تفسير الماوردي
النكت والعيون سورة الواقعة
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة
إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم
أنكم تكذبون}. بسم الله الرحمن الرحيم
(5/445)
إِذَا وَقَعَتِ
الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا
(6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ
الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
(11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
{إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة
رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا
وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب
المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون
في جنات النعيم} قوله تعالى {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}
فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: الصيحة، قاله الضحاك. الثاني:
الساعة وقعت بحق فلم تكذب، قاله السدي. الثالث: أنها القيامة،
قاله ابن عباس، والحسن. وسميت الواقعة لكثرة ما يقع فيها من
الشدائد. {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذَِبَةٌ} فيها أربعة أوجه:
أحدها: ليس لها مردود , قاله ابن عباس.
(5/445)
الثاني: لا رجعة فيها ولا مشورة , قاله
قتادة. الثالث: ليس لها مكذب من مؤمن ولا من كافر , قاله ابن
كامل. الرابع: ليس الخبر عن وقوعها كذباً. {خَافِضَةٌ
رَّافِعَةٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تخفض رجالاً كانوا في
الدنيا مرتفعين , وترفع رجالاً كانوا في الدنيا مخفوضين , قاله
محمد بن كعب. الثاني: خفضت أعداء الله في النار , ورفعت أولياء
الله في الجنة , قاله عمر بن الخطاب. الثالث: خفضت الصوت
فأسمعت الأدنى , ورفعت فأسمعت الأقصى , قاله عكرمة. ويحتمل
رابعاً: أنها خفضت بالنفخة الأولى من أماتت , ورفعت بالنفخة
الثانية من أحيت. {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً} فيه قولان:
أحدهما: رجفت وزلزلت، قاله ابن عباس، قاله رؤبة بن العجاج:
(أليس يوم سمي الخروجا ... أعظم يوم رجه رجوجاً)
89 (يوماً يرى مرضعة خلوجاً} 9
الثاني: أنها ترج بما فيها كما يرج الغربال بما فيه , قاله
الربيع بن أنس فيكون تأويلها على القول الأول أنها ترج بإماتة
ما على ظهرها من الأحياء، وتأويلها على القول الثاني أنها ترج
لإخراج من في بطنها من الموتى. {وَبُسَّتِ الْجِبَالَ بَسّاً}
فيه خمسة أقاويل: أحدها: سالت سيلاً، قاله مجاهد. الثاني: هدت
هداً، قاله عكرمة، الثالث: سيرت سيرا، قاله محمد بن كعب، ومنه
قول الأغلب العجلي:
(نحن بسسنا بأثر أطاراً ... أضاء خمساً ثمت سارا)
(5/446)
)
الرابع: قطعت قطعاً , قاله الحسن. . الخامس: إنها بست كما يبس
السويق أي بلت , البسيسة هي الدقيق يلت ويتخذ زاداً , قال لص
من غطفان:
(لا تخبزا خبزاً وبسا بسا ... ولا تطيلا بمناخ حبسا)
{فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه
رهج الغبار يسطع ثم يذهب , فجعل الله أعمالهم كذلك , قاله علي.
الثاني: أنها شعاع الشمس الذي من الكوة , قاله مجاهد. الثالث:
أنه الهباء الذي يطير من النار إذا اضطربت , فإذا وقع لم يكن
شيئاً , قاله ابن عباس. الرابع: أنه ما يبس من ورق الشجر تذروه
الريح , قاله قتادة. وفي المنبث ثلاثة أوجه: أحدها: المتفرق،
قاله السدي. الثاني: المنتشر. الثالث: المنثور. {وَكُنتُمْ
أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} يعني أصنافاً ثلاثة، قال عمر بن الخطاب:
اثنان في الجنة وواحد في النار. وفيهما وجهان: أحدهما: ما قاله
ابن عباس أنها التي في سورة الملائكة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}. الثاني:
ما رواه النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(وكنتم أزوجاً ثلاثة) الآية.
(5/447)
ويحتمل جعلهم أزواجاً وجهين: أحدهما: أن
ذلك الصنف منهم مستكثر ومقصر، فصار زوجاً. الثاني: أن في كل
صنف منهم رجالاً ونساء، فكان زوجاً. {فَأَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} فيهم خمسة
تأويلات: أحدها: أن أصحاب الميمنة الذين أخذوا من شق آدم
الأيمن، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر، قاله
زيد بن أسلم. الثاني: أن أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه ,
وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بيساره، قاله محمد بن كعب.
الثالث: أن أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات , وأصحاب المشأمة هم
أهل السيئات , قاله ابن جريج. الرابع: أن أصحاب الميمنة
الميامين على أنفسهم , وأصحاب المشأمة المشائيم على أنفسهم ,
قاله الحسن. الخامس: أن أصحاب الميمنة أهل الجنة , وأصحاب
المشأمة أهل النار , قاله السدي. وقوله: {وَأَصْحَابُ
الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} لتكثير ما لهم من
العقاب. {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلِئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ} فيهم خمسة أقاويل: أحدها: أنهم الأنبياء،
قاله محمد بن كعب. الثاني: أنهم الاسبقون إلى الإيمان من كل
أمة، قاله الحسن، وقتادة. الثالث: أنهم الذين صلوا إلى
القبلتين , قاله ابن سيرين. الرابع: هم أول الناس رواحاً إلى
المساجد وأسرعهم خفوفاً في سبيل الله , قاله عثمان بن أبي
سوادة. الخامس: أنهم أربعة: منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن
آل فرعون , وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية،
وسابقان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما: أبو بكر وعمر،
قاله ابن عباس. ويحتمل سادساً: أنهم الذي أسلموا بمكة قبل هجرة
النبي صلى الله عليه وسلم وبالمدينة قبل
(5/448)
هجرته إليهم لأنهم سبقوا بالإسلام قبل زمان
الرغبة والرهبة. وفي تكرار قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ} قولان: أحدهما: السابقون في الدنيا إلى
الإيمان، السابقون في الآخرة إلى الجنة هم المقربون، قاله
الكلبي. الثاني: يحتمل أنهم المؤمنون بالأنبياء في زمانهم ,
وسابقوهم بالايمان هم المقربون المقدمون منهم.
(5/449)
ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى
سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا
مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ
مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ
مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا
تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
{ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر
موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب
وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما
يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون
جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا
قيلا سلاما سلاما} {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ} فيه ثلاثة
أوجه: أحدها: أنهم الجماعة , ومنه قول الشاعر:
(ولست ذليلاً في العشيرة كلها ... تحاول منها ثلة لا يسودها)
الثاني: الشطر وهو النصف , قاله الضحاك. الثالث: أنها الفئة ,
قاله أبو عبيدة، ومنه قول دريد بن الصمة:
(ذريني أسير في البلاد لعلني ... ألاقي لبشر ثلة من محارب)
وفي قوله تعالى: {مِّنَ الأَوََّلِينَ} قولان: أحدهما: أنهم
أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو بكرة. الثاني: أنهم
قوم نوح، قاله الحسن. {وَقَلِيلٌ مِّنَ الأَخرِينَ} فيه قولان:
أحدهما: أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , قاله الحسن.
الثاني: أنهم الذين تقدم إسلامهم قبل أن يتكاملوا , روى أبو
هريرة أنه لما
(5/449)
نزلت {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَلِينَ وَقَلِيلٌ
مِّنَ الأخِرِينَ} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
فنزلت {ثلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مَّنَ الأخِرِينَ}
فقال عليه السلام: (إِنِّي لأرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ
أَهْلَ الْجَنَّةِ بَلْ ثُلُتَ أَهْلِ الجَنَّةِ بَلْ أَنتُم
نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَتُقَاسِمُونَهُم فِي النِّصْفِ
الثَّانِي). {عَلَى سُرُرٍ مَّوضُونَةٍ} يعني الأسرة، واحدها
سرير، سميت بذلك لأنها مجلس السرور. وفي الموضونة أربعة أوجه:
أحدها: أنها الموصولة بالذهب، قاله ابن عباس. الثاني: أنها
المشبكة النسج، قاله الضحاك، ومنه قول لبيد:
(إن يفزعوا فسرا مع موضونة ... والبيض تبرق كالكواكب لامها)
الثالث: أنها المضفورة، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد، ومنه
وضين الناقة وهو البطان العريض المضفور من السيور. الرابع:
أنها المسندة بعضها إلى بعض. {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ
مُّخَلَّدُونَ} الولدان: جمع وليد وهم الوصفاء. وفي قوله
تعالى: {مُّخَلَّدُونَ} قولان: أحدهما: [مسورون] بالأسورة ,
[مقرطون] بالأقراط , قاله الفراء , قال الشاعر:
(ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز الكثبان)
الثاني: أنهم الباقون على صغرهم لا يموتون ولا يتغيرون، قاله
الحسن، ومنه قول امرىء القيس:
(وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال)
(5/450)
ويحتمل ثالثاً: أنهم الباقون معهم لا
يبصرون عليهم ولا ينصرفون عنهم بخلافهم في الدنيا.
{بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} فيهما قولان: أحدهما: أن الأكواب:
التي ليس لها عُرى , قاله الضحاك. الثاني: أن الأكواب: مدورة
الأفواه , والأباريق: التي يغترف بها، قاله قتادة، قال الشاعر:
(فعدوا عليّ بقرقف ... ينصب من أكوابها)
{وَكَأَسٍ مِّن مَّعِينٍ} والكأس اسم للإناء إذا كان فيه شراب
, والمعين الجاري من ماء أو خمر , غير أن المراد به في هذا
الموضوع الخمر , وصف الخمر بأنه الجاري من عينه بغير عصر
كالماء المعين. {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: معناه لا يمنعون منها، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد.
الثاني: لا يفرّقون عنها , حكاه ابن قتيبة , واستشهد عليه بقول
الراجز:
89 (صد عنه فانصدع.} 9
الثالث: لا ينالهم من شربها وجع الرأس وهو الصداع , قاله ابن
جبير، وقتادة , ومجاهد , والسدي. وفي قوله تعالى: {وَلاَ
يُنزِفُونَ} أربعة أوجه: أحدها: لا تنزف عقولهم فيسكرون , قاله
ابن زيد، وقتادة. الثاني: لا يملون، قاله عكرمة. الثالث: لا
يتقيئون، قاله يحيى بن وثاب. الرابع: وهو تأويل من قرأ بكسر
الزاي لا يفنى خمرهم , ومنه قول الأبيرد:
(لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى أنتم آل أبجرا)
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السكر،
(5/451)
والصداع، والقيء، والبول، وقد ذكر الله خمر
الجنة فنزهها عن هذه الخصال. {وَحُورٌ عِينٌ} والحور البيض
سمين لبياضهن , وفي العين وجهان: أحدهما: أنهن كبار الأعين ,
كما قال الشاعر:
(إذا كبرت عيون من النساء ... ومن غير النساء فهن عين)
)
الثاني: أنهن اللاتي سواد أعينهن حالك , وبياض أعينهن نقي ,
كما قال الشاعر:
(إذا ما العين كان بها احورار ... علامتها البياض على السواد)
{كَأَمْثَالِ اللؤْلُؤِ الْمَكْنُُونِ} فيه وجهان: أحدهما: في
نضارتها وصفاء ألوانها. الثاني: أنهن كأمثال اللؤلؤ في تشاكل
أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن , كما قال الشاعر:
(كأنما خلقت في قشر لؤلؤة ... فكل أكنافها وجه لمرصاد)
{لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} فيه ثلاثة
تأويلات: أحدها: لا يسمعون في الجنة باطلاً ولا كذباً , قاله
ابن عباس. الثاني: لا يسمعون فيها خُلفاً , أي لا يتخالفون
عليها كما يتخالفون في الدنيا , ولا يأثمون بشربها , كما
يأثمون في الدنيا , قاله الضحاك. الثالث: لا يسمعون فيها شتماً
ولا مأثماً , قاله مجاهد. يحتمل رابعاً: لا يسمعون مانعاً لهم
منها , ولا مشنعاً لهم على شربها. {إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً
سَلاَماً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لكن يسمعون قولاً ساراً
وكلاماً حسناً. الثاني: لكن يتداعون بالسلام على حسن الأدب
وكريم الأخلاق. الثالث: يعني قولاً يؤدي إلى السلامة. ويحتمل
رابعاً: أن يقال لهم هنيئاً.
(5/452)
وَأَصْحَابُ
الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ
مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ
(30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا
مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ
أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ
الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ
مِنَ الْآخِرِينَ (40)
{وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر
مخضود وطلح منضود وظل
(5/452)
ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة
ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا
عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين}
{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ} فيه ستة
أقاويل: أحدها: أنهم أصحاب الحق، قاله السدي. الثاني: أنهم دون
منزلة المقربين، قاله ميمون بن مهران. الثالث: أنهم من أعطي
كتابه بيمينه، قاله يعقوب بن مجاهد. الرابع: أنهم التابعون
بإحسان ممن لم يدرك الأنبياء من الأمم، قاله الحسن. الخامس: ما
رواه أسباط عن السدي: أن الله تعالى مسح ظهر آدم فمسح صفحة
ظهره اليمنى فأخرج ذرية كهيئة الذر بيضاء فقال لهم ادخلوا
الجنة ولا أبالي , ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج ذرية كهيئة
الذر سوداء , فقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي , فذلك هو قوله
تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} , وقوله: {وَأصْحَابُ
الْشِّمَالِ}. السادس: ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصحاب اليمين الذين
خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ثم تابوا بعد ذلك وأصلحوا.)
{فِي سِدْرٍ مَّخضُودٍ} والسدر النبق , وفي مخضود ثلاثة
أقاويل: أحدها: أنه اللين الذي لا شوك فيه، قاله عكرمة، وقال
غيره لا عجم لنبقه، يقال خضدت الشجرة إذا حذقت شوكها. الثاني:
أنه الموقر حملاً، قاله مجاهد. الثالث: المدلاة الأغصان , وخص
السدر بالذكر لأن ثمره أشهى الثمر إلى النفوس طمعاً وألذه
ريحاً. {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} فيه ثلاثة أقاويل:
(5/453)
أحدها: أن الطلح الموز، قاله ابن عباس،
وابو سعيد الخدري، وأبو هريرة، والحسن، وعكرمة. الثاني: أنها
شجرة تكون باليمن وبالحجاز كثيراً تسمى طلحة , قاله عبد الله
بن حميد , وقيل إنها من أحسن الشجر منظراً , ليكون بعض شجرهم
مأكولاً وبعضه منظوراً , قال الحادي:
(بشرها دليلها وقالا ... غداً ترين الطلح والأحبالا)
الثالث: أنه الطلع , قاله علي , وحكى أنه كان يقرأ: {وَطَلْعٍ
مَّنضُودٍ} , وفي المنضود قولان: أحدهما: المصفوف، قاله السدي.
الثاني: المتراكم، قاله مجاهد. {وَظِلٍ مَّمْدُودٍ} أي دائم.
ويحتمل ثانياً: أنه التام. {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} أي منصب في
غير أخدود. ويحتمل آخر: أنه الذي ينسكب عليهم من الصعود
والهبوط بخلاف الدنيا، قال الضحاك: من جنة عدن إلى أهل الخيام.
{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ}
يحتمل وجهين: أحدهما: لا مقطوعة بالفناء ولا ممنوعة من اليد
بشوك أو بعد. وفيه وجه ثالث: لا مقطوعة بالزمان ولا ممنوعة
بالأشجار. {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} فيها قولان: أحدهما: أنها
الحشايا المفروشة للجلوس والنوم، مرفوعة بكثرة حشوها زيادة في
الاستمتاع بها. الثاني: أنهم الزوجات لأن الزوجة تسمى فراشا،
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(5/454)
(الوَلَدُ لِلْفرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ
الحَجَرُ) قاله ابن بحر. فعلى هذا يحتمل وجهين: أحدهما:
مرفوعات في القلوب لشدة الميل إليهن. الثاني: مرفوعات عن
الفواحش والأدناس. {إِنَّآ أَنشَأناهُنَّ إِنشَآءً} يعني نساء
أهل الدنيا , وفي إنشائهن في الجنة قولان: أحدهما: يعني
إنشاءهن في القبور , قاله ابن عباس. الثاني: إعادتهن بعد الشمط
والكبر صغاراً أبكاراً , قاله الضحاك , وروته أم سلمة مرفوعاً:
{فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} فيه قولان: أحدهما: عذارى بعد
أن كن غير عذارى , قاله يعقوب بن مجاهد. الثاني: لا يأتيها إلا
وجدها بكراً , قاله ابن عباس. ويحتمل ثالثاً: أبكاراً من
الزوجات , وهن الأوائل لأنهن في النفوس أحلى والميل إليهن أقوى
, كما قال الشاعر:
(أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً فارغاً
فتمكنا)
قوله تعالى {عُرُباً أَتْرَاباً} فيه سبعة تأويلات: أحدها: أن
العرب المنحبسات على أزواجهن المتحببات إليهم , قاله سعيد بن
جبير , والكلبي. الثاني: أنهن المتحببات من الضرائر ليقفن على
طاعته ويتساعدن على إشاعته , قاله عكرمة. الثالث: الشكلة بلغة
أهل مكة , والغنجة بلغة أهل المدينة , قاله ابن زيد , ومنه قول
لبيد:
(وفي الخباء عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر)
الرابع: هن الحسنات الكلام , قاله ابن زيد. [أيضاً].
(5/455)
الخامس: أنها العاشقة لزوجها لأن عشقها له
يزيده ميلاً إليها وشغفاً بها. السادس: أنها الحسنة التبعُّل ,
لتكون ألذ استمتاعاً. السابع: ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن
جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عُرُباً
كَلاَمُهُنَّ عَرَبِّي) {أَتْراباً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها:
يعني أقران , قاله عطية. وقال الكلبي: على سن واحدة ثلاث
وثلاثين سنة , يقال في النساء أتراب , وفي الرجال أقران ,
وأمثال , وأشكال , قاله مجاهد. الثالث: أتراب في الأخلاق لا
تباغض بينهن ولا تحاسد , قاله السدي.
(5/456)
وَأَصْحَابُ
الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ
وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا
كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ
(45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا
وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ
(49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ
مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ
الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا
نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
{وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم
وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك
مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا
وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل إن
الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها
الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون
فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم
الدين} {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} فيه قولان: أحدهما الدخان ,
قاله أبو مالك. الثاني: أنها نار سوداء , قاله ابن عباس. {لاَّ
بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} فيه وجهان: أحدهما: لا بارد المدخل ,
ولا كريم المخرج , قاله ابن جريج. الثاني: لا كرامة فيه لأهله.
(5/456)
ويحتمل ثالثاً: أن يريد لا طيب ولا نافع.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرفِينَ} فيه وجهان:
أحدهما: منعمين , قاله ابن عباس. الثاني: مشركين , قاله السدي.
ويحتمل وصفهم بالترف وجهين: أحدهما: التهاؤهم عن الإعتبار
وشغلهم عن الإزدجار. الثاني: لأن عذاب المترف أشد ألماً.
{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} فيه ثلاثة
أوجه: أحدها: أنه الشرك بالله , قاله الحسن , والضحاك , وابن
زيد. الثاني: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه , قاله قتادة ,
ومجاهد. الثالث: هو اليمين الموس , قاله الشعبي. ويحتمل
رابعاً: أن يكون الحنث العظيم نقض العهد المحصن بالكفر.
{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها
الأرض الرملة التي لا تروى بالماء , وهي هيام الأرض , قاله ابن
عباس. الثاني: أنها الإبل التي يواصلها الهيام وهو داء يحدث
عطشاً فلا تزال الإبل تشرب الماء حتى تموت , قاله عكرمة ,
والسدي , ومنه قول قيس بن الملوح:
(يقال به داء الهيام أصابه ... وقد علمت نفسي مكان شفائياً)
الثالث: أن الهيم الإبل الضوال لأنها تهيم في الأرض لا تجد
ماءً فإذا وجدته فلا شيء أعظم منها شرباً. الرابع: أن شرب
الهيم هو أن تمد الشرب مرة واحدة إلى أن تتنفس ثلاث مرات ,
قاله خالد بن معدان , فوصف شربهم الحميم بأنه كشرب الهيم لأنه
أكثر شرباً فكان أزيد عذاباً. {هَذَا نُزْلُهُمْ يَوْمَ
الدِّينِ} أي طعامهم وشرابهم يوم الجزاء , يعني في جهنم.
(5/457)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ
فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ
(58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ
وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
{نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما
تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن
(5/457)
الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن
بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد
علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ
فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: نحن خلقنا رزقكم
أفلا تصدقون أن هذا طعامكم. الثاني: نحن خلقناكم فلولا تصدقون
أننا بالجزاء: بالثواب والعقاب اردناكم. {أَفَرَءَيْتُم مَّا
تُمْنُونَ} يعني نطفة المني، قال الفراء، يقال أمنى يمني ومنى
يمني بمعنى واحد. ويحتمل عندي أن يختلف معناهما فيكون أمنى إذا
أنزل عن جماع , ومني إذا عن احتلام. وفي تسمية المني منياً
وجهان: أحدهما: لإمنائه وهو إراقته. الثاني: لتقديره ومنه
المناء الذي يوزن به فإنه مقدار لذلك فكذلك المني مقدار صحيح
لتصوير الخلقة. {ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الْخَالِقُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أي نحن خلقنا من المني
المهين بشراً سوياً، فيكون ذلك خارجاً مخرج الإمتنان. الثاني:
أننا خلقنا مما شاهدتموه من المني بشراً فنحن على خلق ما غاب
من إعادتكم أقدر، فيكون ذلك خارجاً مخرج البرهان، لأنهم على
الوجه الأول معترفون، وعلى الوجه الثاني منكرون. {نَحْنُ
قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها:
قضينا عليكم بالموت. الثاني: كتبنا عليكم الموت. الثالث: سوينا
بينكم الموت. فإذا قيل بالوجه الأول بمعنى قضى ففيه وجهان:
(5/458)
أحدهما قضى بالفناء ثم الجزاء. الثاني:
ليخلف الأبناء الآباء. وإذا قيل بالوجه الثاني أنه بمعنى كتبنا
ففيه وجهان: أحدهما: كتبنا مقداره فلا يزيد ولا ينقص , قاله
ابن عيسى. الثاني: كتبنا وقته فلا يتقدم عليه ولا يتأخر , قاله
مجاهد. وإذا قيل بالوجه الثالث أنه بمعنى سوينا ففيه وجهان:
أحدهما: سوينا بين المطيع والعاصي. الثاني: سوينا بين أهل
السماء وأهل الأرض , قاله الضحاك. {وَمَا نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ} فيه وجهان: أحدهما: وما نحن بمسبوقين على ما
قدرنا بينكم الموت حتى لا تموتوا. الثاني: وما نحن بمسبوقين
على أن تزيدوا في مقداره وتؤخروه عن وقته. والوجه الثاني: أنه
ابتداء كلام يتصل به ما بعده من قوله تعالى: {عَلَى أَن
نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئِكُم فِي مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} فعلىهذا في تأويله وجهان: أحدهما: لما لم نسبق
إلى خلق غيركم كذلك لا نعجز عن تغيير أحوالكم بعد موتكم.
الثاني: كما لم نعجز عن خلق غيركم كذلك لا نعجز عن تغيير
أحوالكم بعد موتكم كما لم نعجز عن تغييرها في حياتكم. فعلى هذا
التأويل يكون في الكلام مضمر محذوف , وعلى التأويل الأول يكون
جميعه مظهراً.
(5/459)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا
تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ
نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي
تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ
أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ
أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ
الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا
أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا
تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
{أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن
الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل
نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من
المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون
أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم
(5/459)
شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة
ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم} {أَفَرَءَيْتُمْ مَّا
تَحْرُثُونَ} الآية. فأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى لأن
الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله وينبت على
إختياره لا على إختيارهم، وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم: (لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُم زَرَعْتُ وَلَكِن لِيَقُلْ
حَرَثْتُ). وتتضمن هذه الآية أمرين: أحدهما: الإمتنان عليهم
بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم. الثاني:
البرهان الموجب للإعتبار بأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذوره
وإنتقاله إلى إستواء حاله، [من العفن إلى الترتيب] حتى صار
زرعاً أخضر، ثم جعله قوياً مشتداً أضعاف ما كان علي، فهو
بإعادة من مات أحق وعليه أقدر، وفي هذا البرهان مقنع لذوي
الفطر السليمة. ثم قول تعالى {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ
حُطَاماً} يعني الزرع، والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع
به، فنبه بذلك على أمرين: أحدهما: ما أولاهم من النعم في زرعهم
إذ لم يجعله حطاماً ليشكروه. الثاني: ليعتبروا بذلك في أنفسهم
, كما أنه يجعل الرزع حطاماً إذا شاء كذلك يهلكهم إذا شاء
ليتعظوا فينزجروا. {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} بعد مصير الزرع
حطاماً، وفيه أربعة أوجه: أحدها: تندمون، وهو قول الحسن
وقتادة، ويقال إنها لغة عكل وتميم. الثاني: تحزنون، قاله ابن
كيسان. الثالث: تلاومون، قاله عكرمة.
(5/460)
الرابع: تعجبون , قاله ابن عباس. وإذا
نالكم هذا في هلاك زرعكم كان ما ينالكم في هلاك أنفسكم أعظم.
{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لمعذبون , قاله
قتادة , ومنه قول ابن المحلم:
(وثقت بأن الحفظ مني سجية ... وأن فؤادي مبتلى بك مغرم)
الثاني: مولع بنا , قاله عكرمة , ومنه قول النمر بن تولب:
(سلا عن تذكره تكتما ... وكان رهيناً بها مغرماً)
أي مولع. الثالث: محرومون من الحظ , قاله مجاهد , ومنه قول
الشاعر:
(يوم النسار ويوم الجفا ... ركانا عذاباً وكانا غراماً)
{أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أي تستخرجون
بزنادكم من شجر أو حديد أو حجر، ومنه قول الشاعر:
(فإن النار بالزندين تورى ... وإن الشر يقدمه الكلام)
{ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ} أي أخذتم أصلها. {أَمْ
نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} يعني المحدثون. {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا
تَذْكِرَةً} فيه وجهان: أحدهما: تذكرة لنار [الآخرة] الكبرى،
قاله قتادة. الثاني: تبصرة للناس من الظلام، قاله مجاهد.
{وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوينَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: منفعة
للمسافرين قاله الضحاك، قال الفراء: إنما يقال للمسافرين إذا
نزلوا القِيّ وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها. الثاني:
المستمتعين من حاضر ومسافر، قاله مجاهد. الثالث: للجائعين في
إصلاح طعامهم، قاله ابن زيد.
(5/461)
الرابع: الضعفاء والمساكين , مأخوذ من
قولهم قد أقوت الدار إذا خلت من أهلها , حكاه ابن عيسى. والعرب
تقول قد أقوى الرجل إذا ذهب ماله , قال النابغة:
(يقوى بها الركب حتى ما يكون لهم ... إلا الزناد وقدح القوم
مقتبس)
الخامس: أن المقوي الكثير المال , مأخوذ من القوة فيستمتع بها
الغني والفقير.
(5/462)
فَلَا أُقْسِمُ
بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي
كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ
(79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا
الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
{فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو
تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا
المطهرون تنزيل من رب العالمين أفبهذا الحديث أنتم مدهنون
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ
الْنُّجُومِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه إنكار أن يقسم الله بشيء
من مخلوقاته، قال الضحاك: إن الله لا يقسم بشىء من خلقه ولكنه
استفتاح يفتتح به كلامه. الثاني: أنه يجوز أن يقسم الخالق
بالمخلوقات تعظيماً من الخالق لما أقسم به من مخلوقاته. فعلى
هذا في قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} وجهان: أحدهما: أن (لا) صلة
زائدة، ومعناه أقسم. الثاني: أن قوله: {فَلاَ} راجع إلى ما
تقدم ذكره، ومعناه فلا تكذبوا ولا تجحدوا ما ذكرته من نعمة
وأظهرته من حجة، ثم استأنف كلامه فقال: {أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ
النُّجُومِ}. وفيها ستة أقاويل: أحدها: أنها مطالعها ومساقطها،
قاله مجاهد.
(5/462)
الثاني: إنتشارها يوم القيامة وإنكدارها ,
قاله الحسن. الثالث: أن مواقع النجوم السماء , قاله ابن جريج.
الرابع: أن مواقع النجوم الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا
مطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا , قاله الضحاك , ويكون قوله: {فلا
أقسم} مستعملاً على حقيقته في نفي القسم بها. الخامس: أنها
نجوم القرآن أنزلها الله من اللوح المحفوظ من السماء العليا
إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا , فنجمه السفرة
على جبريل عشرين ليلة , ونجمه جبريل على محمد صلى الله عليه
وسلم عشرين سنة , فهو ينزله على الأحداث في أمته , قاله ابن
عباس والسدي. السادس: أن مواقع النجوم هو محكم القرآن , حكاه
الفراء عن ابن مسعود. {وَإِنَّهُ قَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ
عَظِيمٌ} فيه قولان: أحدهما: أن القرآن قسم عظيم , قاله ابن
عباس. الثاني: أن الشرك بآياته جرم عظيم , قاله ابن عباس ,
والضحاك. ويحتمل ثالثاً: أن ما أقسم الله به عظيم. {إِنَّهُ
لَقُرْءَانٌ} يعني أن هذا القرآن كريم , وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: كريم عند الله. الثاني: عظيم النفع للناس. الثالث: كريم
بما فيه من كرائم الأخلاق ومعالي الأمور. ويحتمل أيضاً رابعاً:
لأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه. {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} وفيه
أربعة أقاويل: أحدها: أنه كتاب في السماء وهو اللوح المحفوظ ,
قاله ابن عباس، وجابر بن زيد. الثاني: التوراة والإنجيل فيهما
ذكر القرآن وذكر من ينزل عليه، قاله عكرمة. الثالث: أنه
الزبور. الرابع: أنه المصحف الذي في أيدينا، قاله مجاهد،
وقتادة.
(5/463)
وفي {مَّكْنُونٍ} وجهان: أحدهما: مصون ,
وهو معنى قول مجاهد. الثاني: محفوظ عن الباطل , قاله يعقوب بن
مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أن معانيه مكنونة فيه. {لاَّ يَمَسَّهُ
إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} تأويله يختلف بإختلاف الكتاب، فإن
قيل: إنه كتاب في السماء ففي تأويله قولان: أحدهما: لا يمسه في
السماء إلا الملائكة المطهرون , قاله ابن عباس , وسعيد بن
جبير. الثاني: لا ينزله إلا الرسل من الملائكة إلى الرسل من
الأنبياء , قاله زيد بن أسلم. وإن قيل إنه المصحف الذي في
أيدينا ففي تأويله ستة أقاويل: أحدها: لا يمسه بيده إلا
المطهرون من الشرك , قاله الكلبي. الثاني: إلا المطهرون من
الذنوب والخطايا قاله الربيع بن أنس. الثالث: إلا المطهرون من
الأحداث والأنجاس , قاله قتادة. الرابع: لا يجد طعم نفعه إلا
المطهرون أي المؤمنون بالقرآن، حكاه الفراء. الخامس: لا يمس
ثوابه إلا المؤمنون، رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
السادس: لا يلتمسه إلا المؤمنون، قاله ابن بحر. {أَفَبِهَذَا
الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ} يعني بهذا الحديث القرآن الذي
لا يمسه إلا المطهرون. وفي قوله مدهنون أربعة تأويلات: أحدها:
مكذبون، قاله ابن عباس. الثاني: معرضون، قاله الضحاك.
(5/464)
الثالث: ممالئون الكفار على الكفر به، قاله
مجاهد. الرابع: منافقون في التصديق به حكاه ابن عيسى، ومنه قول
الشاعر:
(لبعض الغشم أبلغ في أمور ... تنوبك من مداهنة العدو)
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُم إِنَّكُم تُكَذِّبُونَ} فيه ثلاثة
أقاويل: أحدها: أنه الإستسقاء بالأنواء وهو قول العرب مطرنا
بنوء كذا , قاله ابن عباس ورواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى
الله عليه وسلم. الثاني: الاكتساب بالسحر , قاله عكرمة.
الثالث: هو أن يجعلوا شكر الله على ما رزقهم تكذيب رسله والكفر
به , فيكون الرزق الشكر , وقد روي عن علي أن النبي صلى الله
عليه وسلم قرأ: {وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُم أَنَّكُم
تُكَذِّبُونَ}. ويحتمل رابعاً: أنه ما يأخذه الأتباع من
الرؤساء على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والصد عنه.
(5/465)
فَلَوْلَا إِذَا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ
(84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا
تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
(86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
{فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ
تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير
مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين} {فَلَوْلاَ إِن كُنْتُم
غَيْرَ مَدِينِينَ} فيه سبعة تأويلات: أحدها: غير محاسبين،
قاله ابن عباس. الثاني: غير مبعوثين، قاله الحسن. الثالث: غير
مصدقين، قاله سعيد بن جبير. الرابع: غير مقهورين، قاله ميمون
بن مهران.
(5/465)
الخامس: غير موقنين، قاله مجاهد. السادس:
غير مجزيين بأعمالكم , حكاه الطبري. السابع: غير مملوكين، قاله
الفراء. {تَرْجِعُونَهَآ} أي ترجع النفس بعد الموت إلى الجسد
إن كنتم صادقين أنكم غير مذنبين.
(5/466)
فَأَمَّا إِنْ كَانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ
نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
(90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا
إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ
مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا
لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ (96)
{فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة
نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين
وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن
هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم} {فَأَمَّآ إِن كَانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} فيهم وجهان: أحدهما: أنهم أهل الجنة ,
قاله يعقوب بن مجاهد. الثاني: أنهم السابقون , قاله أبو
العالية. {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} في
الرَّوْح ثمانية تأويلات: أحدها: الراحة , قاله ابن عباس.
الثاني: أنه الفرح , قاله ابن جبير. الثالث: أنه الرحمة , قاله
قتادة. الرابع: أنه الرخاء , قاله مجاهد. الخامس: أنه الرَوح
من الغم والراحة من العمل , لأنه ليس في الجنة غم ولا عمل ,
قاله محمد بن كعب. السادس: أنه المغفرة , قاله الضحاك. السابع:
التسليم , حكاه ابن كامل. الثامن: ما روى عبد الله بن شقيق عن
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ {فَرُوُحٌ} بضم
الراء , وفي تأويله وجهان:
(5/466)
أحدهما: بقاء روحه بعد موت جسده. الثاني:
ما قاله الفراء أن تأويله حياة لا موت بعدها في الجنة. وأما
الريحان ففيه ستة تأويلات: أحدها: أنه الإستراحة عند الموت ,
قاله ابن عباس. الثاني: الرحمة , قاله الضحاك. الثالث: أنه
الرزق , قاله ابن جبير. الرابع: أنه الخير , قاله قتادة.
الخامس: أنه الريحان المشموم يُتَلَقَّى به العبد عند الموت ,
رواه عبد الوهاب. السادس: هو أن تخرج روحه ريحانة , قال الحسن.
واختلف في محل الرَوْح على خمسة أقوال. أحدها: عند الموت.
الثاني: قبره ما بين موته وبعثه. الثالث: الجنة زيادة على
الثواب والجزاء , لأنه قرنه بذكر الجنة فاقتضى أن يكون فيها.
الرابع: أن الروح في القبر , والريحان في الجنة. الخامس: أن
الروح لقلوبهم , والريحان لنفوسهم , والجنة لأبدانهم.
{وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلاَمٌ
لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه
سلامته من الخوف وتبشيره بالسلامة. الثاني: أنه يحيا بالسلام
إكراماً , فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل: أحدها: عند
قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت , قاله الضحاك.
الثاني: عند مساءلته في القبر , يسلم عليه منكر ونكير. الثالث:
عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها.
(5/467)
سورة الحديد
مدنية في قول الجمهور، قال الكلبي هي مكية. بسم الله الرحمن
الرحيم
(5/468)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (3)
{سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز
الحكيم له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} قوله تعالى
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} في هذا
التسبيح ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أن خلق ما في السموات والأرض
يوجب تنزيهه عن الأمثال والأشباه. الثاني: تنزيه الله قولاً
مما أضاف إليه الملحدون , وهو قول الجمهور. الثالث: أنه الصلاة
, سميت تسبيحاً لما تتضمنه من التسبيح , قاله سفيان , والضحاك.
فقوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ} يعني الملائكة
وما فيهن من غيرهم وما في الأرض يعني في الحيوان والجماد , وقد
ذكرنا في تسبيح الجماد وسجوده ما أغنى عن الإعادة. {وَهُوَ
الْعَزِيزُ} في انتصاره , {الْحَكِيمُ} في تدبيره.
(5/468)
{هُوَ الأَوَّلُ وِالأخِرُ} يريد بالأول
أنه قبل كل شيء لقدمه , وبالآخر لأنه بعد كل شيء لبقائه.
{وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: الظاهر
فوق كل شيء لعلوه , والباطن إحاطته بكل شيء لقربه , قاله ابن
حيان. الثاني: أنه القاهر لما ظهر وبطن كما قال تعالى:
{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِم
فََأصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ}. الثالث: العالم بما ظهر وما بطن.
{وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٍ} يعني بالأول والآخر والظاهر
والباطن. ولأصحاب الخواطر في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: الأول في
ابتدائه بالنعم , والآخر في ختامه بالإحسان , والظاهر في إظهار
حججه للعقول , والباطن في علمه ببواطن الامور. الثاني: الأول
بكشف أحوال الآخرة حين ترغبون فيها , والآخر بكشف أحوال الدنيا
حين تزهدون فيها , والظاهر على قلوب أوليائه حين يعرفونه ,
والباطن على قلوب أعدائه حين ينكرونه. الثالث: الأول قبل كل
معلوم , والآخر بعد كل مختوم , والظاهر فوق كل مرسوم , والباطن
محيط بكل مكتوم.
(5/469)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ
وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا
يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ
النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
(6)
{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام
ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما
ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما
تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور
يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات
الصدور}
(5/469)
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} قال
مقاتل: من مطر , وقال غيره: من مطر وغير مطر. {وَمَا يَخْرُجُ
مِنْهَا} قال مقاتل: من نبات وغير نبات. {وَمَا يَنزِلُ مِنَ
السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} قال مقاتل: من الملائكة ,
وقال غيره: من ملائكة وغير ملائكة. ويحتمل وجهاً آخر: ما يلج
في الأرض من بذر، وما يخرج منها من زرع، وما ينزل من السماء من
قضاء، وما يعرج فيها من عمل، ليعلموا إحاطة علمه بهم فيما
أظهروه أو ستروه، ونفوذ قضائه فيهم بما أرادوه أو كرهوه.
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} فيه وجهان: أحدهما: علمه
معكم أينما كنتم حيث لا يخفى عليه شيء من أعمالكم , قاله
مقاتل. والثاني: قدرته معكم أينما كنتم حيث لا يعجزه شيء من
أموركم.
(5/470)
آمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ
فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ
أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ
أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ
اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا
تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ
أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
(11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى
نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ
الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
{آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم
مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير وما لكم
لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم
إن كنتم مؤمنين هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من
الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم وما لكم ألا تنفقوا
في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من
أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من
بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير من ذا
الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم يوم ترى
المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين
(5/470)
أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري
من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم}
{وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} تحتمل
هذه النفقة وجهين: أحدهما: أن تكون الزكاة المفروضة. والثاني:
أن يكون غيرها من وجوه الطاعات. وفي {ما جَعَلَكْم
مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} قولان: أحدهما: يعني مما جعلكم معمرين
فيه بالرزق , قاله مجاهد. الثاني: مما جعلكم مستخلفين فيه
بوراثتكم له عمن قبلكم , قاله الحسن. ويحتمل ثالثاً: مما جعلكم
مستخلفين على القيام بأداء حقوقه. {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} يحتمل وجهين: أحدهما: معناه ولله ملك
السموات والأرض. الثاني: أنهما راجعان إليه بانقباض من فيهما
كرجوع الميراث إلى المستحق. {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ
أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} فيه قولان: أحدهما:
لا يستوي من أسلم من قبل فتح مكة وقاتل ومن أسلم بعد فتحها
وقاتل , قاله ابن عباس , ومجاهد. الثاني: يعني من أنفق ماله في
الجهاد وقاتل , قاله قتادة. وفي هذا الفتح قولان: أحدهما: فتح
مكة , قاله زيد بن أسلم. الثاني: فتح الحديبية , قاله الشعبي ,
قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الأخر , وكانت نفقتان
إحداهما أفضل من الأخرى , كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل
من القتال والنفقة بعد ذلك. {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنَى} فيه قولان: أحدهما: أن الحسنى الحسنة , قاله
مقاتل. الثاني: الجنة , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أن الحسنى
القبول والجزاء.
(5/471)
{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرضُ اللَّه قَرْضاً
حَسَناً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن القرض الحسن هو أن يقول:
سبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أكبر،
رواه سفيان عن ابن حيان. الثاني: أنه النفقة على الأهل , قاله
زيد بن أسلم. الثالث: أنه التطوع بالعبادات , قاله الحسن.
الرابع: أنه عمل الخير , والعرب تقول لي عند فلان قرض صدق أو
قرض سوء , إذا فعل به خيراً أو شراً , ومنه قول الشاعر:
(وتجزي سلاماً من مقدم قرضها ... بما قدمت أيديهم وأزلت)
الخامس: أنه النفقة في سبيل الله , قاله مقاتل بن حيان. وفي
قوله: {حَسَناً} وجهان: أحدهما: طيبة بها نفسه , قاله مقاتل.
الثاني: محتسباً لها عند الله , قاله الكلبي , وسمي قرضاً
لاستحقاق ثوابه , قاله لبيد:
(وإذا جوزيت قرضاً فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل)
وفي تسميته {حَسَناً} وجهان: أحدهما: لصرفه في وجوه حسنة.
الثاني: لأنه لا مَنَّ فيه ولا أذى. {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} فيه
وجهان: أحدهما: فيضاعف القرض لأن جزاء الحسنة عشر أمثالها.
الثاني: فيضاعف الثواب تفضلاً بما لا نهاية له. {وَلَهُ أَجْرٌ
كَرِيمٌ} فيه أربعة أوجه: أحدها: لم يتذلل في طلبه. الثاني:
لأنه كريم الخطر. الثالث: أن صاحبه كريم. فلما سمعها أبو
الدحداح تصدق بحديقة فكان أول من تصدق بعد هذه الآية.
(5/472)
وروى سعيد بن جبير أن اليهود أتت النبي صلى
الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية، فقالوا يا محمد، أفقير ربك
يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ
الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} الآية. {يَوْمَ
تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} وفي نورهم ثلاثة أوجه: أحدها:
أنه ضياء يعطيهم الله إياه ثواباً وتكرمة , وهذا معنى قول
قتادة. الثاني: أنه هداهم الذي قضاه لهم , قاله الضحاك.
الثالث: أنه نور أعمالهم وطاعتهم. قال ابن مسعود: ونورهم على
قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم مَن نوره مثل النخلة ,
وأدناهم نوراً مَن نوره على إبهام رجله يوقد تارة ويطفأ أخرى.
وقال الضحاك: ليس أحد يعطى يوم القيامة نوراً , فإذا انتهوا
إلى الصراط أطفىء نور المنافقين , فلما رأى ذلك المؤمنون
أشفقوا أن ينطفىء نورهم كما طفىء نور المنافقين , فقالوا:
{رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}. وفي قوله: {بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ} وجهان: أحدهما: ليستضيئوا به على الصراط , قاله
الحسن. والثاني: ليكون لهم دليلاً إلى الجنة , قاله مقاتل. وفي
قوله: {بِأَيْمَانَهِم} في الصدقات والزكوات وسبل الخير.
الرابع: بإيمانهم في الدنيا وتصديقهم بالجزاء , قاله مقاتل.
قوله تعالى {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} فيه وجهان:
(5/473)
أحدهما: أن نورهم هو بشراهم بالجنات.
الثاني: هي بشرى من الملائكة يتلقونهم بها في القيامة , قاله
الضحاك.
(5/474)
يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا
انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا
وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ
لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ
قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ
مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ
حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
(14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
{يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين
آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا
فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله
العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم
وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله
الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم
النار هي مولاكم وبئس المصير} {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ} الآية. قال ابن عباس وأبو أمامة: يغشى
الناس يوم القيامة ظلمة أظنها بعد فصل القضاء , ثم يعطون نوراً
يمشون فيه. وفي النور قولان: أحدهما: يعطاه المؤمن بعد إيمانه
دون الكافر. الثاني: يعطاه المؤمن والمنافق , ثم يسلب نور
المنافق لنفاقه , قاله ابن عباس. فيقول المنافقون والمنافقات
حين غشيتهم الظلمة. {لِلَّذِينَءَامَنُواْ} حين أعطوا النور
الذي يمشون فيه: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي
انتظروا , ومنه قول عمرو بن كلثوم:
(أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا)
{قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً} فيه
قولان: أحدهما: ارجعوا إلى الموضع الي أخذنا منه النور
فالتمسوا منه نوراً. الثاني: ارجعو فاعملوا عملاً يجعل الله
بين أيديكم نوراً. ويحتمل في قائل هذا القول وجهان:
(5/474)
أحدهما: أن يقوله المؤمنون لهم. الثاني: أن
تقوله الملائكة لهم. {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ
بَابٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه حائط بين الجنة والنار ,
قاله قتادة. الثاني: أنه حجاب في الأعراف , قاله مجاهد.
الثالث: أنه سور المسجد الشرقي , [بيت المقدس] قاله عبد الله
بن عمرو بن العاص. {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ
مِن قِبلِهِ الْعَذَابُ} فيه قولان: أحدهما: أن الرحمة التي في
باطنه الجنة , والعذاب الذي في ظاهره جهنم , قاله الحسن.
الثاني: أن الرحمة التي في باطنه: المسجد وما يليه , والعذاب
الذي في ظاهره: وادي جهنم يعني بيت المقدس , قاله عبد الله بن
عمرو بن العاص. ويحتمل ثالثاً: أن الرحمة التي في باطنه نور
المؤمنين , والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين. وفيمن ضرب
بينهم وبينه بهذا السور قولان: أحدهما: أنه ضرب بينهم وبين
المؤمنين الذي التمسوا منهم نوراً , قاله الكلبي ومقاتل.
الثاني: أنه ضرب بينهم وبين النور بهذا السور حتى لا يقدروا
على التماس النور.
(5/475)
{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ}
يعني نصلي مثلما تصلون , ونغزو مثلما تغزون , ونفعل مثلما
تفعلون. {قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَكُم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ}
فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالنفاق، قاله مجاهد. الثاني:
بالمعاصي، قاله أبو سنان. الثالث: بالشهوات، رواه أبو نمير
الهمداني. {وَتَرَبَّصْتُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: بالحق
وأهله، قاله قتادة. الثاني: وتربصتم بالتوبة، قاله أبو سنان.
{وَارْتَبْتُمْ} يعني شككتم في أمر الله. {وَغَرَّتْكُمُ
الأَمَانِيُّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: خدع الشيطان , قاله
قتادة. الثاني: الدنيا , قاله ابن عباس. الثالث: سيغفر لنا ,
قاله أبو سنان. الرابع: قولهم اليوم وغداً. {حَتَّى جَآءَ
أَمْرُ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: الموت , قاله أبو سنان.
الثاني: إلقاؤهم في النار , قاله قتادة. {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ
الْغَرُوْرُ} فيه وجهان: أحدهما: الشيطان , قاله عكرمة.
الثاني: الدنيا , قاله الضحاك.
(5/476)
أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ
عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (17)
{ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر
الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل
فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون اعلموا أن
الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون}
(5/476)
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَءَامَنُواْ أَن
تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها نزلت في قوم موسى عليه
السلام قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم , قاله ابن حيان.
الثاني: في المنافقين آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، قاله
الكلبي. الثالث: أنها في المؤمنين من أمتنا، قاله ابن عباس
وابن مسعود، والقاسم بن محمد. ثم اختلف فيها على ثلاثة أقاويل:
أحدها: ما رواه أبو حازم عن عون بن عبد الله عن ابن مسعود قال:
ما كان بين أن أسلمنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين
, فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول ما أحدثنا. قال الحسن:
يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه. الثاني: ما رواه قتادة عن ابن
عباس أن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاثة
عشرة سنة , فقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَءَامَنُواْ}
الآية. الثالث: ما رواه المسعودي عن القاسم قال: مل أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم مرة فقالوا يا رسول الله حدثنا ,
فأنزل الله تعالى: {نَحنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسنَ الْقَصَصِ}
ثم ملوا مرة فقالوا: حدثنا يا رسول الله , فأنزل الله {أَلَمْ
يَأنِ لِلَّذِينَءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ}. قال شداد بن أوس: كان يروى لنا عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: (أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ
الخُشُوعُ).
(5/477)
ومعنى قوله: {أَلَمْ يَأْنِ} ألم يحن , قال
الشاعر:
(ألم يأن لي يا قلب أن اترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المبين
لنا عقلا)
وفي {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكْر اللَّهِ} ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن تلين قلوبهم لذكر الله. الثاني: أن تذل قلوبهم من
خشية الله. الثالث: أن تجزع قلوبهم من خوف الله. وفي ذكر الله
ها هنا وجهان: أحدهما: أنه القرآن , قاله مقاتل. الثاني: أنه
حقوق الله , وهو محتمل. {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} فيه
ثلاثة أوجه: أحدها: القرآن , قاله مقاتل. الثاني: الحلال
والحرام , قاله الكلبي. الثالث: يحتمل أن يكون ما أنزل من
البينات والهدى. {اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها} فيه
ثلاثة أوجه: أحدها: يلين القلوب بعد قسوتها , قاله صالح المري.
الثاني: يحتمل أنه يصلح الفساد. الثالث: أنه مثل ضربه لإحياء
الموتى. روى وكيع عن أبي رزين قال: قلت يا رسول الله كيف يحيى
الله الأرض بعد موتها؟ فقال: (يَا أَبَا رُزَينَ أَمَا
مَرَرْتَ بِوَادٍ مُمْحَلٍ ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ
خَضْرَةً؟ قال: بلى , قَالَ كَذَلِكَ يُحْيي اللَّهُ
المَوتَى).
(5/478)
إِنَّ
الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
(18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ
الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
{إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا
حسنا يضاعف لهم ولهم
(5/478)
أجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك
هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا
وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ
وَالْمُصَّدِّقَاتِ} فيه وجهان: أحدهما: المصدقين لله ورسوله.
الثاني: المتصدقين بأموالهم في طاعة الله.
{وَالَّذِينَءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَوْلَئِكَ هُمُ
الصِّدِّيقُونَ} أي المؤمنون بتصديق الله ورسله.
{وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
وَنُورُهُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن الذين آمنوا بالله ورسله
هم الصديقون وهم الشهداء عند ربهم , قاله زيد بن أسلم. الثاني:
أن قوله: {أَوْلئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} كلام تام. وقوله:
{وَالشُّهَدَآءُ عِنَدَ رَبِّهِمْ} كلام مبتدأ وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب , قاله
الكلبي. الثاني: أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة. وفيما
يشهدون به قولان: أحدهما يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة
ومعصية، وهذا معنى قول مجاهد. الثاني: يشهدون لأنبيائهم بتبليغ
الرسالة إلى أممهم، قاله الكلبي. وقال مقاتل قولاً ثالثاً:
أنهم القتلى في سبيل الله لهم أجرهم عند ربهم يعني ثواب
أعمالهم. {وَنُورُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: نورهم على الصراط.
الثاني: إيمانهم في الدنيا , حكاه الكلبي.
(5/479)
اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (21)
{اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة
وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار
نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد
ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت
للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو
الفضل العظيم} {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيا
لَعِبٌ وَلَهْوٌ} فيه وجهان: أحدهما: أكل وشرب , قاله قتادة.
الثاني: أنه على المعهود من اسمه , قال مجاهد: كل لعب لهو.
ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن اللعب ما رغَّب في الدنيا، واللهو
ما ألهى عن الآخرة. ويحتمل رابعاً: أن اللعب الاقتناء، واللهو
النساء. {وَزِينَةٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الدنيا زينة
فانية. الثاني: أنه كل ما بوشر فيها لغير طاعة. {وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالخلقة والقوة. الثاني:
بالأنساب على عادة العرب في التنافس بالآباء. {وَتَكَاثُرٌ فِي
الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ} لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر
بالأموال والأولاد , وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعات. ثم
ضرب لهم مثلاً بالزرع {كَمَثَلٍ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَبَاتُهُ ثُمََّ يَهِيْجُ} بعد خضرة. {فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً
ثُمَّ حُطَاماً} بالرياح الحطمة , فيذهب بعد حسنه , كذلك دنيا
الكافر. {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَبِّكُمْ} فيه
أربعة أوجه:
(5/480)
أحدها: النبي صلى الله عليه وسلم , قاله
أبو سعيد. الثاني: الصف الأول , قاله رباح بن عبيد. الثالث:
إلى التكبيرة الأولى مع الإمام , قاله مكحول. الرابع: إلى
التوبة: قاله الكلبي. {وَجَنَةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ
السَّمَآءِ} ترغيباً في سعتها , واقتصر على ذكر العرض دون
الطول لما في العرض من الدلالة على الطول , ولأن من عادة العرب
أن تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله , قال الشاعر:
(كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب حلقة خاتم.)
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مِن يَشَآءُ} فيه وجهان:
أحدهما: الجنة , قاله الضحاك. الثاني: الدين، قاله ابن عباس.
وفي {مَن يَشَآءُ} قولان: أحدهما: من المؤمنين , إن قيل إن
الفضل الجنة. الثاني: من جيمع الخلق , إن قيل إنه الدين.
(5/481)
مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي
كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ
مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم
إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا
تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل
مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن
الله هو الغني الحميد} {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي
الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: الجوائح في الزرع والثمار.
الثاني: القحط والغلاء. {وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ} فيه أربعة
أوجه: أحدها: في الدين , قاله ابن عباس.
(5/481)
الثاني: الأمراض والأوصاب، قاله قتادة.
الثالث: إقامة الحدود، قاله ابن حبان. الرابع: ضيق المعاش ,
وهذا معنى رواية ابن جريج. {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} يعني اللوح
المحفوظ. {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} قال سعيد بن جبير: من
قبل أن نخلق المصائب ونقضيها. {لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا
فَاتَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: من الرزق الذي لم يقدر لكم ,
قاله ابن عباس , والضحاك. الثاني: من العافية والخصب الذي لم
يقض لكم , قاله ابن جبير. {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآءَاتَاكُمْ}
فيه وجهان: أحدهما: من الدنيا , قاله ابن عباس. الثاني: من
العافية والخصب , وهذا مقتضى قول ابن جبير. وروى عكرمة عن ابن
عباس في قوله: {لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآءَاتَاكُمْ} قال: ليس أحد إلا وهو يحزن
ويفرح , ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً، والخير شكراً.
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}
فيه خمسة تأويلات: أحدها: الذين يبخلون يعني بالعلم، ويأمرون
الناس بالبخل بألا يعلموا الناس شيئاً، قاله ابن جبير. الثاني:
أنهم اليهود بخلوا بما في التوارة من ذكر محمد صلى الله عليه
وسلم , قاله الكلبي , والسدي. الثالث: أنه البخل بأداء حق الله
من أموالهم , قاله زيد بن أسلم. الرابع: أنه البخل بالصدقة
والحقوق , قاله عامر بن عبد الله الأشعري. الخامس: أنه البخل
بما في يديه، قال طاووس. وفرق أصحاب الخواطر بين البخيل والسخي
بفرقين: أحدهما: أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك , والسخي الذي
يلتذ بالعطاء.
(5/482)
الثاني: أن البخيل الذي يعطي عند السؤال ,
والسخي الذي يعطي بغير سؤال.
(5/483)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم
الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس
شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله
قوي عزيز} {وَأنزَلْنَا الْحَدِيدَ} فيه قولان: أحدهما: أن
الله أنزله مع آدم. روى عكرمة عن ابن عباس قال: ثلاث أشياء
نزلت مع آدم: الحجر الأسود , كان أشد بياضاً من الثلج , وعصا
موسى وكانت من آس الجنة , طولها عشرة أذرع مثل طول موسى ,
والحديد , أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان والكلبتان والميقعة
وهي المطرقة. الثاني: أنه من الأرض غير منزل من السماء , فيكون
معنى قوله: {وَأَنزَلْنَا} محمولاً على أحد وجهين: أحدهما: أي
أظهرناه. الثاني: لأن أصله من الماء المنزل من السماء فينعقد
في الأرض جوهره حتى يصير بالسبك حديداً. {فِيهِ بَأْسٌ
شَدِيدٌ} فيه وجهان: أحدهما: لأن بسلاحه وآلته تكون الحرب التي
هي بأس شديد. الثاني: لأن فيه من خشية القتل خوفاً شديداً.
{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما تدفعه عنهم
دروع الحديد من الأذى وتوصلهم إلى الحرب والنصر. الثاني: ما
يكف عنهم من المكروه بالخوف عنه. وقال قطرب: البأس السلاح ,
والمنفعة الآلة.
(5/483)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ
بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً
ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ
رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا
فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
{ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في
ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا
على آثارهم برسلنا
(5/483)
وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل
وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما
كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها
فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون} {. .
وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رأْفَةً
وَرَحْمَةً} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الرأفة اللين، والرحمة
الشفقة. الثاني: أن الرأفة تخفيف الكل , والرحمة تحمل الثقل.
{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} فيه قراءتان: إحداهما: بفتح
الراء وهي الخوف من الرهب. الثانية: بضم الراء وهي منسوبة إلى
الرهبان ومعناه أنهم ابتدعوا رهبانية ابتدؤوها. وسبب ذلك ما
حكاه الضحاك: [أنهم] بعد عيسى ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة
فأنكرها عليهم من كان على منهاج عيسى فقتلوهم , فقال قوم بقوا
بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا , فليس يسعنا المقام بينهم ,
فاعتزلوا النساء واتخذوا الصوامع , فكان هذا ما ابتدعوه من
الرهبانية التي لم يفعلها من تقدمهم وإن كانوا فيها محسنين.
{مَا كتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي لم تكتب عليهم وفيها ثلاثة
أوجه: أحدها: أنها رفض النساء واتخاذ الصوامع , قاله قتادة.
الثاني: أنها لحوقهم بالجبال ولزومهم البراري , وروي فيه خبر
مرفوع. الثالث: أنها الانقطاع عن الناس والانفراد بالعبادة.
(5/484)
وفي الرأفة والرحمة التي جعلها في قلوبهم
وجهان: [الأول]: أنه جعلها في قلوبهم بالأمر بها والترغيب
فيها. الثاني: جعلها بأن خلقها فيهم وقد مدحوا بالتعريض بها.
{مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رَضْوَانِ
اللَّهِ} أي لم تكتب عليهم قبل ابتداعها ولا كتبت بعد ذلك
عليهم. الثاني: أنهم تطوعوا بها بابتداعها , ثم كتبت بعد ذلك
عليهم , قاله الحسن. {فَمَا رَعَوْهَا حِقَّ رِعَايَتِهَا} فيه
وجهان: أحدهما: أنهم ما رعوها لتكذيبهم بمحمد. الثاني: بتبديل
دينهم وتغييرهم فيه قبل مبعث الرسول الله صلى الله عليه وسلم ,
قاله عطية العوفي.
(5/485)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا
برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر
لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء
من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل
العظيم} {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ
وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ} معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى
وعيسى آمنوا بمحمد. {يُؤْتِكُم كِفْلَينِ مِن رَّحْمَتِهِ} فيه
وجهان: أحدهما: أن أحد الأجرين لإيمانهم بمن تقدم من الأنبياء
, والآخر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس.
الثاني: أن أحدهما: أجر الدنيا , والآخر أجر الآخرة، قاله ابن
زيد. ويحتمل ثالثاً: أن أحدهما أجر اجتناب المعاصي، والثاني
أجر فعل الطاعات.
(5/485)
ويحتمل رابعاً: أن أحدهما أجر القيام بحقوق
الله والثاني أجر القيام بحقوق العباد. {وَيَجْعَلَ لَّكُمْ
نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} فيه قولان: أحدهما: أنه القرآن , قاله
ابن عباس. الثاني: أنه الهدى , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أنه
الدين المتبوع في مصالح الدنيا وثواب الآخرة. وقد روى أبو
بريدة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَينِ:
رَجُلٌ آمَنَ بِالكِتَابِ الأَوَّلِ وَالْكِتَابِ الآخِرِ ,
وَرَجُلٌ كَانَتْ لَه أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا وَأَحْسَنَ
تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا , وَعَبْدٌ
مَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لَسَيِّدِهِ).
{لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} قال الأخفش: معناه
ليعلم أهل الكتاب وأن (لا) صلة زائدة وقال الفراء: لأنْ لا
يعلم أهل الكتاب و (لا) صلة زائدة في كلام دخل عليه جحد.
{أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} فيه
وجهان: أحدهما: من دين الله وهو الإسلام قاله مقاتل. الثاني:
من رزق الله , قاله الكلبي. وفيه ثالث: أن الفضل نعم الله التي
لا تحصى.
(5/486)
|