تفسير الماوردي النكت والعيون

سورة القمر
مكية في قول الجمهور، وقال مقاتل إلا ثلاث آيات من قوله: {أم يقولون نحن جميع منتصر} إلى قوله؛ {والساعة أدهى وأمر}. بسم الله الرحمن الرحيم

(5/408)


اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)

{اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر} قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} أي دنت وقربت , قال الشاعر:
(قد اقتربت لو كان في قرب دارها ... جداء ولكن قد تضر وتنفع)
والمراد بالساعة القيامة , وفي تسميتها بالساعة وجهان: أحدهما: لسرعة الأمر فيها. الثاني: لمجيئها في ساعة من يومها. وروى طارق بن شهاب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقْتَرَبَتِ

(5/408)


السَّاعَةُ وَلاَ يَزْدَادُ النَّاسُ عَلَى الدُّنْيَا إلاَّ حِرْصاً وَلاَ تَزْدَادُ مِنْهُمْ إِلاَّ بُعْداً). {وَانشَقَّ الْقَمَرُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه وضح الأمر وظهر والعرب تضرب مثلاً فيما وضح أمره , قال الشاعر:
(أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل)
(فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل)
والثاني: أن انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه , وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه , كما قال النابغة الجعدي:
(فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داعي)
الثالث: أنه انشقاق القمر على حقيقة انشقاقه. وفيه على هذا التأويل قولان: أحدهما: أنه ينشق بعد مجيء الساعة وهي النفخة الثانية , قاله الحسن , قال: لأنه لو انشق ما بقي أحد إلا رأه لأنها آية والناس في الآيات سواء. الثاني: وهو قول الجمهور وظاهر التنزيل أن القمر انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سأله عمه حمزة بن عبد المطلب حين أسلم غضباً لسب أبي جهل لرسول الله , أن يريه آية يزداد بها يقيناً في إيمانه , وروى مجاهد عن أبي معمر عن أبي مسعود قال: رأيت القمر منشقاً شقتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة , شقة على أبي قبيس , وشقة على السويدا فقالوا: سحر القمر , فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَ الْقَمَرُ}. {وَإِن يَرَوْاْءَايَةً يُعْرِضُواْ} فيه وجهان:

(5/409)


أحدهما: أنه أراد أي آية روأها أعرضوا عنها ولم يعتبروا بها , وكذلك ذكرها بلفظ التنكير دون التعريف، قاله ابن بحر. الثاني: أنه عنى بالآية انشقاق القمر حين رأوه. {وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن معنى مستمر ذاهب , قاله أنس وأبو عبيدة. الثاني: شديد، مأخوذ من إمرار الحبل، وهو شدة فتله، قاله الأخفش والفراء. الثالث: أنه يشبه بعضه بعضاً. الرابع: أن المستمر الدائم , قال امرؤ القيس:
(ألا إنما الدنيا ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر)
أي بدائم. الخامس: أي قد استمر من الأرض إلى السماء , قاله مجاهد. {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يوم القيامة. الثاني: كل أمر مستقر في أن الخير لأهل الخير , والشر لأهل الشر , قاله قتادة. الثالث: أن كل أمر مستقر حقه من باطله. الرابع: أن لكل شيء غاية ونهاية في وقوعه وحلوله , قاله السدي. ويحتمل خامساً، أن يريد به دوام ثواب المؤمن وعقاب الكافر. {وَلَقْدْ جَآءَهُم مِّنَ الأَنْبَآءِ} فيه وجهان: أحدهما: أحاديث الأمم الخالية , قاله الضحاك. الثاني: القرآن. {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي مانع من المعاصي. ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه النهي. الثاني: أنه الوعيد. {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} قاله السدي: هي الرسالة والكتاب.

(5/410)


ويحتمل أن يكون الوعد والوعيد. ويحتمل قوله: {بَالِغَةٌ} وجهين: أحدهما: بالغة في زجركم. الثاني: بالغة من الله إليكم , فيكون على الوجه الأول من المُبَالَغَةِ , وعلى الوجه الثاني من الإبْلاَغ. {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} أي فما يمنعهم التحذير من التكذيب.

(5/411)


فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

{فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر} {مّهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِ} فيه ستة تأويلات: أحدها: معناه: مسرعين , قاله أبو عبيدة , ومنه قول الشاعر:
(بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع)
الثاني: معناه: مقبلين , قاله الضحاك. الثالث: عامدين , قاله قتادة. الرابع: ناظرين , قاله ابن عباس. الخامس: فاتحين آذانهم إلى الصوت , قاله عكرمة. السادس: قابضين ما بين أعينهم , قاله تميم. {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} يعني يوم القيامة , لما ينالهم فيه من الشدة.

(5/411)


كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

{كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان

(5/411)


عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن المنهمر الكثير , قاله السدي، قال الشاعر:
(أعيني جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معد وحاضر)
الثاني: أنه المنصب المتدفق , قاله المبرد، ومنه قول امرىء القيس:
(راح تمرية الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر)
وفي فتح أبواب السماء قولان: أحدهما: أنه فتح رتاجها وسعة مسالكها. الثاني: أنها المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر , قاله علي. {فَالْتَقَى الْمَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} فيه وجهان: أحدهما: فالتقى ماء السماء وماء الأرض على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر , حكاه , ابن قتيبة. الثاني: قدر بمعنى قضي عليهم , قاله قتادة , وقدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا. {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحِ وَدُسُرٍ} أي السفينة , وفي الدسر أربعة أقاويل: أحدها: المعاريض التي يشد بها عرض السفينة، قاله مجاهد. الثاني: أنها المسامير دسرت بها السفينة، أي شدت، قاله ابن جبير وابن زيد. الثالث: صدر السفينة الذي يضرب الموج , قاله عكرمة، لأنها تدسر الماء بصدرها، أي تدفعه. الرابع: أنها طرفاها، وأصلها، قاله الضحاك. {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} فيه أربعة أوجه: أحدها: بمرأى منا.

(5/412)


الثاني: بأمرنا، قاله الضحاك. الثالث: بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها. الرابع: بأعين الماء التي أتبعناها في قوله: {وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً}، وقيل: إنها تجري بين ماء الأرض والسماء، وقد كان غطاها عن أمر الله سبحانه. {جَزَآءً لِمَن كَانَ كُفِرَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لكفرهم بالله، قاله مجاهد، وابن زيد. والثاني: جزاء لتكذيبهم، قاله السدي. الثالث: مكافأة لنوح حين كفره قومه أن حمل ذات ألواح ودسر. {وَلَقَدْ تّرَكْنَاهَآءَايَةً} فيها وجهان: أحدها: الغرق. الثاني: السفينة روى سعيد عن قتادة أن الله أبقاها بباقردي من أرض الجزيرة عبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة. وفي قوله: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني فهل من متذكر، قاله ابن زيد. الثاني: فهل من طالب خير فيعان عليه , قاله قتادة. الثالث: فهل من مزدجر عن معاصي الله , قاله محمد بن كعب. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه سهلنا تلاوته على إهل كل لسان، وهذا أحد معجزاته، لأن الأعجمي قد يقرأه ويتلوه كالعربي. الثاني: سهلنا علم ما فيه واستنباط معانيه، قاله مقاتل. الثالث: هونا حفظه فأيسر كتاب يحفظ هو كتاب الله، قاله الفراء.

(5/413)


كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

{كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر

(5/413)


ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: باردة، قاله قتادة، والضحاك. الثاني: شديدة الهبوب، قاله ابن زيد. الثالث: التي يسمع لهبوبها كالصوت , ومنه قول الشاعر:
( ... ... ... ... ... ... باز يصرصر فوق المرقب العالي)
{فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِّرٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يوم عذاب وهلاك. الثاني: لأنه كان يوم الأربعاء. الثالث: لأنه كان يوماً بارداً، قال الشنفرى:
(وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... وأقطعه اللاتي بها ينبل)
يعني أنه لشدة بردها يصطلي بقوسه وسهامه التي يدفع بها عن نفسه. وفي {مُسْتَمِرٍ} وجهان: أحدهما: الذاهب. الثاني: الدائم.

(5/414)


كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

{كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر سيعلمون غدا من الكذاب الأشر إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}

(5/414)


{إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن السعر الجنون، قاله ابن كامل. الثاني: العناء، قاله قتادة. الثالث: الافتراق، قاله السدي. الرابع: التيه، قاله الضحاك. الخامس: أنه جمع سعر وهو وقود النار، قاله ابن بحر وابن عيسى. وعلى هذا التأويل في قولهم ذلك وجهان: أحدهما: أنهم قالوه لعظم ما نالهم أن يتبعوا رجلاً واحداً منهم , كما يقول الرجل إذا ناله خطب عظيم: أنا في النار. الثاني: أنهم لما أوعدوا على تكذيبه ومخالفته بالنار ردوا مثل ما قيل لهم إنّا لو اتبعنا رجلاً مثلنا واحداً كنا إذاً في النار. {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الأشر هو العظيم الكذب , قاله السدي. الثاني: أنه البطر , ومنه قول الشاعر:
(أشرتم بلبس الخز لما لبستم ... ومن قبل لا تدرون من فتح القرى)
الثالث: أنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها. {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَة فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} أما الاصطبار فهو الافتعال من الصبر وأصل الطاء تاء أبدلت بطاء ليكون اللفظ أسهل مخرجاً ويعذب مسمعاً. وروى أبو الزبير عن جابر قال: لما نزلنا الحجر فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك , قال: (أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَسْأَلُوا عَن هَذِهِ الآياتِ [هؤلاء] قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيَّهُم أَن يَبْعَثَ اللَّهُ لَهُم آيَة، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُم نَاقَةً فَكَانَتْ تَرِدُ مِن ذَلَكِ الفَجَ فَتَشْرَبُ مَاءَهُم يَوْمَ وُرُودِهَا وَيَحْلِبُونَ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْهَا يَوْمَ غِبِّهَا وَيَصْدِرُونَ عَن ذَلِكَ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَبِئّهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُم}) الآية.

(5/415)


وفيه وجهان: أحدهما: أن الناقة تحضر الماء يوم ورودهم , وتغيب عنهم يوم ورودها , قاله مقاتل. الثاني: أن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون , ويحضرون اللبن يوم وردها فيحلبون. {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} فيه قولان: أحدهما: انه أحمر إرم وشقيها , قاله قتادة , وقد ذكره زهير في شعره فقال:
(فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم)
الثاني: أنه قدار بن سالف , قاله محمد بن إسحاق , وقد ذكره الأفوه في شعره:
(أو بعده كقدار حين تابعه ... على الغاوية أقوام فقد بادوا)
{فَتَعَاطَى} فيه وجهان: أحدهما: أن معناه بطش بيده , قاله ابن عباس. الثاني: معناه تناولها وأخذها , ومنه قول حسان بن ثابت:
(كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل)
{فَعَقَرَ} قال محمد بن إسحاق: كَمَنَ لها قدار في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها , ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاءة واحدة تحدر سقبها [من بطنها وانطلق سقبها] حتى اتى صخرة في رأس الجبل فرغا ثم لاذ بها , فأتاهم صالح , فلما رأى الناقة قد عقروها بكى ثم قال: انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله. قال ابن عباس: وكان الذي عقرها رجل أحمر أزرق أشقر أكشف أقفى. {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} فيه خمسة أقاويل: أحدهما: يعني العظام المحترقة , قاله ابن عباس.

(5/416)


الثاني: أنه التراب الذي يتناثر من الحائط وتصيبه الريح، فيحتظر مستديراً، قاله سعيد بن جبير. الثالث: أنها الحظار البالية من الخشب إذا صار هشيماً , ومنه قول الشاعر:
(أثرت عجاجة كدخان نار ... تشب بغرقد بال هشيم)
قاله الضحاك. الرابع: أنه حشيش قد حظرته الغنم فأكلته، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً الخامس: أن الهشيم اليابس من الشجر الذي فيه شوك والمحتظر الذي تحظر به العرب حول ماشيتها من السباع , قاله ابن زيد , وقال الشاعر:
(ترى جيف المطي بجانبيه ... كان عظامها خشب الهشيم.)

(5/417)


كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

{كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن الحصب الحجارة التي رموا بها من السماء , والحصباء هي الحصى وصغار الأحجار. الثاني: أن الحاصب الرمي بالأحجار وغيرها , ولذلك تقول العرب لما تسفيه الريح حاصباً , قال الفرزدق:
(مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور)
الثالث: أن الحاصب السحاب الذي حصبهم.

(5/417)


الرابع: أن الحاصب الملائكة الذين حصبوهم. الخامس: أن الحاصب الريح التي حملت عليهم الحصباء. {إِلاَّءَالَ لُوطٍ} يعني ولده ومن آمن به. {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} والسحر هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر , وهو في كلام العرب اختلاط سواد آخر الليل ببياض أول النهار لأن هذا الوقت يكون مخاييل الليل ومخاييل النهار. {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} يعني ضيف لوط وهم الملائكة الذين نزلوا عليه في صورة الرجال , وكانوا على أحسن صورهم , فراودوا لوطاً عليهم طلباً للفاحشة. {فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} والطمس محو الأثر ومنه طمس الكتاب إذا محي، وفي طمس أعينهم وجهان: أحدهما: أنهم اختفوا عن أبصارهم حتى لم يروهم، مع بقاء أعينهم، قاله الضحاك. الثاني: أعينهم طمست حتى ذهبت أبصارهم وعموا فلم يروهم، قاله الحسن، وقتادة. {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه وعيد بالعذاب الأدنى، قاله الضحاك. الثاني: أنه تقريع بما نالهم من عذاب العمى الحال، وهو معنى قول الحسن، وقتادة.

(5/418)


وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)

{ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}

(5/418)


{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} يعني أكفاركم خير من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم. {أَمْ لَكُم بَرَآءةٌ فِي الزُّبُرِ} يعني في الكتب السالفة براءة من الله تعالى أنكم ليس تهلكون كما أهلكوا، ومنه قول الشاعر:
(وترى منها رسوماً قد عفت ... مثل خط اللام في وحي الزبر)
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} يعني بالعدد والعدة , وقد كان من هلك قبلهم أكثر عدداً وأقوى يداً، ويحتمل انتصارهم وجهين: أحدهما: [لأنفسهم بالظهور]. الثاني: لآلهتهم بالعبادة. فرد الله عليهم فقال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيْوَلُّونَ الدُّبُرَ} يعني كفار قريش وذلك يوم بدر , وهذه معجزة أوعدهم الله بها فحققها , وفي ذلك يقول حسان:
(ولقد وليتم الدبر لنا ... حين سال الموت من رأس الجبل)
{بَلِ الْسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} يعني القيامة. {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن موقف الساعة أدهى وأمر من موقف الدنيا في الحرب التي تولون فيها الدبر. الثاني: أن عذاب الساعة أدهى وأمر من عذاب السيف في الدنيا. وفي قوله {أدْهَى} وجهان: أحدهما: أخبث. الثاني: أعظم. {وَأَمَرُّ} فيه وجهان: أحدهما: معناه أشد لأن المرارة أشد الطعوم. الثاني: معناه أنفذ , مأخوذ من نفوذ المرارة فيما خالطته.

(5/419)


إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

{إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس

(5/419)


سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر} {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} روى إسماعيل بن زياد عن محمد بن عباد عن أبي هريرة أن مشركي قريش أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت. {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فيه وجهان: أحدهما: على قدر ما أردنا من غير زيادة ولا نقصان، قاله ابن بحر. الثاني: بحكم سابق وقضاء محتوم، ومنه قول الراجز:
89 (وقدر المقدر الأقدارا.} 9
) {وَمَآ أَمْرُنْآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بَالْبَصَرِ} يعني أن ما أردناه من شيء أمرنا به مرة واحدة ولم نحتج فيه إلى ثانية , فيكون ذلك الشيء مع أمرنا به كلمح البصر في سرعته من غير إبطاء ولا تأخير. {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن المستطر المكتوب , قاله الحسن وعكرمة وابن زيد , لأنه مسطور. الثاني: أنه المحفوظ , قاله قتادة. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن النهر أنهار الماء، والخمر، والعسل، واللبن، قاله ابن جريج. الثاني: أن النهر الضياء والنور , ومنه النهار , قاله محمد بن إسحاق , ومنه قول الراجز:
(لولا الثريدان هلكنا بالضمر ... ثريد ليل وثريد بالنهر)
الثالث: أنه سعة العيش وكثرة النعيم، ومنه اسم نهر الماء، قاله قطرب.

(5/420)


{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِند مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ} فيه وجهان: أحدهما: مقعد حق لا لغو فيه ولا تأثيم. الثاني: مقعد صدق لله وعد أولياءه به، والمليك والملك واحد , وهو الله كما قال ابن الزبعري:
(يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذا أنابوا)
ويحتمل ثالثاً: أن المليك مستحق الملك , والملك القائم بالملك والمقتدر بمعنى القادر. ويحتمل وصف نفسه بالاقتدار ها هنا وجهين: أحدهما: لتعظيم شأن من عنده من المتقين لأنهم عند المقتدر أعظم قدراً , وأعلى مجزاً. الثاني: ليعلموا أنه قادر على حفظ ما أنعم به عليهم ودوامه لهم، والله أعلم.

(5/421)


سورة الرحمن
مكية كلها في قول الحسن، وعكرمة، وجابر، وقال ابن عباس: إلا آية، وهي قوله تعالى: {يسأله من في السموات والأرض} الآية. وقال ابن مسعود، ومقاتل: هي مدنية كلها. بسم الله الرحمن الرحيم

(5/422)


الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

{الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان} قوله تعالى {الرَّحْمَنُ} فيه قولان: أحدهما: أنه اسم ممنوع لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، قاله الحسن، وقطرب.

(5/422)


الثاني: أنه فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى: {الر} و {حم} و {ن} فيكون مجموع هذه {الرَّحْمَنُ}، قاله سعيد بن جبير، وابن عباس. {عَلَّمَ الْقُرْءانَ} فيه وجهان: أحدهما: علمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس. الثاني: سهل تعلمه على جميع الناس. {خَلَقَ الإِنسَانَ} فيه قولان: أحدهما: يعني آدم، قاله الحسن وقتادة. الثاني: أنه أراد جميع الناس وإن كان بلفظ واحد، وهو قول الأكثرين. {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} لأنه بالبيان فُضِّل على جميع الحيوان، وفيه ستة تأويلات: أحدها: أن البيان الحلال والحرام , قاله قتادة. الثاني: الخير والشر , قاله الضحاك , والربيع بن أنس. الثالث: المنطق والكلام، قاله الحسن. الرابع: الخط، وهو مأثور. الخامس: الهداية، قاله ابن جريج. السادس: العقل لأن بيان اللسان مترجم عنه. ويحتمل سابعاً: أن يكون البيان ما اشتمل على أمرين: إبانة ما في نفسه ومعرفة ما بين له. وقول ثامن لبعض أصحاب الخواطر: خلق الإنسان جاهلاً به، فعلمه السبيل إليه. {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} فيه خمسة أوجه: أحدها: يعني بحساب، قاله ابن عباس، والحسبان مصدر الحساب، وقيل: جمعه. الثاني: معنى الحسبان هذه آجالها، فإذا انقضى الأجل كانت القيامة، قاله السدي. الثالث: أنه يقدر بهما الزمان لامتياز النهار بالشمس والليل بالقمر

(5/423)


ولو استمر أحدهما فكان الزمان ليلاً كله أو نهاراً كله لما عرف قدر الزمان، قاله ابن زيد. الرابع: يدوران، وقيل إنهما يدوران في مثل قطب الرحى، قاله مجاهد. الخامس: معناه يجريان بقدر. {وَالنَّجْمُ وَالْشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} في النجم قولان: أحدهما: نجم السماء , وهو موحد والمراد به جميع النجوم , قاله مجاهد. الثاني: أن النجم النبات الذي قد نجم في الأرض وانبسط فيها , ليس له ساق , والشجر ما كان على ساق , قاله ابن عباس. وفي سجودهما خمسة أقاويل: أحدها: هو سجود ظلهما , قاله الضحاك. الثاني: هو ما فيهما من الصنعة والقدرة التي توجب السجود والخضوع , قاله ابن بحر. الثالث: أن سجودهما دوران الظل معهما، كما قال تعالى: {يتفيأ ظلاله}، قاله الزجاج. الرابع: أن سجود النجم أفوله، وسجود الشجر إمكان الإجتناء لثمارها. الخامس: أن سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا أشرقت ثم يميلان معها إذا انكسر الفيء , قاله الفراء. {وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا} يعني على الأرض. {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الميزان ذو اللسان ليتناصف به الناس في الحقوق، قاله الضحاك. الثاني: أن الميزان الحكم. الثالث: قاله قتادة , ومجاهد، والسدي: أنه العدل، ومنه قول حسان:
(ويثرب تعلم أنا بها ... إذا التبس الأمر ميزانها)

(5/424)


{أَلاَّ تَطْغُواْ فِي الْمِيزَانِ} وفي الميزان ما ذكرناه من الأقاويل: أحدها: أنه العدل وطغيانه الجور , قاله مجاهد. الثاني: أنه ميزان الأشياء الموزونات وطغيانه البخس , قاله مقاتل , وقال ابن عباس: يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم: المكيال والميزان. الثالث: أنه الحكم , وطغيانه التحريف. {وَأقِيمُواْ الْوَزْنَ بَالْقِسْطِ} أي بالعدل , قال مجاهد: القسط: العدل. {وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ} أي لا تنقصوه بالبخس قيل: إنه المقدار: فالجور إن قيل: إنه العدل , والتحريف إن قيل: الحكم. وفي وجه رابع: أنه ميزان حسناتكم يوم القيامة. {وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي بسطها ووطأها للأنام ليستقروا عليها ويقتاتوا منها. وفي الأنام ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الناس , قاله ابن عباس , وفيه قول بعض الشعراء في رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(مبارك الوجه يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر)
الثاني: أن الأنام الإنس والجن , قاله الحسن. الثالث: أن الأنام جميع الخلق من كل ذي روح , قاله مجاهد , وقتادة والسدي , سمي بذلك لأنه ينام , قال الشاعر:
(جاد الإله أبا الوليد ورهطه ... رب الأنام وخصه بسلام)
{فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكمَامِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن ذات الأكمام النخل، وأكمامها ليفها الذي في أعناقها , قاله الحسن. الثاني: أنه رقبة النخل التي تكمم فيه طلعاً، ومنه قول الشاعر:
(وذات أثارة أكلت عليها ... نباتاً في أكمتة قفار)
الثالث: أنه الطلع المكمم الذي هو كمام الثمرة، قاله ابن زيد.

(5/425)


الرابع: أن معنى ذات الأكمام أي ذوات فضول على كل شيء، قاله ابن عباس. {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالْرَّيْحَانُ} أما الحب فهو كل حب خرج من أكمامها كالبر والشعير. وأما العصف ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الريح، قاله ابن عباس. الثاني: أنه الزرع إذا اصفر ويبس. الثالث: أنه حب المأكول منه , قاله الضحاك , كما قال تعالى: {كَعَصْفٍ مَأكُولٍ}. وأما الريحان ففيه خمسة أوجه: أحدها: أنه الرزق , قاله مجاهد , وسعيد بن جبير , والسدي , والعرب تقول: خرجنا نطلب ريحان الله أي رزقه , ويقال سبحانك وريحانك أي رزقك , وقال النمر بن تولب:
(سلام الإله وريحانه ... ورخيته وسماء درر)
قاله الضحاك , ورخيته هي لغة حِمْيَر. الثاني: أن الريحان الزرع الأخضر الذي لم يسنبل، قاله ابن عباس. الثالث: أنه الريحان الذي يشم، قاله الحسن، والضحاك، وابن زيد. الرابع: أن العصف الورق الذي لا يؤكل والريحان هو الحب المأكول، قاله الكلبي. {فَبِأَيِّءَالآءِ رَبِّكُمْا تُكّذِّبَانِ} في الآلاء قولان: أحدهما: أنها النعم، وتقديره فبأي نعم ربكما تكذبان، قاله ابن عباس، ومنه قول طرفة:
(كامل يجمع الآلاء الفتى ... بيديه سيد السادات خصم)
الثاني: أنها القدرة، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان، قاله ابن زيد، والكلبي.

(5/426)


وفي قوله ربكما إشارة إلى الثقلين الإنس والجن في قول الجميع. وقد روى محمد بن المنكدر عن جابر قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: (مِا لِي أَرَاكُم سُكُوتاً؟! الجِنُّ أَحْسَنُ مِنكُم رَداً، كُنتُ كُلَّمَا قَرأَتُ عَلَيهِم الأَيةَ {فَبَأَيِّ ءالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قَالُوا: وَلاَ بِشَيءٍ مِن نِّعَمِكَ رَبَّنَا نُكّذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ). وتكرارها في هذه االسورة لتقرير النعم التي عددها , فقررهم عند كل نعمة منها , كما تقول للرجل أما أحسنت إليك حين وهبت إليك مالاً؟ أما أحسنت إليك حين بنيت لك داراً، ومنه قول مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليباً:
(على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير)
(على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور)

(5/427)


خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)

{خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان}

(5/427)


{خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَاْلْفَخَّارِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه الطين المختلط برمل، قاله ابن عباس. الثاني: انه الطين الرطب الذي إذا عصرته بيدك خرج الماء من بين أصابعك، وهذا مروي عن عكرمة. الثالث: أنه الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة، قاله قتادة. الرابع: انه الطين الأجوف الذي إذا ضرب بشيء صلّ وسُمِع له صوت. الخامس: أنه الطين المنتن، قاله الضحاك، مأخوذ من قولهم صلَّ اللحم إذا أنتن. والمخلوق من صلصال كالفخار هو آدم عليه السلام. قال عبد الله بن سلام: خلق الله آدم من تراب من طين لازب، فتركه كذلك أربعين سنة، ثم صلصله كالفخار أربعين سنة، ثم صوره فتركه جسداً لا روح فيه أربعين سنة، فذلك مائة وعشرون سنة، كل ذلك والملائكة تقول سبحان الذي خلقك، لأمر ما خلقك. {وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه لهب النار، قاله ابن عباس. الثاني: خلط النار، قاله أبو عبيدة. الثالث: أنه [اللهب] الأخضر والأصفر [والأحمر] الذي يعلو النار إذا أوقدت ويكون بينها وبين الدخان، قاله مجاهد. الرابع: أنها النار المرسلة التي لا تمتنع، قاله المبرد. الخامس: أنها النار المضطربة التي تذهب وتجيء، وسمي مارجاً لاضطرابه وسرعة حركته. وفي الجان المخلوق من مارج من نار قولان:

(5/428)


أحدهما: أنه أبوالجن , قاله أبو فروة يعقوب عن مجاهد. الثاني: أنه إبليس , وهو قول مأثور. وفي النار التي خلق من مارجها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها من النار الظاهرة بين الخلق , قاله الأكثرون. الثاني: من نار تكون بين الجبال من دون السماء وهي كالكلة الرقيقة , قاله الكلبي. الثالث: من نار دون الحجاب ومنها هذه الصواعق وترى خلق السماء منها , قاله الفراء. {رَبُّ الْمَشْرِقْينِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المشرقين مشرق المشس في الشتاء والصيف، والمغربين مغرب الشمس في الشتاء والصيف , قاله ابن عباس. الثاني: أن المشرقين مشرق الشمس والقمر، والمغربين مغربهما. الثالث: أن المشرقين الفجر والشمس، والمغربين الشمس والغسق وأغمض سهل بن عبد الله بقول رابع: ان المشرقين مشرق القلب واللسان , والمغربين مغرب القلب واللسان. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أما البحران ففيهما خمسة أوجه: أحدهما: أنه بحر السماء وبحر الأرض، قاله ابن عباس. الثاني: بحر فارس والروم، قاله الحسن، وقتادة. الثالث: أنه البحر المالح والأنهار العذبة، قاله ابن جريج.

(5/429)


الرابع: أنه بحر المشرق وبحر المغرب يلتقي طرفاهما. الخامس: انه بحر اللؤلؤ وبحر المرجان. وأما {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تفريق البحرين , قاله ابن صخر. الثاني: إسالة البحرين , قاله ابن عباس. الثالث: استواء البحرين , قاله مجاهد. وأصل المرج , الإهمال كما تمرج الدابة في المرج. {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبغِيَانِ} في البزخ الذي بينهما أربعة أقاويل: أحدها: أنه حاجز , قاله ابن عباس. الثاني: أنه عرض الأرض , قاله مجاهد. الثالث: أنه ما بين السماء والأرض , قاله عطية , والضحاك. الرابع: أنه الجزيرة التي نحن عليها وهي جزيرة العرب , قاله الحسن , وقتادة. وفي قوله: {لاَّ يَبْغِيَانِ} ثلاثة أقاويل: أحدها: لا يختلطان لا يسيل العذب على المالح ولا المالح على العذب، قاله الضحاك. الثاني: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه، قاله مجاهد، وقتادة. الثالث: لا يبغيان أن يلتقيا، قاله ابن زيد، وتقدير الكلام، مرج البحرين يلتقيان لولا البرزخ الذي بينهما أن يلتقيا. وقال سهل: البحران طريق الخير وطريق الشر , والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة. {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الَّلؤلُؤ وَالْمَرْجَانُ} وفي المرجان أربعة أقاويل: أحدها: عظام اللؤلؤ وكباره، وقاله علي وابن عباس، ومنه قول الأعشى:
(من كل مرجانة في البحر أخرجها ... تيارها ووقاها طينة الصدف)

(5/430)


الثاني: أنه صغار اللؤلؤ , قاله الضحاك وأبو رزين الثالث: أنه الخرز الأحمر كالقضبان , قاله ابن مسعود. الرابع: أنه الجوهر المختلط، مأخوذ من مرجت الشيء إذا خلطته وفي قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} وجهان: أحدهما: ان المراد أحدهما وإن عطف بالكلام عليهما. الثاني: أنه خارج منهما على قول ابن عباس أنهما بحر السماء وبحر الأرض، لأن ماء السماء إذا وقع على صدف البحر انعقد لؤلؤاً، فصار خرجاً منهما. وفيه وجه ثالث: أن العذب والمالح قد يلتقيان فيكون العذب كاللقاح للمالح فنسب إليهما كما نسب الولد إلى الذكر والأنثى وإن ولدته الأنثى , ولذلك قيل إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من موضع يلتقي فيه العذب والمالح. {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ} أما الجواري فهي السفن واحدتها جارية سميت بذلك لأنها تجري في الماء بإذن الله تعالى , والجارية هي المرأة الشابة أيضاً سميت بذلك لأنه يجري فيها ماء الشباب. وأما المنشآت ففيها خمسة أوجه: أحدها: أنها المخلوقات , قاله قتادة مأخوذ من الإنشاء. الثاني: أنها المحملات، قاله مجاهد. الثالث: أنها المرسلات، ذكره ابن كامل. الرابع: المجريات، قاله الأخفش. الخامس: أنها ما رفع قلعه منها وهي الشرع فهي منشأة، وما لم يرفع ليست بمنشأة، قاله الكلبي. وقرأ حمزة {الْمُنشَئَاتُ} بكسر الشين، وفي معناه على هذه القراءة وجهان: أحدهما: البادئات , قاله ابن إسحاق والجارود بن أبي سبرة. الثاني: أنها يكثر نشأً بجريها وسيرها في البحر كالأعلام، قاله ابن بحر. وفي قوله: {كَالأَعْلاَمِ} وجهان:

(5/431)


أحدهما: يعني الجبال سميت بذلك لارتفاعها كارتفاع الأعلام، قاله السدي. قالت الخنساء:
(وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار)
الثاني: أن الأعلام القصور، قاله الضحاك. {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: يسألونه الرزق لأهل الأرض فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء وأهل الأرض، لأهل الأرض، قاله ابن جريج وروته عائشة مرفوعاً. الثاني: أنهم يسألونه القوة على العبادة، قاله ابن عطاء، وقيل إنهم يسألونه لأنفسهم الرحمة، قاله أبو صالح. قال قتادة: لا استغنى عنه أهل السماء ولا أهل الأرض، قال الكلبي: وأهل السماء يسألونه المغفرة خاصة لأنفسهم ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونه المغفرة والرزق.

(5/432)


كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

{كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما تكذبان يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان} {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فيه قولان: أحدهما: أنه أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة، قال ابن بحر: الدهر كله يومان: أحدهما: مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة، فشأنه سبحانه في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر، والنهي، والإحياء، والأمانة، والإعطاء، والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء، والحساب، والثواب، والعقاب. والقول الثاني: أن المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا.

(5/432)


وفي هذا الشأن الذي أراده في أيام الدنيا قولان: أحدهما: من بعث من الأنبياء في كل زمان بما شرعه لأمته من شرائع الدين وكان الشأن في هذا الموضع هو الشريعة التي شرعها كل نبي في زمانه ويكون اليوم عبارة عن المدة. القول الثاني: ما يحدثه الله في خلقه من تبدل الأحوال وإختلاف الأمور , ويكون اليوم عبارة عن الوقت. روى مجاهد عن عبيد بن عمير قال: كل يوم هو في شأن , يجيب داعياً , ويعطي سائلاً , ويفك عانياً , ويتوب على قوم , ويغفر لقوم. وقال سويد بن غفلة: كل يوم هو في شأن , هو يعتق رقاباً , ويعطي رغاباً , ويحرم عقاباً. وقد روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ({كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} مِن شَأَنِهِ أَن يَغْفِرَ ذَنباً , وَيَفْرِجَ كَرْباً , وَيَرَفَعَ قَوماً , وَيَضَعَ آخَرِينَ)

(5/433)


سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)

{سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان}

(5/433)


{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ} فيه وجهان: أحدهما: أي لنقومن عليكم على وجه التهديد. الثاني: سنقصد إلى حسابكم ومجازاتكم على أعمالكم وهذا وعيد لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن , وقال جرير:
(الآن وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لها عذاباً)
أي قصدت لهم , والثقلان الإنس والجن سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض. {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقطَارِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} فيه وجهان: أحدهما: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا، لن تعلموه إلا بسلطان، قاله عطية العوفي. الثاني: إن استطعتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هرباً من الموت فانفذوا، قاله الضحاك. {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني إلا بحجة، قاله مجاهد، قاله ابن بحر: والحجة الإيمان. الثاني: لا تنفذون إلا بمُلْك وليس لكم مُلْك، قاله قتادة. الثالث: معناه لا تنفذون إلا في سلطانه وملكه، لأنه مالك السموات والأرض وما بينهما، قاله ابن عباس. {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن الشواظ لهب النار، قاله ابن عباس , ومنه قول أمية بن أبي الصلت يهجو حسان بن ثابت:
(يمانياً يظل يشد كيراً ... وينفخ دائباً لهب الشواظ)

(5/434)


[فأجابه حسان فقال]:
(همزتك فاختضعت بذل نفسٍ ... بقافية تأجج كالشواظ)
الثاني: أنه قطعة من النار فيها خضرة، قاله مجاهد. الثالث: أنه الدخان، رواه سعيد بن جبير، قال رؤبة بن العجاج:
(إن لهم من وقعنا أقياظا ... ونار حرب تسعر الشواظا)
الرابع: أنها طائفة من العذاب , قاله الحسن. وأما النحاس ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه الصفر المذاب على رؤوسهم , قاله مجاهد , وقتادة. الثاني: أنه دخان النار , قاله ابن عباس , قال النابغة الجعدي:
(كضوء سراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاساً.)
الثالث: أنه القتل , قاله عبد الله بن أبي بكرة. الرابع: أنه نحس لأعمالهم , قاله الحسن.

(5/435)


فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

{فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام فبأي آلاء ربكما تكذبان هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن فبأي آلاء ربكما تكذبان} {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ} يعني يوم القيامة. {فَكَانَتْ وَرْدَةً} فيه وجهان: أحدهما: وردة البستان , وهي حمراء , وقد تختلف ألوانها لكن الأغلب من ألوانها

(5/435)


الحمرة، وبها يضرب المثل في لون الحمرة، قال عبد بني الحسحاس:
(فلو كنت ورداً لونه لعشقتني ... ولكن ربي شانني بسواديا)
كذلك تصير السماء يوم القيامة حمراء كالورد، قاله ابن بحر. الثاني: أنه أراد بالوردة الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي الشتاء أغبر , فشبه السماء يوم القيامة في اختلاف ألوانها بالفرس الورد , لاختلاف ألوانه , قاله الكلبي والفراء. وفي قوله: {كَالدِّهَانِ} خمسة أوجه: أحدها: يعني خالصة , قاله الضحاك. الثاني: صافية , قاله الأخفش. الثالث: ذات ألوان , قاله الحسن. الرابع: صفراء كلون الدهن , وهذا قول عطاء الخراساني , وأبي الجوزاء. الخامس: الدهان أديم الأرض الأحمر , قاله ابن عباس , قال الأعشى:
(وأجرد من فحول الخيل طرف ... كأن على شواكله دهانا)
وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة , وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق , وشبهوا ذلك بعروق البدن هي حمراء كحمرة الدم وترى بالحائل زرقاء , فإن كان هذا صحيحاً فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة وارتفاع الحواجز ترى حمراء لأنه أصل لونها. {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: كانت المسألة قبل , ثم ختم على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون , قاله قتادة. الثاني: أنه لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا , قاله ابن عباس. الثالث: لا يسأل الملائكة عنهم لأنهم قد رفعوا أعمالهم في الدنيا , قاله مجاهد. الرابع: أنه لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله لشغل كل واحد منهم بنفسه , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.

(5/436)


الخامس: أنهم في يوم تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه فهم معروفون بألوانهم فلم يسأل عنهم، قاله الفراء. {يَطُوفَونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ} قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم، ومرة بين الجحيم، والجحيم النار، والحميم الشراب. وفي قوله تعالى: {ءانٍ} ثلاثة أوجه: أحدها: هو الذي انتهى حره وحميمه، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي، ومنه قول النابغة الذبياني:
(وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن)
أي حار. الثاني: أنه الحاضر، قاله محمد بن كعب. الثالث: أنه الذي قد آن شربه وبلغ غايته، قاله مجاهد.

(5/437)


وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)

{ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان فبأي آلاء ربكما تكذبان} {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وفي الخائف مقام ربه ثلاثة أقاويل: أحدها: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض، قاله ابن عباس. الثاني: أنه يهم بذنب فيذكر مقام ربه فيدعه، قاله مجاهد. الثالث: أن ذلك نزل في أبي بكر رضي الله عنه خاصة حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت، والنار حين برزت، قاله عطاء وابن شوذب. قال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ فأعجبه، فسأل عنه فأُخْبِر أنه من غير حل، فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقال: (رَحِمَكَ اللَّهُ لَقَدْ أُنزِلَتْ فِيكَ آيَةٌ) وتلا عليه هذه الآية. وفي مقام ربه قولان: أحدهما: هو مقام بين يدي العرض والحساب.

(5/437)


الثاني: هو قيام الله تعالى بإحصاء ما اكتسب من خير وشر. وفي هاتين الجنتين أربعة أوجه: أحدها: جنة الإنس وجنة الجان، قاله مجاهد. الثاني: جنة عدن، وجنة النعيم، قاله مقاتل. الثالث: أنهما بستانان من بساتين الجنة , وروي ذلك مرفوعاً لأن البستان يسمى جنة. الرابع: أن إحدى الجنتين منزله , والأخرى منزل أزواجه وخدامه كما يفعله رؤساء الدنيا. ويحتمل خامساً: أن إحدى الجنتين مسكنه , والأخرى بستانه. ويحتمل سادساً: أن إحدى الجنتين أسافل القصور , والأخرى أعاليها. {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: ذواتا ألوان , قاله ابن عباس. الثاني: ذواتا أنواع من الفاكهة، قاله الضحاك. الثالث: ذواتا أتا وسَعَةٍ، قاله الربيع بن أنس. الرابع: ذواتا أغصان، قاله الأخفش وابن بحر. والأفنان جمع واحده فنن كما قال الشاعر:
(ما هاج سوقك من هديل حمامة ... تدعوا على فنن الغصون حماما)
(تدعو أبا فرخين صادف ضارياً ... ذا مخلبين من الصقور قطاما)

(5/438)


مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)

{متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي

(5/438)


آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأي آلاء ربكما تكذبان} {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن بطائنها يريد به ظواهرها، قاله قتادة. والعرب تجعل البطن ظهراً فيقولون هذا بطن السماء وظهر السماء. الثاني: أنه أراد البطانة دون الظهارة، لأن البطانة إذا كانت من إستبرق وهي أدون من الظاهرة دل على أن الظهارة فوق الإستبرق، قاله الكلبي. وسئل عباس فما الظواهر؟ قال: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله. {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} فأما الجنا فهو الثمر , ومنه قول الشاعر:
(هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه)
وفي قوله: {دَانٍ} وجهان: أحدهما: داني لا يبعد على قائم ولا على قاعد، قاله مجاهد. الثاني: أنه لا يرد أيديهم عنها بُعد ولا شوك، قاله قتادة. {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} قال قتادة: قصر طرفهن على أزواجهن , لا يسددن النظر إلى غيرهم , ولا يبغين بهم بدلاً. {لَمْ يَطْمَثهنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لم يمسسهن , قال أبو عمرو: الطمث المس , وذلك في كل شيء يمس. الثاني: لم يذللهن إنس قبلهم ولا جان، والطمث: التذليل، قاله المبرد. الثالث: لم يُدْمِهُنَّ يعني إنس ولا جان، وذلك قيل للحيض طمث، قال الفرزدق:

(5/439)


(دفعن إليَّ لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام)
وفي الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس. {هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: هل جزاء الطاعة إلا الثواب. الثاني: هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة , قاله ابن زيد. الثالث: هل جزاء من شهد أن لا إله إلا الله إلا الجنة , قاله ابن عباس. الرابع: هل جزاء التوبة إلا المغفرة , قاله جعفر بن محمد الصادق. ويحتمل خامساً: هل جزاء إحسان الله عليكم إلا طاعتكم له.

(5/440)


وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

{ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فيه وجهان: أحدهما: أي أقرب منهما جنتان. الثاني: أي دون صفتهما جنتان. وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الجنات الأربع لمن خاف مقام ربه , قال ابن عباس: فيكون في الأوليين النخل والشجر , وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط.

(5/440)


الثاني: أن الأوليين من ذهب للمقربين , والأخريين من وَرِقٍ لأصحاب اليمين , قاله ابن زيد. الثالث: أن الأوليين للسابقين , والأخريين للتابعين , قاله الحسن. قال مقاتل: الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى , وفي الجنات الأربع جنان كثيرة. ويحتمل رابعاً: أن يكون من دونهما جنتان لأتباعه , لقصور منزلتهم عن منزلته , إحدهما للحور العين , والأخرى للولدان المخلدين , لتميز بهما الذكور عن الإناث. {مُدْهَآمَّتَانِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أي خضراوان , قاله ابن عباس. الثاني: مسودتان , قاله مجاهد , مأخوذ من الدهمة وهي السواد , ومنه سمي سود الخيل دهماً. الثالث: [خضروان من الرّي] ناعمتان , قاله قتادة. {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: ممتلئتان لا تنقطعان , قاله الضحاك. الثاني: جاريتان , قاله الفراء. الثالث: فوّارتان , وذكر في الجنتين الأوليين عينين تجريان , وذكر في الأخريين عينين نضاختين , والجري أكثر من النضخ. وبماذا هما نضاختان؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: بالماء , قاله ابن عباس. الثاني: بالمسك والعنبر , قاله أنس. الثالث: بالخير والبركة، قاله الحسن، والكلبي. الرابع: بأنواع الفاكهة , قاله سعيد بن جبير. {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} يعني الجنات الأربع، وفي الخيرات قراءتان إحداهما بالتخفيف، وفي المراد بها قولان:

(5/441)


أحدهما: الخير والنعم المستحسنة. الثاني: خيرات الفواكه والثمار، وحسان في المناظر والألوان. والقرءة الثانية بالتشديد، وفي المراد بها قولان: أحدهما: مختارات. الثاني: ذوات الخير وفيهن قولان: أحدهما: أنهن الحور المنشآت في الآخرة. الثاني: أنهن النساء المؤمنات الفاضلات من أهل الدنيا. وفي تسميتهن خيرات أربعة أوجه: أحدها: لأنهن خيرات الأخلاق حسان الوجوه , قاله قتادة وروته أم سلمة مرفوعاً: الثاني: لأنهن عذارى أبكاراً , قاله أبو صالح. الثالث: لأنهن مختارات. الرابع: لأنهن خيرات صالحات، قاله أبو عبيدة. {حُوْرٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: مقصورات الطرف على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلاً، ولا يرفعن طرفاً إلى غيرهم من الرجال، قاله مجاهد. الثاني: المحبوسات في الحجال لَسْنَ بالطوافات في الطرق، قاله ابن عباس. الثالث: المخدرات المصونات , ولا متعطلات ولا متشوِّفات، قاله زيد بن الحارث، وأبو عبيدة. الرابع: أنهن المسكنات في القصور، قاله الحسن. ويحتمل خامساً: أن يريد بالمقصورات البيض، مأخوذ من قصارة الثوب الأبيض، لأن وقوع الفرق بين المقصورات والقاصرات يقتضي وقوع الفرق بينهما في التأويل:

(5/442)


وفي الخيام ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الخيام هي البيوت , قاله ابن بحر. الثاني: أنها خيام تضرب لأهل الجنة خارج الجنة كهيئة البداوة، قاله سعيد بن جبير. الثالث: أنها خيام في الجنة تضاف إلى القصور. روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخِيَامُ الدُّرُّ المُجَوَّفُ). روي عن أسماء بنت يزيد الأشهلية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إننا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم، فهل نشارككم في الأجر؟ فقال عليه السلام (نَعَم إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تَبَعُّلَ أَزَوَاجِكُنَّ وَطَلَبْتُنَّ مَرْضاتُهُم). {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} فيه ستة تأويلات: أحدها: أن الرفرف المحبس المطيف ببسطه، قاله ابن كامل. الثاني: فضول الفرش والبسط , قاله ابن عباس. الثالث: أنها الوسائد، قاله الحسن وعاصم الجحدري. الرابع: أنها الفرش المرتفعة، مأخوذ من الرف. الخامس: أنها المجالس يتكئون على فضولها. السادس: رياض الجنة، قاله ابن جبير. {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها الطنافس المخملية، قاله الحسن. الثاني: الديباج، قاله مجاهد.

(5/443)


الثالث: أنها ثياب في الجنة لا يعرفها أحد , قاله مجاهد [أيضاً]. الرابع: أنها ثياب الدنيا تنسب إلى عبقر. وفي عبقري قولان: أحدهما: أنه سيد القوم , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه: (فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِياً مِنَ النَّاسِ يَفْري فَرِيَّةُ) فنسبه إلى أرفع الثياب لاختصاصه. الثاني: أرض عبقر. وفي تسميتها بذلك قولان: أحدهما: لكثرة الجن فيها. الثاني: لكثرة رملها ويكون المراد بذلك أنها تكون مثل العبقري لأن ما ينسج بعبقر لا يكون في الجنة إذا قيل إن عبقر اسم أرض. {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} فيه وجهان: أحدهما: معناه ثبت اسم ربك ودام. الثاني: أن ذكر اسمه يمن وبركة , ترغيباً في مداومة ذكره. {ذِي الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ} في {ذِي الْجَلاَلِ} وجهان: أحدهما: أنه الجليل. الثاني: أنه المستحق للإجلال والإعظام. وفي {الإكْرَامِ} وجهان: أحدهما: الكريم. الثاني: ذو الإكرام لمن يطيعه.

(5/444)