تفسير الماوردي
النكت والعيون سورة البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/274)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا
الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ
وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ
(4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ
يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
{لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد
ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه
أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد ألم نجعل له
عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين} قوله تعالى {لا أُقْسِمُ
بهذا البَلَد} ومعناه على أصح الوجوه: أُقْسِم بهذا البلد ,
وفي (البلد) قولان: أحدهما: مكة , قاله ابن عباس. الثاني:
الحرم كله , قاله مجاهد. {وأنتَ حلٌّ بهذا البَلَدِ} فيه ثلاثة
أوجه: أحدها: حل لك ما صنعته في هذا البلد من قتال أو غيره ,
قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: أنت مُحِل في هذا البد غير
مُحْرِم في دخولك عام الفتح , قاله الحسن وعطاء. الثالث: أن
يستحل المشركون فيه حرمتك وحرمة من اتبعك توبيخاً للمشركين.
ويحتمل رابعاً: وأنت حالٌّ أي نازل في هذا البلد , لأنها نزلت
عليه وهو بمكة
(6/274)
لم يفرض عليه الإحرام ولم يؤْذن له في
القتال , وكانت حرمة مكة فيها أعظم , والقسم بها أفخم. {ووالدٍ
وما وَلَدَ} فيه أربعة أوجه. أحدها: آدم وما ولد , قاله مجاهد
وقتادة والحسن والضحاك. الثاني: أن الوالد إبراهيم وما ولد ,
قاله أبو عمران الجوني. الثالث: أن الوالد هو الذي يلد , وما
ولد هو العاقر الذي لا يلد , قاله ابن عباس. الرابع: أن الوالد
العاقر , وما ولد التي تلد , قاله عكرمة. ويحتمل خامساً: أن
الوالد النبي صلى الله عليه وسلم , لتقدم ذكره , وما ولد
أُمتّه , لقوله عليه السلام إنما أنا لكم مثل الوالد أعلّمكم ,
فأقسم به وبأمّته بعد أن أقسم ببلده مبالغة في تشريفه. {لقد
خَلقنا الإنسانَ في كَبَدٍ} إلى هاهنا انتهى القسم وهذا جوابه.
وفي قوله (في كَبَد) سبعة أقاويل: أحدها: في انتصاب في بطن
أُمّه وبعد ولادته , خص الإنسان بذلك تشريفاً , ولم يخلق غيره
من الحيوان منتصباً , قاله ابن عباس وعكرمة.
(6/275)
الثاني: في اعتدال , لما بيّنه بعد من قوله
{ألم نَجْعَلْ له عَيْنَين} الآيات , حكاه ابن شجرة. الثالث:
يعني من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة , يتكبد في الخلق مأخوذ من
تكبد الدم وهو غلظه , ومنه أخذ أسم الكبد لأنه دم قد غلظ , وهو
معنى قول مجاهد. الرابع: في شدة لأنها حملته كرهاً ووضعته
كرهاً , مأخوذ من المكابدة , ومنه قول لبيد:
(يا عين هلاّ بكيْتِ أَرْبَدَ إذ ... قُمْنا وقامَ الخصومُ في
كَبَدِ.)
رواه ابن أبي نجيح. الخامس: لأنه يكابد مصائب الدنيا وشدائد
الآخرة , قاله الحسن. السادس: لأنه خلق آدم في كبد السماء ,
قاله ابن زيد. السابع: لأنه يكابد الشكر على السّراء والصبر
على الضّراء , لأنه لا يخلو من أحدهما , رواه ابن عمر. ويحتمل
ثامناً: يريد به أنه ذو نفور وحميّة , مأخوذ من قولهم لفلان
كبَد , إذا كان شديد النفور والحمية. وفيمن اريد بالإنسان ها
هنا قولان: أحدهما: جميع الناس. الثاني: الكافر يكابد شبهات.
{أيَحْسَب أنْ لَنْ يَقْدِر عليه أحَدٌ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه الله أن يبعثه بعد الموت
, قاله السدي. الثاني: أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد بأخذ
ماله , قاله الحسن. الثالث: أيحسب أن لن يذله أحد , لأن القدرة
عليه ذل له. {يقولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً} فيه وجهان:
(6/276)
أحدهما: يعني كثيراً. الثاني: مجتمعاً بعضه
على بعض , ومنه سمي اللّبْد لاجتماعه وتلبيد بعضه على بعض.
ويحتمل ثالثاً: يعني مالاً قديماً , لاشتقاقه من الأبد , أو
للمبالغة في قدمه من عهد لَبِد , لأن العرب تضرب المثل في
القدم بلبد , وذكر قدمه لطول بقائه وشدة ضَنِّه به. وقيل إن
هذا القائل أبو الشد الجمحي , أنفق مالا كثيراً في عداوة رسول
الله صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيل الله , وقيل بل هو
النضر بن الحارث. وهذا القول يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون
استطالة بما أنفق فيكون طغياناً منه. الثاني: أن يكون أسفاً
عليه , فيكون ندماً منه. {أيحْسَبُ أن لم يَرَهُ أَحَدٌ} فيه
وجهان: أحدهما: أن لم يره الله , قاله مجاهد. الثاني: أن لم
يره أحد من الناس فيما أنفقه , قاله ابن شجرة. ويحتمل وجهاً
ثالثاً: أيحسب أن لم يظهر ما فعله أن لا يؤاخذ به , على وجه
التهديد , كما يقول الإنسان لمن ينكر عليه فعله , قد رأيت ما
صنعت , تهديداً له فيكون الكلام على هذا الوجه وعيداً , وعلى
ما تقدم تكذيباً. {وهَدَيْناه النَّجْدَيْنِ} فيهما أربعة
تأويلات: أحدها: سبيل الخير والشر , قاله علي رضي الله عنه
والحسن. الثاني: سبيل الهدى والضلالة , قاله ابن عباس. الثالث:
سبيل الشقاء والسعادة , قاله مجاهد. الرابع: الثديين ليتغذى
بهما , قاله قتادة والربيع بن خثيم.
(6/277)
قال قطرب: والنجد هو الطريق المرتفع , فأرض
نجد هي المرتفعة , وأرض تهامة هي المنخفضة. ويحتمل على هذا
الاشتقاق خامساً: أنهما الجنة والنار , لارتفاعهما عن الأرض.
(6/278)
فَلَا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ
رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ
(16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ
نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
{فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك
رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا
متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة
أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة
عليهم نار مؤصدة} {فلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ} فيها خمسة
أقاويل: أحدها: أنها طريق النجاة , قاله ابن زيد. الثاني: أنها
جبل في جهنم , قاله ابن عمر. الثالث: أنها نار دون الحشر ,
قاله قتادة. الرابع: أنها الصراط يضرب على جهنم كحد السيف ,
قاله الضحاك , قال الكلبي: صعوداً وهبوطاً. الخامس: أن يحاسب
نفسه وهواه وعدوّه الشيطان , قاله الحسن. قال الحسن: عقبة
والله شديدة. ويحتمل سادساً: اقتحام العقبة خالصة من الغرض.
وفي معنى الكلام وجهان: أحدهما: اقتحام العقبة فك رقبة , قاله
الزجاج. الثاني: معناه فلم يقتحم العقبة إلا مَنْ فكَّ رقبة أو
أطعم , قاله الأخفش. ثم قال: {وما أدْراكَ ما العَقَبَةُ} وهذا
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه اقتحام العقبة. ثم بين
تعالى ما تقتحم به العقبة. فقال: {فَكُّ رَقَبَةٍ} فيه وجهان:
(6/278)
أحدهما: إخلاصها من الأسر. الثاني: عتقها
من الرق , وسمي المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط من
رقبته , وسمي عتقاً فكها لأنه كفك الأسير من الأسر , قال حسان
بن ثابت:
(كم مِن أسيرٍ فككناه بلا ثَمنٍ ... وجَزّ ناصية كُنّأ
مَواليها)
وروى عقبة بن عامر الجهني أن النبي عليه السلام قال: من أعتق
مؤمنة فهي فداؤه من النار. ويحتمل ثالثاً: أنه أرد فك رقبته
وخلاص نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات , لا يمنع الخبر من
هذا التأويل , وهو أشبه الصواب. ثم قال تعالى: {أو إطعامٌ في
يومٍ ذي مَسْغَبَةٍ} أي مجاعة , لقحط أو غلاء. {يتيماً ذا
مَقْرَبةٍ} ويحتمل أن يريد ذا جوار. {أو مِسْكِيناً ذا
مَتْرَبَةٍ} فيه سبعة أوجه: أحدها: أن ذا المتربة هو المطروح
على الطريق لا بيت له , قاله ابن عباس , الثاني: هو الذي لا
يقيه من التراب لباس ولا غيره , قاله مجاهد. الثالث: أنه ذو
العيال , قاله قتادة. الرابع: أنه المديون , قاله عكرمة.
الخامس: أنه ذو زمانة , قاله أبو سنان. السادس: أنه الذي ليس
له أحد , قاله ابن جبير. السابع: أن ذا المتربة: البعيد التربة
, يعني الغريب البعيد عن وطنه , رواه عكرمة عن ابن عباس.
{ثُمَّ كانَ مِنَ الذين آمَنوا وَتَوَاصَوْا بالصَّبْر} فيه
ثلاثة أوجه: أحدها: بالصبر على طاعة الله , قاله الحسن.
الثاني: بالصبر على ما افترض الله عليه , قاله هشام بن حسان.
الثالث: بالصبر على ما أصابهم , قاله سفيان.
(6/279)
ويحتمل رابعاً: بالصبر على الدنيا وعن
شهواتها. {وتَواصَوْا بالمَرْحَمَةِ} أي بالتراحم فيما بينهم ,
فرحموا الناس كلهم ويحتمل ثانياً: وتواصوا بالآخرة لأنها دار
الرحمة , فيتواصوا بترك الدنيا وطلب الآخرة. {أولئك أصحابُ
المَيْمَنَةِ} يعني الجنة , وفي تسميتهم أصحاب الميمنة أربعة
أوجه: أحدها: لأنهم أُخذوا من شق آدم الأيمن , قاله زيد بن
أسلم. الثاني: لأنهم أوتوا كتابهم بأيمانهم , قاله محمد بن
كعب. الثالث: لأنهم ميامين على أنفسهم , قاله يحيى بن سلام.
الرابع: لأنه منزلهم على اليمين , قاله ميمون. {والّذِين
كَفَروا بآياتِنا} فيه وجهان: أحدهما: بالقرآن , قاله ابن
جبير. الثاني: هي جميع دلائل الله وحُججه , قاله ابن كامل.
{هُمْ أصحابُ المشْأَمةٍ} يعني جهنم , وفي تسميتهم بذلك أربعة
أوجه: أحدها: لأنهم أُخذوا من شق آدم الأيسر , قاله زيد بن
أسلم. الثاني: لأنهم أُوتوا كتابهم بشمالهم , قاله محمد بن
كعب. الثالث: لأنهم مشائيم على أنفسهم , قاله يحيى بن سلام.
الرابع: لأن منزلهم عن اليسار , وهو مقتضى قول ميمون. {عليهم
نارٌ مُّؤصَدَةٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: المؤصدة المطبقة ,
قاله ابن عباس وأبو هريرة وقتادة. الثاني: مسدودة , قاله
مجاهد. الثالث: لها حائط لا باب له، قاله الضحاك.
(6/280)
سورة الشمس
مكية عند جميعهم بسم الله الرحمن الرحيم
(6/281)
وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ
إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا
(6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ
خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
{والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار
إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما
طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها
وقد خاب من دساها} مكية عند جميعهم قوله تعالى {والشّمْسِ
وضُحاها} هذان قسمان: قَسَمٌ بالشمس , وقَسَم بضحاها , وفي
ضحاها أربعة أوجه: أحدها: هو إشراقها , قاله مجاهد. الثاني: هو
إنبساطها , قاله اليزيدي. الثالث: حرها , قاله السدي. الرابع:
هذا النهار , قاله قتادة. ويحتمل خامساً: أنه ما ظهر بها من كل
مخلوق , فيكون القسم بها وبالمخلوقات كلها. {والقَمَرِ إذا
تَلاها} ففيه وجهان: أحدهما: إذا ساواها , قاله مجاهد. الثاني:
إذا تبعها , قاله ابن عباس. وفي اتباعه لها ثلاثة أوجه:
(6/281)
أحدها: أول ليلة من الشهر إذا سقطت الشمس
يرى القمر عند سقوطها , قاله قتادة. الثاني: الخامس عشر من
الشهر يطلع القمر مع غروب الشمس , قاله الطبري. الثالث: في
الشهر كله فهو في النصف الأول يتلوها , وتكون أمامه وهو وراءها
, وإذا كان في النصف الأخير كان هو أمامها وهي وراءه , قاله
ابن زيد. ويحتمل رابعاً: أنه خلفها في الليل , فكان له مثل ما
لها في النهار لأن تأثير كل واحد منهما في زمانه , فللشمس
النهار. وللقمر الليل. {والنّهارِ إذا جَلاَها} فيه وجهان:
أحدهما: أضاءها , يعني الشمس لأن ضوءها بالنهار يجلي ظلمة
الليل , قاله مجاهد. الثاني: أظهرها , لأن ظهور الشمس بالنهار
, ومنه قول قيس بن الخطيم:
(تجلب لنا كالشمس بين غمامةٍ ... بدا حاجبٌ منها وضنّتْ بحاجب)
ويحتمل ثالثاً: أن النهار جلّى ما في الأرض من حيوانها حتى ظهر
لاستتاره ليلاً وانتشاره نهاراً. {والليل إذا يَغْشاها} فيه
وجهان: أحدهما: أظلمها , يعني الشمس , وهو مقتضى قول مجاهد.
الثاني: يسترها , ومنه قول الخنساء:
(أرْعَى النجومَ وما كُلِّفْتُ رِعْيَتَها ... وتارةً أتغشى
فَضْلَ أطْماري)
{والسّماءِ وما بَناها} فيه وجهان: أحدهما: والسماء وبنائها ,
قاله قتادة. الثاني: معناه ومن بناها وهو الله تعالى , قاله
مجاهد والحسن. ويحتمل ثالثاً: والسماء وما في بنائها , يعني من
الملائكة والنجوم , فيكون هذا
(6/282)
قسَماً بما في السماءِ , ويكون ما تقدمه
قسَماً بما في الأرض. {والأرْضِ وما طَحَاهَا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: معناه بَسطها , قاله سفيان وأبو صالح. الثاني: معناه
قسَمها , قاله ابن عباس. الثالث: يعني ما خلق فيها , قاله عطية
العوفي , ويكون طحاها بمعنى خلقها , قال الشاعر:
(وما تَدري جذيمةُ مَنْ طحاها ... ولا من ساكنُ العَرْشِ
الرّفيع)
ويحتمل رابعاً: أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز , لأنه
حياة لما خلق عليها. {ونَفْسٍ وما سَوَّاها} في النفس قولان:
أحدهما: آدم , ومن سواها: الله تعالى , قاله الحسن. الثاني:
أنها كل نفس. وفي معنى سواها على هذا القول وجهان: أحدهما: سوى
بينهم في الصحة , وسوى بينهم في العذاب جميعاً , قاله ابن
جريج. الثاني: سوى خلقها وعدل خلقها , قاله مجاهد. ويحتمل
ثالثاً: سوّاها بالعقل الذي فضّلها به على جميع الحيوانات.
{فأَلْهَمَهَا فجُورَها وتَقْواها} في (ألهمها) تأويلان:
أحدهما: أعلمها , قاله مجاهد. الثاني: ألزمها , قاله ابن جبير.
وفي (فجورها وتقواها) ثلاثة تأويلات: أحدها: الشقاء والسعادة ,
قاله مجاهد. الثاني: الشر والخير , قاله ابن عباس. الثالث:
الطاعة والمعصية , قاله الضحاك.
(6/283)
ويحتمل رابعاً: الرهبة والرغبة لأنهما
داعيا الفجور والتقوى. وروى جوبير عن الضحاك عن ابن عباس أن
النبي عليه السلام كان إذا قرأ هذه الآية (فألهمها فجورها
وتقواها) رفع صوته: اللهم آتِ نفسي تقواها , أنت وليها ومولاها
, وأنت خير من زكّاها. {قد أفْلَحَ مَن زكّاها} على هذا وقع
القسم , قال ابن عباس: فيها أحد عشر قسماً. وفيه وجهان:
أحدهما: قد افلح من زكى الله نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال.
الثاني: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال. وفي
زكاها وجهان: أحدهما: طهّرها , وهو قول مجاهد. الثاني: أصلحها
, وهو قول سعيد بن جبير. {وقد خابَ من دَسّاها} فيه وجهان:
أحدهما: على ما قضى وقد خاب من دسّى الله نفسه. الثاني: من
دسّى نفسه. وفي (دسّاها) سبعة تأويلات: أحدها: أغواها وأضلها ,
قاله مجاهد وسعيد بن جبير , لأنه دسّى نفسه في المعاصي , ومنه
قول الشاعر:
(وأنت الذي دَسْيت عَمْراً فأصْبَحَتْ ... حلائلهم فيهم أراملَ
ضُيّعاً)
الثاني: إثمنها وفجورها , قاله قتادة. الثالث: خسرها , قاله
عكرمة.
(6/284)
الرابع: كذبها , قاله ابن عباس. الخامس:
أشقاها , قاله ابن سلام. السادس: جنبها في الخير , وهذا قول
الضحاك. السابع: أخفاها وأخملها بالبخل , حكاه ابن عيسى.
(6/285)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ
لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
{كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال
لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم
ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها} {كذّبَتْ ثمودُ
بِطَغْواها} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بطغيانها ومعصيتها ,
قاله مجاهد وقتادة. الثاني: بأجمعها , قاله محمد بن كعب.
الثالث: بعذابها , قاله ابن عباس. قالوا كان اسم العذاب الذي
جاءها الطّغوى. {فدمْدم عليهم ربهم بذَنْبِهم} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: معناه فغضب عليهم. الثاني: معناه فأطبق عليهم. الثالث:
معناه فدمّر عليهم , وهو مثل دمدم , كلمة بالحبشية نطقت بها
العرب. {فسوّاها} فيه وجهان: أحدهما: فسوى بينهم في الهلاك ,
قاله السدي ويحيى بن سلام. الثاني: فسوّى بهم الأرض , ذكره ابن
شجرة. ويحتمل ثالثاً: فسوّى مَن بعدهم مِنَ الأمم. {ولا يخافُ
عُقباها} فيه وجهان: أحدهما: ولا يخاف الله عقبى ما صنع بهم من
الهلاك , قاله ابن عباس. الثاني: لا يخاف الذي عقرها عقبى ما
صنع من عقرها , قاله الحسن. ويحتمل ثالثاً: ولا يخاف صالح عقبى
عقرها , لأنه قد أنذرهم ونجاه الله تعالى حين أهلكهم.
(6/285)
سورة الليل
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/286)
وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى
(11)
{والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق
الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى
فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره
للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى} قوله تعالى {واللّيلِ إذا
يَغْشَى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إذا أظلم , قاله مجاهد.
الثاني: غطى وستر , قاله ابن جبير. الثالث: إذا غشى الخلائق
فعّمهم وملأهم , قاله قتادة , وهذا قَسَم. {والنّهارِ إذا
تَجَلّى} فيه وجهان: أحدهما: إذا أضاء , قاله مجاهد. الثاني:
إذا ظهر , وهو مقتضى قول ابن جبير. ويحتمل ثالثاً: إذا أظهر ما
فيه من الخلق , وهذا قسم ثانٍ. {وما خَلَقَ الذّكّرّ والأُنثى}
قال الحسن: معناه والذي خلق الذكر والأنثى فيكون هذا قسماً
بنفسه تعالى. ويحتمل ثانياً: وهو أشبه من قول الحسن أن يكون
معناه وما خلق من الذكر
(6/286)
والأنثى , فتكون (من) مضمرة المعنى محذوفة
اللفظ , وميزهم بخلقهم من ذكر وأنثى عن الملائكة الذين لم
يخلقوا من ذكر وأنثى , ويكون القسم بأهل طاعته من أوليائه
وأنبيائه , ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفاً. وفي المراد
بالذكر والأنثى قولان: أحدهما: آدم وحواء , حكاه ابن عيسى.
الثاني: من كل ذكر وأنثى. فإن حمل على قول الحسن فكل ذكر وأنثى
من آدمي وبهيمة , لأن الله خلق جميعهم. وإن حمل على التخريج
الذي ذكرت أنه أظهر , فكل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم
لاختصاصهم بولاية الله وطاعته , وهذا قسم ثالث: {إنّ سَعْيَكم
لشَتّى} أي مختلف , وفيه وجهان: أحدهما: لمختلف الجزاء , فمنكم
مثاب بالجنة , ومنكم معاقب بالنار. الثاني: لمختلف الأفعال ,
منكم مؤمن وكافر , وبر وفاجر , ومطيع وعاص. ويحتمل ثالثاً:
لمختلف الأخلاق , فمنكم راحم وقاس , وحليم وطائش , وجواد وبخيل
, وعلى هذا وقع القسم. وروى ابن مسعود أن هذه الآية نزلت في
أبي بكر رضي الله عنه , وفي أمية وأبّي ابني خلف حين عذّبا
بلالاً على إسلامه , فاشتراه أبو بكر , ووفي ثمنه بردةً وعشر
أوراقٍ , وأعتقه للَّه تعالى , فنزل ذلك فيه. {فأمّا من
أَعْطَى واتّقَى} قال ابن مسعود يعني أبا بكر. وفي قوله (أعطى)
ثلاثة أوجه: أحدها: من بذل ماله , قاله ابن عباس. الثاني: اتقى
محارم الله التي نهى عنها , قال قتادة. الثالث: اتقى البخل ,
قاله مجاهد. {وصَدَّق بالحُسْنَى} فيه سبعة تأويلات: أحدها:
بتوحيد الله , وهو قول لا إله إلا الله , قاله الضحاك.
(6/287)
الثاني: بموعود الله , قاله قتادة. الثالث:
بالجنة , قاله مجاهد. الرابع: بالثواب , قاله خصيف. الخامس:
بالصلاة والزكاة والصوم , قاله زيد بن أسلم. السادس: بما أنعم
الله عليه , قاله عطاء. السابع: بالخلف من عطائه , قاله الحسن
, ومعاني أكثرها متقاربة. {فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرىَ} فيه
تأويلان: أحدهما: للخير , قاله ابن عباس. الثاني: للجنة , قاله
زيد بن أسلم. ويحتمل ثالثاً: فسنيسر له أسباب الخير والصلاح
حتى يسهل عليه فعلها. {وأمّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغنَى} قال ابن
مسعود: يعني بذلك أُمية وأبيّاً ابني خلف. وفي قوله (بخل)
وجهان: أحدهما: بخل بماله الذي لا يبقى , قاله ابن عباس
والحسن. الثاني: بخل بحق الله تعالى , قاله قتادة. (واستغنى)
فيه وجهان: أحدهما: بماله , قاله الحسن. الثاني: عن ربه , قاله
ابن عباس. {وكَذَّبَ بالحُسْنَى} فيه التأويلات السبعة.
{فَسنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى} فيه وجهان: أحدهما: للشر من الله
تعالى , قاله ابن عباس. الثاني: للنار , قاله ابن مسعود.
ويحتمل ثالثاً: فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه
فعلها فعند نزول هاتين الآيتين يروي قتادة عن خليد عن أبي
الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(6/288)
قال: (ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وملكان
يناديان: اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً ,) ثم قرأ
{فأما من أعطى واتقى}. الآية والتي بعدها. {وما يُغْنِي عنه
ماله إذا تَرَدَّى} فيه وجهان: أحدهما: إذا تردّى في النار ,
قاله أبو صالح وزيد بن أسلم. الثاني: إذا مات فتردى في قبره ,
قاله مجاهد وقتادة. ويحتمل ثالثاً: إذا تردى في ضلاله وهوى في
معاصيه.
(6/289)
إِنَّ عَلَيْنَا
لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا
الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ
يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى
(20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
{إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى
فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى
وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة
تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى} {إنّ علينا
لَلْهُدَى} فيه وجهان: أحدهما: أن نبيّن سبل الهدى والضلالة
قاله يحيى بن سلام. الثاني: بيان الحلال والحرام , قاله قتادة.
ويحتمل ثالثاً: علينا ثواب هداه الذي هدينا. {وإنَّ لنا
لَلآخِرةَ والأُولى} فيه وجهان: أحدهما: ثواب الدنيا والآخرة ,
قاله الكلبي والفراء. الثاني: ملك الدنيا وملك الآخرة , قاله
مقاتل. ويحتمل ثالثاً: الله المُجازي في الدنيا والآخرة.
{فأنذَرْتُكم ناراً تَلَظَّى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه
تتغيظ , قاله الكلبي. الثاني: تشتعل , قاله مقاتل. الثالث:
تتوهج , قاله مجاهد , وأنشد لعلّي رضي الله عنه:
(6/289)
(كأن الملح خالطه إذا ما ... تلظّى
كالعقيقة في الظلال)
{لا يَصلاها إلا الأشْقَى} أي الشقّي. {والذي كذّب وتولّى} فيه
وجهان: أحدهما: كذّب بكتاب الله وتولّى عن طاعة الله , قاله
قتادة. الثاني: كذّب الرسولَ وتولّى عن طاعته. {وما لأَحَدٍ
عِنْدَهُ مِنْ نِعْمةٍ تُجْزَى إلا ابتغاءَ وجهِ ربِّه
الأَعْلَى} فيه وجهان: أحدهما: وما لأحد عند الله تعالى من
نعمة يجازيه بها إلا أن يفعلها ابتغاء وجه ربه فيستحق عليها
الجزاء والثواب , قاله قتادة. الثاني: وما لبلال عند أبي بكر
حين اشتراه فأعتقه من الرق وخلّصه من العذاب نعمةٌ سلفت جازاه
عليها بذلك إلا ابتغاء وجه ربه وعتقه , قاله ابن عباس وابن
مسعود {ولَسوفَ يَرْضَى} يحتمل وجهين: أحدهما: يرضى بما أعطيه
لسعته. الثاني: يرضى بما أعطيه لقناعته , لأن من قنع بغير عطاء
كان أطوع لله.
(6/290)
سورة الضحى
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/291)
وَالضُّحَى (1)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا
تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
{والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما
قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك
يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فأما اليتيم فلا
تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث} قوله تعالى
{والضُّحَى} هو قَسَمٌ , وفيه أربعة أوجه: أحدها: أنه أول ساعة
من النهار إذا ترحلت الشمس , قاله السدي. الثاني: أنه صدر
النهار , قاله قتادة. الثالث: هو طلوع الشمس , قاله قطرب.
الرابع: هو ضوء النهار في اليوم كله , مأخوذ من قولهم ضحى فلان
الشمس , إذا ظهر لها، قاله مجاهد، والاشتقاق لعلي بن عيسى.
{والليلِ إذا سَجى} وهو قَسَم ثان , وفيه خمسة تأويلات: أحدها:
إذا أقبل، قاله سعيد بن جبير. الثاني: إذا أظلم، قاله ابن
عباس. الثالث: إذا استوى، قاله مجاهد. الرابع: إذا ذهب، قاله
ابن حنطلة عن ابن عباس.
(6/291)
الخامس: إذا سكن الخلق فيه , قاله عكرمة
وعطاء وابن زيد , مأخوذ من قولهم سجى البحر إذا سكن , وقال
الراجز:
(يا حبذا القمراءُ والليلِ الساج ... وطُرُقٌ مِثْلُ ملاءِ
النسّاج)
{ما ودَّعَكَ ربُّكَ وما قَلَى} اختلف في سبب نزولها , فروى
الأسود بن قيس عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رُمي
بحجر في إصبعه فدميت , فقال:
(هل أنت إلاّ أصبعٌ دَميتِ ... وفي سبيل اللَّه ما لَقِيتِ)
قال فمكث ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم , فقالت له امرأة يا محمد
ما أرى شيطانك إلا قد تركك , فنزل عليه: {ما ودعك ربك وما
قلى}. وروى هشام عن عروة عن أبيه قال: أبطأ جبريل عن النبي صلى
الله عليه وسلم فجزع لذلك جزعاً شديداً , قالت عائشة: فقال
كفار قريش: إنا نرى ربك قد قلاك , مما رأوا من جزعه , فنزلت:
{ما ودعك ربك وما قلى} , وروى ابن جريج أن جبريل لبث عن النبي
صلى الله عليه وسلم اثنا عشرة ليلة فقال المشركون: لقد ودع
محمداً ربُّه , فنزلت: {ما ودعك ربك وما قلى}. وفي (وَدَّعَك)
قراءتان: أحدهما: قراءة الجمهور ودّعك , بالتشديد , ومعناها:
ما انقطع الوحي عنك توديعاً لك. والثانية: بالتخفيف , ومعناها:
ما تركك إعراضاً عنك. (وما قلى) أي ما أبغضك , قال الأخطل:
(6/292)
(المهْديات لمن هوين نسيئةً ...
والمحْسِنات لمن قَلَيْنَ مقيلاً)
{ولَلآخرةُ خير لك مِنَ الأُولى} روى ابن عباس قال: عرض على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده،
فسُرّ بذلك، فأنزل الله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأُولى)
الآية. وفي قوله {وللآخرة خير لك من الأولى} وجهان: أحدهما:
وللآخرة خير لك مما أعجبك في الدنيا , قاله يحيى بن سلام.
الثاني: أن مآلك في مرجعك إلى الله تعالى أعظم مما أعطاك من
كرامة الدنيا , قاله ابن شجرة. {ولسوف يُعْطيك ربُّك
فَتَرْضَى} يحتمل وجهين: أحدهما: يعطيك من النصر في الدنيا ,
وما يرضيك من إظهار الدين. الثاني: يعطيك المنزلة في الآخرة ,
وما يرضيك من الكرامة. {ألمْ يَجِدْك يتيماً فآوَى} واليتيم
بموت الأب , وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أبويه
وهو صغير , فكفله جده عبد المطلب , ثم مات فكفله عمه أبو طالب
, وفيه وجهان: أحدهما: أنه أراد يتم الأبوة بموت من فقده من
أبويه , فعلى هذا في قوله تعالى (فآوى) وجهان: أحدهما: أي جعل
لك مأوى لتربيتك , وقيمّاً يحنو عليك ويكفلك وهو أبو طالب بعد
موت عبد الله وعبد المطلب , قاله مقاتل. الثاني: أي جعل لك
مأوى نفسك , وأغناك عن كفالة أبي طالب , قاله الكلبي. والوجه
الثاني: أنه أراد باليتيم الذي لا مثيل له ولا نظير , من قولهم
درة يتيمة , إذا لم يكن لها مثيل , فعلى هذا في قوله (فآوى)
وجهان: أحدهما: فآواك إلى نفسه واختصك برسالته.
(6/293)
الثاني: أن جعلك مأوى الأيتام بعد أن كنت
يتيماً , وكفيل الأنام بعد أن كنت مكفولاً , تذكيراً بنعمه
عليه , وهو محتمل. {وَوَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدَى} فيه تسعة
تأويلات: أحدها: وجدك لا تعرف الحق فهداك إليه , قاله ابن
عيسى. الثاني: ووجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها , قاله
الطبري. الثالث: ووجد قومك في ضلال فهداك إلى إرشادهم , وهذا
معنى قول السدي. الرابع: ووجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها.
الخامس: ووجدك ناسياً فأذكرك , كما قال تعالى: {أن تَضِل
إحداهما}. السادس: ووجدك طالباً القبلة فهداك إليها , ويكون
الضلال بمعنى الطلب , لأن الضال طالب. السابع: ووجدك متحيراً
في بيان من نزل عليك فهداك إليه , فيكون الضلال بمعنى التحير ,
لأن الضال متحير. الثامن: ووجدك ضائعاً في قومك فهداك إليه ,
ويكون الضلال بمعنى الضياع، لأن الضال ضائع. التاسع: ووجدك
محباً للهداية فهداك إليها , ويكون الضلال بمعنى المحبة، ومنه
قوله تعالى: {قالوا تاللَّه إنك لفي ضلالك القديم} أي في
محبتك، قال الشاعر:
(هذا الضلال أشاب مِنّي المفرقا ... والعارِضَيْن ولم أكنْ
مُتْحقّقاً)
(عَجَباً لَعِزّةَ في اختيارِ قطيعتي ... بعد الضّلالِ
فحبْلُها قد أخْلقاً)
وقرأ الحسن: ووجدَك ضالٌّ فهُدِي , أي وجَدَك الضالُّ فاهتدى
بك , {ووجَدَك عائلاً فأَغْنَى} فيه أربعة أوجه: أحدها: وجدك
ذا عيال فكفاك , قاله الأخفش , ومنه قول جرير:
(الله أنْزَلَ في الكتابِ فَرِيضةً ... لابن السبيل وللفقير
العائلِ)
الثاني: فقيراً فيسَّر لك، قاله الفراء، قال الشاعر:
(6/294)
(وما يَدْري الفقيرُ متى غناه ... وما
يَدْري الغنيُّ متى يَعيِلُ)
أي متى يفتقر. الثالث: أي وجدك فقيراً من الحُجج والبراهين ,
فأغناك بها. الرابع: ووجدك العائلُ الفقير فأغناه الله بك ,
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بصوته الأعلى ثلاث مرات:
(يَمُنّ ربي عليّ وهو أهلُ المَنّ) {فأمّا اليتيمَ فلا
تَقْهَرْ} فيه خمسة أوجه: أحدها: فلا تحقر , قاله مجاهد.
الثاني: فلا تظلم , رواه سفيان. الثالث: فلا تستذل , حكاه ابن
سلام. الرابع: فلا تمنعه حقه الذي في يدك , قاله الفراء.
الخامس: ما قاله قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم , وهي في قراءة
ابن مسعود: فلا تكْهَر , قاله أبو الحجاج: الكهر الزجر. روى
أبو عمران الجوني عن أبي هريره أن رجلاً شكا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم قسوة قلبه , فقال: (إن أردت أن يلين قلبك فامسح
رأس اليتيم وأطْعِم المسكينَ) {وأَمّا السائلَ فلا تَنْهَر} في
رده إن منعته , ورُدّه برحمة ولين , قاله قتادة. الثاني:
السائل عن الدين فلا تنهره بالغلظة والجفوة , وأجِبْهُ برفق
ولين , قاله سفيان. {وأمّا بِنَعْمِة ربِّكَ فحدِّثْ} في هذه
النعمة ثلاثة تأويلات: أحدها: النبوة , قاله ابن شجرة , ويكون
تأويل قوله فحدث أي ادعُ قومك. الثاني: أنه القرآن , قاله
مجاهد , ويكون قوله: فحدث أي فبلّغ أمتك. الثالث: ما أصاب من
خير أو شر , قاله الحسن. (فحدث) فيه على هذا وجهان: أحدهما:
فحدّث به الثقة من إخوانك , قاله الحسن. الثاني: فحدِّث به
نفسك , وندب إلى ذلك ليكون ذِكرها شكراً.
(6/295)
سورة الشرح
مكية بالإجماع بسم الله الرحمن الرحيم
(6/296)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
{ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي
أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا
فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} قوله تعالى {أَلمْ نَشْرَحْ
لك صَدْرَكَ} وهذا تقرير من الله تعالى لرسول صلى الله عليه
وسلم عند انشراح صدره لما حمله من نبوّته. وفي (نشرح) وجهان:
أحدهما: أي أزال همك منك حتى تخلو لما أُمِرت به. الثاني: أي
نفتح لك صدرك ليتسع لما حملته عنه فلا يضيق , ومنه تشريح اللحم
لأنه فتحه لتقديده. وفيما شرح صدره ثلاثة أقاويل: أحدها:
الإسلام , قاله ابن عباس. الثاني: بأن ملىء حكمة وعلماً , قاله
الحسن. الثالث: بما منّ عليه من الصبر والاحتمال , قاله عطاء.
ويحتمل رابعاً: بحفظ القرآن وحقوق النبوّة. {ووَضَعْنا عنك
وِزْرَكَ} فيه ثلاثة أقاويل:
(6/296)
أحدها: وغفرنا لك ذنبك , قاله مجاهد , وقال
قتادة: كان للنبي ذنوب أثقلته فغفرها الله تعالى له. الثاني:
وحططنا عنك ثقلك , قاله السدي. وهي في قراءة ابن مسعود ,
وحللنا عنك وِقرك. الثالث: وحفظناك قبل النبوة في الأربعين من
الأدناس حتى نزل عليك الوحيُ وأنت مطهر من الأدناس. ويحتمل
رابعاً: أي أسقطنا عنك تكليف ما لم تُطِقْه , لأن الأنبياء وإن
حملوا من أثقال النبوة على ما يعجز عنه غيرهم من الأمة فقد
أعطوا من فضل القوة ما يستعينون به على ثقل النبوة , فصار ما
عجز عنه غيرهم ليس بمطاق. {الذي أنقَضَ ظَهْرَكَ} أي أثقل ظهرك
, قاله ابن زيد كما ينقض البعير من الحمل الثقيل حتى يصير
نِقْضاً. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أثقل ظهره بالذنوب حتى
غفرها. الثاني: أثقل ظهره بالرسالة حتى بلّغها. الثالث: أثقل
ظهره بالنعم حتى شكرها. {ورَفَعْنا لك ذِكْرَكَ} فيه ثلاثة
أقاويل: أحدها: ورفعنا لك ذكرك بالنبوة , قاله يحيى بن سلام.
الثاني: ورفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا.
الثالث: أن تذكر معي إذا ذكرت , روى أبو سعيد الخدري عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتاني جبريل عليه السلام فقال:
إن الله تعالى يقول أتدري كيف رفعْت ذكرك؟ فقال: الله أعلم ,
فقال: إذا ذُكرتُ ذُكِرْتَ) قاله قتادة: رفع الله ذكره في
الدنيا والآخرة , فليس خطيب يخطب ولا يتشهد , ولا صاحب صلاة
إلا ينادي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول
الله. {فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً} فيه وجهان:
(6/297)
أحدهما: إن مع اجتهاد الدنيا خير الآخرة.
الثاني: إن مع الشدة رخاء , ومع الصبر سعة , ومع الشقاوة سعادة
, ومع الحزونة سهولة. ويحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن مع العسر
يسراً عند الله ليفعل منهما ما شاء. الثاني: إن مع العسر في
الدنيا يسراً في الآخرة. الثالث: إن مع العسر لمن بُلي يسراً
لمن صبر واحتسب بما يوفق له من القناعة أو بما يعطى من السعة.
قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده لو كان العسر في حَجَرٍ لطلبه
اليسر حتى يدخل عليه (ولن يغلب عسْرٌ يُسْرَين). وإنما كان
العسر في الموضعين واحداً , واليسر اثنين , لدخول الألف واللام
على العسر وحذفها من اليسر. وفي تكرار (مع العسر يسرا) وجهان:
أحدهما: ما ذكرنا من إفراد العسر وتثنية اليسر , ليكون أقوى
للأمل وأبعث على الصبر , قاله ثعلب. الثاني: للإطناب والمبالغة
, كما قالوا في تكرار الجواب فيقال بلى بلى , لا لا , قاله
الفراء وقال الشاعر:
(هممتُ بِنْفسيَ بَعْضَ الهُموم ... فأَوْلَى لنفْسِيَ أولى
لها.)
{فإذا فَرَغتَ فانَصَبْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: فإذا فرغت
من الفرائض فانصب من قيام الليل , قاله ابن مسعود. الثاني:
فإذا فرغت من صلاتك فانصب في دعائك , قاله الضحاك.
(6/298)
الثالث: فإذا فرغت من جهادك عدوك فانصب
لعبادة ربك , قاله الحسن وقتادة. الرابع: فإذا فرغت من أمر
دنياك فانصب في عمل آخرتك , قاله مجاهد. ويحتمل تأويلاً
خامساً: فإذا فرغت من إبلاغ الرسالة فانصب لجهاد عدّوك. {وإلى
ربِّكَ فارْغَبْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فارغب إليه في دعائك
قاله ابن مسعود. الثاني: في معونتك. الثالث: في إخلاص نيتك ,
قاله مجاهد. ويحتمل رابعاً: فارغب إليه في نصرك على أعدائك.
(6/299)
|