تفسير الماوردي
النكت والعيون سورة المجادلة
مدنية في قول الجميع إلا رواية عن عطاء أن العشر الأول منها
مدني وباقيها مكي. وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله
تعالى: {وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} نزلت بمكة. بسم
الله الرحمن الرحيم
(5/487)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى
اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها
وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} قوله
تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} وهي خولة بنت
ثعلبة , وقيل بنت خويلد , وليس هذا بمختلف لأن أحدهما أبوها
والآخر جدها , فنسبت إلى كل واحد منهما. وزوجها أوس بن الصامت.
قال عروة: وكان امرأً به لمم فأصابه بعض لممه فظاهر من امرأته
, فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في ذلك. {وتشتكي
إلى الله} فيه وجهان: أحدهما: تستغيث بالله. والثاني: تسترحم
الله. وروى الحسن أنها قالت: يا رسول الله قد نسخ الله سنن
الجاهلية وإن زوجي
(5/487)
ظاهر مني، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (ما أوحي إليّ في هذا شيء) فقالت: يا رسول الله أوحي
إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟ فقال: (هو ما قلت لك) فقالت: إلى
الله أشكو لا إلى رسوله , فأنزل الله تعالى: {قد سمع الله قول
التي تجادلك} الآية. وقرأ ابن مسعود: {قَد سَّمِعَ}. قالت
عائشة: تبارك الله الذي أوعى سمعه كل شيء , سمع كلام خولة بنت
ثعلبة وأنا في ناحية البيت ما أسمع بعض ما تقول , وهي تقول: يا
رسول الله أكل شبابي وانقطع ولدي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت
سني ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك , فما برحت حتى نزل جبريل
بهذه الآية. {والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير}
والمحاورة مراجعة الكلام , قال عنترة:
(لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام
مكلمي.)
{الذين يظاهرون منكم من نسائهم} الظهار قول الرجل لامرأته. أنت
عليّ كظهر أمي , سمي ظهاراً لأنه قصد تحريم ظهرها عليه , وقيل:
لأنه قد جعلها عليه كظهر أمه , وقد كان في الجاهلية طلاقاً
ثلاثاً لا رجعة فيه ولا إباحة بعده فنسخه الله إلى ما استقر
عليه الشرع من وجوب الكفارة فيه بالعود.
(5/488)
الَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ
أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي
وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ
الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ
لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
{الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن
أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من
القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم
يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به
والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل
أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك
(5/488)
لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله
وللكافرين عذاب أليم} ثم قال: {. . ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم
إلا اللائي ولدنهم} تكذيباً من الله تعالى لقول الرجل لامرأته:
أنت علي كظهر أمي. {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً}
يعني بمنكر القول الظاهر , وبالزور كذبهم في جعل الزوجات
أمهات.
(5/489)
إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا
أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى
ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ
سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا
هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا
عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (7)
{إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما
كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين
يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه
والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما
في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو
سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم
ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} {إن الذين
يحادُّون الله ورسوله} فيه وجهان: أحدهما: يعادون الله ورسوله
, قاله مجاهد. الثاني: يخالفون الله ورسوله , قاله الكلبي. وفي
أصل المحادة وجهان: أحدهما: أن تكون في حد يخالف حد صاحبك ,
قاله الزجاج. الثاني: أنه مأخوذ من الحديد المعد للمحادة.
{كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} فيه أربعة أوجه: أحدها:
[أخزوا] كما أخزي الذين من قبلهم , قاله قتادة. الثاني: معناه
أهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم , قاله الأخفش وأبو عبيدة.
الثالث: لعنوا كما لعن الذين من قبلهم , قاله السدي , وقيل هي
بلغة مذحج.
(5/489)
الرابع: ردوا مقهورين.
(5/490)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا
لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ
لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ
جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ
وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ
الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ
بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
{ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم
يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول
وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا
يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير يا أيها
الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية
الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون
إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا
إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} {ألم تر إلى الذين
نهوا عن النجوى} النجوى السرار , ومن ذلك قول جرير:
(من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرت بنجواهم لؤي بن
غالب)
والنجوى مأخوذة من النجوة وهي ما له ارتفاع وبعد , لبعد
الحاضرين عنه، وفيها وجهان: أحدهما: أن كل سرار نجوى , قاله
ابن عيسى. الثاني: أن السرار ما كان بن اثنين , والنجوى ما كان
بين ثلاثة، حكاه سراقة. وفي المنهي عنه ثلاثة أقاويل: أحدها:
أنهم اليهود، كانوا يتناجون بما بين المسلمين، فنهوا عن ذلك،
قاله مجاهد. الثاني: أنهم المنافقون، قاله الكلبي. الثالث:
أنهم المسلمون. روى أبو سعيد الخدري قال: كنا ذات ليلة نتحدث
إذ خرج علينا رسول الله
(5/490)
صلى الله عليه وسلم فقال: (ما هذه النجوى
ألم تنهوا عن النجوى). فقلنا تبنا إلى الله يا رسول الله إنا
كنا في ذكر المسيح يعني الدَّجال فرَقاً منه , فقال: (ألا
أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟ قالوا: بلى يا رسول الله ,
قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان الرجل). {وإذا
جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله} كانت اليهود إذا دخلت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: السام عليك , وكان النبي
صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول: {وعليكم} ويروى أن عائشة
حين سمعت ذلك منهم قالت: وعليكم السام والذام , فقال عليه
السلام: (إن الله لا يحب الفحش والتفحش). وفي السام الذي
أرادوه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الموت، قاله ابن زيد. الثاني:
أنه السيف. الثالث: أنهم أرادوا بذلك أنكم ستسأمون دينكم ,
قاله الحسن , وكذا من قال هو الموت لأنه يسأم الحياة. وحكى
الكلبي أن اليهود كانوا إذا رد النبي صلى الله عليه وسلم جواب
سلامهم قالوا: لو كان هذا نبياً لاستجيب له فينا قوله وعليكم ,
يعني السام وهو الموت وليس بنا سامة وليس في أجسادنا فترة،
فنزلت فيهم {ويقولون في أنفسهم ولولا يعذبنا الله بما نقول}
الآية. وفي قوله تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين
ءامنوا} وجهان: أحدهما: ما كان يتناجى به اليهود والمنافقون من
الأراجيف بالمسلمين. الثاني: أنها الأحلام التي يراها الإنسان
في منامه فتحزنه.
(5/491)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي
الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا
قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
{يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا
في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله
بما تعملون خبير} {يَأيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا في
المجالس. .} فيه أربعة أوجه: أحدها: مجلس النبي صلى الله عليه
وسلم خاصة إذا جلس فيه قوم تشاحوا بأمكنتهم على من يدخل عليهم
أن يؤثروه بها أو يفسحوا له فيها , فأمروا بذلك قاله مجاهد.
الثاني: أنه في مجالس صلاة الجمعة , قاله مقاتل. الثالث: أنها
في مجالس الذكر كلها , قاله قتادة. الرابع: أن ذلك في الحرب
والقتال , قاله الحسن. { ... وإذا قيل انشزوا فانشزوا} فيه
أربعة تأويلات: أحدها: معناه وإذا قيل لكم انهضوا إلى القتال
فانهضوا , قاله الحسن. الثاني: إذا دعيتم إلى الخير فأجيبوا ,
قاله قتادة. الثالث: إذا نودي للصلاة فاسعوا إليها , قاله
مقاتل بن حيان. الرابع: أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم هو الآخر عهداً
به , فأمرهم الله أن ينشزوا إذا قيل لهم انشزوا , قاله ابن
زيد. ومعنى {تفسحوا} توسعوا. وفي {انشزوا} وجهان: أحدهما:
معناه قوموا , قاله ابن قتيبة. الثاني: ارتفعوا , مأخوذ من نشز
الأرض وهو ارتفاعها. وفيما أمروا أن ينشزوا إليه ثلاثة أوجه:
أحدها: إلى الصلاة , قاله الضحاك. الثاني: إلى الغزو , قاله
مجاهد. الثالث: إلى كل خير , قاله قتادة. {يرفع الله الذين
ءامنوا منكم} يعني بإيمانه على من ليس بمنزلته في الإيمان.
{والذين أوتوا العلم درجات} على من ليس بعالم.
(5/492)
ويحتمل هذا وجهين: أحدهما: أن يكون إخباراً
عن حالهم عند الله في الآخرة. الثاني: أن يكون أمراً يرفعهم في
المجالس التي تقدم ذكرها لترتيب الناس فيها بحسب فضائلهم في
الدين والعلم.
(5/493)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ (13)
{يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول
فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا
فإن الله غفور رحيم أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات
فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون} {يأيها الذين
ءامنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} اختلف
في سببها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المنافقين كانا يناجون
النبي صلى الله عليه وسلم بما لا حاجة لهم به , فأمرهم الله
بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن النجوى , قاله ابن زيد. الثاني:
أنه كان قوم من المسلمين يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم
ويناجونه فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى،
فشق عليهم ذلك، فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم
عن استخلائه، قاله الحسن. الثالث: قاله ابن عباس وذلك أن
المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
شقوا عليه , فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما قال ذلك كف كثير
من الناس عن المسألة. وقال مجاهد: لم يناجه إلا عليٌّ قدّم
ديناراً فتصدق به , فسأله عن عشر خصال , ثم نزلت الرخصة.
{ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} قال علي: ما عمل بها
أحد غيري حتى نسخت , وأحسبه [قال] وما كانت إلا ساعة , وقال
ابن حبان: كان ذلك ليالي عشراً. وقال ابن سليمان: ناجاه عليّ
بدينار باعه بعشرة دراهم في عشر كلمات كل
(5/493)
كلمة بدرهم. وناجاه آخر من الأنصار بآصع
وكلمه كلمات , ثم نسخت بما بعدها.
(5/494)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا
هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ
كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى
شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ
أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
{ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله
عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد
الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم
جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم
ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم
على شيء ألا إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم
ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}
{ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم} يعني المنافقين
تولوا قوماً غضب الله عليهم هم اليهود. {ما هم منكم} لأجل
نفاقهم. {ولا منهم} لخروجهم بيهوديتهم. {ويحلفون على الكذب}
أنهم لم ينافقوا. {وهم يعلمون} أنهم منافقون. {اتخذوا أيمانهم
جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين} فيه قولان: أحدهما:
قاله السدي. الثاني: عن سبيل الله في قتلهم بالكفر لما أظهروه
من النفاق. ويحتمل ثالثاً: صدوا عن الجهاد ممايلة لليهود.
{استحوذ عليهم الشيطان} فيه قولان: أحدهما: قوي عليهم. الثاني:
أحاط بهم , قاله المفضل. وفيه ثالث: أنه غلب واستولى عليهم في
الدنيا.
(5/494)
{فأنساهم ذكر الله} يحتمل ذكر الله ها هنا
وجهين: أحدهما: أوامره في العمل بطاعته. الثاني: زواجره في
النهي عن معصيته. ويحتمل ما أنساهم من ذكره وجهين: أحدهما:
بالغفلة عنها. الثاني: بالشرك بها.
(5/495)
إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ
(20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا
إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
{إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في
الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز لا تجد
قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو
كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في
قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله
ألا إن حزب الله هم المفلحون} {لا تجد قوماً يؤمنون بالله
واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: من حارب الله ورسوله , قاله قتادة والفراء. الثاني: من
خالف الله ورسوله , قاله الكلبي. الثالث: من عادى الله ورسوله
, قاله مقاتل. {ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو
عشيرتهم} اختلف فيمن نزلت هذه الآية فيه على ثلاثة أقاويل:
أحدها: ما قاله ابن شوذب: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن
الجراح قتل أباه الجراح يوم بدر , جعل يتصدى له , وجعل أبو
عبيدة يحيد عنه , فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله.
(5/495)
وروى سعيد بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب
أنه قال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخاره , قال سعيد: وفيه
نزلت هذه الآية. وفيه وجهان: أحدهما: أنه خارج مخرج النهي
للذين آمنوا أن يوادوا من حادّ الله ورسوله. الثاني: أنه خارج
مخرج الصفة لهم والمدح بأنهم لا يوادون من حادّ الله ورسوله ,
وكان هذا مدحاً. {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} فيه أربعة
أوجه: أحدها: معناه جعل في قلوبهم الإيمان وأثبته , قال السدي
, فصار كالمكتوب. الثاني: كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم
الإيمان. الثالث: حكم لقلوبهم بالإيمان. الرابع: أنه جعل في
قلوبهم سمة للإيمان على أنهم من أهل الإيمان , حكاه ابن عيسى.
{وأيدهم بروح منه} فيه خمسة أوجه: أحدها: أعانهم برحمته , قاله
السدي. الثاني: أيدهم بنصره حتى ظفروا. الثالث: رغبهم في
القرآن حتى ءامنوا. الرابع: قواهم بنور الهدى حتى صبروا.
الخامس: قواهم بجبريل يوم بدر. {رضي الله عنهم} يعني في الدنيا
بطاعتهم. {ورضوا عنه} فيه وجهان: أحدهما: رضوا عنه في الآخرة
بالثواب. الثاني: رضوا عنه في الدنيا بما قضاه عليهم فلم
يكرهوه. {أولئك حزب الله} فيهم وجهان:
(5/496)
أحدهما: انهم من عصبة الله فلا تأخذهم لومة
لائم. الثاني: أنهم أنصار حقه ورعاة خلقه وهو محتمل. القول
الثاني: ما روى ابن جريج أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق
وقد سمع أباه أبا قحافة يسب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو
بكر صكة فسقط على وجهه , فقال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ,
فقال: (أو فعلته؟ لا تعد إليه يا أبا بكر). فقال والله لو كان
السيف قريباً مني لضربته به، فنزلت هذه الآية. القول الثالث:
ما حكى الكلبي ومقاتل أن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة
وقد كتب إلى أهل مكة ينذرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه
وسلم إليهم عام الفتح.
(5/497)
سورة الحشر
بسم الله الرحمن الرحيم
(5/498)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا
ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ
لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ
لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ
النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
(4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا
قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ
الْفَاسِقِينَ (5)
{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو
العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من
ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم
حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم
الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي
الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم
في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق
الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة
على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} قوله تعالى: {هو الذي
أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب} يعني يهود بني النضير. {من
ديارهم} يعني من منازلهم. {لأول الحشر} أجلاهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعد رجوعه من أُحد إلى أذرعات
(5/498)
الشام، وأعطى كل ثلاثة بعيراً يحملون عليه
ما استقل إلا السلاح، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم
حين هاجر إلى المدينة أن لا يقاتلوا معه ولا عليه , فكفوا يوم
بدر لظهور المسلمين , وأعانوا المشركين يوم أحد حين رأوا
ظهورهم على المسلمين , فقتل رئيسهم كعب بن الأشرف , قتله محمد
بن مسلمة غيلة. ثم سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فحاصرهم ثلاثاً وعشرين ليلة محارباً حتى أجلاهم عن المدينة. في
قوله: {لأول الحشر} ثلاثة أوجه: أحدها: لأنهم أول من أجلاه
النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود , قاله ابن حبان. الثاني:
لأنه اول حشرهم , لأنهم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر في
القيامة , قاله الحسن. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
لما أجلى بني النضير قال لهم (امضوا فهذا أول الحشر وأنا على
الأثر.) الثالث: أنه أول حشرهم لما ذكره قتادة أنه يأتي عليهم
بعد ذلك من مشرق الشمس نار تحشرهم إلى مغربها تبيت معهم إذ
باتوا [وتقيل معهم حيث قالوا] وتأكل منهم من تخلف. {ما ظننتم
أن يخرجوا} يعني من ديارهم لقوتهم وامتناعهم. {وظنوا أنهم
مانعتهم حصونهم من الله} أي من أمر الله. {فأتاهم الله من حيث
لم يحتسبوا} فيه وجهان: أحدهما: لم يحتسبوا بأمر الله. الثاني:
قاله ابن جبير والسدي: من حيث لم يحتسبوا بقتل ابن الأشرف.
{وقذف في قلوبهم الرعب} فيه وجهان: أحدهما: لخوفهم من رسول
الله. الثاني: بقتل كعب بن الأشرف. {يخربون بيوتهم بأيديهم
وأيدي المؤمنين} فيه خمسة أوجه: أحدها: بأيديهم بنقض الموادعة،
وأيدي المؤمنين بالمقاتلة، قاله الزهري.
(5/499)
الثاني: بأيديهم في تركها، وأيدي المؤمنين
في إجلائهم عنها، قاله أبو عمرو ابن العلاء. الثالث: بأيديهم
في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذها المسلمون , وبأيدي
المؤمنين في إخراب ظواهرها ليصلوا بذلك إليهم. قال عكرمة: كانت
منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها فخربوها من داخل ,
وخربها المسلمون من خارج. الرابع: معناه: أنهم كانوا كلما هدم
المسلمون عليهم من حصونهم شيئاً نقضوا من بيوتهم ما يبنون به
من حصونهم , قاله الضحاك. الخامس: أن تخريبهم بيوتهم أنهم لما
صولحوا على حمل ما أقلته إبلهم جعلوا ينقضون ما أعجبهم من
بيوتهم حتى الأوتار ليحملوها على إبلهم , قاله عروة بن الزبير
, وابن زيد. وفي قوله: {يخربون} قراءتان: بالتخفيف , وبالتشديد
, وفيهما وجهان: أحدهما: أن معناهما واحد وليس بينهما فرق.
الثاني: أن معناهما مختلف. وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن
من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بأفعالهم , ومن قرأ بالتخفيف
أراد إخرابها بفعل غيرهم قاله أبو عمرو. الثاني: أن من قرأ
بالتشديد أراد إخرابها بهدمهم لها. وبالتخفيف أراد فراغها
بخروجهم عنها , قاله الفراء. ولمن تعمق بغوامض المعاني في
تأويل ذلك وجهان: أحدهما: يخربون بيوتهم أي يبطلون أعمالهم
بأيديهم , يعني باتباع البدع , وأيدي المؤمنين في مخالفتهم.
{ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء} فيه وجهان: أحدهما: يعني
بالجلاء الفناء {لعذبهم في الدنيا} بالسبي.
(5/500)
والثاني: يعني بالجلاء الإخراج عن منازلهم
{لعذبهم في الدنيا} يعني بالقتل , قاله عروة. والفرق بين
الجلاء والإخراج - وإن كان معناهما في الإبعاد واحد - من
وجهين: أحدهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد , والإخراج
قد يكون مع بقاء الأهل والولد. الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا
لجماعة , والإخراج يكون لجماعة ولواحد. {ما قطعتم من لينة أو
تكرتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} وذلك أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير وهي البويرة حين نقضوا
العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد قطع المسلمون من نخلهم وأحرقوا
ست نخلات , وحكى محمد بن إسحاق أنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة ,
وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره ,
إما لإضعافهم بها أو لسعة المكان بقطعها , فشق ذلك عليهم
فقالوا وهم يهود أهل كتاب: يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد
الإصلاح؟ أفمن الصلاح حرق الشجر وقطع النخل؟ وقال شاعرهم سماك
اليهودي:
(ألسنا ورثنا كتاب الحكيم ... على عهد موسى ولم نصدف)
(وأنتم رعاء لشاء عجاف ... بسهل تهامة والأخيف)
(ترون الرعاية مجداً لكم ... لدي كل دهر لكم مجحف)
(فيا أيها الشاهدون انتهوا ... عن الظلم والمنطق المؤنف)
(لعل الليالي وصرف الدهور ... يدلن عن العادل المنصف)
(بقتل النضير وإجلائها ... وعقر النخيل ولم تقطف)
فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه:
(هم أوتوا الكتاب فضيعوه ... وهم عمي عن التوارة يور)
(كفرتم بالقرآن وقد أتيتم ... بتصديق الذي قال النذير)
(وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير)
(5/501)
ثم إن المسلمين جل في صدورهم ما فعلوه ,
فقال بعضهم: هذا فساد , وقال آخرون منهم عمر بن الخطاب: هذا
مما يجزي الله به أعداءه وينصر أولياءه فقالوا يا رسول الله هل
لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فشق ذلك
على النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله تعالى: {وما قطعتم
من لينة} الآية. وفيه دليل على أن كل مجتهد مصيب. وفي اللينة
خمسة أقاويل: أحدها: النخلة من أي الأصناف كانت , قاله ابن
حبان. الثاني: أنها كرام النخل , قاله سفيان. الثالث: أنها
العجوة خاصة , قاله جعفر بن محمد وذكر أن العتيق والعجوة كانا
مع نوح في السفينة، والعتيق الفحل، وكانت العجوة أصل الإناث
كلها ولذلك شق على اليهود قطعها. الرابع: أن اللينة الفسيلة
لأنها ألين من النخلة , ومنه قول الشاعر:
(غرسوا لينها بمجرى معين ... ثم حفوا النخيل بالآجام)
الخامس: أن اللينة جميع الأشجار للينها بالحياة , ومنه قول ذي
الرمة:
(طراق الخوافي واقع فوق لينة ... ندى ليلة في ريشه يترقرق)
قال الأخفش: سميت لينة اشتقاقاً من اللون لا من اللين.
(5/502)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً
بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
{وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم
عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله
على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا
يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم
عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب}
(5/502)
{وما أفاء الله على رسوله منهم} يعني ما
رده اللَّه على رسوله من أموال بني النضير. {فما أوجفتم عليه
من خيل ولا ركاب} والإيجاف الإيضاع في السير وهو الإسراع ,
والركاب: الإبل , وفيهما يقول نصيب:
(ألارب ركب قد قطعت وجيفهم ... إليك ولولا أنت لم توجف الركب)
{ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} ذلك أن مال الفيء هو
المأخوذ من المشركين بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب , فجعل
الله لرسوله أن يضعه حيث يشاء لأنه واصل بتسليط الرسول عليهم
لا بمحاربتهم وقهرهم. فجعل الله ذلك طعمة لرسوله خالصاً دون
الناس , فقسمه في المهاجرين إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة فإنهما
ذكرا فقراً فأعطاهما. {كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم} يقال
دولة بالضم وبالفتح وقرىء بهما , وفيهما قولان: أحدهما: أنهما
واحد , قاله يونس , والأصمعي. الثاني: أن بينهما فرقاً , وفيه
أربعة أوجه:
(5/503)
أحدها: أنه بالفتح الظفر في الحرب , وبالضم
الغنى عن فقر , قاله أبو عمرو ابن العلاء. الثاني: أنه بالفتح
في الأيام , وبالضم في الأموال , قاله عبيدة. الثالث: أن
بالفتح ما كان كالمستقر , وبالضم ما كان كالمستعار , حكاه ابن
كامل. الرابع: أنه بالفتح الطعن في الحرب , وبالضم أيام الملك
وأيام السنين التي تتغير , قاله الفراء , قال حسان:
(ولقد نلتم ونلنا منكم ... وكذاك الحرب أحياناً دول)
{وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فيه أربعة
أوجه: أحدها: يعني ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه , وما منعكم
منه فلا تطلبوه , قاله السدي. الثاني: ما آتاكم الله من مال
الغنيمة فخذوه , وما نهاكم عنه من الغلو فلا تفعلوه , قاله
الحسن. الثالث: وما آتاكم من طاعتي فافعلوه , وما نهاكم عنه من
معصيتي فاجتنبوه , قاله ابن جريج. الرابع: أنه محمول على
العموم في جميع أوامره ونواهيه لأنه لا يأمر إلا بصلاح ولا
ينهى إلا عن فساد. وحكى الكلبي أنها نزلت في رؤساء المسلمين
قالوا فيما ظهر عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أموال
المشركين , يا رسول الله صفيك والربع ودعنا والباقي فهكذا كنا
نفعل في الجاهلية وأنشدوه:
(لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول.)
فأنزل الله هذه الآية.
(5/504)
لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا
غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
(10)
{للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم
وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله
أولئك هم الصادقون والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم
يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك
هم المفلحون والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين
آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}
(5/504)
{للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم
وأموالهم} يعني بالمهاجرين من هاجر عن وطنه من المسليمن إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار هجرته وهي المدينة خوفاً
من أذى قومه ورغبة في نصرة نبيّه فهم المقدمون في الإسلام على
جميع أهله. {يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} يعني فضلاً من
عطاء الله في الدنيا , ورضواناً من ثوابه في الآخرة. ويحتمل
وجهاً ثانياً: أن الفضل الكفاية , والرضوان القناعة. وروى علي
بن رباح اللخمي أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال: من أراد
أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت , ومن أراد أن يسأل عن
الفقة فليأت معاذ بن جبل , ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني
فإن الله تعالى جعلني خازناً وقاسماً , إني بادىء بأزواج النبي
صلى الله عليه وسلم فمعطيهن , ثم بالمهاجرين الأولين أنا
وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا. قال قتادة: لأنهم
اختاروا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما كانت من شدة ,
حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب على بطنه الحجر ليقيم صلبه من
الجوع , وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها.
{والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم} ويكون على التقديم
والتأخير ومعناه تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان. الثاني: أن
الكلام على ظاهره ومعناه أنهم تبوءوا الدار والإيمان قبل
الهجرة إليهم يعني بقبولهم ومواساتهم بأموالهم ومساكنهم.
{يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} فيه
وجهان: أحدهما: غيرة وحسداً على ما قدموا به من تفضيل وتقريب ,
وهو محتمل. الثاني: يعني حسداً على ما خصوا به من مال الفيء
وغيره فلا يحسدونهم عليه , قاله الحسن. {ويؤثرون على أنفسهم
ولو كان بهم خصاصة} يعني يفضلونهم ويقدمونهم
(5/505)
على أنفسهم ولو كان بهم فاقة وحاجة , ومنه
قول الشاعر:
(أما الربيع إذا تكون خصاصة ... عاش السقيم به وأثرى المقتر)
وفي إيثارهم وجهان: أحدهما: أنهم آثروا على أنفسهم بما حصل من
فيىء وغنيمة حتى قسمت في المهاجرين دونهم , قاله مجاهد , وابن
حيان. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم على المهاجرين ما
أفاء الله من النضير ونفل من قريظة على أن يرد المهاجرون على
الأنصار ما كانوا أعطوهم من أموالهم فقالت الأنصار بل نقيم لهم
من أموالنا ونؤثرهم بالفيء , فأنزل الله هذه الآية. الثاني:
أنهم آثروا المهاجرين بأموالهم وواسوهم بها. روى ابن زيد أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (إن إخوانكم تركوا الأموال
والأولاد وخرجوا إليكم) فقالوا: أموالنا بينهم قطائع , فقال:
(أو غير ذلك) فقالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: (هم قوم لا
يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر) يعني مما صار إليهم
من نخيل بني النضير , قالوا نعم يا رسول الله. {ومن يوق شح
نفسه فأولئك هم المفلحون} فيه ثماينة أقاويل: أحدها: أن هذا
الشح هو أن يشح بما في أيدي الناس يحب أن يكون له ولا يقنع ,
قاله ابن جريج وطاووس. الثاني: أنه منع الزكاة، قاله ابن جبير.
الثالث: يعني هوى نفسه، قاله ابن عباس. الرابع: أنه اكتساب
الحرام، روى الأسود عن ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال: إني أخاف
أن أكون قد هلكت , قال وما ذاك؟ قال سمعت الله عز وجل يقول:
{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وأنا رجل شحيح لا أكاد
أخرج من يدي شيئاً فقال ابن مسعود: ليس ذلك بالشح الذي ذكره
الله تعالى في القرآن،
(5/506)
إنما الشح الذي ذكره الله في القرآن أن
تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذلك البخل , وبئس الشيء البخل.
الخامس: أنه الإمساك عن النفقة , قاله عطاء. السادس: أنه الظلم
, قاله ابن عيينة. السابع: أنه أراد العمل بمعاصي الله , قاله
الحسن. الثامن: أنه أراد ترك الفرائض وانتهاك المحارم , قاله
الليث. وفي الشح والبخل قولان: أحدهما: أن معناهما واحد.
الثاني: أنهما يفترقان وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن
الشح أخذ المال بغير حق , والبخل أن يمنع من المال المستحق ,
قاله ابن مسعود. الثاني: أن الشح بما في يدي غيره , والبخل بما
في يديه , قاله طاووس. {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا}
فيهم قولان: أحدهما: أنهم الذين هاجروا بعد ذلك , قاله السدي
والكلبي. الثاني: أنهم التابعون الذين جاءوا بعد الصحابة ثم من
بعدهم إلى قيام الدنيا هم الذين جاءوا من بعدهم، قاله مقاتل.
وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل , فمضت منزلتان
وبقيت الثالثة: فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة
التي بقيت. وفي قولهم: {اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالإيمان} وجهان: أحدهما: أنهم أمروا أن يستغفروا لمن سبق من
هذه الأمة ومن مؤمني أهل الكتاب. قالت عائشة: فأمروا أن
يستغفروا لهم فسبّوهم. الثاني: أنهم أمروا أن يستغفروا
للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. {ولا تجعل في قلوبنا
غلاً للذين ءامنوا} الآية. في الغل وجهان: أحدهما: الغش , قاله
مقاتل. الثاني: العداوة , قاله الأعمش.
(5/507)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا
وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا
يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ
وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا
يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ
مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ
أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ
لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ
فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
{ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم
الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع
فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون
لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن
نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم أشد رهبة في صدورهم
من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لا يقاتلونكم جميعا إلا في
قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا
وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون كمثل الذين من قبلهم
قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم كمثل الشيطان إذ قال
للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب
العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء
الظالمين} {بأسهم بينهم شديد} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه
اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد , قاله السدي.
الثاني: أنه وعيدهم للمسلمين لنفعلن كذا وكذا , قاله مجاهد.
{تحسبهم جيمعاً} فيه قولان: أحدهما: أنهم اليهود. الثاني: أنهم
المنافقون واليهود , قاله مجاهد. {وقلوبهم شتى} يعني مختلفة
متفرقة , قال الشاعر:
(إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هي اليوم شتى وهي بالأمس
جمع)
وفي قراءة ابن مسعود (وَقُلُوبُهُمْ أَشَتُّ) بمعنى أشد
تشتيتاً , أي أشد اختلافاً. وفي اختلاف قلوبهم وجهان:
(5/508)
أحدهما: لأنهم على باطل , والباطل مختلف ,
والحق متفق. الثاني: أنهم على نفاق , والنفاق اختلاف. وقوله
تعالى: {كمثل الذين من قبلهم قريباً} الآية. فيه أربعة أقاويل:
أحدها: أنهم كفار قريش يوم بدر , قاله مجاهد. الثاني: أنهم
قتلى بدر , قاله السدي , ومقاتل. الثالث: أنهم بنو النضير
الذين أجلوا من الحجاز إلى الشام , قاله قتادة. الرابع: أنهم
بنو قريظة , كان قبلهم إجلاء بني النضير. {ذاقوا وبال أمرهم}
بأن نزلوا على حكم سعد [بن معاذ] فحكم فيهم بقتل مقاتليهم وسبي
ذراريهم , قاله الضحاك. وفيه وجهان: أحدهما: في تجارتهم.
الثاني: في نزول العذاب بهم. {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان
اكفر} فيه قولان: أحدهما: أنه مثل ضربه الله الكافر في طاعته
للشيطان , وهو عام في الناس كلهم , قاله مجاهد. الثاني: أنها
خاصة في سبب خاص صار به المثل عاماً , وذلك ما رواه عطية
العوفي عن ابن عباس أن راهباً كان في بني إسرائيل يعبد الله
فيحسن عبادته , وكان يؤتى من كل أرض يسأل عن الفقه وكان
عالماً، وأن ثلاثة إخوة كانت لهم أخت من أحسن النساء مريضة ,
وأنهم أرادوا سفراً فكبر عليهم أن يذروها ضائعة , فجعلوا
يأتمرون فيما يفعلون، فقال أحدهم: ألا أدلكم على من تتركونها
عنده؟ فقال له من؟ فقال: راهب بني إسرائيل، وإن مات قام عليها
, وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليه، فعمدوا إليه وقالوا: إنا
نريد السفر وإنا لا نجد أحداً أوثق في أنفسنا منك ولا آمن
علينا
(5/509)
غيرك، فاجعل أختنا عندك فإنها ضائعة مريضة،
فإن ماتت فقم عليها , وإن عاشت فاحفظها حتى نرجع , فقال:
أكفيكم إن شاء الله , وإنهم انطلقوا , فقام عليها وداواها حتى
برئت فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها وحبلت , ثم
تقدم منه الشيطان فزين له قتلها وقال: إن لم تفعل افتضحت ,
فقتلها. فلما عاد إخوتها سألوه عنها فقال: ماتت فدفنتها ,
قالوا أحسنت , فجعلوا يرون في المنام أن الراهب قتلها وأنها
تحت شجرة كذا , فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها قد قتلت , فأخذوه ,
فقال له الشيطان: أنا الذي زينت لك قتلها بعد الزنى فهل لك أن
أنجيك وتطيعني؟ قال: نعم , قال فاسجد لي سجدة واحدة , فسجد ثم
قتل , فذلك قوله تعالى: {كمثل الشيطان} فكذا المنافقون وبنو
النضير مصيرهم إلى النار.
(5/510)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا
اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ
وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ (20)
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر
نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا
تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا
يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}
{يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله} روى معن أو عون ابن مسعود أن
رجلاً أتاه فقال: اعهد لي، فقال: إذا سمعت الله يقول: {يأيها
الين ءامنوا} فأرعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه.
وفي هذه التقوى وجهان: أحدهما: اجتناب المنافقين. الثاني: هو
اتقاء الشبهات. {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} قال ابن زيد: ما قدمت
من خير أو شر. {لغد} يعني يوم القيامة والأمس: الدنيا. قال
قتادة: إن ربكم قدم الساعة حتى جعلها لغد. {واتقوا الله} في
هذه التقوى وجهان: أحدهما: أنها تأكيد للأولى.
(5/510)
والثاني: أن المقصود بها مختلف وفيه وجهان:
أحدهما: أن الأولى التوبة مما مضى من الذنوب , والثانية اتقاء
المعاصي في المستقبل. الثاني: أن الأولى فيما تقدم لغد ,
الثانية فيما يكون منكم. {إن الله خبير بما تعملون} فيه وجهان:
أحدهما: أن الله خبير بعملكم. الثاني: خبير بكم عليم بما يكون
منكم , وهو معنى قول سعيد بن جبير. {ولا تكونوا كالذين نسوا
الله فأنساهم أنفسهم} فيه أربعة أوجه: أحدها: نسوا الله أي
تركوا أمر الله , فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيراً , قاله
ابن حبان. الثاني: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم , قاله
سفيان. الثالث: نسوا الله بترك شكره وتعظيمه فأنساهم أنفسهم
بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً , حكاه ابن عيسى. الرابع: نسوا
الله عند الذنوب فأنساهم أنفسهم عند التوبة , قاله سهل. ويحتمل
خامساً: نسوا الله في الرخاء فأنساهم أنفسهم في الشدائد.
{أولئك هم الفاسقون} فيه تأويلان: أحدهما: العاصون: قاله ابن
جبير. الثاني: الكاذبون , قاله ابن زيد. {لا يستوي أصحاب النار
وأصحاب الجنة} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يستوون في أحوالهم ,
لأن أهل الجنة في نعيم , وأهل النار في عذاب. الثاني: لا
يستوون عند الله , لأن أهل الجنة من أوليائه , وأهل النار من
أعدائه. {أصحاب الجنة هم الفائزون} فيه وجهان: أحدهما:
المقربون المكرمون. الثاني: الناجون من النار , قاله ابن حبان.
(5/511)
لَوْ أَنْزَلْنَا
هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا
مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ
اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ
الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ
السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته
خاشعا متصدعا من خشية الله
(5/511)
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون
هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن
الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن
المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله
الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في
السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} {لو أنزلنا هذا القرءآن
على جبل} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون خطاباً لرسول الله صلى
الله عليه وسلم إننا لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لما ثبت له
بل انصدع من نزوله عليه , وقد أنزلناه عليك وثبتناك له , فيكون
ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال. الثاني: أنه
خطاب للأمة , وأن الله لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من
خشية الله، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً , فهو يقوم بحقه إن
أطاع , ويقدرعلى رده إن عصى , لأنه موعود بالثواب ومزجور
بالعقاب. وفيه قول ثالث: إن الله تعالى ضربه مثلاً للكفار أنه
إذا نزل هذا القرآن على جبل خشع لوعده وتصدع لوعيده , وأنتم
أيها المقهروون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من
وعيده. {هو الله الذي لا إله إلا هو} كان جابر بن زيد يرى أن
اسم الله الأعظم هو الله , لمكان هذه الآية. {عالم الغيب
والشهادة} فيه أربعة أقاويل: أحدها: عالم السر والعلانية ,
قاله ابن عباس. الثاني: عالم ما كان وما يكون. الثالث: عالم ما
يدرك وما لا يدرك من الحياة والموت والأجل والرزق. الرابع:
عالم بالآخرة والدنيا , قاله سهل. {هو الله الذي لا إله إلا هو
الملك القدوس} في {القدوس} أربعة أوجه:
(5/512)
أحدها: أنه المبارك , قاله قتادة , ومنه
قول رؤبة:
(دعوت رب العزة القدوسا ... دعاء من لا يقرع الناقوسا)
الثاني: أنه الطاهر , قاله وهب , ومنه قول الراجز:
89 (قد علم القدوس مولى القدوس.} 9
الثالث: أنه اسم مشتق من تقديس الملائكة , قاله ابن جريج , وقد
روي أن من تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
الرابع: معناه المنزه عن القبائح لاشتقاقه من تقديس الملائكة
بالتسبيح فصار معناهما واحد. وأما {السلام} فهو من أسمائه
تعالى كالقدوس , وفيه وجهان: أحدهما: أنه مأخوذ من سلامته
وبقائه , فإذا وصف المخلوق بمثله قيل سالم وهو في صفة الله
سلام , ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
(سلامك ربنا في كل فجر ... بريئاً ما تعنتك الذموم)
الثاني: أنه مأخوذ من سلامة عباده من ظلمه , قاله ابن عباس.
[وفي {المؤمن} ثلاثة أوجه: أحدها: الذي يؤمن أولياءه من عذابه]
الثاني: أنه مصدق خلقه في وعده , وهو معنى قول ابن زيد.
الثالث: أنه الداعي إلى الإيمان , قاله ابن بحر. وأما
{المهيمن} فهو من أسمائه أيضاً , وفيه خمسة أوجه: أحدها: معناه
الشاهد على خلقه بأعمالهم , وعلى نفسه بثوابهم , قاله قتادة ,
والمفضل , وأنشد قول الشاعر:
(شهيد عليَّ الله أني أحبها ... كفى شاهداً رب العباد المهيمن)
والثاني: معناه الأمين، قاله الضحاك. الثالث: المصدق، قاله ابن
زيد. الرابع: أنه الحافظ، حكاه ابن كامل، وروي أن عمر بن
الخطاب قال: إني داع فهيمنوا، أي قولوا آمين حفظنا الدعاء، لما
يرجى من الإجابة.
(5/513)
الخامس: الرحيم، حكاه ابن تغلب واستشهد
بقول أمية بن أبي الصلت:
(مليك على عرش السمآء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد)
{العزيز} هو القاهر , وفيه وجهان: أحدهما: العزيز في امتناعه.
الثاني: في انتقامه. {الجبار} فيه أربعة أوجه: أحدها: معناه
العالي العظيم الشأن في القدرة والسلطان. الثاني: الذي جبر
خلقه على ما شاء , قاله أبو هريرة , والحسن , وقتادة. الثالث:
أنه الذي يجبر فاقة عباده , قاله واصل بن عطاء. الرابع: أنه
الذي يذل له من دونه. {المتكبر} فيه ثلاثة أوجه: أحدها:
المتكبر عن السيئات , قاله قتادة. الثاني: المستحق لصفات الكبر
, والتعظيم , والتكبر في صفات الله مدح , وفي صفات المخلوقين
ذم. الثالث: المتكبر عن ظلم عباده. {هو الله الخالق} فيه
وجهان: أحدهما: أنه المحدِث للأشياء على إرادته. الثاني: أنه
المقدر لها بحكمته. {الْبَارِىءُ} فيه وجهان: أحدهما: المميز
للخلق , ومنه قوله: برئت منه , إذا تميزت منه. الثاني: المنشىء
للخلق , ومنه قول الشاعر:
(براك الله حين براه غيثاً ... ويجري منك أنهاراً عذاباً)
{المصور} فيه وجهان: أحدهما: لتصوير الخلق على مشيئته. الثاني:
لتصوير كل جنس على صورته. فيكون على الوجه الأول محمولاً على
ابتداء الخلق بتصوير كل خلق على ما شاء من الصور. وعلى الوجه
الثاني يكون
(5/514)
محمولاً على ما استقر من صور الخلق , فيحدث
خلق كل جنس على صورته وفيه على كلا الوجهين دليل على قدرته.
ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يكون لنقله خلق الإنسان وكل حيوان من
صورة إلى صورة , فيكون نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير شيخاً
هرماً , كما قال النابغة:
(الخالق البارىء المصور في ال ... أرحام ماء حتى يصير دماً)
{له الأسماء الحسنى} فيه وجهان: أحدهما: أن جميع أسمائه حسنى
لاشتقاقه من صفاته الحسنى. الثاني: أن له الأمثال العليا ,
قاله الكلبي.
(5/515)
|