تفسير الماوردي
النكت والعيون سورة المنافقون
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/13)
إِذَا جَاءَكَ
الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ
كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول
الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا
يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا
يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم
كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم
الله أنى يؤفكون} قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد
إنك لرسول الله} سئل حذيفة ابن اليمان عن المنافق فقال: الذي
يصف الإسلام ولا يعمل به , وهم اليوم شر منهم على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم , لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم
يظهرونه. {قالوا نشهد إنك لرسول الله} يعني نحلف , فعبر عن
الحلف بالشهادة لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب
, ومنه قول قيس بن ذريح:
(وأشهد عند الله أني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا)
ويحتمل ثانياً: أن يكون ذلك محمولاً على ظاهره أنهم يشهدون أن
محمداً رسول الله اعترافاً بالإيمان ونفياً للنفاق عن أنفسهم،
وهو الأشبه.
(6/13)
وسبب نزول هذه الآية ما روى أسباط عن السدي
أن عبد الله بن أبي بن سلول كان مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في غزاة وفيها أعراب يتبعون الناس , وكان ابن أبي يصنع
لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل يوم طعاماً , فاستقى
أعرابي ماء في حوض عمله من أحجار , فجاء رجل من أصحاب ابن أبي
بناقة ليسقيها من ذلك الماء فمنعه الأعرابي واقتتلا فشجه
الاعرابي , فأتى الرجل إلى عبد الله [بن أبي] ودمه يسيل على
وجهه , فحزنه , فنافق عبد الله وقال: ما لهم رد الله أمرهم إلى
تبال , وقال لأصحابه: لا تأتوا محمداً بالطعام حتى يتفرق عنه
الأعراب , فسمع ذلك زيد بن أرقم وكان حدثاً , فأخبر عمه , فأتى
عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه , فبعث إلى ابن أبيّ
وكان من أوسم الناس وأحسنهم منطقاً , فأتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فحلف: والذي بعثك بالحق ما قلت من هذا شيئاً , فصدقه
فأنزل الله هذه الآية. {والله يعلم إنك لرسوله} أي إن نافق من
نافقك من علم الله بأنك رسوله فلا يضرك. ثم قال: {والله يشهد
إن المنافقين لكاذبون} يحتمل وجهين: أحدهما: والله يقسم إن
المنافقين لكاذبون في أيمانهم. الثاني: معناه والله يعلم أن
المنافقين لكاذبون فيها. {اتخذوا أيمانهم جنة} والجنة: الغطاء
المانع من الأذى , ومنه قول الأعشى ميمون.
(إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة ... من المال سار الذم كل مسير)
وفيه وجهان: أحدهما: من السبي والقتل ليعصموا بها دماءهم
وأموالهم , قاله قتادة. الثاني: من الموت ألاَّ يُصلَّى عليهم
, فيظهر على جميع المسلمين نفاقهم , وهذا معنى قول السدي.
ويحتمل ثالثاً: جنة تدفع عنهم فضيحة النفاق.
(6/14)
{فصدوا عن سبيل الله} فيه وجهان: أحدهما:
عن الإسلام بتنفير المسلمين عنه. الثاني: عن الجهاد بتثبيطهم
المسلمين وإرجافهم به وتميزهم عنهم , قال عمر بن الخطاب: ما
أخاف عليكم رجلين: مؤمناً قد استبان إيمانه وكافر قد استبان
كفره , ولكن أخاف عليكم منافقاً يتعوذ بالإيمان ويعمل بغيره.
{وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} يعني حسن منظرهم وتمام خلقهم.
{وإن يقولوا تسمع لقولهم} يعني لحسن منطقهم وفصاحة كلامهم.
ويحتمل ثانياً: لإظهار الإسلام وذكر موافقتهم. {كأنهم خشب
مسندة} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه شبههم بالنخل القيام لحسن
منظرهم. الثاني: [شبههم] بالخشب النخرة لسوء مخبرهم. الثالث:
أنه شبههم بالخشب المسندة لأنهم لا يسمعون الهدى ولا يقبلونه ,
كما لا تسمعه الخشب المسندة , قاله الكلبي , وقوله: {مسندة}
لأنهم يستندون إلى الإيمان لحقن دمائهم. {يحسبون كل صيحة
عليهم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم لِوَجَلهم وخبثهم يحسبون
كل صيحة يسمعونها - حتى لو دعا رجل صاحبه أو صاح بناقته - أن
العدو قد اصطلم وأن القتل قد حَلَّ بهم , قاله السدي. الثاني:
{يحسبون كل صيحة عليهم} كلام ضميره فيه ولا يفتقر إلى ما بعده
, وتقديره: يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم فقال:
{هم العدو فاحذرهم} وهذا معنى قول الضحاك. الثالث: يحسبون كل
صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم , وأن النبي صلى الله عليه
وسلم قد أمر فيها بقتلهم , فهم أبداً وجلون ثم وصفهم الله بأن
قال: {هم العدو فاحذرهم} حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم. وفي
قوله: {فاحذرهم} وجهان: أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم وتميل إلى
كلامهم. الثاني: فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك.
(6/15)
{قاتلهم الله} فيه وجهان: أحدهما: معناه
لعنهم الله , قاله ابن عباس وأبو مالك. والثاني: أي أحلهم الله
محل من قاتله عدو قاهر , لأن الله تعالى قاهر لكل معاند , حكاه
ابن عيسى. وفي قوله: {أني يؤفكون} أربعة أوجه: أحدها: معناه
يكذبون , قاله ابن عباس. الثاني: معناه يعدلون عن الحق , قاله
قتادة. الثالث: معناه يصرفون عن الرشد , قاله الحسن. الرابع:
معناه كيف يضل عقولهم عن هذا , قاله السدي.
(6/16)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا
رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ
(5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ
الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا
يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى
الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
{وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله
لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت
لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم
الفاسقين هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى
ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون
يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله
العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} {وإذا قيل
لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله} الآية. روى سعيد بن جبير أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلاً لم يرتحل منه حتى
يصلي فيه , فلما كانت غزوة تبوك بلغة أن ابن أُبَيّ قال: لئن
رجعنا إلى المدينة لِيُخرجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ , فارتحل
قبل أن ينزل آخرُ الناس , وقيل لعبد الله بن
(6/16)
أُبيّ: ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى
يستغفر لك , فلوى رأسه , وهذا معنى قوله: {لوَّوْا رؤوسَهم}
إشارة إليه وإلى أصحابه , أي حركوها , وأعرضوا يمنة ويسرة إلى
غير جهة المخاطب ينظرون شزراً. ويحتمل قولاً ثانيا: أن معنى
قوله {يستغفر لكم رسول الله} يستتيبكم من النفاق لأن التوبة
استغفار. وفيما فعله عبد الله بن أبيّ حين لوى رأسه وجهان:
أحدهما: أنه فعل ذلك استهزاء وامتناعاً من فعل ما دعي إليه من
إتيان الرسول للاستغار له , قاله قتادة. الثاني: أنه لوى رأسه
بمعنى ماذا قلت , قاله مجاهد. {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} فيه
وجهان: أحدهما: يمتنعون , قال الشاعر:
(صدَدْتِ الكاسَ عنا أُمَّ عمرو ... وكان الكأسُ مجراها
اليمينا)
الثاني: يعرضون , قال الأعشى:
(صَدَّقَ هُرَيْرةُ عنّا ما تُكَلِّمنا ... جَهْلاً بأُمّ
خُلَيْدٍ حبل من تصل)
وفيما يصدون عنه وجهان: أحدهما: عما دُعوا إليه من استغفار
الرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني: عن الإخلاص للإيمان.
{وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: متكبرون. الثاني:
ممتنعون. {هم الذين يقولون لا تُنفِقوا على مَنْ عِندَ رسولِ
الله} الآية يعني عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، وسببه أن النبي
صلى الله عليه وسلم بعد انكفائه من غزاة بني المصطلق في شعبان
سنة ست نزل على ماء المريسيع , فتنازع عليه جهجاه، وكان مسلماً
وهو رجل من غفار،
(6/17)
ورجل يقال له سنان، وكان من أصحاب عبد الله
بن أُبي، فلطمه جهجاه، فغضب له عبد الله بن أُبيّ وقال: يا
معاشر الأوس والخزرج ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل:
سمّن كلبك يأكلك، أوطأنا هذا الرجلَ ديارنا وقاسمْناهم
أموالَنا ولولانا لانفضوا عنه، ما لهم، رد الله أمرهم إلى
جهجاه، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل، فسمعه
زيد بن أرقم وكان غلاما، فأعاده على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فاعتذر له قومه، فأنزل الله هذه الآية والتي بعدها. {ولله
خزائن السموات والأرض} فيه وجهان: أحدهما: خزائن السموات:
المطر , وخزائن الأرضين: النبات. الثاني: خزائن السموات: ما
قضاه , وخزائن الأرضين: ما أعطاه. وفيه لأصحاب الخواطر (ثالث):
أن خزائن السموات: الغيوب , وخزائن الأرض القلوب.
(6/18)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا
أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا
رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ
يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا
أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا
من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا
أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله
نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} {يَا أَيُّهَا
الَّذينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ وَلاَ
أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه
عنى بذكر الله [الصلاة] المكتوبة، قاله عطاء. الثاني: أنه أراد
فرائض الله التي فرضها من صلاة وغيرها، قاله الضحاك. الثالث:
أنه طاعة اللَّه في الجهاد، قاله الكلبي.
(6/18)
الرابع: أنه أراد الخوف من اللَّه عند
ذكره. {وَأَنفِقُوا مما رَزَقْناكُم} فيه وجهان: أحدهما: أنها
الزكاة المفروضة من المال، قاله الضحاك. الثاني: أنها صدقة
التطوع ورفد المحتاج ومعونة المضطر. {ولَن يُؤخِّرَ اللَّهُ
نَفْساً إذا جاءَ أَجَلُها} يحتمل وجهين: أحدهما: لن يؤخرها عن
الموت بعد انقضاء الأجل , وهو أظهرهما. الثاني: لن يؤخرها بعد
الموت وإنما يعجل لها في القبر.
(6/19)
سورة التغابن
(6/20)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له
الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر
ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السماوات والأرض بالحق
وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما في السماوات والأرض
ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور} قوله
تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فْمِنكُمْ كَافِرٌ} بأنه خلقه
{وَمِنْكُم مُّؤمنٌ} بأنه خلقه , قاله الزجاج. الثاني: فمنكم
كافر به وإن أقرّ به، ومنكم مؤمن به.
(6/20)
قال الحسن: وفي الكلام محذوف وتقديره:
فمنكم كافر ومنكم مؤمن ومنكم فاسق، فحذفه لما في الكلام من
الدليل عليه. وقال غيره: لا حذف فيه لأن المقصود به ذكر
الطرفين. {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} يحتمل
وجهين: أحدهما: أن يكون بالقول. الثاني: بإحكام الصنعة وصحة
التقدير. وذكر الكلبي ثالثاً: أن معناه خلق السموات والأرض
للحق. {وَصَوَّرَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: يعني آدم خلقه بيده
كرامة له , قاله مقاتل. الثاني: جميع الخلق لأنهم مخلوقون
بأمره وقضائه. {فأحْسَنَ صُوَرَكم} أي فأحكمها.
(6/21)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ
كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا
أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى
اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
{ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا
وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم
بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله
والله غني حميد} { ... . فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدونَنا} يعني أن
الكفار قالوا ذلك استصغاراً للبشر أن يكونوا رسلاً من اللَّه
إلى أمثالهم , والبشر والإنسان واحد في المعنى , وإنما يختلفان
في اشتقاق الاسم , فالبشر مأخوذ من ظهور البشرة , وفي الإنسان
وجهان: أحدهما: مأخوذ من الإنس. والثاني: من النسيان.
{فَكَفَروا} يعني بالرسل {وَتَوَلَّوْا} يعني عن البرهان.
{واستغنى اللَّه} فيه وجهان: أحدهما: بسلطانه عن طاعة عباده ,
قاله مقاتل. الثاني: واستغنى اللَّه بما أظهره لهم من البرهان
وأوضحه لهم من البيان من زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى
الهداية. {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} في قوله {غَنِيٌّ}
وجهان:
(6/21)
أحدهما: غني عن صدقاتكم , قاله البراء بن
عازب. الثاني: عن عملكم , قاله مقاتل. وفي {حميد} وجهان:
أحدهما: يعني مستحمداً إلى خلقه بما ينعم به عليهم , وهو معنى
قول عليّ. الثاني: إنه مستحق لحمدهم. وحكي عن ابن عباس فيه
ثالث: معناه يحب من عباده أن يحمدوه.
(6/22)
زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ
يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ
صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
{زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي
لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله
ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم
ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر
عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك
أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير} {زَعَمَ الذين كَفَروا}
قال شريح زعموا كُنْيةُ الكذب. {يومَ يَجْمَعُكم ليومِ
الجمْعِ} يعني يوم القيامة , ومن تسميته بذلك وجهان: أحدهما:
لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته. الثاني: لأنه يجمع فيه بين
الظالمين والمظلومين. ويحتمل ثالثاً: لأنه يجمع فيه بين ثواب
أهل الطاعة وعقاب أهل المعاصي.
(6/22)
{ذلك يومُ التغابُنِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه من أسماء يوم القيامة , ومنه قول الشاعر:
(وما أَرْتجي بالعيش من دارِ فُرْقةٍ ... ألا إنما الراحاتُ
يوم التغابنِ)
الثاني: لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار , قال الشاعر:
(لعمرك ما شيءٌ يفوتُك نيلُه ... بغبْنٍ ولكنْ في العقول
التغابنُ)
الثالث: لأنه يوم غَبَنَ فيه المظلومُ الظالمَ , لأن المظلوم
كان في الدنيا مغبوناً فصار في الآخرة غابناً. ويحتمل رابعاً:
لأنه اليوم الذي أخفاه اللهُ عن خَلْقه , والغبن الإخفاء ومنه
الغبن في البيع لاستخفائه , ولذلك قيل مَغابِن الجسد لما خفي
منه.
(6/23)
مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ
الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
{ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن
بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم وأطيعوا الله وأطيعوا
الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين الله لا إله
إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون} {ما أصابَ مِنْ مُّصيبةٍ}
من نفس أو مالٍ أو قول أو فعل يقتضي همّاً أو يوجب عقاباً
عاجلاً أو آجلاً. {إلا بإذْنِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: إلا
بأمر اللَّه. الثاني: إلا بحكم اللَّه تسليماً لأمره وانقياداً
لحكمه. {ومَن يُؤْمِن باللَّه يَهْدِ قلبَهُ} فيه أربعة
تأويلات: أحدها: معناه يهدي قلبه اللَّه تعالى. الثاني: أنه
يعلم أنه من عند اللَّه ويرضى ويسلّم , قاله بشر. الثالث: أن
يسترجع فيقول: إنّا للَّه وإنا إليه راجعون. الرابع: هو إذا
ابتلي صبر , وإذا أنعم عليه شكر وإذا ظُلم غفر , قاله الكلبي.
(6/23)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ
لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم
وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن
الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر
عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا
لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله
قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم عالم الغيب
والشهادة العزيز الحكيم} {يا أيها الذين آمنوا إنّ مِنْ
أزْواجِكم وأَوْلادِكم عَدوّاً لكم} فيه خمسة أقاويل: أحدها:
أنه أراد قوماً أسلموا بمكة فأرادوا الهجرة فمنعهم أزواجهم
وأولادهم منها وثبطوهم عنها , فنزل ذلك فيهم؛ قاله ابن عباس.
الثاني: من أزواجكم وأولادكم من لا يأمر بطاعة اللَّه ولا ينهى
عن معصيته , قاله قتادة. الثالث: أن منهم من يأمر بقطيعة الرحم
ومعصية الرب , ولا يستطيع مع حبه ألاّ يطيعه , وهذا من
العداوة؛ قاله مجاهد. وقال مقاتل بن سليمان: نبئت أن عيسى عليه
السلام قال: من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً.
الرابع: أن منهم من هو مخالف للدين , فصار بمخالفة الدين عدواً
, قاله ابن زيد.
(6/24)
الخامس: أن من حملك منهم على طلب الدنيا
والاستكثار منها كان عدواً لك , قاله سهل. وفي قوله {فاحذروهم}
وجهان: أحدهما: فاحذروهم على دينكم؛ قاله ابن زيد. الثاني: على
أنفسكم , وهو محتمل. {وإن تعْفُوا وتَصْفَحُوا وتَغْفِرُوا}
الآية. يريد بالعفو عن الظالم , وبالصفح عن الجاهل , وبالغفران
للمسيء. {فإنّ اللَّه غفورٌ} للذنب {رحيم} بالعباد , وذلك أن
من أسلم بمكة ومنعه أهله من الهجرة فهاجر ولم يمتنع قال: لئن
رجعت لأفعلنّ بأهلي ولأفعلنّ , ومنهم من قال: لا ينالون مني
خيراً أبداً , فلما كان عام الفتح أُمِروا بالعفو والصفح عن
أهاليهم , ونزلت هذه الآية فيهم. {إنما أموالكم وأولادكم فتنة}
فيه وجهان: أحدهما: بلاء , قاله قتادة. الثاني: محنة , ومنه
قول الشاعر:
(لقد فتن الناس في دينهم ... وخلّىّ ابنُ عفان شرّاً طويلاً)
وفي سبب افتتانه بهما وجهان: أحدهما: لأنه يلهو بهما عن آخرته
ويتوفر لأجلهما على دنياه. الثاني: لأنه يشح لأجل أولاده فيمنع
حق اللَّه من ماله , لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(الولد مبخلة محزنة مجبنة).
(6/25)
{والله عنده أجْرٌ عظيمٌ} قال أبو هريرة
والحسن وقتادة وابن جبير: هي الجنة. ويحتمل أن يكون المراد
بذلك أن يكون أجرهم في الآخرة أعظم من منفعتهم بأموالهم
وأولادهم في الدنيا، فلذلك كان أجره عظيماً. {فاتّقوا الله ما
اسْتطعتم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني جهدكم، قاله أبو
العالية. الثاني: أن يطاع فلا يعصى، قاله مجاهد. الثالث: أنه
مستعمل فيما يرجونه به من نافلة أو صدقة , فإنه لما نزل قوله
تعالى: {اتّقوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اشتد على القوم
فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم , فأنزل الله تعالى
ذلك تخفيفاً {فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الأولى , قاله ابن
جبير. ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكْرَه على المعصية
غير مؤاخذ بها لأنه لا يستطيع اتقاءها. {واسْمَعوا} قال مقاتل:
كتاب الله إذا نزل عليكم. {وأطيعوا} الرسول فيما أمركم أو
نهاكم , قال قتادة: عليها بويع النبي صلى الله عليه وسلم على
السمع والطاعة. {وأنفِقوا خيْراً لأنفُسِكم} فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: هي نفقة المؤمن لنفسه، قاله الحسن. الثاني: في الجهاد،
قاله الضحاك. الثالث: الصدقة، قاله ابن عباس. {ومَن يُوقَ
شُحَّ نفسِهِ فأولئك هم المفلِحونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها:
هوى نفسه، قاله ابن أبي طلحة.
(6/26)
الثاني: الظلم , قاله ابن عيينة. الثالث:
هو منع الزكاة , قال ابن عباس: من أعطى زكاة ماله فقد وقاه
الله شح نفسه. {إن تُقْرِضوا اللَّهَ قرْضاً حَسَناً} فيه
ثلاثة أقاويل: أحدها: النفقة في سبيل اللَّه , قاله عمر رضي
اللَّه عنه. الثاني: النفقة على الأهل , قاله زيد بن أسلم.
الثالث: أنه قول سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه
واللَّه أكبر , رواه ابن حبان. وفي قوله {حَسَناً} وجهان
محتملان: أحدهما: أن تطيب بها النفس. الثاني: أن لا يكون بها
ممتناً. {يُضاعفْه لكم} فيه وجهان: أحدهما: بالحسنة عشر
أمثالها , كما قال تعالى في التنزيل. الثاني: إلى ما لا يحد من
تفضله , قاله السدي. {ويَغْفِرْ لكم} يعني ذنوبكم. {واللَّهُ
شكورٌ حليمٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن يشكر لنا القليل من
أعمالنا وحليم لنا في عدم تعجيل المؤاخذة بذنوبنا. الثاني:
شكور على الصدقة حين يضاعفها، حليم في أن لا يعجل بالعقوبة من
[تحريف] الزكاة عن موضعها، قاله مقاتل. {عالِمُ الغَيْبِ
والشهَادةِ} يحتمل وجهين: أحدهما: السر والعلانية. الثاني:
الدنيا والآخرة.
(6/27)
سورة الطلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/28)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ
رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا
يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن
لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن
ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد
حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}
قوله تعالى {يا أيها النبي إذا طَلّقْتُمُ النّساءَ} الآية.
هذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم [فهو شامل لأمته
فروى قتادة عن أنس قال: (طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها فأنزل الله تعالى عليه: {يا
أيها النبي إذا طلقتم النساءَ فطلِّقوهُنَّ لعدَّتهنَّ} وقيل
له راجعها فإنها قوّأمة صوّامة , وهي من أزواجك في الجنة).]
{لعدتهن} يعني في طهر من غير جماع , وهو طلاق السنة. وفي
اعتبار العدد في طلاق السنة قولان: أحدهما: أنه معتبر وأن من
السنة أن يطلق في كل قرء واحدة , فإن طلقها ثلاثاً معاً في قرء
كان طلاق بدعة , وهذا قول أبي حنيفة ومالك رحمهما الله.
(6/28)
الثاني: أنه غير معتبر , وأن السنة في زمان
الطلاق لا في عدده , فإن طلقها ثلاثاً في قرء كان غير بدعة ,
قاله الشافعي رحمه الله , وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يقرأ: فطلّقوهن لقُبُلِ عدّتهن. وإن طلقها حائضاً أو طهر
جماع كان بدعة , وهو واقع , وزعم طائفة أنه غير واقع لخلاف
المأذون فيه فأما طلاق الحامل وغير المدخول بها والصغيرة
واليائسة والمختلعة فلا سنة فيه ولا بدعة. ثم قال تعالى:
{وأَحْصُوا العِدَّةَ} يعني في المدخول بها , لأن غير المدخول
بها لا عدة عليها وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء
العدة , ويكون بعدها كأحد الخطاب , ولا تحل له في الثلاث إلا
بعد زوج. {واتَّقوا اللَّهَ ربَّكم} يعني في نساءكم المطلقات.
{لا تُخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} يعني في زمان عدّتهن ,
لوجود السكنى لهن. {إلاَّ أنْ يأتِينَ بفاحشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}
فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الفاحشة يعني الزنا , والإخراج
هو إخراجها لإقامة الحد , قاله ابن عمر والحسن ومجاهد.
والثاني: أنه البذاء على أحمائها , وهذا قول عبد الله بن عباس
والشافعي. الثالث: كل معصية للَّه , وهذا مروي عن ابن عباس
أيضاً. الرابع: أن الفاحشة خروجهن , ويكون تقدير الآية: إلا أن
يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن , قاله السدي. {وتلك
حُدودُ اللَّهِ} يعني وهذه حدود اللَّه , وفيها ثلاثة أوجه:
أحدها: يعني طاعة اللَّه، قاله ابن عباس. الثاني: سنَّة اللَّه
وأمره، قاله ابن جبير.
(6/29)
الثالث: شروط اللَّه، قاله السدّي. {وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدودَ اللَّهِ} فيه تأويلان: أحدهما: من لم يرض
بها، قاله ابن عباس. الثاني: من خالفها، قاله ابن جبير. {فقدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ} فيه وجهان: أحدهما: فقد ظلم نفسه في عدم
الرضا , باكتساب المأثم. الثاني: في وقوع الطلاق في غير الطهر
للشهور لتطويل هذه العدة والإضرار بالزوجة. {لا تدري لعلَّ
اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْد ذلك أَمْراً} يعني رجعة , في قول جميع
المفسرين إن طلق دون الثلاث.
(6/30)
فَإِذَا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا
الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
{فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو
فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم
يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له
مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن
الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} {فإذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ} يعني قاربْن انقضاء عدتهن. {فأمْسِكُوهُنَّ
بمعروفٍ} يعني بالإمساك الرجعة. وفي قوله {بمعروف} وجهان:
أحدهما: بطاعة اللَّه في الشهادة , قاله مقاتل. الثاني: أن لا
يقصد الإضرار بها في المراجعة تطويلاً لعدتها. {أو فارِقوهنَّ
بمعروفٍ} وهذا بأن لا يراجعها في العدة حتى تنقضي في منزلها.
{وأشْهِدوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم} يعني على الرجعة في العدة ,
فإن راجع من غير شهادة ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء.
(6/30)
{ومن يتّقِ اللَّهَ يَجْعَل له مَخْرَجاً}
فيه سبعة أقاويل: أحدها: أي ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة
, قاله ابن عباس. الثاني: أن المخرج علمه بأنه من قبل اللَّه ,
فإن اللَّه هو الذي يعطي ويمنع , قاله مسروق. الثالث: أن
المخرج هو أن يقنعه اللَّه بما رزقه , قاله عليّ بن صالح.
الرابع: مخرجاً من الباطل إلى الحق , ومن الضيق إلى السعة ,
قاله ابن جريج. الخامس: ومن يتق اللَّه بالطلاق يكن له مخرج في
الرجعة في العدة , وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة , قاله
الضحاك. والسادس: ومن يتق اللَّه بالصبر عند المصيبة يجعل له
مخرجاً من النار إلى الجنة , قاله الكلبي. السابع: أن عوف بن
مالك الأشجعي أُسِر ابنُه عوف , فأتى رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم فشكا إليه ذلك مع ضر أصابه , فأمره أن يكثر من قول
لا حول ولا قوة إلا باللَّه , فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة
للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه , ثم قدم عوف فوقف على
أبيه يناديه وقد ملأ الأقبال إبلاً , فلما رآه أتى رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم فأخبره وسأله عن الإبل فقال: اصنع بها ما
أحببت وما كنت صانعاً بمالك , فنزلت هذه الآية {وَمَن يتق
الّلَّه يجعل له مخرجاً} الآية , فروى الحسن عن عمران بن حصين
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من انقطع إلى اللَّه
كفاه اللَّه كل مؤونة ورزقه اللَّه من حيث لا يحتسب , ومن
انقطع إلى الدنيا وكله اللَّه إليها). {إنَّ اللَّهَ بالِغُ
أَمْرِهِ} قال مسروق: إن اللَّه قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن
(6/31)
لم يتوكل عليه، إلا أنَّ مَنْ توكّل يكفر
عنه سيئاته ويعظم له أجراً. {قد جَعَل اللَّه لكل شيء قدْراً}
فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: - يعني وقتاً وأجلاً , قاله مسروق.
الثاني: منتهى وغاية , قاله قطرب والأخفش. الثالث: مقداراً
واحداً , فإن كان من أفعال العباد كان مقدراً بأوامر الله ,
وإن كان من أفعال اللَّه ففيه وجهان: أحدهما: بمشيئته. الثاني:
أنه مقدر بمصلحة عباده.
(6/32)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ
أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ
إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن
ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال
أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ذلك
أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له
أجرا} {واللائي يَئِسْنَ مِن المحيْض مِن نِسائِكُمْ إن
ارْتَبْتُمْ فعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أَشْهُرٍ} في الريبة ها هنا
قولان: أحدهما: إن ارتبتم فيهن بالدم الذي يظهر منهن لكبرهن
فلم تعرفوا أحيض هو أم استحاضة , فعدتهن ثلاثة أشهر , قاله
مجاهد والزهري. الثاني: إن ارتبتم بحكم عِددهن فلم تعلموا
بماذا يعتددن , فعدتهن ثلاثة أشهر. روى عمر بن سالم عن أبيّ بن
كعب قال: قلت: يا رسول اللَّه إنّ ناساً من أهل المدينة لما
نزلت الآيات التي في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من
عدة النساء عدد لم يذكرن في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد
انقطع عنهن الحيض وذوات
(6/32)
الحمل، فأنزل اللَّه: {اللائي يئسن من
المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر}. {واللائي لم
يَحِضْنَ} يعني كذلك عدتهن ثلاثة أشهر , فجعل لكل قرء شهراً ,
لأنها تجمع في الأغلب حيضاً وطهراً. {وأُولاتُ الأحْمالِ
أَجلُهنَّ أَن يَضَعْنَ حَملَهُنَّ} فكانت عدة الحامل وضع
حملها في الطلاق والوفاة. {ومَن يتّقِ اللَّهَ يَجْعَل له مِنْ
أمْرِه يُسْراً} فيه وجهان: أحدهما: من يتقه في طلاق السنة
يجعل له من أمره يسراً في الرجعة , قاله الضحاك. الثاني: من
يتق اللَّه في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه
للطاعة , وهذا معنى قول مقاتل.
(6/33)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ
لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ
قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ
اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
{أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا
تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى
يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف
وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه
رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها
سيجعل الله بعد عسر يسرا} {أسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم
مِن وُجْدِكم} يعني سكن الزوجة مستحق على زوجها مدة نكاحها وفي
عدة طلاقها بائناً كان أو رجعياً. وفي قوله: {من وجدكم} أربعة
أوجه: أحدهما: من قوتكم، قاله الأعمش. الثاني: من سعيكم، قاله
الأخفش. الثالث: من طاقتكم، قاله قطرب. الرابع: مما تجدون،
قاله الفراء، ومعانيها متقاربة. {ولا تُضارُّوهُنّ
لِتُضَيِّقُوا عليهنّ} فيه قولان:
(6/33)
أحدهما: في المساكن، قاله مجاهد. الثاني:
لتضيقوا عليهن في النفقة , قاله مقاتل. مقاتل , فعلى قول مجاهد
أنه التضييق في المسكن فهو عام في حال الزوجية وفي كل عدة ,
لأن السكنى للمعتدة واجبة في كل عدة في طلاق يملك فيه الرجعة
أو لا يملك. وفي وجوبه في عدة الوفاة قولان؛ وعلى قول مقاتل
أنه التضييق في النفقة فهو خاص في الزوجة وفي المعتدة من طلاق
رجعي. وفي استحقاقها للمطلقة البائن قولان: أحدهما: لا نفقة
للبائن في العدة , وهو مذهب مالك والشافعي رحمهما اللَّه.
الثاني: لها النفقة , وهو مذهب أبي حنيفة رحمه اللَّه. {وإن
كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنفِقوا عليهنّ حتى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} وهذا في نفقة المطلقة الحامل لأنها واجبة لها مدة
حملها في قول الجميع سواء كان طلاقاً بائناً أم رجعياً , وإنما
اختلفوا في وجوب النفقة لها هل استحقته بنفسها إن كانت بائناً
أو بحملها على قولين. {فإن أَرْضَعْنَ لكم فآتوهُن أُجورَهُنّ}
وهذا في المطلقة إذا أرضعت فلها على المطلق أجرة رضيعها لأن
نفقته ورضاعه واجب على أبيه دونها , ولا أجرة لها إن كانت على
نكاحه. {وائْتَمِروا بَيْنكم بمعْروف} فيه وجهان: أحدهما: قاله
السدي. الثاني: تراضوا يعني أبوي الولد يتراضيان بينهما إذا
وقعت الفرقة بينهما بمعروف في أجرتها على الأب ورضاعها للولد.
{وإن تعاسرتم} فيه وجهان: أحدهما: تضايقتم وتشاكستم، قاله ابن
قتيبة.
(6/34)
الثاني: اختلفتم. {فسترضعُ له أخرى}
واختلافهما نوعان: أحدهما: في الرضاع. الثاني: في الأجر. فإن
اختلفا في الرضاع فإن دعت إلى إرضاعه فامتنع الأب مكِّنت منه
جبراً , وإن دعاها الأب إلى إرضاعه فامتنعت , فإن كان يقبل ثدي
غيرها لم تجبر على إرضاعه ويسترضع له غيرها , وإن كان لا يقبل
ثدي غيرها أجبرت على إراضاعه بأجر مثلها. وإن اختلفا في الأجر
فإن دعت إلى أجر مثلها وامتنع الأب إلا تبرعاً فالأم أَوْلى
بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعاً. وإن دعا الأب إلى أجر
المثل وامتنعت الأم شططاً فالأب أولى به , فإذا أعسر الأب
بأجرتها أخذت جبراً برضاع ولدها. { ... لا يُكلِّفُ اللَّه
نفساً إلا ما آتاها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يكلف اللَّه
الأب نفقة المرضع إلا بحسب المكنة , قاله ابن جبير. الثاني: لا
يكلفه اللَّه أن يتصدق ويزكي وليس عنده مال مصدق ولا مزكى ,
قاله ابن زيد. الثالث: أنه لا يكلفه فريضة إلا بحسب ما أعطاه
اللَّه من قدرته , وهذا معنى قول مقاتل. {سيَجْعَلُ اللَّهُ
بَعْدَ عُسْرٍ يُسراً} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني بعد ضيق سعة.
الثاني: بعد عجز قدرة.
(6/35)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ
فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا
نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ
أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا
(10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ
لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ
أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ
الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عِلْمًا (12)
{وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله
فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها
وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله
يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا
يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا
الصالحات من الظلمات إلى
(6/35)
النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له
رزقا الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر
بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل
شيء علما} {قد أنزلَ اللَّهُ إليكم ذِكْراً رَسولاً} الذكر
القرآن , وفي الرسول قولان: أحدهما: جبريل , فيكونان جميعاً ,
منزلين , قاله الكلبي. الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم ,
فيكون تقدير الكلام: قد أنزل اللَّه إليكم ذكراً وبعث إليكم
رسولاً. {يتلوا عليكم آيات اللَّه} يعني القرآن , قال الفراء:
نزلت في مؤمني أهل الكتاب. {مُبَيِّناتٍ ليُخْرِجَ الذين
آمَنوا وَعمِلوا الصالِحَاتِ مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ}
فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من ظلمة الجهل إلى نور العلم. الثاني:
من ظلمة المنسوخ إلى ضياء الناسخ. الثالث: من ظلمة الباطل إلى
ضياء الحق. {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل
الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله أحاط
بكل شيء علماً} {الله الذي خلق سبع سموات} لا اختلاف بينهم في
السموات السبع أنها سماء فوق سماء. ثم قال: {ومن الأرض مثلهن}
يعني سبعاً، واختلف فيهن على قولين: أحدهما: وهو قول الجمهور
أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، وجعل في كل أرض من خلقه
من شاء، غير أنهم تقلّهم أرض وتظلهم أخرى، وليس تظل السماء إلا
أهل الأرض العليا التي عليها عالمنا هذا، فعلى هذا تختص دعوة
الإسلام
(6/36)
بأهل الأرض العليا ولا تلزم من في غيرها من
الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز. وفي مشاهدتهم
السماء واستمداد الضوء منها قولان: أحدهما: أنهم يشاهدون
السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها وهذا قول من
جعل الأرض مبسوطة. والقول الثاني: أنهم لا يشاهدون السماء وإن
الله خلق لهم ضياء يستمدونه، وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة.
القول الثاني: حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع
أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض، تفرق بعض، تفرق بينهن البحار
وتظل جميعهن السماء، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل هذه الأرض
وصول للأخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض، وإن كان لقوم
منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند
إمكان الوصول إليهم لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من
لزوم ما عم حكمه، واحتل ألا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمت
لكان النص بها وارداً ولكان الرسول بها مأموراً، والله أعلم
بصحة ما استأثر بعلمه وصواب ما اشتبه على خلقه. ثم قال تعالى:
{يتنزل الأمر بينهن} فيه وجهان: أحدهما: الوحي، قاله مقاتل،
فعلى هذا يكون قوله {بينهن} إشارة إلى ما بين هذه الأرض العليا
التي هي أدناها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. الوجه
الثاني: أن المراد بالأمر قضاء الله وقدره، وهو قول الأكثرين،
فعلى هذا يكون المراد بقوله " بينهن " الإشارة إلى ما بين
الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي
أعلاها. ثم قال {ليعلموا أن الله على كل شيء قدير} لأن من قدر
على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر، ومن
العفو والانتقام أمكنْ، وإن استوى كل ذلك في مقدوره ومكنته.
{وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} أوجب التسليم بما تفرد به من
العلم كما أوجب التسليم بما تفرد به من القدرة، ونحن نستغفر
الله من خوض فيما اشتبه وفيما التبس وهو حسب من استعانه ولجأ
إليه.
(6/37)
|