تفسير الماوردي
النكت والعيون سورة النبأ
(6/182)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ
(1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا
سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)
وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا
سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ
مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15)
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
{عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه
مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ألم نجعل الأرض مهادا
والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا
الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا
وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به
حبا ونباتا وجنات ألفافا} قوله تعالى {عَمَّ يتساءَلونَ عن
النبإ العَظيمِ} يعني عن أي شيء يتساءل المشركون؟ لأن قريشاً
حيث بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت تجادل وتَختصم في
الذي دعا إليه. وفي {النبأ العظيم} أربعة أقاويل: أحدها:
القرآن، قاله مجاهد. الثاني: يوم القيامة، قاله ابن زيد.
الثالث: البعث بعد الموت، قاله قتادة. الرابع: عن أمر النبي
صلى الله عليه وسلم.
(6/182)
{الذي هُمْ فيه مُختَلِفَونَ} هو البعث،
فأما الموت فلم يختلفوا فيه، وفيه قولان: أحدهما: أنه اختلف
فيه المشركون من بين مصدق منهم ومكذب , قاله قتادة. الثاني:
اختلف فيه المسلمون والمشركون , فصدّق به المسلمون وكذّب به
المشركون , قاله يحيى بن سلام. {كَلاَّ سيعْلَمون ثم كلا
سيعلمون} فيه قولان: أحدهما: أنه وعيد بعد وعيد للكفار , قاله
الحسن , فالأول: كلا سيعلمون ما ينالهم من العذاب في القيامة ,
والثاني: كلا سيعلمون ما ينالهم من العذاب في جهنم. القول
الثاني: أن الأول للكفار فيما ينالهم من العذاب في النار ,
والثاني للمؤمنين فيما ينالهم من الثواب في الجنة , قاله
الضحاك. {وجَعَلْنا نَوْمَكم سُباتاً} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: نعاساً , قاله السدي. الثاني: سكناً , قاله قتادة.
الثالث: راحة ودعة , ولذلك سمي يوم السبت سبتاً لأنه يوم راحة
ودعة , قال أبو جعفر الطبري: يقال سبت الرجل إذا استراح.
الرابع: سُباتا أي قطعاً لأعمالهم , لأن أصل السبات القطع ومنه
قولهم سبت الرجل شعره إذا قطعه , قال الأنباري: وسمي يوم السبت
لانقطاع الأعمال فيه. ويحتمل خامساً: أن السبات ما قرت فيه
الحواس حتى لم تدرك بها الحس. {وجَعَلْنا اللّيلَ لِباساً} فيه
وجهان: أحدهما: سكناً، قاله سعيد بن جبير والسدي. الثاني:
غطاء، لأنه يغطي سواده كما يغطى الثوب لابسه، قاله أبو جعفر
الطبري. {وجَعَلنا النهارَ مَعاشاً} يعني وقت اكتساب، وهو معاش
لأنه يعاش فيه.
(6/183)
ويحتمل ثانياً: أنه زمان العيش واللذة.
{وجَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً} يعني بالسراج الشمس، وفي الوهّاج
أربعة أقاويل: أحدها: المنير، قاله ابن عباس. الثاني:
المتلألىء، قاله مجاهد. الثالث: أنه من وهج الحر، قاله الحسن.
الرابع: أنه الوقّاد، الذي يجمع بين الضياء والجمال.
{وأَنْزَلْنا من المُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ان المعصرات الرياح , قاله ابن عباس وعكرمة , قال زيد
بن أسلم هي الجنوب. الثاني: أنها السحاب , قاله سفيان والربيع.
الثالث: أن المعصرات السماء , قاله الحسن وقتادة. وفي الثجاج
قولان: أحدهما: الكثير قاله ابن زيد. الثاني: المنصبّ , قاله
ابن عباس , وقال عبيد بن الأبرص:
(فثجّ أعلاه ثم ارتج أسفلُه ... وضاق ذَرْعاً بحمل الماء
مُنْصاحِ)
{لنُخرج به حبّاً ونَباتاً} فيه قولان: أحدهما: ان الحب ما كان
في كمام الزرع الذي يحصد، والنبات: الكلأ الذي يرعى، وهذا معنى
قول الضحاك. الثاني: أن الحب اللؤلؤ، والنبات: العشب، قال
عكرمة: ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبتت في الأرض عشبة
أو في البحر لؤلؤة. ويحتمل ثالثاً: أن الحب ما بذره الآدميّون،
والنبات ما لم يبذروه. {وجنّاتٍ أَلْفافاً} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها الزرع المجتمع بعضه إلى جنب بعض، قاله عكرمة.
الثاني: أنه الشجرالملتف بالثمر، قاله السدي. الثالث: أنها ذات
الألوان، قاله الكلبي.
(6/184)
ويحتمل رابعاً: أنها التي يلف الزرع أرضها
والشجر أعاليها، فيجتمع فيها الزرع والشجر ملتفات.
(6/185)
إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ
أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا
(20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ
مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ
فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا
وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا
يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا
(28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا
فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
{إن يوم الفصل كان ميقاتا يوم ينفخ في
الصور فتأتون أفواجا وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال
فكانت سرابا إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها
أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء
وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا وكل شيء
أحصيناه كتابا فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا} {إنّ يومَ الفصلِ}
يعني يوم القيامة , سمي بذلك لأنه يفصل فيه الحكم بين الأولين
والآخرين والمثابين والمعاقبين. {كانَ مِيقاتاً} فيه وجهان:
أحدهما: ميعاداً للإجتماع. والثاني: وقتاً للثواب والعقاب.
{وسُيِّرتِ الجبالُ فكانتْ سَراباً} فيه وجهان: أحدهما: سُيّرت
أي أزيلت عن مواضعها. الثاني: نسفت من أصولها. (فكانت سراباً)
فيه وجهان: أحدهما: فكانت هباءً. الثاني: كالسراب لا يحصل منه
شيء كالذي يرى السراب يظنه ماء وليس بماء. {إنّ جهنّمَ كانت
مِرْصاداً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني أنها راصدة فجازتهم
بأعمالهم , قاله أبو سنان. الثاني: أن على النار رصداً , لا
يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه , فمن جاء بجواز جاز , ومن لم
يجىء بجواز لم يجز , قاله الحسن. الثالث: أن المرصاد وعيد أوعد
الله به الكفار , قاله قتادة.
(6/185)
{للطّاغينَ مَآباً} فيه قولان: أحدهما:
مرجعاً ومنقلباً , قاله السدي. الثاني: مأولى ومنزلاً , قاله
قتادة. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر أو في دنياه
بالظلم. {لابِثينَ فيها أَحْقاباً} يعني كلما مضى حقب جاء حقب
وكذلك إلى الأبد واختلفوا في مدة الحقب على سبعة أقاويل:
أحدها: ثمانون سنة , قاله أبو هريرة. الثاني: أربعون سنة ,
قاله ابن عمر. الثالث: سبعون سنة , قاله السدي. الرابع: أنه
ألف شهر , رواه أبو أمامة مرفوعاً. الخامس: ثلاثمائة سنة ,
قاله بشير بن كعب. السادس: سبعون ألف سنة , قاله الحسن.
السابع: أنه دهر طويل غير محدود , قاله قطرب. وفي تعليق لبثهم
بالأحقاب قولان: أحدهما: أنه على وجه التكثير , كلما مضت أحقاب
جاءَت بعدها أحقاب , وليس ذلك بحد لخلودهم في النار. الثاني:
أن ذلك حد لعذابهم بالحميم والغسّاق , فإذا انقضت الأحقاب
عذبوا بغير ذلك من العذاب. {لا يَذُوقونَ فيها بَرداً ولا
شَراباً} في البرد ثلاثة أقاويل:
(6/186)
أحدها: أنه برد الماء , وبرد الهواء , وهو
قول كثير من المفسرين. الثاني: أنه الراحة , قاله قتادة.
الثالث: أنه النوم , قاله مجاهد والسدي وأبو عبيدة. وأنشد قول
الكندي:
(بَرَدَتْ مَراشِفُها علىَّ فَصَدَّني ... عنها وعن تَقْبيلِها
البَرْدُ)
يعني النوم. والشراب ها هنا: العذاب. ويحتمل أن يريد بالشراب
الري , لأن الشراب يروي وهم فيها عطاش أبداً. {إلاّ حَميماً
وغَسّاقاً} أما الحميم ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الحارّ
الذي يحرق , قاله ابن عباس. الثاني: دموع أعينهم في النار
تجتمع في حياض في النار فيُسقونْه , قاله ابن زيد. الثالث: أنه
نوع من الشراب لأهل النار , قاله السدي. وأما الغسّاق ففيه
أربعة أقاويل: أحدهاك أنه القيح الغليظ , قاله ابن عمر.
الثاني: أنه الزمهرير البارد الذي يحرق من برده , قاله ابن
عباس. الثالث: أنه صديد أهل النار , قاله قتادة. الرابع: أنه
المنتن باللغة الطحاوية , قاله ابن زيد. {جزاءً وِفاقاً} وهو
جمع وفق , قال أهل التأويل: وافق سوءُ الجزاء سوءَ العمل.
{إنهم كانوا لا يَرْجُونَ حِساباً} فيه وجهان: أحدهما: لا
يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً , قاله ابن عباس. الثاني: لا
يخافون وعيد الله بحسابهم ومجازاتهم , وهذا معنى قول قتادة.
{وكذّبوا بآياتِنا كِذّاباً} يعني بآيات القرآن , وفي
(كِذّاباً) وجهان:
(6/187)
أحدهما: أنه الكذب الكثير. الثاني: تكذيب
بعضهم لبعض , ومنه قول الشاعر:
(فَصَدَقْتُها وَكَذَبْتُها ... والمرءُ يَنْفعُهُ كِذابُهْ)
وهي لغة يمانية.
(6/188)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ
أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ
فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ
عَطَاءً حِسَابًا (36)
{إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب
أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك
عطاء حسابا} {إنّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} فيه وجهان: أحدهما:
نجاة من شرها , قاله ابن عباس. الثاني: فازوا بأن نجوا من
النار بالجنة , ومن العذاب بالرحمة , قاله قتادة , وتحقيق هذا
التأويل أنه الخلاص من الهلاك , ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها
مفازة تفاؤلاً بالخلاص منها. {وكَواعِبَ أَتْراباً} في الكواعب
قولان: أحدهما: النواهد , قاله ابن عباس. الثاني: العذارى ,
قاله الضحاك , ومنه قول قيس بن عاصم:
(وكم مِن حَصانٍ قد حَويْنا كريمةٍ ... ومِن كاعبٍ لم تَدْرِ
ما البؤسُ مُعْصر)
وفي الاتراب أربعة أقاويل: أحدها: الأقران , قاله ابن عباس.
الثاني: الأمثال , قاله مجاهد. الثالث: المتصافيات , قاله
عكرمة. الرابع: المتآخيات , قاله السدي. {وكأساً دِهاقاً} فيه
ثلاثة أقاويل: أحدها: مملوءة , قاله ابن عباس , ومنه قول
الشاعر:
(6/188)
(أتانا عامرٌ يَبْغي قِرانا ... فأَتْرَعنا
له كأساً دِهاقاً)
الثاني: متتابعة يتبع بعضها بعضاً , قاله عكرمة. الثالث: صافية
, رواه عمر بن عطاء , قال الشاعر:
(لأنْتِ آلى الفؤادِ أَحَبُّ قُرْباً ... مِن الصّادي إلى كأسٍ
دِهَاقِ.)
{لا يَسْمعونَ فيها لَغْواً ولا كِذّاباً} في اللغو ها هنا
أربعة أقاويل: أحدها الباطل , قاله ابن عباس. الثاني: الحلف
عند شربها , قاله السدي. الثالث: الشتم , قاله مجاهد. الرابع:
المعصية , قاله الحسن. وفي (كِذّاباً) ثلاثة أقاويل: أحدهاك لا
يكذب بعضهم بعضاً , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنه الخصومة ,
قاله الحسن. الثالث: أنه المأثم , قاله قتادة. وفي قوله {لا
يَسْمَعونَ فيها} وجهان: أحدهما: في الجنة , قاله مجاهد.
الثاني: في شرب الخمر , قاله يحيى بن سلام. {جزاءً من ربكَ
عَطاءً حِساباً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: كافياً , قاله
الكلبي. الثاني: كثيراً , قاله قتادة. الثالث: حساباً لما
عملوا , فالحساب بمعنى العد.
(6/189)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ
مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ
أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ
الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ
مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ
يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ
الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
{رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا
يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا
من أذن له الرحمن وقال صوابا ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى
ربه مآبا إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر
(6/189)
المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني
كنت ترابا} {يومَ يقومُ والرُّوحُ الملائكةُ صَفّاً} في الروح
ها هنا ثمانية أقاويل: أحدها: الروح خلق من خلق الله كهيئة
الناس وليسوا أناساً , وهم جند للَّه سبحانه , قاله أبو صالح.
الثاني: أنهم أشرف الملائكة , قاله مقاتل بن حيان. الثالث:
أنهم حفظة على الملائكة , قاله ابن أبي نجيح. الثالث: أنهم
حفظة على الملائكة خلقاً , قاله ابن عباس. الرابع: أنه ملك من
أعظم الملائكة خلقاً , قاله ابن عباس. الخامس: هو جبريل عليه
السلام , قاله سعيد بن جبير. السادس: أنهم بنو آدم , قاله
قتادة. السابع: أنهم بنو آدم , قاله قتادة. الثامن: أنه القرآن
, قاله زيد بن أسلم. {لا يتكلمونَ إلا مَنْ أَذِنَ له الرحمنُ}
فيه قولان: أحدهما: لا يشفعون إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة
, قاله الحسن. الثاني: لا يتكلمون في شيء إلا من أذن له الرحمن
شهادة أن لا إله إلا الله , قاله ابن عباس. {وقالَ صَواباً}
فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني حقاً , قاله الضحاك. الثاني:
قول لا إله إلا الله , قاله أبو صالح. الثالث: أن الروح يقول
يوم القيامة: لا تُدخل الجنة إلا بالرحمة , ولا النار إلا
بالعمل , فهو معنى قوله (وقال صواباًَ) قاله الحسن. ويحتمل
رابعاً: أنه سؤال الطالب وجواب المطلوب , لأن كلام الخلق في
القيامة مقصور على السؤال والجواب. {ذلك اليومُ الحقُّ} يعني
يوم القيامة , وفي تسميته الحق وجهان: أحدهما: لأن مجئيه حق
وقد كانوا على شك. الثاني: أنّ الله تعالى يحكم فيه بالحق
بالثواب والعقاب. {فمن شاءَ اتّخَذ إلى ربِّه مآباً} فيه
وجهان:
(6/190)
أحدهما: سبيلاً , قاله قتادة. الثاني:
مرجعاً , قاله ابن عيسى. ويحتمل ثالثاً: اتخذ ثواباً لاستحقاقه
بالعمل لأن المرجع يستحق على المؤمن والكافر. {إنّا أنذْرْناكم
عَذاباَ قريباً} فيه وجهان: أحدهما: عقوبة الدنيا , لأنه أقرب
العذابين , قاله قتادة , وقاله مقاتل: هو قتل قريش ببدر.
الثاني: عذاب يوم القيامة , لأنه آت وكل آت قريب , وهو معنى
قول الكلبي. {يومَ ينظُرُ المْرءُ ما قدَّمَتْ يَداهُ} يعني
يوم ينظر المرء ما قدّم من عمل خير , قال الحسن: قدَّم فقَدِم
على ما قَدَّم. ويحتمل أن يكون عامّاً في نظر المؤمن إلى ما
قدّم من خير , ونظر الكافر إلى ما قدّم من شر. {ويقولُ الكافرُ
يا لَيْتني كنتُ تُراباً} قال مجاهد يبعث الحيوان فيقاد
للمنقورة من الناقرة، وللمركوضة من الراكضة، وللمنطوحة من
الناطحة، ثم يقول الرب تعالى: كونوا تراباً بلا جنة ولا نار ,
فيقول الكافر حينئذ: يا ليتني كنت تراباً وفي قوله ذلك وجهان:
أحدهما: يا ليتني صرت اليوم مثلها تراباً بلا جنة ولا نار،
قاله مجاهد. الثاني: يا ليتني كنت مثل هذا الحيوان في الدنيا
وأكون اليوم تراباً، قاله أبو هريرة: وهذه من الأماني الكاذبة
كما قال الشاعر:
(ألا يا ليتني والمْرءُ مَيْتُ ... وما يُغْني من الحدثانِ
لَيْت.)
قال مقاتل: نزل قوله تعالى: {يوم ينظر المرء ما قدّمت يداهُ}
في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي , ونزل قوله تعالى: {ويقول
الكافر يا ليتني كنت تراباً} في أخيه الأسود بن عبد الأسد.
(6/191)
سورة النازعات
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/192)
وَالنَّازِعَاتِ
غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ
سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ
أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا
نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ (14)
{والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات
سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها
الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة يقولون أئنا لمردودون
في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة فإنما
هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} قوله تعالى {والنَّأزِعاتِ
غَرْقاً} فيه ستة أقاويل: أحدها: هي الملائكة تنزع نفوس بني
آدم , قاله ابن مسعود ومسروق. الثاني: هو الموت ينزع النفوس،
قاله مجاهد. الثالث: هي النفوس حين تنزع، قاله السدي. الرابع:
هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، ومن المشرق إلى المغرب، قاله
الحسن وقتادة. والخامس: هي القسيّ تنزع بالسهم، قاله عطاء.
السادس: هي الوحش تنزع من الكلأ وتنفر، حكاه يحيى بن سلام ,
ومعنى (غرقاً) أي إبعاداً في النزع. {والناشِطات نَشْطاً} فيه
ستة تأويلات:
(6/192)
أحدها: هي الملائكة تنشط أرواح المؤمنين
بسرعة كنشط العقال , قاله ابن عباس. الثاني: النجوم التي تنشط
من مطالعها إلى مغاربها , قاله قتادة. الثالث: هو الموت ينشط
نفس الإنسان , قاله مجاهد. الرابع: هي النفس حيث نشطت بالموت ,
قاله السدي. الخامس: هي الأوهاق , قاله عطاء. السادس: هي الوحش
تنشط من بلد إلى بلد , كما أن الهموم تنشط الإنسان من بلد إلى
بلد , قاله أبو عبيدة , وانشد قول همام بن قحافة:
(أمْسَتْ همومي تنشط المناشِطا ... الشامَ بي طَوْراً وطَوْراً
واسطاً.)
{والسّابحاتِ سَبْحاً} فيه خمسة أوجه: أحدها: هي الملائكة
سبحوا إلى طاعة الله من بني آدم , قاله ابن مسعود والحسن.
الثاني: هي النجوم تسبح في فلكها , قاله قتادة. الثالث: هو
الموت يسبح في نفس ابن آدم , قاله مجاهد. الرابع: هي السفن
تسبح في الماء , قاله عطاء. الخامس: هي الخيل , حكاه ابن شجرة
, كما قال عنترة:
(والخيلُ تعْلم حين تس ... بَحُ في حياضِ المْوتِ سَبْحاً)
ويحتمل سادساً: أن تكون السابحات الخوض في أهوال القيامة.
{فالسّابقاتِ سَبْقاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها هي الملائكة
تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء , قاله عليّ رضي الله عنه
ومسروق. وقال الحسن: سبقت إلى الايمان. الثاني: هي النجوم يسبق
بعضها بعضاً , قاله قتادة. الثالث: هوالموت يسبق إلى النفس ,
قاله مجاهد. الرابع: هي النفس تسبق بالخروج عند الموت , قاله
الربيع.
(6/193)
الخامس: هي الخيل , قاله عطاء. ويحتمل
سادساً: أن تكون السابقات ما سبق من الأرواح قبل الأجساد إلى
جنة أو نار. {فالمُدَبِّرات أمْراً} فيهم قولان: أحدهما: هي
الملائكة , قاله الجمهور , فعلى هذا في تدبيرها بالأمر وجهان:
أحدهما: تدبير ما أمرت به وأرسلت فيه. الثاني: تدبير ما وكلت
فيه من الرياح والأمطار. الثاني: هي الكواكب السبعة , حكاه
خالد بن معدان عن معاذ بن جبل؛ وعلى هذا في تدبيرها للأمر
وجهان. أحدهما: تدبير طلوعها وأفولها. الثاني: تدبير ما قضاه
الله فيها من تقلب الأحوال. ومن أول السورة إلى هذا الموضع قسم
أقسم الله به , وفيه وجهان: أحدهما: أن ذكرها بخالقها. الثاني:
أنه أقسم بها وإن كانت مخلوقة لا يجوز لمخلوق أن يقسم بها ,
لأن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه. وجواب ما عقد له القسم
ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مضمر محذوف وتقديره لو أظْهر:
لتُبْعَثُن ثم لُتحاسبُن , فاستغنى بفحوى الكلام وفهم السامع
عن إظهاره , قاله الفراء. الثاني: أنه مظهر , وهو قوله تعالى:
{إن في ذلك لعبرةً لمن يخشى} قاله مقاتل. الثالث: هو قوله
تعالى: {يومَ ترْجفُ الراجفةُ تَتْبعُها الرادِفةُ} وفيهما
ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الراجفة القيامة , والرادفة البعث ,
قاله ابن عباس. الثاني: أن الراجفة النفخة الأولى تميت الأحياء
, والرادفة: النفخة الثانية تحيي الموتى , قاله الحسن وقتادة.
(6/194)
وقال قتادة: ذكر أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (بينهما أربعون , ما زادهم على ذلك ولا سألوه ,
وكانوا يرون أنها أربعون سنة). وقال عكرمة: الأولى من الدنيا ,
والثانية من الآخرة. الثالث: أن الراجفة الزلزلة التي ترجف
الأرض والجبال والرادفة إذا دكّتا دكة واحدة , قاله مجاهد.
ويحتمل رابعاً: أن الراجفة أشراط الساعة , والرادفة: قيامها.
{قلوبٌ يومئذٍ واجِفَةٌ} فيه وجهان: أحدهما: خائفة , قاله ابن
عباس. الثاني: طائرة عن أماكنها , قاله الضحاك. {أَبْصارُها
خاشِعَة} فيه وجهان: أحدهما: ذليلة , قاله قتادة. الثاني:
خاضعة , قاله الضحاك. {يقولون أئنا لَمْردودُونَ في الحافِرةِ}
فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الحافرة الحياة بعد الموت , قاله
ابن عباس والسدي وعطية. الثاني: أنها الأرض المحفورة , قاله
ابن عيسى. الثالث: أنها النار , قاله ابن زيد. الرابع: أنها
الرجوع إلى الحالة الأولى تَكذيباً بالبعث , من قولهم رجع فلان
على قومه إذا رجع من حيث جاء , قاله قتادة , قال الشاعر:
(أحافرة على صَلَعٍ وشيْبٍ ... معاذَ اللَّه من جَهْلٍ
وطَيْشِ)
{أَئِذا كْنَا عِظاماً نَخِرةً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها:
بالية , قاله السدي. الثاني: عفنة , قاله ابن شجرة. الثالث:
خالية مجوفة تدخلها الرياح فتنخر , أي تصوّت , قاله عطاء
والكلبي.
(6/195)
ومن قرأ (ناخرة) فإن الناخرة البالية ,
والنخرة التي تنخر الريح فيها. {تلك إذاً كَرّةٌ خاسِرةٌ} فيه
تأويلان: أحدهما: باطلة لا يجيء منها شيء , كالخسران , وليست
كاسبة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: معناه لئن رجعنا أحياء بعد
الموت لنخسرنّ بالنار , قاله قتادة ومحمد بن كعب. ويحتمل
ثالثاً: إذا كنا ننتقل من نعيم الدنيا إلى عذاب الآخرة فهي كرة
خاسرة. {فإنّما هي زجْرةٌ واحدةٌ} فيه تأويلان: أحدهما: نفخة
واحدة يحيا بها الجميع فإذا هم قيام ينظرون , قاله الربيع بن
أنس. الثاني: الزجرة الغضب , وهو غضب واحد , قاله الحسن.
ويحتمل ثالثاً: أنه لأمر حتم لا رجعة فيه ولا مثنوية. {فَإذَا
هم بالسّاهرةِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: وجه الأرض , قاله
ابن عباس وعكرمة ومجاهد , والعرب تسمي وجه الأرض ساهرة لأن
فيها نوم الحيوان وسهره , قال أمية بن أبي الصلت:
(وفيها لحْمُ ساهرةٍ وبَحرٌ ... وما فاهوا به لهمُ مُقيم)
وقال آخر يوم ذي قار لفرسه:
(أَقْدِمْ مَحاجِ إنها الأساوِره ... ولا يهولنّك رِجْلٌ
بادِرهْ)
(فإنما قَصْرُكَ تُرْبُ السّاهرهْ ... ثم تعودُ , بَعْدها في
الحافرهْ)
89 (من بَعْد ما صِرْتَ عظاماً ناخِرهْ} 9
الثاني: أنه اسم مكان من الأرض بعينه بالشام , وهو الصقع الذي
بين جبل أريحا وجبل حسّان , يمده الله تعالى كيف يشاء , قاله
عثمان بن أبي العاتكة.
(6/196)
الثالث: أنها جبل بيت المقدس , قاله وهب بن
منبه. الرابع: أنه جهنم , قاله قتادة. ويحتمل خامساً: أنها
عرضة القيام لأنها أول مواقف الجزاء , وهم في سهر لا نوم فيه.
(6/197)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ
طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى
رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ
فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
{هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد
المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى
وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر
يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة
والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} {هلْ أتاكَ حديثُ موسى إذ
ناداه ربه بالوادِ المقدَّسِ طُوَىً} فيه قولان: أحدهما: وهو
قول مبشر بن عبيد هو واد بأيلة. الثاني: وهو قول الحسن , هو
واد بفلسطين. وفي (المقدَّس) تأويلان: أحدهما: المبارك , قاله
ابن عباس. الثاني: المطهر , قاله الحسن: قدّس مرتين. وفي
(طُوَىً) أربعة أقاويل: أحدها: أنه أسم الوادي المقدس , قاله
مجاهد وقتادة وعكرمة. الثاني: لأنه مر بالوادي فطواه , قاله
ابن عباس. الثالث: لأنه طوي بالبركة , قاله الحسن. الرابع:
يعني طأ الوادي بقدمك , قاله عكرمة ومجاهد. ويحتمل خامساً؛ أنه
ما تضاعف تقديسه حتى تطهّر من دنس المعاصي , مأخوذ من طيّ
الكتاب إذا ضوعف. {فَقُلْ هل لك إلى أن تَزَكّى} فيه قولان:
أحدهما: إلى أن تُسْلِم , قال قتادة. الثاني: إلى أن تعمل
خيراً، قاله الكلبي.
(6/197)
{فأَراهُ الآيةَ الكُبْرَى} فيها قولان:
أحدهما: أنها عصاه ويده، قاله الحسن وقتادة. الثاني: أنها
الجنة والنار، قاله السدي. ويحتمل ثالثاً: أنه كلامه من
الشجرة. قوله {فَحَشَرَ فنادَى} فيه وجهان: أحدهما: حشر السحرة
للمعارضة، ونادى جنده للمحاربة. الثاني: حشر الناس للحضور
ونادى أي خطب فيهم. {فأخَذَهُ الله نَكالََ الآخرة والأُولى}
فيها أربعة أقاويل: أحدها: عقوبة الدنيا والآخرة , قال قتادة:
عذبه الله في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالنار. الثاني: عذاب
أول عُمرِه وآخره , قاله مجاهد. الثالث: الأولى قوله: (ما علمت
لكم مِن إلهٍ غيري) والآخرة قوله (أنا ربكم الأعلى) , قاله
عكرمة , قال ابن عباس: وكان بينهما أربعون سنة , وقال مجاهد:
ثلاثون سنة , قال السدي: وهي الآخرة ثلاثون سنة. الرابع: عذاب
الأولى الإمهال , والآخرة في النار , من قوله تعالى: {النار
يعرضون عليها} الآية , قاله الربيع.
(6/198)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا
فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا
(29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ
مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا
(32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
{أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها
فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج
منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم}
{وأَغْطَشَ لَيْلَها وأَخْرَجَ ضُحاها} معناه أظلم ليلها ,
وشاهد الغطش أنه الظلمة قول الأعشى:
(عَقَرْتُ لهم مَوْهِنا ناقتي ... وغامِرُهُمْ مُدْلَهِمٌّ
غَطِشْ)
يعني يغمرهم ليلهم لأنه غمرهم بسواده.
(6/198)
وفي قوله: (وأخرج ضُحاها) وجهان: أحدهما:
أضاء نهارها وأضاف الليل والضحى إلى السماء لأن منهما الظلمة
والضياء. الثاني: قال ابن عباس أن أخرج ضحاها: الشمس. {والأرضَ
بَعْد ذلك دَحاها} في قوله (بَعْد) وجهان: أحدهما: مع وتقدير
الكلام: والأرض مع ذلك دحاها , لأنها مخلوقة قبل السماء , قاله
ابن عباس ومجاهد. الثاني: أن (بعد) مستعملة على حقيقتها لأنه
خلق الأرض قبل السماء ثم دحاها بعد السماء , قاله ابن عمر
وعكرمة. وفي (دحاها) ثلاثة أوجه: أحدها: بسطها , قاله ابن عباس
, قال أمية بن أبي الصلت:
(وَبَثَّ الخلْق فيها إذْ دَحاها ... فَهُمْ قُطّانُها حتى
التنادي)
قال عطاء: من مكة دحيت الأرض , وقال عبد الله بن عمر: من موضع
الكعبة دحيت. الثاني: حرثها وشقها , قاله ابن زيد. الثالث:
سوّاها , ومنه قول زيد بن عمرو:
(وأسْلَمْتُ وجهي لمن أسْلَمتْ ... له الأرضُ تحمل صَخْراً
ثِقالا)
(دحاها فلما اسْتَوتْ شدّها ... بأيْدٍ وأرْسَى عليها الجبالا)
(6/199)
فَإِذَا جَاءَتِ
الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ
مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا
أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا
(46)
{فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر
الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة
الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس
عن الهوى فإن الجنة هي المأوى يسألونك عن الساعة أيان مرساها
فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر
(6/199)
من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا
عشية أو ضحاها} {فإذا جاءت الطامّةُ الكُُبْرى} فيه أربعة
أقاويل: أحدها: أنها النفخة الآخرة، قاله الحسن. الثاني: أنها
الساعة طمت كل داهية، والساعة أدهى وأمّر، قاله الربيع.
الثالث: أنه اسم من أسماء القيامة يسمى الطامة، قاله ابن عباس.
الرابع: أنها الطامة الكبرى إذا سيق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل
النار إلى النار، قاله القاسم بن الوليد، وهو معنى قول مجاهد.
وفي معنى (الطامّة) في اللغة ثلاثة وجوه: أحدها: الغاشية.
الثاني: الغامرة. الثالث: الهائلة , ذكره ابن عيسى , لأنها تطم
على كل شيء أي تغطيه. {وأمّا مَنْ خاف مَقام رَبِّهِ ونَهَى
النفْسَ عن الهَوى} فيه وجهان: أحدهما: هو خوفه في الدنيا من
الله عند مواقعة الذنب فيقلع , قاله مجاهد. الثاني: هو خوفه في
الآخرة من وقوفة بين يدي الله للحساب , قاله الربيع بن أنس ,
ويكون معنى: خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى , قال الكلبي:
وزجر النفس عن المعاصي والمحارم. {فإنّ الجنّةَ هي المأوَى} أي
المنزل , وذكر أنها نزلت في مصعب بن عمير. {يسألونَكَ عن
الساعةِ أيّانَ مُرْساها} قال ابن عباس: متى زمانها , قاله
الربيع {فيمَ أنْتَ مِن ذِكْراها} فيه وجهان: أحدهما: فيم
يسألك المشركون يا محمد عنها ولست ممن يعلمها , وهو معنى قول
ابن عباس. الثاني: فيم تسأل يا محمد عنها وليس لك السؤال ,
وهذا معنى قول عروة بن الزبير.
(6/200)
{إلى ربِّك مُنْتَهاها} يعني منتهى علم
الساعة: فكف النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال وقال: يا أهل
مكة إن الله احتجب بخمس لم يُطْلع عيهن مَلَكاً مقرباً ولا
نبياً مرسلاً فمن ادعى علمهن فقد كفر: {إن اللَّه عنده علم
الساعة ... } إلى آخر السورة. {إنّما أنْتَ} يعني محمداً صلى
الله عليه وسلم. {مَنْذِرُ مَنْ يَخْشَاها} يعني القيامة.
{كأنّهم يومَ يَرَوْنَها} يعني الكفار يوم يرون الآخرة. {لَمْ
يَلْبَثُوا} في الدنيا. {إلاَّ عَشيّةً} وهي ما بعد الزوال.
{أو ضُحاها} وهو ما قبل الزوال , لأن الدنيا تصاغرت عندهم
وقلّت في أعينهم , كما قال تعالى: {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا
إلا ساعةً من نهارٍ}.
(6/201)
سورة عبس
مكية في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم
(6/202)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا
عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى
(8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي
صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
{عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله
يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما
عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا
إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة
كرام بررة} قوله تعالى {عَبَسَ وتَوَلّى أنْ جاءَه الأَعْمَى}
روى سعيد عن قتادة أن ابن أم مكتوم , وهو عبد الله بن زائدة من
بني فهر , وكان ضريراً , أتى رسول الله رسول الله صلى الله
عليه سلم يستقرئه وهو يناجي بعض عظماء قريش - وقد طمع في
إسلامهم - قال قتادة: هو أمية بن خلف , وقال مجاهد: هما عتبة
وشيبة ابنا ربيعة , فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمى
وعبس في وجهه , فعاتبه الله تعالى في إعراضه وتوليه فقال (عبس
وتولّى) أي قطّب واعرض (أن جاءه الأعمى) يعني ابن أم مكتوم.
{وما يُدريك لعلّه يَزَّكى} فيه أربعة أوجه: أحدها: يؤمن ,
قاله عطاء. الثاني: يتعبد بالأعمال الصالحة، قاله ابن عيسى.
الثالث: يحفظ ما يتلوه عليه من القرآن، قاله الضحاك.
(6/202)
الرابع: يتفقه في الدين , قاله ابن شجرة.
{أوْ يَذَّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى} قال السدّي: لعله
يزّكّى ويّذكرُ , والألف صلة , وفي الذكرى وجهان: أحدها:
الفقه. الثاني: العظة. قال ابن عباس: فكان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا نظر إليه مقبلاً بسط له رداءه حتى يجلس عليه إكراماً
له. قال قتادة: واستخلفه على صلاة الناس بالمدينة في غزاتين من
غزواته , كل ذلك لما نزل فيه. {كلاّ إنّها تَذْكِرةٌ} فيه
وجهان: أحدهما: أن هذه السورة تذكرة , قاله الفراء والكلبي.
الثاني: أن القرآن تذكرة , قاله مقاتل. {فَمَن شَاءَ ذكَرَهُ}
فيه وجهان: أحدهما: فمن شاء الله ألهمه الذكر , قاله مقاتل.
الثاني: فمن شاء أن يتذكر بالقرآن أذكره الله , وهو معنى قول
الكلبي. {في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مكرمة
عند الله , قاله السدي. الثاني: مكرمة في الدين لما فيها من
الحكم والعلم , قاله الطبري. الثالث: لأنه نزل بها كرام
الحفظة. ويحتمل قولاً رابعاً: أنها نزلت من كريم , لأن كرامة
الكتاب من كرامة صاحبه. {مرفوعةٍ} فيه قولان: أحدهما: مرفوعة
في السماء , قاله يحيى بن سلام. الثاني: مرفوعة القدر والذكر ,
قاله الطبري.
(6/203)
ويحتمل قولاً ثالثاً: مرفوعة عن الشُبه
والتناقض. {مُطَهّرةٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدهأ: من الدنس ,
قاله يحيى بن سلام. الثاني: من الشرك , قاله السدي. الثالث:
أنه لا يمسها إلا المطهرون , قاله ابن زيد. الرابع: مطهرة من
أن تنزل على المشركين , قاله الحسن. ويحتمل خامساً: لأنها نزلت
من طاهر مع طاهر على طاهر. {بأيْدِى سَفَرَةٍ} فيه ثلاثة
أقاويل: أحدها: أن السفرة الكتبة , قاله ابن عباس , قال
المفضل: هو مأخوذ من سفر يسفر سفراً , إذا كتب , قال الزجاج:
إنما قيل للكتاب سِفْر وللكاتب سافر من تبيين الشيء وإيضاحه ,
كما يقال أسفر الصبح إذا وضح ضياؤه وظهر , وسفرت المرأة إذا
كشفت نقابها. الثاني: أنهم القّراء , قال قتادة لأنهم يقرؤون
الأسفار. الثالث: هم الملائكة , لأنهم السفرة بين يدي الله
ورسله بالرحمة , قال زيد , كما يقال سَفَر بين القوم إذا بلغ
صلاحاً , وأنشد الفراء:
(وما أدَعُ السِّفارةَ بين قوْمي ... وما أَمْشي بغِشٍ إنْ
مَشَيْتُ)
{كِرام بَرَرةٍ} في الكرام ثلاثة أقاويل: أحدها: كرام على ربهم
, قاله الكلبي. الثاني: كرام عن المعاصي فهم يرفعون أنفسهم
عنها , قاله الحسن. الثالث: يتكرمون على من باشر زوجته بالستر
عليه دفاعاً عنه وصيانة له , وهو معنى قول الضحاك. ويحتمل
رابعاً: أنهم يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. وفي (بررة)
ثلاثة أوجه: أحدها: مطيعين , قاله السدي.
(6/204)
الثاني: صادقين واصلين , قاله الطبري.
الثالث: متقين مطهرين , قاله ابن شجرة. ويحتمل قولاً رابعاً:
أن البررة مَن تعدى خيرهم إلى غيرهم , والخيرة من كان خيرهم
مقصوراً عليهم.
(6/205)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ
مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ
نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ
يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا
شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا
صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ
شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا
وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ
غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ
وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
{قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من
نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء
أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا
الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا
وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم}
{قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَه} في (قتل) وجهان: أحدهما:
عُذِّب. الثاني: لعن. وفي (الإنسان) ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه
إشارة إلى كل كافر , قاله مجاهد. الثاني: أنه أمية بن خلف ,
قاله الضحاك. الثالث: أنه عتبة بن أبي لهب حين قال: إني كفرت
برب النجم إذا هوى , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللَّهم
سلّطْ عليه كلبك) فأخذه الأسد في طريق الشام , قاله ابن جريج
والكلبي. وفي (ما أكْفَرَه) ثلاثة أوجه: أحدها: أن (ما) تعجب ,
وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا قاتله الله ما أحسنه ,
وأخزاه الله ما أظلمه , والمعنى: أعجبوا من كفر الإنسان لجميع
ما ذكرنا بعد هذا. الثاني: أي شيء أكفره , على وجه الاستفهام ,
قاله السدي ويحيى بن سلام.
(6/205)
الثالث: ما ألعنه , قاله قتادة. {ثم
السبيلَ يَسّرَهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: خروجه من بطن أمه
, قاله عكرمة والضحاك. الثاني: سبيل السعادة والشقاوة , قاله
مجاهد. الثالث: سبيل الهدى والضلالة , قاله الحسن. ويحتمل
رابعاً: سبيل منافعه ومضاره. {ثُمَّ أَماتَهُ فأَقْبَرَهُ} فيه
قولان: أحدهما: جعله ذا قبر يدفن فيه , قاله الطبري , قال
الأعشى:
(لو أسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ... عاشَ ولم يُنْقلْ إلى
قابر)
الثاني: جعل من يقبره ويواريه , قاله يحيى بن سلام. {ثُمَّ إذا
شاءَ أَنشَرَهُ} يعني أحياه , قال الأعشى:
(حتى يقولَ الناسُ مما رأوْا ... يا عجباً للميّت الناشِرِ)
{كلاّ لّما يَقْضِ ما أَمَرَهُ} فيه قولان: أحدهما: أنه الكافر
لم يفعل ما أمر به من الطاعة والإيمان , قاله يحيى بن سلام.
الثاني: أنه على العموم في المسلم والكافر , قال مجاهد: لا
يقضي أحد أبداً ما افترض عليه , وكلاّ ها هنا لتكرير النفي وهي
موضوعة للرد. ويحتمل وجه حمله على العموم أن الكافر لا يقضيه
عمراً , والمؤمن لا يقضيه شهراً. {فَلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى
طَعامِه} فيه وجهان: أحدهما: إلى طعامه الذي يأكله وتحيا نفسه
به , من أي شيء كان , قاله يحيى.
(6/206)
الثاني: ما يخرج منه أي شيء كان؟ ثم كيف
صار بعد حفظ الحياة وموت الجسد. قال الحسن: إن ملكاً يثني رقبة
ابن آدم إذا جلس على الخلاء لينظر ما يخرج منه. ويحتمل إغراؤه
بالنظر إلى وجهين: أحدهما: ليعلم أنه محل الأقذار فلا يطغى.
الثاني: ليستدل على استحالة الأجسام فلا ينسى. {أنّا صَبَبْنا
الماءَ صبّاً} يعني المطر. {ثم شَقَقْنا الأرضَ شقّاً} يعني
بالنبات. {فَأَنْبَتْنَا فيها حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً}
والقضب: القت والعلق سمي بذلك لقضبه بعد ظهوره. {وزَيْتوناً
ونخْلاً وحدائقَ غُلْباً} فيه قولان: أحدهما: نخلاً كراماً ,
قاله الحسن. الثاني: الشجر الطوال الغلاظ , قال الكلبي: الْغلب
الغِلاط , قال الفرزدق:
(عَوَى فأَثارَ أغْلَبَ ضَيْغَميّاً ... فَوَيْلَ ابنِ
المراغةِ ما استثار)
وفي (الحدائق) ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها ما التف واجتمع ,
قاله ابن عباس. الثاني: أنه نبت الشجر كله. الثالث: أنه ما
أحيط عليه من النخل والشجر , وما لم يحط عليه فليس بحديقة حكاه
أبو صالح. ويحتمل قولاً رابعاً: أن الحدائق ما تكامل شجرها
واختلف ثمرها حتى عم خيرها.
(6/207)
ويحتمل الغُلْب أن يكون ما غلبت عليه ولم
تغلب فكان هيناً. {وفاكهةً وأبّاً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن
الأبّ ما ترعاه البهائم , قاله ابن عباس: وما يأكله الآدميون
الحصيدة , قال الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
(له دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها يُنْبِتُ الله الحصيدة
والأَبّا)
الثاني: أنه كل شيء ينبت على وجه الأرض , قاله الضحاك. الثالث:
أنه كل نبات سوى الفاكهة , وهذا ظاهر قول الكلبي. الرابع: أنه
الثمار الرطبة , قاله ابن أبي طلحة. الخامس: أنه التبن خاصة ,
وهو يحكي عن ابن عباس أيضاً , قال الشاعر:
(فما لَهم مَرْتعٌ للسّوا ... م والأبُّ عندهم يُقْدَرُ)
)
ووجدت لبعض المتأخرين سادساً: أن رطب الثمار هو الفاكهة ,
ويابسها الأبّ. ويحتمل سابعاً: أن الأبّ ما أخلف مثل أصله
كالحبوب , والفاكهة ما لم يخلف مثل أصله من الشجر. روي أن عمر
بن الخطاب قرأ {عبس وتولّى} فلما بلغ إلى قوله تعالى: {وفاكهة
وأبّا} قال: قد عرفنا الفاكهة , فما الأبّ؟ ثم قال: لعمرك يا
ابن الخطاب إن هذا هو التكلف وألقى العصا من يده. وهذا مثل
ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم فهم كنبات الزرع بعد
دثوره , وتضمن امتناناً عليهم بما أنعم.
(6/208)
فَإِذَا جَاءَتِ
الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ
(39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ
الْفَجَرَةُ (42)
{فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه
وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه
(6/208)
لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ
مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك
هم الكفرة الفجرة} {فإذا جاءَتِ الصّاخّةُ} فيها قولان:
أحدهما: أنها النفخة الثانية التي يصيخ الخلق لاستماعها , قاله
الحسن , ومنه قول الشاعر:
(يُصِيخُ للنْبأَة أَسْماعه ... إصاخَةَ الناشدِ للمُنْشِد)
الثاني: أنه اسم من أسماء القيامة , لإصاخة الخلق إليها من
الفزع , قاله ابن عباس. {يوم يَفِرُّ المرءُ مِن أخيه وأُمِّه
وابيه وصاحِبتِه وبنيه} وفي فراره منهم ثلاثة أوجه: أحدها:
حذراً من مطالبتهم إياه للتبعات التي بينه وبينهم. الثاني: حتى
لا يروا عذابه. الثالث: لاشتغاله بنفسه , كما قال تعالى بعده:
{لكل امرىء منهم يومئذ شأنٌ يُغْنِيهِ} أي يشغله عن غيره.
{وجوهٌ يومئذٍ مُسفِرةٌ} فيه وجهان: أحدهما: مشرقة. الثاني:
فرحة , حكاه السدي. {ضَاحكةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} يحتمل وجهين:
أحدهما: ضاحكة من مسرة القلب. الثاني: ضاحكة من الكفار شماتة
وغيظاً , مستبشرة بأنفسها مسرة وفرحاً. {ووجوهٌ يومَئذٍ عليها
غبرَةٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه غبار جعل شيناً لهم ليتميزوا
به فيعرفوا. الثاني: أنه كناية عن كمد وجوههم بالحزن حتى صارت
كالغبرة. {ترْهقُها قَتَرةٌ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: تغشاها
ذلة وشدة، قاله ابن عباس.
(6/209)
الثاني: خزي , قال مجاهد. الثالث: سواد ,
قاله عطاء. الرابع: غبار , قاله السدي , وقال ابن زيد: القترة
ما ارتفعت إلى السماء والغبرة: ما انحطت إلى الأرض. الخامس:
كسوف الوجه , قاله الكلبي ومقاتل. {أولئك هم الكَفَرَةُ
الفَجرَةُ} يحتمل جمعه بينهما وجهين: أحدهما: أنهم الكفرة في
حقوق الله , الفجرة في حقوق العباد. الثاني: لأنهم الكفرة في
أديانهم , الفجرة في أفعالهم.
(6/210)
|