تفسير الماوردي
النكت والعيون سورة القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/150)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ
(2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ
يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ
أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ
(7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
(9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا
قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ
بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
{لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس
اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي
بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة فإذا
برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ
أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان
يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى
معاذيره} قوله تعالى: {لا أُقسِم بيومِ القيامةِ} اختلفوا في
(لا) المبتدأ بها في أول الكلام على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها
صلة دخلت مجازاً ومعنى الكلام أقسم بيوم القيامة , قاله ابن
عباس وابن جبير وأبو عبيدة , ومثله قول الشاعر:
(تَذكّرْت ليلى فاعْتَرْتني صَبابةٌ ... وكاد ضمير القلْبِ لا
يتَقطّع.)
... الثاني: أنها دخلت توكيداً للكلام كقوله: لا والله , وكقول
امرىء القيس:
(فلا وأبيكِ ابنةَ العامريّ ... لا يدّعي القوم أني أَفِرْ.)
قاله أبو بكر بن عياش. الثالث: أنها رد لكلام مضى من كلام
المشركين في إنكار البعث , ثم ابتدأ
(6/150)
القسم فقال: أقسم بيوم القيامة , فرقاً بين
اليمين المستأنفة وبين اليمين تكون مجدداً , قاله الفراء. وقرأ
الحسن: لأقْسِمُ بيوم القيامة , فجعلها لاماً دخلت على ما
أُقسم إثباتاً للقسم , وهي قراءة ابن كثير. {ولا أُقْسِم
بالنّفْسِ اللوّامةِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه تعالى أقسم
بالنفس اللوامة كما أقسم بيوم القيامة فيكونان قَسَمَيْن ,
قاله قتادة. الثاني: أنه أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس
اللوامة , قاله الحسن , ويكون تقدير الكلام: أقسم بيوم القيامة
ولا أقسم بالنفس اللوامة. وفي وصفها باللوامة قولان: أحدهما:
أنها صفة مدح , وهو قول من جعلها قسماً: الثاني: أنها صفة ذم ,
وهو قول من نفى أن يكون قسماً. فمن جعلها صفة مدح فلهم في
تأويلها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها التي تلوم على ما فات وتندم ,
قاله مجاهد , فتلوم نفسها على الشر لم فعلته , وعلى الخير أن
لم تستكثر منه. الثاني: أنها ذات اللوم , حكاه ابن عيسى.
الثالث: أنها التي تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها. فعلى هذه
الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى اللائمة. ومن جعلها صفة ذم
فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها المذمومة , قاله ابن
عباس. الثاني: أنها التي تلام على سوء ما فعلت. الثالث: أنها
التي لا صبر لها على محن الدنيا وشدائدها , فهي كثيرة اللوم
فيها , فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى الملومة.
{أيَحْسَب الإنسان} يعني الكافر. {أنْ لن نَجْمَعَ عِظامَه}
فنعيدها خلقاً جديداً بعد أن صارت رفاتاً.
(6/151)
{بلى قادِرينَ على أنْ نُسوّيَ بَنانه} في
قوله (بلى) وجهان: أحدهما: أنه تمام قوله (أن لن نجمع عظامه)
أي بلى نجمعها , قاله الأخفش. الثاني: أنها استئناف بعد تمام
الأول بالتعجب بلى قادرين , الآية وفيه وجهان: أحدهما: بلى
قادرين على أن نسوي مفاصله ونعيدها للبعث خلقاً جديداً , قاله
جرير بن عبد العزيز. الثاني: بلى قادرين على أن نجعل كفه التي
يأكل بها ويعمل حافر حمار أو خف بعير , فلا يأكل إلا بفيه ,
ولا يعمل بيده شيئاً , قاله ابن عباس وقتادة. {بل يريد الإنسان
ليَفْجُرَ أمامَه} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه أن يقدم
الذنب ويؤخر التوبة , قاله القاسم بن الوليد. الثاني: يمضي
أمامه قدُماً لا ينزع عن فجور , قاله الحسن. الثالث: بل يريد
أن يرتكب الآثام في الدنيا لقوة أمله , ولا يذكر الموت , قاله
الضحاك. الرابع: بل يريد أن يكذب بالقيامة ولا يعاقب بالنار ,
وهو معنى قول ابن زيد. ويحتمل وجهاً خامساً: بل يريد أن يكذب
بما في الآخرة كما كذب بما في الدنيا , ثم وجدت ابن قتيبة قد
ذكره وقال إن الفجور التكذيب واستشهد بأن أعرابياً قصد عمر بن
الخطاب وشكا إليه نقب إبله ودبرها , وسأله أن يحمله على غيرها
, فلم يحمله , فقال الأعرابي:
(أقسم بالله أبو حفصٍ عُمَرْ ... ما مسّها مِن نَقَبٍ ولا
دَبَرْ)
89 (فاغفر له اللهم إنْ كان فجَرْ} 9
يعني إن كان كذبني بما ذكرت. {فإذا بَرِقَ البصرُ} فيه
قراءتان: إحداهما: بفتح الراء , وقرأ بها أبان عن عاصم , وفي
تأويلها وجهان: أحدهما: يعني خفت وانكسر عند الموت , قاله عبد
الله بن أبي إسحاق. الثاني: شخص وفتح عينه عند معاينة ملك
الموت فزعاً , وأنشد الفراء:
(6/152)
(فنْفسَكَ فَانْعَ ولا تْنعَني ... وداوِ
الكُلومَ ولا تَبْرَقِ.)
أي ولا تفزع من هول الجراح. الثانية: بكسر الراء وقرأ بها
الباقون , وفي تأويلها وجهان: أحدهما: عشى عينيه البرق يوم
القيامة , قاله أشهب العقيلي , قال الأعشى:
(وكنتُ أرى في وجه مَيّةَ لمحةً ... فأبرِق مَغْشيّاً عليّ
مكانيا.)
الثاني: شق البصر , قاله أبو عبيدة وأنشد قول الكلابي:
(لما أتاني ابن عمير راغباً ... أعطيتُه عيساً صِهاباً فبرق.)
{وخَسَفَ القمرُ} أي ذهب ضوؤه , حتى كأنّ نوره ذهب في خسفٍ من
الأرض. {وجُمِعَ الشمسُ والقمرُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه
جمع بينهما في طلوعهما من المغرب [أسودين مكورين] مظلمين
مقرنين. الثاني: جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف لتكامل
إظلام الأرض على أهلها , حكاه ابن شجرة. الثالث: جمع بينهما في
البحر حتى صارا نار الله الكبرى. {يقولُ الإنسانُ يومئذٍ أين
المفرُّ} أي أين المهرب , قال الشاعر:
(أين أفِرّ والكباشُ تنتطحْ ... وأيّ كبشٍ حاد عنها يفتضحْ.)
ويحتمل وجهين: أحدهما: (أين المفر) من الله استحياء منه.
الثاني: (أين المفر) من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من
الإنسان وجهين: أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة من عرصة
القيامة دون المؤمن , ثقة المؤمن ببشرى ربه. الثاني: أن يكون
من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوه منها.
(6/153)
ويحتمل هذا القول وجهين: أحدهما: من قول
الله للإنسان إذا قاله (أين المفر) قال الله له (كلاّ لا
وَزَرَ) الثاني: من قول الإنسان إذا علم أنه ليس له مفر قال
لنفسه (كلا لا وَزَرَ) {كلاّ لا وَزَرَ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أي لا ملجأ من النار , قاله ابن عباس. الثاني: لا حصن ,
قاله ابن مسعود. الثالث: لا جبل , [قاله الحسن]. الرابع: لا
محيص , قاله ابن جبير. {إلى ربِّك يومئذٍ المُسْتَقَرُّ} فيه
وجهان: أحدهما: أن المستقر المنتهى , قاله قتادة. الثاني: أنه
استقرار أهل الجنة في الجنة , وأهل النار في النار , قاله ابن
زيد. {يُنَبّأ الإنسان يوميئذٍ بما قدَّمَ وأَخّرَ} يعني يوم
القيامة وفي (بما قدم وأخر) خمسة تأويلات: أحدها: ما قدم قبل
موته من خير أو شر يعلم به بعد موته , قاله ابن عباس وابن
مسعود. الثاني: ما قدم من معصية , وأخر من طاعة , قاله قتادة.
الثالث: بأول عمله وآخره , قاله مجاهد. الرابع: بما قدم من
الشر وأخر من الخير , قال عكرمة. الخامس: بما قدم من فرض وأخر
من فرض , قاله الضحاك. ويحتمل سادساً: ما قدم لدنياه , وما أخر
لعقباه. {بل الإنسانُ على نَفْسِه بَصيرةٌ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنه شاهد على نفسه بما تقدم به الحجة عليه , كما قال
تعالى: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}. الثاني: أن
جوارحه شاهدة عليه بعمله , قاله ابن عباس , كما قال تعالى:
{اليوم نَخْتِمُ على أفواههم وتُكَلِّمنا أيْديهم وتشْهدُ
أرجُلُهم بما كانوا يكْسِبون}. الثالث: معناه بصير بعيوب الناس
غافل عن عيب نفسه فيما يستحقه لها وعليها من ثواب وعقاب.
(6/154)
والهاء في (بصيرة) للمبالغة. {ولو أَلْقَى
معاذيرَه} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه لو اعتذر يومئذ لم
يقبل منه , قاله قتادة. الثاني: يعني لو ألقى معاذيره أي لو
تجرد من ثيابه , قاله ابن عباس. الثالث: لو أظهر حجته , قاله
السدي وقال النابغة:
89 (لدىّ إذا ألقى البخيلُ معاذِرَه.} 9
الرابع: معناه ولو أرخى ستوره , والستر بلغة اليمن معذار ,
قاله الضحاك , قال الشاعر:
(ولكنّها ضَنّتْ بمنزلِ ساعةٍ ... علينا وأطّت فوقها
بالمعاذرِ)
ويحتمل خامساً: أنه لو ترك الاعتذار واستسلم لم يُترك.
(6/155)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
(18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ
تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
(23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ
يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
{لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه
وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه كلا بل
تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة
ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة} {لا تُحرِّكْ به
لسانَكَ لِتعْجَلَ به} فيه وجهان: أحدهما: أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان إذا نزل عليه القرآن حرك به لسان يستذكره. مخافة
أن ينساه , وكان ناله منه شدة , فنهاه الله تعالى عن ذلك وقال:
{إنّ علينا جَمْعَه وقرآنه} , قاله ابن عباس. الثاني: أنه كان
يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له وحلاوته في لسانه , فنهي عن
ذلك حتى يجتمع , لأن بعضه مرتبط ببعض , قاله عامر الشعبي.
(6/155)
{إنّ علينا جَمْعَهُ وقُرْآنَه} فيه ثلاثة
أوجه: أحدها: إن علينا جمعه في قلبك لتقرأه بلسانك , قاله ابن
عباس. الثاني: عيلنا حفظه وتأليفه , قاله قتادة. الثالث: عيلنا
أن نجمعه لك حتى تثبته في قلبك , قاله الضحاك. {فإذا قرأناه
فاتّبعْ قُرْآنَه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فإذا بيّناه فاعمل
بما فيه , قاله ابن عباس. الثاني: فإذا أنزلناه فاستمع قرآنه ,
وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: فإذا تلي عليك فاتبع
شرائعه وأحكامه , قاله قتادة. {ثم إنْ علينا بَيانَه} فيه
ثلاثة أقاويل: أحدها: بيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام , قاله
قتادة. الثاني: علينا بيانه بلسانك إذا نزل به جبريل حتى تقرأه
كما أقرأك , قاله ابن عباس. الثالث: علينا أن نجزي يوم القيامة
بما فيه من وعد أو وعيد , قاله الحسن. {كلاّ بل تُحِبُّونَ
العاجلةَ وتذَرُونَ الآخِرَة} فيه وجهان: أحدهما: تحبون ثواب
الدنيا وتذرون ثواب الآخرة , قاله مقاتل. الثاني: تحبون عمل
الدنيا وتذرون عمل الآخرة. {وُجوهٌ يومئذٍ ناضِرةٌ} فيه أربعة
تأويلات: أحدها: يعني حسنة , قاله الحسن. الثاني: مستبشرة ,
قاله مجاهد. الثالث: ناعمة , قاله ابن عباس. الرابع: مسرورة ,
قاله عكرمة. {إلى رَبِّها ناظرةٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها:
تنظر إلى ربها في القيامة، قاله الحسن وعطية العوفي. الثاني:
إلى ثواب ربها، قاله ابن عمر ومجاهد.
(6/156)
الثالث: تنتظر أمر ربها , قاله عكرمة.
{ووجوهُ يومئذٍ باسرةٌ} فيه وجهان: أحدهما: كالحة , قاله
قتادة. الثاني: متغيرة , قاله السدي. {تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ
بها فاقِرةٌ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الفاقرة الداهية ,
قاله مجاهد. الثاني: الشر , قاله قتادة. الثالث: الهلاك , قاله
السدي. الرابع: دخول النار , قاله ابن زيد.
(6/157)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ
التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ
الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى
رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا
صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ
إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)
ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ
أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ
يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى
(40)
{كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه
الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق فلا صدق ولا
صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم
أولى لك فأولى أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني
يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى
أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} {كلا إذا بَلَغَتِ
التّراقِيَ} يعني بلوغ الروح عند موته إلى التراقي، وهي أعلى
الصدر، واحدها ترقوه. {وقيلَ مَنْ راقٍ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: قال أَهْله: من راقٍ يرقيه بالرُّقى وأسماء الله
الحسنى، قاله ابن عباس. الثاني: مَنْ طبيبٌ شافٍ، قاله أبو
قلابة، قال الشاعر:
(6/157)
(هل للفتى مِن بنات الدهرِ من واقى ... أم
هل له من حمامِ الموتِ من راقي)
الثالث: قال الملائكة: مَن راقٍ يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو
ملائكة العذاب , رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. {وظَنَّ أنّه
الفِراق} أي تيقن أنه مفارق الدنيا. {والْتَفّتِ الساقُ
بالساقِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: اتصال الدنيا بالآخرة , قاله
ابن عباس. الثاني: الشدة بالشدة والبلاء بالبلاءِ , وهو شدة
كرب الموت بشدة هول المطلع , قاله عكرمة ومجاهد , ومنه قول
حذيفة بن أنس الهذلي:
(أخو الحرب إن عضّت به الحربُ عضّها ... وإن شمّرتْ عن ساقها
الحرب شمّرا.)
الثالث: التفّت ساقاه عند الموت , وحكى ابن قتيبة عن بعض
المفسرين أن التفاف الساق بالساق عند الميثاق , قال الحسن:
ماتت رجلاه فلم تحملاه وقد كان عليهما جوّالاً. الرابع: أنه
اجتمع أمران شديدان عليه: الناس يجهزون جسده , والملائكة
يجهزون روحه , قاله ابن زيد. {إلى ربِّك يومئذٍ المساقُ} فيه
وجهان: أحدهما: المنطلق , قاله خارجة. الثاني: المستقر , قاله
مقاتل. {فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى} هذا في أبي جهل , وفيه وجهان:
أحدهما: فلا صدّق بكتاب الله ولا صلّى للَّه , قاله قتادة.
الثاني: فلا صدّق بالرسالة ولا آمن بالمرسل , وهو معنى قول
الكلبي. ويحتمل ثالثاً: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. {ولكن
كَذَّبَ وتَوَلَّى} فيه وجهان: أحدهما: كذب الرسول وتولى عن
المرسل. الثاني: كذب بالقرآن وتولى عن الطاعة. {ثم ذَهَبَ إلى
أَهْلِه يَتَمَطَّى} يعني أبا جهل، وفيه ثلاثة أوجه:
(6/158)
أحدها: يختال في نفسه، قاله ابن عباس.
الثاني: يتبختر في مشيته، قال زيد بن أسلم وهي مشية بني مخزوم.
الثالث: أن يلوي مطاه، والمطا: الظهر، وجاء النهي عن مشية
المطيطاء وذلك أن الرجل يلقي يديه مع الكفين في مشيه. {أوْلَى
لك فأوْلَى ثم أوْلَى لك فأوْلَى} حكى الكلبي ومقاتل: أن النبي
صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل ببطحاء مكة وهو يتبختر في
مشيته , فدفع في صدره وهمزه بيده وقال: (أوْلى لك فأولى) فقال
أبو جهل: إليك عني أوعدني يا ابن أبي كبشة ما تستطيع أنت ولا
ربك الذي أرسلك شيئاً , فنزلت هذه الآية. وفيه وجهان: أحدهما:
وليك الشر , قال قتادة , وهذا وعيد على وعيد. الثاني: ويل لك ,
قالت الخنساء:
(هَممْتُ بنفسي بعض الهموم ... فأوْلى لنَفْسيَ أوْلَى لها.
(سأحْمِلُ نَفْسي على آلةٍ ... فإمّا عليها وإمّا لها.)
الآلة: الحالة , والآلة: السرير أيضاً الذي يحمل عليه الموتى.
{أيَحْسَبُ الإنسانُ أنْ يُتْرَك سُدىً} فيه أربعة أوجه:
أحدها: فهل لا يفترض عليه عمل , قاله ابن زيد. الثاني: يظن ألا
يبعث , قاله السدي. الثالث: ملغى لا يؤمر ولا ينهى , قاله
مجاهد. الرابع: عبث لا يحاسب ولا يعاقب , قال الشاعر:
(6/159)
(فأُقسِم باللَّه جهدَ اليمين ... ما ترك
اللَّه شيئاً سُدى)
{ألمْ يكُ نُطْفةً مِنْ مَنيٍّ يُمْنَى} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن معنى يُمنى يراق , ولذلك سميت منى لإراقة الدماء
فيها. الثاني: بمعنى ينشأ ويخلق , ومنه قول يزيد بن عامر:
(فاسلك طريقك تمشي غير مختشعٍ ... حتى تلاقيَ ما يُمني لك
الماني.)
الثالث: أنه بمعنى يشترك أي اشتراك ماء الرجل بماء المرأة. {ثم
كان عَلَقَةً} يعني أنه كان بعد النطفة علقة. {فخَلَقَ فسوَّى}
يحتمل وجهين. أحدهما: خلق من الأرحام قبل الولادة وسوي بعدها
عند استكمال القوة وتمام الحركة. الثاني: خلق الأجسام وسواها
للأفعال , فجعل لكل جارحة عملاً , والله أعلم.
(6/160)
سورة الإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/161)
هَلْ أَتَى عَلَى
الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا
مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ
أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا
كَفُورًا (3)
{هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن
شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه
سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} قال ابن
عباس ومقاتل والكلبي ويحيى بن سلام: هي مكية , وقال آخرون فيها
مكي من قوله تعالى: {إنا نحن نزّلنا عليك القرآنَ تنزيلاً} إلى
آخرها وما تقدم مدني. قوله تعالى: {هلْ أتَى على الإنسان حينٌ
من الدهْرِ لم يكُنْ شيئاً مذكوراً} في قوله (هل) وجهان:
أحدهما: أنها في هذا الموضع بمعنى قد , وتقدير الكلام: (قد أتى
على الإنسان) الآية , على معنى الخبر , قاله الفراء وأبو
عبيدة. الثاني: أنه بمعنى (أتى على الإنسان) الآية، على وجه
الاستفهام، حكاه ابن عيسى. وفي هذا (الإنسان) قولان: أحدهما:
أنه آدم , قاله قتادة والسدي وعكرمة , وقيل إنه خلقه بعد خلق
السموات والأرض , وما بينهما في آخر اليوم السادس وهو آخر يوم
الجمعة.
(6/161)
الثاني: أنه كل إنسان , قاله ابن عباس وابن
جريج. وفي قوله تعالى: {حينٌ من الدهر} ثلاثة أقاويل: أحدهأ:
أنه أربعون سنة مرت قبل أن ينفخ فيه الروح , وهو ملقى بين مكة
والطائف , قاله ابن عباس في رواية أبي صالح عنه. الثاني: أنه
خلق من طين فأقام أربعين سنة , ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ,
ثم من صلصال أربعين سنة , فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة , ثم
نفخ فيه الروح , وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك. الثالث:
أن الحين المذكور ها هنا وقت غير مقدر وزمان غير محدود , قاله
ابن عباس أيضاً. وفي قوله {لم يكن شيئاً مذكوراً} وجهان:
أحدهما: لم يكن شيئاً مذكوراً في الخلق , وإن كان عند الله
شيئاً مذكوراً , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أي كان جسداً
مصوّراً تراباً وطيناً , لا يذكر ولا يعرف , ولا يدري ما اسمه
, ولا ما يراد به , ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً , قاله
الفراء , وقطرب وثعلب. وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير ,
وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً ,
لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً. {إنّا
خلقْنا الإنسانَ من نُطْفَةٍ أمْشاجٍ} يعني بالإنسان في هذا
الموضع كل إنسان من بني آدم في قول جميع المفسرين. وفي النطفة
قولان: أحدهما: ماء الرجل وماء المرأة إذا اختلطا فهما نطفة ,
قاله السدي. الثاني: أن النطفة ماء الرجل , فإذا اختلط في
الرحم وماء المرأة صارا أمشاجاً. وفي الأمشاج أربعة أقاويل:
أحدها: أنه الأخلاط، وهو أن يختلط ماء الرجل بماء المرأة، قاله
الحسن وعكرمة، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
(6/162)
(يطرحن كل مُعْجَل نشاجِ ... لم يُكْسَ
جلداً في دم أمشاج.)
الثاني: أن الأمشاج الألوان , قاله ابن عباس , وقال مجاهد:
نطفة الرجل بيضاء وحمراء , ونطفة المرأة خضراء وصفراء. روى
سعيد عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ماء الرجل غليظ أبيض , وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق أو
علا فمنه يكون الشبه). الثالث: أن الأمشاج: الأطوار , وهو أن
الخلق يكون طوراً نطفة , وطوراً علقة , وطوراً مضغة , ثم طوراً
عظماً , ثم يكسى العظم لحماً , قاله قتادة. الرابع: أن الأمشاج
العروق التي تكون في النطفة , قاله ابن مسعود. وفي قوله
{نَبْتَلِيه} وجهان: أحدهما: نختبره. الثاني: نكلفه بالعمل.
فإن كان معناه الاختبار ففيما يختبر به وجهان: أحدهما: نختبره
بالخير والشر , قاله الكلبي. الثاني: نختبر شكره في السراء ,
وصبره في الضراء , قاله الحسن. ومن جعل معناه التكليف ففيما
كلفه وجهان: أحدهما: العمل بعد الخلق، قاله مقاتل. الثاني:
الدين، ليكون مأموراً بالطاعة، ومنهياً عن المعاصي.
{فَجَعَلْناه سميعاً بصيراً} ويحتمل وجهين: أحدهما: أي يسمع
بالأذنين ويبصر بالعينين أمتناناً بالنعمة عليه. الثاني: ذا
عقل وتمييز ليكون أعظم في الامتنان حيث يميزه من جميع الحيوان.
وقال الفراء ومقاتل: في الآية تقديم وتأخير أي فجعلناه سميعاً
بصيراً أن نبتليه , فعلى هذا التقديم في الكلام اختلفوا في
ابتلائه على قولين: أحدهما: ما قدمناه من جعله اختباراً أو
تكليفاً.
(6/163)
الثاني: لنبتليه بالسمع والبصر , قاله ابن
قتيبة. {إنّا هَدَيْناه السّبيلَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها:
سبيل الخير والشر , قاله عطية. الثاني: الهدى من الضلالة ,
قاله عكرمة. الثالث: سبيل الشقاء والسعادة , قاله مجاهد.
الرابع: خروجه من الرحم , قاله أبو صالح والضحاك والسدي.
ويحتمل خامساً: سبيل منافِعِه ومضارِّه التي يهتدي إليها بطبعه
, وقيل: كمال عقله. {إمّا شاكراً وإمّا كَفوراً} فيه وجهان:
أحدهما: إما مؤمناً وإما كافراً , قاله يحيى بن سلام. الثاني:
إما شكوراً للنعمة وإما كفوراً بها , قاله قتادة. وجمع بين
الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور - مع إجتماعهما في
معنى المبالغة - نفياً للمبالغة في الشكر وإثباتاً لها في
الكفر , لأن شكر الله تعالى لا يُؤدَّى فانتفت عنه المبالغة ,
ولم تنتف عن الكفر المبالغة , فقل شكره لكثرة النعم عليه ,
وكثر كفره وإن قل مع الإحسان إليه.
(6/164)
إِنَّا أَعْتَدْنَا
لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ
الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا
كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ
يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا
وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا
نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ
مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ
اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً
وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً
وَحَرِيرًا (12)
{إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا
إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها
عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره
مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما
نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من
ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة
وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا} {إن الإبرار يَشْربونَ}
في الأبرار قولان: أحدهما: أنهم الصادقون، قاله الكلبي.
الثاني: المطيعون، قاله مقاتل.
(6/164)
وفيما سُمّوا أبراراً ثلاثة أقاويل: أحدها:
سمّوا بذلك لأنهم برّوا الآباء والأبناء، قاله ابن عمر.
الثاني: لأنهم كفوا الأذى , قاله الحسن. الثالث: لأنهم يؤدون
حق الله ويوفون بالنذر , قاله قتادة. وقوله {مِن كأسٍ} يعني
الخمر , قال الضحاك: كل كأس في القرآن فإنما عنى به الخمر. وفي
وقوله {كان مِزاجها كافوراً} قولان: أحدهما: أن كافوراً عين في
الجنة اسمها كافور , قاله الكلبي. الثاني: أنه الكافور من
الطيب فعلى هذا في المقصود منه في مزاج الكأس به ثلاثة أقاويل:
أحدها: برده , قال الحسن: ببرد الكافور وطعم الزنجبيل. الثاني:
بريحه , قاله قتادة: مزج بالكافور وختم بالمسك. الثالث: طعمه ,
قال السدي: كأن طعمه طعم الكافور. {عَينْاً يَشْرَبُ بها عبادُ
اللَّهِ} يعني أولياء اللَّه , لأن الكافر لا يشرب منها شيئاً
وإن كان من عباد الله , وفيه وجهان: أحدهما: ينتفع بها عباد
الله , قاله الفراء. الثاني: يشربها عباد الله. قال مقاتل: هي
التسنيم , وهي أشرف شراب لاجنة , يشرب بها المقربون صِرفاً ,
وتمزج لسائر أهل الجنة بالخمر واللبن والعسل. {يُفَجِّرونَها
تفْجيراً} فيه وجهان: أحدهما: يقودونها إلى حيث شاءوا من
الجنة، قاله مجاهد. الثاني: يمزجونها بما شاءوا، قاله مقاتل.
ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يستخرجوه من حيث شاءوا من الجنة. وفي
قوله (تفجيراً) وجهان:
(6/165)
أحدهما: أنه مصدر قصد به التكثير. الثاني:
أنهم يفجرونه من تلك العيون عيوناً لتكون أمتع وأوسع.
{يُوفُونَ بالنّذْرِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يوفون بما افترض
الله عليهم من عبادته , قاله قتادة. الثاني: يوفون بما عقدوه
على أنفسهم من حق الله , قاله مجاهد. الثالث: يوفون بالعهد لمن
عاهدوه , قاله الكلبي. الرابع: يوفون بالإيمان إذا حلفوا بها ,
قاله مقاتل. ويحتمل خامساً: أنهم يوفون بما أُنذِروا به من
وعيده. {ويَخافون يوْماً كان شَرُّه مُسْتَطيراً} قال الكلبي
عذاب يوم كان شره مستطيراً , وفيه وجهان: أحدهما: فاشياً ,
قاله ابن عباس والأخفش. الثاني: ممتداً , قاله الفراء , ومنه
قول الأعشى:
(فبانتْ وقد أَوْرَثَتْ في الفؤادِ ... صَدْعاً على نأيها
مُستطيرا)
أي ممتداً. ويحتمل وجهاً ثالثاً يعني سريعاً. {ويُطْعمونَ
الطعامَ على حُبِّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: على حب الطعام،
قاله مقاتل. الثاني: على شهوته، قاله الكلبي. الثالث: على
قلته، قاله قطرب. {مسكيناً ويتيماً وأسيراً} في الأسير ثلاثة
أقاويل: أحدها: أنه المسجون المسلم، قاله مجاهد. الثاني: أنه
العبد , قاله عكرمة. الثالث: أسير المشركين، قاله الحسن وسعيد
بن جبير. قال سعيد بن جبير: ثم نسخ أسير المشركين بالسيف، وقال
غيره بل هو ثابت الحكم في الأسير بإطعامه، إلا أن يرى الإمام
قتله.
(6/166)
ويحتمل وجهاً رابعاً: أن يريد بالأسير
الناقص العقل , لأنه في أسر خبله وجنونه , وإن أسر المشركين
انتقام يقف على رأي الإمام وهذا بر وإحسان. {إنّما نُطْعِمُكم
لوجْهِ اللهِ} قال مجاهد: إنهم لم يقولوا ذلك , لكن علمه الله
منهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب. {لا نُريدُ منكم جزاءً
ولا شُكوراً} جزاء بالفعال , وشكوراً بالمقال وقيل إن هذه
الآية نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر , وهم سبعة من المهاجرين أبو
بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعيد وأبو عبيدة.
{إنّا نخافُ من ربِّنا يوماً عَبوساً قمْطريراً} فيه ثلاثة
أوجه: أحدها: أن العبوس الذي يعبس الوجوه من شره , والقمطرير
الشديد , قاله ابن زيد. الثاني: أن العبوس الضيق , والقمطرير
الطويل , قاله ابن عباس , قال الشاعر:
(شديداً عبوساً قمطريراً تخالهُ ... تزول الضحى فيه قرون
المناكب.)
الثالث: أن العُبوس بالشفتين , والقمطرير بالجبهة والحاجبين ,
فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم , قاله مجاهد
, وأنشد ابن الأعرابي:
(يَغْدو على الصّيْدِ يَعودُ مُنكَسِرْ ... ويَقْمَطُّر ساعةً
ويكْفَهِرّ.)
{فَوَقاهمُ الله شَرَّ ذلك اليومِ ولَقّاهُمْ نَضْرةً
وسُروراً} قال الحسن النضرة من الوجوه , والسرور في القلوب.
وفي النضرة ثلاثة أوجه: أحدها: أنها البياض والنقاء , قاله
الضحاك. الثاني: أنها الحسن والبهاء , قاله ابن جبير.
(6/167)
الثالث: أنها أثر النعمة , قاله ابن زيد.
{وجَزاهم بما صَبروا} يحتمل وجهين: أحدهما: بما صبروا على طاعة
الله. الثاني: بما صبروا على الوفاء بالنذر. {جَنَّةً وحريراً}
فيه وجهان: أحدهما: جنة يسكنونها , وحريراً يلبسونه. الثاني:
أن الجنة المأوى , والحرير أبد العيش في الجنة , ومنه لبس
الحرير ليلبسون من لذة العيش. واختلف فيمن نزلت هذه الآية على
قولين: أحدهما: ما حكاه الضحاك عن جابر أنها نزلت في مطعم بن
ورقاء الأنصاري نذر نذراً فوفاه. الثاني: ما حكاه عمرو عن
الحسن أنها نزلت في علي وفاطمة ... رضي الله عنهما - وذلك أن
علياً وفاطمة نذرا صوماً فقضياه , وخبزت فاطمة ثلاثة أقراص من
شعير ليفطر علّي على أحدها وتفطر هي على الآخر , ويأكل الحسن
والحسين الثالث , فسألها مسكين فتصدقت عليه بأحدها , ثم سألها
يتيم فتصدقت عيله بالآخر , ثم سألها أسير فتصدقت عليه بالثالث
, وباتوا طاوين.
(6/168)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا
عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا
زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا
وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ
بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا
(17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ
حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ
ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ
ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ
مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ
مَشْكُورًا (22)
{متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها
شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا
ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قوارير من فضة
قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها
تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم
لؤلؤا منثورا وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا عاليهم ثياب
سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا
إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا} {مُتّكِئينَ فيها على
الأرائِك} وفيها مع ما قدّمناه من تفسيرها قولان:
(6/168)
أحدهما: أنها الأسرّة , قاله ابن عباس.
الثاني: أنها كل ما يتكأ عليه , قاله الزجاج. {لا يَرَوْنَ
فيها شمْساً ولا زَمْهَريراً} أما المراد بالشمس ففيه وجهان:
أحدهما: أنهم في ضياء مستديم لا يحتاجون فيه إلى ضياء , فيكون
عدم الشمس مبالغة في وصف الضياء. الثاني: أنهم لا يرون فيها
شمساً فيتأذون بحرها , فيكون عدمها نفياً لأذاها. وفي الزمهرير
ثلاثة أوجه: أحدها: أنه البرد الشديد , قال عكرمة لأنهم لا
يرون في الجنة حراً ولا برداً. الثاني: أنه لون في العذاب ,
قاله ابن مسعود. الثالث: أنه من هذا الموضع القمر , قاله ثعلب
وأنشد:
(وليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ ... قطْعتها والزمهريرُ ما ظَهَرْ)
وروي ما زهر , ومعناه أنهم في ضياء مستديم لا ليل فيه ولا نهار
, لأن ضوء النهار بالشمس , وضوء الليل بالقمر. { ...
وذُلِّلّتْ قُطوفُها تذْليلاً} فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يرد
أيديهم عنها شوك ولا بعد، قاله قتادة. الثاني: أنه إذا قام
ارتفعت , وإذا قعد نزلت، قاله مجاهد.
(6/169)
ويحتمل ثالثاً: أن يكون تذليل قطوفها أن
تبرز لهم من أكمامها وتخلص من نواها. { ... وأَكْوابٍ كانت
قَواريرَا قواريرَا من فِضّةٍ} أما الأكواب فقد ذكرنا ما هي من
جملة الأواني. وفي قوله تعالى: (قوارير من فضة) وجهان: أحدهما:
أنها من فضة من صفاء القوارير , قاله الشعبي. الثاني: أنها من
قوارير في بياض الفضة , قاله أبو صالح. وقال ابن عباس: قوارير
كل أرض من تربتها , وأرض الجنة الفضة فلذلك كانت قواريرها فضة.
{قَدَّرُوها تقْديراً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنهم قدروها في
أنفسهم فجاءت على ما قدروها , قاله الحسن. الثاني: على قدر ملء
الكف , قاله الضحاك. الثالث: على مقدار لا تزيد فتفيض , ولا
تنقص فتغيض , قاله مجاهد. الرابع: على قدر ريهم وكفايتهم ,
لأنه ألذ وأشهى , قاله الكلبي. الخامس: قدرت لهم وقدروا لها
سواء , قاله الشعبي. {ويُسْقَونَ فيها كأساً كان مِزاجُها
زَنْجبيلاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تمزج بالزنجبيل , وهو
مما تستطيبه العرب لأنه يحذو اللسان ويهضم المأكول , قاله
السدي وابن أبي نجيح. الثاني: أن الزنجبيل اسم للعين التي فيها
مزاج شراب الأبرار , قاله مجاهد. الثالث: أن الزنجبيل طعم من
طعوم الخمر يعقب الشرب منه لذة , حكاه ابن شجرة , ومنه قول
الشاعر:
(6/170)
(وكأن طعْمَ الزنجبيلِ به ... اذْ ذُقْتُه
وسُلافَةَ الخمْرِ)
{عْيناً فيها تُسَمّى سَلْسَبيلاً} فيه ستة أقاويل: أحدها: أنه
اسم لها , قاله عكرمة. الثاني: معناه سلْ سبيلاً إليها , قاله
علّي رضي الله عنه. الثالث: يعني سلسلة السبيل , قاله مجاهد.
الرابع: سلسلة يصرفونها حيث شاءوا , قاله قتادة. الخامس: أنها
تنسلّ في حلوقهم انسلالاً , قاله ابن عباس. السادس: أنها
الحديدة الجري , قاله مجاهد أيضاً , ومنه قول حسان بن ثابت:
(يَسْقُون من وَرَدَ البريصَ عليهم ... كأساً تُصَفِّقُ
بالرحيق السِّلْسَل)
وقال مقاتل: إنما سميت السلسبيل لأنها تنسل عليهم في مجالسهم
وغرفهم وطرقهم. {ويَطوفُ عليهم وِلْدانٌ مُخَلّدونَ} فيه ثلاثة
أقاويل: أحدها: مخلدون لا يموتون , قاله قتادة. الثاني: صغار
لا يكبرون وشبابٌ لا يهرمون، قاله الضحاك والحسن. الثالث: أي
مُسَوَّرون، قاله ابن عباس، قال الشاعر:
(ومُخَلّداتٍ باللُّجَيْنِ كأنما ... أعْجازُهنّ أقاوزُ
الكُثْبانِ.)
{إذا رَأَيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤاً مَنْثوراً} فيه قولان:
أحدها: أنهم مشبهون باللؤلؤ المنثور لكثرتهم , قاله قتادة.
الثاني: لصفاء ألوانهم وحسن منظرهم وهو معنى قول سفيان. {وإذا
رأَيْتَ ثمَّ} يعني الجنة. {رأَيْتَ نَعيماً} فيه وجهان:
أحدهما: يريد كثرة النعمة.
(6/171)
الثاني: كثرة النعيم. {ومُلْكاً كبيراً}
فيه وجهان: أحدهما: لسعته وكثرته. الثاني: لاستئذان الملائكة
عليهم وتحيتهم بالسلام. ويحتمل ثالثاً: أنهم لا يريدون شيئاً
إلا قدروا عليه. {وسقاهم ربُّهم شَراباً طَهوراً} فيه ثلاثة
أقاويل: أحدها: أنه وصفه بذلك لأنهم لا يبولون منه ولا
يُحْدِثون عنه , قاله عطية , قال إبراهيم التميمي: هو عَرَق
يفيض من أعضائهم مثل ريح المسك. الثاني: لأن خمر الجنة طاهرة ,
وخمر الدنيا نجسة , فلذلك وصفه الله تعالى بالطهور , قاله ابن
شجرة. الثالث: أن أنهار الجنة ليس فيها نجس كما يكون في أنهار
الدنيا وأرضها حكاه ابن عيسى.
(6/172)
إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا
(24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ
اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ
وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ
وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا
أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ
شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا
حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ
وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر
لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة
وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون
العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا نحن خلقناهم وشددنا أسرهم
وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى
ربه سبيلا وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما
حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما}
{ولا تُطِعْ منهم آثِماً أو كَفوراً} قيل إنه عنى أبا جهل ,
يريد بالآثم المرتكب للمعاصي , وبالكفور الجاحد للنعم. {واذكُر
اسمَ رَبِّك بُكرَةً وأصيلاً} يعني في أول النهار وآخره، ففي
أوله صلاة الصبح، وفي آخره صلاة الظهر والعصر. {ومِنَ الليلِ
فاسْجدْ له} يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة. {وسَبِّحْهُ
ليلاً طويلاً} يعني التطوع من الليل.
(6/172)
قال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن
هو صلاة. {إنّ هؤلاءِ يُحِبّونَ العاجلةَ} يحتمل في المراد بهم
قولين: أحدهما: أنه أراد بهم اليهود وما كتموه من صفة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوّته. الثاني: أنه أراد
المنافقين لاستبطانهم الكفر. ويحتمل قوله {يحبون العاجلة}
وجهين: أحدهما: أخذ الرشا على ما كتموه إذا قيل إنهم اليهود.
الثاني: طلب الدنيا إذا قيل إنهم المنافقون. {ويَذَرُونَ
وراءَهم يوماً ثقيلاً} يحتمل وجهين: أحدهما: ما يحل بهم من
القتل والجلاء إذا قيل إنهم اليهود. الثاني: يوم القيامة إذا
قيل إنهم المنافقون. فعلى هذا يحتمل قوله (ثقيلاً) وجهين:
أحدهما: شدائده وأحواله. الثاني: للقِصاص من عباده. {نحن
خَلقْناهم وشَدَدْنا أَسْرَهم} في أسرهم ثلاثة أوجه: أحدها:
يعني مفاصلهم , قاله أبو هريرة. الثاني: خلقهم , قاله ابن عباس
ومجاهد وقتادة قال لبيد:
(ساهم الوجه شديد أسْرُه ... مشرف الحارك محبوك الكفل.)
الثالث: أنه القوة , قاله ابن زيد , قال ابن أحمر في وصف فرس:
(يمشي لأوظفةٍ شدادٍ أسْرُها ... صُمِّ السنابِك لاتقى
بالجَدْجَدِ.)
ويحتمل هذا القول منه تعالى وجهين: أحدهما: امتناناً عليهم
بالنعم حين قابلوها بالمعصية. الثاني: تخويفاً لهمن بسلب
النعم. {وإذا شئنا بدّلْنا أمثالَهم تبديلاً} يحتمل وجهين:
أحدهما: أمثال من كفر بالنعم وشكرها.
(6/173)
الثاني: من كفر بالرسل بمن يؤمن بها. {إنّ
هذه تَذْكِرةٌ} يحتمل بالمراد ب (هذه) وجهين: أحدهما: هذه
السورة. الثاني: هذه الخلقة التي خلق الإنسان عليها. ويحتمل
قوله (تذكرة) وجهين: أحدهما: إذكار ما غفلت عنه عقولهم.
الثاني: موعظة بما تؤول إليه أمورهم. {فَمَنْ شاءَ اتَخَذَ إلى
ربِّه سَبيلاً} يحتمل وجهين: أحدهما: طريقاً إلى خلاصه.
الثاني: وسيلة إلى جنته.
(6/174)
سورة المرسلات
مكية من قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة
إلا آية منها، وهي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا
يركعون} فمدينة. بسم الله الرحمن الرحيم
(6/175)
وَالْمُرْسَلَاتِ
عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ
نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ
ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ
لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا
السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ
(12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ
الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
{والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات
نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا إنما توعدون
لواقع فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت
وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم
الفصل ويل يومئذ للمكذبين} قوله تعالى: {والمرسلات عُرْفاً}
فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: الملائكة ترسل بالمعروف , قاله أبو
هريرة وابن مسعود. الثاني: أنهم الرسل يرسلون بما يُعرفون به
من المعجزات , وهذا قول أبي صالح. الثالث: أنها الرياح ترسل
بما عرفها الله تعالى. ويحتمل رابعاً: أنها السحب لما فيها من
نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت فيه , ومن أرسلت إليه.
(6/175)
ويحتمل خامساً: أنها الزواجر والمواعظ. وفي
قوله (عُرْفاً) على هذا التأويل ثلاثة أوجه: أحدها: متتابعات
كعُرف الفرس , قاله ابن مسعود. الثاني: جاريات , قاله الحسن
يعني القلوب. الثالث: معروفات في العقول. {فالعاصِفاتِ
عَصْفاً} فيه قولان: أحدهما: أنها الرياح العواصف , قاله ابن
مسعود. الثاني: الملائكة , قاله مسلم بن صبيح. ويحتمل قولاً
ثالثاً: أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف. وفي قوله
(عصفاً) وجهان: أحدهما: ما تذروه في جريها. الثاني: ما تهلكه
بشدتها. {والنَّاشِراتِ نَشْراً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنها
الرياح تنشر السحاب , قاله ابن مسعود. الثاني: أنها الملائكة
تنشر الكتب , قاله أبو صالح أيضاً. الثالث: أنه المطر ينشر
النبات , قاله أبو صالح أيضاً. الرابع: أنه البعث للقيامة
تُنشر فيه الأرواح , قاله الربيع. الخامس: أنها الصحف تنشر على
الله تعالى بأعمال العباد , قاله الضحاك. {فالفارِقات فَرقاً}
فيه أربعة أقاويل: أحدها: الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل
, قاله ابن عباس. الثاني: الرسل الذين يفرقون بين الحلال
والحرام , قاله أبو صالح. الثالث: أنها الرياح , قاله مجاهد.
الرابع: القرآن. وفي تأويل قوله (فَرْقاً) على هذا القول
وجهان: أحدهما: فرقه آية آية , قاله الربيع. الثاني: فرق فيه
بين الحق والباطل، قاله قتادة.
(6/176)
{فالمُلْقِياتِ ذِكْراً} فيه قولان:
أحدهما: الملائكة تلقي ما حملت من الوحي والقرآن إلى من أرسلت
إليه من الأنبياء , قاله الكلبي. الثاني: الرسل يلقون على
أممهم ما أنزل إليهم، قاله قطرب. ويحتمل ثالثاً: أنها النفوس
تلقي في الأجساد ما تريد من الأعمال. {عُذْراً أو نُذْراً}
يعني عذراً من الله إلى عباده، ونُذْراً إليهم من عذابه.
ويحتمل ثانياً: عذراً من الله بالتمكن، ونذراً بالتحذير. وفي
ما جعله عذراً أو نذراً ثلاثة أقاويل: أحدها: الملائكة، قاله
ابن عباس. الثاني: الرسل , قاله أبو صالح. الثالث: القرآن ,
قاله السدي. {إنما تُوعَدُونَ لَواقعٌ} هذا جواب ما تقدم من
القسم , لأن في أول السورة قسم , أقسم الله تعالى إنما توعدون
على لسان الرسول من القرآن في أن البعث والجزاء واقع بكم ونازل
عليكم. ثم بيّن وقت وقوعه فقال: {فإذا النجومُ طُمِسَتْ} أي
ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب. {وإذا السماءُ فُرِجَتْ} أي
فتحت وشققت. {وإذا الجبالُ نُسِفَتْ} أي ذهبت , وقال الكلبي:
سويت بالأرض. {وإذا الرّسُلُ أُقِّتَتْ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: يعني أُودت , قاله إبراهيم. الثاني: أُجلت , قاله
مجاهد. الثالث: جمعت , قاله ابن عباس. وقرأ أبو عمرو (وقتت)
ومعناها عرفت ثوابها في ذلك اليوم , وتحتمل هذه القراءة وجهاً
آخر أنها دعيت للشهادة على أممها.
(6/177)
أَلَمْ نُهْلِكِ
الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ
(20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ
مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ
مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
{ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك
نفعل بالمجرمين
(6/177)
ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين
فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل
يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا
فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين}
{ألم نُهلِكِ الأوَّلينِ} يعني من العصاة، وفيمن أريد بهم
وجهان: أحدهما: قوم نوح عليه السلام لعموم هلاكهم بالطوفان لأن
هلاكهم أشهر وأعم. الثاني: أنه قوم كل نبي استؤصلوا , لأنه في
خصوص الأمم أندر. {ثُمّ نُتْبِعُهُم الآخِرينَ} يعني في هلاكهم
بالمعصية كالأولين، إما بالسيف وإما بالهلاك. {كذلك نَفْعَلُ
بالمْجرمين} يحتمل وجهين: أحدهمأ: أنه تهويل لهلاكهم في الدنيا
اعتباراً. الثاني: أنه إخبار بعذابهم في الآخرة استحقاقاً.
{أَلمْ نَخْلُقْكُم مِنْ ماءٍ مَهينٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها:
من صفوة الماء , قاله ابن عباس. الثاني: من ماء ضعيف , قاله
مجاهد وقتادة. الثالث: من مني سائل , قاله ابن كامل.
{فَجَعَلْناه في قرارٍ مَكينٍ} فيه وجهان: أحدهما: قاله وهب بن
منبّه في رحم أُمّه لا يؤذيه حَرّ ولا برد. الثاني: مكين حريز
لا يعود فيخرج ولا يبث في الجسد فيدوم , قاله الكلبي. {إلى
قَدَرٍ مَعْلُومٍِ} إلى يوم ولادته. {فقدرنا فنِعْم القادِرون}
في قراءة نافع مشددة , وقرأ الباقون مخففة , فمن قرأ بالتخفيف
فتأويلها: فملكنا فنعم المالكون. ومن قرأ بالتشديد فتأويلها:
فقضينا فنعم القاضون , وقال الفراء: هما لغتان ومعناهما واحد.
(6/178)
{ألمْ نجْعَلِ الأرضَ كِفاتاً} فيه أربعة
تأويلات: أحدها: يعني كِنّاً , قاله ابن عباس. الثاني: غطاء ,
قاله مجاهد. الثالث: مجمعاً , قاله المفضل. الرابع: وعاء قال
الصمصامة بن الطرماح:
(فأنت اليومَ فوق الأرض حيٌّ ... وأنت غداً تَضُمُّكَ من
كِفات.)
{أحْياءً وأَمْواتاً} فيه وجهان: أحدهما: أن الأرض تجمع الناس
أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها , قاله قتادة والشعبي.
الثاني: أن من الأرض أحياء بالعمارة والنبات , وأمواتاً بالجدب
والجفاف , وهو أحد قولي مجاهد.
(6/179)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي
ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ
(31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ
جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
(34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
{انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا
إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر
كالقصر كأنه جمالة صفر ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون
ولا يؤذن لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل
جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين}
{انْطَلِقوا إلى ظِلٍّ ذي ثلاثِ شُعَبٍ} قيل إن الشعبة تكون
فوقه , والشعبة عن يمينه , والشعبة عن شماله، فتحيط به، قاله
مجاهد. الثاني: أن الشعب الثلاث الضريع والزقوم والغسلين، قاله
الضحاك. ويحتمل ثالثاً: أن الثلاث الشعب: اللهب والشرر
والدخان، لأنه ثلاثة أحوال هي غاية أوصاف النار إذا اضطرمت
واشتدت. {لا ظَليلٍ} في دفع الأذى عنه.
(6/179)
{ولا يُغْني مِن اللهَب} واللهب ما يعلو عن
النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر. {إنها تَرْمي بِشَرَرٍ
كالقَصْرِ} والشرر ما تطاير من قطع النار , وفي قوله (كالقصر)
خمسة أوجه. أحدها: أنه أصول الشجر العظام , قاله الضحاك.
الثاني: كالجبل , قاله مقاتل. الثالث: القصر من البناء وهو
واحد القصور , قاله ابن مسعود. الرابع: أنها خشبة كان أهل
الجاهلية يقصدونها , نحو ثلاثة أذرع , يسمونها القصر , قاله
ابن عباس. الخامس: أنها أعناق الدواب , قاله قتادة. ويحتمل
وجهاً سادساً: أن يكون ذلك وصفاً من صفات التعظيم , كنى عنه
باسم القصر , لما في النفوس من استعظامه , وإن لم يُردْ به
مسمى بعينه. {كأنّه جِمالةٌ صُفْرٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها:
يعني جِمالاً صُفراً وأراد بالصفر السود , سميت صفراً لأن
سوادها يضرب إلى الصفرة , وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة , قال
الشاعر:
(تلك خَيْلي منه وتلك رِكابي ... هُنّ صُفْرٌ أولادُها
كالزبيبِ.)
الثاني: أنها قلوس السفن , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير.
الثالث: أنها قطع النحاس , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. وفي
تسميتها بالجمالات الصفر وجهان: أحدهما: لسرعة سيرها. الثاني:
لمتابعة بعضها لبعض. {فإنْ كانَ لكم كَيْدٌ فَكِيدُونِ} فيه
وجهان: أحدهما: إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم، قاله مقاتل.
الثاني: إن استطعتم أن تمتنعوا عني فامتنعوا، وهو معنى قول
الكلبي.
(6/180)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ
(42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا
قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا
يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
{إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما
يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي
المحسنين ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون
ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ
للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون} {وإذا قِيلَ لهم ارْكَعوا لا
يَرْكَعون} أي صلّوا لا يصلّون، قال مقاتل. نزلت في ثقيف
امتنعوا عن الصلاة فنزل ذلك فيهم، وقيل إنه قال ذلك لأهل
الآخرة تقريعاً لهم. {فبأيِّ حديثٍ بَعْدَه يُؤْمنُون} أي فبأي
كتاب بعد القرآن يصدّقون.
(6/181)
|