تفسير مقاتل بن
سليمان سورة المجادلة
(4/249)
[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 22]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ
مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ
أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ
لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ
اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ
نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ
مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا
كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا
آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا
أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى
ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ
سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ
مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا
يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ
يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا
تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ
الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي
الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ
انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ
لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ
صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ
عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا
كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً
فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ
اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ
اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي
الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ
قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا
آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
(4/251)
[سورة المجادلة «1» ] سورة المجادلة مدنية
عددها «اثنتان» «2» وعشرون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان حكم لظهار، وذكر النجوى والإسرار، والأمر بالتوسع فى
المجالس، وبيان فضل أهل العلم والشكاية من المنافقين، والفرق
بين حزب الرحمن وحزب الشيطان، والحكم على بعض بالفلاح، وعلى
بعض بالخسران.
وسميت سورة المجادلة لقوله- سبحانه- فى أولها «قَدْ سَمِعَ
اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ... »
الآية الأولى.
(2) فى أ: «اثنان» ، وهو خطأ.
(3) فى المصحف: (58) سورة المجادلة مدنية وآياتها: نزلت بعد
سورة المنافقون.
(4/255)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ يعني تكلمك فِي
زَوْجِها وَتَشْتَكِي يعني وتضرع إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ
يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما يعني خولة، امرأة أوس بن الصامت،
والنبي- صلى الله عليه وسلم- إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ تحاوركما
بَصِيرٌ- 1- وذلك أن خولة بنت ثعلبة بن مالك بن أحرم الأنصاري،
من بني عمرو بن عوف بن الخزرج، كانت حسنة الجسم، فرآها زوجها
ساجدة في صلاتها، فلما انصرفت أرادها زوجها فأبت عليه، فغضب
فقال: أنت علي كظهر أمي، واسمه أوس بن الصامت أخو عبادة بن
الصامت ابن قيس بن أحرم الأنصاري فأتت خولة النَّبِيّ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: إن زوجي، يا رسول الله،
تزوجني وأنا شابة، ذات مال، وأهل، حتى إذا أكل مالي، وأفنى
شبابي، وكبرت سنى، ووهن عظمي، جعلني عليه كظهر أمه، «ثم ندم»
«1» ، فهل من شيء يجمعني وإياه، فسكت النبي- صلى الله عليه
وسلم- عنها، وكان الظهار، والإيلاء، وعدد النجوم من طلاق
الجاهلية، فوقت الله- تعالى- في الإيلاء أربعة أشهر، وجعل في
الظهار الكفارة، ووقت من عدد النجوم ثلاث تطليقات، فأنزل الله-
تعالى- الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا
هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي
وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ
الْقَوْلِ
__________
(1) فى أ: «فقد ندم» .
تفسير مقاتل ج 4- م 17.
(4/257)
يعني الظهار والمنكر من القول «الذي لا
يعرف» «1» وَزُوراً يعني كذبا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ [186
ب] حين لم يعاقبه غَفُورٌ- 2- له لتحريمه الحلال وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا
يعني يعودون للجماع الذي حرموه على أنفسهم فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا يعني الجماع ذلِكُمْ
تُوعَظُونَ بِهِ فوعظهم الله في ذلك وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ من الكفارة خَبِيرٌ- 3- به.
قال أبو محمد: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول: «ثُمَّ
يَعُودُونَ لِما قالُوا» يعني لنقض ما عقدوا من الحلف «فَمَنْ»
«2» لَمْ يَجِدْ التحرير فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا يعني الجماع فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ الصيام فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين
نصف صاع حنطة ذلِكَ يعني هذا الذي ذكر من الكفارة لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ يقول لكي تصدقوا بالله وَرَسُولِهِ إن الله قريب إذا
دعوتموه في أمر الظهار، وتصدقوا محمدا- صلى الله عليه وس لم-
فيما قال لكم من الكفارة حين جعل لكم مخرجا، «لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» يعني تصدقوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني سنة الله وأمره في كفارة
الظهار،
فلما نزلت هذه الآية دعا النبي- صلى الله عليه وسلم- زوجها،
فقال: ما حملك على ما قلت؟ قال: الشيطان. فهل لي من رجعة
تجمعني وإياها؟ قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: نعم، هل عندك
تحرير رقبة؟ قال: لا، إلا أن تحيط بمالي كله. قال: فتستطيع
صوما فتصوم شهرين متتابعين؟ قال: يا رسول
__________
(1) فى أ: «الذي لا يعرف» ، وفى ف: «إلى لا يفرق» .
(2) فى الأصل: «لمن» ، لكن الآية: «فمن» . [.....]
(4/258)
الله، إني إذا لم آكل في اليوم مرتين أو
ثلاث مرات اشتد علي وكل بصري، وكان ضرير البصر. قال: فهل عندك
إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا، إلا بصلة منك وعون. فأعانه النبي-
صلى الله عليه وسلم- «بخمسة عشر صاعا» «1»
وجاء هو بمثل ذلك فتلك ثلاثون صاعا من تمر لكل مسكين نصف صاع،
ذلكم يعني أمر الكفارة توعظون به، فوعظهم- الله تعالى- فى أمر
الكفارة «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» ، «وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ» يعني سنة الله وَلِلْكافِرِينَ من اليهود
والنصارى عَذابٌ أَلِيمٌ- 4- قوله: إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ يعني يعادون الله وَرَسُولَهُ كُبِتُوا
كَما كُبِتَ يعني أخزوا كما أخزى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من
الأمم الخالية وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ يعني القرآن
فيه البيان أمره ونهيه وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ- 5-
نزلت في اليهود والمنافقين «مُهِينٌ» يعني الهوان، قوله:
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً الأولين والآخرين نزلت
في المنافقين في أمر المناجاة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا
أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ يقول حفظ الله أعمالهم الخبيثة،
ونسوا هم أعمالهم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أعمالهم
شَهِيدٌ- 6- يعني شاهده، قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [187 أ] يقول
أحاط علمه بذلك كله مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ يعني نفر
ثلاثة إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ يعني علمه معهم إذا تناجوا وَلا
خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ يعني علمه معهم وَلا أَدْنى
مِنْ ذلِكَ يعني ولا أقل من ثلاث نفر وهما اثنان وَلا أَكْثَرَ
من خمسة نفر إِلَّا هُوَ يعني إلا وعلمه
__________
(1) فى أ: «بخمس عشرة صاعا» ، وهو خطأ، والصواب ما ذكرته.
(4/259)
مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا من الأرض ثُمَّ
يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني بما
يتناجون فيه إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ من أعمالهم عَلِيمٌ-
7- قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ
النَّجْوى يعني اليهود كان بينهم وبين محمد- صلى الله عليه
وسلم- موادعة فإذا رأوا رجلا من المسلمين وحده يتناجون بينهم،
فيظن المسلم أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، فيترك الطريق من
المخافة فبلغ ذَلِكَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى،
فقال- الله تعالى-: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ
النَّجْوى» ثُمَّ يَعُودُونَ لِما للذي نُهُوا عَنْهُ
وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ يعني بالمعصية وَالْعُدْوانِ يعني
الظلم وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ يعني حين نهاهم النبي- صلى الله
عليه وسلم- عن النجوى فعصوه، ثم أخبر عنهم قال: وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ يعني كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وكعب بن أسيد،
وأبو ياسر، وغيرهم «حَيَّوْكَ» بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ
اللَّهُ يعني اليهود، قالوا انطلقوا بنا إلى محمد فنشتمه
علانية كما نشتمه فى السر، فأتوه، فقالوا: السام. يعنون بالسام
السآمة والفترة، ويقولون تسأمون يعني تتزكون دينكم،
فقالت عائشة- رضي الله عنها-:
عليكم السام، والذام، والفان، يا إخوان القردة والخنازير، فكره
النبي- صلى الله عليه وسلم- قول عائشة، وقال النبي- صلى الله
عليه وسلم-: «مهلا «1» » يا عائشة عليك بالرفق فإنه ما وضع في
شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه.
فقال جبريل- عليه السلام-: إنه لا يسلمون عليك ولكنهم يشتمونك.
فلما خرجت اليهود من عِنْد النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- «قال «2» » بعضهم
__________
(1) فى أ: «قولي» ، وفى ف: «مهلا» .
(2) فى أ: «فقال» .
(4/260)
لبعض: إن كان محمد لا يعلم ما نقول له،
فالله يعلمه، ولو كان نبيا لأعلمه الله ما نقول، ولعاقبنا
، فذلك قوله وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا
يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ لنبيه وأصحابه يقول الله
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ شدة عذابها يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ
الْمَصِيرُ- 8- يعني بئس المرجع إلى النار يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ يعني الذين أقروا
باللسان، وهم المنافقون منهم عبد الله بن أبى، بو عبد الله بن
سعد ابن أبي سرح، وغيرهم كان نجواهم أنهم كانوا يخبرون عن [187
ب] «سرايا «1» » النبي- صلى الله عليه وسلم- ما يشق «على «2» »
من أقام من المؤمنين، وبلغنا أن ذلك كان في سرية جعفر بن أبى
طالب، وزيد بن حادثة، وعبد الله بن رواحة، قتلوا يوم مؤتة،
ولعل حميم أحدهم في السرية فإذا رأوه تناجوا بينهم فيظن المسلم
أن حميمه قد قتل فيحزن، لذلك، فنهاهم النبي- صلى الله عليه
وسلم- عن النجوى: فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ
يعني المعصية والظلم وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ لأن النَّبِيّ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان نهاهم عن ذلك، ثم قال:
وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى يعني الطاعة، وترك
المعصية، ثم خوفهم فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ- 9- بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم، ثم قال: إِنَّمَا
النَّجْوى يعني نجوى المنافقين مِنَ تزيين الشَّيْطانِ
لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني إلا أن يأذن الله في ضره وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ- 10- يعني بالله فليثق
المصدقون يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ
تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- جلس فى صفة ضيقة، ومعه أصحابه
__________
(1) فى أ: «السرايا» .
(2) فى أ: «عن» .
(4/261)
فجاء نفر من أهل بدر، منهم: ثابت بن قيس بن
شماس الأنصاري، فسلموا على النبي- صلى الله عليه وسلم-، فرد
عليهم، ثم سلموا على القوم، فردوا عليهم، وجعلوا ينتظرون ليوسع
لهم فلم يفعلوا، فشق قيامهم على النبي- صلى الله عليه وسلم-
وكان يكرم أهل بدر وذلك يوم الجمعة، فقال رسول الله- صلى الله
عليه وسلم- قم يا فلان، وقم يا فلان. لمن لم يكن من أهل بدر،
بعدد القيام من أهل بدر، فعرف النبي- صلى الله عليه وسلم-
الكراهية في وجه من أقيم منهم، فقال رسول الله- صلى الله عليه
وسلم-: رحم الله رجلا تفسح لأخيه، فجعلوا يقومون لهم بعد ذلك،
فقال المنافقون للمسلمين: أتزعمون أن صاحبكم يعدل بين الناس،
فو الله، ما عدل على هؤلاء، إن قوما سبقوا فأخذوا مجلسهم
وأحبوا قربه فأقامهم، وأجلس من أبطأ عن الخير، فو الله، إن أمر
صاحبكم كله فيه اختلاف. فأنزل- الله تعالى- «يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي
(الْمَجالِسِ «1» ) »
يعني أوسعوا في «المجالس» «2» فَافْسَحُوا يقول أوسعوا
يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا
يقول وإذا قال لكم نبيكم: ارتفعوا عن المجلس فارتفعوا فإن الله
يأجركم إذا أطعتم النبي- صلى الله عليه وسلم-، ثم قال:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يعني أهل بدر
وَيرفع الله الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ منكم فيها تقديم يعني
بالقرآن دَرَجاتٍ يعني الفضائل إلى الجنة على من سواهم ممن لا
يقرأ القرآن من المهاجرين والتابعين وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ- 11- فى أمر المجلس وغيره.
__________
(1) فى أ: «المجلس» .
(2) فى أ: «المجلس» .
(4/262)
«حدثنا عبد الله: حدثني أبي: حدثنا الهذيل:
قال مُقَاتِلُ بن سليمان» «1» : إذا انتهى المؤمنون إلى باب
الجنة، يقال للمؤمن الذي ليس بعالم: ادخل الجنة بعملك الصالح،
ويقال للعالم قم على باب الجنة، فاشفع للناس يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ يعني النبي- صلى
الله عليه وسلم- فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ
صَدَقَةً يعنى الصدقة خَيْرٌ لَكُمْ من إمساكه وَأَطْهَرُ
لذنوبكم نزلت في الأغنياء فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا الصدقة على
الفقراء فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ- 12- لمن لا يجد
الصدقة، وذلك أن الأغنياء كانوا يكثرون مناجاة النبي- صلى الله
عليه وسلم- ويغلبون الفقراء على مجالس النبي- صلى الله عليه
وسلم-، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يكره طول مجالستهم
وكثرة نجواهم، فلما أمرهم بالصدقة عند المناجاة انتهوا عند
ذلك، وقدرت الفقراء على كلام النبي- صلى الله عليه وسلم-
ومجالسته ولم يقدم أحد من أهل الميسرة بصدقة غير علي بن أبي
طالب- رضي الله عنه- قدم دينارا، وكلم النبي- صلى الله عليه
وسلم- عشر «2» كلمات فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى أنزل الله-
تعالى-:
أَأَشْفَقْتُمْ يقول أشق عليكم أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ يعني أهل الميسرة ولو فعلتم لكان خيرا
لكم، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يقول
وتجاوز الله عنكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ لمواقيتها وَآتُوا
الزَّكاةَ لحينها وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فنسخت
الزكاة الصدقة التي كانت عند المناجاة وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ- 13- قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يقول ألم تنظر
يا محمد إلى الذين ناصحوا اليهود بولايتهم فهو عبد
__________
(1) فى أ: «وبإسناده مقاتل» ، والمثبت من ف.
(2) فى أ: «بعشر» .
(4/263)
الله بن نتيل المنافق، يقول الله- تعالى-:
مَا هُمْ يعني المنافقين عند الله مِنْكُمْ يا معشر المسلمين
وَلا مِنْهُمْ يعني من اليهود في الدين والولاية فقال النبي-
صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن نتيل: إنك تواد اليهود فحلف
عبد الله بالله أنه لم يفعل وأنه ناصح، فأنزل الله- تعالى-
وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ- 14- أنهم
كذبة أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فى الآخرة عَذاباً شَدِيداً
إِنَّهُمْ ساءَ يعني بئس ما كانُوا يَعْمَلُونَ- 15-
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ يعني حلفهم جُنَّةً من القتل
فَصَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني دين الله الإسلام
فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ- 16- فقال رجل من المنافقين:
إن محمدًا يزعم أنا لا ننصر يوم القيامة، لقد شقينا إذًا، إنا
لأذل من البعوض، والله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا
وأولادنا إن كانت قيامة، فأما اليوم فلا نبذلها، ولكن نبذلها
يومئذ لكي ننصر، فأنزل الله- تعالى- لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يوم
القيامة أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ-
17-[188 ب] يعنى مقيمين فى النار لا يموتون، قوله: يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يعني المنافقين فَيَحْلِفُونَ
لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وذلك أنهم كانوا إذا قالوا شيئا
«أو عملوا» «1» شيئا، وأرادوه، سألهم المؤمنون عن ذلك،
فيقولون: والله لقد أردنا الخير فيصدقهم المؤمنون بذلك، فإذا
كان يوم القيامة «سئلوا» «2» عن أعمالهم الخبيثة فاستعانوا
بالكذب كعادتهم في الدنيا، فذلك قوله يحلفون لله في الآخرة كما
يحلفون لكم في الدنيا وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من
الدين فان يغني عنهم ذلك من الله شيئا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْكاذِبُونَ- 18-
__________
(1) فى أ: «وعملوا» ، وفى ف: «أو عملوا» .
(2) فى أ: «يسلوا» ، وفى ف: «سئلوا» .
(4/264)
فى قولهم اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ
الشَّيْطانُ يقول غلب عليهم الشيطان فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ
اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ يعنى شيعة الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ
حِزْبَ يعنى شيعة الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ- 19- قوله:
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ يعني يعادون الله
وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ- 20- يعني في الهالكين
كَتَبَ اللَّهُ يعني قضى الله لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي
يعني النبي- صلى الله عليه وسلم-، وذلك أن الْمُؤْمِنِين
قَالُوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لئن فتح
الله علينا مكة وخيبر وما حولها فنحن «نرجو أن يظهرنا الله»
«1» ما عاش النبي- صلى الله عليه وسلم- على أهل الشام وفارس
والروم. فقال عبد الله بن أبي للمسلمين: أتظنون بالله أن أهل
الروم وفارس كبعض أهل هذه القرى التي غلبتموهم عليها، كلا
والله لهم أكثر جمعا، وعددا.
فأنزل الله- تعالى- في قول عبد الله بن أبى « ... وَلِلَّهِ
جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» ... » وأنزل «كتب الله
كتابا وأمضاه» «3» «لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» يعني
النبي- صلى الله عليه وسلم- وحده إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ- 21- يقول أقوى، وأعز من أهل الشام والروم وفارس.
قوله: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ يعني يصدقون بِاللَّه أَنَّهُ واحد لا شريك لَهُ،
ويصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني يناصحون من عادى الله ورسوله، نزلت
فى حاطب بن أبى بلتعة
__________
(1) فى أ: «أن يظهر بالله» ، وفى ف: «أن يظهرنا الله» .
(2) سورة الفتح: 4.
(3) نص الآية: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي،
فما ورد من قوله: «كتب الله كتابا وأمضاه» من باب الشرح
والتقسى. [.....]
(4/265)
العنسي حين كتب إلى أهل مكة، وَلَوْ كانُوا
آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ الذين لم يفعلوا ذلك كَتَبَ يقول جعل
فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ يعني التصديق نظيرها في آل عمران «
... فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «1» ... » يعني فاجعلنا مع
الشاهدين. وقال أيضا في الأعراف: « ... فَسَأَكْتُبُها
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ «2» ... » يعنى فسأجعلها وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ يقول قواهم برحمة من الله عجلت لهم في الدنيا
وَيُدْخِلُهُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ يعني بساتين تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مطردة خالِدِينَ فِيها يعني مقيمين في
الجنة لا يموتون رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بأعمالهم الحسنة
وَرَضُوا عَنْهُ يعني عن الله بالثواب والفوز أُولئِكَ الذين
ذكر حِزْبُ اللَّهِ يعني شيعة الله أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ
يعني ألا إن شيعة الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ- 22- يعنى
«الفائزين» «3» .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 53 وتمامها: «رَبَّنا آمَنَّا بِما
أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ» ، ووردت أيضا فى سورة المائدة: 83، وتمامها:
«وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى
أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ
الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ» .
(2) سورة الأعراف: 156، وتمامها: «وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ
الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ
قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا
يُؤْمِنُونَ» .
(3) فى أ: «يعنى الفائزون» ، وفى ف: «يعنى الفائزون» .
(4/266)
سورة الحشر
(4/267)
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 24]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ
لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ
اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ
(2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ
لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ
النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
(4)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى
أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ
اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ
مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ
لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما
آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ
مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً
مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ
بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (9)
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا
إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ
وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ
(11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ
قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ
لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا
يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ
مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي
بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16)
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها
وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ
لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ
فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ
أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا
هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً
مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ
اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ
الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ
اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ
الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
(4/269)
[سورة الحشر «1» ] سورة الحشر مدنية عددها
أربع «2» وعشرون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
الخبر عن جلا بنى النضير، وقسم الغنائم، وتفصيل حال المهاجرين
والأنصار، والشكاية من المنافقين فى واقعة قريظة، وذكر برصيصا.
العابد وقد حمل عنيه بعضهم الآية 16، والنظر إلى العواقب
وتأثير نزول القرآن وذكر أسماء الحق- تعالى- وصفاته وبيان أن
جملة الخلائق فى تسبيحه وتقديسه فى قوله: « ... لَهُ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» سورة الحشر: 24
(2) فى أ: «أربعة» ، وصوابه ما ذكرت.
(3) فى المصحف: (59) سورة الحشر مدنية، وآياتها 24 نزلت بعد
سورة البينة، سميت سورة الحشر لقوله « ... لِأَوَّلِ الْحَشْرِ
... » : 2
تفسير مقاتل ج 4- م 18
(4/273)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يقول
ذكر الله مَا فِي السَّمَوَاتِ من الملائكة، وَمَا فِي الأرض
من الخلق وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ- 1- في أمره
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني يهود بني
النضير مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بعد قتال أحد أخرجهم مِنْ
دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ يعنى القتال والحشر الثاني
القيامة، وهو الجلاء من المدينة إلى الشام وأذرعات مَا
ظَنَنْتُمْ يقول للمؤمنين ما حسبتم أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا
يعني وحسبوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ
فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا يعني من قبل
قتل كعب بن الأشرف، ثم قال: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ بقتل كعب بن الأشرف أرعبهم الله بقتله لأنه كان
رأسهم وسيدهم قتله محمد بن مسلمة الأنصاري وكان أخاه من
الرضاعة، وغيره، «1» وكان مع محمد ليلة قتل كعب بن الأشرف أخو
محمد بن سلمة، وأبو ليلى، وعتبة كلهم من الأنصار، قوله:
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ وذلك
أن المنافقين دسوا وكتبوا إلى اليهود ألا يخرجوا من الحصن،
«وأن يدربوا» «2» على الأزقة وحصونها، فإن قاتلتم محمدا فنحن
معكم لا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم، فلما سار
النبي- صلى الله عليه وسلم- إليهم وجدهم ينوحون
__________
(1) أى كان مع محمد بن مسلمة غيره من المسلمين.
(2) «ودربوا» : كذا فى أ، ف: والأنسب: «وأن يدر برا» .
(4/275)
على كعب بن الأشرف. قالوا: يا محمد، واعية
على أثر واعية، وباكية على أثر باكية، ونائحة أعلى أثر نائحة.
قال: نعم. قالوا: فذرنا نبكي شجونا، ثم نأتمر لأمرك.
فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: اخرجوا من المدينة. قالوا:
الموت أقرب إلينا من ذلك. فتنادوا الحرب، واقتتلوا وكان
المؤمنون إذا ظهروا على درب من دروبهم تأخروا إلى الذي يليه
فنقبوه من دبره، ثم حصنوها ويخرب المسلمون ما ظهروا عليه من
نقض بيوتهم، فيبنون «دوربا» «1» على أفواه الأزقة،
فذلك قوله: «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ» فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ- 2-
يعني المؤمنين أهل البصيرة في أمر الله، وأمر النضير، ثم قال:
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ [189 ب] يعني قضى الله، نظيرها
في المجادلة «قوله» «2» :
«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ ... » «3» يعني قضى الله
عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ من المدينة لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا
بالقتل بأيديكم وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ- 3-
ذلِكَ الذي نزل بهم من الجلاء بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يعني عادوا الله ورسوله وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ
ورسوله يعني ومن يعادي الله ورسوله فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ- 4- إذا عاقب، نظيرها في هود « ... لا
يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي ... » «4»
يعنى عداوتي « ... وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ «5» » يعنى وليهن
اليهود، وذلك أن النبي
__________
(1) فى أ: «نحوتا» ، وفى ف: «درربا» .
(2) فى أ: «قوله» ، وفى ف: «كقوله» .
(3) سورة المجادلة: 21 وتمامها «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ
أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» .
(4) سورة هود: 59 وفيها «وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ
شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ
قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ
بِبَعِيدٍ» .
(5) سورة الحشر: 5.
(4/276)
- صلى الله عليه وسلم- أمر بقطع ضرب من
النخيل من أجود التمر يقال له اللين شديد الصفرة ترى النواة من
اللحى «1» من أجود التمر بغيب فيه الضرس، النخلة أحب إلى أحدهم
من وصيف، «فجزع» «2» أعداء الله لما رأوا ذلك الضرب من النخيل
يقطع. فقالوا: يا محمد، أوجدت فيما أنزل الله عليك الفساد في
الأرض أو الإصلاح في الأرض، فأكثروا القول ووجد المسلمون ذمامة
من قطعهم النخيل خشية أن يكون فسادا، فأنزل الله- تعالى- مَا
قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ وكانوا «قطعوا» «3» أربع نخلات كرام
عن أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- غير العجوة أَوْ
تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها هو كله «فَبِإِذْنِ «4»
» اللَّهِ يعني بأمر الله وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ- 5- لكي
يخزي الفاسقين وهم اليهود بقطع النخل، فكان قطع النخل ذلالهم
وهوانا.
قال أبو محمد: قال الفراء: كل شيء من النخيل سوى العجوة فهو
اللين.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قَالَ الْفَرَّاءُ: حَدَّثَنِي
حَسَّانٌ عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بِقَطْعِ النَّخْلِ كُلِّهِ إِلا الْعَجْوَةَ
ذَلِكَ الْيَوْمَ فَكُلُّ شَيْءٍ سِوَى الْعَجْوَةِ فَهُوَ
اللِّينُ.
وقال أبو محمد: وقال أبو عبيدة: اللين ألوان النخل سوى العجوة
والبرني، واحدتها لينة.
__________
(1) ترى النواة من ظاهر النمرة. [.....]
(2) فى أ: «فجزعوا» .
(3) فى أ، ف: «فقطعوا» ، والأنسب ما ذكرته.
(4) فى الأصول: «بإذن» ، ولكن الآية: «فبإذن» .
(4/277)
فلما «يأس» «1» اليهود أعداء الله من عون
المنافقين رعبوا رعبا شديدا بعد قتال إحدى وعشرين ليلة، فسألوا
الصلح فصالحهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَلَى أن يؤمنهم على دمائهم وذراريهم وعلى أن لكل ثلاثة منهم
بعيرا يحملون عليه ما شاءوا من عيال أو متاع «وتعيد» «2»
أموالهم «فيئا» «3» للمسلمين، فساروا قبل الشام إلى أذرعات
وأريحا، وكان ما تركوا من الأموال «فيئا» «4» للمسلمين، فسأل
الناس النبي- صلى الله عليه وسلم- الخمس كما خمس يوم بدر، ووقع
فى أنفسهم حين لم يخمس فأنزل الله- تعالى- وَما أَفاءَ اللَّهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ «5» يعني أموال بني النضير فَما
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ يعني على الفيء مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ
يعني الإبل يقول لم تركبوا فرسا، ولا بعيرا، ولكن مشيتم مشيا
حتى فتحتموها [190 أ] غَيْر أن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ركب حمارا له، فذلك قوله:
«وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ يعنى
النبي- صلى الله عليه وسلم-، يعنيهم» «6» وَاللَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ من النصر وفتحها قَدِيرٌ- 6- قوله: مَا أَفاءَ اللَّهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى يعني، قريظة والنضير،
وخيبر، وفدك، وقريتي عرينة فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبى يعنى قرابة
__________
(1) فى أ، ف: «أيس» ، وقد حدث فيها قلب مكاني من «يأس» ، وأخذت
الأنسب «يأس» .
(2) فى أ: «وتعتد» وفى، ف: «وتعيد» .
(3) فى أ، ف: «فيء» ، وصوابها: «فيئا» .
(4) فى أ، «فيء» .
(5) فى حاشية أ: «الذي فى الأصل هنا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى يعنى أموال بنى النضير» .
(6) وفى البيضاوي: « (وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ
عَلى مَنْ يَشاءُ) بقذف الرعب فى قلوبهم» .
(4/278)
النبي- صلى الله عليه وسلم- وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً
يعني يكون المال دولة بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ يعني لئلا
يغلب الأغنياء الفقراء على الفيء فيقسمونه بينهم، فأعطى النبي-
صلى الله عليه وسلم- الفيء للمهاجرين: ولم يعط الأنصار غير
رجلين، منهم سهل بن حنيف، وسماك بن خرشة، أعطاهما النبي- صلى
الله عليه وسلم- أرضا من أرض النضير، وإنما سموا المهاجرين
لأنهم هجروا المشركين وفارقوهم، قوله:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ يقول ما أعطاكم الرسول محمد- صلى الله
عليه وسلم- من الفيء فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ يخوفهم الله من المعاصي، ثم
خوفهم فقال: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ- 7- إذا عاقب أهل
المعاصي، ثم ذكر الفيء فقال: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ أخرجهم
كفار مكة يَبْتَغُونَ يعني يطلبون فَضْلًا مِنَ اللَّهِ يعني
رزقا من الله في الجنة وَرِضْواناً يعنى رضى ربهم
وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ محمدا- صلى الله عليه وسلم-
أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ- 8- في إيمانهم وليسوا بكاذبين في
إيمانهم كالمنافقين، ثم ذكر الأنصار فأثنى عليهم حين طابت
أنفسهم عن الفيء، إذ جعل «المهاجرين» «1» دونهم، فقال:
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ يعني «أوطنوا» «2» دار
المدينة من قبل هجرة المؤمنين، إليهم بسنين، ثم قال: وَتبؤوا
الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل هجرة المهاجرين، ثم قال
للأنصار: يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ من المؤمنين وَلا
يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ يعنى قلوبهم حاجَةً مِمَّا أُوتُوا
يعني مما أعطى إخوانهم المهاجرين من الفيء
__________
(1) فى الأصل: «المهاجرين» .
(2) فى أ: «وطنوا» ، وفى ف: «أوطنوا» .
(4/279)
وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ يقول لا
تضيق وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ يعني الفاقة فآثروا
المهاجرين بالفيء على أنفسهم، ثم قال: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ يعني ومن يقيه الله حرص نفسه يعني الأنصار حين طابت
أنفسهم عن الفيء لإخوانهم فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- 9-
فقد ذهب صنفان المهاجرون والأنصار وبقي صنف واحد وهم التابعون
الذين دخلوا في الإسلام إلى يوم القيامة وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ
بَعْدِهِمْ يعني من بعد المهاجرين والأنصار فدخلوا في الإسلام
إلى يوم القيامة [190 ب] وهم التابعون يَقُولُونَ رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا
بِالْإِيمانِ الماضين من المهاجرين والأنصار فهذا استغفار، ثم
قال التابعون: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ- 10-.
وأنزل في دس المنافقين إلى اليهود أنا معكم في النصر والخروج
فقال:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا نزلت فى عبد الله بن
نتيل، وعبد الله بن أبى رافع ابن يزيد، كلهم من الأنصار
يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ» «1» من اليهود منهم حيي بن أخطب، وجدي وأبو ياسر،
ومالك ابن الضيف، وأهل قريظة، «لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ» «2» لئن
أخرجكم محمد من المدينة كما أخرج أهل النضير لَنَخْرُجَنَّ
مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً يقول لا نطيع في
خذلانكم أحدا أَبَداً يعني بأحد النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحده وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ يعني لنقاتلن معكم، فكذبهم الله- تعالى-
فقال:
__________
(1) «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» : ساقطة من أ.
(2) «لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ» : ساقط أ.
(4/280)
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ-
11- لَئِنْ أُخْرِجُوا كما أخرج أهل النضير من المدينة لا
يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا يعني لئن قاتلهم
المسلمون لا يَنْصُرُونَهُمْ يعني لا يعانوهم يقول الله-
تعالى- وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ يعني ولئن عاونوهم لَيُوَلُّنَّ
الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ- 12- فغرهم المنافقون فلزموا
الحصن، حتى قتلوا وأسروا فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم
أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم، فقتل منهم أربعمائة وخمسين
رجلا، وسبى سبعمائة وخمسين رجلا، فذلك قوله في الأحزاب: « ...
فَرِيقاً تَقْتُلُونَ» يعنى المقاتلة الأربعمائة وخمسين
وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً «1» يعنى السبعمائة وخمسين، ثم قال:
لَأَنْتُمْ معشر المسلمين أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ
مِنَ اللَّهِ يعني قلوب المنافقين ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَفْقَهُونَ- 13- فيعتبرون لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا
فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ «بَأْسُهُمْ»
«2» بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يقول الله- تعالى- لنهيه- صلى الله
عليه وسلم- تَحْسَبُهُمْ يا محمد جَمِيعاً المنافقين واليهود
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى يعني متفرقة مختلفة ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ- 14- عن الله فيوحدونه كَمَثَلِ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى قبل أهل بدر، كان قبل ذلك
«بستين» «3» ، فذلك قوله: قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ
يعني جزاء ذنبهم، ذاقوا القتل ببدر وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ-
15- ثم ضرب مثلا للمنافقين حين «غروا» «4» اليهود
__________
(1) سورة الأحزاب: 26، وتمامها: «وَأَنْزَلَ الَّذِينَ
ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ
فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ
فَرِيقاً» . [.....]
(2) «بأسهم» : ساقطة من أ.
(3) فى أ: «بسنين» ، وفى ف: «بسنتين» .
(4) فى أ: «غزوا» ، وفى م: «غزو» وفى ف: «غزوا» .
(4/281)
فتبرءوا منهم عند الشدة وأسلموهم، فقال:
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ وذلك أنه
كان «راهبا» «1» في بني إسرائيل «اسمه برصيصا» «2» وكان فى
صومعته أربعين عاما، يعبد الله، ولا يكلم أحدا، ولا يشرف على
أحد، وكان لا يكل من ذكر الله- عز وجل-، وكان الشيطان لا يقدر
عليه مع ذكره لله- تعالى-، فقال الشيطان [191 أ] لإبليس: قد
غلبني برصيصا، ولست أقدر عليه. فقال إبليس: اذهب، فانصب له ما
نصبت لأبيه من قبل. وكانت جارية ثلاثة من بني إسرائيل عظيمة
الشرف جميلة من أهل بيت صدق، ولها إخوة فجاء الشيطان إليها،
فدخل في جوفها فخنقها حتى ازبدت، فالتمس إخوتها لها الأطباء،
وضربوا لها ظهروا وبطنا ويمينا وشمالا، فأتاهم الشيطان في
منامهم، فقال: عليكم ببرصيصا الراهب، فليدع لها فإنه مستجاب
الدعاء، فلما أصبحوا قال بعضهم لبعض: انطلقوا بأختنا إلى
برصيصا الراهب فليدع لها، فإنا نرجو البركة في دعائه، فانطلقوا
بها إليه، فقالوا: يا برصيصا أشرف علينا، وكلمنا، فإنا بنو
فلان، وإنما جئنا لباب حسنة، وأجر. فأشرف فكلمهم وكلموه، فلما
رد عليها وجد الشيطان خللا فدخل في جوفه ووسوس إليه. فقال: يا
برصيصا هذا باب حسنة وأجر، تدعو الله لها فيشفيها. فأمرهم أن
يدخلوها الخربة وينطلقوا هم فأدخلوها الحربة ومضوا، وكان
برصيصا لا يتهم في بني إسرائيل، فقال له الشيطان: يا برصيصا
انزل فضع يدك على بطنها، وناصيتها، وادع لها فما زال به حتى
أنزله من صومعته، فلما نزل خرج منه فدخل فى جوف الجارية
__________
(1) فى أ، ف: «راهب» ، والأنسب ما ذكرته.
(2) فى أ: «وكان اسمه برصيصا» ، وفى ف: «اسمه برصيصا» .
(4/282)
فاضطربت، وانكشفت فلما رأى ذلك، ولم يكن له
عهد بالنساء وقع بها، قال الشيطان: يا برصيصا يا أعبد بني
إسرائيل ما صنعت؟ الزنا بعد العبادة يا برصيصا؟ إن هذه تخبر
إخوتها بما أتيت لها فتفتضح في بني إسرائيل فاعمد إليها،
فاقتلها وادفنها في التراب، ثم اصعد إلى صومعتك، وتب إلى الله،
وتعبد فإذا جاء إخوتها، فسألوا عنها، فأخبرهم أنك دعوت لها،
وأن الجني طار عنها، وأنهم طاروا بها، فمن هذا الذي يتهمك في
بني إسرائيل، فقتلها ودفنها فى الخربة، فلما جاء إخوتها،
قالوا: أين أختنا؟ فقال: أختكم طارت بها الجن، فرجعوا وهم لا
يتهمونه، فأتاهم الشيطان في المنام، فقال: إن برصيصا قد فضح
أختكم، فلما أصبحوا جعل كل واحد منهم يكلم صاحبه بما رأى،
فتكلم بما رأى. فقال الآخر: لقد رأيت مثل ما رأيت. فقال
الثالث:
مثل ذلك، فلم يرفعوا بذلك رأسا حتى رأوا ثلاث ليال، فانطلقوا
إلى برصيصا، فقالوا: أين أختنا؟ فقال: لا أدري طارت بها الجن،
فدخلوا الخربة، فإذا هم بالتراب ناتئ في الخربة فضربوه بأرجلهم
فإذا هم بأختهم فأتوه، فقالوا:
يا عدو الله، قتلت أختنا. فانطلقوا إلى الملك فأخبروه، فبعث
إليه فاستنزله، من صومعته، ونحتوا له خشبة، فأوثقوه عليها
فأتاه الشيطان [191 ب] فقال: أتعرفني يا برصيصا. قال: لا. قال:
أنا الذي أنزلتك هذه المنزلة، فإن فعلت ما آمرك به استنقذتك،
مما أنت فيه وأطلعتك إلى صومعتك؟ قال:
وبماذا؟ قال: أنمثل لك في صورتي، فتسجد لي سجدة واحدة وأنجيك
مما هنا؟ قال: نعم. فتمثل له الشيطان في صورته فسجد له وكفر
بالله، فانطلق الشيطان، وتركه، وقتل برصيصا، فذلك قوله:
«كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ» قالَ
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعالَمِينَ
(4/283)
- 16- فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني الشيطان
والإنسان أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها الشيطان
والراهب وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ- 17- يقول هكذا ثواب
المنافقين واليهود النار، ثم حذر المؤمنين ولاية اليهود، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ
نَفْسٌ يعنى ولتعلم نفس ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ يعني ما عملت لغد
يعني ليوم القيامة وَاتَّقُوا اللَّهَ يحذرهم ولاية اليهود
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ- 18- من الخير والشر،
ومن معاونة اليهود، ثم وعظ المؤمنين ألا يتركوا أمره «ولا
يكونوا» «1» بمنزلة أهل الكتاب، فقال: وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ يعني تركوا أمر الله فَأَنْساهُمْ
أَنْفُسَهُمْ أن يقدموا لها خيرا أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ-
19- يعنى العاصين، ثم ذكر مستقر الفريقين فقال: لا يَسْتَوِي
أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ يوم القيامة في
الثواب والمنزلة أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ- 20-
يعني هم الناجون من النار، وأصحاب النار هم فى النار خالدون
فيها أبدا، ثم وعظهم فقال: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ
الذي فيه أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحرامه وحلاله عَلى جَبَلٍ
وحملته إياه لَرَأَيْتَهُ يا محمد خاشِعاً يعني خاضعا
مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فكيف لا يرق هذا الإنسان
ولا يخشى الله فأمر الله الناس الذين «هم» «2» أضعف من الجبل
الأصم الذي عروقه في الأرض السابعة ورأسه في السماء أن يأخذوا
القرآن بالخشية والشدة، والتخشع، فضرب الله لذلك مثلا فقال:
__________
(1) فى أ، ل، م: «يكونوا» ، وفى ف: «ولا يكونوا» .
(2) «هم» : زيادة اقتضاها السياق.
(4/284)
«وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ» «1» لَعَلَّهُمْ يعني لكي يَتَفَكَّرُونَ- 21- فِي
أمثال اللَّه فيعتبروا فى الربوبية، فوحد الرب نفسه فقال: هُوَ
اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ يعني
غيب ما كان وما يكون وَالشَّهادَةِ يعني شهادته بالحق في كل
شيء هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ- 22- اسمان رقيقان، أحدهما أرق
من الآخر، فلما ذكر «الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» قال مشركون العرب
ما نعرف الرحمن الرحيم إنما اسمه الله، فأراد الله- تعالى- أن
يخبرهم أن له أسماء كثيرة فقال:
«هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» اسم الرب- تعالى-
هو الله وتفسير الله: «اسم» «2» «الربوبية» «3» القاهر لخلقه
[192 أ] وسائر أسمائه على فعاله «4» هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ فوحد نفسه، فقال لنفسه: الْمَلِكُ يعني يملك
كل شيء دونه الْقُدُّوسُ يعني الطاهر السَّلامُ يسلم عباده من
ظلمه الْمُؤْمِنُ يؤمن أولياؤه من عذابه الْمُهَيْمِنُ يعني
الشهيد على عباده بأعمالهم من خير أو شر، كقوله « ...
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ «5» ... » كقوله: « ... شاهِداً
عَلَيْكُمْ «6» ... » على عباده بأعمالهم من خير أو شر
__________
(1) «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ» : ساقط من أ.
(2) فى أ: «اسما» ، وفى ف: «اسم» .
(3) فى أ: «لربوبيته» ، وفى ف: «الربوبية» .
(4) فى أ: زيادة: «قال أبو صالح أله العباد كلهم إليه كما بله
الطفل إلى ثدي أمه أله العباد إليه أى أحوجهم إليه» ، وليست فى
ف.
(5) سورة المائدة: 48، وتمامها: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما
أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ
مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» .
(6) سورة المزمل: 15 وتمامها: «إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ
رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ
رَسُولًا» .
وقد سقطت «عليكم» من الأصل فأثبتها طبقا لمنطوق الآية.
(4/285)
المصدق بكتابه الذي أنزله عَلَى محمد-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَزِيزُ يعني المنيع
بقدرته فى ملكه الْجَبَّارُ يعنى القاهر على ما أراد بخلقه
الْمُتَكَبِّرُ يعني المتعظم على كل شيء سُبْحانَ اللَّهِ نزه
الرب نفسه عن قولهم البهتان عَمَّا يُشْرِكُونَ- 23- معه فنزه
الرب نفسه أن يكون له شريك فقال:
«سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» معه غيره أن يكون له
شريك، ثم «قال عن نفسه» »
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ يعني خالق كل شيء خلق النطفة والمضغة،
ثم قال:
الْبارِئُ الأنفس حين «برأها» «2» بعد مضغة إنسانا فجعل له
العينين، والأذنين، واليدين، والرجلين، ثم قال: الْمُصَوِّرُ
في الأرحام، كيف يشاء ذكر وأنثى، أبيض وأسود، سوي وغير سوي، ثم
قال: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يعني الرحمن الرحيم العزيز
الجبار المتكبر ... ونحوها من الأسماء يعني هذه الأسماء التي
ذكرها فى هذه السورة، ثم قال: يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعنى يذكره: «يوحده» «3» ما فى
السموات والأرض «وما فيهما» «4» ، من الخلق وغيره وَهُوَ
الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ- 24- فى أمره، قوله:
«الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» الرحيم أرق من الرحمن يعني المترحم
يعني المتعطف بالرحمة على خلقه.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي:
وَحَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ بُشَيْرٍ: عَنْ
قَتَادَةَ: عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَبِإِسْنَادِهِ عن
__________
(1) فى أ: «ثم قال لنفسه» ، ولعل أصلها: «قال عن نفسه» .
[.....]
(2) فى أ: «براها» .
(3) «يوحده» : كذا فى أ، ف، والأنسب «ويوحده» ، بزيادة واو
المعطف.
(4) فى أ: «ما فيهما» ، وفى ف: «ومن فيهما» .
(4/286)
مُقَاتِلٍ: عَنْ قَتَادَةَ: عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ للَّهِ تِسْعَةً
وَتِسْعِينَ اسْمًا فِي الْقُرْآنِ فَمَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ
الْجَنَّةَ» .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ:
حدثنا الْهُذَيْلُ عن المسيب:
قال «سُبْحانَ اللَّهِ» : «انصاف» «1» لله من السوء.
وقال علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-: «سُبْحانَ اللَّهِ» كلمة
رضيها الله لنفسه.
وقال الْهُذَيْلُ: قال مُقَاتِلُ: «سُبْحانَ اللَّهِ» كل شيء
في القرآن «2» تنزيه نزه نفسه. من السوء إلا أول بني إسرائيل
«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ» «3» يقول عجب، و
«سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ»
«4» يعني عجب الذي خلق الأزواج، وقوله: «فَسُبْحانَ اللَّهِ
حِينَ تُمْسُونَ» «5» يقول صلوا لله.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ:
حدثنا الْهُذَيْلُ عن هشيم عن داود ابن أبي هند: عن مطرف بن
الشخير قال: إن الله- تعالى- لم يكلنا في القرآن على القدر.
__________
(1) فى ف: «انكفأ» ، وفى أ: «انكاف» ، ولعل أصلها «انصاف» .
(2) كذا فى أ، ف، «المراد» ، كل لفظ «سُبْحانَ اللَّهِ» فى
القرآن.
(3) سورة الإسراء: 1.
(4) سورة يس: 36، فى الأصل «سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ
الْأَزْواجَ» مع أن الواو حرف عطف وليست فى الآية فالأولى
كتابتها، سبحان الذي خلق الأزواج.
(5) سورة الروم الآية 17، رضوا بها (فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ
تُمْسُونَ) ، بينا هي فى الأصل، وقوله (فَسُبْحانَ اللَّهِ
حِينَ تُمْسُونَ) .
(4/287)
|