تفسير الماوردي النكت والعيون

سورة الجن
بسم الله الرحمن الرحيم

(6/107)


قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)

{قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا} قوله تعالى {قل أُوحِيَ إليَّ أنّه إسْتَمَعَ نَفَرٌ مِن الجنَّ} اختلف أهل التفسير في سبب حضور النفر من الجن إلى رسوله اللَّه صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن على قولين: أحدهما: أن الله تعالى صرفهم إليه بقوله: {وإذا صَرَفْنا إليك نفراً من الجن} [الأحقاف: 29] , قاله ابن مسعود والضحاك وطائفة. الثاني: أنه كان للجن مقاعد في السماء الدنيا يستمعون منها ما يحدث فيها من أمور الدنيا , فلما بعث اللًّه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم حرست السماء الدنيا من الجن ورجموا بالشهب , قال السدي: ولم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو أثر له ظاهر , قال: فلما رأى أهل الطائف اختلاف الشهب في السماء قالوا: هلك أهل السماء فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويسيبون مواشيهم , فقال لهم عبد يا ليل بن عمرو:

(6/107)


ويحكم أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم , فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها لم يهلك أهل السماء , وإنما هذا من أجل ابن أبي كبشة يعني محمداً فلما رأوها مستقرة كفّواً. وفزعت الجن والشياطين , ففي رواية السدي أنهم أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم , فقال: ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوها فشمها فقال: صاحبكم بمكة فبعث نفراً من الجن. . وفي رواية ابن عباس: أنهم رجعوا إلى قومهم فقالوا: ما حال بيننا وبين السماء إلا أمر حدث في الأرض , فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها , ففعلوا حتى أتوا تهامة , فوجدوا محمداً صلى الله عليه وسلم يقرأ. ثم اختلفوا لاختلافهم في السبب , هل شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن أم لا؟ فمن قال إنهم صرفوا إليه قال إنه رآهم وقرأ عليهم ودعاهم , روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (قد أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي؟ فسكتوا , ثم الثانية فسكتوا , ثم الثالثة , فقال ابن مسعود أنا أذهب معك , فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دُب , فخط عليَّ خطاً ثم قال: لا تجاوزه , ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل حتى غشوة فلم أره) قال عكرمة: وكانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل. ومن قال إنهم صرفوا في مشارق الأرض ومغاربها لاستعلام ما حدث فيها , قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم علىالجن ولا رآهم , وإنما انطلق في نفر من أصحابه إلى سوق عكاظ , فأتوه وهو بنخلة عامداً , إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. قال عكرمة: السورة التي كان يقرؤها {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} واختلف قائلوا هذا

(6/108)


القول في عددهم , فروى عاصم عن زر بن حبيش أنهم كانوا تسعة , أحدهم زوبعة , أتوه في بطن نخلة. وروى ابن جريج عن مجاهد: أنهم كانوا سبعة , ثلاثة من أهل حران , وأربعة من أهل نصيبين , وكانت أسماؤهم: حسى ومسى وماصر وشاصر والأرد وأتيان والأحقم. وحكى جويبر عن الضحاك أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير التي بالعراق , وهم سليط وشاصر وماصر وحسا ومنشا ولحقم والأرقم والأرد وأتيان , وهم الذين قالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً , وكانوا قد أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة في صلاة الصبح فصلّوا معه: {فلما قضى ولّوْا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا أجيبوا داعي اللَّه وآمِنوا به}. وقيل إن الجن تعرف الإنس كلها فلذلك توسوس إلى كلامهم. واختلف في أصل الجن , فروى إسماعيل عن الحسن البصري أن الجن ولد إبليس , والإنس ولد آدم , ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون وهم شركاء في الثواب والعقاب فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمناً فهو ولي اللَّه , ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا شياطين وهم يموتون , ومنهم المؤمن والكافر , والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. أصلهم , فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال يدخلون الجنة بإيمانهم , ومن قال هم من ذرية إبليس فلهم فيها قولان: أحدهما: يدخلونها وهو قول الحسن. الثاني: وهو رواية مجاهد , لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. وفي قوله تعالى: {إنا سَمِعْنا قُرآنا عَجَباً} ثلاثة أوجه: أحدها: عجباً في فصاحة كلامه. الثاني: عجباً في بلاغة مواعظة.

(6/109)


الثالث: عجباً في عظم بركته. {يَهْدِي إلى الرُّشْدِ} فيه وجهان: أحدهما: مراشد الأمور. الثاني: إلى معرفة اللَّه. {وأنّه تَعالى جَدُّ ربّنا} فيه عشرة تأويلات: أحدها: أمر ربنا , قاله السدي. الثاني: فعل ربنا , قاله ابن عباس. الثالث: ذكر ربنا , وهو قول مجاهد. الرابع: غنى ربنا , قاله عكرمة. الخامس: بلاء ربنا , قاله الحسن. السادس: مُلك ربنا وسلطانه , قاله أبو عبيدة. السابع: جلال ربنا وعظمته , قاله قتادة. الثامن: نعم ربنا على خلقه , رواه الضحاك. التاسع: تعالى جد ربنا أي تعالى ربُّنا , قاله سعيد بن جبير. العاشر: أنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب , ويكون هذا من قول الجن عن [جهالة]. {وأنه كان يقولُ سَفيهُنا على اللَّهِ شَطَطاً} فيه قولان: أحدهما: جاهلنا وهم العصاة منا , قال قتادة: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس. الثاني: أنه إبليس , قاله مجاهد وقتادة ورواه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن قوله: (شططاً) وجهان: أحدهما: جوراً , وهو قول أبي مالك. الثاني: كذباً , قاله الكلبي، وأصل الشطط البعد , فعبر به عن الجور لبعده من العدل , وعن الكذب لبعده عن الصدق.

(6/110)


{وأنّه كانَ رجالٌ من الإنسِ يَعُوذون برجالٍ من الجنِّ} قال ابن زيد: إنه كان الرجل في الجاهلية قبل الإسلام إذا نزل بواد قال: إني أعوذ بكبير هذا الوادي - يعني من الجن - من سفهاء قومه , فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم , وهو معنى قوله: (وأنه كان رجال). وفي قوله: {فَزَادُوهم رَهقاً} ثمانية تأويلات: أحدها: طغياناً , قاله مجاهد. الثاني: إثماً , قاله ابن عباس وقتادة , قال الأعشى:
(لا شىءَ ينفعني مِن دُون رؤيتها ... هل يَشْتفي عاشقٌ ما لم يُصبْ رهَقاً.)
يعني إثماً. الثالث: خوفاً , قاله أبو العالية والربيع وابن زيد. الرابع: كفراً , قاله سعيد بن جبير. الخامس: أذى , قاله السدي. السادس: غيّاً , قاله مقاتل. السابع: عظمة , قاله الكلبي. الثامن: سفهاً , حكاه ابن عيسى.

(6/111)


وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)

{وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} {وأنا لَمسْنا السّماءَ} فيه وجهان: أحدهما: طلبنا السماءَ , والعرب تعبر عن الطلب باللمس تقول جئت ألمس الرزق وألتمس الرزق. الثاني: قاربنا السماء , فإن الملموس مقارَب. {فوَجدْناها} أي طرقها.

(6/111)


{مُلئتْ حَرَساً شديداً} هم الملائكة الغلاظ الشداد. {وشُهُباً} جمع شهاب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عند استراق السمع , واختلف في انقضاضها في الجاهلية قبل مبعث الرسول الله صلى الله عليه وسلم على قولين: أحدهما: أنها كانت تنقض في الجاهلية , وإنما زادت بمبعث الرسول إنذاراً بحاله , قال أوس بن حجر , وهو جاهلي:
(فانقضّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعهُ ... نقعٌ يثورُ تخالُهُ طُنُباً)
وهذا قول الأكثرين. الثاني: أن الانقضاض لم يكن قبل المبعث وإنما أحدثه الله بعده , قال الجاحظ: وكل شعر روي فيه فهو مصنوع. {وأنّا كُنّا نَقْعُدُ منها مَقَاعِدَ للسّمْعِ} يعني أن مردة الجن كانوا يقعدون من السماء الدنيا مقاعد للسمع يستمعون من الملائكة أخبار السماء حتى يُلقوها إلى الكهنة فتجري على ألسنتهم , فحرسها اللَّه حين بعث رسوله بالشهب المحرقة , فقالت الجن حينئذٍ: {فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رَصَداً} يعني بالشهاب الكوكب المحرق , والرصد من الملائكة. أما الوحي فلم تكن الجن تقدر على سماعه , لأنهم كانوا مصروفين عنه من قبل. {وأنّا لا نَدْرِي أشَرٌ أُريدَ بمن في الأرضِ أمْ أرادَ بهم ربُّهم رَشَداً} فيه وجهان: أحدهما: أنهم لا يدرون هل بعث الله محمداً ليؤمنوا به ويكون ذلك منهم رشداً ولهم ثواباً , أم يكفروا به فيكون ذلك منهم شراً وعليهم عقاباً , وهذا معنى قول السدي وابن جريج. الثاني: أنهم لا يدرون حراسة السماء بالشهب هل شر وعذاب أم رشد وثواب، قاله ابن زيد.

(6/112)


وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)

{وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} {وأنّا مِنّا الصّالحونَ} يعني المؤمنين. {ومنّا دون ذلك} يعني المشركين. ويحتمل أن يريد بالصالحين أهل الخير , وب (دون ذلك) أهل الشر ومن بين الطرفين على تدريج , وهو أشبه في حمله على الإيمان والشرك لأنه إخبار منهم عن تقدم حالهم قبل إيمانهم. {كُنّا طَرائقِ قِدَداً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني فِرقاً شتى , قاله السدي. الثاني: أدياناً مختلفة , قاله الضحاك. الثالث: أهواء متباينة , ومنه قول الراعي:
(القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قِدَدُ)
{وأنّا لّما سَمِعْنا الهُدَى آمَنّا به} يعني القرآن سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه على رسالته , وقد كان رسول الله مبعوثاً إلى الجن والإنس. قال الحسن: بعث اللَّه محمداً إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى رسولاً من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء , وذلك قوله تعالى: {وما أرسَلْنا مِن قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى}. {فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رَهقاً} قال ابن عباس:

(6/113)


لا يخاف نقصاً في حسناته , ولا زيادة في سيئاته , لأن البخس النقصان , والرهق: العدوان , وهذا قول حكاه الله عن الجن لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم , وقد روى عمار بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال: بينما عمر بن الخطاب جالساً ذات يوم إذ مرّ به رجل , فقيل له: أتعرف المارّ يا أمير المؤمنين؟ قال: ومن هو؟ قالوا: سواد بن قارب رجل من أهل اليمن له شرف , وكان له رئيّ من الجن , فأرسل إليه عمر فقال له: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين , قال: وأنت الذي أتاك رئيّ من الجن يظهر لك؟ قال: نعم بينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي من الجن فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي واعقل إن كنت تعقل , إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته , ثم أنشأ يقول:
(عجبْتُ للجنّ وتطلابها ... وشدِّها العِيسَ بأذْنابها.)
(تهوي إلى مكة تبغي الهُدَى ... ما صادقُ الجن ككذّابها.)
(فارْحَلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ ... فليس قد أتاها كاذباً بها.)

(6/114)


فقلت دعني أنام فإني أمسيت ناعساً , ولم أرفع بما قاله رأساً , فلما كان الليلة الثانية أتاني فضربني برجله , وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته , ثم أنشأ يقول:
(عجبْتُ للجنّ وتخيارها ... وشدِّها العيس بأكوارها.)
(تهوي إلى مكة تبغي الهدي ... ما مؤمن الجن ككفّارِها)
(فارحلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ ... ما بين رابيها وأحجارها.)
فقلت له دعني فإني أمسيت ناعساً , ولم أرفع بما قال رأساً , فلما كان الليلة الثالثة أتاني وضربني برجله , وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل , إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته , ثم أنشأ يقول:
(عجبت للجن وتحساسها ... وشدِّها العيسَ بأحْلاسها.)
(تهوي إلى مكة تبغي الهُدي ... ما خَيِّرُ الجنّ كأنجاسها.)
(فارحلْ إلى الصفوة من هاشم ... واسم بيديْك إلى رأسها.)
قال: فأصبحت قد امتحن الله قلبي بالإسلام , فرحلتُ ناقتي فأتيت المدينة , فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه , فقلت اسمع مقالتي يا رسول اللَّه , قال: هات , فأنشأت أقول:
(أتاني نجيّ بين هدءٍ ورقْدةٍ ... ولم يك فيما قد تلوْتُ بكاذبِ)
(ثلاث ليال قوله كل ليلةٍ ... أتاك رسولٌ من لؤيّ بن غالب)

(6/115)


(فشمّرتُ من ذيلي الإزار ووسطت ... بي الذملُ الوجناء بين السباسِب)
(فأشهَدُ أن اللَّه لا شيءَ غيرهُ ... وأنك مأمولٌ على كل غالبِ.)
(وأنك أدني المرسلين وسيلةً ... إلى اللَّه يا بن الأكرمين الأطايب.)
(فمُرنْا بما يأتيك يا خيرَ من مشى ... وإن كانَ فيما جاءَ شيبُ الذوائب.)
(وكن لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ ... سِواك بمغنٍ عن سوادِ بن قارب.)
)
ففرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرحاً شديداً , حتى رئي الفرح في وجوههم , قال: فوثب عمر فالتزمه وقال: قد كنت أشتهي أن أسمع منك هذا الحديث , فهل يأتيك رئيك من الجن اليوم؟ قال: [أما] وقد قرأت القرآن فلا , ونعم العوض كتاب اللَّه عن الجن. {وأنّا مِنّا المسْلِمونَ ومِنّا القاسِطونَ} وهذا إخبار عن قول الجن بحال من فيهم من مؤمن وكافر , والقاسط: الجائر , لأنه عادل عن الحق , ونظيره الترِب والمُتْرِب , فالترِب الفقير , لأن ذهاب ماله أقعده على التراب , والمترب الغني لأن كثرة ماله قد صار كالتراب. وفي المراد بالقاسطين ثلاثة أوجه: أحدها: الخاسرون , قاله قتادة. الثاني: الفاجرون , قاله ابن زيد. الثالث: الناكثون , قاله الضحاك. {وأن لو استقاموا على الطريقة} ذكر ابن بحر أن كل ما في هذه السورة من (إن) المكسورة المثقلة فهو حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن فرجعوا إلى قومهم منذرين , وكل ما فيها من (أن) المفتوحة المخففة أو المثقلة فهو من وحي الرسول. وفي هذه الاستقامة قولان: أحدهما: أنها الإقامة على طريق الكفر والضلالة , قاله محمد بن كعب وأبو مجلز وغيرهما. الثاني: الاستقامة على الهدى والطاعة , قاله ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد فمن ذهب إلى أن المراد الإقامة على الكفر والضلال فلهم في قوله {لأَسْقَيْناهم ماءً غَدَقاً} وجهان:

(6/116)


أحدهما: بلوناهم بكثرة الماء الغدق حتى يهلكوا كما هلك قوم نوح بالغرق , وهذا قول محمد بن كعب. الثاني: لأسقيناهم ماء غدق ينبت به زرعهم ويكثر مالهم. {لِنَفْتِنَهم فيه} فيكون زيادة في البلوى , حكى السدي عن عمر في قوله (لأسقيناهم ماء غدقاً) أنه قال: حيثما كان الماء كان المال , وحيثما كان المال كانت الفتنة , فاحتملت الفتنة ها هنا وجهين: أحدهما: افتننان أنفسهم. الثاني: وقوع الفتنة والشر من أجله. وأما من ذهب إلى أن المراد الاستقامة على الهدى والطاعة فلهم في تأويل قوله (لأسقيناهم ماءً غدقاً) أربعة أوجه: أحدها: معناه لهديناهم الصراط المستقيم , قاله ابن عباس. الثاني: لأوسعنا عليهم في الدنيا , قاله قتادة. الثالث: لأعطيناهم عيشاً رغداً , قاله أبو العالية. الرابع: أنه المال الواسع , لما فيه من النعم عليهم بحياة النفوس وخصب الزروع , قاله أبو مالك والضحاك وابن زيد. وفي الغدق وجهان: أحدهما: أنه العذب المعين , قاله ابن عباس , قاله أمية بن أبي الصلت:
(مِزاجُها سلسبيلٌ ماؤها غَدَقٌ ... عَذْبُ المذاقةِ لا مِلْحٌ ولا كدرٌ)
الثاني: أنه الواسع الكثير , قاله مجاهد , ومنه قول كثير:
(وهبتُ لسُعْدَى ماءه ونباته ... فما كل ذي وُدٍّ لمن وَدَّ واهبُ.)
(لتروى به سُعدى ويروى محلّها ... وتغْدقَ أعداد به ومشارب)

(6/117)


فعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار عن حالهم في الدنيا. الثاني: أنه إخبار عن حالهم في الآخرة لنفتنهم فيه. فإن قيل إن هذا وارد في أهل الكفر والضلال كان في تأويله ثلاثة أوجه: أحدها: افتتان أنفسهم بزينة الدنيا. الثاني: وقوع الفتنة والاختلاف بينهم بكثرة المال. الثالث: وقوع العذاب بهم كما قال تعالى: {يوم هم على النار يُفْتًنون} [الذاريات: 13] أي يعذبون. وإن قيل إنه وارد في أهل الهدى والطاعة فهو على ما قدمنا من الوجهين. وهل هو اختبارهم في الدنيا ففي تأويله ثلاثة أوجه: أحدها: لنختبرهم به , قاله ابن زيد. الثاني: لنطهرهم من دنس الكفر. الثالث: لنخرجهم به من الشدة والجدب إلى السعة والخصب. فإن قيل إنه إخبار عمّا لهم في الآخرة ففي تأويله وجهان: أحدهما: لنخلصهم وننجيهم , مأخوذ من فَتَن الذهب إذا خلّصه مِن غشه بالنار كما قال تعالى لموسى عليه السلام: {وفَتَنّاك فُتوناً} [طه: 40] أي خلصناك من فرعون. الثاني: معناه لنصرفنهم عن النار , كما قال تعالى {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أَوْحَينْا إليك لتفْتري علينا غيره} [الإسراء: 73] أي ليصرفونك {ومَنْ يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربِّه} قال ابن زيد: يعني القرآن وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما: عن القبول , إن قيل إنها من أهل الكفر. الثاني: عن العمل , إن قيل إنها من المؤمنين. {يَسْلُكْهُ عذاباً صَعَداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جب في النار , قاله أبو سعيد. الثاني: جبل في النار إذا وضع يده عليه ذابت , وإذا رفعها عادت , وهو مأثور , وهذان الوجهان من عذاب أهل الضلال.

(6/118)


والوجه الثالث: أنه مشقة من العذاب يتصعد , قاله مجاهد.

(6/119)


وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)

{وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا} {وأنَّ المساجدَ للَّهِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني الصلوات للَّه , قاله ابن شجرة. الثاني: أنها الأعضاء التي يسجد عليها للَّه , قاله الربيع. الثالث: أنها المساجد التي هي بيوت اللَّه للصلوات , قاله ابن عباس. الرابع: أنه كل موضع صلى فيه الإنسان , فإنه لأجل السجود فيه يسمى مسجداً. {فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحَداً} أي فلا تعبدوا معه غيره , وفي سببه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما حكاه الأعمش أن الجن قالت: يا رسول الله ائذن لنا نشهد معك الصلاة في مسجدك , فنزلت هذه الآية. الثاني: ما حكاه أبو جعفر محمد بن علّي أن الحمس من مشركي أهل مكة وهم كنانة وعامر وقريش كانوا يُلبّون حول البيت: لبيّك اللهم لبيّك , لبيّك لا شريك

(6/119)


لك , إلا شريكاً هو لك , تملكه وما ملك , فأنزل اللَّه هذه الآية نهياً أن يجعل للَّه شريكاً , وروى الضحاك عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى وقال: (وأن المساجد للَّه فلا تدعوا مع اللَّه أحداً) اللهم أنا عبدك وزائرك , وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار (وإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال:) اللهم صُبَّ الخير صبّاً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كدّاً واجعل لي في الخير جداً (. {وأنه لما قام عبدُ اللَّهِ يدعوه} يعني محمداً , وفيه وجهان: أحدهما: أنه قام إلى الصلاة يدعو ربه فيها , وقام أصحابه خلفه مؤتمين , فعجبت الجن من طواعية أصحابه له , قاله ابن عباس. الثاني: أنه قام إلى اليهود داعياً لهم إلى اللَّه , رواه ابن جريج. {كادوا يكونون عليه لِبَداً} فيه وجهان: أحدهما: يعني أعواناً , قاله ابن عباس. الثاني: جماعات بعضها فوق بعض , وهو معنى قول مجاهد , ومنه اللبد لاجتماع الصوف بعضه على بعض , وقال ذو الرمة:
(ومنهلٍ آجنٍ قفرٍ مواردهُ ... خُضْرٍ كواكبُه مِن عَرْمَصٍ لَبِدِ.)
وفي كونهم عليه لبداً ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم المسلمون في اجتماعهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن جبير. الثاني: أنهم الجن حين استمعوا من رسول اللَّه قراءته , قاله الزبير بن العوام. الثالث: أنهم الجن والإنس في تعاونهم على رسول اللَّه في الشرك , قاله قتادة. {قلْ إني لا أَمْلِكُ لكم ضَرّاً ولا رَشَداً} يعني ضراً لمن آمن ولا رشداً لمن كفر , وفيه ثلاثة أوجه:

(6/120)


أحدها: عذاباً ولا نعيماً. الثاني: موتاً ولا حياة. الثالث: ضلالاً ولا هدى. {قل إني لن يُجيرَني مِنَ اللَّهِ أَحدٌ} روى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال: انطلقتُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط خطاً ثم تقدم عليهم فازدحموا عليه , فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أزجلهم عنك , فقال: (إني لن يجيرني من اللَّه أحد) ويحتمل وجهين: أحدهما: لن يجيرني مع إجارة اللَّه لي أحد. الثاني: لن يجيرني مما قدره الله علي أحد. {ولن أجدَ مِن دُونهِ مَلْتَحداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني ملجأ ولا حرزاً , قاله قتادة. الثاني: ولياً ولا مولى , رواه أبو سعيد. الثالث: مذهباً ولا مسلكاً , حكاه ابن شَجرة , ومنه قول الشاعر:
(يا لهفَ نفْسي ولهفي غيرُ مُجْديةٍ ... عني وما مِن قضاءِ اللَّهِ مُلْتَحَدُ.)
{إلا بلاغاً مِن اللَّه ورسالاتِه} فيه وجهان: أحدهما: لا أملك ضراً ولا رشداً إلا أن أبلغكم رسالات اللَّه , قاله الكلبي. الثاني: لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالات اللَّه , قاله مقاتل. روى مكحول عن ابن مسعود: أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة , وكانوا سبعين ألفاً , وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر.

(6/121)


قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

{قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين

(6/121)


يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} {عالِمُ الغيْب} فيه أربعة أوجه: أحدها: عالم السر , قاله ابن عباس. الثاني: ما لم تروه مما غاب عنكم , قاله الحسن. الثالث: أن الغيب القرآن , قاله ابن زيد. الرابع: أن الغيب القيامة وما يكون فيها , حكاه ابن أبي حاتم. {فلا يُظْهِرُ على غيْبه أَحَداً , إلا من ارتضى من رسول} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إلا من ارتضى من رسول الله هو جبريل , قاله ابن جبير. الثاني: إلا من ارتضى من نبي فيما يطلعه عليه من غيب , قاله قتادة. {فإنه يَسْلُكُ مِن بَيْن يَدَيْه ومِنْ خَلْفه رَصَداً} فيه قولان: أحدهما: الطريق , ويكون معناه فإنه يجعل له إلى علم بعض ما كان قبله وما يكون بعده طريقاً , قاله ابن بحر. الثاني: أن الرصد الملائكة , وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من الجن والشياطين من أمامه وورائه , قاله ابن عباس وابن زيد , قال قتادة: هم أربعة. الثاني: أنهم يحفظون الوحي فما جاء من الله قالوا إنه من عند الله , وما ألقاه الشيطان قالوا إنه من الشيطان , قاله السدي. الثالث: يحفظون جبريل إذا نزل بالوحي من السماء أن يسمعه الجن إذا

(6/122)


استرقوا السمع ليلقوه إلى كهنتهم قبل أن يبلغه الرسول إلى أمته , قاله الفراء. {ليعْلَمَ أنْ قد أبْلَغوا رسالاتِ ربِّهم} فيه خمسة أوجه: أحدها: ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل إليه رسالات ربه , قاله ابن جبير , وقال: ما نزل جبريل بشيء من الوحي إلا ومعه أربعة من الملائكة. الثاني: ليعلم محمد أن الرسل قبله قد بلغت رسالات الله وحفظت , قاله قتادة. الثالث: ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد بلغت عن ربها ما أمرت به , قاله مجاهد. الرابع: ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل الله عليهم , ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم , قاله ابن قتيبة. الخامس: ليعلم الله أن رسله قد بلغوا عنه رسالاته , لأنبيائه , قاله الزجاج. {وأحاط بما لديهم} قال ابن جريج: أحاط علماً. {وأحْصى كُلَّ شيءٍ عَدَداً} يعني من خلقه الذي يعزب إحصاؤه عن غيره.

(6/123)


سورة المزمل
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة إلا آيتين منها: قوله {واصبر على ما يقولون} والتي بعدها. بسم الله الرحمن الرحيم

(6/124)


يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)

{يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} قوله تعالى: {يا أيها المزمِّلُ} قال الأخفش: أصله المتزمل فأدغم التاء في الزاي , وكذا المدثر. وفي أصل المزمل: قولان: أحدهما: المحتمل , يقال زمل الشيء إذا حمله , ومنه الزاملة التي تحمل القماش. الثاني: المزمل هو المتلفف , قال امرؤ القيس:

(6/124)


(كأن ثبيراً في عرائين وبْله ... كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مُزَمّلِ.)
وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يا أيها المزمل بالنبوة , قاله عكرمة. الثاني: بالقرآن , قاله ابن عباس. الثالث: بثيابه , قاله قتادة. قال إبراهيم: نزلت عليه وهو في قطيفة. {قُمِ الليلَ إلا قليلاً} يعني صلِّ الليل إلا قليلاً , وفيه وجهان: أحدهما: إلا قليلاً من أعداد الليالي لا تقمها. الثاني: إلا قليلاً من زمان كل ليلة لا تقمه وقد كان فرضاً عليه. وفي فرضه على مَنْ سواه من أُمّته قولان: أحدهما: فرض عليه دونهم لتوجه الخطاب إليه , ويشبه أن يكون قول سعيد ابن جبير. الثاني: أنه فرض عيله وعليهم فقاموا حتى ورمت أقدامهم , قاله ابن عباس وعائشة. وقال ابن عباس: كانوا يقومون نحو قيامه في شهر رمضان ثم نسخ فرض قيامه على الأمة , واختلف بماذا نسخ عنهم على قولين: أحدهما: بالصلوات الخمس وهو قول عائشة. الثاني: بآخر السورة , قاله ابن عباس. واختلفوا من مدة فرضه إلى أن نسخ على قولين: أحدهما: سنة , قال ابن عباس: كان بين أول المزمل وآخرها سنة. الثاني: ستة عشر شهراً , قالته عائشة , فهذا حكم قيامه في فرضه ونسخه على الأمة. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضاً عليه , وفي نسخه عنه قولان: أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين. الثاني: أنها عشر سنين إلى أن خفف عنها بالنسخ زيادة في التكليف لتميزه بفضل الرسالة , قاله سعيد بن جبير.

(6/125)


قوله (قم الليلَ إلاّ قليلاً) لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن فاستثنى منه القليل لراحة الجسد , والقليل من الشيء ما دون النصف. حكي عن وهب بن منبه أنه قال: القليل ما دون المعشار والسدس. وقال الكلبي ومقاتل: القليل الثلث. وَحدُّ الليل ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر الثاني. ثم قال تعالى: {نِصْفَهُ أو انقُصْ مِنْهُ قليلاً} فكان ذلك تخفيفاً إذا لم يكن زمان القيام محدوداً , فقام الناس حتى ورمت أقدامهم , فروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الليل فقال: أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون , فإن اللَّه لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل , وخير الأعمال ما ديم عليه. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (عَلِم أنْ لن تُحْصوه فتابَ عليكم فاقْرَؤوا ما تيسّر من القرآن). {أوزِدْ عليه ورَتِّل القرآنَ تَرْتيلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بيّن القرآن تبياناً , قاله ابن عباس وزيد بن أسلم. الثاني: فسّرْه تفسيراً , قاله ابن جبير. الثالث: أن تقرأه على نظمه وتواليه , لا تغير لفظاً ولا تقدم مؤخراً مأخوذ من ترتيل الأسنان إذا استوى نبتها وحسن انتظامها , قاله ابن بحر. {إنّا سنُلْقي عليكَ قوْلاً ثَقيلاً} وهو القرآن , وفي كونه ثقيلاً أربعة تأويلات: أحدها: أنه إذا أوحي إليه كان ثقيلاً عليه لا يقدر على الحركة حتى ينجلي عنه , وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير. الثاني: العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه وحلاله وحرامه , قاله الحسن وقتادة. الثالث: أنه في المزان يوم القيامة ثقيل , قاله ابن زبير.

(6/126)


الرابع: ثقل بمعنى كريم , مأخوذ من قولهم: فلان ثقيل عليّ أي كريم عليّ , قاله السدي. ويحتمل تأويلً خامساً: أن يكون ثقيل بمعنى ثابت , لثبوت الثقيل في محله , ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً. {إنّ ناشئةَ الليل هي أَشدُّ وطْئاً} فيها ستة تأويلات: أحدها: أنه قيام الليل , بالحبشية , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه ما بين المغرب والعشاء , قاله أنس بن مالك. الثالث: ما بعد العشاء الآخرة , قاله الحسن ومجاهد. الرابع: أنها ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة , قاله ابن قتيبة. الخامس: أنه بدء الليل , قاله عطاء وعكرمة. السادس: أن الليل كل ناشئة , قال ابن عباس: لأنه ينشأ بعد النهار. وفي (أشد وطْئاً) خمسة تأويلات: أحدها: مواطأة قلبك وسمعك وبصرك , قاله مجاهد. الثاني: مواطأة قولك لعملك , وهو مأثور. الثالث: مواطأة عملك لفراغك , وهو محتمل. الرابع: أشد نشاطاً , قاله الكلبي , لأنه زمان راحتك. الخامس: قاله عبادة: أشد وأثبت وأحفظ للقراءة. وفي قوله: {وأَقْوَمُ قِيلاً} ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه أبلغ في الخير وأمعن في العدل , قاله الحسن. الثاني: أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم , قاله مجاهد وقتادة , وقرأ أنس بن مالك (وأهيأ قيلاً) وقال أهيأ وأقوم سواء. الثالث: أنه أعجل إجابة للدعاء , حكاه ابن شجرة. {إن لك في النهارِ سَبْحاً طويلاً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني فراغاً طوياً لنَومك وراحتك , فاجعل ناشئة الليل لعبادتك , قاله ابن عباس وعطاء.

(6/127)


الثاني: دعاء كثيراً , قاله السدي وابن زيد والسبح بكلامهم هو الذهاب , ومنه سبح السابح في الماء. {واذكر اسم ربك} فيه وجهان: أحدهما: اقصد بعملك وجه ربك. الثاني: أنه إذا أردت القراءة فابدأ بسم الله الرحمن الرحيم , قاله ابن بحر. ويحتمل وجهاً ثالثاً: واذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته. {وتَبتَّلْ إليه تَبْتِيلاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أخلص إليه إخلاصاً , قاله مجاهد. الثاني: تعبد له تعبداً , قاله ابن زيد. الثالث: انقطع إليه انقطاعاً , قاله أبو جعفر الطبري , ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى , وجاء في الحديث النهي عن التبتل الذي هو الانقطاع عن الناس والجماعات. الرابع: وتضرّع إليه تضرّعاً. {ربُّ المشْرِقِ والمْغرِبِ} فيه قولان: أحدهما: رب العالَمِ بما فيه لأنهم بين المشرق والمغرب , قاله ابن بحر. الثاني: يعني مشرق الشمس ومغربها. وفي المراد بالمشرق والمغرب ثلاثة أوجه: أحدها: أنه استواء الليل والنهار , قاله وهب بن منبه. الثاني: أنه دجنة الليل ووجه النهار , قاله عكرمة. الثالث: أنه أول النهار وآخره , لأن نصف النهار أوله فأضيف إلى المشرق , ونصفه آخره فأضيف إلى المغرب.

(6/128)


{فاتّخِذْهُ وَكيلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مُعيناً. الثاني: كفيلاً. الثالث: حافظاً.

(6/129)


وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)

{واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا} {واهْجُرهم هَجْراً جَميلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: اصفح عنهم وقل سلام , قاله ابن جريج. الثاني: أن يعرض عن سفههم ويريهم صغر عداوتهم. الثالث: أنه الهجر الخالي من ذم وإساءة. وهذا الهجر الجميل قبل الإذن في السيف. {وذَرْني والمُكَذِّبينَ أُولي النّعْمةِ} قال يحيى بن سلام: بلغني أنهم بنو المغيرة , وقال سعيد بن جبير: أُخبرت أنهم اثنا عشر رجلاً من قريش. ويحتمل قوله تعالى: (أولي النّعْمةِ) ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قال تعريفاً لهم إن المبالغين في التكذيب هم أولي النعمة. الثاني: أنه قال ذلك تعليلاً , أي الذين أطغى هم أولوا النعمة. الثالث: أنه قال توبيخاًً أنهم كذبوا ولم يشكروا من أولاهم النعمة. {ومهِّلْهم قليلاً} قال ابن جريج: إلى السيف.

(6/129)


{إنّ لدينا أنْكالاً وجَحيماً} في (أنكالاً) ثلاثة أوجه: أحدها: أغلالاً , قاله الكلبي. الثاني: أنها القيود , قاله الأخفش وقطرب , قالت الخنساء:
(دَعاك فَقَطّعْتَ أنكاله ... وقد كُنّ قبْلك لا تقطع.)
الثالث: أنها أنواع العذاب الشديد , قاله مقاتل , وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يحب النكل على النكل , قيل: وما النكل؟ قال: الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب) ومن ذلك سمي القيد نكلاً لقوته , وكذلك الغل , وكل عذاب قوي واشتد. {وطعاماً ذا غُصَّةٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولايخرج , قاله ابن عباس. الثاني: أنها شجرة الزقوم , قاله مجاهد. {وكانت الجبالُ كَثيباً مَهيلاً} فيه وجهان: أحدهما: رملاً سائلاً , قاله ابن عباس. الثاني: أن المهيل الذي إذا وطئه القدم زل من تحتها وإذا أخذت أسفله انهال أعلاه , قاله الضحاك والكلبي. {فأخَذْناه أَخْذاً وبيلاً} فيه أربعة تأويلات: أحدهما: شديداً , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: متتابعاً , قاله ابن زيد. الثالث: ثقيلاً غليظاً , ومنه قيل للمطر العظيم وابل , قاله الزجاج. الرابع: مهلكاً , ومنه قول الشاعر:
(أكْلتِ بَنيكِ أَكْلَ الضّبِّ حتى ... وَجْدتِ مرارةَ [الكلإ الوبيل].)
{فكيف تتّقونَ} يعني يوم القيامة.

(6/130)


{إن كفَرتم يوماً يجْعَل الولدان شيباً} الشيب: جمع أشيب , والأشيب والأشمط الذي اختلط سواد شعره ببياضه , وهو الحين الذي يقلع فيه ذو التصابي عن لهوه , قال الشاعر:
(طرْبتَ وما بك ما يُطرِب ... وهل يلعب الرجلُ الأَشْيَبُ)
وإنما شاب الولدان في يوم القيامة من هوْله. {السماءُ مُنفطرٌ به} فيه أربعة أوجه: أحدها: ممتلئة به , قاله ابن عباس. الثاني: مثقلة , قاله مجاهد. الثالث: مخزونة به , قاله الحسن. الرابع: منشقة من عظمته وشدته , قاله ابن زيد. {وكانَ وعْدُه مَفْعولاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وعده بأن السماء منفطر به , وكون الجبال كثيباً مهيلاً , وأن يجعل الولدان شيباً , قاله يحيى بن سلام. الثاني: وعده بأن يظهر دينه على الدين كله , قاله مقاتل. الثالث: وعده بما بشّر وأنذر من ثوابه وعقابه. وفي المعنى المكنى عنه في قوله (به) وجهان: أحدهما: أن السماء منفطرة باليوم الذي يجعل الولدان شيباً , فيكون اليوم قد جعل الولدان شيباً , وجعل السماء منفطرة ويكون انفطارها للفناء. الثاني: معناه أن السماء منفطرة بما ينزل منها بأن يوم القيامة يجعل الولدان شيباً , ويكون انفطارها بانفتاحها لنزول هذا القضاء منها.

(6/131)


إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

{إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم

(6/131)


مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} { ... . واللَّهُ يُقدِّرُ الليلَ والنهارَ} يعني يقدر ساعتهما , فاحتمل ذلك وجهين: أحدهما: تقديرهما لأعمال عباده. الثاني: لقضائه في خلْقه. {عَلِمَ أن لن تُحْصُوهُ} فيه وجهان: أحدهما: لن تطيقوا قيام الليل , قاله الحسن. الثاني: يريد تقدير نصف الليل وثلثه وربعه , قاله الضحاك. {فتابَ عليكم} يحتمل وجهين: أحدهما: فتاب عليكم من تقصيركم فيما مضى , فاقرؤوا في المستبقل ما تيسر. الثاني: فخفف عنكم. {فاقْرءُوا ما تيسّر مِنَ القُرآنِ} فيه وجهان: أحدهما: فصلّوا ما تيسّر من الصلاة , فعبر عن الصلاة بالقرآن لما يتضمنها من القرآن. فعلى هذا يحتمل في المراد بما تيسر من الصلاة وجهان: أحدهما: ما يتطوع به من نوافله لأن الفرض المقدر لا يؤمر فيه بما تيسر. الثاني: أنه محمول على فروض الصلوات الخمس لانتقال الناس من قيام الليل إليها , ويكون قوله (ما تيسر) محمولاً على صفة الأداء في القوة والضعف , والصحة والمرض , ولا يكون محمولاً على العدد المقدر شرعاً. الثاني: أن المراد بذلك قراءة ما تيسر من القرآن حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ. فعلى هذا فيه وجهان:

(6/132)


أحدهما: أن المراد به قراءة القرآن في الصلاة فيكون الأمر به واجباً لوجوب القراءة في الصلاة. واختلف في قدر ما يلزمه أن يقرأ به من الصلاة , فقدره مالك والشافعي بفاتحة الكتاب , لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها , وقدرها أبو حنيفة بآية واحدة من أيّ القرآن كانت. والوجه الثاني: أن المراد به قراءة القرآن من غير الصلاة , فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولاً على الوجوب أو على الاستحباب؟ على وجهين: أحدهما: أنه محمول على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه , ودلائل التوحيد فيه وبعث الرسل , ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه , لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة. الثاني: أنه محمول على الاستحباب دون الوجوب , وهذا قول الأكثرين لأنه لو وجب عليه أن يقرأه وجب عليه أن يحفظه. وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقاويل: أحدها: جميع القرآن , لأن اللَّه تعالى قد يسره على عباده , قاله الضحاك. الثاني: ثلث القرآن , حكاه جويبر. الثالث: مائتا آية , قاله السدي. الرابع: مائة آية , قاله ابن عباس. الخامس: ثلاث آيات كأقصر سورة , قاله أبو خالد الكناني. {عَلِم أنْ سيكونُ منكم مَّرْضَى} ذكر الله أسباب التخفيف , فذكر منها المرض لأنه يُعجز. ثم قال: {وآخرون يَضْرِبون في الأرض} فيه وجهان: أحدهما: أنهم المسافرون , كما قال عز وجلّ: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}. الثاني: أنه التقلُّب للتجارة لقوله تعالى: {يبتغونَ من فضلِ اللَّه} , قاله ابن مسعود يرفعه , وهو قول السدي.

(6/133)


{وآخَرونَ يُقاتِلون في سبيل اللَّهِ} يعني في طاعته , وهم المجاهدون. {فاقْرؤوا ما تيسّر منه} نسخ ما فرضه في أول السورة من قيام الليل وجعل ما تيسر منه تطوعاً ونفلاً , لأن الفرض لا يؤمر فيه بفعل ما تيسر منه. وقد ذكرنا في أول السورة الأقاويل في مدة الفرض. {وأقيموا الصلاة} يعني المفروضة , وهي الخمس لوقتها. {وآتُوا الزكاةَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها ها هنا طاعة اللَّه والإخلاص له , قاله ابن عباس. الثاني: أنها صدقة الفطر , قاله الحارث العكلي. الثالث: أنها زكاة الأموال كلها , قاله قتادة وعكرمة. {وأقْرِضوا اللَّه قَرْضاً حَسَناً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه النوافل بعد الفروض , قاله ابن زيد. الثاني: قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر , قاله ابن حبان. الثالث: النفقة على الأهل , قاله زيد بن أسلم. الرابع: النفقة من سبيل الله , وهذا قول عمر رضي الله عنه. الخامس: أنه أمر بفعل جميع الطاعات التي يستحق عليها الثواب. {تجدُوه عِندَ اللهِ} يعني تجدوا ثوابه عند الله {هو خيراً} يعني مما أعطيتم وفعلتم. {وأعظم أجرا} قال أبو هريرة: الجنة. ويحتمل أن يكون (أعظم أجرا) الإعطاء بالحسنة عشراً. {واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} يعني من ذنوبكم. {إنّ اللَّه غَفورٌ} لما كان قبل التوبة. {رحيمُ} بكم بعدها , قاله سعيد بن جبير.

(6/134)


سورة المدثر
بسم الله الرحمن الرحيم

(6/135)


يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

{يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} قوله تعالى: {يا أيها المدَّثِّر} فيه قولان: أحدهما: يا أيها المدثر بثيابه , قاله قتادة. الثاني: بالنبوة وأثقالها , قاله عكرمة. {قم} من نومك {فأنذر} قومك عذاب ربك. ويحتمل وجهاً ثالثاً: يا أيها الكاتم لنبوته اجهر بإنذارك. ويحتمل هذا الإنذار وجهين: أحدهما: إعلامهم بنبوته لأنه مقدمة الرسالة. الثاني: دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود بها. قال ابن عباس وجابر هي أول سورة نزلت. {وثيابَك فَطِّهرْ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن المراد بالثياب العمل. الثاني: القلب.

(6/135)


الثالث: النفْس. الرابع: النساء والزوجات. الخامس: الثياب الملبوسات على الظاهر. فمن ذهب على أن المراد بها العمل قال تأويل الآية: وعملك فأصلح , قاله مجاهد , ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيها) يعني عمله الصالح والطالح. ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب القلب فالشاهد عليه قول امرىء القيس:
(وإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ ... فسلّي ثيابي من ثيابكِ تنسلِ)
ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: وقلبك فطهر من الغدر وهذا مروي عن ابن عباس , واستشهد بقول الشاعر:
(فإني بحْمدِ الله لا ثوْبَ فاجر ... لبست ولا مِن غَدْرةٍ أَتَقَنّع.)
ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب النفس فلأنها لابسة الثياب , فكنى عنها بالثياب , ولهم في تأويل الآية ثلاثة أوجه: أحدها: معناه ونفسك فطهر مما نسبك إليه المشركون من شعر أو سحر أو كهانة أو جنون , رواه ابن أبي نجيح وأبو يحيى عن مجاهد. الثاني: ونفسك فطهرها مما كنت تشكو منه وتحذر , من قول الوليد بن المغيرة , قاله عطاء. الثالث: ونفسك فطهرها من الخطايا , قاله عامر. ومن ذهب إلى أن المراد النساء والزوجات فلقوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم

(6/136)


لباس لهن} [البقرة: 187] ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف. الثاني: الاستمتاع بهن من القبل دون الدبر , وفي الطهر دون الحيض , حكاهما ابن بحر. ومن ذهب إلى أن المراد بها الثياب الملبوسة على الظاهر , فلهم في تأويله أربعة أوجه: أحدها: معناه وثيابك فأنْقِ , رواه عطاء عن ابن عباس , ومنه قول امرىء القيس:
(ثياب بني عَوفٍ طهارى نقيّةٌ ... وأَوْجُهُهُمْ عند المشاهد غُرّان)
الثاني: وثيابك فشمّر وقصّر , قاله طاووس. الثالث: وثيابك فطهر من النجاسات بالماء , قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء. الرابع: معناه لا تلبس ثياباً إلا [من] كسب حلال مطهرة من الحرام. {والرُّجْزَ فاهْجُرْ} فيه ستة تأويلات: أحدها: يعني الآثام والأصنام , قاله جابر وابن عباس وقتادة والسدي. الثاني: والشرك فاهجر، قاله ابن جبير. الثالث: والذنب فاهجر , قاله الحسن. الرابع: والإثم فاهجر , قال السدي. الخامس: والعذاب فاهجر , حكاه أسباط. السادس: والظلم فاهجر , ومنه قول رؤبة بن العجاج.
(كم رامنا من ذي عديد منه ... حتى وَقَمْنا كيدَه بالرجزِ.)
قاله السدي: الرَّجز بنصب الراء: الوعيد. {ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر} فيه أربعة تأويلات:

(6/137)


أحدها: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها , قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة , قال الضحاك: هذا حرمه الله تعالى على رسول وأباحه لأمته. الثاني: معناه لا تمنن بعملك تستكثر على ربك , قاله الحسن. الثالث: معناه لا تمنن بالنبوة على الناس تأخذ عليها منهم أجراً , قاله ابن زيد. الرابع: معناه لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه , قاله مجاهد. ويحتمل تأويلاً خامساً: لا تفعل الخير لترائي به الناس. {ولِربِّك فاصْبِرْ} أما قوله (وَلِرَبِّكَ) ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: لأمر ربك. الثاني: لوعد ربك. الثالث: لوجه ربك. وفي قوله (فاصْبِرْ سبعة تأويلات: أحدها: فاصْبِرْ على ما لاقيت من الأذى والمكروه قاله مجاهد. الثاني: على محاربة العرب ثم العجم , قاله ابن زيد. الثالث: على الحق فلا يكن أحد أفضل عندك فيه من أحد , قاله السدي. الرابع: فاصْبِرْ على عطيتك لله , قاله إبراهيم. الخامس: فاصْبِرْ على الوعظ لوجه الله , قاله عطاء. السادس: على انتظام ثواب عملك من الله تعالى , وهو معنى قول ابن شجرة. السابع: على ما أمرك الله من أداء الرسالة وتعليم الدين , حكاه ابن عيسى. {فإذا نُقِرَ في الناقُورِ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني نفخ في الصور , قاله ابن عباس , وهل المراد النفخة الأولى أو الثانية؟ قولان: أحدهما: الأولى. والثاني: الثانية. - الثاني: أن الناقور القلب يجزع إذا دعي الإنسان للحساب , حكاه ابن كامل. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن الناقور صحف الأعمال إذا نشرت للعرض.

(6/138)


ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)

{ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر} {ذرْني ومَنْ خَلَقْتُ وَحيداً} قال المفسرون يعني الوليد بن المغيرة المخزومي وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه , وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة لأذى الرسول. وفي قوله تعالى: (وحيداً) تأويلان: أحدهما: أن الله تفرد بخلقه وحده. الثاني: خلقه وحيداً في بطن أُمّه لا مال له ولا ولد , قاله مجاهد , فعلى هذا الوجه في المراد بخلقه وحيداً وجهان: أحدهما: أن يعلم به قدر النعمةعليه فيما أعطي من المال والولد. الثاني: أن يدله بذلك على أنه يبعث وحيداً كما خلق وحيداً. {وجَعَلْتُ له مالاً مَمْدوداً} فيه ثمانية أقاويل: أحدها: ألف دينار , قاله ابن عباس. الثاني: أربعة الآف دينار , قاله سفيان. الثالث: ستة الآف دينار , قاله قتادة. الرابع: مائة ألف دينار , قاله مجاهد. الخامس: أنها أرض يقال لها ميثاق , وهذا مروي عن مجاهد أيضاً. السادس: أنها غلة شهر بشهر , قاله عمر رضي الله عنه. السابع: أنه الذي لا ينقطع شتاء ولا صيفاً , قاله السدي. الثامن: أنها الأنعام التي يمتد سيرها في أقطار الأرض للمرعى والسعة , قاله ابن بحر.

(6/139)


ويحتمل تاسعاً: أن سيتوعب وجوه المكاسب فيجمع بين زيادة الزراعة وكسب التجارة ونتاج المواشي فيمد بعضها ببعض لأن لكل مكسب وقتاً. ويحتمل عاشراً: أنه الذي يتكون نماؤه من أصله كالنخل والشجر. {وبَنينَ شُهوداً} اختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم كانوا عشرة , قاله السدي. الثاني: قال الضحاك: كان له سبعة ولدوا بمكة , وخمسة ولدوا بالطائف. الثالث: أنهم كانوا ثلاثة عشر رجلاً , قاله ابن جبير. وفي قوله (شهوداً) ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم حضور معه لا يغيبون عنه , قاله السدي. الثاني: أنه إذا ذكر ذكروا معه , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم كلهم رب بيت , قاله ابن جبير. ويحتمل رابعاً: أنهم قد صاروا مثله من شهود ما كان يشهده , والقيام بما كان يباشره. {ومَهّدْت له تَمْهيداً} فيه وجهان: أحدها: مهدت له من المال والولد , قاله مجاهد. الثاني: مهدت له الرياسة في قومه , قاله ابن شجرة. ويحتمل ثالثاً: أنه مهد له الأمر في وطنه حتى لا ينزعج عنه بخوف ولا حاجة. {ثم يَطْمَعُ أنْ أَزيدَ} فيه وجهان: أحدهما: ثم يطمع أن أدخله الجنة , كلاّ , قاله الحسن. الثاني: أن أزيده من المال والولد (كلاّ) قال ابن عباس: فلم يزل النقصان في ماله وولده. ويحتمل وجهاً ثالثاً: ثم يطمع أن أنصره على كفره. {كلاّ إنه كان لآياتِنَا عَنيداً} في المراد (بآياتنا) ثلاثة أقاويل: أحدها: القرآن , قاله ابن جبير. الثاني: محمد صلى الله عليه وسلم , قاله السدي.

(6/140)


الثالث: الحق , قاله مجاهد. وفي قوله (عنيداً) أربعة تأويلات: أحدها: معاند , قاله مجاهد وأبو عبيدة , وأنشد قول الحارثي:
(إذا نزلت فاجعلاني وسطا ... إني كبير لا أطيق العُنَّدا)
الثاني: مباعد , قاله أبو صالح , ومنه قول الشاعر:
(أرانا على حال تفرِّق بيننا ... نوى غُرْبَةٍ إنّ الفراق عنود.)
الثالث: جاحد , قاله قتادة. الرابع: مُعْرض , قاله مقاتل. ويحتمل تأويلاً خامساً: أنه المجاهر بعداوته. {سأرْهِقُه صَعُوداً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: مشقة من العذاب , قاله قتادة. الثاني: أنه عذاب لا راحة فيه , قاله الحسن. الثالث: أنها صخرة في النار ملساء يكلف أن يصعدها , فإذا صعدها زلق منها , وهذا قول السدي. الرابع: ما رواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم (سأرهقه صعودا) قال: (هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده , فإذا وضع يده عيله ذابت , وإذا رفعها عادت , وإذا وضع رجله ذابت , وإذا رفعها عادت). ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل قولاً خامساً: أنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه. {إنه فكَّر وقَدَّر} قال قتادة: زعموا أن الوليد بن المغيرة قال: لقد نظرت فيما قال هذا الرجل فإذا هو ليس بشعر , وإن له لحلاوة , وإن عليه لطلاوة , وإنه ليعلو وما يُعْلَى , وما أشك أنه سحر , فهو معنى قوله (فكر وقدّر) أي فكر في القرآن فيما إنه سحر وليس بشعر.

(6/141)


ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يكون فكّر في العداوة وقدّر في المجاهدة. {فقُتِلَ كيف قَدَّرَ} فيه وجهان: أحدهما: أي عوقب ثم عوقب , فيكون العقاب تكرر عليه مرة بعد أخرى. الثاني: أي لعن ثم لعن كيف قدر أنه ليس بشعر ولا كهانة , وأنه سحر. {ثم نَظَرَ} يعني الوليد بن المغيرة , وفي ما نظر فيه وجهان: أحدهما: أنه نظر في الوحي المنزل من القرآن , قاله مقاتل. الثاني: أنه نظر إلى بني هاشم حين قال في النبي صلى الله عليه وسلم إنه ساحر , ليعلم ما عندهم. ويحتمل ثالثاً: ثم نظر إلى نفسه فيما أُعطِي من المال والولد فطغى وتجبر. {ثم عَبَسَ وبَسَرَ} أما عبس فهو قبض ما بين عينينه , وبَسَرَ فيه وجهان: أحدهما: كلح وجهه , قاله قتادة , ومنه قول بشر بن أبي خازم:
(صبحنا تميماً غداة الجِفار ... بشهباءَ ملمومةٍ باسِرةَ)
الثاني: تغيّر , قاله السدي , ومنه قول توبة:
(وقد رابني منها صدودٌ رأيتُه ... وإعْراضها عن حاجتي وبُسورها.)
واحتمل أن يكون قد عبس وبسر على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه. واحتمل أن يكون على من آمن به ونصره. وقيل إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة , وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة. {ثم أَدْبَر واسْتَكْبَرَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أدبر عن الحق واستكبر عن الطاعة. الثاني: أدبر عن مقامه واستكبر في مقاله. {فقال إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤْثَر} قال ابن زيد: إن الوليد بن المغيرة قال: إنْ هذا القرآن إلا سحر يأثره محمد عن غيره فأخذه عمن تقدمه. ويحتمل وجهاً آخر: أن يكون معناه أن النفوس تؤثر لحلاوته فيها كالسحر.

(6/142)


{إنْ هذا إلا قَوْلَ البَشِرِ} أي ليس من كلام الله تعالى , قال السدي: يعنون أنه من قول أبي اليسر عَبْدٌ لبني الحضرمي كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم , فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك. {سأصْليه سَقَرَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه اسم من أسماء جهنم مأخوذ من قولهم: سقرته الشمس إذا آلمت دماغه , فسميت جهنم بذلك لشدة إيلامها. {وما أدراك ما سَقَر لا تُبقي ولا تذر} فيه وجهان: أحدهما: لا تبقي من فيها حياً , ولا تذره ميتاً , قاله مجاهد. الثاني: لا تبقي أحداً من أهلها أن تتناوله , ولا تذره من العذاب , حكاه ابن عيسى. ويحتمل وجهاً ثالثاً: لا تبقيه صحيحاً , ولا تذره مستريحاً. {لوّاحَةً للبَشَرِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: مغيرة لألوانهم , قال أبو رزين تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل. الثاني: تحرق البشر حتى تلوح العظم , قاله عطية. الثالث: أن بشرة أجسادهم تلوح على النار , قاله مجاهد. الرابع: أن اللواح شدة العطش , والمعنى أنها معطشة للبشر , أي لأهلها , قاله الأخفش , وأنشد:
(سَقَتْني على لوْحٍ من الماءِ شَرْبةً ... سقاها به الله الرهامَ الغواديا.)
يعني باللوح شدة العطش: ويحتمل خامساً: أنها تلوح للبشر بهولها حتى تكون أشد على من سبق إليها , وأسرّ لمن سلم منها. وفي البشر وجهان: أحدهما: أنهم الإنس من أهل النار , قالهالأخفش والأكثرون. الثاني: أنه جمع بشرة , وهي جلدة الإنسان الظاهرة , قاله مجاهد وقتادة.

(6/143)


{عليها تسعةَ عَشَرَ} هؤلاء خزنة جهنم وهم الزبانية , وعددهم هذا الذي ذكره الله تعالى , وروى عامر عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم , فأهوى بأصابع كفيه مرتين , فأمسك الإبهام في الثانية , وأخبر الله عنهم بهذا العدد , وكان الاقتصار عليه دون غيره من الأعداد إخباراً عمن وكل بها وهو هذا العدد , وموافقة لما نزل به التوراة والإنجيل من قبل. وقد يلوح لي في الاقتصار على هذا العدد معنى خفي يجوز أن يكون مراداً , وهو أن تسعة عشر عدد يجمع أكثر القليل من العدد وأقل الكثير , لأن العدد آحاد وعشرات ومئون وألوف , والآحاد أقل الأعداد , وأكثر الآحاد تسعة , وما سوى الآحاد كثير وأقل الكثير عشرة , فصارت التسعة عشر عدداً يجمع من الأعداد أكثر قليلها , وأقل كثيرها , فلذلك ما وقع عليها الاقتصار والله أعلم للنزول عن أقل القليل وأكثر الكثير فلم يبق إلا ما وصفت. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن يكون الله حفظ جهنم حتى ضبطت وحفظت بمثل ما ضبطت به الأرض وحفظت به من الجبال حتى رست وثبتت , وجبال الأرض التي أرسيت بها واستقرت عليها تسعة عشر جبلاً , وإن شعب فروعها تحفظ جهنم بمثل هذا العدد , لأنها قرار لعُصاة الأرض من الإنس والجن , فحفظت مستقرهم في النار بمثل العدد الذي حفظ مستقرهم في الأرض , وحد الجبل ما أحاطت به أرض تتشعب فيها عروقه ظاهره ولا باطنه , وقد عد قوم جبال الأرض فإذا هي مائة وتسعون جبلاً , واعتبروا انقطاع عروقها رواسي وأوتاداً , فهذان وجهان يحتملهما الاستنباط , والله أعلم بصواب ما استأثر بعلمه. وذكر من يتعاطى العلوم العقلية وجهاً ثالثاً: أن الله تعالى حفظ نظام خلقه ودبر ما قضاه في عباده بتسعة عشر جعلها المدبرات أمراً وهي سبعة كواكب واثنا عشر

(6/144)


برجاً , فصار هذا العدد أصلاً في المحفوظات العامة , فلذلك حفظ جهنم , وهذا مدفوع بالشرع وإن راق ظاهره. ثم نعود إلى تفسير الآية , روى قتادة أن الله تعالى لما قال: (عليها تسعة عشر) قال أبو جهل: يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم أن يأخذوا واحداً منهم وأنتم أكثر منهم. قال السدي: وقال أبو الأشد بن الجمحي: لا يهولنكم التسعة عشر أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة , وبمنكبي الأيسر التسعة ثم تمرون إلى الجنة , يقولها مستهزئاً.

(6/145)


وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

{وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} {وما جَعَلْنَا أصحابَ النارِ إلا ملائكةً وما جعلْنا عدَّتهم إلا فِتْنةً للذين كَفَروا} وروى ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم نعت خزنة جهنم فقال: كأن أعينهم البرق , وكأن

(6/145)


أفواههم الصياصي , يجرون شعورهم , لأحدهم مثل قوة الثقلين , يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار , ويرمي الجبل عليهم. {ليَسْتَيْقِنَ الذين أُوتوا الكتابَ} فيه وجهان: أحدهما: ليستيقنوا عدد الخزنة لموافقة التوراة والإنجيل , قاله مجاهد. الثاني: ليستيقنوا أن محمداً نبي لما جاء به من موافقة عدة الخزنة. {ويَزْدادَ الذين آمَنوا إيماناً} بذلك , قاله جريج. {وما هي إلا ذِكْرى للبَشَرِ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وما نار جهنم إلا ذكرى للبشر , قاله قتادة. الثاني: وما هذه النار في الدنيا إلا تذكرة لنار الآخرة , حكاه ابن عيسى. الثالث: وما هذه السورة إلا تذكرة للناس , قاله ابن شجرة. {كلا والقَمرِ} الواو في (والقمر) واو القسم , أقسم الله تعالى به , ثم أقسم بما بعده فقال: {والليلِ إذا أَدْبَرَ} فيه وجهان: أحدهما: إذ ولّى , قاله ابن عباس. الثاني: إذ أقبل عند إدبار النهار قاله أبو عبيدة , وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن إذا دبر , وهي قراءة ابن مسعود وأُبي بن كعب. واختلف في أدبر ودبر على قولين: - أحدهما: أنهما لغتان ومعناهما واحد , قاله الأخفش. - الثاني: أن معناهما مختلفان , وفيه وجهان: أحدهما: أنه دبر إذا خلقته خلفك , وأدبر إذا ولى أمامك , قاله أبو عبيدة. الثاني: أنه دبر إذا جاء بعد غيره وعلى دبر , وأدبر إذا ولى مدبراً , قاله ابن بحر. {والصُّبْحِ إذا أَسْفَرَ} يعني أضاء وهذا قسم ثالث. {إنها لإحْدَى الكُبَرِ} فيها ثلاثة تأويلات: أحدها: أي أن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم لإحدى الكبر , أي الكبيرة من الكبائر، قاله

(6/146)


ابن عباس. الثاني: أي أن هذه النار لإحدى الكبر , أي لإحدى الدواهي. الثالث: أن هذه الآية لإحدى الكبر , حكاه ابن عيسى. ويحتمل رابعاً: أن قيام الساعة لإحدى الكبر , والكُبَرُ هي العظائم والعقوبات والشدائد , قال الراجز:
(يا ابن المُغَلّى نزلتْ إحدى الكُبَرْ ... داهية الدهرِ وصَمّاءُ الغِيَرْ.)
{نذيراً للبشر} فيه وجهان: أحدهما: أن محمداً صلى الله عليه وسلم نذير للبشر حين قاله له (قم فأنذر) قاله ابن زيد. الثاني: أن النار نذير للبشر , قال الحسن: والله ما أنذر الخلائق قط بشيء أدهى منها. ويحتمل ثالثاً: أن القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد. {لمن شاءَ منكم أن يتقدّم أو يتأَخّرَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتقدم في طاعة الله , أو يتأخر عن معصية الله , وهذا قول ابن جريج. الثاني: أن يتقدم في الخير أو يتأخر في الشر , قاله يحيى بن سلام. الثالث: أن يتقدم إلى النار أو يتأخر عن الجنة , قاله السدي. ويحتمل رابعاً: لمن شاء منكم أن يستكثر أو يقصر , وهذا وعيد وإن خرج مخرج الخبر.

(6/147)


كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

{كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة كلا بل لا يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره

(6/147)


وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة} {كلُّ نفْسٍ بما كَسَبَتْ رَهينةٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ان كل نفس مرتهنة محتسبة بعملها لتحاسب عليه , إلا أصحاب اليمين , وهم أطفال المسلمين فإنه لا حساب عليهم لأنه لا ذنوب لهم , قاله عليٌّ رضي الله عنه. الثاني: كل نفس من أهل النار مرتهنة في النار إلا أصحاب اليمين وهم المسلمون , فإنهم لا يرتهنون , وهم إلى الجنة يسارعون , قاله الضحاك. الثالث: كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين وهم أهل الجنة , فإنهم لا يحاسبون , قاله ابن جريج. {وكنّا نَخُوض مع الخائضينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نكذب مع المكذبين , قاله السدي. الثاني: كلما غوى غاو غوينا معه , قاله قتادة. الثالث: قولهم محمد كاهن , محمد ساحر , محمد شاعر , قاله ابن زيد. ويحتمل رابعاً , وكنا أتباعاً ولم نكن مبتوعين. {وكنّا نًكذّب بيوم الدِّين} يعني يوم الجزاء وهو يوم القيامة. {حتى أتانا اليقين} فيه وجهان: أحدهما: الموت , قاله السدي. الثاني: البعث يوم القيامة. {فما لهم عن التَذْكِرَةِ مُعْرِضين} قال قتادة: عن القرآن. ويحتمل ثالثاً: عن الاعتبار بعقولهم. {كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرةٌ} قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء , يعني مذعورة وقرأ الباقون بكسرها , يعني هاربة , وأنشد الفراء:
(أمْسِكْ حمارَك إنه مُستنفِرٌ ... في إثْر أحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ.)
{فَرَّتْ من قَسْورةٍ} فيه ستة تأويلات:

(6/148)


أحدها: أن القسورة الرماة , قاله ابن عباس. الثاني: أنه القناص أي الصياد , ومنه قول علي:
(يا ناس إني مثل قسورةٍ ... وإنهم لعداة طالما نفروا.)
الثالث: أنه الأسد , قاله أبو هريرة , روى يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه الأسد بلسان الحبشة , قال الفرزدق:
(إلى هاديات صعاب الرؤوس ... فساروا للقسور الأصيد.)
الرابع: أنهم عصب من الرجال وجماعة , رواه أبو حمزة عن ابن عباس. الخامس: أنه أصوات الناس , رواه عطاء عن ابن عباس. السادس: أنه النبيل , قاله قتادة. {بل يريد كلُّ امرىءٍ منهم أنْ يُؤْتى صحُفاً مُنَشّرةً} يعني كتباً منشورة وفيه أربعة أوجه: أحدها: أن يؤتى كتاباً من الله أن يؤمن بمحمد , قاله قتادة. الثاني: أن يؤتى براءة من النار أنه لا يقذف بها , قاله أبو صالح. الثالث: أن يؤتى كتاباً من الله بما أحل له وحرم عليه , قاله مقاتل. الرابع: أن كفار قريش قالوا إن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد ذنباً وجده مكتوباً في رقعة , فما بالنا لا نرى ذلك فنزلت الآية , قاله الفراء. {هو أهل التقْوَى وأهل المغْفِرةِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو أهل أن تتقى محارمه , وأهل أن يغفر الذنوب , قاله قتادة. الثاني: هو أهل أن يتقى أن يجعل معه إله غيره , وأهل لمن اتقاه أن يغفر له , وهذا معنى قول رواه أنس مرفوعاً. الثالث: هو أهل أن يتقى عذابه وأهل أن يعمل بما يؤدي إلى مغفرته. ويحتمل رابعاً: أهل الانتقام والإنعام.

(6/149)