تفسير الماوردي
النكت والعيون سورة الممتحنة
مدنية في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم
(5/516)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ
كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا
أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ
يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ
يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ
وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي
وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من
الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم
جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم
بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن
يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم
بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم
القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير} قوله تعالى: {يأيها
الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} سبب نزولها أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما أرد التوجه إلى مكة أظهر أنه
يريد خيبر , وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن النبي صلى
الله عليه وسلم خارج إليهم وأرسل مع امرأة ذكر
(5/516)
أنها سارة مولاة لبني عبد المطلب , فأخبر
النبي صلى الله عليه وسلم بذلك , فأنفذ علياً وأبا مرثد , وقيل
عمر بن الخطاب , وقيل الزبير رضي الله عنهم , وقال لهما ,
اذهبا إلى روضة خاخ فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب فخذاه
وعودا , فأتيا الموضع فوجداها والكتاب معها , فأخذاه وعادا ,
فإذا هو كتاب حاطب فقال عمر: ائذن لي يا رسول الله أضرب عنقه
فقد خان الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم قد شهد بدراً ,
فقالوا: بلى ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك , فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال:
اعملوا ما شئتم إني بما تعملون خبير. ففاضت عينا عمر وقال:
الله ورسوله أعلم [ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب]
ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله كنت امرأ مصلقاً من
قريش وكان لي بها مال فكتبت إليهم بذلك , والله يا رسول الله
إني لمؤمن بالله ورسوله , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
صدق حاطب فلا تقولوا له إلآ خيراً. فنزلت هذه الآية والتي
بعدها. وفي قوله تعالى: {تسرون إليهم بالمودة} وجهان: أحدهما:
تعلمونهم سراً أن بينكم وبينهم مودة. الثاني: تعلمونهم سراً
بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم بمودة بينكم وبينهم.
(5/517)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ
قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ
إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ
لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا
وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا
رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين
معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله
كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا
بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من
الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا
لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز
الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم
الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد} {قد كانت لكم أسوة
حسنة} ذكر الكلبي والفراء أنه أراد حاطب بن أبي بلتعة، وفيها
وجهان:
(5/517)
أحدهما: سنة حسنة، قاله الكلبي. الثاني:
عبرة حسنة، قاله ابن قتيبة. {في إبراهيم والذين معه} من
المؤمنين. {إذ قالوا لقومهم} يعني من الكفار. {إنا برءاء منكم
ومما تعبدون من دون الله} فتبرؤوا منهم فهلا تبرأت أنت يا حاطب
من كفار أهل مكة ولم تفعل ما فعلته من مكاتبتهم وإعلامهم. ثم
قال: {كفرنا بكم} يحتمل وجهين: أحدهما: كفرنا بما آمنتم به من
الأوثان. الثاني: بأفعالكم وكذبنا بها. {وبدا بيننا وبينكم
العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم
لأبيه لأستغفرن لك ... } فيه وجهان: أحدهما: تأسوا بإبراهيم في
فعله واقتدوا به إلا في الاستغفار لأبيه فلا تقتدوا به فيه ,
قاله قتادة. الثاني: معناه إلا إبراهيم فإنه استثنى أباه من
قومه في الاستغفار له , حكاه الكلبي. {ربنا لا تجعلنا فتنة
للذين كفروا} فيه تأويلان: أحدهما: معناه لا تسلطهم علينا
فيفتنونا , قاله ابن عباس. الثاني: لا تعذبنا بأيديهم ولا
بعذاب من عندك فنصير فتنة لهم فيقولوا لو كانوا على حق ما
عذبوا , قاله مجاهد , وهذا من دعاء إبراهيم عليه السلام.
(5/518)
عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ
مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ
تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (9)
{عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم
منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين
لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا
إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين
(5/518)
قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم
وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}
{عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} فيهم
قولان: أحدهما: أهل مكة حين أسلموا عام الفتح فكانت هي المودة
التي صارت بينهم وبين المسلمين , قاله ابن زيد. الثاني: أنه
إسلام أبي سفيان. وفي مودته التي صارت منه قولان: أحدهما:
تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان فكانت
هذه مودة بينه وبين أبي سفيان , قاله مقاتل. الثاني: أن النبي
صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان على بعض اليمن فلما قبض
رسول الله أقبل فلقي ذا الخمار مرتداً , فقاتله فكان أول من
قاتل في الردة وجاهد عن الدين , فكانت هذه المودة , قاله
الزهيري. {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين}
الآية. فيهم أربعة أوجه: أحدها: أن هذا في أول الأمر عند
موادعة المشركين , ثم نسخ بالقتال , قاله ابن زيد. الثاني:
أنهم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف كان لهم عهد فأمر الله أن
يبروهم بالوفاء , قاله مقاتل. الثالث: أنهم النساء والصبيان
لأنهم ممن لم يقاتل , فأذن الله تعالى ببرهم , حكاه بعض
المفسرين. الرابع: ما رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه
أن أبا بكر رضي الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية وهي أم
أسماء بنت أبي بكر , فقدمت عليهم في
(5/519)
المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش , فأهدت إلى أسماء بنت
أبي بكر قرطاً وأشياء , فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله
صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له , فأنزل الله هذه الآية.
{وتقسطوا إليهم} فيه وجهان: أحدهما: يعني وتعدلوا فيهم , قاله
ابن حبان فلا تغلوا في مقاربتهم , ولا تسرفوا في مباعدتهم.
الثاني: معناه أن تعطوهم قسطاً من أموالكم , حكاه ابن عيسى.
ويحتمل ثالثاً: أنه الإنفاق على من وجبت نفقته منهم , ولا يكون
اختلاف الدين مانعاً من استحقاقها.
(5/520)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ
وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ
الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا
أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا
الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
{يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات
مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا
ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما
أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا
تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا
ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وإن فاتكم شيء من
أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما
أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} {يأيها الذين ءامنوا
إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن}
لأنه يعلم بالامتحان ظاهر إيمانهن والله يعلم باطن إيمانهن ,
ليكون الحكم عليهن معتبراً بالظاهر وإن كان معتبراً بالظاهر
والباطن. والسبب في نزوله هذه الآية أن النبي صلى الله عليه
وسلم هادن قريشاً عام الحديبة فقالت قريش على أن ترد علينا من
جاءك منا , ونرد عليك من جاءنا منك , فقال على أن أرد عليكم من
جاءنا منكم ولاتردوا علينا من جاءكم منا ممن اختار الكفر على
الإيمان،
(5/520)
فقعد الهدنة بينه وبينهم على هذا إلى أن
جاءت منهم امرأة مسلمة وجاؤوا في طلبها , واختلف فيها على
أربعة أقاويل: أحدها: أنها أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن
الدحداحة , ففرت منه وهو يومئذ كافر , فتزوجها سهل بن حنيف
فولدت له عبد الله , قاله يزيد بن أبي حبيب. الثاني: أنها
سعيدة زوج صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة , قاله مقاتل.
الثالث: أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط , وهذا قول كثير
من أهل العلم. الرابع: أنها سبيعة بنت الحارث الأسلمية جاءت
مسلمة بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الهدنة في
الحديبية , فجاء زوجها واسمه مسافر وهو من قومها في طلبها ,
فقال يا محمد شرطت لنا رد النساء , وطين الكتاب لم يجف , وهذه
امرأتي فارددها عليّ , حكاه الكلبي. فلما طلب المشركون رد من
أسلم من النساء منع الله من ردهن بعد امتحان إيمانهن بقوله
تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} واختلف
أهل العلم هل دخل النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً: فقالت
طائفة منهم قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظاً صريحاً , فنسخ
الله ردهن من العقد ومنع منه , وأبقاه في الرجال على ما كان ,
وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد برأيه في
الأحكام ولكن لا يقره الله تعالى على خطأ. وقالت طائفة من أهل
العلم: لم يشترط ردهن في العقد لفظاً وإنما أطلق العقد في رد
من أسلم , فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال , فبين
الله خروجهن عن العموم , وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين:
أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم. الثاني: أنهن أرأف قلوباً
وأسرع تقلباً منهم. فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم ,
وقد كانت من أرادت منهن إضرار زوجها قالت سأهاجر إلى محمد
فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتحانهن. واختلف
فيما كان يمتحنهن به على ثلاثة أقويل: أحدها: ما رواه ابن عباس
أنه كان يمتحنها بأن تحلف بالله أنها ما خرجت
(5/521)
من بغض زوجها ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا
التماس دينا ولا عشقاً لرجل منا , وما خرجت إلا حباً لله
ولرسوله. والثاني: بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله , قاله عطية العوفي. الثالث: بما بينه الله في
السورة من قوله تعالى: {يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات} فهذا
معنى قوله: {فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} يعني بما في قلوبهن
بعد امتحانهن. {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا
هنّ حل لهم ولا هم يحلون لهن} يعني أن المؤمنات محرمات على
المشركين من عبدة الأوثان , والمرتدات محرمات على المسلمين. ثم
قال تعالى: {وءاتوهم ما أنفقوا} يعني بما أنفقوا مهور من أسلم
منهن إذا سأل ذلك أزواجهن , وفي دفع ذلك إلى أهلهن من غير
أزواجهن قولان: ثم قال تعالى: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن}
يعني المؤمنات اللاتي أسلمن غير أزواج مشركين , أباح الله
نكاحهن للمسلمين إذا انقضت عدتهن أو كن غير مدخول بهن. {إذا
ءاتيتموهن أجورهن} يعني مهورهن. {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} فيه
وجهان: أحدهما: أن العصمة الجمال قاله ابن قتيبة. الثاني:
العقد , قاله الكلبي. فإذا أسلم الكافر عن وثنية لم يمسك
بعصمتها ولم يقم نكاحها رغبة فيها أو في قومها , فإن الله قد
حرم نكاحها عليه والمقام عليها ما لم تسلم في عدتها. فروى موسى
بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه أنه قال: لما نزلت هذه الآية
(5/522)
طلقت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد
المطلب , وطلق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة
فتزوجها بعده معاوية بن سفيان في الشرك , وطلق أم كلثوم بنت
أبي جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها بعده خالد ابن
سعيد بن العاص في الإسلام. {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما
أنفقوا} يعني أن للمسلم إذا ارتدت زوجته إلى المشركين من ذوي
العهد المذكور أن يرجع عليه بمهر زوجته كما ذكرنا وأن للمشرك
أن يرجع بمهر زوجته إذا أسلمت فإن لم يكن بيننا وبينهم عهد شرط
فيه الرد فلا يرجع. ولا يجوز لمن بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم من الأئمة أن يشرط في عقد الهدنة رد من أسلم لأن الرسول
كان على وعد من الله بفتح بلادهم ودخولهم في الإسلام طوعاً
وكرهاً فجاز له ما لم يجز لغيره. {وإن فاتكم شيء من أزواجكم
إلى الكفار} الآية. والمعنى أن من فاتته زوجته بارتدادها إلى
أهل العهد المذكور ولم يصل إلى مهرها منهم ثم غنمهم المسلمون
ردوا عليه مهرها. وفي المال الذي يرد منه هذا المهر ثلاثة
أقاويل: أحدها: من أموال غنائمهم لاستحقاقها عليهم , قاله ابن
عباس. الثاني: من مال الفيء , قاله الزهري. الثالث: من صداق من
أسلمن منهن عن زوج كافر , وهو مروي عن الزهري أيضاً. وفي قوله
تعالى: {فعاقبتم} ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه غنمتم لأخذه من
معاقبة الغزو , قاله مجاهد والضحاك. الثاني: معناه فأصبتم من
عاقبة من قتل أو سبي , قاله سفيان. الثالث: عاقبتم المرتدة
بالقتل فلزوجها مهرهامن غنائم المسلمين , قاله ابن بحر. وهذا
منسوخ لنسخ الشرط الذي شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم
بالحديبية , وقال عطاء بل حكمها ثابت.
(5/523)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى
أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا
يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ
بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا
مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ
الْقُبُورِ (13)
{يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك
على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن
(5/523)
ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين
ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف
فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم يا أيها الذين
آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما
يئس الكفار من أصحاب القبور} {يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات
يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً} وذلك أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح وبايعة الرجال جاءت النساء
بعدهم للبيعة فبايعهن. واختلف في بيعته لهن على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه جلس على الصفا [ومعه عمر أسفل منه] فأمره أن يبايع
النساء , قاله مقاتل. الثاني: أنه أمر أميمة أخت خديجة خالة
فاطمة بنت رسول الله بعد أن بايعته , أن تبايع النساء عنه،
قاله محمد بن المنكدر عن أميمة. الثالث: أنه بايعهن بنفسه وعلى
يده ثوب قد وضعه على كفه , قاله عامر الشعبي. وقيل بل وضع
قعباً فيه ماء وغمس فيه يده وأمرهن فغمسن أيديهن , فكانت هذه
بيعة النساء. فإن قيل فما معنى بيعتهن ولسن من أهل الجهاد
فتؤخذ عليهن البيعة كالرجال؟ قيل: كانت بيعته لهن تعريفاً لهن
بما عليهن من حقوق الله تعالى وحقوق أزواجهن لأنهن دخلن في
الشرع ولم يعرفن حكمه فبينه لهن , وكان أول ما أخذه عليهن أن
لا يشركن بالله شيئاً توحيداً له ومنعاً لعبادة غيره. {ولا
يسرقن} فروى أن هند بنت عتبة كانت متنكرة عند أخذ البيعة على
(5/524)
النساء خيفة من رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما صنعته بحمزة وأكلها كبده , فقالت حين سمعته في أخذ
البيعة عليهن يقول: {لا يسرقن} والله إني لا أصيب من أبي سفيان
إلا قوتنا ما أدري أيحل لي أم لا , فقال أبو سفيان: ما أصبت
مما مضى أو قد بقي فهو لك حلال , فضحك رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعرفها فقال: (أنت هند)؟ فقالت عفا اللَّه عما سلف. ثم
قال: {ولا يزنين} فقالت هند يا رسول الله أو تزني الحرة؟ ثم
قال: {ولا يقتلن أولادهن} لأن العرب كانت تئد البنات , فقالت
هند: أنت قتلتهم يوم بدر , وأنت وهم أبصر. وروى مقاتل أنها
قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتوهم كباراً فأنتم وهم أعلم , فضحك
عمر بن الخطاب حتى استلقى. {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين
أيديهن وأرجلهن} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه السحر , قاله
ابن بحر. الثاني: المشي بالنميمة والسعي في الفساد. والثالث:
وهو قول الجمهور ألا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن لأن الزوجة
كانت تلتقط ولداً وتلحقه بزوجها ولداً , ومعنى {يفترينه بين
أيديهن} ما أخذته لقيطاً , {وأرجلهن} ما ولدته من زنى , وروي
أن هنداً لما سمعت ذلك قالت: والله إن البهتان لأمر قبيح , وما
تأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق. ثم قال: {ولا يعصينك في
معروف} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن المعروف ها هنا الطاعة لله
ولرسوله , قاله ميمون بن مهران. الثاني: ما رواه شهر بن حوشب
عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعصينك في معروف
قال: هو النوح. الثالث: أن من المعروف ألا تخمش وجهها ولا تنشر
شعرها ولا تشق جيباً ولا تدعو ويلاً، قاله أسيد بن أبي أسيد.
(5/525)
الرابع: أنه عام في كل معروف أمر الله
ورسوله به , قاله الكلبي. فروي أن هنداً قالت عند ذلك: ما
جلسنا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعطيك من شيء وهذا دليل على
أن طاعة الولاة إنما تلزم في المعروف المباح دون المنكر
المحظور. {يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم
قد يئسوا من الأخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} {يأيها
الذين ءامنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم} فيه ثلاثة
أقاويل: أحدها: أنهم اليهود، قاله مقاتل. الثاني: أنهم اليهود
والنصارى، قاله ابن مسعود. الثالث: جميع الكفار، قاله مجاهد.
{قد يئسوا من الأخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} فيه
أربعة أوجه: أحدها: يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار من
بعث من في القبور، قاله ابن عباس. الثاني: قد يئسوا من ثواب
الآخرة كما يئس أصحاب القبور بعد المعاينة من ثواب الآخرة
لأنهم تيقنوا العذاب، قاله مجاهد. الثالث: قد يئسوا من البعث
والرجعة كما يئس منها من مات منهم وقبر. الرابع: يئسوا أن يكون
لهم في الآخرة خير كما يئسوا أن ينالهم من أصحاب القبور خير.
(5/526)
سورة الصف
مدنية في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم
(5/527)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ
اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا
كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو
العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر
مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين
يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} قوله تعالى: {يأيها
الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها نزلت في قوم قالوا: لو عملنا أحب الأعمال إلى الله
لسارعنا إليه , فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا عنه , قاله ابن
عباس ومجاهد. الثاني: أنها نزلت في قوم كان يقول الرجال منهم:
قاتلت ولم يقاتل , وطعنت , ولم يطعن , وضربت , ولم يضرب وصبرت
, ولم يصبر , وهذا مروي عن عكرمة. الثالث: أنها نزلت في
المنافقين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه إن
خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا فلما خرجوا نكصوا عنهم
وتخلفوا. وهذه الآية وإن كان ظاهرها الإنكار لمن قال ما لا
يفعل فالمراد بها الإنكار لمن لم يفعل ما قال , لأن المقصود
بها القيام بحقوق الالتيام دون إسقاطه.
(5/527)
{إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً}
مصطفين صفوفاً كالصلاة , لأنهم إذا اصطفوا مثلاً صفين كان أثبت
لهم وأمنع من عدوهم. قال سعيد بن جبير: هذا تعليم من الله
للمؤمنين. {كأنهم بنيان مرصوص} فيه وجهان: أحدهما: أن المرصوص
الملتصق بعضه إلى بعض لا ترى فيه كوة ولا ثقباً لأن ذلك أحكم
في البناء من تفرقه وكذلك الصفوف , قاله ابن جبير , قال
الشاعر:
(وأشجر مرصوص بطين وجندل ... له شرفات فوقهن نصائب)
والثاني: أن المرصوص المبني بالرصاص , قاله الفراء , ومنه قول
الراجز:
(ما لقي البيض من الحرقوص ... يفتح باب المغلق المرصوص)
(5/528)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ
أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ
اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُبِينٌ (6)
{وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد
تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله
لا يهدي القوم الفاسقين وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل
إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا
برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا
سحر مبين} {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وفي الزيغ وجهان:
أحدهما: أنه العدول , قاله السدي. الثاني: أنه الميل , إلا أنه
لا يستعمل إلا في الزيغ عن الحق دون الباطل. ويحتمل تأويله
وجهين: أحدهما: فلما زاغوا عن الطاعة أزاغ الله قلوبهم عن
الهداية. الثاني: فلما زاغوا عن الإيمان أزاغ قلوبهم عن
الكلام.
(5/528)
وفي المعِنيّ بهذا الكلام ثلاثة أقاويل:
أحدها: المنافقون. الثاني: الخوارج , قاله مصعب بن سعيد عن
أبيه. الثالث: أنه عام. {ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه
أحمد} وهذه البشرى من عيسى تتضمن أمرين: أحدهما: تبليغ ذلك إلى
قومه ليؤمنوا به عند مجيئه , وذلك لا يكون منه بعد إعلام الله
له بذلك إلا عن أمر بتبليغ ذلك إلى أمته. الثاني: ليكون ذلك من
معجزات عيسى عند ظهور محمد صلى الله عليه وسلم , وهذا يجوز أن
يقتصر عيسى فيه على إعلام الله له بذلك دون أمره بالبلاغ. وفي
تسمية الله له بأحمد وجهان: أحدهما: لأنه من أسمائه فكان يسمى
أحمد ومحمداً قال حسان:
(صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد)
الثاني: أنه مشتق من اسمه محمود , فصار الاشتقاق اسماً , كما
قال حسان:
(وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسمي في التوراة
أحيد لأني أحيد أمتي عن النار , واسمي في الزبور الماحي محا
الله بي عبادة الأصنام , واسمي في الإنجيل أحمد , واسمي في
القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض.)
(5/529)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى
إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ
بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
{ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو
يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا
نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي
(5/529)
أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على
الدين كله ولو كره المشركون} {ومن أظلم ممن افترى على الله
الكذب وهو يدعى إلى الإسلام} فيهم قولان: أحدهما: أنهم الكفار
والمنافقون , قاله ابن جريج. الثاني: أنه النضر وهو من بني عبد
الدار قال إذا كان يوم القيامة شفعت لي العزى واللات , فأنزل
الله هذه الآية , قاله عكرمة. {يريدون ليطفئوا نور الله
بأفواههم} الآية. والإطفاء هو الإخماد , ويستعملان في النار ,
ويستعاران فيما يجري مجراها من الضياء والنور. والفرق بين
الإطفاء والإخماد من وجه وهو أن الإطفاء يستعمل في القليل
والكثير , والإخماد يستعمل في الكثير دون القليل , فيقال أطفأت
السراج ولا يقال أخمدت السراج. وفي {نور الله} ها هنا خمسة
أقاويل: أحدها: القرآن , يريدون إبطاله بالقول , قاله ابن زيد.
الثاني: أنه الإسلام , يريدون دفعه بالكلام , قاله السدي.
الثالث: أنه محمد صلى الله عليه وسلم يريدون هلاكه بالأراجيف ,
قاله الضحاك. الرابع: أنه حجج الله ودلائله , يريدون إبطالها
بإنكارهم وتكذبيهم , قاله ابن بحر. الخامس: أنه مثل مضروب , أي
من أرد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً فكذلك من
أراد إبطال الحق , حكاه ابن عيسى. وسبب نزول هذه الآية ما حكاه
عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي
أربعين يوماً , فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود ابشروا فقد
أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه , وما كان الله ليتم
أمره , فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك , فأنزل الله
هذه الآية , ثم اتصل الوحي بعدها. {ليظهره على الدين كله}
الآية. وفي الإظهار ثلاثة أقاويل: أحدها: الغلبة على أهل
الأديان.
(5/530)
الثاني: العلو على الأديان. الثالث: العلم
بالأديان من قولهم قد ظهرت على سره أي علمت به.
(5/531)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ
وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي
إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ
اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
{يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة
تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل
الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم
ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في
جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح
قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما
قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون
نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا
الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} {وأخرى تحبونها نصر من
الله وفتح قريب} وهذا من الله لزيادة الترغيب , لأنه لما وعدهم
بالجنة على طاعته وطاعة رسوله علم أن منهم من يريد عاجل النصر
لقاء رغبة في الدنيا ولقاء تأييد الدين فوعدهم بما يقوي به
الرغبة فقال: {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب} يعني فتح
البلاد عليه وعليهم , وقد أنجز الله وعده في كلا الأمرين من
النصر والفتح. وفي قوله: {قريب} وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى
ما يحبونه أنه نصر من الله وفتح قريب. الثاني: أنه إخبار من
الله بأن ما يحبونه من ذلك سيكون قريباً , فكان كما أخبر لأنه
عجل لهم الفتح والنصر.
(5/531)
سورة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/5)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض
الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم
يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من
قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز
الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}
{يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز
الحكيم} {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم
ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي
ضلال مبين}. {بعث في الأميين رسولاً منهم} يعني في العرب , وفي
تسميتهم أميين قولان: أحدهما: لأنه لم ينزل عليهم كتاب , قاله
ابن زيد. الثاني: لأنهم لم يكونوا يكتبون ولا كان فيهم كاتب ,
قاله قتادة. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم قريش خاصة لأنها لم
تكن تكتب حتى تعلم بعضها في آخر الجاهلية من أهل الحيرة.
(6/5)
الثاني: أنهم جميع العرب لأنه لم يكن لهم
كتاب ولا كتب منهم إلا قليل , قاله المفضل. فلو قيل: فما وجه
الامتنان بأن بعث نبياً أمياً؟ فالجواب عنه ثلاثة أوجه: احدها:
لموافقته ما تقدمت بشارة الأنبياء به. الثاني: لمشاكلة حاله
لأحوالهم , فيكون أقرب إلى موافقتهم. الثالث: لينتفي عنه سوء
الظن في تعلمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي
تلاها. {يتلوا عليهم ءاياته} يعني القرآن. {ويزكيهم} فيه ثلاثة
تأويلات: أحدها: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان , وهو معنى قول
ابن عباس. الثاني: يطهرهم من الكفر والذنوب، قاله ابن جريج
ومقاتل. الثالث: يأخذ زكاة أعمالهم، قاله السدي. {ويعلمهم
الكتاب} فيه ثلاثة تلأويلات: أحدها: أنه القرآن، قاله الحسن.
الثاني: أنه الخط بالقلم، قاله ابن عباس، لأن الخط إنما فشا في
العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط. الثالث: معرفة الخير
والشر كما يعرفونه بالكتاب ليفعلوا الخير ويكفوا عن الشر ,
وهذا معنى قول محمد بن إسحاق. {والحكمة} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن الحكمة السنة، قاله الحسن.
(6/6)
الثاني: أنه الفقه في الدين , وهو قول مالك
بن أنس. الثالث: أنه الفهم والاتعاظ , قاله الأعمش. {وءاخرين
منهم لما يلحقوا بهم} أي ويعلم آخرين ويزكيهم , وفيه أربعة
أقاويل: أحدها: أنهم المسلمون بعد الصحابة , قاله ابن زيد.
الثاني: أنهم العجم بعد العرب , قاله الضحاك وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت في منامي غنماً سوداً
تتبعها غنم عفر) فقال أبو بكر: يا رسول الله تلك العرب يتبعها
العجم , فقال: (كذلك عبرها لي الملك). الثالث: أنهم الملوك
أبناء الأعاجم , قاله مجاهد. الرابع: أنهم الأطفال بعد الرجال.
ويحتمل خامساً: أنهم النساء بعد الرجال. {ذلك فضل الله يؤتيه
من يشاء} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها النبوة التي خص الله
بها رسوله هي فضل الله يؤتيه من يشاء , قاله مقاتل. الثاني:
الإسلام الذي آتاه الله من شاء من عباده , قاله الكلبي.
الثالث: ما روي أنه قيل يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور،
فأمر
(6/7)
ذوي الفاقة بالتسبيح والتحميد والتكبير
بدلاً من التصدق بالأموال , ففعل الأغنياء مثل ذلك , فقيل
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهَ
يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) قاله أبو صالح. ويحتمل خامساً: أنه
انقياد الناس إلى تصديقه صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه
ونصرته.
(6/8)
مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ
دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ
الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ
ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها
كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله
والله لا يهدي القوم الظالمين قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم
أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا
يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن
الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب
والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} {قل إن الموت الذي تفرون
منه فإنه ملاقيكم} يحتمل أربعة أوجه: أحدها: معناه تفرون من
الداء بالدواء فإنه ملاقيكم بانقضاء الأجل. الثاني: تفرون من
الجهاد بالقعود فإنه ملاقيكم بالوعيد. الثالث: تفرون منه
بالطيرة من ذكره حذراً من حلوله فإنه ملاقيكم بالكره والرضا.
الرابع: إنه الموت الذي تفرون أن تتمنوه حين قال تعالى:
{فتمنوا الموت}.
(6/8)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ
لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من
يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن
كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من
فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وإذا رأوا تجارة أو
لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو
ومن التجارة والله خير الرازقين} {يا أيها الذين ءامنوا إذا
نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} في السعي
إليها أربعة أقاويل: أحدها: النية بالقلوب، قاله الحسن.
(6/8)
الثاني: أنه العمل لها، كما قال تعالى: {إن
سعيكم لشتى} قاله ابن زيد. الثالث: أنه إجابة الداعي، قاله
السدي. الرابع: المشي على القدم من غير إسراع، وذكر أن عمر
وابن مسعود كانا يقرآن {فامضوا إلى ذكر الله}. وفي ذكر الله ها
هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها موعظة الإمام في الخطبة , قاله
سعيد بن المسيب. الثاني: أنها الوقت , حكاه السدي. الثالث: أنه
الصلاة , وهو قول الجمهور. وكان اسم يوم الجمعة في الجاهلية
العروبة , لأن أسماء الأيام في الجاهلية كانت غير هذه الأسماء
, فكانوا يسمون يوم الأحد أوّل , والأثنين أهون , والثلاثاء
جبار , والأربعاء دبار , والخميس مؤنس , والجمعة عروبة ,
والسبت شيار , وأنشدني بعض أهل الأدب:
(أؤمل أن أعيش وإن يومي ... بأوّل أو أهون أو جبار)
(أو التالي دبار أو فيومي ... يمؤنس أو عروبة أو شيار)
وأول من سماه يوم الجمعة كعب بن لؤي بن غالب لاجتماع قريش فيه
إلى كعب , وقيل بل سمي في الإسلام لاجتماع الناس فيه للصلاة.
{وذروا البيع} منع الله منه عند صلاة الجمعة وحرمه في وقتها
على ما كان مخاطباً بفرضها. وفي وقت التحريم قولان: أحدهما:
أنه بعد الزوال [إلى ما] بعد الفراغ منها، قاله الضحاك.
الثاني: من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ من الصلاة، قاله
الشافعي رحمه الله فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان بن
عفان ليتأهب الناس به لحضور
(6/9)
الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها ,
وقد كان عمر أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن
بيوعهم , فإذا اجتمعوا أذن في المسجد , فجعله [عثمان] آذانين
في المسجد , وليس يحرم البيع بعده وقبل الخطبة , فإن عقد في
هذا الوقت المحرم بيع لم يبطل البيع وإن كان قد عصى الله , لأن
النهي مختص بسبب يعود إلى العاقدين دون العقد , وأبطله ابن
حنبل تمسكاً بظاهر النهي. {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} يعني
أن الصلاة خير لكم من البيع والشراء لأن الصلاة تفوت بخروج
وقتها , والبيع لا يفوت. {فإذا قضيت الصلاة} يعني أُدّيتْ.
{فانتشروا في الأرض} حكي عن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى
الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك
وصليت فرضيتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير
الرازقين. {وابتغوا من فضل الله} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها:
الرزق من البيع والشراء , قاله مقاتل والضحاك. الثاني: العمل
في يوم السبت , قاله جعفر بن محمد. الثالث: ما رواه أبو خلف عن
أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا قضيت
(6/10)
الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل
الله , قال: ليس بطلب الدنيا لكن من عيادة مريض وحضور جنازة
وزيارة أخ في الله.) {وإذا رأوا تجارة أولهو أنفضوا إليها
وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله
خير الرازقين}. {وإذا رأو تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك
قائماً} روى سالم عن جابر قال: أقبلت عير ونحن مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعني في الخطبة فانفتل الناس إليها وما بقي
غير اثني عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية. وذكر الكلبي أن الذي قدم
بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عند مجاعة وغلاء سعر، وكان
معه جميع ما يحتاج إليه نم برودقيق وغيره فنزل عند أحجار الزيت
وضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه، وكانوا في خطبة الجمعة،
فانفضوا إليها، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية
رجال، فقال تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها}.
والتجارة من أموال التجارات. وفي اللهوها هنا أربعة أوجه:
أحدها: يعني لعباً، قاله ابن عباس. الثاني: أنه الطبل، قاله
مجاهد. الثالث: أنه المزمار، قاله جابر. الرابع: الغناء.
{وتركوك قائماً} يعني في خطبته، وروى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: والذي
(6/11)
نفسي بيده لو ابتدرتموها حتى لا يبقى معي
أحد لسال الوادي بكم ناراً، وإنما قال تعالى: {انفضوا إليها}
ولم يقل إليهما، لأن غالب انفضاضهم كان للتجارة دون اللهو.
وقال الأخفش: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وإذا رأوا تجارة
انفضوا إليها أو لهواً، وكذلك قرأ ابن مسعود. وفي {انفضوا}
وجهان: أحدهما: ذهبوا. الثاني: تفرقوا. فمن جعل معناه ذهبوا
أراد التجارة، ومن جعل معناه تفرقوا أراد عن الخطبة وهذا أفصح
الوجهين، قاله قطرب، ومنه قول الشاعر:
(انفض جمعهم عن كل نائرة ... تبقى وتدنس عرض الواجم الشبم)
{قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة} يحتمل وجهين:
أحدهما: ما عند الله من ثواب صلاتكم من لذة لهوكم وفائدة
تجارتكم. الثاني: ما عند الله من رزقكم الذي قسمت لكم خير مما
أصبتموه بانفضاضكم من لهوكم وتجارتكم. {والله خير الرازقين}
يحتمل وجهين: أحدهما: أن الله سبحانه خير من رزق وأعطى.
الثاني: ورزق الله خير الأرزاق.
(6/12)
|