تفسير الماوردي النكت والعيون

سورة التين
بسم الله الرحمن الرحيم

(6/300)


وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

{والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين} مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: هي مدنية. قوله تعالى {والتّينِ والزَّيْتُونِ} هما قَسَمان، وفيهما ثمانية تأويلات: أحدها: أنهما التين والزيتون المأكولان، قاله الحسن وعكرمة ومجاهد. الثاني: أن التين دمشق، والزيتون بيت المقدس، قاله كعب الأحبار وابن زيد. الرابع: أن التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس، قاله الحارث وابن زيد. الخامس: الجبل الذي عليه التين، والجبل الذي عليه الزيتون، قاله ابن قتيبة , وهما جبلان بالشام يقال لأحدهما طور زيتا، وللآخر طور تيناً، وهو تأويل الربيع.

(6/300)


وحكى ابن الأنباري أنهما جبلان بين حلوان وهمدان , وهو بعيد. السادس: أن التين مسجد أصحاب الكهف , والزيتون مسجد ايليا , قاله محمد بن كعب. السابع: أن التين مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي , والزيتون مسجد بيت المقدس , قاله ابن عباس. الثامن: أنه أراد بهما نعم الله تعالى على عباده التي منها التين والزيتون , لأن التين طعام , والزيتون إدام. {وطورِ سِينينَ} وهو قَسَم ثالث وفيه قولان: أحدهما: أنه جبل بالشام , قاله قتادة. الثاني: أنه الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام , قاله كعب الأحبار. وفي قوله (سينين) أربعة أوجه: أحدها: أنه الحسن بلغة الحبشة , ونطقت به العرب , قاله الحسن وعكرمة. الثاني: أنه المبارك , قاله قتادة. الثالث: أنه اسم البحر , حكاه ابن شجرة. الرابع: أنه اسم للشجر الذي حوله , قاله عطية. {وهذا البلدِ الأَمينِ} يعني بالبلد مكة وحرمها , وفي الأمين وجهان: أحدهما: الآمن أهله من سبي أو قتل , لأن العرب كانت تكف عنه في الجاهلية أن تسبي فيه أحداً أو تسفك فيه دماً. الثاني: يعني المأمون على ما أودعه الله تعالى فيه من معالم الدين , وهذا قَسَم رابع. {لقد خَلَقْنا الإنسانَ} وفي المراد بالإنسان ها هنا قولان: أحدهما: أنه أراد عموم الناس، وذكر الإنسان على وجه التكثير لأنه وصفه بما يعم لجميع الناس. الثاني: أنه أراد إنساناً بعينه عناه بهذه الصفة، وإن كان صفة الناس.

(6/301)


واختلف فيمن أراده الله تعالى، على خمسة أوجه: أحدها: أنه عنى كلدة بن أسيد، قاله ابن عباس. الثاني: أبا جهل، قاله مقاتل. الخامس: أنه عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي قوله {في أَحْسَنِ تقْويمٍ} أربعة أقاويل: أحدها: في أعدل خلق، قاله ابن عباس. الثاني: في أحسن صورة، قاله أبو العالية. الثالث: في شباب وقوة , قاله عكرمة. الرابع: منتصب القامة , لأن سائر الحيوان مُنْكَبٌّ غير الإنسان , فإنه منتصب , وهو مروي عن ابن عباس. ويحتمل خامساً: أي في أكمل عقل , لأن تقويم الإنسان بعقله , وعلى هذا وقع القَسَم. {ثم ردَدْناهُ أسْفَلَ سافِلينَ} فيه قولان: أحدهما: إلى الهرم بعد الشباب , والضعف بعد القوة , قاله الضحاك والكلبي , ويكون أسفل بمعنى بعد التمام. الثاني: بعد الكفر , قاله مجاهد وأبو العالية , ويكون أسفل السافلين محمولاً على الدرك الأسفل من النار. ويحتمل ثالثاً: إلى ضعف التمييز بعد قوّته. {فلهم أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنونٍ} فيه ستة أوجه: أحدها: غير منقوص , قاله ابن عباس , وقال الشاعر:
(يا عين جودي بدمع غير ممنون ... ... ... ... ... )
الثاني: غير محسوب , قاله مجاهد. الثالث: غير مكدر بالمنّ والأذى , قاله الحسن. الرابع: غير مقطوع , قاله ابن عيسى.

(6/302)


الخامس: أجر بغير عمل , قاله الضحاك. وحكي أن من بلغ الهرم كتب له أجر ما عجز عنه من العمل الصالح. السادس: أن لا يضر كل أحد منهم ما عمله في كبره , قاله ابن مسعود. {فما يُكذِّبُكَ بَعْدُ بالدِّينِ} فيه وجهان: أحدهما: حكم الله تعالى , قاله ابن عباس. الثاني: الجزاء , ومنه قول الشاعر:
(دِنّا تميماً كما كانت أوائلُنا ... دانَتْ أوائلَهم في سالفِ الزَّمَنِ)
{أليْسَ اللهُ بأحْكَمِ الحاكِمينَ} وهذا تقرير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم , وفيه وجهان: أحدهما: بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً , قاله ابن عيسى. الثاني: أحكم الحاكمين قضاء بالحق وعدلاً بين الخلق وفيه مضمر محذوف , وتقديره: فلِمَ ينكرون مع هذه الحال البعث والجزاء. وكان عليّ رضي الله عنه إذا قرأ {أليس الله بأحكم الحاكمين} قال: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين , ونختار ذلك.

(6/303)


سورة العلق
بسم الله الرحمن الرحيم

(6/304)


اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)

{اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} قوله: {اقرأ باسْمِ ربِّك الذي خَلَقَ} روي عن عبيد بن عمير قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أتاه بنمط فغطّه فقال: اقرأ , فقال: والله ما أنا بقارىء , فغطّه ثم قال: اقرأ , فقال: والله ما أنا بقارىء فغطّه غطاً شديداً ثم قال: {اقرأ باسم ربك الذي خَلَقَ} أي استفتح قراءتك باسم ربك الذي خلق وإنما قال الذي خلق لأن قريشاً كانت تعبد آلهة ليس فيهم خالق غيره تعالى , فميّز نفسه بذلك ليزول عنه الالتباس. روت عائشة رضي الله عنها أنها أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعدها (نون والقلم) ثم بعدها (يا أيها المدثر) ثم بعدها (والضحى). {خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ} يريد بالإنسان جنس الناس كلهم , خلقوا من علق بعد النطفة , والعلق جمع علقة , والعلقة قطعة من دم رطب سميت بذلك لأنها تعلق

(6/304)


لرطوبتها بما تمر عليه , فإذا جفت لم تكن علقة , قال الشاعر:
(تركْناه يخرُّ على يديْه ... يَمُجُّ عليهما عَلَقَ الوتين)
ويحتمل مراده بذلك وجهين: أحدهما: أن يبين قدر نعمته على الإنسان بأن خلقه من علقة مهيئة حتى صار بشراً سوياً وعاقلاً متميزاً. الثاني: أنه كما نقل الإنسان من حال إلى حال حتى استكمل , كذلك نقلك من الجهالة إلى النبوة حتى تستكمل محلها. {اقْرَأ وربُّكَ الأكْرَمُ} أي الكريم. ويحتمل ثانياً: اقرأ بأن ربك هو الأكرم , لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمه دل بها على نعمة كرمه. قال إبراهيم بن عيسى اليشكري: من كرمه أن يرزق عبده وهو يعبد غيره. {الذي علّمَ بالقَلَمِ} أي عَلّم الكاتب أن يكتب بالقلم , وسمي قلماً لأنى يقلم أي يقطع , ومنه تقليم الظفر. وروى مجاهد عن ابن عمر قال: خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده ثم قال لسائر الخلق: كن , فكان , القلم والعرش وجنة عدن وآدم. وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه أراد آدم عليه السلام , لأنه أول من كتب , قاله كعب الأحبار. الثاني: إدريس وهو أول من كتب , قاله الضحاك. الثالث: أنه أراد كل من كتب بالقلم لأنه ما علم إلا بتعليم الله له , وجمع بذلك بين نعمته تعالى عليه في خلقه وبين نعمته تعالى عليه في تعليمه استكمالاً للنعمة عليه. {علَّمَ الإنسانَ مالم يَعْلَمْ} فيه وجهان: أحدهما: الخط بالقلم , قاله قتادة وابن زيد. الثاني: علمه كل صنعه علمها فتعلم , قاله ابن شجرة. ويحتمل ثالثاً: علمه من حاله في ابتداء خلقه ما يستدل به على خلقه وأن ينقله من بعد على إرادته.

(6/305)


كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

{كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب} {كلا إنّ الإنسانَ لَيطْغَى} في (كلا) ها هنا وجهان: أحدهما: أنه ردّ وتكذيب , قاله الفراء. الثاني: أنه بمعنى إلا , وكذلك {كلا سوف يعلمون} , قاله أبو حاتم السجستاني. وفي قوله (ليطغى) أربعة أوجه: الثاني: ليبطر , قاله الكلبي. الثالث: ليرتفع من منزلة إلى منزلة , قاله السدي. الرابع: ليتجاوزه قدره , ومنه قوله تعالى {إنّا لما طَغَى الماءُ} قاله ابن شجرة. {أَن رآه اسْتَغْنَى} أي عن ربه , قاله ابن عباس. ويحتمل ثانياً: استغنى بماله وثروته , وقال الكلبي: نزلت في أبي جهل. {إنّ إلى ربِّك الرُّجْعَى} فيه وجهان: أحدهما: المنتهى , قاله الضحاك. الثاني: المرجع في القيامة. ويحتمل ثالثاً: يرجعه الله إلى النقصان بعد الكمال , وإلى الموت بعد الحياة. {أَرَأَيْتَ الذي يَنْهَى عَبْداً إذا صَلَّى} نزلت في أبي جهل , روى أبو هريرة أن أبا جهل قال: واللات والعزّى لئن رأيت محمداً يصلّي بين أظهركم لأطأن رقبته ولأعفرن وجهه في التراب , ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته , فما فجأه منه

(6/306)


إلا وهو ينكص , أي يرجع على عقبيه , فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار وهواء وأجنحة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً). وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ لكل أمة فرعون , وفرعون هذه الأمة أبو جهل). وكانت الصلاة التي قصد فيها أبو جهل رسول الله صلاة الظهر. وحكى جعفر بن محمد أن أول صلاة جماعة جمعت في الإسلام , يوشك أن تكون التي أنكرها أبو جهل , صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عليّ رضي الله عنه فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر فقال: صل جناح ابن عمك , وانصرف مسروراً يقول:
(إنَّ عليّاً وجعفرا ثقتي ... عند مُلِمِّ الزمان والكُرَبِ)
(والله لا أخذل النبيّ ولا ... يخذله من كان ذا حَسَبِ)
(لا تخذلا وانصرا ابن عمكما ... أخي لأمي من بنيهم وأبي)
فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. {أرأيْتَ إن كان على الهُدَى أو أمَرَ بالتّقْوَى} فيه قولان: أحدهما: يعني أبا جهل , ويكون فيه إضمار , وتقديره: ألم يكن خيراً له. الثاني: هو النبي صلى الله عليه وسلم كان على الهدى في نفسه , وأمر بالتقوى في طاعة ربه. وفي قوله (أرأيْتَ) احتمال الوجهين: أحدهما: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: خطاب عام له ولأمته , والمراد به على الوجهين هدايته , ويكون في الكلام محذوف , وتقديره: هكذا كان يفعل به. {أرأَيْتَ إن كَذَّبَ وَتَوَلّى} يعني أبا جهل , وفيه وجهان: أحدهما: كذب بالله وتولى عن طاعته. الثاني: كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان. ويحتمل ثالثاً: كذب بالرسول وتولى عن القبول.

(6/307)


{ألم يَعْلَمْ بأنَّ الله يَرَى} يعني أبا جهل , وفيه وجهان: أحدهما: ألم تعلم يا محمد أن الله يرى أبا جهل؟ الثاني: ألم تعلم يا أبا جهل أن الله يراك؟ وفيه وجهان: أحدهما: يرى عمله ويسمع قوله. الثاني: يراك في صلاتك حين نهاك أبو جهل عنها. ويحتمل ثالثاً: يرى ما همّ به أبو جهل فلا يمكنه من رسوله. {كلا لئِن لم يَنْتَهِ لنسفعاً بالنّاصِيةِ} يعني أبا جهل , وفيه وجهان: أحدهما: يعني لنأخذن بناصيته , قاله ابن عباس , وهو عند العرب أبلغ في الاستذلال والهوان , ومنه قول الخنساء:
(جززنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنّون أنْ لن تُجَزَّا)
الثاني: معناه تسويد الوجوه وتشويه الخلقة بالسفعة السوداء , مأخوذ من قولهم قد سفعته النار أو الشمس إذا غيرت وجهه إلى حالة تشويه , وقال الشاعر:
(أثافيَّ سُفْعاً مُعَرَّس مِرَجلٍ ... ونُؤْياً كجِذم الحوضِ لم يَتَثَلّمِ)
والناصية شعر مقدم الرأس , وقد يعبّر بها عن جملة الإنسان , كما يقال هذه ناصية مباركة إشارة إلى جميع الإنسان. ثم قال: {ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ} يعني ناصية أبي جهل كاذبة في قولها , خاطئة في فعلها. {فلْيَدْعُ نادِيَةُ} يعني أبا جهل , والنادي مجلس أهل الندى والجود ومعنى (فليدع نادية) أي فليدع أهل ناديه من عشيرة أو نصير. {سَنَدْعُ الزّبانِيةَ} والزبانية هم الملائكة من خزنة جهنم , وهم أعظم الملائكة خلقاً وأشدهم بطشاً , والعرب تطلق هذا الإسم على من اشتد بطشه، قال الشاعر:

(6/308)


(مَطاعيمُ في القُصْوى مَطاعينُ في الوَغى ... زبانيةٌ غُلْبٌ عِظَامٌ حُلومها)
{كلا لا تُطِعْهُ} قال أبو هريرة: كلا لا تطع أبا جهل في أمره. ويحتمل نهيه عن طاعته وجهين: أحدهما: لا تقبل قوله إن دارك ولا رأيه إن قاربك. الثاني: لا تجبه عن قوله , ولا تقابله على فعله , ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم لا تطع فينا مسافراً) أي لا تجب دعاءه لأن المسافر يدعو بانقطاع المطر فلو أجيبت دعوته لهلك الناس. {واسْجُدْ واقْتَرِبْ} فيه وجهان: أحدهما: اسجد أنت يا محمد مصلياً , واقترب أنت يا أبا جهل من النار , قاله زيد بن أسلم. الثاني: اسجد أنت يا محمد في صلاتك لتقرب من ربك , فإن أقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى إذا سجد له. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: أنزل في أبي جهل أربع وثمانون آية , وأنزل في الوليد بن المغيرة مائة وأربع آيات , وأنزل في النضر بن الحارث اثنتان وثلاثون آية. وإذا كانت هذه أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الأكثرين فقد روي في ترتيب السور بمكة والمدينة أحاديث , أوفاها ما رواه آدم ابن أبي أناس عن أبي شيبة شعيب بن زريق عن عطاء الخراساني قال: بلغنا أن هذا ما نزل من القرآن بمكة والمدينة الأول فالأول , فكان أول ما نزل فيما بلغنا: (اقرأ باسم ربك) ثم (ن والقلم، المزمل، المدثر، تبّت , إذا الشمس كورت , سبّح اسم ربك، الليل، الفجر، الضحى، ألم نشرح، العصر، العاديات، الكوثر، ألهاكم، أرأيت، الكافرون، الفيل، الفلق، الإخلاص، النجم، عبس، القدر، والشمس، البروج، التين، لإيلاف،

(6/309)


القارعة، القيامة، الهُمزة، المرسلات، ق، البلد، الطارق، القمر، ص، الأعراف، قل أوحى، يس، الفرقان، الملائكة، مريم، طه، الواقعة، الشعراء، النمل، القصص، بنو إسرائيل، يونس، هود، يوسف، الحجر، الأنعام، الصافات، لقمان، سبأ، الزمر، المؤمن، حم السجدة، عسق، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف، الذاريات، الغاشية، الكهف، النحل، نوح، إبراهيم، الأنبياء، قد أفلح، السجدة، الطور، الملك، الحاقة، سأل سائل، النبأ، النازعات، الانفطار، الانشقاق، الروم، العنكبوت، المطففين. فهذه خمس وثمانون سورة نزلت بمكة. وكان فيما نزل بالمدينة البقرة، ثم الأنفال، آل عمران، الأحزاب، الممتحنة، النساء، الزلزلة، الحديد، سورة محمد، الرعد، الرحمن، هل أتى، الطلاق، لم يكن، الحشر، النصر، النور، الحج، المنافقون، المجادلة، الحجرات، التحريم، الجمعة، الصف، الفتح، المائدة، براءة. فهذه سبع وعشرون سورة نزلت بالمدينة. ولم تكن الفاتحة والله أعلم ضمن ما ذكره , وقد اختلف الناس في نزول السور اختلافاً كثيراً، لكن وجدت هذا الحديث أوفى وأشفى فذكرته.

(6/310)


سورة القدر
مكية في قول الأكثرين، ومدنية في قول الضحاك، وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. بسم الله الرحمن الرحيم

(6/311)


إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

{إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر} قوله تعالى {إنا أنزلناه في ليلة القدر} فيه وجهان: أحدهما: يعني جبريل , أنزله الله في ليلة القدر بما نزل به من الوحي. الثاني: يعني القرآن؛ وفيه قولان: أحدهما: ما روى ابن عباس قال: نزل القرآن في رمضان وفي ليلة القدر في ليلة مباركة جملة واحدة من عند الله تعالى في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا , فنجمته السفرة على جبريل في عشرين ليلة , ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة , وكان ينزل على مواقع النجوم أرسالاً في الشهور والأيام.

(6/311)


القول الثاني: أن الله تعالى ابتدأ بإنزاله في ليلة القدر , قاله الشعبي. واختلف في ليلة القدر مع اتفاقهم أنها في العشر الأواخر من رمضان , وأنها في وتر العشر أوجد , إلا ابن عمر فإنه زعم أنها في الشهر كله. فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنها في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين لحديث أبي سعيد الخدري , وذهب أبيّ بن كعب وابن عباس إلى أنها في ليلة سبع وعشرين. واختلف في الدليل , فاستدل أبيّ بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من علامتها أن تصبح الشمس لا شعاع لها ,) قال: وقد رأيت ذلك في صبيحة سبع وعشرين , واستدل ابن عباس بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سورة القدر ثلاثون كلمة فهي في قوله (سلام) و (هي) الكلمة السابعة والعشرون , فدل أنها فيها. وقال آخرون: هي في ليلة أربع وعشرين للخبر المروي في تنزيل الصحف , وقال آخرون: إن الله تعالى ينقلها في كل عام من ليلة إلى أخرى ليكون الناس في جميع العشر مجتهدين , ولرؤيتها متوقعين. وفي تسميتها ليلة القدر أربعة أوجه: أحدها: لأن الله تعالى قدر فيها إنزال القرآن. الثاني: لأن الله تعالى يقدر فيها أمور السنة , أي يقضيها , وهو معنى قول مجاهد. الثالث: لعظم قدرها وجلالة خطرها , من قولهم رجل له قدر , ذكره ابن عيسى. الرابع: لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً. {وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ} تنبيهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على فضلها , وحثّاً على العمل فياه , قال الشعبي: وليلتها كيومها , ويومها كليلتها.

(6/312)


قال الفراء: كل ما في القرآن من قوله تعالى: (وما أدراك) فقد أدراه , وما كان من قوله (وما يدريك) فلم يدره. قال الضحاك: لا يقدر الله في ليلة القدر إلا السعادة والنعم , ويقدر في غيرها البلايا والنقم , وقال عكرمة: كان ابن عباس يسمي ليلة القدر ليلة التعظيم , وليلة النصف من شعبان ليلة البراءة , وليلتي العيدين ليلة الجائزة. {ليلةُ القدْرِ خيرٌ من أَلْفِ شَهْرٍ} فيه ستة أقاويل: أحدها: ليلة القدر خير من عمر ألف شهر , قاله الربيع. الثاني: أن العمل في ليلة القدر خير من العمل في غيرها ألف شهر , قاله مجاهد. الثالث: أن ليلة القدر خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر , قاله قتادة. الرابع: أنه كان رجل في بني إسرائيل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد العدوّ حتى يمسي , ففعل ذلك ألف شهر , فأخبر الله تعالى أن قيام ليلة القدر خير من عمل ذلك الرجل ألف شهر , رواه ابن أبي نجيح ومجاهد. الخامس: أن ملك سليمان كان خمسمائة شهر , وملك ذي القرنين كان خمسمائة شهر , فصار ملكهما ألف شهر , فجعل العمل في ليلة القدر خيراً من زمان ملكهما. {تَنَزَّلُ الملائكةُ والرُّوحُ فيها} قال أبو هريرة: الملائكة في ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى. وفي (الروح) ها هنا أربعة أقاويل: أحدها: جبريل عليه السلام , قاله سعيد بن جبير. الثاني: حفظة الملائكة , قاله ابن أبي نجيح. الثالث: أنهم أشرف الملائكة وأقربهم من الله , قاله مقاتل. الرابع: أنهم جند من الله من غير الملائكة , رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً.

(6/313)


ويحتمل إن لم يثبت فيه نص قولاً خامساً: أن الروح والرحمة تنزل بها الملائكة على أهلها , دليله قوله تعالى: {ينزّل الملائكة بالرُّوح من أمْره على من يشَاءُ من عباده} أي بالرحمة. {بإذْن ربِّهم} يعني بأمر ربهم. {مِن كل أمْرٍ} يعني يُقضى في تلك الليلة من رزق وأجل إلى مثلها من العام القابل. وقرأ ابن عباس: من كل امرىء , فتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة فيسلمون على كل امرىء مسلم. {سلامٌ هي حتى مطلع الفَجْر} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن ليلة القدر هي ليلة سالمة من كل شر، لا يحدث فيها حدث ولا يرسل فيها شيطان، قاله مجاهد. الثاني: أن ليلة القدر هي سلام وخير وبركة، قاله قتادة. الثالث: أن الملائكة تسلم على المؤمنين في ليلة القدر إلى مطلع الفجر، قاله الكلبي.

(6/314)


سورة البينة
مكية في قول يحيى بن سلام، وعند الجمهور مدنية وهو الصواب. بسم الله الرحمن الرحيم

(6/315)


لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} قوله تعالى {لم يَكُنِ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكينَ مُنفَكِّينَ} معناه لم يكن الذين كفروا من اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب , ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب , وغيرهم الذين ليس لهم كتاب. . (منفكين) فيه أربعة تأويلات: أحدها: لم يكونوا منتهين عن الشرك {حتى تأتيهم البَيِّنَةُ} حتى يتبين لهم الحق. وهذا قول ثان: لم يزالوا مقيمين على الشرك والريبة حتى تأتيهم البينة , يعنى الرسل , قاله الربيع. الثالث: لم يفترقوا ولم يختلفوا أن الله سيبعث إليهم رسولاً حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وتفرقوا , فمنهم من آمن بربه , ومنهم من كفر , قاله ابن عيسى. الرابع: لم يكونوا ليتركوا منفكين من حجج الله تعالى , حتى تأتيهم البينة التي تقوم بها عليهم الحجة , قال امرؤ القيس:
(إذا قُلْتُ أَنْفَكَّ مِن حُبّها ... أبى عالقُ الحُبِّ إلا لُزوما)

(6/315)


وفي (البيّنة) ها هنا ثلاثة أوجه: أحدها: القرآن، قاله قتادة. الثاني: الرسول الذي بانت فيه دلائل النبوة. الثالث: بيان الحق وظهور الحجج. وفي قراءة أبيّ بن كعب: ما كان الذي كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين , وفي قراءة ابن مسعود: لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين. {رسولٌ مِن الله} يعني محمداً. {يَتْلُواْ صُحُفاً مُطَهّرَةً} يعني القرآن. ويحتمل ثانياً: يتعقب بنبوته نزول الصحف المطهرة على الأنبياء قبله. وفي {مطهرة} وجهان: أحدهما: من الشرك , قاله عكرمة. الثاني: مطهرة الحكم بحسن الذكر والثناء , قاله قتادة. ويحتمل ثالثاً: لنزولها من عند الله. {فيها كُتُبٌ قَيِّمةٌ} فيه وجهان: أحدهما: يعني كتب الله المستقيمة التي جاء القرآن بذكرها , وثبت فيه صدقها , حكاه ابن عيسى. الثاني: يعني فروض الله العادلة , قاله السدي. {وما تَفَرَّقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} يعني اليهود والنصارى. {إلاّ مِن بَعْدِ ما جاءتْهم البْيِّنَةُ} فيه قولان: احدهما: القرآن , قاله أبو العالية. الثاني: محمد صلى الله عليه وسلم , قاله ابن شجرة. ويحتمل ثالثاً: البينة ما في كتبهم من صحة نبوته. {وما أُمِروا إلاّ ليَعْبُدوا الله مُخْلِصينَ له الدِّينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مُقِرِّين له بالعبادة. الثاني: ناوين بقلوبهم وجه الله تعالى في عبادتهم. الثالث: إذا قال لا إله إلا الله أن يقول على أثرها (الحمد لله)، قاله ابن جرير.

(6/316)


ويحتمل رابعاً: إلا ليخلصوا دينهم في الإقرار بنبوته. {حُنفاءَ} فيه ستة أوجه: أحدها: متبعين. الثاني: مستقيمين , قاله محمد بن كعب. الثالث: مخلصين , قاله خصيف. الرابع: مسلمين , قاله الضحاك , وقال الشاعر:
(أخليفة الرحمنِ إنا مَعْشرٌ ... حُنفاءُ نسجُدُ بُكرةً وأصيلاً)
الخامس: يعني حجّاجاً , قاله ابن عباس؛ وقال عطية العوفي: إذا اجتمع الحنيف والمسلم كان معنى الحنيف الحاج وإذا انفرد الحنيف كان معناه المسلم , وقال سعيد بن جبير: لا تسمي العرب الحنيف إلا لمن حج واختتن. السادس: أنهم المؤمنون بالرسل كلهم , قاله أبو قلابة. {ويُقيموا الصّلاةَ ويُؤْتُوا الزّكاةَ وذلكَ دينُ القَيِّمَةِ} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه وذلك دين الأمة المستقيمة. الثاني: وذلك دين القضاء القيم , قاله ابن عباس. الثالث: وذلك الحساب المبين , قاله مقاتل. ويحتمل رابعاً: وذلك دين من قام لله بحقه. {إِنَّ صلى الله عليه وسلم
1649 - ; لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ صلى الله عليه وسلم
1649 - ; لْكِتَابِ وَصلى الله عليه وسلم
1649 - ; لْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَ صلى الله عليه وسلم
1648 - ; ئِكَ هُمْ شَرُّ صلى الله عليه وسلم
1649 - ; لْبَرِيَّةِ إِنَّ صلى الله عليه وسلم
1649 - ; لَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ صلى الله عليه وسلم
1649 - ; لصَّالِحَاتِ أُوْلَ صلى الله عليه وسلم
1648 - ; ئِكَ هُمْ خَيْرُ صلى الله عليه وسلم
1649 - ; لْبَرِيَّةِ جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا صلى الله عليه وسلم
1649 - ; لأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ صلى الله عليه وسلم
1649 - ; للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}

(6/317)


سورة الزلزلة
مدنية في قول ابن عباس وقتادة وجابر. بسم الله الرحمن الرحيم

(6/318)


إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

{إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} قوله تعالى {إذا زُلزِلت الأرض زِلزالها} أي حركت الأرض حركتها , والزلزلة شدة الحركة , فيكون من زل يزل. وفي قوله {زِلزالها} وجهان: أحدهما: لأنها غاية زلازلها المتوقعة. الثاني: لأنها عامة في جميع الأرض , بخلاف الزلازل المعهودة في بعض الأرض. وهذا الخطاب لمن لا يؤمن بالبعث وعيد وتهديد , ولمن يؤمن به إنذار وتحذير , واختلف في هذه الزلزلة على قولين: أحدهما: أنها في الدنيا من أشراط الساعة , وهو قول الأكثرين.

(6/318)


الثاني: أنها الزلزلة يوم القيامة , قاله خارجة بن زيد وطائفة. {وأَخْرَجَتِ الأرضُ أَثْقَالَها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الثاني: ما عليها من جميع الأثقال , وهذا قول عكرمة. ويحتمل قول الفريقين. ويحتمل رابعاً: أخرجت أسرارها التي استودعتها , قال أبو عبيدة: إذا كان الثقل في بطن الأرض فهو ثقل لها , وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها. {وقالَ الإنسانُ ما لَها} يحتمل وجهين: أحدهما: ما لها زلزلت زلزالها. الثاني: ما لها أخرجت أثقالها. وفي المراد بهذا (الإنسان) قولان: أحدهما: أن المراد جميع الناس من مؤمن وكافر , وهذا قول من جعله في الدنيا من أشراط الساعة لأنهم لا يعلمون جميعأً أنها من أشراط الساعة في ابتداء أمرها حتى يتحققوا عمومها , فلذلك سأل بعضهم بعضاً عنها. الثاني: أنهم الكفار خاصة , وهذا قول من جعلها زلزلة القيامة , لأن المؤمن يعترف بها فهو لا يسأل عنها , والكافر جاحد لها فلذلك يسأل عنها. {يومئذٍ تُحَدِّثُ أخْبارَها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تحدث أخبارها بأعمال العباد على ظهرها , قاله أبو هريرة ورواه مرفوعاً , وهذا قول من زعم أنها زلزلة القيامة. الثالث: تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها , قال ابن مسعود: فتخبر بأن أمر الدنيا قد انقضى , وأن أمر الآخرة قد أتى , فيكون ذلك منها جواباً عند سؤالهم , وعيداً للكافر وإنذاراً للمؤمن. وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل:

(6/319)


أحدها: أن الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً فتتكلم بذلك. الثاني: أن الله تعالى يُحدث الكلام فيها. الثالث: يكون الكلام منها بياناً يقوم مقام الكلام. {بأنَّ ربّك أوْحَى لَهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أوحى إليها بأن ألهمها فأطاعت , كما قال العجاج:
(أَوْحى لها القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ ... وشَدَّها بالراسياتِ الثُّبّتِ)
الثاني: يعني قال لها , قاله السدي. الثالث: أمرها , قاله مجاهد. وفيما أوحى لها وجهان: أحدهما: أوحى لها بأن تحدث أخبارها. الثاني: بأن تخرج أثقالها. ويحتمل ثالثاً: أوحى لها بأن تزلزل زلزالها. {يومئذٍ يَصْدُرُ الناسُ أَشْتاتاً} فيه قولان: أحدهما: أنه يوم القيامة يصدرون من بين يدي الله تعالى فرقاً فرقاً مختلفين في قدرهم وأعمالهم , فبعضهم إلى الجنة وهم أصحاب الحسنات , وبعضهم إلى النار وهم أصحاب السيئات , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنهم في الدنيا عند غلبة الأهواء يصدرون فرقاً , فبعضهم مؤمن , وبعضهم كافر , وبعضهم محسن , وبعضهم مسيء , وبعضهم محق , وبعضهم مبطل. {ليُرَوْا أَعْمالَهم} يعني ثواب أعمالهم يوم القيامة. ويحتمل ثالثاً: أنهم عند النشور يصدرون أشتاتاً من القبور على اختلافهم في الأمم والمعتقد بحسب ما كانوا عليه في الدنيا من اتفاق أو اختلاف ليروا أعمالهم في

(6/320)


موقف العرض من خير أو شر فيجازون عليها بثواب أو عقاب , والشتات: التفرق والاختلاف , قال لبيد:
(إنْ كُنْتِ تهْوينَ الفِراقَ ففارقي ... لا خيرَ في أمْر الشتات)
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} في هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أن معنى يَرَه أي يعرفْهُ. الثاني: أنه يرى صحيفة عمله. الثالث: أن يرى خير عمله ويلقاه. وفي ذلك قولان: أحدهما: يلقى ذلك في الآخرة , مؤمناً كان أو كافراً , لأن الآخرة هي دار الجزاء. الثاني: أنه إن كان مؤمناً رأى جزاء سيئاته في الدنيا , وجزاء حسناته في الآخرة حتى يصير إليها وليس عليه سيئة. وإن كان كافراً رأى جزاء حسناته في الدنيا , وجزاء سيئاته في الآخرة حتى يصير إليها وليس له حسنة , قاله طاووس. ويحتمل ثالثاً: أنه جزاء ما يستحقه من ثواب وعقاب عند المعاينة في الدنيا ليوفاه في الآخرة. ويحتمل المراد بهذه الآية وجهين: أحدهما: إعلامهم أنه لا يخفى عليه صغير ولا كبير. الثاني: إعلامهم أنه يجازي بكل قليل وكثير. وحكى مقاتل بن سليمان أنها نزلت في ناس بالمدينة كانوا لا يتورعون من الذنب الصغير من نظرة أو غمزة أو غيبة أو لمسة , ويقولون إنما وعد الله على الكبائر , وفي ناس يستقلون الكسرة والجوزة والثمرة ولا يعطونها , ويقولون إنما نجزى على ما تعطيه ونحن نحبه , فنزل هذا فيهم. وروي أن صعصعة بن ناجية جد الفرزدق أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئه , فقرأ

(6/321)


عليه هذه الآية , فقال صعصعة: حسبي حسبي إن عملت مثقال ذرة خيراً رأيته , وإن عملت مثقال ذرة شراً رأيته. وروى أبو أيوب الأنصاري: قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه يتغذيان إذا نزلت هذه السورة، فقاما وأمسكا.

(6/322)