تفسير مقاتل بن سليمان

سورة الدّخان

(3/809)


سورة الدخان (44) سورة الدّخان مكّيّة وآياتها تسع وخمسون

[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 59]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34)
إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

(3/811)


سورة الدخان «1» سورة الدخان مكية عددها تسع وخمسون آية كوفى «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
نزول القرآن فى ليلة القدر، وآيات التوحيد والشكاية من الكفار، وحديث موسى وبنى إسرائيل وفرعون، والرد على منكري البعث وذل الكفار فى العقوبة وعز المؤمنين فى الجنة، والمنة على الرسول نتيسر القرآن على لسانه فى قوله: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ ... » سورة الدخان: 58.
(2) فى المصحف: (44) سورة الدخان مكية وآياتها 59 نزلت بعد سورة الزخرف وسميت سورة الدخان لقوله فيها: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ» سورة الدخان: 10.

(3/815)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم- 1- وَالْكِتابِ الْمُبِينِ- 2- يعني البين ما فيه إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى السفرة من الملائكة وهم الكتبة، وكان ينزل من اللوح المحفوظ كل ليلة قدر فينزل الله- عز وجل- من القرآن إلى السماء الدنيا، على قدر ما ينزل به جبريل- عليه السلام- في السنة إلى مثلها من العام المقبل حتى نزل القرآن كله فى ليلة القدر «1» ، «فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» «2» : وهي ليلة مباركة، قال، وقال مُقَاتِلُ:
نزل القرآن كله من اللوح المحفوظ إلى السفرة في ليلة واحدة ليلة القدر فقبضه جبريل- صلى الله عليه وسلم- من السفرة في عشرين شهرا، وأداه إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عشرين سنة وسميت ليلة القدر «ليلة مباركة» «3» لما فيها من البركة والخير، ثم قال: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ- 3- يعني بالقرآن فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ- 4- يقول يقضي الله في ليلة القدر كل أمر محكم من الباطل ما يكون في السنة كلها إلى مثلها من العام المقبل من الخير والشر والشدة والرخاء والمصائب، يقول الله- تعالى-: كان أَمْراً مِنْ عِنْدِنا يقول
__________
(1) المعنى فى ليالي القدر.
(2) «فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» ساقطة من أ، ف، ل، ح، م.
(3) «ليلة مباركة» زيادة اقتضاها السياق ليست فى الأصل. [.....]

(3/817)


كان أمرا منا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ- 5- يعني منزلين هذا القرآن أنزلناه رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لمن آمن به إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لقولهم الْعَلِيمُ- 6- به رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ- 7- بتوحيد الرب- تعالى-،: وحد نفسه فقال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ يقول يحيي الموتى ويميت الأحياء، هو رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ- 8- بَلْ هُمْ لكن هم فِي شَكٍّ من هذا القرآن يَلْعَبُونَ- 9- يعني لاهون عنه، قوله: فَارْتَقِبْ وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دعا الله- عز وجل- على كفار قريش فقال:
اللهم أعني عليهم بسبع سنين كسى «1» يوسف، فأصابتهم شدة حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف من شدة الجوع، فكان الرجل يرى بينه وبين السماء الدخان من الجوع،
فذلك قوله: «فَارْتَقِبْ» يقول فانتظر يا محمد يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ- 10- يَغْشَى النَّاسَ يعني أهل مكة هَذَا الجوع عَذابٌ أَلِيمٌ- 11- يعني وجيع. ثم إن أبا سفيان بن حرب، وعتبة ابن ربيعة، والعاص بن وائل، والمطعم بن عدي، وسهيل بن عمرو، وشيبة ابن ربيعة، كلهم من قريش، أتوا النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا محمد، استسق لنا، فقالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ يعني الجوع إِنَّا مُؤْمِنُونَ- 12- يعني إنا مصدقون بتوحيد الرب وبالقرآن أَنَّى لَهُمُ «2» الذِّكْرى
__________
(1) فى أ: كسنين.
(2) فى أ: فسرت الآيات 12، 15، 16، 13، 14 على التوالي. وقد أعدت ترتيبا حسب ورودا فى المصحف.

(3/818)


يقول من أين لهم التذكرة يعني الجوع الذي أصابهم بمكة وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ يعني محمدا- صلى الله عليه وسلم- مُبِينٌ- 13- يعني هو بين أمره، جاءهم بالهدى ثُمَّ تَوَلَّوْا «عَنْهُ» «1» يقول ثم أعرضوا عن محمد- صلى الله عليه وسلم- إلى الضلالة وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ- 14- قال ذلك عقبة بن أبي معيط إن محمدا مجنون، وقالوا إنما يعلمه جبر غلام عامر ابن الحضرمي، وقالوا: لئن لم ينته جبر غلام عامر بن الحضرمي «فأوعدوه» «2» لنشترينه من سيده، ثم لنصلينه حتى ينظر هل ينفعه محمد أو يغني عنه شيئا، «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ» «3» يقول بل هم من القرآن في شك لاهون،
فدعا النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: اللهم اسقنا غيثا مغيثا عاما طبقا مطبقا غدقا ممرعا مريا عاجلا غير ريث نافعا غير ضار، فكشف الله- تعالى- عنهم العذاب،
فذلك قوله: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ يعني الجوع قَلِيلًا إلى يوم بدر إِنَّكُمْ عائِدُونَ- 15- إلى الكفر فعادوا فانتقم الله منهم ببدر فقتلهم، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يعنى العظمى فكانت البطش في المدينة يوم بدر أكثر مما أصابهم من الجوع بمكة، فذلك قوله:
إِنَّا مُنْتَقِمُونَ- 16- بالقتل وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وعجل الله أرواحهم الى النار.
__________
(1) «عنه» : ساقطة من النسخ.
(2) «فأعدوه» : زيادة للتوضيح.
(3) فى أ: كرر تفسير الآية 9 مرتين.

(3/819)


وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ بموسى- صلى الله عليه- حتى ازدروه كما ازدرى أهل مكة النبي- صلى الله عليه وسلم- لأنه ولد فيهم فازدروه فكان النبي- صلى الله عليه وسلم- فتنة لهم، كما كان موسى- صلى الله عليه- فتنة لفرعون وقومه، فقالت قريش: أنت أضعفنا وأقلنا حيلة فهذا حين ازدروه كما ازدروا موسى- عليه السلام- حين قالوا: « ... أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا» [147 ب] «وليدا ... » «1» فكانت فتنة لهم من أجل ذلك ذكر فرعون دون الأمم، نظيرها في المزمل: «إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا ... » «2» ، قوله: «وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ» كما فتنا قريشا بمحمد- صلى الله عليه وسلم-، لأنهما ولدا في قومهما وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ- 17- يعني الخلق كان يتجاوز ويصفح يعني موسى حين سأل ربه أن يكشف عن أهل مصر الجراد والقمل، فقال موسى لفرعون: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ يعني أرسلوا معي بني إسرائيل يقول: وخل سبيلهم فإنهم أحرار ولا تستعبدهم إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله أَمِينٌ- 18- فيما بيني وبين ربكم وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ يعني لا تعظموا على الله أن توحدوه إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ- 19- يعني حجة بينة كقوله: «ألا تعلوا على (الله) » يقول ألا تعظموا على الله «إِنِّي آتيكم بسلطان مبين» يعني حجة بينة وهي اليد والعصا فكذبوه، فقال فرعون في «حم» المؤمن: « ... ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ... » «3» فاستعاذ موسى فقال: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ
__________
(1) سورة الشعراء: 18.
(2) سورة المزمل: 15.
(3) سورة غافر: 26.

(3/820)


يعني فرعون وحده أَنْ تَرْجُمُونِ- 20- يعني أن تقتلون وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ- 21- يقول وإن لم تصدقوني، يعني فرعون وحده، «فاعتزلون» فلا تقتلون، فدعا موسى ربه في يونس فقال: «وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» «1» يعني «نجنى» «2» وبني إسرائيل «وأرسل» «3» العذاب على أهل مصر، «قوله- تعالى-: فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ يعني أهل مصر» «4» قَوْمٌ مُجْرِمُونَ- 22- فلا يؤمنون فاستجاب الله له فأوحى الله- تعالى- إليه: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ- 23- يقول يتبعكم فرعون وقومه وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً وذلك أن بني إسرائيل لما قطعوا البحر قالوا لموسى- صلى الله عليه- فرق لنا البحر كما كان فإنا نخشى أن يقطع فرعون وقومه آثارنا فأراد موسى- عليه السلام- أن يفعل ذلك كان الله- تعالى- أوحى إلى البحر أن يطيع موسى- عليه السلام- فقال الله لموسى: «وَاتْرُكِ البحر رهوا» يعني صفوفا، ويقال ساكنا «إِنَّهُمْ» «5» إن فرعون وقومه جُنْدٌ مُغْرَقُونَ- 24- فأغرقهم الله في نهر مصر وكان عرضه يومئذ فرسخين، فقال الله- تعالى-: كَمْ تَرَكُوا من بعدهم يعني فرعون وقومه مِنْ جَنَّاتٍ يعني بساتين وَعُيُونٍ- 25- يعني الأنهار الجارية وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ- 26- يعنى ومساكن حسان وَنَعْمَةٍ
__________
(1) سورة يونس: 86.
(2) فى أ: «هو» .
(3) فى أ: «وأن يرسل» .
(4) العبارة التي بين القوسين « ... » مكررة مرتين فى الأصل.
(5) فى أ: «فإن» .

(3/821)


من العيش كانُوا فِيها فاكِهِينَ- 27- يعني أرض مصر معجبين كَذلِكَ يقول هكذا فعلنا بهم في الخروج من مصر، ثم قال:
وَأَوْرَثْناها يعني أرض مصر قَوْماً آخَرِينَ- 28- يعني بني إسرائيل فردهم الله إليها بعد الخروج منها، ثم قال: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وذلك أن المؤمن إذا مات بكى عليه معالم سجوده من الأرض، ومصعد عمله من السماء أربعين يوما وليلة، ويبكيان على الأنبياء ثمانين يوما وليلة، ولا يبكيان على الكافر [148 أ] ، فذلك قوله: «فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ» لأنهم لم يصلوا لله في الأرض ولا كانت لهم أعمال صالحة تصعد إلى السماء لكفرهم وَما كانُوا مُنْظَرِينَ- 29- لم يناظروا بعد الآيات التسع حتى عذبوا بالغرق وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ- 30- يعني الهوان وذلك أن بني إسرائيل آمنت بموسى وهارون، فمن ثم قال فرعون: « ... اقْتُلُوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم ... » فلما هم بذلك قطع الله بهم البحر مع ذرياتهم وذراريهم، وأغرق فرعون ومن معه من القبط، «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ» يعني الهوان من فرعون من قتل الأبناء، واستحياء النساء يعني البنات، قبل أن يبعث الله- عز وجل- موسى رسولا مخافة أن يكون هلاكهم في سببه من فرعون، للذي أخبره به الكهنة أنه يكون، وأنه يغلبك على ملكك، ثم قال: مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً عن التوحيد مِنَ الْمُسْرِفِينَ- 31- يعني من المشركين، ثم رجع إلى بني إسرائيل فقال: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ علمه الله- عز وجل- منهم عَلَى الْعالَمِينَ- 32- يعني عالم ذلك الزمان وَآتَيْناهُمْ

(3/822)


يقول وأعطيناهم مِنَ الْآياتِ حين فلق لهم البحر وأهلك عدوهم فرعون، وظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن السلوى، والحجر والعمود والتوراة، فيها بيان كل شيء، فكل هذا الخير ابتلاهم الله به فلم يشكروا ربهم، فذلك قوله:
«وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ» ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ- 33- يعني النعم «البينة» «1» .
كقوله: «إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ» «2» يعني النعم «البينة» «3» . قوله:
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ- 34- يعني «كفار مكة» «4» إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لهم إنكم تبعثون من بعد الموت فكذبوه، فقالوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا
وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ- 35- يعني بمبعوثين من بعد الموت، ثم قال: فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- 36- أنا نحيا من بعد الموت، وذلك أن أبا جهل بن هشام قال في الرعد يا محمد إن كنت نبيا فابعث لنا رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان صادقا، وكان إمامهم «5» فنسألهم فيخبرونا عن ما هو كائن بعد الموت أحق ما تقول أم باطل؟ إن كنت صادقا بأن البعث حق، نظيرها في الجاثية قوله: «وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ... » «6» وَمَا البعث بحق. فخوفهم الله- تعالى- بمثل عذاب الأمم الخالية
__________
(1) فى أ: البين، ف: البينة. [.....]
(2) سورة الصافات: 106.
(3) وردت فى أ، ف: «البين» .
(4) فى الأصل: «كفار» .
(5) كذا فى أ، ف، والمراد وكان امام قومه ورئيسهم.
(6) سورة الجاثية: 24.

(3/823)


فقال: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ لأن قوم تبع أقرب [148 ب] في الهلاك إلى كفار مكة وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الخالية أَهْلَكْناهُمْ بالعذاب إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ- 37- يعني مذنبين مقيمين على الشرك منهمكين عليه، قوله: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ- 38- يعني عابثين لغير شيء يقول لم أخلقهما باطلا ولكن خلقتهما لأمر هو كائن «مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» «1» وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يعني كفار مكة لا يَعْلَمُونَ- 39- أنهما لم يخلقا باطلا، ثم خوفهم فقال: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ يعني يوم «القضاء» «2» مِيقاتُهُمْ يعني ميعادهم أَجْمَعِينَ- 40- يَوْمَ يعني يوم القيامة يقول: يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون «وهم يوم الجمعة» هذه الأمة وسواهم من الأمم الخالية، ثم نعت الله- تعالى- ذلك اليوم فقال: «يَوْمَ» لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وهم الكفار يقول يوم لا يغني ولي عن وليه يقول لا يقدر قريب لقرابته الكافر شيئا من المنفعة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
- 41- يقول ولا هم يمنعون من العذاب ثم استثنى المؤمنين فقال: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ من المؤمنين فإنه يشفع لهم إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ في نقمته من أعدائه الذين لا شفاعة لهم الرَّحِيمُ- 42- بالمؤمنين الذين استثنى في هذه الآية، قوله: إِنَّ «شَجَرَةَ» «3» الزَّقُّومِ- 43- طَعامُ الْأَثِيمِ- 44- يعني الآثم بربه فهو أبو جهل بن هشام وفي قراءة ابن مسعود «طعام الفاجر» كَالْمُهْلِ يعني الزقوم أسود غليظ كدردي
__________
(1) «ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» : ساقطة من أ، ف.
(2) فى ف زيادة: «يعنى القيامة» .
(3) فى أ: «سجرت» ، وفى رسم المصحف: «شحرت» .

(3/824)


الزيت يَغْلِي فِي الْبُطُونِ- 45- كَغَلْيِ الْحَمِيمِ- 46- يعني الماء الحار بلسان بربر وأفريقية الزقوم يعنون التمر والزبد، زعم ذلك عبد الله بن الزبعري السهمي، وذلك أن أبا جهل قال لهم: إن محمدا يزعم أن النار تنهت الشجر وإنما النار تأكل الشجر، فما الزقوم عندكم؟ فقال عبد الله بن الزبعري:
التمر والزبد. فقال أبو جهل بن هشام: يا جارية، ابغنا تمرا وزيدا. فقال: تزقموا.
«يقول» «1» الله- عز وجل- للخزنة: خُذُوهُ يعني أبا جهل فَاعْتِلُوهُ يقول فادفعوه على وجهه إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ- 47- يعني وسط الجحيم وهو الباب السادس من النار، ثم قال: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ أبي جهل وذلك أن الملك من خزان جهنم يضربه على رأسه بمقمعة من حديد فينقب عن دماغه فيجري دماغه على جسده ثم يصب الملك في النقب ماء حميما قد انتهى حره فيقع في بطنه، ثم يقول له الملك: ذُقْ العذاب أيها المتعزز المتكرم، يونجه ويصغره، بذلك فيقول: إِنَّكَ زعمت في الدنيا أَنْتَ الْعَزِيزُ يعني المنيع الْكَرِيمُ- 49- يعني المتكرم، قال: فكان أبو جهل يقول في الدنيا أنا أعز قريش وأكرمها، فلما [149 أ] ذاق شدة العذاب في الآخرة قال له الملك: إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ- 50- يعني تشكون في الدنيا أنه غير كائن فهذا مستقر الكفار، ثم ذكر مستقر المؤمنين فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ- 51- فى مساكن آمنين من الخوف والموت ي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- 52- يعني بساتين وأنهار جارية يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ يعني الديباج مُتَقابِلِينَ- 53- في الزيارة كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ
__________
(1) فى أ، ف: «فقال» .

(3/825)


يعني بيض الوجوه عِينٍ- 54- يعني حسان العيون، ثم أخبر عنهم فقال:
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ من ألوان الفاكهة آمِنِينَ- 55- من الموت لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أبدا إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى التي كانت في الدنيا وَوَقاهُمْ يعني الرب- تعالى- عَذابَ الْجَحِيمِ- 56- ذلك الذي ذكر في الجنة كان: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ- 57- يعني الكبير يعني النجاة «العظيمة» «1» ، قوله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ يعني القرآن يقول هوناه على لسانك لَعَلَّهُمْ يقول لكي يَتَذَكَّرُونَ- 58- فيؤمنوا بالقرآن فلم يؤمنوا به يقول الله- تعالى- فَارْتَقِبْ يقول انتظر بهم العذاب إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ- 59- يعني «منتظرون» «2» بهم العذاب.
__________
(1) فى أ: «العظيم» .
(2) من ف: وفى أ: «إنا منتظرون» .

(3/826)


سورة الجاثية

(3/827)


[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 37]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9)
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34)
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

(3/829)


سورة الجاثية»
سورة الجاثية مكية عددها سبع وثلاثون آية كوفى «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان حجة التوحيد، والشكاية من الكفار والمتكبرين وبيان النفع والضر، والإساءة والإحسان وبيان شريعة الإسلام والإيمان، وتهديد العصاة والخائنين من أهل الإيمان، وذم متابعي الهوى، وذل الناس فى المحشر، ونسخ كتب الأعمال من اللوح المحفوظ وتأييد الكفار فى النار، وتحميد الرب المتعالي بأوجز لفظ وأفصح- مقال: فى قوله: «فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ ... »
سورة الجاثية: 36- 37 إلى آخر السورة.
(2) فى المصحف: (45) سورة الجاثية مكية، إلا آية 14 فمدنية وآياتها 37 نزلت بعد سورة الدخان.
ولها اسمان سورة الجاثية لقوله: «وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً» : 28 وسورة الشريعة لقوله: «ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ ... » 18.

(3/833)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم- 1- تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ في ملكه الْحَكِيمِ- 2- في أمره إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهما خلقان عظيمان لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ- 3- يعني المصدقين بتوحيد الله- عز وجل- «وَفِي خَلْقِكُمْ يعني وفي خلق أنفسكم إذ كنتم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما لحما، ثم الروح «1» وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ يقول وما يخلق من دابة آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ- 4- «بتوحيد الله» «2» وَفى اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وهما آيتان وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ يعني المطر فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فأنبتت وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ في الرحمة والعذاب ففي هذا كله آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ- 5- بتوحيد الله- عز وجل- ثم رجع إلى أول السورة فى التقديم فقال: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ يعني تلك آيات القرآن نَتْلُوها عَلَيْكَ يا محمد بِالْحَقِّ فإن لم يؤمنوا بهذا القرآن فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ يعنى بعد توحيد الله وَبعد آياتِهِ يعني بعد آيات القرآن يُؤْمِنُونَ- 6- يعني يصدقون.
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ يعني كذاب أَثِيمٍ- 7- يقول آثم بربه، وكذبه أنه قال إن القرآن أساطير الأولين يعنى حديث رستم واسفندباز يعنى
__________
(1) كذا فى ف، والمراد: «ثم نفخ الروح» . [.....]
(2) الآية: ساقطة من أ، وهي من ف.

(3/835)


النضر بن الحارث القرشي [149 ب] من بني عبد الدار يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ يعنى القرآن تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً يعني يصر يقيم على الكفر بآيات القرآن فيعرض عنها متكبرا يعني عن الإيمان بآيات القرآن كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها يعني آيات القرآن وما فيه فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ- 8- يعني وجيع، فقتل ببدر، ثم أخبر عن النضر بن الحارث فقال: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً
يقول إذا سمع من آيات القرآن شيئا اتَّخَذَها هُزُواً يعني استهزاء بها، وذلك أنه زعم أن حديث القرآن مثل حديث رستم واسفندباز أُولئِكَ لَهُمْ يعني النضر بن الحارث وأصحابه وهم قريش عَذابٌ مُهِينٌ- 9- يعني القرآن في الدنيا يوم بدر، ثم قال: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ يعني النضر بن الحارث يقول لهم في الدنيا القتل ببدر ومن بعده أيضا لهم جهنم في الآخرة وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً يقول لا تغني عنهم أموالهم التي جمعوها من جهنم شيئا وَلا يغني عنهم من جهنم مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يقول ما عبدوا من دون الله من الآلهة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ- 10- يعني كبير لشدته هَذَا هُدىً يقول هذا القرآن بيان يهدي من الضلالة وَالَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة بِآياتِ رَبِّهِمْ يعني القرآن لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ- 11- يقول لهم عذاب من العذاب الوجيع في جهنم، ثم ذكرهم النعم فقال: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ يقول لكي تجري السفن في البحر بِأَمْرِهِ يعني بإذنه «وَلِتَبْتَغُوا» «1» ما في البحر مِنْ فَضْلِهِ يعني الرزق وَلَعَلَّكُمْ يعني ولكي تَشْكُرُونَ- 12- الله فى
__________
(1) فى أ: «ولكي تبتغوا» : ولكي تبتغوا.

(3/836)


هذه النعم فتوحدوه وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ يعني من الله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ- 13- في صنع الله فيوحدونه قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا يعني يتجاوزوا نزلت في عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وذلك أن رجلا من كفار مكة شئتم عمر بمكة، فهم عمر أن يبطش به فأمره الله بالعفو والتجاوز فقال: «قُلْ لِلَّذِينَ آمنوا» يعني عمر «يَغْفِرُوا» يعني يتجاوزوا «لِلَّذِينَ» «1» لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ يعني لا يخشون عقوبات الله مثل عذاب الأمم الخالية فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله، يقول جزاؤه على الله، ثم نسخ العفو والتجاوز آية السيف في براءة « ... فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «2» ... » ، قوله: «3» لِيَجْزِيَ بالمغفرة قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ- 14- يعنى يعملون فى الخير مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ العمل فَعَلَيْها يقول إساءته على نفسه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ [150 أ] تُرْجَعُونَ- 15- في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم، قوله: وَلَقَدْ آتَيْنا يعنى أعطينا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ يعني التوراة وَالْحُكْمَ يعني الفهم الذي في التوراة والعلم وَالنُّبُوَّةَ وذلك أنه كان فيهم ألف نبي أولهم موسى، وآخرهم عيسى- عليهم السلام- وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعنى الحلال من الرزق: المن والسلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ- 16- يعني عالمي ذلك الزمان بما أعطاهم الله من التوراة فيها تفصيل كل شيء، والمن والسلوى،
__________
(1) فى أ: «عن الذين» ، وفى حاشية أ: التلاوة، «للذين» .
(2) فى أ: «اقتلوا المشركين» فصوبتها وهي فى سورة التوبة: 5.
(3) فى أ: «فذلك قوله» .

(3/837)


والحجر، والغمام، وعمودا كان يضيء لهم إذا ساروا بالليل، وأنبت معهم ثيابهم لا تبلى، ولا تخرق، وظللنا عليهم الغمام وفضلناهم على العالمين في ذلك الزمان، ثم قال: وَآتَيْناهُمْ آيات بَيِّناتٍ واضحات مِنَ الْأَمْرِ يعني أبين لهم فى التوراة من الحلال والحرام والسنة وبيان ما كان قبلهم، ثم اختلفوا في الدين بعد يوشع بن نون فآمن بعضهم وكفر بعضهم «فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا» «1» مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعني البيان بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ- 17- يعني في الدين يختلفون، «قوله: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ يعني بينات من الأمر وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم- ارجع إلى ملة أبيك عبد الله، وجدك عبد المطلب، وسادة قومك، فأنزل الله «ثُمَّ جعلناك على شريعة من الأمر» يعني بينة من الأمر يعني الإسلام فَاتَّبِعْها يقول الله- تعالى- لنبيه- صلى الله عليه وسلم- اتبع هذه الشريعة وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ- 18- توحيد الله يعني كفار قريش فيستزلونك عن أمر الله» «2» قوله- تعالى-: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يوم القيامة يعني مشركي مكة بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ- 19- الشرك هَذَا القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ يقول هذا القرآن بصيرة للناس من الضلالة وَهو هُدىً من الضلالة وَرَحْمَةٌ من العذاب لمن آمن به لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ- 20- بالقرآن أنه من الله- تعالى-
__________
(1) «فما اختلفوا إلا» : من ساقطة من أ.
(2) تفسير الآية (18) من ف، وهو مبتور فى أ.

(3/838)


أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
وذلك أن الله أنزل أن للمتقين عند ربهم في الآخرة جنات النعيم، فقال كفار مكة بنو عبد شمس بن عبد مناف بمكة لبني هاشم ولبني عبد المطلب بن عبد مناف للمؤمنين منهم: إنا نعطى في الآخرة من الخير مثل ما تعطون، فقال الله- تعالى-: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ» يعني الذين عملوا الشرك يعني كفار بني عبد شمس أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
من بني هاشم، وبني المطلب، منهم حمزة، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث، وعمر بن الخطاب سَواءً مَحْياهُمْ
في نعيم الدنيا
وَسواء مَماتُهُمْ
فى نعيم الآخرة ساءَ ما يَحْكُمُونَ
- 21- يقول بئس ما يقضون من الجور «حين يرون» «1» أن لهم في الآخرة ما للمؤمنين، في الآخرة الدرجات في الجنة ونعيمها «للمؤمنين» «2» ، والكافرون فى النار يعذبون «3» [150 ب] .
قوله: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يقول لم أخلقهما عبثا لغير شيء، ولكن خلقتهما لأمر هو كائن وَلِتُجْزى يقول ولكي تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يعني بما عَمِلَتْ في الدنيا من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ- 22- في أعمالهم يعني لا ينقصون من حسناتهم، ولا يزاد في سيئاتهم.
قوله أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ يعني الحارث بن قيس السهمي اتخذ إلهه هوى، وكان من المستهزئين وذلك أنه هوى الأوثان فعبدها وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ
__________
(1) «حين يرون» : من ف، وليس فى أ.
(2) «للمؤمنين» : زيادة اقتضاها السياق.
(3) العبارة ركيكة فى أ، ف وجميع النسخ.

(3/839)


علمه فيه وَخَتَمَ يقول وطبع عَلى سَمْعِهِ فلا يسمع الهدى وَعلى قَلْبِهِ فلا يعقل الهدى وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً يعني الغطاء فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ إذ أضله الله أَفَلا يعني أفهلا تَذَكَّرُونَ- 23- فتعتبروا في صنع الله فتوحدونه وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا يعني نموت نحن، ويحيا آخرون، فيخرجون من أصلابنا، فنحن كذلك فما نبعث أبدا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ يقول وما يميتنا إلا طول العمر، وطول اختلاف الليل والنهار، ولا نبعث يقول الله- تعالى-:
وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ بأنهم لا يبعثون إِنْ هُمْ يقول ما هم إِلَّا يَظُنُّونَ- 24- ما يستيقنون وبالظن تكلموا على غيرهم أنهم لا يبعثون وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا يعني القرآن بَيِّناتٍ يعني واضحات «من الحلال والحرام» «1» ما كانَ حُجَّتَهُمْ حين خاصموا النبي- صلى الله عليه وسلم- في الرعد حين قالوا سير لنا الجبال، وسخر لنا الرياح، وابعث لنا رجلين أو ثلاثة من قريش من آبائنا، منهم قصي بن كلاب فإنه كان صدوقا وكان إمامهم، فنسألهم عما تخبرنا به أنه كائن بعد الموت، فذلك قوله- تعالى-: «مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ» إِلَّا أَنْ قالُوا للنبي- صلى الله عليه وسلم-: ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- 25- هذا قول أبي جهل للنبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ابعث لنا رجلين أو ثلاثة إن كنت من الصادقين بأن البعث حق، قال الله- تعالى- قُلِ لهم يا محمد اللَّهُ يُحْيِيكُمْ حين كانوا نطفة
__________
(1) فى أ: «من الحلال والحرام» .

(3/840)


ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند أجالكم ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أولكم وآخركم لا رَيْبَ فِيهِ يقول لا شك فيه يعني البعث أنه كائن وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ- 26- أنهم يبعثون في الآخرة، ثم عظم الرب نفسه عما قالوا، أنه لا يقدر على البعث، فقال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يعنى يوم القيامة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ- 27- يعني المكذبين بالبعث وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً على الركب عند الحساب يعني كل نفس كُلَّ أُمَّةٍ [151 أ] تُدْعى إِلى كِتابِهَا الذي عَمِلَتْ في الدنيا من خير أو شر، ثم يجزون بأعمالهم، فذلك قوله: الْيَوْمَ يعني في الآخرة تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- 28- في الدنيا هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ من اللوح المحفوظ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- 29- قبل أن تعملونها.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْهُذَيْلُ عَنْ مُقَاتِلٍ، قَالَ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا تَكُونُ نُسْخَةٌ إِلا مِنْ كِتَابٍ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ «رَبُّهُمْ» «1» فِي رَحْمَتِهِ يَعْنِي فِي جَنَّتِهِ ذلِكَ الدُّخُولُ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ- 30- وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقول لهم الرب- تعالى: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي يعني القرآن تُتْلى عَلَيْكُمْ «يقول» «2» تقرأ عليكم فَاسْتَكْبَرْتُمْ يعنى تكبرتم عن الإيمان بالقرآن
__________
(1) «ربهم» : ساقطة من الأصل.
(2) فى أ: «يوم» ، وفى ف: «يقول» .

(3/841)


وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ- 31- يعني مذنبين مشركين قوله: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ قال لهم النبي- صلى الله عليه وسلم-: إن البعث حق وَالسَّاعَةُ يعني القيامة لا رَيْبَ فِيها يعني لا شك فيها أنها كائنة قُلْتُمْ يا أهل مكة مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ يعني ما نظن إِلَّا ظَنًّا على غير يقين «وَما نَحْنُ» «1» بِمُسْتَيْقِنِينَ- 32- بالساعة أنها كائنة وَبَدا لَهُمْ يقول وظهر لهم في الآخرة سَيِّئاتُ يعني الشرك مَا عَمِلُوا في الدنيا حين شهدت عليهم الجوارح وَحاقَ يقول ووجب العذاب بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ بالعذاب يَسْتَهْزِؤُنَ- 33- أنه غير كائن وقال لهم الخزنة في الآخرة:
وَقِيلَ «الْيَوْمَ» «2» نَنْساكُمْ يقول نترككم في العذاب كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا يقول كما تركتم إيمانا بهذا اليوم يعني البعث وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ- 34- يعنى ما نعين من النار ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ يقول إنما نزل بكم العذاب في الآخرة بأنكم اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ يعني كلام الله هُزُواً يعني استهزاء حين قالوا ساحر، وشاعر، وأساطير الأولين وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا عن الإسلام فَالْيَوْمَ في الآخرة لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ- 35-.
قوله: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ يقول الشكر لله رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ- 36- يعني «القيامة» «3» وَلَهُ الْكِبْرِياءُ يعني العظمة
__________
(1) فِي أ: «وما هم» ، وفى حاشية أالآية: «وما نحن» . [.....]
(2) فى أ، ف: «فاليوم» .
(3) فى أ: «ألف أمة» ، وفى ف: «القيامة» .

(3/842)


فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ- 37- في أمره وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ يعني العظمة والسلطان، والقوة والقدرة فى السموات والأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه- الْحَكِيمُ- في أمره الذي حكم.
تم بحمد الله الجزء الثالث من تفسير مقاتل بن سليمان ويليه الجزء الرابع وأوله تفسير سورة الأحقاف

(3/843)