزة , قاله الضحاك. فإن
قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل: لأن
السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية،
فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية، فظلها بمنزلة
العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة
القول لظهوره. {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} في زيغ البصر
ثلاثة أوجه؛ أحدها: انحرافه. الثاني: ذهابه، قاله ابن عباس.
الثالث: نقصانه، قاله ابن بحر. وفي طغيانه ثلاثة أوجه: أحدها:
ارتفاعه عن الحق. الثاني: تجاوزه للحق، قاله ابن عباس.
(5/396)
الثالث: زيادته , ويكون معنى الكلام أنه
رأى ذلك على حقه وصدقه من غير نقصان عجز عن إدراكه , ولا زيادة
توهمها في تخليه , قاله ابن بحر. {لَقَدْ رَأَى مِنْءَايَاتِ
رَبِّهِ الْكُبْرَى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما غشي السدرة
من فراش الذهب , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه قد رأى جبريل وقد
سد الأفق بأجنحته , قاله ابن مسعود أيضاً. الثالث: ما رأه حين
نامت عيناه ونظر بفؤاده , قاله الضحاك.
(5/397)
أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى
(20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا
قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا
تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ
الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ
الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي
السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ
بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
{أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة
الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى إن هي إلا
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن
يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم
للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى وكم من ملك في السماوات
لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}
{أَفَرَءيْتُمُ اللاَّت وَالْعُزَّى} أما اللات فقد كان الأعمش
يشددها , وسائر القراء على تخفيفها , فمن خففها فلهم فيها
قولان: أحدهما: أنه كان صنماً بالطائف زعموا أن صاحبه كان يلت
عليه السويق لأصحابه، قاله السدي. الثاني: أنه صخرة يلت عليها
السويق بين مكة والطائف، قاله عكرمة. وأما من شددها فلهم فيها
قولان: أحدهما: أنه كان رجلاً يلت السويق على الحجر فلا يشرب
منه أحد إلا سمن معبوده، ثم مات فقلبوه على قبره، قاله ابن
عباس، ومجاهد. الثاني: أنه كان رجلاً يقوم على آلهتهم ويلت لهم
السويق بالطائف قاله
(5/397)
السدي، وقيل إنه عامر بن ظرب العدواني ثم
اتخذوا قبره وثناً معبوداً، قال الشاعر:
(لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف ينصركم من ليس
ينتصر.)
وأما {الْعُزَّى} ففيه قولان: أحدهما: أنه صنم كانوا يعبدونه،
قاله الجمهور. الثاني: أنها شجرة كان يعلق عليها ألوان العهن
تعبدها سليم، وغطفان، وجشم، قال مقاتل: وهي سمرة، قاله الكلبي:
هي التي بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن
الوليد حتى قطعها، وقال أبو صالح: بل كانت نخلة يعلق عليها
الستور والعهن. وقيل في اللات والعزى قول ثالث: أنهما كانا
بيتين يعبدهما المشركون في الجاهلية، فاللات بيت كان بنخلة
يعبده كفار قريش، والعزى بيت كان بالطائف يعبده أهل مكة
والطائف. {وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الأَخْرَى} فيه أربعة
أقاويل: أحدها: أنه كان صنماً بقديد بين مكة والمدينة، قاله
أبو صالح. الثاني: أنه بيت كان بالمسلك يعبده بنو كعب. الثالث:
أنها أصنام من حجارة كانت في الكعبة يعبدونها. الرابع: أنه وثن
كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه، وبذلك سميت منى
لكثرة ما يراق بها من الدماء. وإنما قال: مناة الثالثة الأخرى
, لأنها كانت مرتبة عند المشركين في التعظيم بعد اللات والعزى،
وروى سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي أنه لما نزلت هذه
الآية على النبي صلى الله عليه وسلم {أَفََرأَيْتُمُ اللاَّتَ
وَالْعُزَّى} الآية. ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق
العلا وإن شفاعتهم ترتجى، وفي رواية أبي العالية: وشفاعتهم
ترتضى ومثلهم لا ينسى , ففرح المشركون وقالوا: قد ذكر آلهتنا،
فنزل جبريل فقال: أعرض
(5/398)
عليّ ما جئتك به فعرض عليه , فقال: لم آتك
أنا بهذا وهذا من الشيطان، فأنزل الله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ مِن رَّسُوْلٍ وَلاَ نَبِّيٍ إلاَّ إذا تََمَنَّى
ألْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}. {أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الأُنْثَى} حيث جعلوا الملائكة بنات الله. {تِلْكَ
إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: قسمة عوجاء ,
قاله مجاهد. الثاني: قسمة جائرة , قاله قتادة. الثالث: قسمة
منقوصة , قاله سفيان وأكثر أهل اللغة , قال الشاعر:
(فإن تنأى عنا ننتقصك وإن تقم ... فقسمك مضئوز وأنفك راغم)
ومعنى مضئوز أي منقوص. الرابع: قسمة مخالفة , قاله ابن زيد.
{أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} فيه وجهان: أحدهما: من
البنين أن يكونوا له دون البنات. الثاني: من النبوة أن تكون
فيه دون غيره. {فَلِلَّهِ الأخِرَةُ وَالأُولَى} فيه وجهان:
أحدهما: يعني أنه أقدر من خلقه , فلو جاز أن يكون له ولد - كما
نسبه إليه المشركون حين جعلوا له البنات دون البنين وتعالى عن
ذلك علواً كبيراً - لكان بالبنين أحق منهم. الثاني: أنه لا
يعطي النبوة من تمناها , وإنما يعطيها من اختاره لها لأنه مالك
السموات والأرض.
(5/399)
إِنَّ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ
تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ
تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا
بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ
الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ
وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنِ اتَّقَى (32)
{إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون
الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن
وإن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم
يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن
ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ولله ما في السماوات وما في
الأرض
(5/399)
ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين
أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم
إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم
أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَآئِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ
إِلاَّ الَّلمَمَ} أما كبائر الإثم ففيها. خمسة أقاويل؛ أحدها:
أنه الشرك بالله , حكاه الطبري. الثاني: أنه ما زجر عنه بالحد
, حكاه بعض الفقهاء. الثالث: ما لا يكفر إلا بالتوبة , حكاه
ابن عيسى. الرابع: ما حكاه شرحبيل عن ابن مسعود قال: سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: (أن تدعو لله نداً
وهو خلقك وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك وأن تزاني حليلة
جارك) الخامس: ما روى سعيد بن جبير أن رجلاً سأل ابن عباس عن
الكبائر أسبع هي؟ قال: إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبعة، لا
كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار، فكأنه يذكر أن كبائر
الإثم ما لم يستغفر منه. وأما الفواحش ففيها قولان: أحدهما:
أنها جميع المعاصي. الثاني: أنها الزنى. وأما اللمم المستثنى
ففيه ثمانية أقاويل: أحدها: إلا اللمم الذي ألموا به في
الجاهلية من الإثم والفواحش فإنه معفو عنه في الإسلام، قاله
ابن زيد بن ثابت. الثاني: هو أن يلم بها ويفعلها ثم يتوب منها،
قاله الحسن ومجاهد.
(5/400)
الثالث: هو أن يعزم على المواقعة ثم يرجع
عنها مقلعاً وقد روى عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمْ تغفر جَمَّاً ... وَأَي عَبْدٍ لَّكَ
لاَ أَلَمَّا)
الرابع: أن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة
والمضاجعة , قاله ابن مسعود , روى طاووس عن ابن عباس قال: ما
رأيت أشبه باللمم من قول أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم: (كَتَبَ اللَّهُ عَلَى كلِّ نَفْسٍ خَطَّهَا مِن الزّنَى
أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ , فَزِنَى الْعَيْنَينِ
النَّظَرُ وَزِنَى الِلَّسَانِ المَنطِقُ وَهِيَ النَّفْسُ
تُمَنّي وَتَشْتَهِى , وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوُ
يُكَذِّبُه) الخامس: أن اللمم الصغائر من الذنوب. السادس: أن
اللمم ما لم يجب عليه حد في الدنيا ولم يستحق عليه في الآخرة
عذاب , قاله ابن عباس , وقتادة. السابع: أن اللمم النظرة
الأولى فإن عاد فليس بلمم , قاله بعض التابعين , فجعله ما لم
يتكرر من الذنوب , واستشهد بقول الشاعر:
(وما يستوي من لا يرى غير لمة ... ومن هو ناو غيرها لا يريمها)
والثامن: أن اللمم النكاح , وهذا قول أبي هريرة. وذكر مقاتل بن
سليمان أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار كان له
حانوت يبيع فيه تمراً , فجاءته امرأة تشتري منه تمراً , فقال
لها: إن بداخل الدكان ما هو خير من هذا , فلما دخلت راودها عن
نفسها , فأبت وانصرفت , فندم نبهان وأتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد
فعلته إلا الجماع , فقال: (لَعَلَّ زَوْجَهَا غَازٍ) فنزلت هذه
الآية. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ
الأَرْضِ} يعني أنشأ آدم. {وَإذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ في
بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} قال مكحول: في بطون أمهاتنا فسقط منا
من
(5/401)
سقط، وكنا فيمن بقي , ثم صرنا يفعة فهلك
منا من هلك , وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شباباً فهلك منا من هلك
وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شيوخاً لا أبالك فما بعد هذا تنتظر؟
{فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني
لا تمادحوا، قاله ابن شوذب. الثاني: لا تعملوا بالمعاصي
وتقولوا نعمل بالطاعة، قاله ابن جريج. الثالث: إذا عملت خيراً
فلا تقل عملت كذا وكذا. ويحتمل رابعاً: لا تبادلوا قبحكم حسناً
ومنكركم معروفاً. ويحتمل خامساً: لا تراؤوا بعملكم المخلوقين
لتكونوا عندهم أزكياء. {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} قال
الحسن: قد علم الله كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما
هي صائرة.
(5/402)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ
عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا
فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ
يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
{أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده
علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي
وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن
سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى} {أَفَرَءَيْتَ الَّذِي
تَولَّى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه العاص بن وائل السهمي،
قاله السدي. الثاني: أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، قاله
مجاهد، كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله
عنه يسمع ما يقولان ثم يتولى عنهما. الثالث: أنه النضر بن
الحارث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حين ارتد عن دينه
وضمن له أن يتحمل مأثم رجوعه، قاله الضحاك. {وَأعْطَى قَلِيلاً
وَأَكْدَى} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه أعطى قليلاً من نفسه
بالاستمتاع ثم أكدى بالانقطاع، قاله مجاهد. الثاني: أطاع
قليلاً ثم عصى، قاله ابن عباس.
(5/402)
الثالث: أعطى قليلاً من ماله ثم منع، قاله
الضحاك. الرابع: أعطى بلسانه وأكدى بقلبه، قاله مقاتل. وفي
{أَكْدَى} وجهان: أحدهما: قطع , قاله الأخفش. الثاني: منع ,
قاله قطرب. {أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيبِ فَهُوَ يَرَى} فيه
وجهان: أحدهما: معناه أعلم الغيب فرأى أن ما سمعه باطل.
الثاني: أنزل عليه القرآن فرأى ما صنعه حقاً , قاله الكلبي.
ويحتمل ثالثاً: أعلم أن لا بعث , فهو يرى أن لا جزاء.
{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} فيه سبعة أقاويل: أحدها: وفّى
عمل كل يوم بأربع ركعات في أول النهار , رواه الهيثم عن أبي
أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن يقول كلما
أصبح وأمسى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِيْنَ تُمْسُونَ وَحِيْنَ
تُصْبِحُونَ} الآية. رواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي
صلى الله عليه وسلم. الثالث: وفيما أمر به من طاعة ربه , قاله
ابن عباس. الخامس: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
لأنه كان بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة ابنه وأبيه فأول
من خالفهم إبراهيم , قاله الهذيل. السادس: أنه ما أُمر بأمر
إلا أداه ولا نذر إلا وفاه , وهذا معنى قول الحسن. السابع:
وفَّى ما امتحن به من ذبح ابنه وإلقائة في النار وتكذيبه.
(5/403)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ
الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ
إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى
(47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ
رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى
(50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ
إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
{وأن إلى ربك المنتهى وأنه هو أضحك وأبكى
وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة
إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى وأنه هو أغنى وأقنى وأنه هو
رب الشعرى وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من
قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى
فبأي آلاء ربك تتمارى} {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمنتَهَى}
يحتمل وجهين: أحدهما: إلى إعادتكم لربكم بعد موتكم يكون
منتهاكم. {وَأَنَّهُ هُوَ أضْحَكَ وَأَبْكَى} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: قضى أسباب الضحك والبكاء. الثاني: أنه أراد بالضحك
السرور , وبالبكاء الحزن. والثالث: أنى خلق قوتي الضحك والبكاء
, فإن الله ميز الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان ,
فليس في سائر الحيوان ما ضحك ويبكي غير الإنسان , وقيل إن
القرد وحده يضحك ولا يبكي , وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك.
ويحتمل وجهاً رابعاً: أن يريد بالضحك والبكاء النعم والنقم.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} فيه خمسة أوجه: أحدها: قضى
أسباب الموت والحياة. الثاني: خلق الموت والحياة كما قال
تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَوتَ وَالْحَيَاةَ} قاله ابن
بحر. الثالث: أن يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب. الرابع:
أمات بالمعصية وأحيا بالطاعة. الخامس: أمات الآباء وأحيا
الأبناء. ويحتمل سادساً: أن يريد به أنام وأيقظ.
(5/404)
{مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} وجهان:
أحدهما: إذا تخلق وتقدر , قاله الأخفش. الثاني: إذا نزلت في
الرحم , قاله الكلبي. {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} فيه
ثمانية تأويلات: أحدها: أغنى بالكفاية وأقنى بالزيادة , وهو
معنى قول ابن عباس. الثاني: أغنى بالمعيشة وأقنى بالمال , قاله
الضحاك. الثالث: أغنى بالمال وأقنى بأن جعل لهم قنية , وهي
أصول الأموال , قاله أبو صالح. الرابع: أغنى بأن مَوّل وأقنى
بأن حرم , قاله مجاهد. الخامس: أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه ,
قاله سليمان التيمي. السادس: أغنى من شاء وأفقر من شاء , قاله
ابن زيد. السابع: أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا , قاله سفيان.
الثامن: أغنى عن أن يخدم وأقنى أن يستخدم , وهذا معنى قول
السدي. ويحتمل تاسعاً: أغنى بما كسبه [الإنسان] في الحياة
وأقنى بما خلفه بعد الوفاة مأخوذ من اقتناء المال وهو
استبقاؤه. {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} والشعرى نجم يضيء
وراء الجوزاء , قال مجاهد: تسمى هوزم الجوزاء , ويقال إنه
الوقاد , وإنما ذكر أنه رب الشعرى وإن كان رباً لغيره لأن
العرب كانت تعبده فأعلموا أن الشعرى مربوب وليس برب. واختلف
فيمن كان يعبده فقال السدي: كانت تعبده حمير وخزاعة وقال غيره:
أول من عبده أبو كبشة , وقد كان من لا يعبدها من العرب يعظمها
ويعتقد تأثيرها في العالم , قال الشاعر:
(مضى أيلول وارتفع الحرور ... وأخبت نارها الشعرى العبور)
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى} فيهم قولان: أحدهما: أن
عاد الأولى عاد بن إرم , وهم الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية ,
وعاداً الآخرة قوم هود. الثاني: أن عاداً الأولى قوم هود
والآخرة قوم كانوا بحضرموت , قاله قتادة.
(5/405)
{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} والمؤتفكة
المنقلبة بالخسف , قاله محمد بن كعب: هي مدائن قوم لوط وهي
خمسة: صبغة وصغيرة وعمرة ودوماً وسدوم وهي العظمى , فبعث الله
عليهم جبريل فاحتملها بجناحه ثم صعد بها حتى أن أهل السماء
يسمعون نباح كلابهم وأصوات دجاجهم ثم كفأها على وجهها ثم
أتبعها بالحجارة كما قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا
حَجَارةً مِن سِجِّيْلٍ} قال قتادة: كانوا أربعة آلاف ألف.
{أَهْوَى} يحتمل وجهين: أحدهما: أن جبريل أهوى بها حين احتملها
حتى جعل عاليها سافلها. الثاني: أنهم أكثر ارتكاباً للهوى حتى
حل بهم ما حل من البلاء. {فَعَشَّاهَا مَا غَشَّى} يعني
المؤتفكة , وفيما غشاها قولان: أحدهما: جبريل حين قلبها.
الثاني: الحجارة حتى أهلكها. {فَبِأَيِّءَالآءِ رَبِّكَ
تَتَمَارَى} وهذا خطاب للمكذب أي فبأي نعم ربك تشك فيما أولاك
وفيما كفاك. وفي قوله: {فَغَشَّاهَا} وجهان: أحدهما: ألقاها.
الثاني: غطاها.
(5/406)
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ
النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ
لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا
الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ
(60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ
وَاعْبُدُوا (62)
{هذا نذير من النذر الأولى أزفت الآزفة ليس
لها من دون الله كاشفة أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا
تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا} {هَذا نَذِيرٌ مِّنَ
النُّذُرِ الأُولَى} فيه قولان: أحدهما: أن محمداً نذير الحق
أنذر به الأنبياء قبله , قاله ابن جريج. الثاني: أن القرآن
نذير بما أنذرت به الكتب الأولى , قاله قتادة. ويحتمل قولاً
ثالثاً: أن هلاك من تقدم ذكره من الأمم الأولى نذير لكم.
{أَزِفَتِ الأزِفَةُ} أي اقتربت الساعة ودنت القيامة , وسماها
آزفة لقرب قيامها عنده.
(5/406)
{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ
كَاشِفَةٌ} أي من يكشف ضررها. {أَفَمِنَ هَذا الْحَدِيثِ
تَعْجَبُونَ} فيه وجهان: أحدهما: من القرآن في نزوله من عند
الله. الثاني: من البعث والجزاء وهو محتمل. {وَتَضْحَكُونَ
وَلاَ تَبْكُونَ} فيها وجهان: أحدهما: تضحكون استهزاء ولا
تبكون انزجاراً. الثاني: تفرحون ولا تحزنون , وهو محتمل.
{وَأَنْتُم سَامِدُونَ} فيه تسعة تأويلات: أحدها: شامخون كما
يخطر البعير شامخاً، قاله ابن عباس. الثاني: غافلون , قاله
قتادة. الثالث: معرضون، قاله مجاهد. الرابع: مستكبرون، قاله
السدي. الخامس: لاهون لاعبون، قاله عكرمة. السادس: هو الغناء،
كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا، وهي لغة حمير، قاله أبو عبيدة.
السابع: أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين قاله علي رضي الله
عنه. الثامن: واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام، قاله الحسن، وفيه
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج والناس ينتظرونه
قياماً فقال: ما لي أراكم سامدين. التاسع؛ خامدون قاله المبرد،
قال الشاعر:
(رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقد سمدن له سموداً)
{فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَأعْبُدُواْ} فيه وجهان: أحدهما: أنه
سجود تلاوة القرآن , قال ابن مسعود , وفيه دليل على أن في
المفصل سجوداً. الثاني: أنه سجود الفرض في الصلاة.
(5/407)
|