تفسير الماوردي
النكت والعيون سورة الفيل
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/338)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا
أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
{ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل
كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل
فجعلهم كعصف مأكول} قوله تعالى: {ألمْ تَرَ كيفَ فَعَلَ ربُّكَ
بأصْحابِ الفِيل} فيه وجهان: أحدهما: ألم تخبر فتعلم كيف فعل
ربك بأصحاب الفيل. الثاني: ألم ترَ آثار ما فعل ربك بأصحاب
الفيل , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير أصحاب الفيل.
واختلف في مولده عليه السلام من عام الفيل على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن مولده بعد أربعين سنة من عام الفيل , قاله مقاتل:
الثاني: بعد ثلاث وعشرين سنة منه , قاله الكلبي وعبيد بن عمير.
الثالث: أنه عام الفيل , روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
وروي عنه أنه قال: ولدت يوم الفيل. واختلف في سبب الفيل على
قولين:
(6/338)
أحدهما: ماحكاه ابن عباس: أن أبرهة بن
الصباح بنى بيعة بيضاء يقال لها القليس , وكتب إلى النجاشي إني
لست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب , فسمع ذلك رجل من كنانة
, فخرج إلى القليس ودخلها ليلاً فأحدث فيها , فبلغ ذلك أبرهة
فحلف بالله ليسيرن إلى الكعبة فيهدمها , فجمع الأحابيش وجنّد
الأجناد , وسار , ودليله أبو رغال , حتى نزل بالمغمّس , وجعل
على مقدمته الأسود بن مقصود حتى سبى سرح مكة وفيه مائتا بعير
لعبد المطلب قد قلّد بعضها , وفيه يقول عكرمة بن عامر بن هاشم
بن عبد مناف:
(لأهمّ أخْزِ الأسود بن مقصودِ ... الآخذ الهجمة فيها
التقليدْ)
(بين حراء , وثبير فالبيد ... يحبسها وفي أُولات التطريدْ)
(فضمّها إلى طماطم سُودْ ... قد أجْمعوا ألا يكون معبودْ.)
(ويهْدموا البيت الحرام المعمود ... والمروتين والمشاعر
السودْ)
89 (اخْفره يا ربِّ وأنت محمودْ} 9
وتوجه عبد المطلب وكان وسيماً جسيماً لا تأخذه العين إلى أبرهة
, وسأله في إبله التي أخذت , فقال أبرهة: لقد كنت أعجبتني حين
رأيتك وقد زهدت الآن فيك , قال: ولم؟ قال: جئت لأهدم بيتاً هو
دينك ودين آبائك فلم تكلمني فيه , وكلمتني في مائتي بعير لك ,
فقال عبد المطلب: الإبل أنا ربها , وللبيت رب سيمنعه , فقال
أبرهة: ما كان ليمنعه مني , فقال عبد المطلب: لقد طلبته تبّع
وسيف بن ذي يزن وكسرى فلم يقدروا عليه , وأنت ذاك فرد عليه
إبله , وخرج عبد المطلب وعاد إلى مكة , فأخبر قريشاً بالتحرز
في الجبال , وأتى البيت وأخذ بحلقة الباب وجعل يقول:
(لاهمّ إنّ العْبدَ يَمْ ... نَعُ رحْلَهُ فامْنَع حَلالَكْ.)
(لا يَغْلبنّ صَليبُهم ... ومحالُهم غَدْواً مِحالكْ.)
(إنْ كنتَ تاركَهم وقب ... لَتَنا فأمْرٌ ما بدا لَكَ.)
المحال: القوة.
(6/339)
الثاني: ما حكاه الكلبي ومقاتل يزيد أحدهما
وينقص أن فتية من قريش خرجوا إلى أرض الحبشة تجاراً , فنزلوا
على ساحل البحر على بيعة النصارى في حقف من أحقافها , قال
الكلبي تسمى البيعة ما سرجيان , وقال مقاتل: تسمى الهيكل ,
فأوقدوا ناراً لطعامهم وتركوها وارتحلوا فهبت ريح عاصف فاضطرمت
البيعة ناراً فاحترقت , فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره ,
فاستشاط غضباً , وأتاه أبرهة بن الصبّاح وحجر بن شراحبيل وأبو
يكسوم الكِنْديون , وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة , وكان
النجاشي هو الملك , وأبرهة صاحب الجيش , وأبو يكسوم نديم الملك
وقيل وزيره , وحجر بن شراحبيل من قواده , وقال مجاهد: أبو
يكسوم هو أبرهة بن الصبّاح , فساروا بالجيش ومعهم الفيل , قال
الأكثرون: هو فيل واحد , وقال الضحاك: كانت ثمانية فيلة ,
ونزلوا بذي المجاز , واستاقوا سرح مكة , وفيها إبل عبد المطلب
, وأتى الراعي نذيراً فصعد الصفا وصاح: واصباحاه! ثم أخبر
الناس بمجيء الجيش والفيل , فخرج عبد المطلب وتوجه إلى أبرهة
وسأله في إبله , فردّها مستهزئاً ليعود لأخذها إذا دخل مكة.
واختلف في النجاشي هل كان معهم أم لا , فقال قوم: كان معهم ,
وقال الآخرون: لم يكن معهم. وتوجه الجيش إلى مكة لإحراق الكعبة
, فلما ولى عبد المطلب بإبله احترزها في جبال مكة , وتوجه إلى
مكة من طريق منى , وكان الفيل إذا بعث إلى الحرم أحجم , وإذا
عدل به عنه أقدم , قال محمد بن إسحاق: كان اسم الفيل محمود ,
وقالت عائشة: رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين مقعدين يستطعمان
أهل مكة. ووقفوا بالمغمّس فقال عبد الله بن مخزوم:
(أنت الجليل ربنا لم تدنس ... أنت حبست الفيل بالمغمّس)
(حبسته في هيئة المكركس ... وما لهم من فرجٍ ومنفسِ.)
المكركس: المطروح المنكوس.
(6/340)
وبصر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية
البحر , فقال عبد المطلب: إن هذه لطير غريبة بأرضنا , ما هي
بنجدية ولا تهامية ولا حجازية , وإنها أشباه اليعاسيب , وكان
في مناقيرها وأرجلها حجارة , فلما أطلت على القوم ألقتها عليهم
حتى هلكوا , قال عطاء بن أبي رباح: جاءت الطير عشية فبانت , ثم
صبحتهم بالغداة فرمتهم , وقال عطية العوفي: سألت عنها أبا سعيد
الخدري: فقال: حمام مكة منها. وأفلت من القوم أبرهة ورجع إلى
اليمن فهلك في الطريق. وقال الواقدي: أبرهة هو جد النجاشي الذي
كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أيقنوا بهلاك
القوم , قال الشاعر:
(أين المفر والإله الطالبْ ... والأَشرمُ المغلوبُ ليس
الغالبْ)
يعني بالأشرم أبرهة , سمي بذلك لأن أرياط ضربه بحربة فشرم أنفة
وجبينه , أي وقع بعضه على بعض. وقال أبو الصلت بن مسعود , وقيل
بل قاله عبد المطلب:
(إنّ آياتِ ربِّنا ناطِقاتٌ ... لا يُماري بهنّ إلا الكَفُور.)
(حَبَسَ الفيلَ بالمغّمس حتى ... مَرَّ يعْوي كأنه مَعْقورُ.)
{ألمْ يَجْعَلْ كَيْدَهم في تَضْليل} لأنهم أرادوا كيد قريش
بالقتل والسبي , وكيد البيت بالتخريب والهدم. يحكى عن عبد
المطلب بعد ما حكيناه عنه أنه أخذ بحلقة الباب وقال:
(يا رب لا نرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا.)
(إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا.)
ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس له سريع , ينظر ما
لقوا فإذا القوم مشدخون , فرجع يركض كاشفاً عن فخده , فلما رأى
ذلك أبوه قال: إن ابني أفرس العرب وما كشف عن فخذه إلا بشيراً
أو نذيراً. فلما دنا من ناديهم بحيث يُسمعهم قالوا: ما وراءك؟
قال: هلكوا جميعاً , فخرج عبد المطلب وأصحابه فأخذوا أموالهم ,
فكانت أموال بني عبد المطلب , وبها كانت رياسة عبد المطلب لأنه
احتمل
(6/341)
ما شاء من صفراء وبيضاء , ثم خرج أهل مكة
بعده فنهبوا، فقال عبد المطلب:
(أنتَ مَنعْتَ الحُبْشَ والأَفْيالا ... وقد رَعَوا بمكةَ
الأَجيالا)
(وقد خَشِينا منهم القتالا ... وكَلَّ أمرٍ لهمن مِعضالا)
89 (وشكراً وحْمداً لك ذا الجلالا.} 9
ويحتمل تضليل كيدهم وجهين: أحدهما: أن كيدهم أضلهم حتى هلكوا.
الثاني: أن هلاكهم أضل كيدهم حتى بطل. {وأرْسَلَ عليهم طَيْراً
أَبابِيلَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها من طير السماء ,
قاله سعيد بن جبير: لم ير قبلها ولا بعدها مثلها ويروي جويبر
عن الضحاك عن ابن عباس , قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: (إنها طير بين السماء والأرض تعشعش وتفرخ). القول
الثاني: أنها العنقاء المغرب التي تضرب بها الأمثال , قاله
عكرمة. الثالث: أنها من طير الأرض , أرسلها الله تعالى من
ناحية البحر , مع كل طائر ثلاثة أحجار , حجران في رجليه , وحجر
في منقاره , قاله الكلبي , وكانت سوداً , خضر المناقير طوال
الأعناق , وقيل: بل كانت أشباه الوطاويط , وقالت عائشة: كن
أشباه الخطاطيف. واختلف في (أبابيل) على خمسة أقاويل: أحدها:
أنها الكثيرة , قاله الحسن وطاوس. الثاني: المتتابعة التي يتبع
بعضها بعضاً , قاله ابن عباس ومجاهد. الثالث: أنها المتفرقة من
ها هنا وها هنا , قاله ابن مسعود والأخفش , ومنه قول الشاعر:
(6/342)
(إن سلولاً عداك الموت عارفة ... لولا سلول
مشينا أبابيلا)
أي متفرقين. الرابع: أن الأبابيل المختلفة الألوان , قاله زيد
بن أسلم. الخامس: أن تكون جمعاً بعد جمع , قاله أبو صالح وعطاء
, ومنه قول الشاعر:
(وأبابيل من خيول عليها ... كأسود الأداء تحت العوالي.)
وقال إسحاق بن عبد الله بن الحارث: الأبابيل مأخوذ من الإبل
المؤبلة , وهي الأقاطيع. واختلف النحويون هل للأبابيل واحد من
جنسه , فذهب أبو عبيدة والفراء وثعلب إلى أنه لا واحد له
كالعباديد والسماطيط , وذهب آخرون إلى أن له واحد , واختلفوا
في واحده , فذهب أبو جعفر الرؤاسي إلى أن واحدة إبّالة مشددة ,
وقال الكسائي: واحدها إبول , وقال ابن كيسان واحدة إبيّل.
{تَرْميهم بحجارةٍ مِن سِجّيلٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن
السجيل كلمة فارسية هي سنك وكل , أولها حجر , وآخرها: طين ,
قال ابن عباس. الثاني: أن السجيل هو الشديد , قاله أبو عبيدة ,
ومنه قول ابن مقبل:
(ورجْلةٍ يضْرِبون البَيْضَ عن عَرَضٍ ... ضَرْباً تواصى به
الأَبطالُ سِجِّيلاً)
الثالث: أن السجيل اسم السماء الدنيا , فنسبت الحجارة إليها
لنزولها منها , قاله ابن زيد. الرابع: أنه اسم بحر من الهواء ,
منه جاءت الحجارة فنسبت إليه , قاله عكرمة وفي مقدار الحجر
قولان: أحدهما: أنه حصى الخذف , قاله مقاتل. الثاني: كان الحجر
فوق العدسة ودون الحمصة , قاله أبو صالح: رأيت في دار أم هانىء
نحو قفيز من الحجارة التي رمي بها أصحاب الفيل مخططة بحمرة
كأنها الجزع , وقال ابن مسعود: ولما رمت الطير بالحجارة بعث
الله ريحها فزادتها شدة , وكانت لا تقع على أحد إلا هلك ولم
يسلم منهم إلا رجل من كندة , فقال:
(فإنكِ لو رأيْتِ ولم تريهِ ... لدى جِنْبِ المغَمِّسِ ما
لَقينا)
(خَشيتُ الله إذ قدْبَثَّ طَيْراً ... وظِلَّ سَحابةٍ مرَّتْ
علينا)
(وباتت كلُّها تدْعو بحقٍّ ... كأنَّ لها على الحُبْشانِ
دَيْنا)
{فجعَلَهم كعَصْفٍ مأكولٍ} فيه خمسة أقاويل:
(6/343)
أحدها: أن العصف ورق الزَّرع , والمأكول
الذي قد أكله الدود , قاله ابن عباس. الثاني: أن العصف المأكول
هو الطعام , وهذا قول حسين بن ثابت. الثالث: أنه قشر الحنطة
إذا أكل ما فيه , رواه عطاء بن السائب. الرابع: أنه ورق البقل
إذا أكلته البهائم فراثته , قاله ابن زيد. الخامس: أن العصف
التين والمأكول القصيل للدواب , قاله سعيد بن جبير والحسن ,
واختلف فيما فعله الله بهم , فقال قوم: كان ذلك معجزة لنبيّ
كان في ذلك الزمان , وقيل إنه كان خالد بن سنان. وقال آخرون:
بل كان تمهيداً وتوطيداً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه
ولد في عامه وقيل في يومه.
(6/344)
سورة قريش
مكية في قول الأكثرين، ومدينة في قول الضحاك. بسم الله الرحمن
الرحيم
(6/345)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ
(1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي
أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
{لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف
فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} وفي
قوله تعالى {لإيلافِ قُريْشٍ} الإيلاف مأخوذ من أَلِف يأْلَف ,
وهي العادة المألوفة , ومنه قولهم ائتلف القوم. وفي قوله
{لإيلاف قريش} أربعة أقاويل: أحدها: نعمتي على قريش , لأن نعمة
الله عليهم أن ألفه لهم , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني:
لإيلاف الله لهم لأنه آلفهم إيلافاً , قاله الخليل بن أحمد.
الثالث: لإيلاف قريش حَرَمي وقيامهم ببيتي , وهذا معنى قول
الحسن. الرابع: لإيلاف ما ذكره من رحلة الشتاء والصيف في
معايشهم , قاله مكحول. وفي اللام التي في (لإيلاف قريش) قولان:
أحدهما: أنه صلة يرجع إلى السورة المتقدمة من قولهم {ألم تر
كيف} إلى أن قال: {فجعلهم كعصْف مأكولٍ} لإيلاف قريش , فصار
معناه أن ما فعله بأصحاب الفيل لأجل إيلاف قريش , قاله ثعلب ,
وكان عمر وأبيّ بن كعب لا يفصلان بين
(6/345)
السورتين ويقرآنهما كالسورة الواحدة ,
ويريان أنهما سورة واحدة , أي: ألم تر لإيلاف قريش. الثاني: أن
اللام صلة ترجع إلى ما بعدها من قوله {فَلْيَعْبُدوا رب هذا
البَيْتِ} ويكون معناه لنعمتي على قريش فَلْيَعْبُدوا رَبَّ
هذا البيت , قاله أهل البصرة , وقرأ عكرمة , ليألف قريش , وكان
يعيب على من يقرأ (لإيلاف قريش). وقرأ بعض أهل مكة: إلاف قريش
, واستشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى
الله عليه وسلم:
(فلا تَتْركْنهُ ما حَييتَ لمعظمٍ ... وكن رجلاً ذا نَجدةٍ
وعفافِ)
(تَذودُ العِدا عن عُصْبةٍ هاشميةٍ ... ألا فُهُمُ في الناس
خيرُ إلافِ)
وأما قريش تلده فهم بنو النضير بن كنانة , وقيل بنو فهر بن
مالك بن النضر بن كنانة , ومن لم تلده فهر فليس من قريش , وعلى
المشهور أن بني النضر بن كنانة ومن تلده: من قريش , وإن لم
يكونوا من بني فهر , وقد كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم
قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوه مسكناً , قال الشاعر:
(أبونا قصيٌّ كان يُدْعى مجمّعاً ... به جمع اللَه القبائلَ
مِن فهر)
واختلفوا في تسميتهم قريشاً على أربعة أقاويل: أحدها: لتجمعهم
بعد التفرق , والتقريش التجميع , ومنه قول الشاعر:
(إخوةٌ قرَّشوا الذنوب علينا ... في حَديثٍ مِن دَهْرِهم
وقَديمِ)
الثاني: لأنهم كانوا تجاراً يأكلون من مكاسبهم , والتقريش
التكسب. الثالث: أنهم كانوا يفتشون الحاج عن ذي الخلة فيسدون
خلته , والقرش: التفتيش , قال الشاعر:
(أيها الشامتُ المقِّرشُ عَنّا ... عند عَمرو فهل له إبْقاءُ)
الرابع: أن قريشاً اسم دابة في البحر , من أقوى دوابه , سميت
قريشاً لقوتها وأنها تأكل ولا تؤكل , وتعلو ولا تعلى , قاله
ابن عباس واستشهد بقول الشاعر:
(6/346)
(هكذا في العباد حيُّ قريش ... يأكلون
البلادَ أكْلاً كشيشاً)
(ولهم آخرَ الزمان نبيٌّ ... يَكثر القتل فيهمُ والخموشا)
(يملأُ الأرضَ خَيلةً ورجالاً ... يحشُرون المطيَّ حشْراً
كميشاً)
(تأكل الغثَّ والسَمينَ ولا تت ... رُكُ يوماً في جناحين
ريشاً.)
(وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سميت قريش قريشاً.)
(سلّطت بالعلو في لجج البحر ... على سائر البحور جيوشاً.)
{إيلافِهم رِحْلَةَ الشتاءِ والصَّيْفِ} كانت لقريش في كل عام
رحلتان والرحلة السفرة , لما يعانى فيها من الرحيل والنزول ,
رحلة في الصيف ورحلة في الشتاء طلباً للتجارة والكسب. واختلف
في رحلتي الشتاء والصيف على قولين: أحدهما: أن كلتا الرحلتين
إلى فلسطين , لكن رحلة الشتاء في البحر , طلباً للدفء , ورحلة
الصيف على بصرى وأذرعات , طلباً للهواء , قاله عكرمة. الثاني:
أن رحلة الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حامية , ورحلة الصيف إلى
الشام لأنها بلاد باردة , قاله ابن زيد. فإن قيل فما المعنى في
تذكيرهم رحلة الشتاء والصيف؟ ففيه جوابان: أحدهما: أنهم كانوا
في سفرهم آمنين من العرب لأنهم أهل الحرم , فذكرهم ذلك ليعلموا
نعمته عليهم في أمنهم مع خوف غيرهم. الثاني: لأنهم كانوا
يكسبون فيتوسعون ويطعمون ويصلون , كما قال الشاعر فيهم:
(يا أيها الرجلُ المحوِّل رَحْلَه ... هَلاَّ نَزَلْتَ بآلِ
عبدِ مَنافِ.)
(الآخذون العهدَ من آفاقِها ... والراحلون لرحلة الإيلافِ.)
(والرائشون وليس يُوجد رائشٌ ... والقائلون هَلُمَّ
للأَضْيافِ.)
(والخالطون غنيَّهم بفقيرهم ... حتى يصير فقيرُهم كالكافي.)
(عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجافِ.)
فذكرهم الله تعالى هذه النعمة.
(6/347)
ولابن عباس في رحلة الشتاء والصيف قول
ثالث: أنهم كانوا يشتون بمكة لدفئها , ويصيفون بالطائف لهوائها
, كما قال الشاعر:
(تَشْتي بِمكة نعمةً ... ومَصيفُها بالطائِف)
وهذه من جلائل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد
الشتاء وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف، فذكرهم الله تعالى هذه
النعمة. {فَلْيَعْبدوا ربَّ هذا البَيْتِ} أمرهم الله تعالى
بعبادته، وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان: أحدهما:
لأنه كانت لهم أوثان، فميز نفسه عنها. الثاني: أنهم بالبيت
شرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك تذكيراً بنعمته. وفي معنى
هذا الأمر والضمير في دخول الفاء على قوله (فليعبدوا) أربعة
أوجه: أحدها: فليعبدوا رب هذا البيت بأنه أنعم عليهم برحلة
الشتاء والصيف. الثاني: فليألفوا عبادة رب هذا البيت كما ألفوا
رحلة الشتاء والصيف. الثالث: فليعبدوا رب هذا البيت لأنه
أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. الرابع: فليتركوا رحلة الشتاء
والصيف بعبادة رب هذا البيت , فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من
خوف ليتوفروا بالمقام على نصرة رسوله والذب عن دينه. {الذي
أطْعَمَهم من جُوعٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أطعمهم من جوع
بما أعطاهم من الأموال وساق إليهم من الأرزاق , قاله ابن عيسى.
الثاني: أطعمهم من جوع بما استجاب فيهم دعوة إبراهيم عليه
السلام. حين قال: {وارْزُقهم من الثمرات} قاله ابن عباس.
الثالث: أن جوعاً أصابهم في الجاهلية , فألقى الله في قلوب
الحبشة أن يحملوا إليهم طعاماً , فحملوه، فخافت قريش منهم
وظنوا أنهم قدموا لحربهم , فخرجوا إليهم متحرزين , فإذا هم قد
جلبوا إليهم الطعام وأعانوهم بالأقوات , فهو معنى قوله {الذي
أطعمهم من جوع}.
(6/348)
{وآمَنَهُم مِنْ خوْفٍ} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: آمنهم من خوف العرب أن يسبوهم أو يقاتلوهم تعظيماً
لحرمة الحرم، لما سبقت لهم من دعوة إبراهيم عليه السلام حيث
قال: {ربِّ اجْعَلْ هذا بلداً آمِناً} , قاله ابن عباس.
الثاني: من خوف الحبشة مع الفيل , قاله الأعمش. الثالث: آمنهم
من خوف الجذام , قاله الضحاك والسدي وسفيان الثوري. الرابع:
يعني آمن قريشاً ألا تكون الخلافة إلا فيهم , قاله علّي رضي
الله عنه.
(6/349)
سورة الماعون
مكية في قول عطاء وجابر، ومدينة في قول ابن عباس وقتادة. بسم
الله الرحمن الرحيم
(6/350)
أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ
(2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ
(5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ
(7)
{أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع
اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فويل للمصلين الذين هم عن
صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون} قوله تعالى
{أرأيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدِّينِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها:
يعني بالحساب , قاله عكرمة ومجاهد. الثاني: بحكم الله تعالى ,
قاله ابن عباس. الثالث: بالجزاء الثواب والعقاب. واختلف فيمن
نزل هذا فيه على خمسة أوجه: أحدها: أنها نزلت في العاص بن وائل
السهمي , قاله الكلبي ومقاتل. الثاني: في الوليد بن المغيرة ,
قاله السدي. الثالث: في أبي جهل. الرابع: في عمرو بن عائذ ,
قاله الضحاك. الخامس: في أبي سفيان وقد نحر جزوراً , فأتاه
يتيم , فسأله منها , فقرعه بعصا , قاله ابن جريج. {فذلك الذي
يَدُعُّ اليتيمَ} فيه ثلاثة أوجه:
(6/350)
أحدها: بمعنى يحقر البيت , قاله مجاهد.
الثاني: يظلم اليتيم , قاله السدي. الثالث: يدفع اليتيم دفعاً
شديداً , ومنه قوله تعالى: {يوم يُدَعُّونَ إلى نارِ جهنَّمَ
دعّاً} أي يُدفعون إليها دفعاً. وفي دفعه اليتيم وجهان:
أحدهما: يدفعه عن حقه ويمنعه من ماله ظلماً له وطمعاً فيه ,
قاله الضحاك. الثاني: يدفعه إبعاداً له وزجراً , وقد قرىء
(يَدَعُ اليَتيم) مخففة , وتأويله على هذه القراءة يترك اليتيم
فلا يراعيه اطراحاً له وإعراضاً عنه. ويحتمل على هذه القراءة
تأويلاً ثالثاً: يدع اليتيم لاستخدامه وامتهانه قهراً
واستطالة. {ولا يَحُضُّ على طعامِ المِسْكِينِ} أي لا يفعله
ولا يأمر به , وليس الذم عاماً حتى يتناول من تركه عجزاً ,
ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم يقولون {أنطعم من لو
يشاءُ الله أطْعَمَهُ} فنزلت هذه الآية فيهم , ويكون معنى
الكلام لا يفعلونه إن قدروا , ولا يحثون عليه إن عجزوا.
{فَويْلٌ للمُصَلَّينَ} الآية , وفي إطلاق هذا الذم إضمار ,
وفيه وجهان: أحدهما: أنه المنافق , إن صلاها لوقتها لم يرج
ثوابها , وإن صلاها لغير وقتها لم يخش عقابها , قاله الحسن.
الثاني: أن إضماره ظاهر متصل به , وهو قوله تعالى: {الذين هم}
الآية. وإتمام الآية في قوله: {فويل للمصلين} ما بعدها من
قوله: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} إضماراً فيها وإن كان نطقاً
ظاهراً. وليس السهو الذي يطرأ عليه في صلاته ولا يقدر على دفعه
عن نفسه هو الذي ذم به , لأنه عفو. وفي تأويل ما استحق به هذا
الذم ستة أوجه: أحدها: أن معنى ساهون أي لاهون , قاله مجاهد.
(6/351)
الثاني: غافلون , قاله قتادة. الثالث: أن
لا يصلّيها سراً ويصليها علانية رياء للمؤمنين , قاله الحسن.
الرابع: هو الذي يلتفت يمنة ويسرة وهواناً بصلاته , قاله أبو
العالية. الخامس: هو ألا يقرأ ولا يذكر الله , قاله قطرب.
السادس: هو ما روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن (الذين هم عن صلاتهم ساهون)
فقال: (هم الذين يؤخرون الصلاة عن مواقيتها). {الذين هم
يُراءونَ} فيه وجهان: أحدهما: المنافقون الذين يراءون بصلاتهم
, يصلّونها مع الناس إذا حضروا , ولا يُصلّونها إذا غابوا ,
قاله علي وابن عباس. الثاني: أنه عامّ في ذم كل من راءى لعمله
ولم يقصد به إخلاصاً لوجه ربه. روي عن النبي صلى الله عيله
وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: مَن عَمِل عملا لغيري فقد
أشرك بي وأنا أغنى الشركاء عن الشرك). {ويَمْنَعُونَ الماعونَ}
فيه ثمانية تأويلات: أحدها: أن الماعون الزكاة , قاله علي وابن
عمر والحسن وعكرمة وقتادة , قال الراعي:
(6/352)
(أخليفة الرحمن إنا مَعْشَرٌ ... حُنَفاءُ
نسجُد بكرةً وأصيلاً.)
(عَرَبٌ نرى لله في أمْوالِنا ... حقَّ الزكاة مُنزّلا
تنزيلاً)
(قَوْمٌ على الإسلام لمّا يَمْنعوا ... ماعونَهم ويضَيِّعوا
التهْليلا)
الثاني: أنه المعروف , قاله محمد بن كعب. الثالث: أنه الطاعة ,
قاله ابن عباس. الرابع: أنه المال بلسان قريش , قاله سعيد بن
المسيب والزهري. الخامس: أنه الماء إذا احتيج إليه ومنه الماء
المعين وهو الجاري , قال الأعشى:
(بأجود منا بماعونه ... إذا ما سماؤهم لم تغِم)
السادس: أنه ما يتعاوره الناس بينهم , مثل الدلو والقدر والفاس
, قاله ابن عباس , وقد روي مأثوراً. السابع: أنه منع الحق ,
قاله عبد الله بن عمر. الثامن: أنه المستغل من منافع الأموال ,
مأخوذ من المعنى وهو القليل , قاله الطبري وابن عيسى. ويحتمل
تاسعاً: أنه المعونة بما خف فعله وقل ثقله.
(6/353)
سورة الكوثر
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/354)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ
شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
{إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن
شانئك هو الأبتر} قوله تعالى {إنّا أَعْطَيْناك الكَوْثَر} فيه
تسعة تأويلات: أحدها: أن الكوثر النبوة , قاله عكرمة. الثاني:
القرآن , قاله الحسن. الثالث: الإسلام , حكاه المغيرة. الرابع:
أنه نهر في الجنة , رواه ابن عمر وأنس مرفوعاً. الخامس: أنه
حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي يكثر الناس عليه يوم
القيامة قاله عطاء.
(6/354)
السادس: أنه الخير الكثير , قاله ابن عباس.
السابع: أنه كثرة أمته , قاله أبو بكر بن عياش. الثامن: أنه
الإيثار , قاله ابن كيسان. التاسع: أنه رفعة الذكر , وهو فوعل
من الكثرة. {فَصَلِّ لِربِّكَ وانحَرْ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: الصلاة المكتوبة , وهي صلاة الصبح بمزدلفة , قاله
مجاهد. الثاني: صلاة العيد , قاله عطاء. الثالث: معناه اشكر
ربك , قاله عكرمة. {وانحَرْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: وانحر
هديك أو أضحيتك , قاله ابن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة. الثاني:
وانحر أي وسل , قاله الضحاك. الثالث: معناه أن يضع اليمين على
الشمال عند نحره في الصلاة , قاله عليّ وابن عباس رضي الله
عنهما. الرابع: أن يرفع يديه في التكبير , رواه عليّ. الخامس:
أنه أراد واستقبل القبلة في الصلاة بنحرك , قاله أبو الأحوص
ومنه قول الشاعر:
(6/355)
(أبا حَكَمٍ هَلْ أَنْتَ عَمُّ مُجالدٍ ...
وسيدُ أهْلِ الأبْطحِ المتناحرِ)
أي المتقابل. {إنّ شانِئَكَ هو الأبْتَرُ} في شانئك وجهان:
أحدهما: مبغضك , قاله ابن شجرة. الثاني: عدوّك , قاله ابن
عباس. وفي (الأبتر) خمسة تأويلات: أحدها: أنه الحقير الذليل ,
قاله قتادة. الثاني: معناه الفرد الوحيد , قاله عكرمة. الثالث:
أنه الذي لا خير فيه حتى صار مثل الأبتر , وهذا قول مأثور
الرابع: أن قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده , قد بتر
فلان فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه القاسم بمكة
, وابراهيم بالمدينة , قالوا بتر محمد فليس له من يقوم بأمره
من بعده , فنزلت الآية , قاله السدي وابن زيد. الخامس: أن الله
تعالى لما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا قريش
إلى الإيمان , قالوا ابتتر منا محمد , أي خالفنا وانقطع عنا ,
فأخبر الله تعالى رسوله أنهم هم المبترون , قاله عكرمة وشهر بن
حوشب. واختلف في المراد من قريش بقوله {إنّ شانئك هو الأبتر}
على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه أبو لهب، قاله عطاء. الثاني: أبو
حهل , قاله ابن عباس. الثالث: أنه العاص بن وائل , قاله عكرمة
, والله أعلم.
(6/356)
سورة الكافرون
مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن
عباس وقتادة والضحاك. بسم الله الرحمن الرحيم
(6/357)
قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا
أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا
عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
{قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون
ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم
عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين} {قُل يا أيُّها الكافِرونَ}
الآيات , ذكر محمد بن إسحاق أن سبب نزولها أن الوليد بن
المغيرة , والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف
لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد هلم فلتعبد
ما نعبد. ونعبد ما تعبد , ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله , فإن
كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد كنا قد شركناك فيه
وأخذنا بحظنا منه , وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيديك كنت
قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه , فأنزل الله تعالى {قل يا
أيها الكافرون} فصار حرف الأمر في هذه السورة وسورة الإخلاص
والمعوذتين متلوّاً , لأنها نزلت جواباً , عنى بالكافرين قوماً
معينين , لا جميع الكافرين , لأن منهم من آمن , فعبد الله ,
ومنهم من مات أو قتل على كفره , وهم المخاطبون بهذا القول
فمنهم المذكورون. {لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدونَ} يعني من
الأوثان.
(6/357)
{ولا أنتم عابدون ما أَعْبُدُ} يعني الله
تعالى وحده , الآيات. فإن قيل: ما فائدة هذا التكرار؟ قيل: فيه
وجهان: أحدهما: أن قوله في الأول (لا أعبد) و (لا تعبدون) يعني
في الحال , وقوله الثاني: يعني في المستقبل , قاله الأخفش.
الثاني: أن الأول في قوله (لا أعبد) و (لا أنتم) الآية يعني في
المستقبل , والثاني: إخبار عنه وعنهم في الماضي , فلم يكن ذلك
تكراراً لاختلاف المقصود فيهما. فإن قيل: فلم قال (ما
أَعْبُدُ) ولم يقل (من أَعبُدُ)؟ قيل: لأنه مقابل لقوله: {ولا
أنا عابد ما عَبَدْتُم} وهي أصنام وأوثان , ولا يصلح فيها إلا
(ما) دون (من) فحمل الثاني على الأول ليتقابل الكلام ولا
يتنافى. {لكم دِينكم ولي دينِ} فيه وجهان: أحدهما: لكم دينكم
الذي تعتقدونه من الكفر , ولي ديني الذي أعتقده من الإسلام ,
قاله يحيى بن سلام. الثاني: لكم جزاء عملكم , ولي جزاء عملي.
وهذا تهديد منه لهم , ومعناه وكفى بجزاء عملي ثواباً , قاله
ابن عيسى. قال ابن عباس: ليس في القرآن سورة أشد لغيظ إبليس من
هذه السورة , لأنها توحيد وبراءة من الشرك.
(6/358)
|