تفسير مقاتل بن سليمان

سورة الممتحنة

(4/289)


[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)

(4/291)


[سورة الممتحنة] «1» سورة الامتحان «2» مدنية عددها ثلاث «3» عشرة آية كوفية.
__________
(1) معظم مقصود السورة:
النهى عن موالاة الخارجين عن ملة الإسلام، والاقتداء بالسلف الصالح، طريق الطاعة والعبادة وانتظار المودة بعد العداوة، وامتحان المدّعين بمطالبة الحقيقة، وأمر الرسول بكيفية البيعة مع أهل الستر والعفة، والتجنب من أهل الزيغ والضلالة فى قوله: « ... لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ... »
سورة الممتحنة: 13
(2) فى المصحف سورة الممتحنة مدنية، ... وآياتها 13 نزلت بعد سورة الأحزاب.
(3) فى أ: «ثلاثة عشر» ، والصواب «ثلاث عشرة» .

(4/295)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر الناس بالجهاد وعسكر، وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة. إن محمدا قد عسكر، وما أراه ألا يريدكم فخذوا حذركم وأرسل بالكتاب مع سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم وكانت قد جاءت من مكة إلى المدينة فأعطاها حاطب بن أبي بلتعة عشرة دنانير على أن تبلغ كتابه أهل مكة وجاء جبريل، فأخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- بأمر الكتاب، وأمر حاطب فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب- عليه السلام-، والزبير بن العوام، وقال لهما: إن أعطتكما الكتاب عفوا خليا سبيلها، وإن أبت فاضربا عنقها. فسارا حتى أدركا بالحجفة وسألاها عن الكتاب فخلفت، ما معها كتاب، وقالت: لأنا إلى خيركم أفقر منى إلى غير ذلك.
فابتحثاها، فلم يجدا معها شيئا، فقال الزبير لعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهما- ارجع بنا، فإنا لا نرى معها شيئا. فقال علي: والله لأضربن عنقها، والله ما كذب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ولا كذبنا» «1» فقال الزبير:
صدقت اضرب عنقها. فسل على سيفه، فلما عرفت الجد منهما أخذت
__________
(1) فى أ: «ولا كذب» ، وفى كتب السيرة «ولا كذبنا» .

(4/297)


عليهما المواثيق، أإن أعطيتكما الكتاب لا تقتلاني، ولا تسبياني، ولا ترداني إلى محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولتخليان سبيلي فأعطياها المواثيق، فاستخرجت الصحيفة من ذؤابتها «ودفعتها» «1» فخليا سبيلها «وأقبلا» «2» بالصحيفة فوضعاها في يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «فقرأها» «3» . فأرسل إلى حاطب بن أبي بلتعة، فقال له: أتعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم. قال: فما حملك على أن تنذر بنا عدونا؟ قال حاطب اعف عني عفا الله عنك، فو الذي أنزل عليك الكتاب ما كفرت منذ أسلمت «ولا كذبتك» «4» منذ صدقتك، ولا أبغضتك منذ أحببتك، ولا واليتهم منذ عاديتهم، وقد علمت أن كتابي لا ينفعهم ولا يضرك فاعذرني، جعلني الله فداك فإنه ليس من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع ماله وعشيرته غيري وكنت حليفا ولست من أنفس القوم، وكان حلفائي قد هاجروا كلهم، وكنت كثير المال والضيعة بمكة فخفت المشركين [193 أ] على مالي فكتبت إليهم لأتوسل إليهم بها وأتخذها عندهم مودة لأدفع عن مالي، وقد علمت أن الله منزل بهم خزيه ونقمته وليس كتابي يغني عنهم شيئا، فعرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قد صدق فيما قال، فأنزل الله- تعالى- عظة للمؤمنين أن يعودوا لمثل صنيع حاطب بن أبى بلتعة، فقال- تعالى-:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ»
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ
__________
(1) فى أ: «ودفعته» .
(2) فى أ: «فأقبلا» . [.....]
(3) فى أ: «فقرأه» ، ومعنى قرأه أى قرأ الكتاب أو الصحيفة وقد تكون القراءة على سبيل المجاز يعنى أمر بقرامتها أو قرئت له، فكأنه قرأها، لأن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان أميا قال- تعالى-: «وما كنت تتلوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ» سورة.
(4) فى أ: ولا كفرت، ف: ولا كذبتك.

(4/298)


يعني الصحيفة وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يعني القرآن يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ من مكة وَإِيَّاكُمْ قد أخرجوا من دياركم يعني من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا يعني بأن آمنتم بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي فلا تلقوا إليهم بالمودة تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ يعني بالصحيفة فيها النصيحة وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ يعني بما أسررتم في أنفسكم من المودة والولاية وَما أَعْلَنْتُمْ لهم من الولاية وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ يعني ومن يسر بالمودة إلى الكفار فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ- 1- يقول فقد أخطا قصد طريق الهدى، وفي حاطب نزلت هذه الآية «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... » إلى آخر الآية «1» .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حدثنا الهذيل عن الْمُسَيِّبِ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلَتْ سَارَّةُ مَوْلاةُ أَبِي عَمْرِو بن صيفي بن هاشم ابن عَبْدِ مَنَافٍ مَنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَجَهَّزُ لِفَتْحِ مَكَّةَ فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: مَالَكِ، يَا سَارَّةُ؟ أَمُسْلِمَةً جِئْتِ؟ قَالَتْ: لا. قَالَ: أَفَمُهَاجِرَةً جِئْتِ؟ قَالَتْ: لا.
قَالَ: فَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: كُنْتُمُ الأصل والموالي وَالْعَشِيرَةَ وَقَدْ ذَهَبَ مَوَالِيَّ، وَقَدِ احْتَجْتُ حَاجَةً شَدِيدَةً فَقَدِمْتُ عَلَيْكُمْ لِتَكْسُونِي وَتُنْفِقُوا عَلَيَّ وَتَحْمِلُونِي. فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَأَيْنَ أَنْتِ مِنْ شَبَابِ أَهْلِ مَكَّةَ- وَكَانَتِ امْرَأَةً مغنية نائحة- فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، مَا طَلَبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مُنْذُ كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ «قَالَ» «2» فَحَثَّ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنى عبد المطلب وبنى
__________
(1) من ف، وفى أ: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الى آخر الآية.
(2) «قالت» : بالأصل والصواب «قال» .

(4/299)


هَاشِمٍ فَكَسَوْهَا وَأَعْطَوْهَا نَفَقَةً وَحَمَلُوهَا، فَلَمَّا أَرَادَتِ الخروج إلى مكة أتاها حاطب ابن أبى بلتعة رجل من أهل اليمن حليف لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَجَعَلَ لَهَا جَعْلا عَلَى أن تبلغ كتابه إلى آخر الحديث.
ثم أخبر المؤمنين بعداوة كفار مكة إياهم، فقال: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً يقول إن يظهروا عليكم وأنتم على دينكم الإسلام مفارقين لهم وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ يعني الشتم وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ- 2- إن ظهروا عليكم يعني إن ترجعوا إلى دينهم فإن فعلتم ذلك [193 ب] لَنْ تَنْفَعَكُمْ يعني لا تغني عنكم أَرْحامُكُمْ يعني أقرباءكم وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بالعدل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ- 3- به.
قوله: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الآلهة كَفَرْنا بِكُمْ يقول تبرأنا منكم وَبَدا يعني وظهر بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ يعني تصدقوا بالله وحده إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «1» يقول الله تبرءوا من كفار قومكم «فقد كانت» «2» لكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه من المؤمنين في البراءة من قومهم وليس لكم أسوة حسنة في الاستغفار للمشركين يقول إبراهيم لأستغفرن
__________
(1) فى ف زيادة ليست من الآية وهي: «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» ، كما أن ف حذفت بقية الآية.
وفى أذكر بقية الآية فى الحاشية، وقد أصلحت الأخطاء.
(2) فى أ، ف: «فإن كانت» ، والأنسب: «فقد كانت» .

(4/300)


لك، وإنما كانت موعدة وعدها أبو إبراهيم إياه أنه يؤمن فلما تبين له عند موته أنه عدو لله تبرأ منه حين مات على الشرك، وحجب عنه الاستغفار، ثم قال إبراهيم: «وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» «1» - 4- رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا تقتر علينا بالرزق، وتبسط لهم في الرزق، فنحتاج إليهم فيكون ذلك فتنة لنا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- 5- وفي قراءة ابن مسعود: «إنك أنت الغفور الرحيم» ، نظيرها فى آخر المائدة «2» .
قوله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ يعني في إبراهيم والذين معه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فى الاقتداء بهم لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ يقول لمن كان يخشى الله، ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال وَمَنْ يَتَوَلَّ يقول ومن يعرض عن الحق فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن عباده الْحَمِيدُ- 6- فى سلطانه عنه خلقه.
قوله: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ «مِنْهُمْ» «3» من كفار مكة مَوَدَّةً وذلك أن الله- تعالى- حين أخبر المؤمنين بعداوة كفار مكة والبراءة منهم، وذكر لهم فعل إبراهيم والذين معه في البراءة من قومهم، فلما أخبر «ذلك «4» » عادوا أقرباءهم وأرحامهم وأظهروا لهم العداوة، وعلم الله شدة وجد
__________
(1) من حاشية أ، وليست فى أولا فى ف.
(2) يشير إلى الآية 118 من سورة المائدة وهي: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .
(3) فى أ: «من» ، وفى حاشية أ: الآية «منهم» .
(4) «ذلك» : كذلك فى أ، ف، والأنسب «بذلك» .

(4/301)


المؤمنين في ذلك، فأنزل الله- تعالى- «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً» فلما أسلم أهل مكة خالطهم المسلمون وناكحوهم، وتزوج النبي- صلى الله عليه وسلم- أم حبيبة بنت أبي سفيان فهذه المودة التي ذكر الله- تعالى-. يقول الله- تعالى- لنبيه- صلى الله عليه وسلم- وَاللَّهُ قَدِيرٌ على المودة وَاللَّهُ غَفُورٌ لذنوب كفار مكة لمن تاب منهم وأسلم رَحِيمٌ- 7- بهم بعد الإسلام، ثم رخص في صلة الذين لم يناصبوا الحرب للمسلمين، ولم يظاهروا عليهم المشركين، فذلك قوله: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ صلة الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ من مكة مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ يقول أن تصلوهم [194 أ] وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ بالعدل يعني توفوا إليهم بعهدهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ- 8- الذين يعدلون بين الناس، نزلت في خزاعة منهم هلال بن عويمر، وبني خزيمة وبني مدلج منهم سراقة بن مالك، وعبد يزيد بن عبد مناة، والحارث بن عبد مناة، ثم قال:
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ صلة الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ يعني كفار مكة أخرجوا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه من مكة كراهية الإسلام وَظاهَرُوا يقول وعاونوا المشركين عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بأن توالوهم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ منكم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ- 9- ثم نسخت براءة هاتين الآيتين- « ... فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» ... » - قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ
__________
(1) سورة التوبة: وتمامها «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» والمعنى أن هذه الآية من براءة نسخت هاتين الآيتين.

(4/302)


وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- صالح أهل مكة يوم الحديبية، وكتب بينه وبينهم كتابا فكان في الكتاب أن من لحق أهل مكة من المسلمين، فهو لهم، ومن لحق منهم بالنبي- صلى الله عليه وسلم- رده عليهم، وجاءت امرأة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- اسمها سبيعة بنت الحارث الأسلمية- في الموادعة- وكانت تحت صيفي بن الراهب من كفار مكة فجاء، زوجها «يطلبها» «1» فقال للنبي- صلى الله عليه وسلم-: ردها علينا فإن بيننا وبينك شرطا. فَقَالَ النَّبِيّ- صلى اللَّه عَلَيْه وسلم-: إِنَّمَا كان الشرط في الرجال، ولم يكن في النساء، فأنزل الله- تعالى- «إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ» فَامْتَحِنُوهُنَّ يعني سبيعة فامتحنها النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: بالله، ما أخرجك من قومك حدثا، ولا كراهية لزوجك، ولا بغضا له، ولا خرجت إلا حرصا على الإسلام ورغبة فيه، ولا تريدين غير ذلك؟ فهذه المحنة
يقول الله- تعالى- «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ «2» » فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ من قبل المحنة يعني سبيعة فَلا تَرْجِعُوهُنَّ يعنى فلا تردوهن إِلَى أزواجهن الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ يقول لا تحل مؤمنة لكافر، ولا كافر لمؤمنة. قال: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا يقول أعطوا أزواجهم الكفار ما أنفقوا «عليهن «3» » من المهر يعنى يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين، فإن لم يتزوجها أحد من المسلمين فليس لزوجها الكافر شيئا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ
__________
(1) فى أ: يطلقها، ف: يطلبها.
(2) «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ» : ساقط من أ، وفى البيضاوي: «فَامْتَحِنُوهُنَّ» فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة فلو بهن ألسنتهن فى الإيمان «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ» فإنه المطلع على ما فى قلوبهن.
(3) فى أ، ف: «عليها» ، والأنسب «عليهن» . [.....]

(4/303)


يعني ولا حرج عليكم أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ يقول إذا أعطيتموهن أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ يعني بعقد الكوافر يقول لا تعتد بامرأتك الكافرة فإنها ليست لك بامرأة يقول هذا الذي يتزوج هذه المهاجرة، وذلك أن المرأة الكافرة تكون في موضع من قومها، ولها أهل كثير فيمسكها إرادة أن يتعزز بأهلها وقومها من الناس، «فتزوجها «1» » عمر بن الخطاب [194 ب] ويقال تزوجها «أبو السنابل «2» » بن بعكك بن السباق بن عبد الدار بن قصي، وفيه نزلت هذه الآية وفي أصحابه، وكانت امرأة عمر بن الخطاب- رضي الله عنها- بمكة واسمها قريبة بنت أبي أمية، وهشام بن العاص بن وائل، وامرأته هند بنت أبي جهل، وعياض بن شداد الفهري وامرأته أم الحكم بنت أبي سفيان، وشماس بن عثمان المخزومي وامرأته يربوع بنت عاتكة، وعمرو بن عبد عمرو- وهو ذو اليدين- وامرأته هند بنت عبد العزى، فتزوج امرأة عمر بن الخطاب أبو سفيان بن حرب، فقال الله- تعالى- فى المحاطبة: «فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ... » إلى آخر الآية، هذا محكم لم ينسخ، ونسخت براءة النفقة «3» .
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ «4» يقول إن ذهبت امرأة أحدكم إلى الكفار فاسألوا الذي يتزوجها أن يرد مهرها على زوجها المسلم والنفقة، ثم قال: (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) من المهر يقول إن جاءت امرأة من أهل مكة مهاجرة إليهم فليرد الذي يتزوجها
__________
(1) الضمير فى «فتزوجها» يعود على سبيعة بنت الحارث الأسلمية» التي جاءت مسلمة إلى المدينة.
(2) فى أ: «السايل» ، وفى ف: «أبو السنابل» .
(3) أى نسخت آية السيف فى براءة، قوله- تعالى-: «وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» .
(4) فى أفسر: «وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ» : 11، قبل تفسير هذا قبل تفسير هذا الجزء وما يليه من الآية 10. وقد أعدت ترتيب الآيات، وتفسيرها.

(4/304)


مهرها على زوجها الأول، فإن تزوجت إحدى المرأتين «1» «اللتان جاءتا» مسلمة ولحقت «بكم «2» » ولم تتزوج الأخرى فليرد الذي تزوجها مهرها على زوجها وليس لزوج المرأة الأخرى مهر حتى تتزوج امرأته فإن لم يعط كفار مكة المهر طائعين فإذا ظهرتم عليهم فخذوا منهم المهر وإن كرهوا، كان هذا لأهل مكة خاصة موادعة، فذلك قوله: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يعني بين المسلمين والكافرين في أمر النفقة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه حَكِيمٌ- 10- في أمره حين حكم النفقة، ثم نسخ هذا كله آية السيف في براءة «3» ، غير هذين الحرفين «لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ» ثم قال في النفقة: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ وهي أم الحكم بنت أبي سفيان تركت زوجها عياض بن غنم بن شداد القرشي ثم الفهري من بني عامر بن لؤي ثم أتت الطائف فتزوجت رجلا من ثقيف «4» .
«وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ» يعنى أحد من أزواجكم «إِلَى الْكُفَّارِ» يعني إن لحقت امرأة مؤمنة إلى الكفار يعني كفار الحرب الذين ليس بينكم وبينهم عهد وزوجها مسلم (فَعاقَبْتُمْ) يقول فإن غنمتم، وأعقبكم الله مالا مالا فَآتُوا وأعطوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا يعني المهر ما أصبتم من الغنيمة قبل أن تخمس الخمس، ثم يرفع الخمس ثم تقسم الغنيمة بعد
__________
(1) اسم الموصول هنا الفرد أى المرأة المتزوجة. والمناسب أن يكون مثنى للمرأتين «جاءتا وتزوجت أحداهما.
(2) فى ف: «بهم» ، وفى أ: به: والعبارة فى كلتيهما ضعيفة ولا تسير على المنهج اللغوي السليم.
(3) سورة التوبة: 5.
(4) «وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ» مع تفسيرها السابق: من أ، وفى غير هذا الموضع فقد فسر هذا الجزء من الآية 11 قبل إتمام تفسير الآية (10) ، وهذا المقدار ليس فى ف.
تفسير مقاتل ج 4- م 20

(4/305)


الخمس بين المسلمين، ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تعصوه فيما أمركم به الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ- 11- يعني بالله مصدقين، وكل هؤلاء الآيات نسختها فى براءة آية السيف «1» . يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وذلك يوم فتح مكة،
لما فرغ النبي- صلى الله عليه وسلم- من بيعة الرجال [195 أ] وهو جالس على الصفا، وعمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أسفل منه، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- أبايعكن «على أن لا تشركن بالله شيئا» وكانت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة مع النساء فرفعت رأسها، فقالت: والله، إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال، فقد أعطيناكه. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: وَلا يَسْرِقْنَ فقالت. والله، إني لأصيب من مال أبي سفيان هنات، فما أدري أتحلهن لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: نعم، ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: وإنك لهند بنت عتبة.
فقالت: نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك.
ثم قال: وَلا يَزْنِينَ قالت:
وهل تزني الحرة؟ ثم قال: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا، فأنتم وهم أعلم، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى، ويقال إن النبي- صلى الله عليه وسلم- ضحك من قولها، ثم قال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ والبهتان أن تقذف المرأة ولدا من غير زوجها على زوجها، فتقول لزوجها هو منك وليس منه. قالت:
والله إن البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل، وما تأمر إلا بالرشد ومكارم
__________
(1) سورة التوبة: 5.

(4/306)


الأخلاق. ثم قال: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يعني في طاعة الله- تعالى- فيما نهى عنه النبي- صلى الله عليه وسلم- عن النوح «وشد «1» الشعر» وتمزيق الثياب، أو تخلو مع غريب في حضر، ولا تسافر فوق ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ونحو ذلك. قالت هند: ما جلسنا في مجلسنا هذا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء فأقر النسوة بما أخذ عليهن النبي- صلى الله عليه وسلم-، فذلك قوله:
«فَبايِعْهُنَّ «2» » وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما كان في الشرك رَحِيمٌ- 12- فيما بقي.
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني اليهود نزلت فِي عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ، «ومالك «3» » بن «دخشم «4» » كانت اليهود زينوا لهم ترك الإسلام فكان أناس من فقراء المسلمين يخبرون اليهود عن أخبار المسلمين «ليتواصلوا» «5» بذلك «فيصيبون «6» » من ثمارهم وطعامهم، فنهى الله- عز وجل- عن ذلك، ثم قال: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ يعني اليهود كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ- 13- وذلك أن الكافر إذا دخل قبره أتاه ملك شديد الانتهار، فأجلسه ثم يسأله: من ربك؟ وما دينك؟ ومن رسولك؟
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وفى أ، ف: والشعر ولا يحمل إلا على معنى وإنشاد الشعر، أى أى المهيج للحزن لكن يبعده ما جاء بعد، من قوله: وتمزيق الثياب.
(2) «فبايعهنّ» : ليست فى أ.
(3) فى أ: «وملك» ، وفى ف: «ومالك» .
(4) فى أ: «جعشم» ، وفى ف: «دخشم» .
(5) كذا فى أ، ف، وهو تفاعل من الصلة. [.....]
(6) فى أ: «فيطبون» ، وفى ف: «فيصيبون» .

(4/307)


فيقول: لا أدرى. فيقول الملك: أيعدك الله، انظر يا عدو الله إلى منزلك من النار فينظر إليها، ويدعو بالويل. ويقول له الملك: هذا لك، يا عدو الله، فلو كنت آمنت [195 ب] بربك لدخلت الجنة. ثم فينظر إليها فيقول: لمن هذا؟
فيقول له الملك: هذا لمن آمن بالله. فيكون حسرة عليه، وينقطع رجاءه منها ويعلم عند ذلك أنه لاحظ له فيها، «وييأس «1» » من خير الجنة، فذلك قوله لكفار أهل الدنيا الأحياء منهم: قَدْ يَئِسُوا من نعيم الآخرة، بأنهم كذبوا بالثواب والعقاب وهم أيضا آيسون من الجنة كما أيس هذا الكافر من أصحاب القبور حين عاينوا منازلهم من النار فى الآخرة.
__________
(1) فى أ: «ويئس» .

(4/308)


سورة الصّفّ

(4/309)


[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)

(4/311)


[سورة الصف «1» ] سورة الصف مكية عددها «أربع عشرة «2» » آية «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
عتاب الذين يقولون أقوالا لا يعملون بمقتضاها، وتشريف صفوف الغزاة والمصلين، والتنبيه على جفاء بنى إسرائيل، وإظهار دين المصطفى على سائر الأديان وبيان التجارة الرابحة مع الرحيم الرحمن» والبشارة ينصر أهل الإيمان، على أهل الكفر والخذلان، وغلبة بنى إسرائيل على أعدائهم ذوى العدوان فى قوله: « ... فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ» سورة الصف: 14.
(2) فى أ: «أربعة وعشرون» ، والصواب: «أربع عشرة» .
(3) فى المصحف: (61) سورة الصف مدنية. وآياتها 4 نزلت بعد سورة التغابن.
وفى كتاب بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز الفيروزآبادى: السورة مكية بالاتفاق، وتسمى سورة الصف لقوله: « ... يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ... » : 4.

(4/313)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ يعني ذكر الله مَا فِي السَّماواتِ من الملائكة وَما فِي الْأَرْضِ من شيء من الخلق غير كفار الجن والإنس وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ- 1- في أمره يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ- 2-، ثم قال: كَبُرَ مَقْتاً «1» يعني عظم بغضا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ- 3- يعظهم بذلك، وذلك أن المؤمنين قالوا: لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ يعني في طاعته صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ- 4- يعني «ملتصق «2» » بعضه في بعض في الصف فأخبرهم الله بأحب الأعمال إليه بعد الإيمان فكرهوا القتال، فوعظهم الله وأدبهم فقال: «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ» نزلت هذه الآية في الأنصار في الأوس والخزرج منهم عبد الله بن رواحة وغيره. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ وهم مؤمنون، وهم الأسباط اثنا عشر سبطا يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي قالوا: إنه آدر نظيرها في الأحزاب قوله: « ... لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ... «3» » ،
__________
(1) فى أ، ف، ترتيب الآيات كالآتى 1، 2، 4، 3، وقد أعدت ترتيب الآيات كما وردت فى المصحف.
(2) «ملتصق» : وردت بالأصل بالزاي «ملتزق» .
(3) سورة الأحزاب: 69، وتمامها: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» .

(4/315)


ثم رجع إلى مخاطبة موسى فقال: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا يقول مالوا عن الحق وعدلوا عنه أَزاغَ اللَّهُ يعني أمال الله قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي إلى دينه من الضلالة الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ- 5- يعني العاصين وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ يعني الذي قبلي مِنَ التَّوْراةِ «وَمُبَشِّراً «1» » بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ بالسريانية فارقليطا فَلَمَّا جاءَهُمْ عيسى بِالْبَيِّناتِ يعني بالعجائب التي كان يصنعها قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ- 6- الذي يصنع عيسى سحر بين، قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ يقول فلا أحد أظلم منه يعني اليهود مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ حين زعموا أنه ساحر وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ يعني اليهود وَاللَّهُ لا يَهْدِي من الضلالة إلى دينه الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ- 7- يعني فى علمه، قوله: يُرِيدُونَ [196 أ] لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ يعني دين الله بِأَفْواهِهِمْ يعني بألسنتهم وهم اليهود والنصارى حين كتموا أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودينه في التوراة والإنجيل وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ يعني مظهر دينه وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ- 8- يعني اليهود والنصارى، ثم قال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا- صلى الله عليه وسلم- بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ يعني الإسلام لأن كل دين باطل غير دين الإسلام، يعني دين محمد- صلى الله عليه وسلم- لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ يعني الأديان كلها، ففعل- الله تعالى- ذلك وأظهر دين محمد- صلى الله عليه وسلم- على أهل كل دين، حين قتلهم وأذلهم فأدوا إليه الجزية مثل قوله:
__________
(1) فى أ: «ومبشركم» ، وفى حاشية أ، الآية «ومبشرا» .

(4/316)


« ... فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ «1» » وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ- 9- من العرب يعني كفار قريش، لما نزلت هذه الآية «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ «2» » قال بعضهم: يا رسول الله، فما لنا من الأجر إذا جاهدنا في سبيل الله، فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ- 10- يعني وجيع فقال المسلمون: والله، لو علمنا ما هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأولاد والأهلين فبين الله لهم ما هذه التجارة؟ يعني التوحيد-، قال: فأنزل الله تعالى:
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ يعني تصدقون بتوحيد بالله وَرَسُولِهِ محمد- صلى الله عليه وسلم- أنه نبى ورسول وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في طاعة الله بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ يعني الإيمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من غيره إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- 11- فإذا فعلتم ذلك يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً يعني حسنة في منازل الجنة فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وجنة عدن قصبة الجنان وهي أشرف الجنان ذلِكَ الثواب هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ- 12- «وَأُخْرى تُحِبُّونَها» «3» ولكم «سوى «4» » الجنة أيضا عدة فى الدنيا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ على عدوكم إذا جاهدتم وَفَتْحٌ قَرِيبٌ يعني ونصر عاجل في الدنيا وَبَشِّرِ بالنصر يا محمد الْمُؤْمِنِينَ- 13-
__________
(1) سورة الصف: 14.
(2) سورة الصف: 3.
(3) «وَأُخْرى تُحِبُّونَها» : ساقطة من أ.
(4) فى أ: «سوا» ، وفى حاشية أ: يحتمل أنها «سواء» يعني وسط. وهذه الحاشية خطأ، لأنها «سوى» بمعنى «غير» ، فالله يقول «وَأُخْرى تُحِبُّونَها» ، أى شيء آخر سوى دخول الجنة تحبونه- هو النصر.

(4/317)


في الدنيا، وبالجنة في الآخرة فحمد القوم ربهم حين بشرهم النبي- صلى الله عليه وسلم- بهذا، قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ يعني صيروا أنصار الله، يقول: من قاتل فى سهيل الله، يريد بقتاله أن تعلو كلمة الله، وهي لا إله إلا الله وأن يعبد الله لا يشرك به شيئا، فقد نصر الله- تعالى- يقول: انصروا محمدا- صلى الله عليه وسلم- كما نصر الحواريون عيسى بن مريم- عليه السلام- وكانوا أقل منكم، وذلك أن عيسى- عليه السلام- مر بهم وهم ببيت المقدس، وهم يقصرون الثياب، والحواريون بالنبطية مبيضو الثياب، فدعاهم إلى الله [196 ب] فأجابوه، فذلك قوله: «كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ «1» » مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ يقول مع الله، يقول من يمنعني من الله قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وهم الذين أجابوا عيسى- عليه السلام- فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بعيسى- عليه السلام- وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ ثم انقطع الكلام فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا يقول قوينا الذين آمنوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ- 14- بمحمد- صلى الله عليه وسلم- على أهل الأديان قوله: « ... فَلَمَّا جاءَهُمْ» عيسى «بِالْبَيِّناتِ «2» ... » يعني ما كان يخلق من الطين، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، قالت اليهود هذا الذي يصنع عيسى سحر مبين يعني بين.
__________
(1) «كما قال عيسى بن مريم للحواريين» : ساقط من أ. [.....]
(2) سورة الصف: 6.

(4/318)


سورة الجمعة

(4/319)


[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

(4/321)


[سورة الجمعة «1» ] سورة الجمعة مدنية عددها إحدى عشرة «2» آية كوفية «3»
__________
(1) «معظم مقصود السورة» :
بيان بعث المصطفى، وتعبير اليهود، والشكاية منهم وإلزام الحجة عليهم، والترغيب فى حضور الجمعة، والشكاية من قوم بإعراضهم عن الجمعة وتقوية القلوب بضمان الرزق لكل حي فى قوله:
« ... وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» سورة الجمعة: 11.
وتسمى سورة الجمعة- لقوله تعالى: -: «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» : 9.
(2) فى أ: «أحد عشر» وهو خطأ والصواب «إحدى عشرة» .
(3) فى المصحف: (62) سورة الجمعة مدنية وآياتها 11 نزلت بعد سورة الصف.

(4/323)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: يُسَبِّحُ لِلَّهِ يعني يذكر الله مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من شيء غير كفار الجن والإنس، ثم نعت الرب نفسه فقال: الْمَلِكِ الذي يملك كل شيء الْقُدُّوسِ الطاهر الْعَزِيزِ في ملكه الْحَكِيمِ- 1- في أمره هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ يعني العرب الذين لا يقرءون الكتاب ولا يكتبون بأيديهم رَسُولًا مِنْهُمْ فهو النبي- صلى الله عليه وسلم- يَتْلُوا عَلَيْهِمْ يعني يقرأ عليهم آياتِهِ يعني آيات القرآن وَيُزَكِّيهِمْ يعني ويصلحهم فيوحدونه وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يعني ولكي يعلمهم ما يتلو من القرآن وَالْحِكْمَةَ ومواعظ القرآن الحلال والحرام وَإِنْ يعني وقد كانُوا مِنْ قَبْلُ أن يبعث الله محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ- 2- يعني بين وهو الشرك وَآخَرِينَ مِنْهُمْ الباقين من هذه الأمة ممن بقي منهم لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ يعني بأوائلهم من أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ- 3- في أمره، ثم قال:
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يعني الإسلام يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يقول فضل الله الإسلام يعطيه من يشاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ بالإسلام الْعَظِيمِ- 4- يعني الفوز بالنجاة والإسلام مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ يعني اليهود تحملوا العمل بما في التوراة فقرءوها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها يقول لم يعملوا بما فيها كَمَثَلِ

(4/325)


الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً
يقول كمثل الحمار يحمل كتابا لا يدري ما فيه، كذلك اليهود حين لم يعملوا بما «1» فى التوراة، فضرب الله- تعالى- لهم مثلا فقال:
بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني القرآن وَاللَّهُ لا يَهْدِي إلى دينه من الضلالة الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ- 5- «في علمه «2» » ، قوله- تعالى- قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا [197 أ] وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كتب إلى يهود المدينة يدعوهم إلى دينه الإسلام، فكتب يهود المدينة إلى يهود خيبر أن محمدا يزعم أنه نبي، وأنه يدعونا وإياكم إلى دينه، فإن كنتم تريدون متابعته فاكتبوا إلينا ببيان ذلك، وإلا فأنتم ونحن على أمر واحد لا نؤمن بمحمد، ولا نتبعه، فغضبت يهود خيبر فكتبوا إلى يهود المدينة كتابا قبيحا، وكتبوا أن إبراهيم كان صديقا نبيا، وكان من بعد إبراهيم إسحاق صديقا نبيا، وكان من بعد إسحاق يعقوب صديقا نبيا، وولد يعقوب اثنا عشر، فولد لكل رجل منهم أمة من الناس، ثم كان من بعدهم موسى، ومن بعد موسى عزير، فكان موسى يقرأ التوراة من الألواح، وكان عزير يقرؤها ظاهرا، ولولا أنه كان ولدا لله ونبيه وصفيه لم يعطه ذلك، فنحن وأنتم من سبطه، وسبط من اتخذه الله خليلا، ومن سبط من كلمه الله تكليما، فنحن أحق بالنبوة والرسالة من محمد- صلى الله عليه وسلم- ومتى كان الأنبياء من «جزائر «3» » العرب؟ ما سمعنا بنبي قط كان من العرب إلا هذا الرجل الذي
__________
(1) فى أزيادة: «فيها كمثل الحمار يحمل أسفارا» .
(2) فى أ: «فى عمله» ، وفى ف: «فى علمه» .
(3) فى أ: «جزاير» .

(4/326)


تزعمون، على أنا نجد ذكره في التوراة فإن «تبعتموه «1» » صغركم ووضعكم. فنحن أبناء الله وأحباؤه فقال الله- تعالى- للنبي- صلى الله عليه وسلم- «قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا» لليهود إِنْ زَعَمْتُمْ يعني إذ زعمتم أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ فى الآخرة مِنْ دُونِ النَّاسِ وأحباؤه فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- 6- بأنكم أولياؤه وأحباؤه، وأن الله ليس بمعذبكم، ثم أخبر عنهم فقال: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من ذنوبهم وتكذيبهم بِاللَّه ورسوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ- 7- يعنى اليهود قُلْ لهم: يا محمد، إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ يعني تكرهونه فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لا محالة ثُمَّ تُرَدُّونَ في الآخرة إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني عالم كل غيب وشاهد كل نجوى فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- 8- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ يقول إذا نودي إلى الصلاة وال «من «2» » ها هنا صلة مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يعني إذا جلس الإمام على المنبر فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ يقول فامضوا إلى الصلاة المكتوبة وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ يعني الصلاة خَيْرٌ لَكُمْ من البيع والشراء إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- 9- فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ من يوم الجمعة فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ فهذه رخصة بعد النهى وأحل لهم ابتغاء الرزق بعد الصلاة، فمن شاء خرج إلى تجارة، ومن شاء لم يفعل، فذلك قوله: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يعنى الرزق وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً باللسان لَعَلَّكُمْ يعنى لكي تُفْلِحُونَ- 10- قوله: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً وذلك
أن العير كانت إذا قدمت المدينة
__________
(1) فى أ: «تبعتموه» ، وفى ف: «نفعتموه» .
(2) «من» فى قوله: «مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» يعنى أن لفظ «من» زائد.

(4/327)


استقبلوها بالطبل [197 ب] والتصفيق، فخرج الناس من المسجد غير «اثنى «1» » عشر رجلا وامرأة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- انظروا كم في المسجد؟
فقالوا: «اثنا «2» » عشر رجلا وامرأة: ثم جائت عير أخرى فخرجوا غير «اثنى «3» » عشر رجلا وامرأة، ثم أن دحية بن خليفة الكلبي من بني عامر بن عوف أقبل بتجارة من الشام قبل أن يسلم وكان يحمل معه من أنواع التجارة، وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والتصفيق، ووافق قدومه يوم الجمعة والنبي- صلى الله عليه وسلم- قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس، فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: انظروا كم بقي في المسجد؟ فقالوا: «اثنا «4» » عشر رجلا وامرأة.
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لولا هؤلاء لقد سومت لهم الحجارة. فأنزل الله- تعالى- «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً»
انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً على المنبر قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ يعني من الطبل والتصفيق وَمِنَ التِّجارَةِ التي جاء بها دحية وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ- 11- من غيره.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حدثنا هشيم قال: كان في الاثني عشر أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما-.
__________
(1) فى أ، ف: «اثنا» .
(2) فى أ، ف: «اثنى» .
(3) فى أ: «اثنا» ، وفى ف: «اثنى» .
(4) فى أ، ف: «اثنى» .

(4/328)