زاد المسير في علم التفسير

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

أبدعت. قال الخطابي: البديع، فعيل بمعنى: مفعل، ومعناه: أنه فطر الخلق مخترعاً له لا على مثال سبق. قوله تعالى: وَإِذا قَضى أَمْراً، قال ابن عباس: معنى القضاء: الإرادة. وقال مقاتل: إذا قضى أمراً في علمه، فإنما يقول له: كن فيكون. والجمهور على ضم نون فَيَكُونُ، بالرفع على القطع.
والمعنى: فهو يكون. وقرأ ابن عامر بنصب النون. قال مكيّ بن أبي طالب: النصب على الجواب ل «كن» ، وفيه بعد.
فصل: وقد استدل أصحابنا على قدم القرآن بقوله: كُنْ فقالوا: لو كانت «كن» مخلوقة لافتقرت إلى إيجادها بمثلها وتسلسل ذلك، والتّسلسل محال «1» . فان قيل: هذا خطاب لمعدوم فالجواب أنه خطاب تكوين يُظهر أثر القدرة، ويستحيل أن يكون المخاطب به موجوداً، لأنه بالخطاب كان، فامتنع وجوده قبله أو معه. ويحقق هذا أن ما سيكون متصوّر العلم فضاهى بذلك الموجود، فجاز خطابه لذلك.

[سورة البقرة (2) : آية 118]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ، فيهم ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: النصارى، قاله مجاهد. والثالث: مشركو العرب، قاله قتادة، والسدي عن أشياخه. ولَوْلا بمعنى: هلا.
وفي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله السدي عن أشياخه. والثالث: اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار، قاله قتادة «3» . تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، أي: في الكفر.
__________
(1) لأنه يؤدي إلى حوادث لا أول لها.
(2) قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره 1/ 560: وأولى هذه الأقوال بالصّحة والصواب قول القائل: إن الله عنى بقوله: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ النصارى دون غيرهم لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم، وعن افترائهم عليه، وادّعائهم له ولد. وقال ابن كثير رحمه الله 1/ 161: وفي ذلك نظر وحكى القرطبي لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي يخاطبنا بنبوتك يا محمد (قلت) وهو ظاهر السياق والله أعلم.
(3) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 161: وقال قتادة في تفسير هذه الآية: هذا قول كفار العرب كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ قال هم اليهود والنصارى ويؤيد القول وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب قوله تعالى:
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ. وقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا. وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا إلى غير ذلك من الآيات الدّالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به إنما هو الكفر والمعاندة كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. وقوله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ.

(1/105)


إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)

[سورة البقرة (2) : آية 119]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)
قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ. في سبب نزولها قولان:
(42) أحدهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال يوماً: «ليت شعري ما فعل أبواي!» ، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(43) والثاني: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا» فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
وفي المراد بِالْحَقِّ هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن، قاله ابن عباس. والثاني: الإسلام، قاله ابن كيسان. والثالث: الصّدق. قوله تعالى: وَلا تُسْئَلُ، قرأه الأكثرون بضم التاء، على الخبر، والمعنى: لست بمسؤول عن أعمالهم. وقرأ نافع ويعقوب بفتح التاء وسكون اللام، على السؤال عنهم. وجوز أبو الحسن الأخفش أن يكون معنى هذه القراءة: لا تسأل عنهم فإنهم في أمر عظيم، فيكون ذلك على وجه التعظيم لما هم فيه، فأما الجحيم فقال الفرّاء: النّار على النار والجمر على الجمر. وقال أبو عبيدة: الجحيم: النار المستحكمة المسلّطة. وقال الزجاج: الجحيم: النار الشديدة الوقود، وقد جحم فلان النار: إذا شدد وقودها، ويقال لعين الأسد: حجمة لشدة توقدها. ويقال لوقود الحرب، وهو شدة القتال فيها: جاحم. وقال ابن فارس: الجاحم: المكان الشديد الحر. قال الأعشى:
يُعدون للهيجاء قبل لقائها ... غداة احتضار البأس والموت جاحم
ولذلك سميت الجحيم. وقال ابن الأنباري: قال أحمد بن عبيد: إنما سميت النار جحيماً، لأنها أكثر وقودها، من قول العرب: جحمت النار أجحمها: إذا أكثرت لها الوقود. قال عمران بن حطان:
يرى طاعة الله الهدى وخلافه ... الضّلالة يصلي أهلها جاحم الجمر

[سورة البقرة (2) : آية 120]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)
قوله تعالى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى. في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(44) أحدها: أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلّي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى قبلتهم، فلمّا
__________
ضعيف. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 126 والطبري 1877 و 1878 كلاهما من حديث محمد بن كعب القرظي مرسلا. وذكره السيوطي في «الدر» 1/ 209 وزاد نسبته إلى وكيع وسفيان وعبد بن حميد وابن المنذر وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي ضعيف جدا كما في «التقريب» . وذكره العقيلي في «الضعفاء» وابن حبان في «المجروحين» وضعفه ابن كثير 1/ 162 والسيوطي في «الدر» وقال: هذا مرسل ضعيف الإسناد. وله شاهد آخر أخرجه الطبري 1879 مرسلا عن داود بن أبي عاصم. وذكره السيوطي في «الدر» وقال: والآخر معضل الإسناد ضعيف لا يقوم به ولا بالذي قبله حجة. وعزاه الواحدي في «أسباب النزول» 64 لابن عباس بدون إسناد فالمتن ضعيف.
ضعيف جدا، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 65 بلا سند عن مقاتل، فهو واه، وتقدم الكلام على مقاتل.
واه بمرة، أخرجه الثعلبي كما في «أسباب النزول» 59 للسيوطي. عن ابن عباس، ولم أقف على إسناده، وتفرد الثعلبي به دليل وهنه، فإنه يروي عن المتروكين والكذابين من غير تعمد، وإنما هو كحاطب ليل كما وصفه بذلك الإمام ابن تيمية في كتابه «مقدمة في أصول التفسير» .

(1/106)


الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

صرف إلى الكعبة يئسوا منه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم دعوه إلى دينهم، فنزلت، قاله مقاتل. والثالث: أنهم كانوا يسألونه الهدنة، ويطمعونه في أنه إن هادنهم وافقوه فنزلت، ذكر معناه الزجاج.
قال الزجاج: والملة في اللغة: السنة والطريقه «1» . قال ابن عباس: وهُدَى اللَّهِ هاهنا:
الإسلام. وفي الذي جاءه من العلم أربعة أقوال: أحدها: أنه التحول إلى الكعبة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه البيان بأن دين الله الإسلام. والثالث: أنه القرآن. والرابع: العلم بضلالة القوم. ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ينفعك وَلا نَصِيرٍ يمنعك من عقوبته.

[سورة البقرة (2) : الآيات 121 الى 124]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في الذين آمنوا من اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: في المؤمنين من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله عكرمة، وقتادة. وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله قتادة. والثاني: أنه التوراة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أي: يعملون به حق عمله، قاله مجاهد. قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ في هاء بِهِ قولان: أحدهما: أنها تعود على الكتاب. والثاني: على النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، والابتلاء: الاختبار. وفي إبراهيم ست لغات: أحدها: إِبراهيم، وهي اللغة الفاشية. والثانية: إبراهُم. والثالثة: ابراهَم. والرابعة: إِبراهِمْ، ذكرهن الفراء. والخامسة: إِبراهام. والسادسة: إِبرهم. قال عبد المطلب:
عذت بما عاذ به إِبرهم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
وقال أيضا:
نحن آل الله في كعبته ... لم يزل ذاك على عهد ابرهم
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 91: والملّة: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله: فكانت الملّة والشريعة سواء. فأما الدين فقد فرّق بينه وبين الملّة والشريعة، فإن الملّة والشريعة ما دعا الله عباده إلى فعله، والدّين ما فعله العباد عن أمره. تمسّك بهذه الآية جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة لقوله تعالى مِلَّتَهُمْ فوحّد الملّة وبقوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وبقوله عليه السّلام: «لا يتوارث أهل ملتين» على أن المراد به الإسلام والكفر بدليل قوله عليه السّلام: «لا يرث المسلم الكافر» . وذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن الكفر ملل فلا يرث اليهودي النصراني، ولا يرثان المجوسي، أخذا بظاهر قوله عليه السّلام: «لا يتوارث أهل ملتين» .

(1/107)


وفي الكلمات خمسة أقوال: أحدها: أنها خمس في الرأس، وخمس في الجسد. أما التي في الرأس، فالفرق، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك. وفي الجسد: تقليم الأظافر، وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستطابة بالماء، والختان، رواه طاوس عن ابن عباس. والثاني: أنها عشر ست في الإنسان، وأربع في المشاعر، فالتي في الإنسان: حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب، والسواك، والغسل من الجنابة، والغسل يوم الجمعة. والتي في المشاعر:
الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة. رواه حنش بن عبد الله عن ابن عباس. والثالث: أنها المناسك، رواه قتادة عن ابن عباس. والرابع: أنه ابتلاه بالكوكب، والشمس، والقمر، والهجرة، والنار، وذبح ولده، والختان، قاله الحسن. والخامس: أنها كل مسألة في القرآن، مثل قوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «1» ، ونحو ذلك، قاله مقاتل. فمن قال: هي أفعال فعلها قال: معنى فَأَتَمَّهُنَّ: عمل بهن. ومن قال: هي دعوات ومسائل قال: معنى فَأَتَمَّهُنَّ: أجابه الله إليهن. وقد روي عن أبي حنيفة أنه قرأ «2» «إبراهيم» برفع الميم «ربه» بنصب الباء، على معنى: اختبر ربه هل يستجيب دعاءه، ويتخذه خليلاً أم لا؟
قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، في الذرية قولان: أحدهما: أنها فعلية من الذر، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر. والثاني: أن أصلها ذرُّورة، على وزن: فعلولة، ولكن لما كثر التضعيف أبدل من الراء الأخيرة ياءً، فصارت: ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء، فصارت: ذرية، ذكرهما الزجاج، وصوب الأول. وفي العهد هاهنا سبعة أقوال: أحدها: أنه الإمامة «3» ، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير. والثاني: أنه الطاعة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: الرحمة، قاله عطاء وعكرمة. والرابع: الدين، قاله أبو العالية. والخامس: النبوة، قاله السدي عن أشياخه.
والسادس: الأمان، قاله أبو عبيدة. والسابع: الميثاق، قاله ابن قتيبة، والأول أصح. وفي المراد بالظالمين هاهنا قولان: أحدهما: أنهم الكفار، قاله ابن جبير، والسدي. والثاني: العصاة، قاله عطاء.
__________
(1) إبراهيم: 35.
(2) قال أبو العلاء الواسطي: إن الخزاعي وضع كتابا في الحروف نسبه إلى أبي حنيفة، فأخذت خط الدارقطني وجماعة أن الكتاب موضوع لا أصل له. قال ابن الجزري: وقد رأيت الكتاب المذكور، ومنه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ برفع الهاء ونصب الهمزة، وقد راج ذلك على أكثر المفسرين، ونسبها إليه، وتكلف توجيهها، وإن أبا حنيفة لبريء منها. انظر «النشر في القراآت العشر» لابن الجزري 1/ 16.
(3) فائدة: قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» 1/ 211: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وقرئ «الظالمون» ، أي من كان ظالما من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال من كان عادلا بريئا من الظلم وقالوا: في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة. وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته. ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدّم للصلاة. وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن عليّ رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة، كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل. فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماما قط. وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة. فإذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم.

(1/108)


وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

[سورة البقرة (2) : آية 125]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ، البيت هاهنا: الكعبة، والألف واللام تدخل للمعهود، أو للجنس، فلما علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس انصرف إلى المعهود، قال الزجاج:
والمثاب والمثابة واحد، كالمقام والمقامة، قال ابن قتيبة: والمثابة: المعاد، من قولك: ثبت إلى كذا، أي: عدت إليه، وثاب إليه جسمه إذا رجع بعد العلّة، فأراد: أن الناس يعودون إليه مرة بعد مرة. قوله تعالى: وَأَمْناً، قال ابن عباس: يريد أن من أحدث حدثاً في غيره، ثم لجأ إليه فهو آمن، ولكن ينبغي لأهل مكة أن لا يبايعوه، ولا يطعموه، ولا يسقوه، ولا يؤووه، ولا يكلم حتى يخرج، فاذا خرج أقيم عليه الحد «1» . قال القاضي أبو يعلى: وصف البيت بالأمن، والمراد جميع الحرم كما قال:
هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ، والمراد: الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة، ولا في المسجد الحرام، وهذا على طريق الحكم، لا على وجه الخبر فقط.
وفي مَقامِ إِبْراهِيمَ، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحرم كله، قاله ابن عباس. والثاني: عرفة والمزدلفة والجمار، قاله عطاء. وعن مجاهد كالقولين. وقد روي عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، قالوا: الحج كله مقام إبراهيم. والثالث: الحجر، قاله سعيد بن جبير، وهو الأصح.
(45) قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت.
وفي سبب وقوف إبراهيم على الحجر قولان: أحدهما: أنه جاء يطلب ابنه إسماعيل، فلم يجده، فقالت له زوجته: انزل، فأبى، فقالت: فدعني أغسل رأسك، فأتته بحجر فوضع رجله عليه، وهو راكب، فغسلت شقه، ثم رفعته وقد غابت رجله فيه، فوضعته تحت الشق الآخر وغسلته، فغابت رجله فيه، فجعله الله من شعاره، ذكره السدي عن ابن مسعود وابن عباس. والثاني: أنه قام على الحجر لبناء البيت، وإسماعيل يناوله الحجارة، قاله سعيد بن جبير.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 402 و 4483 و 4790 و 4916 ومسلم 2399 والترمذي 2959 و 2960 والنسائي في «التفسير» 18 وابن ماجة 1009 رووه عن أنس عن عمر قال: «وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذنا مقام إبراهيم مصلّى فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وآية الحجاب، قلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنّه يكلّمهن البرّ والفاجر، فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغيرة عليه فقلت لهن: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت هذه الآية» .
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 111: قوله تعالى وَأَمْناً استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحدّ في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً كأنه قال: أمنوا من دخل البيت. والصحيح إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت ويقتل خارج البيت. وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا؟. والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة. وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به. وقال أبو حنيفة: لا يقتل فيه ولا يتابع ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج.

(1/109)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

قرأ الجمهور، منهم: ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: وَاتَّخِذُوا بكسر الخاء على الأمر. وقرأ نافع، وابن عامر بفتح الخاء على الخبر.
(46) قال ابن زيد: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أين ترون أن أصلّي بكم» ؟ فقال عمر: إلى المقام، فنزلت:
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. قال: رضي الله ذلك من أعمالهم. وقال أبو علي: وجه فتح الخاء أنه معطوف على ما أُضيف إليه، كأنه قال: وإذ اتخذوا. ويؤكد الفتح في الخاء أن الذي بعده خبر، وهو قوله: وَعَهِدْنا.
قوله تعالى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ، أي: أمرناهما وأوصيناهما. وإِسماعيل: اسم أعجمي، وفيه لغتان: إسماعيل، و: إسماعين. وأنشدوا:
قال جواري الحي لما جينا ... هذا ورب البيت إسماعينا
قوله تعالى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ، قال قتادة: يريد من عبادة الأوثان والشرك، وقول الزور. فان قيل: لم يكن هناك بيت، فما معنى أمرهما بتطهيره؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه كانت هناك أصنام، فأمر بإخراجها، قاله عكرمة. والثاني: أن معناه: ابنياه مطهراً، قاله السدي. والعاكفون: المقيمون، يقال: عكف يعكف ويعكف عكوفاً: إذا أقام، ومنه: الاعتكاف.
(47) وقد روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «إِن الله تعالى يُنزل في كلّ ليلة ويوم عشرين ومائة رحمة تنزل على البيت: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين» .

[سورة البقرة (2) : آية 126]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً، البلد: صدر القرى، والبالد: المقيم بالبلد، والبلدة: الصدر، ووضعت الناقة بلدتها: إذا بركات. والمراد بالبلد هاهنا: مكة. ومعنى آمِناً: ذا أمنٍ. وأمن البلدة مجاز، والمراد: أمن من فيه. وفي المراد بهذا الأمن ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سأله
__________
منكر بهذا اللفظ. عزاه المصنف لابن زيد، وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو حديث معضل، وهو متروك الحديث إذا وصله فكيف إذا أرسله؟!. وهو بهذا اللفظ منكر، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان يسأل أصحابه أين يتوجه، بل الصحيح أن عمر كان يطلب منه التحول، ولم يوافقه حتى نزل القرآن.
ضعيف، أخرجه الطبراني في «الكبير» 11475 من طريق يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا. وإسناده ساقط، يوسف بن السفر، متروك متهم بالكذب. وقال الهيثمي في «المجمع» 3/ 292: يوسف متروك. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 6310 من طريق عبد الرحمن بن السفر قال حدثنا الأوزاعي به. وعبد الرحمن هذا لم أجد له ترجمة، وأخشى أن يكون قلب اسمه وأن الصواب يوسف بن السفر، وبكل حال، هو في حكم المجهول. وأخرجه الطبراني في «الكبير» 11248 من وجه آخر عن خالد بن يزيد العمري عن محمد بن عبد الله الليثي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس به. وإسناده ساقط، خالد كذاب، وشيخه متروك. وأخرجه ابن عدي 6/ 278 والخطيب 6/ 27. من وجه آخر عن محمد بن صفوان عن ابن جريج عن عطاء به. وإسناده واه، ابن جريج مدلس، وقد عنعن، وابن صفوان مجهول، وعنه محمد بن معاوية، وهو متروك.

(1/110)


وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

الأمن من القتل. والثاني: من الخسف والقذف. والثالث: من القحط والجدب. قال مجاهد: قال إبراهيم: لمن آمن، فقال الله عزّ وجلّ: ومن كفر فسأرزقه.
قوله تعالى: فَأُمَتِّعُهُ، وقرأ ابن عامر: «فأمتعه» بالتخفيف، من أمتعت. وقرأ الباقون بالتشديد من: مَتَّعت. والإمتاع: إعطاء ما تحصل به المتعة. والمتعة: أخذ الحظ من لذة ما يشتهي. وبماذا يمتعه؟ فيه قولان: أحدهما: بالأمن. والثاني: بالرزق. والاضطرار: الإلجاء إلى الشّيء، والمصير: ما ينتهي إليه الأمر.

[سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 129]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ. القواعد: أساس البيت، واحدها:
قاعدة. فأما قواعد النساء فواحدتها: قاعد، وهي العجوز. رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا، أي: يقولان: ربنا، فحذف ذلك كقوله: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ «1» ، أراد: يقولون. والسَّمِيعُ بمعنى: السامع، لكنه: أبلغ، لأن بناء فعيل للمبالغة. قال الخطابي: ويكون السماع بمعنى القبول والإجابة. كقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
(48) «أعوذ بك من دعاء لا يسمع» ، أي: لا يستجاب. وقول المصلي: سمع الله لمن حمده، أي: قبل الله حمد من حمده. وأنشدوا:
دَعَوْتُ الله حتَّى خِفْتُ أنْ لاَ ... يَكُوْنَ الله يسمع ما أقول
(إشارة إلى بناء البيت) (49) روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «كانت الملائكة تحج إِلى البيت قبل آدم» .
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2722 عن زيد بن أرقم، قال: لا أقول لكم إلّا كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول كان يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها. اللهمّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها» . وله شاهد أخرجه أبو داود 1549 وابن أبي شيبة 10/ 187، 188 وأحمد 3/ 255- 3/ 192 والطيالسي 1/ 258 وابن حبان 1051 وأبو يعلى 2845 عن أنس. وورد من وجه آخر عند أحمد 3/ 283 والنسائي 8/ 283 و 284 عن أنس. وله شاهد أخرجه ابن ماجة 250 وصححه الحاكم 1/ 104 ووافقه الذهبي وأبو يعلى 6537 عن أبي هريرة.
باطل. أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» 3986 عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان موضع البيت في زمن آدم عليه السّلام شبرا أو أكثر علما فكانت الملائكة تحج إليه قبل آدم ثم حجّ آدم فاستقبلته الملائكة قالوا: يا آدم من أين جئت؟ قال: حججت البيت، فقالوا: قد حجته الملائكة قبلك» وإسناده ساقط وعلته سعيد بن ميسرة، وهو متروك متهم، وكذبه القطان، وقال الحاكم: روى عن أنس موضوعات وقال ابن حبان:
يروي الموضوعات، انظر «الميزان» 2/ 160.
__________
(1) الرعد: 23- 24.

(1/111)


وقال ابن عباس: لما أهبط آدم قال الله تعالى له: يا آدم! اذهب فابن لي بيتاً فطف به، واذكرني حوله كما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي. فأقبل يسعى حتى انتهى إلى البيت الحرام، وبناه من خمسة أجبل: من لبنان، وطور سيناء، وطور زيتا، والجودي، وحراء، فكان آدم أول من أسس البيت، وطاف به، ولم يزل كذلك حتى بعث الله الطوفان، فدرس موضع البيت، فبعث الله إبراهيم وإسماعيل. وقال علي بن أبي طالب، عليه السلام: لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت ضاق به ذرعاً، ولم يدر كيف يصنع، فأنزل الله عليه كهيئة السحابة، فيها رأس يتكلم، فقال: يا إبراهيم! علّم على ظلي، فلمّا علّم ارتفعت. وفي رواية عنه أنه كان يبني عليها كل يوم، قال: وحفر إبراهيم من تحت السكينة، فأبدى عن قواعد، ما تحرك القاعدة منها دون ثلاثين رجلاً. فلما بلغ موضع الحجر، قال لإسماعيل: التمس لي حجراً فذهب يطلب حجراً، فجاء جبريل بالحجر الأسود، فوضعه، قال: من جاءك بهذا الحجر؟ قال: جاء به من لم يتكل على بنائي وبنائك. وقال ابن عباس، وابن المسيب، وأبو العالية: رفعا القواعد التي كانت قواعد قبل ذلك. وقال السّدّيّ: لمّا أمره ببناء البيت لم يدر أين يبني، فبعث الله ريحاً، فكنست حول الكعبة عن الأساس الأول الذي كان البيت عليه قبل الطوفان.
قوله تعالى: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، قال الزجاج: المسلم في اللغة: الذي قد استسلم لأمر الله، وخضع. والمناسك: المتعبدات. فكل متعبد منسَك ومنسِك. ومنه قيل للعابد: ناسك.
وتسمى الذبيحة المتقرّب بها إلى الله تعالى: النسيكة. وكأن الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة لله تعالى.
قوله تعالى: وَأَرِنا مَناسِكَنا، أي: مذابحنا، قاله مجاهد. وقال غيره: هي جميع أفعال الحج.
وقرأ ابن كثير: «وأرنا» بجزم الراء. و «رب أرني» و «أرنا اللذين أضلانا» . وقرأ نافع، وحمزة، والكسائيّ وَأَرِنا بكسر الراء في جميع ذلك. وقرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر كذلك، إلا أنهما أسكنا الراء من «أرنا اللذين» وحدها. قال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون: «أرنا أذين أضلانا» وكثير من العرب يجزم الراء، فيقول: «أرنا مناسكنا» ، وقرأ بها بعض الثقات. وأنشد بعضهم:
قالت سليمى اشتر لنا دقيقاً ... واشترْ فعجل خادماً لبيقاً
وأنشدني الكسائي:
ومن يتقْ فان الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغادي «1»
قال قتادة: أراهما الله مناسكهما: الموقف بعرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، والطواف، والسعي. وقال أبو مجلز: لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل، فأراه الطواف، ثم أتى به جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبعاً، وقال له: ارم
__________
(1) في «اللسان» المآب: المرجع، وأتاب مثل آب، فعل وافتعل بمعنى. [.....]

(1/112)


وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به الجمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فقال له: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به الجمرة القصوى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات. فقال له: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان، ثم أتى به منى، فقال: هاهنا يحلق الناس رؤوسهم، ثم أتى به جمعاً، فقال: هاهنا يجمع الناس، ثم أتى به عرفة، فقال: أعرفت؟ قال: نعم. قال: فمن ثم سميت عرفات.
قوله تعالى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، في الهاء والميم من فِيهِمْ قولان:
أحدهما: أنها تعود على الذرية، قاله مقاتل والفراء.
والثاني: على أهل مكة في قوله: وَارْزُقْ أَهْلَهُ، والمراد بالرّسول: محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
(50) وقد روى أبو أمامة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قيل: يا رسول الله! ما كان بدء أمرك؟ قال: «دعوة أبي إِبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أُمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» .
والكتاب: القرآن. والحكمة: السنة، قاله ابن عباس. وروي عنه: الحكمة: الفقه والحلال والحرام، ومواعظ القرآن. وسميت الحكمة حكمة، لأنها تمنع من الجهل.
وفي قوله تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ، ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: يأخذ الزكاه منهم فيطهرهم بها، قاله ابن عباس والفراء. والثاني: يطهرهم من الشرك والكفر، قاله مقاتل. والثالث: يدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء. قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ، قال الخطابي: العز في كلام العرب على ثلاث أوجه: أحدها: بمعنى الغلبة، يقولون: من عزّ بزّ، أي: من غلب سلب، يقال منه: عزَّ يعُزُّ، بضم العين من يعز، ومنه قوله تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «1» . والثاني: بمعنى الشدة والقوة، يقال منه: عز يعَزُّ، بفتح العين من يعز. والثالث: أن يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه: عز يعزّ، بكسر العين من يعزّ، ويتأول معنى العزيز على أنه الذي لا يعادله شيء، ولا مثل له.
__________
حسن صحيح. أخرجه الطيالسي 1140 وأحمد 5/ 262، وابن سعد 1/ 102 والطبراني 7729 والبيهقي في «الدلائل» 1/ 84 وإسناده ضعيف لضعف فرج بن فضالة، والسياق لأحمد، وقال الهيثمي في «المجمع» 8/ 222: إسناد أحمد حسن. وله شاهد أخرجه أحمد 4/ 127- 128 والبخاري في «التاريخ الكبير» 6/ 68 وابن حبان 6404 وابن أبي عاصم في «السنة» 409 والبيهقي في «الدلائل» 1/ 80 و 2/ 30 عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرفوعا، وإسناده حسن في الشواهد لأجل سعيد بن سويد. وصححه الحاكم 2/ 600 ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبّان.
وورد عن خالد بن معدان عن نفر من الصحابة مرفوعا أخرجه الحاكم 2/ 600 والطبري 2075 والبيهقي في «الدلائل» 1/ 83 وإسناده قوي كما قال الحافظ ابن كثير في «البداية» 2/ 275 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن في أقل تقدير بل هو صحيح والله أعلم، وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 710 بتخريجنا.
__________
(1) ص: 23.

(1/113)


وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

[سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 132]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ. سبب نزولها: أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه مهاجراً وسلمة إلى الإسلام، فأسلم سلمة، ورغب عن الإسلام مهاجر، فنزلت هذه الآية «1» ، قاله مقاتل. قال الزجاج: و «من» لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التقرير والتوبيخ. والمعنى: ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه. ويقال: رغبت في الشيء: إذا أردته. ورغبت عنه: إذا تركته. وملة إبراهيم: دينه.
قوله تعالى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنّ معناها: إلا من سفّه نفسه، قاله الأخفش ويونس. قال يونس: ولذلك تعدّى إلى النّفي فنصبها، وقال الأخفش: نصبت النفس لإسقاط حرف الجر، لأن المعنى: إلا من سفه في نفسه. قال الشاعر:
نُغالي اللحمَ للأضيافِ نِيئاً ... ونُرخِصُه إذا نضج القدور
والثاني: إلا من أهلك نفسه، قاله أبو عبيدة. والثالث: إلا من سفهتْ نفسُه، كما يقال: غبن فلان رأيه، وهذا مذهب الفراء وابن قتيبة. قال الفراء: نقل الفعل عن النفس إلى ضمير «من» ، ونصبت النفس على التشبيه بالتفسير، كما يقال: ضقت بالأمر ذرعاً، يريدون: ضاق ذرعي به، ومثله:
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «2» . والرابع: إلا من جهل نفسه، فلم يفكر فيها، وهو اختيار الزجاج.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، قال ابن الأنباري: لمن الصالحي الحال عند الله تعالى. وقال الزجاج: الصالح في الآخرة: الفائز.
قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، وذلك حين وقوع الاصطفاء، قال ابن عباس: لما رأى الكوكب والقمر والشمس، قال له ربه: أسلم، أي: أخلص. قوله تعالى: وَوَصَّى، قرأ ابن عامر وأهل المدينة: «وأوصى» بألف، مع تخفيف الصاد، والباقون بغير ألف مشددة الصاد، وهذا لاختلاف المصاحف. أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا ثابت، قال: أخبرنا ابن قشيش، قال: أخبرنا ابن حيَّويه، قال: حدثنا ابن الأنباري، قال: أخبرنا ثعلب، قال: أملى عليَّ خلف بن هشام البزّاز، قال: اختلف مصحفا أهل المدينة وأهل العراق في اثني عشر حرفاً:
كتب أهل المدينة: «وأوصى» ، وأهل العراق: «ووصّى» .
وكتب أهل المدينة: «سارعوا إلى مغفرة» بغير واو، وأهل العراق: «وسارعوا» «3» .
وكتب أهل المدينة: «يقول الذين آمنوا» ، وأهل العراق: «ويقول» «4» .
__________
(1) عزاه المصنف لمقاتل، وهذا معضل، ومقاتل متهم. وذكره السيوطي في «أسباب النزول» 63 بقوله قال ابن عيينة: وروى بمثله، ولم أره مسندا. الخلاصة: هو أثر واه بمرة، والمتن منكر، والصواب عموم الآية.
(2) مريم: 4.
(3) آل عمران: 133.
(4) المائدة: 53.

(1/114)


أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

وكتب أهل المدينة: «من يرتدد» ، وأهل العراق: «من يرتدَّ» «1» .
وكتب أهل المدينة: «الذين اتّخذوا مسجدا» ، وأهل العراق: «والذين» «2» .
وكتب أهل المدينة: «خيراً منهما منقلبا» ، وأهل العراق: «منها» «3» .
وكتب أهل المدينة: «فتوكل على العزيز» ، وأهل العراق: «وتوكل» «4» .
وكتب أهل المدينة: «وأن يظهر في الأرض الفساد» ، وأهل العراق: «أو أن يظهر» «5» .
وكتب أهل المدينة في «حم عسق» : «بما كسبت أيديكم» بغير فاء، وأهل العراق: «فبما» «6» .
وكتب أهل المدينة: «ما تشتهيه الأنفس» «7» بالهاء، وأهل العراق: «ما تشتهي» .
وكتب أهل المدينة: «فان الله الغني الحميد» في سورة الحديد، وأهل العراق: «فإن الله هو الغني» «8» . وكتب أهل المدينة: «فلا يخاف عقباها» بالفاء، وأهل العراق: «ولا يخاف» «9» .
ووصّى أبلغ من أوصى، لأنها تكون لمرات كثيرة، وهاء «بها» تعود على الملّة، قاله عكرمة والزجاج. قال مقاتل: وبنوه أربعة: إسماعيل، وإسحاق، ومدين، ومدائن. وذكر غير مقاتل أنهم ثمانية. قوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، يريد: الزموا الإسلام، فاذا أدرككم الموت صادفكم عليه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 133 الى 134]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)
قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ.
(51) سبب نزولها: أن اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه يوم مات باليهودية؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، أي: مضت، يشير إلى إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 135 الى 136]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم، صنف تفسيرا وضع فيه أحاديث كثيرة، وقد نقل عنه المفسرون فيما بعد. وذكره البغوي في «تفسيره» 1/ 118 بقوله: قيل. فالخبر لا شيء.
__________
(1) المائدة: 54.
(2) التوبة: 107.
(3) الكهف: 36.
(4) الشعراء: 217.
(5) المؤمن: 26.
(6) الشورى: 30.
(7) الزخرف: 71.
(8) الحديد: 24.
(9) الشمس: 15. [.....]

(1/115)


فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

قوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى. معناه: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى، تهتدوا. بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، المعنى: بل نتبع ملة إبراهيم في حال حنيفيته، وفي الحنيف قولان: أحدهما: أنه المائل إلى العبادة، قال الزجاج: الحنيف في اللغة: المائل إلى الشيء، أُخذ من قولهم: رجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها.
قالت أُم الأحنف ترقصه «1» :
والله لولا حَنَفٌ برجله ... ودِقة في ساقه من هزله
ما كان في فتيانكم من مثله والثاني: أنه المستقيم، ومنه قيل للأعرج: حنيف، نظراً له إلى السلامة، هذا قول ابن قتيبة. وقد وصف المفسرون الحنيف بأوصاف، فقال عطاء: هو المخلص، وقال ابن السائب: هو الذي يحج.
وقال غيرهما: هو الذي يوحّد ويحج، ويضحي ويختتن، ويستقبل الكعبة.
فأمّا الأسباط: فهم بنو يعقوب، وكانوا اثني عشر رجلاً، قال الزجاج: السبط في اللغة: الجماعة الذين يرجعون إلى ربّ واحد. والسّبط في اللغة: الشّجرة، فالسّبط: الذين هم من شجرة واحدة.

[سورة البقرة (2) : آية 137]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
قوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا، يعني: أهل الكتاب. وفي قوله تعالى: بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: مثل إيمانكم، فزيدت الباء للتوكيد، كما زيدت في قوله: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ «2» ، قاله ابن الأنباري. والثاني: أن المراد بالمثل هاهنا: الكتاب، وتقديره: فان آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم، قاله أبو معاذ النحوي. والثالث: أن المثل هاهنا: صلة، والمعنى: فان آمنوا بما آمنتم به. ومثله قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «3» ، أي: ليس كهو شيء. وأنشدوا:
يا عاذلي دعنيَ من عذلكا ... مثليَ لا يقبل من مثلكا
أي: أنا لا أقبل منك. فأما الشقاق فهو المشاقة والعداوة، ومنه قولهم: فلان قد شق عصا المسلمين، يريدون: فارق ما اجتمعوا عليه من اتباع إمامهم، فكأنه صار في شق غير شقهم.
قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، هذا ضمان لنصر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

[سورة البقرة (2) : آية 138]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)
قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ. سبب نزولها: أن النصارى كانوا إذا ولد لأحدهم ولد، فأتى عليه سبعة أيام، صبغوه في ماء لهم، يقال له: المعمودية، ليطهروه بذلك، ويقولون: هذا طهور مكان
__________
(1) في اللسان: أرقصت الأم صبيها ورقّصته: نزّته. والمنزّ: المهد، مهد الصبي.
(2) مريم: 24.
(3) الشورى: 11.

(1/116)


قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)

الختان، فاذا فعلوا ذلك قالوا: صار نصرانياً حقاً، فنزلت هذه الآية «1» ، قاله ابن عباس.
قال ابن مسعود وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والنخعي، وابن زيد: صِبْغَةَ اللَّهِ: دينه.
قال الفرّاء: صِبْغَةَ اللَّهِ مردودة على الملة «2» . وقرأ ابن عبلة: «صبغةُ الله» بالرفع على معنى: هذه صبغة الله. وكذلك قرأ: «ملةُ إِبراهيم» بالرفع أيضاً على معنى: هذه ملة إبراهيم.
قال ابن قتيبة: المراد بصبغة الله: الختان، فسماه صبغة، لأن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء ويقولون: هذا طهرة لهم، كالختان للحنفاء، فقال الله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ، أي: الزموا صبغة الله، لا صبغة النصارى أولادهم، وأراد بها ملة ابراهيم، وقال غيره: إنما سمي الدين صبغة لبيان أثره على الإنسان، كظهور الصبغ على الثّوب.

[سورة البقرة (2) : آية 139]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
قوله تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ، قال ابن عباس: يريد: يهود المدينة، ونصارى نجران.
والمحاجة: المخاصمة في الدين، فان اليهود قالت: نحن أهل الكتاب الأول. وقيل: ظاهرت اليهود عبدة الأوثان، فقيل لهم: تزعمون أنكم موحدون، ونحن نوحد، فلم ظاهرتم من لا يوحد؟! قوله تعالى: وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، قال أكثر المفسرين: هذا الكلام اقتضى نوع مساهلة، ثم نسخ بآية السّيف.

[سورة البقرة (2) : الآيات 140 الى 141]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)
قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ.. الآية. سبب نزولها: أن يهود المدينة، ونصارى نجران قالوا للمؤمنين: إن أنبياءَ الله كانوا منا من بني إسرائيل، وكانوا على ديننا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «3» . ومعنى الآية: إن الله قد أعلمنا بدين الأنبياء، ولا أحد أعلم به منه. قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو «أَم يقولون» بالياء على وجه الخبر عن اليهود. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: تَقُولُونَ بالتاء لأنّ ما قبلها مخاطبة، وهي أَتُحَاجُّونَنا، وبعدها قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ.
وفي الشهادة التي كتموها قولان: أحدهما: أن الله تعالى شهد عندهم بشهادة لإبراهيم ومن ذكر معه أنهم كانوا مسلمين، فكتموها، قاله الحسن، وزيد بن أسلم. والثاني: أنهم كتموا الإسلام وأمر محمد وهم يعلمون أنه نبيّ ودينه الإسلام، قاله أبو العالية، وقتادة.
__________
(1) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» عن ابن عباس بدون إسناد، فهو لا شيء. وأخرجه الطبري 2118 عن قتادة.
(2) أي بدل منها.
(3) عزاه لمقاتل وهو متروك متهم كما تقدم، فهذا السبب ليس بشيء.

(1/117)


سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

[سورة البقرة (2) : آية 142]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله البراء بن عازب، ومجاهد، وسعيد بن جبير. والثاني: أنهم أهل مكة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث:
أنهم المنافقون، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس. وقد يمكن أن يكون الكل قالوا ذلك، والآية نزلت بعد تحويل القبلة. والسفهاء: الجهلة. ما ولاهم، أي: صرفهم عن قبلتهم، يريد: قبلة المقدس.
واختلف العلماء في مدّة صلاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس، بعد قدومه المدينة على ستة أقوال:
(52) أحدها: أنه ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر، قاله البراء بن عازب.
والثاني: سبعة عشر شهراً، قاله ابن عباس. والثالث: ثلاثة عشر شهراً، قاله معاذ بن جبل.
والرابع: تسعة أشهر، قاله أنس بن مالك. والخامس: ستة عشر شهراً. والسادس: ثمانية عشر شهراً، روي القولان عن قتادة.
وهل كان استقباله بيت المقدس برأيه، أو عن وحي؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه كان بأمر الله تعالى ووحيه، قاله ابن عباس «1» ، وابن جريج.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4486 و 7252 ومسلم 525 والترمذي 340 وأحمد 4/ 283 وابن ماجة 1010 وابن حبان 1716 عن البراء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا- أو سبعة عشر شهرا- وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلّى صلاة العصر وصلّى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلّى معه فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون قال: أشهد بالله لقد صلّيت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل مكّة، فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. واللفظ للبخاري.
- وقال الحافظ في «الفتح» 1/ 96- 97 تعليقا على قوله في الحديث «ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا» :
رواه أبو عوانة في صحيحه عن عمّار بن رجاء وغيره عن أبي نعيم فقال «ستة عشر» من غير شك وكذا لمسلم وللنسائي ولأحمد بسند صحيح عن ابن عباس. وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف «سبعة عشر» وكذا للطبراني عن ابن عباس. والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس. وقال ابن حبان «سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام» وهو مبني على القدوم الذي كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول. ومن الشذوذ رواية «ثمانية عشر شهرا» وثلاثة عشر شهرا ورواية تسعة أشهر أو عشرة أشهر ورواية شهرين ورواية سنتين، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب. وأسانيد الجميع ضعيفة. والاعتماد على القول الأول.
__________
(1) هذا الراجح، فقد أخرج أحمد 2252 والبزار كما في «المجمع» 1967 كلاهما عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي وهو بمكة نحو البيت المقدس والكعبة بين يديه، وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا، ثم صرف إلى الكعبة» سكت عليه الحافظ في «تخريجه» 1/ 200 وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح اه. وله شواهد كثيرة.

(1/118)


وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)

والثاني: أنه كان باجتهاده ورأيه، قاله الحسن وأبو العالية، وعكرمة، والربيع.
وقال قتادة: كان الناس يتوجهون إلى أي جهة شاؤوا، بقوله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. ثم أمرهم باستقبال بيت المقدس. وفي سبب اختياره بيت المقدس قولان: أحدهما: ليتألف أهل الكتاب، ذكره بعض المفسرين. والثاني: لامتحان العرب بغير ما ألفوه، قاله الزّجّاج.

[سورة البقرة (2) : آية 143]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. سبب نزولها: أن اليهود قالوا: قبلتنا قبلة الأنبياء، ونحن عدلٌ بين الناس، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. والأمة: الجماعة. والوسط: العدل، قاله ابن عباس، وأبو سعيد، ومجاهد، وقتادة، وقال ابن قتيبة: الوسط: العدل الخيار، ومنه قوله تعالى: قالَ أَوْسَطُهُمْ «1» ، أي: أعدلهم وخيرهم. قال الشاعر:
همُ وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إِذا نزلت إِحدى الليالي بِمُعْظَم
وأصل ذلك أن خير الأشياء أوساطها، والغلو والتقصير مذمومان. وذكر ابن جرير الطبري أنه من التوسط في الفعل، فان المسلمين لم يقصروا في دينهم كاليهود، فإنهم قتلوا الأنبياء، وبدلوا كتاب الله، ولم يغلوا كالنصارى، فانهم زعموا أن عيسى ابن الله. وقال أبو سليمان الدمشقي: في هذا الكلام محذوف، ومعناه: جعلت قبلتكم وسطاً بين القبلتين، فان اليهود يصلّون نحو المغرب، والنصارى نحو المشرق، وأنتم بينهما.
قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: لتشهدوا للأنبياء على أممهم.
__________
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل. ويجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه أكثر من ذلك، فيقال لهم: أبلّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال للنبي: أبلّغتهم؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك؟ قال: محمد وأمته فيشهدون أن الرسل قد بلّغوا فيقال: ما علمكم؟ فيقولون: أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلّغوا، فصدقناه، فذلك قوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» ، وهذا مذهب عكرمة، وقتادة. والثاني: أن معناه: لتكونوا شهداء لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم على الأمم: اليهود والنصارى والمجوس، قاله مجاهد.
صحيح. أخرجه البخاري 3339 و 4487 و 7349 والترمذي 2961 وبإثر حديث 2965 والنسائي في «الكبرى» 11006 و 11007 وابن ماجة 5284 والطبري 2165 و 2166 وابن حبان 7216 و 6477 وأحمد 3/ 9 و 58 مختصرا ومطوّلا، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري. وصدره عند البخاري وغيره «يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك ... » .
__________
(1) القلم: 28.

(1/119)


قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

قوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، يعني: محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، وبماذا يشهد عليهم؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بأعمالهم، قاله ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وابن زيد. والثاني: بتبليغهم الرسالة، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: بإيمانهم، قاله أبو العالية. فيكون على هذا «عليكم» بمعنى: لكم. قال عكرمة: لا يسأل عن هذه الأمة إلا نبيها.
قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها، يريد: قبلة بيت المقدس. إِلَّا لِنَعْلَمَ فيه أربعة أقوال: أحدها: لنرى. والثاني: لنميز. رُويا عن ابن عباس. والثالث: لنعلمه واقعاً، إذ علمه قديم، قاله جماعة من أهل التفسير وهو يرجع إلى قول ابن عباس: «لنرى» . والرابع: أن العلم راجع إلى المخاطبين، والمعنى: لتعلموا أنتم، قاله الفراء.
قوله تعالى: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، أي: يرجع إِلى الكفر، قاله ابن زيد، ومقاتل.
قوله تعالى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً، في المشار إِليها قولان:
أحدهما: أنه التولية إلى الكعبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: أنها قبلة بيت المقدس قبل التحول عنها، قاله أبو العالية، والزجاج.
قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، نزل على سبب:
(54) وهو أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، أرأيت إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
والإيمان المذكور هاهنا أريد به: الصلاة في قول الجماعة. وقيل: إنما سمى الصلاة إيماناً، لاشتمالها على قول ونية وعمل. قال الفراء: وإنما أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى:
فيمن مات من المسلمين قبل أن تحول القبلة لأنهم داخلون معهم في الملة. قوله تعالى: لَرَؤُفٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «لرؤوف» على وزن: لرعوف، في جميع القرآن، ووجهها: أن فعولاً أكثر في كلامهم من فعل، فباب ضروب وشكور، أوسع من باب حذر ويقظ. وقرأ أبو عمرو وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم: «لرؤف» على وزن: رَعُفٍ، ويقال: هو الغالب على أهل الحجاز. قال جرير:
ترى للمسلمين عليك حقاً ... كفعل الوالد الرَّؤُف الرحيم
والرؤوف بمعنى: الرحيم، هذا قول الزجاج، وذكر الخطابي عن بعض أهل العلم أن الرأفة أبلغ الرحمة وأرقُها. قال: ويقال: الرأفة أخص، والرحمة أعم.

[سورة البقرة (2) : آية 144]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
__________
صحيح. أخرجه أبو داود 4680 والترمذي 2964. وأحمد 1/ 95- 304 والطيالسي 2673 وابن حبان 1718 والحاكم 2/ 269 من حديث ابن عباس وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وفي سماك بن حرب كلام، لكن توبع عليه، حيث ورد معناه من حديث البراء المتقدم برقم 52.

(1/120)


وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ. سبب نزولها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يحب أن يوجه إلى الكعبة، قاله البراء «1» ، وابن عباس، وابن المسيب، وأبو العالية، وقتادة.
وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. واختلفوا في سبب اختيار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الكعبة على بيت المقدس على قولين: أحدهما: لأنّها كانت قبلة إبراهيم، روي عن ابن عباس. والثاني: لمخالفة اليهود، قاله مجاهد.
ومعنى تقلب وجهه: نظره إليها يميناً وشمالاً. و (في) بمعنى إلى، وتَرْضاها بمعنى: تحبها.
و (الشطر) : النحو من غير خلاف.
(55) قال ابن عمر: أتى الناس آت وهم في صلاة الصبح بقباء، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وأمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا وهم في صلاتهم.
فصل: اختلف العلماء أي وقت حولت القبلة؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها حولت في صلاة الظهر يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، قاله البراء بن عازب «2» ، ومعقل بن يسار. والثاني: أنها حولت يوم الثلاثاء للنصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدمه المدينة، قاله قتادة. والثالث: جمادى الآخرة، حكاه ابن سلامة المفسر عن إبراهيم الحربي.
وفي الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قولان: أحدهما: اليهود، قاله مقاتل. والثاني: اليهود والنصارى، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ يشير إلى ما أُمر به من التوجه إلى الكعبة، ثم توعدهم بباقي الآية على كتمانهم ما علموا. ومن أين علموا أنه الحق؟ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن في كتابهم الأمر بالتوجه إليها، قاله أبو العالية. والثاني: يعلمون أن المسجد الحرام قبلة إبراهيم.
والثالث: أن في كتابهم أن محمداً رسول صادق، فلا يأمر إلا بحق. والرابع: أنهم يعلمون جواز النّسخ.

[سورة البقرة (2) : آية 145]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قوله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ. سبب نزولها أن يهود المدينة ونصارى
__________
صحيح. أخرجه البخاري 403 و 4491 و 9494 و 7251 ومسلم 526 والنسائي 493 وأحمد 2/ 16- 26- 105- 113 والدارمي 1/ 281 ومالك 1/ 195 والشافعي في «مسنده» 191 وابن أبي شيبة 1/ 335 والترمذي 341 مختصرا وأبو عوانة 1/ 394 وابن حبان 1715 والبيهقي 2/ 2- 11 والبغوي في «شرح السنة» 445 وفي «تفسيره» 100 من طرق من حديث ابن عمر.
__________
(1) تقدّم برقم 52.
(2) تقدّم برقم 52.

(1/121)


الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

نجران قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «1» .
قوله تعالى: ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ، يريد: الكعبة وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لأن اليهود يصلون قبل المغرب إلى بيت المقدس، والنصارى قبل المشرق وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فصليت إلى قبلتهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، قال مقاتل: يريد بالعلم: البيان.

[سورة البقرة (2) : آية 146]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ. في هاء «يعرفونه» قولان: أحدهما: أنها تعود على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: تعود على صرفه إلى الكعبة، قاله أبو العالية، وقتادة، والسدي، ومقاتل. وروي عن ابن عباس أيضاً. وفي الحق الذي كتموه قولان: أحدهما: أنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد. والثاني: أنه التوجه إلى الكعبة، قاله السدي، ومقاتل في آخرين. وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: وهم يعلمون أنه حق. والثاني: وهم يعلمون ما على مخالفته من العقاب.

[سورة البقرة (2) : آية 147]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
قوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. قال الزجاج: أي: هذا الحق من ربك. والممترون: الشاكُّون، والخطاب عامّ.

[سورة البقرة (2) : آية 148]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
قوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
، أي: لكل أهل دين وجهة. المراد بالوجهة: القبلة، قاله ابن عباس في آخرين. قال الزجاج: يقال: جهة، ووجهة. وفي «هو» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إِلى الله تعالى، فالمعنى: الله مولّيها إياهم، أي: أمرهم بالتوجه إليها.
والثاني: ترجع إلى المتولي، فالمعنى: هو موليها نفسه، فيكون «هو» ضمير كل.
والثالث: يرجع إلى البيت، قاله مجاهد: أمر كل قوم أن يصلُّوا إلى الكعبة. والجمهور يقرءون:
«مولّيها» ، وقرأ ابن عامر، والوليد عن يعقوب: «هو مولاها» بألف بعد اللام، فضمير «هو» لكلّ، ومعنى القراءتين متقارب.
قوله تعالى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
، أي: بادروها. وقال قتادة: لا تغلبوا على قبلتكم، يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
، قال ابن عباس وغيره: هذا في يوم القيامة. فأما إعادة قوله:

[سورة البقرة (2) : الآيات 149 الى 150]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
__________
(1) تكرر عن مقاتل سبب النزول هذا، ومقاتل متروك، فخبره لا شيء.

(1/122)


كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)

قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فانه تكرير تأكيد، ليحسم طمع أهل الكتاب في رجوع المسلمين أبداً إلى قبلتهم.
قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ، في «الناس» قولان: أحدهما: أنهم أهل الكتاب، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل. والثاني: مشركو العرب، رواه السدي عن أشياخه. فمن قال بالأول قال: احتجاج أهل الكتاب أنهم قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما لك تركت قبلة بيت المقدس؟! إن كانت ضلالة فقد دنت الله بها، وإن كانت هدى، فقد نقلت عنها. وقال قتادة: قالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. ومن قال بالثاني قال: احتجاج المشركين أنهم قالوا: قد رجع إلى قبلتكم، ويوشك أن يعود إلى دينكم.
وتسمية باطلهم حجة على وجه الحكاية عن المحتج به، كقوله تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ «1» ، وقوله: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ «2» . قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، قال الزجاج: معناه: إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك عليَّ حجة إِلا الظلم، أي:
إلا أن تظلمني، أي: ما لك عليّ البتة ولكنك تظلمين. قال ابن عباس: فَلا تَخْشَوْهُمْ في انصرافكم إلى الكعبة وَاخْشَوْنِي في تركها.

[سورة البقرة (2) : آية 151]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ، قال الزجاج: «كما» لا تصلح أن تكون جواباً لما قبلها، والأجود أن تكون معلقة بقوله: فَاذْكُرُونِي، وقد روي معناه عن عليّ، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل. والآية خطاب لمشركي العرب. وفي قوله: وَيُزَكِّيهِمْ، ثلاثة أقوال، قد سبق ذكرها في قصة إبراهيم. والكتاب: القرآن. والحكمة: السّنّة.

[سورة البقرة (2) : آية 152]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)
قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي. قال ابن عباس، وابن جبير: اذكروني بطاعتي أذكرْكم بمغفرتي. وقال إبراهيم بن السري: كما أنعمت عليكم بالرسالة، فاذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي. قال: فان قيل:
كيف يكون جواب: كَما أَرْسَلْنا فَاذْكُرُونِي، فان قوله: فَاذْكُرُونِي أمر، وقوله: أَذْكُرْكُمْ جزاؤه فالجواب: أن المعنى: إن تذكروني أذكركم.
قوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِي، الشكر: الاعتراف بحق المنعم، مع الثناء عليه.
__________
(1) الشورى: 16.
(2) غافر: 83.

(1/123)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

[سورة البقرة (2) : آية 153]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. سبب نزولها: أن المشركين قالوا:
سيرجع محمد إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. وقال ابن عباس: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض، وبالصّلاة، وقد سبق الكلام في الصبر، وبيان الاستعانة به وبالصّلاة.

[سورة البقرة (2) : آية 154]
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ. سبب نزولها: أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأُحد: مات فلان ببدر، مات فلان بأحد، فنزلت هذه الآية «1» ، قاله ابن عباس.
ورفع الأموات بإضمار مكنى من أسمائهم، أي: لا تقولوا: هم أموات، ذكر نحوه الفراء. فان قيل: فنحن نراهم موتى، فما وجه النهي؟ فالجواب أن المعنى: لا تقولوا: هم أموات لا تصل أرواحهم إلى الجنات، ولا تنال من تحف الله ما لا يناله الأحياء، بل هم أحياء، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، فهم أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتاً من جهة خروج الأرواح ذكره ابن الأنباري، فان قيل: أليس جميع المؤمنين منعّمين بعد موتهم؟ فلم خصصتم الشهداء؟ فالجواب: أن الشهداء فضلوا على غيرهم بأنهم مرزوقون من مطاعم الجنة ومآكلها، وغيرهم منعم بما دون ذلك، ذكره ابن جرير الطّبريّ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 155 الى 157]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. قال الفراء: «من» تدل على أن لكل صنف منها شيئاً مضمراً، فتقديره: بشيء من الخوف، وشيء من الجوع، وشيء من نقص الأموال.
وفيمن أُريد بهذه الآية أربعة أقوال: أحدها: أنهم أصحاب النبي خاصة، قاله عطاء. والثاني:
أنهم أهل مكة. والثالث: أن هذا يكون في آخر الزمان. قال كعب: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة. والرابع: أن الآية على عمومها.
فأما الخوف فقال ابن عباس: وهو الفزع في القتال. والجوع: المجاعة التي أصابت أهل مكة سبع سنين. ونقص من الأموال: ذهاب أموالهم، والأنفس بالموت والقتل الذي نزل بهم، والثمرات لم تخرج كما كانت تخرج. وحكى أبو سليمان الدمشقي عن بعض أهل العلم: أن الخوف في الجهاد والجوع في فرض الصوم، ونقص الأموال: ما فرض فيها من الزكاة والحج ونحو ذلك. والأنفس: ما يستشهد منها في القتال، والثمرات: ما فرض فيها من الصدقات. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ على هذه البلاوي
__________
(1) ذكره السيوطي في «الدر» 1/ 271 ونسبه للثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس، وما قبل ابن عباس سلسلة الكذب. [.....]

(1/124)


إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)

بالجنة. واعلم أنه إنما أخبرهم بما سيصيبهم، ليوطنوا أنفسهم على الصبر، فيكون ذلك أبعد لهم من الجزع.
قالُوا إِنَّا لِلَّهِ، يريدون: نحن عبيده يفعل بنا ما يشاء، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، يريدون: نحن مقرّون بالبعث والجزاء على أعمالنا، والثواب على صبرنا. قال سعيد بن جبير: لقد أُعطيتْ هذه الأمة عند المصيبة شيئاً لم يعطه الأنبياء قبلهم الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ. ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب، إِذ يقول: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «1» . قال الفراء: وللعرب في المصيبة ثلاث لغات: مصيبة، ومصابة، ومصوبة، زعم الكسائي أنه سمع أعرابياً يقول: جبر الله مصوبتك.
قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ. قال سعيد بن جبير: الصلوات من الله: المغفرة، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ بالاسترجاع. وقال عمر بن الخطاب: نعم العدلان، ونعمت العلاوة:
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 159]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)
قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ. في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(56) أحدها: أن رجالاً من الأنصار ممن كان يهلُّ لمناة في الجاهلية- ومناة: صنم كان بين مكة والمدينة- قالوا: يا رسول الله! إنا كنا لا نطَّوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما؟ فنزلت هذه الآية. رواه عروة عن عائشة.
(57) والثاني: أن المسلمين كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة، لأنه كان على الصفا تماثيل وأصنام فنزلت هذه الآية. رواه عكرمة عن ابن عباس.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 1790 ومسلم 1277 وأبو داود 1901 وابن ماجة 2986 وابن خزيمة 2769 والطبري 2357 وابن حبان 3839 من طريق هشام بن عروة عن عروة عن عائشة.
- وأخرجه البخاري 1643 ومسلم 1277 والترمذي 2965 والنسائي 5/ 237- 238 والحميدي 219 وأحمد 6/ 144 وابن حبان 3840 عن الزهري عن عروة عن عائشة.
صحيح. أخرجه الحاكم 2/ 272 من طريق أبي مالك عن ابن عباس، وإسناده حسن في الشواهد، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وأخرجه 2/ 271 من وجه آخر، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري 2346 من وجه آخر، وفيه جابر الجعفي متروك، والحجة فيما تقدم.
__________
(1) يوسف: 84.

(1/125)


(58) وقال الشعبي: كان وثن على الصفا يدعى: إساف، ووثن على المروة يدعى: نائلة، وكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ويمسحونهما، فلما جاء الإسلام كفوا عن السعي بينهما، فنزلت هذه الآية.
(59) والثالث: أنّ الصحابة قالت للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة، وإن الله تعالى ذكر الطواف بالبيت، ولم يذكره بين الصفا والمروة، فهل علينا من حرج أن لا نطَّوَّف بهما، فنزلت هذه الآية. رواه الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن جماعة من أهل العلم.
قال إبراهيم بن السري: الصفا في اللغة: الحجارة الصلبة الصلدة التي لا تنبت شيئاً، وهو جمع، واحده صفاة وصفا، مثل: حصاة وحصى. والمروة: الحجارة اللينة، وهذان الموضعان من شعائر الله، أي: من أعلام متعبداته. وواحد الشعائر: شعيرة. والشعائر: كل ما كان من موقف أو مسعى أو ذبح.
والشعائر: من شعرت بالشيء: إذا علمت به، فسميت الأعلام التي هي متعبدات الله: شعائر. والحج في اللغة: القصد، وكذلك كل قاصد شيئاً فقد اعتمره. والجناح: الإثم، أخذ من جنح: إذا مال وعدل، وأصله من جناح الطائر، وإنما اجتنب المسلمون الطواف بينهما، لمكان الأوثان، فقيل لهم: إن نصب الأوثان بينهما قبل الإسلام لا يوجب اجتنابهما، فأعلم الله عزّ وجلّ أنه لا جناح في التطوف بهما، وأن من تطوع بذلك فان الله شاكر عليم. والشكر من الله، المجازاة والثناء الجميل، والجمهور قرءوا وَمَنْ تَطَوَّعَ بالتاء ونصب العين، منهم: ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وقرأ حمزة، والكسائي «يطوع» بالياء وجزم العين. وكذلك خلافهم في التي بعدها بآيات.
فصل: اختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في السعي بين الصفا والمروة، فنقل الأثرم أن من ترك السعي لم يجزه حجه. ونقل أبو طالب: لا شيء في تركه عمداً أو سهواً، ولا ينبغي أن يتركه. ونقل الميموني أنه تطوّع «1» .
__________
مرسل، أخرجه الطبري 2341 و 2342 و 2343 بسند صحيح عن الشعبي، وهذا مرسل.
هو عجز الحديث المتقدم برقم 56.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 178: واختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة، فقال الشافعي وابن حنبل: هو ركن، وهو المشهور من مذهب مالك لقوله عليه السّلام: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» ، فمن تركه عامدا أو ناسيا رجع من بلده أو من حيث ذكر إلى مكة، فيطوف ويسعى لأن السعي لا يكون إلّا متصلا بالطّواف. وسواء عند مالك كان ذلك في حج أو عمرة وإن لم يكن في العمرة فرضا، فإن أصاب النساء فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسكه. وقال الشافعي: عليه هدي ولا معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي: ليس بواجب فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم، لأنه سنة من سنن الحج. وهو قول مالك في العتبية. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى. وقال ابن كثير رحمه الله 1/ 199: إن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك. وقيل إنه واجب وليس بركن فإن تركه عمدا أو سهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة. وقيل: بل مستحب وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي ومن وافقهم واحتجوا بقوله تعالى فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً. والقول الأول أرجح لأنه عليه السّلام طاف بينهما وقال «لتؤخذوا عني مناسككم» فكل ما فعله في حجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج إلّا ما خرج بدليل والله أعلم.

(1/126)


إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى، قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود، كتموا ما أنزل الله في التوراة من البينات والهدى «1» . فالبينات: الحلال والحرام والحدود والفرائض. والهدى: نعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصفته مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ، قال مقاتل: لبني إسرائيل، وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه التوراة، وهو قول ابن عباس. والثاني: التوراة والإنجيل، قاله قتادة. أُولئِكَ إشارة إلى الكاتمين يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ قال ابن قتيبة: أصل اللعن في اللغة: الطرد، ولعن الله إبليس، أي: طرده، ثم انتقل ذلك فصار قولاً. قال الشماخ وذكر ماءً:
ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين
أي: الطريد. وفي اللاعنين أربعة أقوال:
(60) أحدها: أن المراد بهم: «دواب الأرض» ، رواه البراء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول مجاهد، وعكرمة. قال مجاهد: يقولون إنما منعنا القطر بذنوبكم فيلعنونهم.
والثاني: أنهم المؤمنون، قاله عبد الله بن مسعود. والثالث: أنهم الملائكة والمؤمنون، قاله أبو العالية، وقتادة. والرابع: أنهم الجن والإنس وكل دابة، قاله عطاء.
فصل: وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين، منصوصة كانت أو مستنبطة، وتدل على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما يجب فعله.
(61) وقد روى الأعرج عن أبي هريرة أنه قال: إنكم تقولون: أكثر أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والله الموعد، وأيم الله: لولا آية في كتاب الله ما حدّثت أحداً بشيء أبداً، ثم تلا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا ... إلى آخرها.

[سورة البقرة (2) : آية 160]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. قال ابن مسعود: إلا الذين تابوا من اليهود وأصلحوا أعمالهم، وبيّنوا صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم.
فصل: وقد ذهب قوم إلى أن الآية التي قبل هذه منسوخة بالاستثناء في هذه، وهذا ليس بنسخ، لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ، وذلك يقتضي التخصيص دون النسخ، ومما يحقق هذا أن
__________
ضعيف، أخرجه ابن ماجة 4021 وفيه ليث، وهو ضعيف أعله البوصيري في الزوائد بضعف ليث بن أبي سليم. وانظر «تفسير القرطبي» 773 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 118 من طريق الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة.
__________
(1) إسناده ساقط، أخرجه الثعلبي كما في «أسباب النزول» للسيوطي 78 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، والكلبي متهم بالكذب كما تقدم، وأبو صالح متروك، لكن كون المراد بالآيات اليهود هو ظاهر القرآن، وورد عن ابن عباس أخرجه الطبري 2376 بسند فيه مجهول. وورد من مرسل قتادة، أخرجه برقم 2380 ومن مرسل مجاهد برقم 2377 ومن مرسل السدي برقم 2381.
- الخلاصة: أصل الخبر محفوظ بشواهده.

(1/127)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

الناسخ والمنسوخ لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك العمل بالآخر، وهاهنا يمكن العمل بالمستثنى والمستثنى منه.

[سورة البقرة (2) : آية 161]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ. إنما شرط الموت على الكفر، لأن حكمه يستقر بالموت عليه، فان قيل: كيف قال: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وأهل دينه لا يلعنونه، فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنهم يلعنونه في الآخرة، قال الله عزّ وجلّ: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وقال: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها. والثاني: أن المراد بالناس هاهنا المؤمنون، قاله ابن مسعود وقتادة ومقاتل. فيكون على هذا من العام الذي أريد به الخاص. والثالث: أن اللعنة من الأكثر يطلق عليها: لعنة جميع الناس تغليباً لحكم الأكثر على الأقل.

[سورة البقرة (2) : آية 162]
خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها تعود إلى اللعنة، قاله ابن مسعود، ومقاتل. والثاني: أنها ترجع إلى النار، وإِن لم يجر لها ذكر فقد علمت.

[سورة البقرة (2) : آية 163]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)
قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. قال ابن عباس: إن كفار قريش قالوا: يا محمد صف لنا ربك وانسبه، فنزلت هذه الآية، وسورة الإخلاص. والإله بمعنى: المعبود.

[سورة البقرة (2) : آية 164]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. في سبب نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أن المشركين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اجعل لنا الصفا ذهباً إن كنت صادقاً فنزلت هذه الآية، حكاه السدي عن ابن مسعود، وابن عباس «1» . والثاني: أنهم لما قالوا: انسب لنا ربك وصفه، فنزلت: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، قالوا:
فأرنا آية ذلك فنزلت: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: يَعْقِلُونَ، رواه أبو صالح عن ابن عباس «2» . والثالث: أنه لما نزلت وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، قال كفار قريش: كيف يسع النّاس إله واحد؟
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 202، وإسناده لين، وفيه جعفر بن أبي المغيرة، وهو غير قوي وبخاصة في روايته عن سعيد بن جبير. وهذا منها. ثم إن الآية مدنية في قول عطاء وغيره. راجع أسباب النزول للواحدي 84. والمتن غريب، فإن السورة مدنية باتفاق. وانظر «تفسير الشوكاني» 252. وأخرجه الطبري 2412 عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، ولم أره عن ابن مسعود ولا ابن عباس، ولا يصح.
(2) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا، انظر ترجمته في المقدمة.

(1/128)


فنزلت هذه الآية، قاله عطاء «1» .
فأمّا السَّماواتِ، فتدل على صانعها، إذ هي قائمة بغير عمد، وفيها من الآيات الظاهرة، ما يدل يسيره على مبدعه، وكذلك الأرض في ظهور ثمارها، وتمهيد سهولها وإرساء جبالها، إلى غير ذلك. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ كل واحد منهما حادث بعد أن لم يكن، وزائل بعد أن كان، وَالْفُلْكِ: السفن. قال ابن قتيبة: الواحد والجمع بلفظ واحد. وقال اليزيدي: واحده فلكة، ويذكر ويؤنث. وقال الزجاج: الفلك السفن، ويكون واحداً، ويكون جمعاً، لأن فَعَل، وفُعُل جمعهما واحد، ويأتيان كثيراً بمعنى واحد. يقال: العَجم والعُجم، والعَرب والعربُ، والفلك والفُلك. والفلك: يقال لكلّ مستدير، أو فيه استدارة. و «البحر» : الماء الغزير بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من المعايش. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ، يعني: المطر، والمطر ينزل على معنى واحد، وأجزاء الأرض والهواء على معنى واحد، والأنواع تختلف في النبات والطعوم والألوان والأشكال المختلفات، وفي ذلك رد على من قال: إنه من فعل الطبيعة، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يتفق موجبها، إذ المتفق لا يوجب المختلف، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في قوله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «2» .
قوله تعالى: وَبَثَّ، أي: فرّق. قرأ ابن كثير الرِّياحِ على الجمع في خمسة مواضع:
هاهنا. وفي (الحجر) : وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ «3» ، وفي (الكهف) : تَذْرُوهُ الرِّياحُ «4» ، وفي (الروم) :
الحرف الأول (الرياح) . وفي (الجاثية) : وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ «5» ، وقرأ باقي القرآن «الريح» . وقرأ أبو جعفر «الريح» في خمسة عشر موضعاً في (البقرة) ، وفي (الأعراف) : يُرْسِلُ الرِّياحَ «6» ، وفي (إبراهيم) : «اشتدت به الرياح» ، وفي (الحجر) : الرِّياحَ لَواقِحَ، وفي (سبحان) «7» ، وفي (الكهف) :
تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وفي (الأنبياء) وفي (الفرقان) : أَرْسَلَ الرِّياحَ «8» ، وفي (النمل) . والثاني من (الرّوم) : وفي (سبأ) ، وفي (فاطر) : أَرْسَلَ الرِّياحَ «9» ، وفي (عسق) : «يسكن الرياح» ، وفي (الجاثية) : وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ، تابعه نافع إلا في (سبحان) ، و «رياح» سليمان. وتابع نافعاً أبو عمرو إلا في حرفين: «الريح» في (إبراهيم) و (عسق) . ووافق أبا عمر، وعاصم، وابن عامر. وقرأ حمزة «الريح» جمعاً في موضعين: في (الفرقان) ، والحرف الأول من (الروم) ، وباقيهن على التوحيد. وقرا الكسائي مثل حمزة، إلا إنه زاد عليه في (الحجر) : الرِّياحَ لَواقِحَ، ولم يختلفوا فيما ليس فيه ألف ولام، فمن جمع فكل ريح تساوي أختها في الدلالة على التوحيد والنفع، ومن وحد أراد الجنس.
ومعنى تصريف الرياح: تقلّبها شمالاً مرة، وجنوباً مرة، ودبوراً أُخرى، وعذاباً ورحمة، وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ: المذلل. والآية فيه من أربعة أوجه: ابتداء كونه، وانتهاء تلاشيه، وقيامه بلا
__________
(1) ضعيف، أخرجه الطبري 2406 والواحدي في «أسباب النزول» 84 عن عطاء مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، والسورة مدنية، فهذا خبر واه، لا شيء.
(2) الرعد: 4.
(3) الحجر: 22.
(4) الكهف: 45.
(5) الجاثية: 5.
(6) الأعراف: 57.
(7) أي سورة الإسراء.
(8) الفرقان: 48.
(9) فاطر: 9. [.....]

(1/129)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

دعامة ولا علاقة، وإرساله إلى حيث شاء الله تعالى. (لآيات) . الآية: العلامة.
أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا عاصم قال: أخبرنا ابن بشران قال: أخبرنا ابن صفوان قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: حدثني هارون قال: حدثني عفان عن مبارك بن فضاله قال: سمعت الحسن يقول: كانوا يقولون- يعني أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: الحمد لله الرفيق، الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا ينصرف، لقال الشاك في الله: لو كان لهذا الخلق ربٌ لحادثه، وإن الله تعالى قد حادث بما ترون من الآيات، إنه جاء بضوء طبَّق ما بين الخافقين وجعل فيها معاشاً، وسراجاً وهاجاً، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق، وجاء بظلمة طبَّقت ما بين الخافقين، وجعل فيه شهبا ونجوما، وقمرا منيرا، وإذا شاء بنى بناء، جعل فيه المطر، والبرق، والرعد، والصواعق، ما شاء، وإذا شاء صرف ذلك، وإذا شاء جاء ببرد يقرقف «1» الناس، وإذا شاء ذهب بذلك، وجاء بحرّ يأخذ أنفاس الناس، ليعلم الناس أن لهذا الخلق رباً يحادثه بما ترون من الآيات، كذلك إذا شاء ذهب بالدّنيا وجاء بالآخرة.

[سورة البقرة (2) : آية 165]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً. في الأنداد قولان قد تقدما في أول السورة. وفي قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ قولان: أحدهما: أن معناه: يحبونهم كحب الذين آمنوا لله، هذا قول ابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، وابن زيد، ومقاتل، والفراء. والثاني: يحبونهم كمحبتهم لله، أي: يسوون بين الأوثان وبين الله تعالى في المحبة. هذا اختيار الزجاج، قال: والقول الأول ليس بشيء، والدليل على نقضه قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، قال المفسرون: أشد حباً لله من أهل الأوثان لأوثانهم.
قوله تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
«يرى» بالياء، ومعناه: لو يرون عذاب الآخرة لعلموا أن القوة لله جميعاً. وقرأ نافع وابن عامر، ويعقوب: «ولو ترى» بالتاء، على الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به جميع الناس، وجوابه محذوف، تقديره: لرأيتم أمراً عظيماً، كما تقول: لو رأيت فلانا والسّياط تأخذه. فإنّما حذف الجواب، لأنّ المعنى معلوم. قال أبو علي: وإنما قال: «إِذ» ولم يقل: «إِذا» وإن كانت «إِذ» لما مضى، لإرادة تقريب الأمر، فأتى بمثال الماضي، وإنما حذف جواب «لو» لأنه أفخم، لذهاب المتوعد إلى كل ضرب من الوعيد. وقرا أبو جعفر: «إن القوة» و «إِن الله» بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف، كأنّه يقول: ولا يحزنك ما ترى من محبتهم أصنامهم «إن القوة لله جميعاً» ، قال ابن عباس: القوة: القدرة، والمنعة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 166 الى 167]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
__________
(1) القرقفة: الرعدة، وقرقف: أرعد.

(1/130)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، فيهم قولان: أحدهما: أنهم القادة والرؤساء، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل، والزجاج. والثاني: أنهم الشّياطين، قاله السّدّيّ.
قوله تعالى: وَرَأَوُا الْعَذابَ، يشمل الكل. وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، أي: عنهم، مثل قوله: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً «1» . وفي الْأَسْبابُ أربعة أقوال: أحدها: أنها المودات، وإلى نحوه يذهب ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنها الأعمال، رواه السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وهو قول أبي صالح وابن زيد. والثالث: أنها الأرحام، رواه ابن جريج عن ابن عباس.
والرابع: أنها تشمل جميع ذلك. قال ابن قتيبة: هي الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا، فأما تسميتها بالأسباب، فالسبب في اللغة: الحبل، ثم قيل لكل ما يتوصّل به إلى مقصود: سبب. والكرَّة:
الرجعة إلى الدنيا، قاله ابن عباس، وقتادة في آخرين فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، يريدون: من القادة كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا في الآخرة. كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ، قال الزجاج: أي: كتبرؤ بعضهم من بعض، يريهم الله أعمالهم حسراتٍ عليهم، لأن أعمال الكافر لا تنفعه. وقال ابن الأنباري: يريهم الله أعمالهم القبيحة حسراتٍ عليهم إذا رأوا أحسن المجازاة للمؤمنين بأعمالهم، قال: ويجوز أن يكون: كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم وجزاءها، فحذف الجزاء وأقام الأعمال مقامه. قال ابن فارس: والحسرة:
التلهف على الشيء الفائت. وقال غيره: الحسرة: أشدّ النّدامة.

[سورة البقرة (2) : آية 168]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نزلت في ثقيف، وخزاعة، وبني عامر بن صعصعة، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وحرّموا البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم «خُطوات» مثقلة. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة «خُطْوات» ساكنة الطاء خفيفة. وقرا الحسن، وأبو الجوزاء «خَطْوات» بفتح الخاء وسكون الطاء من غير همز. وقرا أبو عمران الجوني بضم الخاء والطاء مع الهمز. قال ابن قتيبة: خطواته: سبيله ومسلكه، وهي جمع خُطوة، والخطوة بضم الخاء: ما بين القدمين، وبفتحها: الفعلة الواحدة. واتباعهم خطواته: أنهم كانوا يحرّمون أشياء قد أحلها الله، ويحلّون أشياء قد حرمها الله.
قوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، أي: بيِّن. وقيل: أبان عداوته بما جرى له مع آدم.

[سورة البقرة (2) : آية 169]
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)
قوله تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ، السوء: كل إثم وقبح. قال ابن عباس: وإنما سمي سوءاً، لأنه تسوء عواقبه، وقيل: لأنه يسوء إظهاره وَالْفَحْشاءِ من: فحش الشيء: إذا جاز قدره. وفي المراد بها هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنها كل معصية لها حد في الدنيا. والثاني: أنها ما لا يعرف في
__________
(1) الفرقان: 59.

(1/131)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

شريعة ولا سنة. والثالث: أنها البخل، وهذه الأقوال الثلاثة منقولة عن ابن عباس. والرابع: أنها الزّنا، قاله السدي. والخامس: المعاصي، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. أي: أنه حرم عليكم ما لم يحرّم.

[سورة البقرة (2) : آية 170]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ. اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها:
أنها في الذين قيل لهم: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، فعلى هذا تكون الهاء والميم عائدة عليهم، وهذا قول مقاتل. والثاني: أنها نزلت في اليهود، وهي قصة مستأنفة، فتكون الهاء والميم كناية عن غير مذكور، ذكره ابن إسحاق عن ابن عباس. والثالث: أنها في مشركي العرب وكفار قريش، فتكون الهاء والميم عائدة إلى قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً، فعلى القول الأول يكون المراد بالذي أنزل الله: تحليل الحلال، وتحريم الحرام. وعلى الثاني يكون: الإسلام. وعلى الثالث: التّوحيد والإسلام. وأَلْفَيْنا بمعنى: وجدنا. قوله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من الدين، ولا يهتدون له، أيتبعونهم في خطئهم وافترائهم!

[سورة البقرة (2) : الآيات 171 الى 172]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ. في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناها: ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي ينعق بها الراعي، وهذا قول الفراء، وثعلب، قالا جميعاً: أضاف المثل إلى الذين كفروا، ثم شبههم بالراعي، ولم يقل: كالغنم، والمعنى:
ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فلو قال لها الراعي: ارعي، أو اشربي، لم تدر ما يقول، فكذلك الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن، وإنذار الرسول، فأضيف التشبيه إلى الراعي، والمعنى في المرعي، وهو ظاهر في كلام العرب، يقولون: فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى: كخوفه الأسد، لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف. قال الشاعر:
كانت فريضةُ ما تقول كَمَا ... كَانَ الزِّنَاءُ فريضة الرّجم
المعنى: كما كان الرجم فريضة الزنى.
والثاني: أن معناها: ومثل الذين كفروا، ومثلنا في وعظهم، كمثل الناعق والمنعوق به، فحذف «ومثلنا» اختصاراً، إذ كان في الكلام ما يدل عليه. وهذا قول ابن قتيبة، والزجاج.
والثالث: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي يعبدون، كمثل الذي ينعق، هذا قول ابن زيد، والذي ينعق هو الراعي، يقال: نعق بالغنم، ينعق نعقاً ونعيقاً ونعاقاً ونعقاناً. قال ابن الأنباري:
والفاشي في كلام العرب أنه لا يقال: نعق، إلا في الصياح بالغنم وحدها، فالغنم تسمع الصوت ولا تعقل المعنى. صُمٌّ بُكْمٌ إنما وصفهم بالصم والبَكم، لأنهم في تركهم قبول ما يسمعون بمنزلة من لا

(1/132)


إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

يسمع، وكذلك في النطق والنظر، وقد سبق شرح هذا المعنى.

[سورة البقرة (2) : آية 173]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ. قرأ أبو جعفر «الميتة» هاهنا، وفي (المائدة) و (النّحل) ، و «بلدة ميّتا» بالتشديد، حيث وقع. والميتة في عرف الشرع: اسم لكل حيوان خرجت روحه بغير ذكاة. وقيل: إن الحكمة في تحريم الميتة أن جمود الدم فيها بالموت يحدث أذىً للآكل، وقد يسمى المذبوح في بعض الأحوال: ميتة حكماً، لأن حكمه حكم الميتة، كذبيحة المرتد فأما الدم فالمحرم منه: المسفوح، لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «1» . قال القاضي أبو يعلى: فأما الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح، وما يبقى في العروق فهو مباح.
فأما لحم الخنزير فالمراد: جملته، وإنما خص اللحم، لأنه معظم المقصود. قال الزجاج:
الخنزير يشتمل على الذكر والأنثى. ومعنى وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ: ما رفع فيه الصوت بتسمية غير الله، ومثله الإهلال بالحج، إنما هو رفع الصوت بالتّلبية.
قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ، أي: ألجئ بضرورة. وقرأ أبو جعفر: (فمن اضّطِر) بكسر الطاء حيث كان. وأدغم ابن محيصن الضاد في الطاء.
قوله تعالى: غَيْرَ باغٍ، قال الزجّاج: البغي: قصد الفساد، يقول: بغى الجرح: إذا ترامى إلى الفساد. وفي قوله: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ أربعة أقوال: أحدها: أن معناه غير باغ على الولاة، ولا عاد يقطع السبيل، هذا قول سعيد بن جبير، ومجاهد. والثاني: غير باع في أكله فوق حاجته، ولا متعدٍ بأكلها وهو يجد غيرها. هذا قول الحسن، وعكرمة، وقتادة، والربيع. والثالث: غير باغٍ، أي:
مستحلٍ، ولا عاد: غير مضطر، روي عن سعيد بن جبير، ومقاتل. والرابع: غير باغ شهوته بذلك، ولا عاد بالشبع منه، قاله السدي.
فصل: معنى الضرورة في إباحة الميته: أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه. سئل أحمد، رضي الله عنه، عن المضطر إذا لم يأكل الميتة، فذكر عن مسروق أنه قال: من اضطر فلم يأكل فمات دخل النّار. وأمّا مقدار ما يأكل فنقل حنبل: يأكل بمقدار ما يقيمه عن الموت، ونقل ابن منصور:
يأكل بقدر ما يستغني. فظاهر الأولى: أنه لا يجوز له الشبع، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وظاهر الثانية: جواز الشبع وهو قول مالك «2» .
__________
(1) الأنعام: 145.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 330: أجمع العلماء على تحريم الميتة حالة الاختيار، وعلى إباحة الأكل منها في الاضطرار. وكذلك سائر المحرمات. والأصل في هذا قول الله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ويباح له أكل ما يسدّ الرمق، ويأمن معه الموت، بالإجماع. ويحرم ما زاد على الشّبع، بالإجماع أيضا. وفي الشّبع روايتان أظهرهما، لا يباح. وهو قول أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك وأحد القولين للشافعي. قال الحسن:
يأكل قدر ما يقيمه، لأن الآية دلّت على تحريم الميتة، واستثنى ما اضطر إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل، كحالة الابتداء، ولأنه بعد سدّ الرمق غير مضطرّ، فلم يحل له الأكل، للآية، يحققه أنه بعد سدّ رمقه كهو قبل أن يضطر، وثمّ لم يبح له الأكل كذا هاهنا. والثانية: يباح له الشبع. اختارها أبو بكر، لما روى جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرّة، فنفقت عنده ناقة، فقالت له امرأته: اسلخها، حتى نقدّد شحمها ولحمها، ونأكله. فقال حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فسأله فقال: «هل عندك غنى يغنيك؟» . قال: لا. قال: «فكلوها» ولم يفرّق. رواه أبو داود ولأن ما جاز سد الرمق منه، جاز الشبع منه، كالمباح. ويحتمل أن يفرّق بين إذا ما كانت الضرورة مستمرة، وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال فما كانت مستمرة، كحال الأعرابي الذي سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاز له الشّبع، لأنه إذا اقتصر على سدّ الرمق، عادت الضرورة إليه عن قرب، ولا يتمكن من البعد عن الميتة، مخافة الضرورة المستقبلية، ويفضي إلى ضعف بدنه، وربما أدى ذلك إلى تلفه. بخلاف التي ليست مستمرة، فإنه يرجو الغنى عنها بما يحلّ له. والله أعلم. إذا ثبت هذا، فإن الضرورة المبيحة، هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل. قال أحمد: إذا كان يخشى على نفسه، سواء كان من جوع، أو يخاف إن ترك الأكل عجز المشي، وانقطع عن الرفقة فيهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك، ولا يتقيد ذلك بزمن محصور. وهل يجب الأكل من الميتة على المضطر؟ فيه وجهان: أحدهما يجب وهو قول مسروق، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي. قال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن المضطر يجد الميتة، ولم يأكل؟. فذكر قول مسروق: فمن اضطر فلم يأكل ولم يشرب، فمات، دخل النار. وهذا اختيار ابن حامد. والثاني: لا يلزمه.

(1/133)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

[سورة البقرة (2) : آية 174]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ. قال ابن عباس: نزلت في اليهود، كتموا اسم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وغيّروه في كتابهم «1» . والثمن القليل: ما يصيبونه من أتباعهم من الدنيا. أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، قال الزجاج: معناه: إن الذين يأكلونه يعذّبون به، فكأنهم يأكلون النّار، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ هذا دليل على أن الله لا يكلم الكفّار ولا يحاسبهم. وفي قوله تعالى: وَلا يُزَكِّيهِمْ، ثلاثة أقوال: أحدها: لا يزكي أعمالهم، قاله مقاتل. والثاني: لا يثني عليهم، قاله الزجاج. والثالث: لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم، قاله ابن جرير.

[سورة البقرة (2) : آية 175]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ، أي: اختاروها على الهدى. وفي قوله تعالى:
فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: فما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النار! قاله عكرمة، والربيع. والثاني: ما أجرأهم على النار قاله الحسن، ومجاهد. وذكر الكسائي أن أعرابياً حلف له رجل كاذباً، فقال الأعرابي: ما أصبرك على الله، يريد: ما أجرأك. والثالث: ما أبقاهم في النار، كما تقول: ما أصبر فلاناً على الحبس، أي: ما أبقاه فيه، ذكره الزجاج. والرابع: أن المعنى:
فأي شيء صبّرهم على النار؟! قاله ابن الأنباري. وفي «ما» قولان: أحدهما: أنها للاستفهام، تقديرها:
ما الذي أصبرهم؟ قاله عطاء، والسدي، وابن زيد، وأبو بكر بن عياش. والثاني: أنها للتعجب،
__________
(1) تقدم عند الآية 159.

(1/134)


ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

كقولك: ما أحسن زيداً، وما أعلم عَمراً. وقال ابن الأنباري: معنى الآية التعجب، والله يعجّب المخلوقين، ولا يعجب هو كعجبهم.

[سورة البقرة (2) : آية 176]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الوعيد بالعذاب، فتقديره: ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه.
وفي «الكتاب» قولان: أحدهما: أنه التوراة. والثاني: القرآن. وفي «الحق» قولان: أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس. والثاني: أنه ضد الباطل، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ فيه قولان:
أحدهما: أنه التوراة، ثم في اختلافهم فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن اليهود والنصارى اختلفوا فيها، فادعى النصارى فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود ذلك. والثاني: أنهم خالفوا ما في التوراة من صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والثالث: أنهم خالفوا سلفهم في التمسك بها.
والثاني: أنه القرآن، فمنهم من قال: شعر، ومنهم من قال: إنما يعلّمه بشر.
والشقاق: معاداة بعضهم لبعض. وفي معنى «بعيد» قولان: أحدهما: أن بعضهم متباعد في مشاقة بعض، قاله الزجاج. والثاني: أنه بعيد من الهدى.

[سورة البقرة (2) : آية 177]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ. قال قتادة:
(62) ذُكر لنا أن رجلاً سأل عن «البِر» ، فأنزلت هذه الآية، فدعاه رسول الله، فتلاها عليه.
وفيمن خُوطب بها قولان: أحدهما: أنهم المسلمون. والثاني: أهل الكتابين. فعلى القول الاول معناها: ليس البر كله في الصلاة، ولكن البر ما في هذه الآية. وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، والضحاك وسفيان. وعلى القول الثاني معناها: ليس البر صلاة اليهود إلى المغرب، وصلاة النصارى إلى المشرق، ولكن البر ما في هذه الآية، وهذا قول قتادة، والربيع، وعوف الأعرابي، ومقاتل.
وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: لَيْسَ الْبِرَّ بنصب الراء، وقرأ الباقون برفعها، قال أبو عليّ:
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 2527 عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 88 عن قتادة بدون إسناد.

(1/135)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)

كلاهما حسن، لأن كل واحد من الاسمين اسم «ليس» وخبرها، معرفة، فاذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسماً، والآخر خبراً، كما تتكافأ النكرتان.
وفي المراد بالبر ثلاثة أقوال: أحدها: الإيمان. والثاني: التقوى. والثالث: العمل الذي يقرب إلى الله. قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، فيه قولان: أحدهما: أن معناه: ولكن البرّ برّ من آمن بالله. والثاني: ولكن ذا البر من آمن بالله، حكاهما الزجاج.
وقرأ نافع، وابن عامر: «ولكن البر» بتخفيف نون «لكن» ورفع «البر» . وإنما ذكر اليوم الآخر، لأن عبدة الأوثان لا يؤمنون بالبعث. وفي المراد بالكتاب هاهنا قولان: أحدهما: أنه القرآن. والثاني:
أنه بمعنى الكتاب، فيدخل في هذا اليهود، لتكذيبهم بعض النبيين وردهم القرآن.
قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ، في هاء «حبه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى المال.
والثاني: إلى الإيتاء. وكان الحسن إذا قرأها قال: سوى الزكاة المفروضة.
قوله تعالى: ذَوِي الْقُرْبى، يريد: قرابة المعطي. وقد شرحنا معنى: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ عند رأس ثلاث وثمانين آية من هذه السورة.
فأما «ابن السبيل» ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الضيف، قاله سعيد بن جبير، والضحاك، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه الذي يمر بك مسافراً، قاله الربيع بن أنس، وعن مجاهد، وقتادة كالقولين. وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال: هو المنقطع به يريد بلدا آخر وهو الطريق، وابنه: صاحبه الضارب فيه، فله حق على من يمر به إذا كان محتاجاً. ولعل أصحاب القول الأول أشاروا إلى هذا، لأنه إن كان مسافراً، فانه ضيف لم ينزل. والقول الثالث: أنه الذي يريد سفراً، ولا يجد نفقة، ذكره الماوردي وغيره عن الشافعي.
قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ أي في فك الرقاب. ثم فيه قولان: أحدهما: أنهم المكاتبون يعانون في كتابتهم بما يعتقون به، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، والحسن، وابن زيد، والشافعي. والثاني: أنهم عبيد يشترون بهذا السهم ويعتقون، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس، وأبو عبيد، وأبو ثور. وعن أحمد كالقولين.
وأمّا البأساء فهي: الفقر. والضراء: المرض. وحين البأس: القتال قاله الضحاك. أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، قال أبو العالية: تكلّموا بالإيمان وحقّقوه بالعمل.

[سورة البقرة (2) : آية 178]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ. روى شيبان عن قتادة أن أهل الجاهلية كان فيهم بغي، وكان الحيّ منهم إذا كان فيهم عدد وعدّة، فقتل عبدهم عبد قوم آخرين قالوا: لن نقتل به إلا حراً، تعززاً لفضلهم على غيرهم. وإذا قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين قالوا: لن نقتل بها إلا

(1/136)


رجلا فنزلت هذه الآية «1» . ومعنى «كتب» : فرض، قاله ابن عباس وغيره. والقصاص: مقابلة الفعل بمثله، مأخوذ من: قصّ الأثر، فإن قيل: كيف يكون القصاص فرضاً والولي مخير بينه وبين العفو؟
فالجواب: أنه فرض على القاتل للولي، لا على الولي.
قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ، أي: من دم أخيه أي: ترك له القتل، ورضي منه بالدية. ودل قوله: مِنْ أَخِيهِ على أن القاتل لم يخرج عن الإسلام، فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي: مطالبته بالمعروف، يأمر آخذ الدية بالمطالبة الجميلة التي لا يرهقه فيها. وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ يأمر المطالب بأن لا يبخس ولا يماطل ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ، قال سعيد بن جبير: كان حكم الله على أهل التوراة أن يقتل قاتل العمد، ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه دية، فرخَّص الله لأمة محمد، فان شاء وليّ المقتول عمداً قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية.
قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى، أي: ظلم، فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ، قال قتادة: يقتل ولا تقبل منه الدية.
فصل: ذهب جماعة من المفسرين إلى أن دليل خطاب هذه الآية منسوخ، لأنه لما قال: الْحُرُّ بِالْحُرِّ اقتضى أن لا يقتل العبد بالحر، وكذلك لما قال: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى اقتضى أن لا يقتل الذكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب، وذلك منسوخ بقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «2» ، وقال شيخنا علي بن عبد الله: وهذا عند الفقهاء ليس بنسخ، لأن الفقهاء يقولون: دليل الخطاب حجّة ما لم يعارضه دليل أقوى منه «3» .
__________
(1) أخرجه الطبري 2567 عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا، وأخرجه عبد الرزاق 163 والطبري 2568 عن معمر عن قتادة. ولم أره عن شيبان عن قتادة، وشيبان هو ابن عبد الرحمن، وهو ممن يروي عن قتادة.
وله شاهد من مرسل الشعبي، أخرجه الطبري 2566، فهذا الشاهد يقوي ما قبله، والله أعلم.
(2) المائدة: 45.
(3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» : ويقتل الذكر بالأنثى، والأنثى بالذكر، هذا قول عامة أهل العلم، منهم النخعي، والشعبي، والزّهري، وعمر بن عبد العزيز ومالك، وأهل المدينة، والشافعي وإسحاق، وأصحاب الرأي، وغيرهم. وروي عن علي رضي الله عنه، أنه قال: يقتل الرجل بالمرأة، ويعطى أولياؤه نصف الدية. أخرجه سعيد. وروي مثل هذا عن أحمد. وحكي ذلك عن الحسن، وعطاء. وحكي عنهما مثل قول الجماعة. ولعلّ من ذهب إلى القول الثاني يحتجّ بقول عليّ، رضي الله عنه، ولأن عقلها نصف عقله، فإذا قتل بها بقي له بقية، فاستوفيت ممن قتله. ولنا قوله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. وقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ مع عموم سائر النصوص، وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل قتل يهوديا رضّ رأس جارية من الأنصار. وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والأسنان، وأن الرجل يقتل بالمرأة. وهو كتاب مشهور عند أهل العلم، متلقى بالقبول عندهم، ولأنهما شخصان يحدّ كل واحد منهم بقذف صاحبه، فقتل كل واحد منهما بالآخر، كالرجلين، ولا يجب مع القصاص شيء، لأنه قصاص واجب، فلم يجب معه شيء على المقتص، كسائر القصاص، واختلاف الأبدال لا عبرة به في القصاص بدليل أن الجماعة يقتلون بالواحد، والنصراني يؤخذ بالمجوسي، مع اختلاف دينيهما، ويؤخذ العبد بالعبد، مع اختلاف قيمتهما. ويقتل كل واحد من الرجل والمرأة بالخنثى، ويقتل بهما، لأنه لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 209- 210: ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود وهو مروي عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم. قال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده لعموم حديث الحسن عن سمرة «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه» . فقالوا لا يقتل الحر بالعبد لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقتل مسلم بكافر» ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا.
وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة. قال الحسن وعطاء لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السّلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وقال الليث إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.

(1/137)


وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

[سورة البقرة (2) : آية 179]
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ. قال الزجاج: إذا علم الرجل أنه إن قَتَل قتل أمسك عن القتل، وكان في ذلك حياة للذي هم بقتله ولنفسه، لأنه من أجل القصاص أمسك. وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال:
أبلغ أبا مالك عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام «1»
يريد: أنّهم إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب. والألباب: العقول، وإنما خصهم بهذا الخطاب وإن كان الخطاب عاماً، لأنهم المنتفعون بالخطاب، لكونهم يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه. وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، قال ابن عباس: لعلكم تتقون الدماء. وقال ابن زيد: لعلك تتقي أن يقتله فتقتل به.
فصل: نقل ابن منصور عن أحمد: إذا قتل رجل رجلاً بعصا أو خنقه أو شدخ رأسه بحجر يقتل بمثل الذي قتل به. فظاهر هذا أن القصاص يكون بغير السيف، ويكون بمثل الآلة التي قتل بها، وهو قول مالك والشافعي. ونقل عنه حرب: إذا قتله بخشبة قتل بالسيف. ونقل أبو طالب: إذا خنقه قتل بالسيف. فظاهر هذا أنه لا يكون القصاص إلّا بالسّيف، وهو قول أبي حنيفة «2» .
__________
(1) في «اللسان» : المغلغلة: الرّسالة. ورسالة مغلغلة: محمولة من بلد إلى بلد.
(2) قال الإمام الموفّق رحمه الله في «المغني» 11/ 508: اختلفت الرّواية عن أحمد في كيفية الاستيفاء، فروي عنه، لا يستوفى إلا بالسيف في العنق. وبه قال عطاء، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا قود إلا بالسيف» رواه ابن ماجة. ولأن القصاص أحد بدلي النفس، فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الأمر إلى الدية، لم تجب إلا دية النفس، ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل الكل، وإتلاف الجملة، وقد أمكن هذا بضرب العنق، فلا يجوز تعذيبه بإتلاف أطرافه، كما لو قتله بسيف كال، فإنه لا يقتل بمثله. والرواية الثانية عن أحمد قال: إنه لأهل أن يفعل به كما فعل. يعني أن للمستوفي أن يقطع أطرافه، ثم يقتله. وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأبي ثور. لقول الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وقوله سبحانه: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رضخ رأس يهودي لرضخه رأس جارية من الأنصار بين حجرين. ولأن الله تعالى قال: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. وهذا قد قلع عينه، فيجب أن تقلع عينه، للآية. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حرّق حرّقناه، ومن أغرق غرّقناه» . ولأن القصاص موضوع على المماثلة، ولفظه مشعر به، فوجب أن يستوفى منه مثل ما فعل، كما لو ضرب العنق آخر غيره. فأما حديث: «لا قود إلا بالسيف» .
فقال أحمد: ليس إسناده بجيد.

(1/138)


كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

[سورة البقرة (2) : آية 180]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. قال الزجاج: المعنى: وكتب عليكم، إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو. وعلم أن معناه معنى الواو، وليس المراد: كتب عليكم أن يوصي أحدكم عند الموت، لأنه في شغل حينئذ، وإنما المعنى: كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الرجل: إذا أنا متُّ، فلفلان كذا، فأما الخير هاهنا فهو المال في قول الجماعة. وفي مقدار المال الذي تقع هذه الوصية فيه ستة أقوال: أحدها: أنه ألف درهم فصاعداً، روي عن علي، وقتادة. والثاني: أنه سبعمائة درهم فما فوقها، رواه طاوس عن ابن عباس. والثالث:
ستون ديناراً فما فوقها، رواه عكرمة عن ابن عباس. والرابع: أنه المال الكثير الفاضل عن نفقة العيال.
قالت عائشة لرجل سألها: إني أُريد الوصية، فقالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟
قال: أربعة. قالت: هذا شيء يسير، فدعه لعيالك. والخامس: أنه من ألف درهم إلى خمسمائة، قاله إبراهيم النخعي. والسادس: أنه القليل والكثير، رواه معمر عن الزهري. فأما المعروف فهو الذي لا حيف فيه.
فصل: وهل كانت الوصية ندباً أو واجبة؟ فيه قولان: أحدهما: أنها كانت ندباً. والثاني: أنها كانت فرضاً، وهو أصح، لقوله تعالى: كُتِبَ، ومعناه: فرض. قال ابن عمر: نسخت هذه الآية بآية الميراث. وقال ابن عباس: نسخها: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. والعلماء متفقون على نسخ الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون، وهم مختلفون في الأقربين الذين لا يرثون: هل تجب الوصية لهم؟ على قولين، أصحّهما أنها لا تجب لأحد «1» .

[سورة البقرة (2) : آية 181]
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
قوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ، قال الزجاج: من بدل أمر الوصية بعد سماعه إياها، فانما إثمه على مبدله، لا على الموصي، ولا على الموصى له إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما قد قاله الموصي عَلِيمٌ بما يفعله الموصى إليه.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 255: اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلّف مالا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون. وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك وهو قول مالك والشافعي والثوري موسرا كان الموصي أو فقيرا. وقال الزهري وأبو مجلز: الوصية واجبة على ظاهر القرآن قليلا كان المال أو كثيرا وقال أبو ثور: ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم فواجب أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه. أما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء. قال ابن المنذر: وهذا حسن. واحتج الأولون بما رواه ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» .

(1/139)


فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

[سورة البقرة (2) : آية 182]
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
قوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم (مُوصٍ) ساكنة الواو، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «مُوَصٍ» مفتوحة الواو مشددة الصاد. وفي المراد بالخوف هاهنا قولان: أحدهما: أنه العلم. والثاني: نفس الخوف، فعلى الأول يكون الجور قد وجد. وعلى الثاني: يخشى وجوده. و «الجنف» : الميل عن الحق. قال الزجاج:
جنفاً، أي: ميلاً، أو إثماً أي قصد الإثم. وقال ابن عباس: الجنف: الخطأ، والإثم: التّعمّد، إلّا أنّ المفسّرين علّقوا الجنف على المخطئ، والإثم على العامد. وفي توجيه هذه الآية قولان: أحدهما: أنّ معناها: من حضر رجلاً يموت، فأسرف في وصيته أو قصّر عن حقّ، فليأمره بالعدل، وهذا قول مجاهد. والثاني: أن معناها: من أوصى بجور، فردّ وليّه وصيّته، أو ردّها من أئمة المسلمين إلى كتاب الله وسنة نبيّه فلا إثم عليه، وهذا قول قتادة.
قوله تعالى: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، أي: بين الذين أوصى لهم، ولم يجر لهم ذكر، غير أنه لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له، وأنشد الفراء:
وما أدري إذا يَمَّمْتُ أرضاً ... أُريدُ الخَيْرَ أيهما يليني؟!
أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني
فكنّى في البيت الأول عن الشر بعد ذكره الخير وحده، لما في مفهوم اللفظ من الدّلالة.

[سورة البقرة (2) : آية 183]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ. الصيام في اللغة: الإمساك في الجملة، يقال: صامت الخيل: إذا أمسكت عن السير، وصامت الريح: إِذا أمسكت عن الهبوب. والصوم في الشرع: عبارة عن الإمساك عن الطعام والشراب والجماع مع انضمام النية إليه.
وفي الذين من قبلنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أهل الكتاب، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس، وهو قول مجاهد. والثاني: أنهم النصارى، قاله الشعبي، والربيع. والثالث: أنهم جميع أهل الملل، ذكره أبو صالح عن ابن عباس.
وفي موضع التشبيه في كاف كَما كُتِبَ قولان: أحدهما: أن التشبيه في حكم الصوم وصفته، لا في عدده. قال سعيد بن جبير: كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام، وهو عليهم ثابت. وقد أرخص لكم. فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ، فإنها بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين. والثاني: أن التشبيه في عدد الأيام. ثم في ذلك قولان: أحدهما: أنه فرض على هذه الأمة صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقد كان ذلك فرضاً على من قبلهم. قال عطية عن ابن عباس في قوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، قال: كان ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ برمضان.
وقال معمر عن قتادة: كان الله قد كتب على الناس قبل رمضان ثلاثة أيام من كل شهر، فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. والثاني: أنه فرض على من

(1/140)


أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

قبلنا صوم رمضان بعينه. قال ابن عباس: فقدم النصارى يوماً ثم يوماً، وأخَّروا يوماً، ثم قالوا: نقدم عشراً ونؤخر عشراً. وقال السدي عن أشياخه: اشتد على النصارى صوم رمضان، فجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف، فلمّا رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياماً في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا:
نزيد عشرين يوماً نكفر بها ما صنعنا، فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة.
قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، لأن الصيام وصلة إلى التقى، إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي، وقيل: لعلّكم تتّقون محظورات الصّوم.

[سورة البقرة (2) : آية 184]
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
قوله تعالى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، قال الزجاج: نصب «أياماً» على الظرف، كأنه قال: كتب عليكم الصيام في هذه الأيام. والعامل فيه «الصيام» ، كأنَّ المعنى: كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات. وفي هذه الأيام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ثلاثة أيام من كل شهر. والثاني: أنها ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء. والثالث: أنها شهر رمضان، وهو الأصح، وتكون الآية محكمة في هذا القول، وفي القولين قبله تكون منسوخة. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ، فيه إضمار: فأفطر.
فصل: وليس المرض والسفر على الإطلاق، فان المريض إذا لم يضر به الصوم لم يجز له الإفطار، وإنما الرخصة موقوفة على زيادة المرض بالصوم. واتفق العلماء أن السفر مقدر، واختلفوا في تقديره، فقال أحمد، ومالك، والشافعي: أقله مسيرة ستة عشر فرسخاً: يومان، وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقله مسيرة ثلاثة أيام، مسيرة أربعة وعشرين فرسخاً. وقال الأوزاعي: أقله مرحلة يوم، مسيرة ثمانية فراسخ. وقيل: إن السفر مشتق من السفر الذي هو الكشف، يقال: سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح: إذا أضاء، فسمي الخروج إلى المكان البعيد: سفراً، لأنه يكشف عن أخلاق المسافر «1» .
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 273: اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد. ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة والقول بالجواز أرجح. وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع، والقول بالمنع أرجح، قاله ابن عطية. ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة. واختلف العلماء في قدر ذلك فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا وقال ابن خويز منداد: وهو ظاهر مذهبه وقال مرّة: اثنان وأربعون ميلا وقال مرة: ستة وثلاثون ميلا وقال مرّة: مسيرة يوم وليلة، وروي عنه يومان وهو قول الشافعي. وفصّل مرة بين البر والبحر فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا. وفي المذهب ثلاثون ميلا. وفي غير المذهب ثلاثة أميال. وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام.
- واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما:
الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجلّ مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي. قال الشافعي ومن اتبعه:
هو مخيّر، ولم يفصّل وكذلك ابن عليّه لحديث أنس قال: سافرنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، خرّجه مالك والبخاري ومسلم. وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن ابن عمر وابن عباس: الرخصة أفضل، وقال به سعيد بن المسيب والشعبي وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق. كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل لقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.

(1/141)


شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، نقل عن ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وابن عمر، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، وعلقمة، والزهري في آخرين في هذه الآية أنهم قالوا:
كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى، يطعم عن كل يوم مسكيناً، حتى نزلت: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، فعلى هذا يكون معنى الكلام: وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية، ثم نسخت.
وروي عن عكرمة أنه قال: نزلت في الحامل والمرضع. وقرا أبو بكر الصديق، وابن عباس: «وعلى الذين يطوّقونه» بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو. قال ابن عباس: هو الشيخ والشيخة. قوله تعالى:
فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة والكسائيّ (فدية) منون طَعامُ مَساكِينَ موحد. وقرأ نافع، وابن عامر: «فدية» بغير تنوين «طعام» بالخفض «مساكين» بالجمع، وقال أبو علي: معنى القراءة الأولى: على كل واحد طعام مساكين. ومثله: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ «1» ، أي:
اجلدوا كل واحد ثمانين. قال أبو زيد: أتينا الأمير فكسانا كلنا حلّة، وأعطانا كلّنا مائة، أي: فعل ذلك بكل واحد منا. قال: فأما من أضاف الفدية إلى الطعام، فكإضافة البعض إلى ما هو بعض له، وذلك أنه سمى الطعام الذي يفدى به فدية، ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية وغيرها، فهو على هذا من باب: خاتم حديد. وفي قوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً، ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: من أطعم مسكينين، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أن التّطوّع إطعام مساكين، قاله طاوس. والثالث: أنه زيادة المساكين على قوته، وهو مروي عن مجاهد، وفعله أنس بن مالك لما كبر. وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ عائد إلى من تقدم ذكره من الأصحاء المقيمين المخيّرين بين الصوم والإطعام على ما حكينا في أول الآية عن السلف، ولم يرجع ذلك إلى المرضى والمسافرين، والحامل والمرضع، إذ الفطر في حق هؤلاء أفضل من الصوم، وقد نهوا عن تعريض أنفسهم للتلف، وهذا يقوّي قول القائلين بنسخ الآية.

[سورة البقرة (2) : آية 185]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ. قال الأخفش: شهر رمضان بالرفع على تفسير الأيام، كأنه لما قال: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فسرها فقال: هي شهر رمضان، قال أبو عبيد: وقرأ مجاهد: «شهرَ رمضان» بالنصب، وأُراه نصبه على معنى الإغراء: عليكم شهر رمضان فصوموه كقوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ «2» ،
__________
(1) النور: 4.
(2) الحج: 78. [.....]

(1/142)


وقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ «1» ، قلت: وممن قرأ بالنصب معاوية والحسن وزيد بن علي وعكرمة ويحيى بن يعمر. قال ابن فارس: الرمض: حر الحجارة من شدة حر الشمس، ويقال: شهر رمضان، من شدة الحر، لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التى وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر، ويجمع على رمضانات وأرمضاء وأرمضة. قوله تعالى: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أنزل القرآن فيه جملة واحدة، وذلك في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا، قاله ابن عباس. والثاني: أنّ معناه: أنزل القرآن بفرض صيامه، وروي عن مجاهد، والضحاك. والثالث: أن معناه: إن القرآن ابتدئ بنزوله فيه على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن إسحاق، وأبو سليمان الدمشقي. قال مقاتل: والفرقان المخرج في الدين من الشبهة والضلالة. قوله تعالى:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «2» ، أي: من كان حاضراً غير مسافر. فإن قيل: ما الفائدة في إعادة
__________
(1) البقرة: 138.
(2) فائدة: قال الإمام الموفّق رحمه الله في «المغني» 4/ 325 ما ملخصه: (وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما، طلبوا الهلال، فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم) . وجملة ذلك أنه يستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وتطلبه ليحتاطوا بذلك لصيامهم، ويسلموا من الاختلاف. وقد روى الترمذي، عن أبي هريرة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أحصوا هلال شعبان لرمضان» فإذا رأوه وجب عليهم الصيام إجماعا، وإن لم يروه وكانت السماء مصحية، لم يكن لهم صيام ذلك اليوم، إلا أن يوافق صوما كانوا يصومونه، مثل من عادته صوم يوم وإفطار يوم، أو صوم يوم الخميس، أو صوم آخر يوم من الشهر، وشبه ذلك إذا وافق صومه، أو من صام قبل ذلك بأيام، فلا بأس بصومه لما روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل يصوم صياما فليصمه» متفق عليه. وقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم. وإذا رأى الهلال أهل بلد، لزم جميع البلاد الصوم. وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: إن كان بين البلدين مسافة قريبة لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة، لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في أحدهما، وإن كان بينهم بعد، كالعراق والحجاز والشام، فلكلّ أهل بلد رؤيتهم، وروي عن عكرمة، أنه قال: لكل أهل بلد رؤيتهم. وهو مذهب القاسم وسالم، وإسحاق.
- قال: وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان. اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في هذه المسألة، فروي عنه مثل ما نقل الخرقي، اختارها أكثر شيوخ أصحابنا، وهو مذهب عمر، وابنه، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأنس، ومعاوية، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر. وبه قال بكر بن عبد الله، وأبو عثمان النهدي وابن أبي مريم ومطرّف وميمون بن مهران، وطاوس ومجاهد وروي عنه أن الناس تبع للإمام، فإن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا. وهذا قول الحسن، وابن سيرين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون» . قيل معناه أن الصوم والفطر مع الجماعة. وعن أحمد، رواية ثالثة: لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان إن صامه. وهو قول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ومن تبعهم، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبّي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» رواه البخاري. وعن ابن عمر، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فاقدروا له ثلاثين» . رواه مسلم. وقد صح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن صوم يوم الشك. متفق عليه. وهذا يوم شك. ولأن الأصل بقاء شعبان، فلا ينتقل عنه الشك. ولنا ما روى نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له» . قال نافع: كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما، بعث من ينظر له الهلال، فإن رأى فذاك، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما. رواه أبو داود. ومعنى اقدروا له: أي ضيقوا له العدد من قوله تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي ضيّق عليه. وقوله: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرون يوما. وقد فسره ابن عمر بفعله، وهو راويه، وأعلم بمعناه. قال علي وأبو هريرة وعائشة: لأن أصوم يوما من شعبان، أحبّ إليّ من أن أفطر يوما من رمضان.
ولأن الصوم يحتاط له، ولذلك وجب الصوم بخبر واحد ولم يفطر إلا بشهادة اثنين. فأما خبر أبي هريرة الذي احتجوا به، فإنه يرويه محمد بن زياد، وقد خالفه سعيد بن المسيب، فرواه عن أبي هريرة: «فإن غمّ عليكم فصوموا ثلاثين» . وروايته أولى بالتقديم، لإمامته، واشتهار عدالته وثقته، وموافقته لرأي أبي هريرة ومذهبه، ولخبر ابن عمر الذي رويناه ورواية ابن عمر: «فاقدروا له ثلاثين» مخالفة للرواية الصحيحة المتفق عليها ولمذهب ابن عمر ورأيه. والنهي عن صوم يوم الشك محمول على حال الصحو بدليل ما ذكرنا.

(1/143)


المرض والسفر في هذه الآية، وقد تقدم ذلك؟ قيل: لأن في الآية المتقدمة منسوخاً، فأعاده لئلا يكون مقروناً بالمنسوخ. قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، قال ابن عباس، ومجاهد وقتادة والضحاك: اليسر: الإِفطار في السفر، والعسر: الصوم فيه. وقال عمر بن عبد العزيز: أي ذلك كان أيسر عليك فافعل: الصوم في السفر، أو الفطر. قوله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «ولتكملوا» باسكان الكاف خفيفة. وقرأ أبو بكر عن عاصم بتشديد الميم، وذلك مثل: «وصّى» و «أوصى» وقال ابن عباس: ولتكملوا عدة ما أفطرتم. وقال بعضهم: المراد به: لا تزيدوا على ما افترض، كما فعلت النصارى، ولا تنقلوه عن زمانه كما نقلته، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ، قال ابن عباس: حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال، أن يكبروا لله حتى يفرغوا من عيدهم. فان قيل: ما وجه دخول الواو في قوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ، وليس هناك ما يعطف عليه؟ فالجواب: أن هذه الواو عطفت اللام التي بعدها على لام محذوفة، والمعنى: ولا يريد بكم العسر، ليسعدكم، ولتكملوا العدة، فحذفت اللام الأولى لوضوح معناها، ذكره ابن الأنباري.
فصل: ومن السنة إظهار التكبير ليلة الفطر، وليلة النحر، وإذا غدوا إلى المصلَّى. واختلفت الرواية عن أحمد، رضي الله عنه، متى يقطع في عيد الفطر، فنقل عنه حنبل: يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة. ونقل الأثرم: إذا جاء المصلَّى، قطع. قال القاضي أبو يعلى: يعني: إذا جاء المصلى وخرج الإمام «1» .
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 3/ 287- 292 ما ملخصه: لا خلاف بين العلماء، رحمهم الله، في أن التكبير مشروع في عيد النحر واختلفوا في مدته، فذهب إمامنا، رضي الله عنه، إلى أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر في آخر أيام التشريق، وهو قول عمر، وعلي، وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم. وإليه ذهب الثوري، وابن عينية وأبو يوسف ومحمد والشافعي في بعض أقواله. وعن ابن مسعود أنه كان يكبر من غداة عرفة إلى العصر من يوم النحر. وإليه ذهب علقمة، والنخعي، وأبو حنيفة، لقوله: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ وهي العشر، وأجمعنا على أنه لا يكبّر قبل يوم عرفة، فينبغي أن يكبر يوم عرفة ويوم النحر.
وعن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز، أن التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق.
وبه قال مالك، والشافعي في المشهور عنه لأن الناس تبع للحاج، والحاجّ يقطعون التلبية مع أول حصاة.
ويكبرون مع الرمي، وإنما يرمون يوم النحر، فأول صلاة بعد الظهر وآخر صلاة يصلون بمنى الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق. ولنا ما روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى الصبح يوم عرفة وأقبل علينا، فقال: «الله أكبر، الله أكبر» . ومدّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق. أخرجه الدارقطني من طرق، وفي بعضها: «الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد» ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود. رواه سعيد عن عمر وعلي وابن عباس وروى بإسناده عن عمير بن سعيد، أن عبد الله كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى العصر من يوم النحر، فأتانا علي بعده فكبّر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد. قيل لأحمد، رحمه الله: بأي حديث تذهب، إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق؟ قال: بالإجماع، عمر، وعلي، وابن عباس وابن مسعود، رضي الله عنهم، ولأن الله تعالى قال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وهي أيام التشريق، فيتعين الذكر في جميعها.
- وصفة التكبير: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد. وهذا قول عمر، وعلي، وابن مسعود. وبه قال الثوري وأبو حنيفة، وإسحاق، وابن المبارك، إلا أنه زاد: على ما هدانا. لقوله:
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ.

(1/144)


وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

[سورة البقرة (2) : آية 186]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
قوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي. في سبب نزولها خمسة أقوال:
(63) أحدها: أن أعرابياً جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية، رواه الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده.
(64) والثاني: أن يهود المدينة قالوا: يا محمد! كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام؟! فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(65) والثالث: أنهم قالوا: يا رسول الله! لو نعلم أية ساعة أحب إلى الله أن ندعو فيها دعونا، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء.
(66) والرابع: أن أصحاب النبي قالوا له: أين الله؟ فنزلت هذه الآية، قاله الحسن.
(67) والخامس: أنه لما حرم في الصوم الأول على المسلمين بعد النّوم الأكل والجماع أكل
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 2912 عن الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده، وإسناده ضعيف لجهالة الصلت.
باطل. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو من رواية الكلبي كما صرّح بذلك البغوي. قال في «معالم التنزيل» 1/ 155: رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. والكلبي كذاب، وأبو صالح ليس بثقة، وقد رويا تفسيرا موضوعا عن ابن عباس، انظر المقدمة. ثم لفظ «عبادي» يدل على أن السائل من المؤمنين إن كان ثمّ سائل، والصواب عدم صحة سبب نزول في هذه الآية، وإذا هنا بمعنى لو. أي لو سألك عبادي. والله أعلم.
ضعيف، أخرجه الطبري 2915 و 2916 عن عطاء مرسلا، فهو ضعيف.
ضعيف، أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 196 والطبري 2913 عن الحسن مرسلا، ومراسيل الحسن واهية لأنه كان يحدث عن كل أحد، كما هو مقرر في كتب المصطلح.
باطل، عزاه المصنف لمقاتل، وإذا أطلق فهو ابن سليمان المفسر المشهور، وهو متهم بالكذب.
- الخلاصة: لم يصح في هذه الآية سبب نزول، والذي يستفاد من الآية هو أن الله عزّ وجلّ قريب من عباده، فلا يجوز أن يجعل الإنسان بينه وبين الله واسطة وإنما يدعوه ويسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
- قال الإمام عبد الله بن محمود في كتاب «الاختيار» في فروع الحنفية 4/ 164 نقلا عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: ويكره أن يدعو الله إلّا به. قال في شرحه: فلا يقول أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو بأنبيائك، ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.

(1/145)


رجل منهم بعد أن نام، ووطيء رجل بعد أن نام، فسألوا: كيف التوبة مما عملوا؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الكلام: إذا سألوك عني فأعلمهم أني قريب.
وفي معنى «أجيب» قولان: أحدهما: أسمع، قاله الفراء، وابن القاسم. والثاني: أنه من الإِجابة:
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، أي: فليجيبوني. قال الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب أراد: فلم يجبه. وهذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج. لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، قال أبو العالية: يعني: يهتدون.
فصل: إن قال قائل: هذه الآية تدل على أن الله تعالى يجيب أدعية الداعين، وترى كثيراً من الداعين لا يستجاب لهم! (68) فالجواب: أن أبا سعيد روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إِثم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إِما أن يعجل دعوته، وإِما أن يدخرها له في الآخرة، وإِما أن يدفع عنه من السوء مثلها» .
وجواب آخر: وهو أن الدعاء تفتقر إجابته إلى شروط أصلها الطاعة لله، ومنها أكل الحلال، فإن أكل الحرام يمنع إجابة الدعاء، ومنها حضور القلب.
(69) ففي بعض الحديث: «لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاه» .
__________
صحيح. أخرجه أحمد 3/ 18 والبخاري في «الأدب المفرد» 710 والحاكم 1/ 493 من حديث أبي سعيد وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وكذا صححه القاضي عبد الحق كما نقل القرطبي 919 بتخريجنا.
وله شاهد أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» 711 من حديث أبي هريرة وإسناده حسن.
حديث ضعيف، لا يتقوى بشواهده بسبب شدة ضعفها. أخرجه أحمد 2/ 177 من طريق حسن عن ابن لهيعة عن بكر بن عمرو عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله عزّ وجلّ أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل» . إسناده ضعيف مداره على ابن لهيعة، وقد اختلط، وليس الراوي عنه أحد العبادلة. ومع ذلك قال المنذري في «الترغيب» 2459: رواه أحمد بإسناد حسن!!. وتبعه على ذلك الهيثمي في «المجمع» 1/ 147/ 13203 فقال: رواه أحمد بإسناد حسن!!، وصححه أحمد شاكر في «المسند» 6655؟!.
- وله شاهد من حديث ابن عمر: أخرجه الطبراني كما في «المجمع» 10/ 147/ 17205 وقال الهيثمي: فيه بشير بن ميمون الواسطي، وهو مجمع على ضعفه. قلت: بل هو متروك، قال البخاري: يذكر بوضع الحديث، وقال النسائي متروك، فهذا شاهد لا يفرح به، ولا فائدة منه. وله شاهد من حديث أبي هريرة:
أخرجه الترمذي 3479 والحاكم 1/ 493 وابن حبان في «المجروحين» 1/ 372 والخطيب 4/ 356 وابن عدي 4/ 62 وابن عساكر 4/ 360 من طرق عن صالح بن بشير المري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة به مرفوعا. وإسناده واه لأجل صالح بن بشير. قال الذهبي في «الميزان» 2/ 289: ضعفه ابن معين والدارقطني، وقال أحمد: هو صاحب قصص، ليس هو صاحب حديث، ولا يعرف الحديث، وقال الفلاس:
منكر الحديث جدا، وقال النسائي: متروك، وقال البخاري منكر الحديث. قال الذهبي: وروى عباس عن يحيى: ليس به بأس، لكن روى خمسة عن يحيى جرحه. وقال ابن حبان: كان يروي الشيء الذي سمعه من ثابت والحسن وهؤلاء على التوهم، فيجعله عن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فظهر في روايته الموضوعات التي يرويها عن الأثبات، واستحق الترك، وكان ابن معين شديد الحمل عليه، وهو الذي يروي عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «ادعوا الله..» الحديث. قلت: فالرجل ضعيف جدا متروك الحديث، وقد جاء بهذا المتن عن هشام عن ابن سيرين وحده، ولم يتابع عليه، ولو كان هذا الحديث عند هشام أو ابن سيرين لرواه الثقات لأن كلا منهما إمام يجمع حديثه، فكيف ولم يتابعه عليه ضعيف مثله أو دونه،، لذا أورده ابن حبان وابن عدي وغيرهما في كتب الضعفاء. وضعفه الترمذي بقوله: غريب. وأما الحاكم، فقال: حديث مستقيم الإسناد، تفرد به صالح المري وهو أحد زهاد البصرة. وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: صالح متروك.
وقال المنذري 2460 بعد كلام الحاكم: صالح لا شك في زهده،. لكن تركه أبو داود والنسائي. وذكر ذلك الألباني في «الصحيحة» 594 وقال: لكن روي له شاهد بسند ضعيف أخرجه أحمد 2/ 177 فذكر حديث ابن عمرو المتقدم. قلت: ولم يصب الألباني بإدراجه في «الصحيحة» بل وليس هو من قبيل الحسن لشدة ضعف حديث أبي هريرة، ويكفي في ذلك قول البخاري عن صالح المري: منكر الحديث. وقد قال البخاري: كل من قلت عنه منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه.
- الخلاصة: حديث أبي هريرة ضعيف جدا وكذا حديث ابن عمر، وأما حديث ابن عمرو فهو ضعيف فحسب، ولا يتقوى بشاهديه لشدة ضعف إسناديهما، والله أعلم.

(1/146)


أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

وجواب آخر: وهو أن الداعي قد يعتقد المصلحة في إجابته إلى ما سأل، وقد لا تكون المصلحة في ذلك، فيجاب إلى مقصوده الأصلي، وهو: طلب المصلحة، وقد تكون المصلحة في التأخير أو في المنع.

[سورة البقرة (2) : آية 187]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ. سبب نزول هذه الآية:
(70) أن الصحابة كانوا إذا نام الرجل قبل الأكل والجماع، حرما عليه إلى أن يفطر، فجاء شيخ
__________
أصله قوي. أخرجه وكيع وعبد بن حميد كما في «الدر المنثور» 1/ 358 والطبري 2943 و 2944 من طرق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه، والسياق لوكيع وعبد بن حميد.
وإسناده صحيح إلى ابن أبي ليلى، وعلته الإرسال فقط، فالمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.
- وورد بنحوه من مرسل السدي: أخرجه الطبري 2957. وورد عن ابن عباس: أخرجه الطبري 2951 وإسناده واه، فيه عطية العوفي واه، وعنه من لا يعرف. ورد من مرسل عكرمة: أخرجه الطبري 2959.
- وقد ورد روايات أخرى في قصة عمر بمفرده وكذا في قصة أبي قيس بن صرمة. وأصح شيء ورد في هذا هو ما أخرجه البخاري 1915 وأبو داود 2314 والترمذي 2968 وأحمد 4/ 295 والدارمي 2/ 5 والنسائي في «التفسير» 43 والواحدي في «الأسباب» 92 كلهم عن البراء بن عازب: «كان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك! فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت: أُحِلَّ لَكُمْ ... الآية ففرحوا فرحا شديدا» لفظ البخاري.

(1/147)


من الأنصار وهو صائم إلى أهله، فقال: عشوني، فقالوا: حتى نسخن لك طعاماً، فوضع رأسه فنام، فجاؤوا بالطعام، فقال: قد كنت نمت، فبات يتقلب ظهراً لبطن، فلما أصبح أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! إني أردت أهلي الليلة، فقالت: إنها قد نامت، فظننتها تعتل، فواقعتها، فأخبرتني أنها قد نامت، فأنزل الله تعالى في عمر بن الخطاب: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ، وأنزل الله في الأنصاري: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، هذا قول جماعة من المفسرين. واختلفوا في اسم هذا الأنصاري على أربعة أقوال «1» :
أحدها: قيس بن صرمة، قاله البراء. والثاني: صرمة بن أنس، قاله القاسم بن محمد. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: صرمة بن مالك. والثالث: ضمرة بن أنس. والرابع: أبو قيس بن عمر.
وذكر القولين أبو بكر الخطيب. فأما «الرفث» فقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء والحسن وابن جبير في آخرين: هو الجماع.
قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ، فيه قولان: أحدهما: أن اللباس السّكن. ومثله جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً، أي سكناً. وهذا قول ابن عباس وابن جبير ومجاهد وقتادة. والثاني: أنهن بمنزلة اللباس لإفضاء كل واحد ببشرته إلى بشرة صاحبه، فكنى عن اجتماعهما متجردين باللباس. قال الزجاج: والعرب تسمي المرأة: لباساً وإزاراً، قال النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تثنت فكانت عليه لباساً
وقال غيره:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدىً لك من أخي ثقة إِزاري
يريد بالإزار: امرأته.
قوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ، قال ابن قتيبة: يريد: تخونونها بارتكاب ما حُرِّمَ عليكم. قال ابن عباس: وعنى بذلك فعل عمر، فإنه أتى أهله، فلما اغتسل أخذ يلوم نفسه ويبكي. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ، أصل المباشرة: إلصاق البشرة بالبشرة. وقال ابن عباس: المراد بالمباشرة هاهنا الجماع. وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: أنه الولد، قاله ابن
__________
(1) قال الحافظ في «الفتح» 4/ 130 بعد أن ذكر روايات متعددة مختلفة في تعيين الأنصاري: والجمع بين هذه الروايات أنه أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي بن عامر ...
(2) القول الأول هو الذي ذهب إليه الأكثر كما في تفسير الطبري 2973 فما بعد، وهو الذي اختاره الطبري، مع أن القول الثاني هو الأقرب يدل عليه سياق الآيات وسباقها. وأما القول الثالث فهو غريب بعيد. وأما القول الرابع فهو مما يدخل في القول الثاني، والله أعلم.

(1/148)


عباس، والحسن، ومجاهد في آخرين. قال بعض أهل العلم: لما كانت المباشرة قد تقع على ما دون الجماع، أباحهم الجماع الذي يكون من مثله الولد، فقال: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يريد: الولد.
والثاني: أن الذي كتب لهم الرخصة، وهو قول قتادة، وابن زيد. والثالث: أنه ليلة القدر، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والرابع: أنه القرآن، فمعنى الكلام: اتبعوا القرآن، فما أُبيح لكم وأمرتم به فهو المبتغى، وهذا اختيار الزجاج.
قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ. قال عدي بن حاتم:
(71) لما نزلت هذه الآية، عمدت إلى عقالين، أبيض وأسود، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أقوم في الليل ولا أستبين الأسود من الأبيض، فلما أصبحت غدوت على رسول الله فأخبرته، فضحك وقال: «إِن كان وسادك إِذاً لعريض، إِنما ذاك بياض النهار من سواد الليل» .
(72) وقال سهل بن سعد: نزلت هذه الآية: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، ولم ينزل: مِنَ الْفَجْرِ، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبيّن له رؤيتهما، فأنزل الله بعد ذلك مِنَ الْفَجْرِ، فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار.
فصل: إذا شك في الفجر، فهل يدع السحور أم لا؟ فظاهر كلام أحمد يدل على أنه لا يدع السحور، بل يأكل حتى يستيقن طلوع الفجر. وقال مالك: أكره له أن يأكل إذا شك في طلوع الفجر، فان أكل فعليه القضاء. وقال الشافعي: لا شيء عليه «1» .
قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، في هذه المباشرة قولان: أحدهما: أنها المجامعة، وهو قول الاكثرين. والثاني: أنها ما دون الجماع من اللمس والقبلة، قاله ابن زيد. وقال قتادة: كان الرجل المعتكف إذا خرج من المسجد، فلقي امرأته باشرها إذا أراد ذلك، فوعظهم الله في ذلك.
فصل: الاعتكاف في اللغة: اللبث، يقال: فلان معتكف على كذا، وعاكف. وهو فعل مندوب إليه، إلا أن ينذره الإنسان، فيجب. ولا يجوز إلا في مسجد تقام فيه الجماعات، ولا يشترط في حقّ
__________
صحيح. أخرجه البخاري 1916 و 4509 و 4510 ومسلم 1090 وأبو داود 2349 والترمذي 2970 و 2971 وأحمد 4/ 377 والدارمي 2/ 5 والطحاوي 2/ 53 وابن خزيمة 1925 وابن حبان 3462 و 3463 والحميدي 916 وابن أبي شيبة 3/ 28 والطبراني 172 و 179 والبيهقي 4/ 215 والبغوي 1/ 158 من طرق عن عدي بن حاتم. وانظر «تفسير الشوكاني» 290 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 1917 ومسلم 1091 والنسائي في «التفسير» 42 والطبري 2/ 100 والبيهقي 4/ 215 من حديث سهل بن سعد. وانظر «تفسير الشوكاني» 289 بتخريجنا.
__________
(1) فائدة: قال القرطبي رحمه الله 2/ 325: من شك في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء، كالناس. ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر.

(1/149)


المرأة مسجد تقام فيه الجماعة، إذ الجماعه لا تجب عليها. وهل يصح بغير صوم؟ فيه عن أحمد روايتان «1» .
قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، قال ابن عباس: يعني: المباشرة فَلا تَقْرَبُوها، قال الزجّاج:
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 4/ 456: والاعتكاف سنة، إلا أن يكون نذرا، فيلزم الوفاء به ولا خلاف. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضا، إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا، فيجب عليه. ومما يدل على أنه سنة، فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ومداومته عليه، تقربا إلى الله تعالى، ويدل على أنه غير واجب أن أصحابه لم يعتكفوا ولا أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم به إلا من أراده. وقال عليه السلام: «من أراد أن يعتكف، فليعتكف العشر الأواخر» . ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه يعني تقام الجماعة فيه وإنما اشترط ذلك، لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر ذلك منه كثيرا مع إمكان التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف. إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه. ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلا. ولا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا. وقال مالك: يصح الاعتكاف في كل مسجد، لعموم قوله تعالى «وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ» وهو قول الشافعي إذا لم يكن اعتكافه يتخلله جمعة.
وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد. ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها. وبهذا قال الشافعي.
وليس لها الاعتكاف في بيتها. وقال أبو حنيفة والثوري: لها الاعتكاف في مسجد بيتها، وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه. واعتكافها فيه أفضل. وحكي عن أبي حنيفة، أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة.
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ترك الاعتكاف في المسجد، لما رأى أبنية أزواجه فيه، وقال: «آلبر تردن» . ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها. ولنا قوله تعالى: وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ المراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد، لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمي مسجدا كان مجازا، كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا» . ولأن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم استأذنه في الاعتكاف في المسجد، فأذن لهن، ولو لم يكن موضعا لاعتكافهن لما أذن فيه، ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه.. وقال: ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره بصوم، والمشهور في المذهب أن الاعتكاف يصح بغير صوم. روي ذلك عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والشافعي وإسحاق وعن أحمد رواية أخرى، أن الصوم شرط في الاعتكاف. قال: إذا اعتكف يجب عليه الصوم وبه قال الزهري ومالك وأبو حنيفة والليث، والثوري، لما روي عن عائشة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «لا اعتكاف إلا بصوم» رواه الدارقطني. وعن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «اعتكف وصم» ولأنه لبث في مكان مخصوص فلم يكن بمجرده قربة، كالوقوف. ولنا ما روى ابن عمر عن عمر أنه قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أوف بنذرك» رواه البخاري. ولو كان الصوم شرطا لما صح اعتكاف الليل، لأنه لا صيام فيه ولأنه عبادة تصح في الليل، ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع ولم يصح فيه نص ولا إجماع. قال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن أبي سهل، قال: كان على امرأة من أهلي اعتكاف، فسألت عمر بن عبد العزيز. فقال: ليس عليها صيام، إلا أن تجعله على نفسها. فقال الزهري: لا اعتكاف إلا بصوم. فقال عمر: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لا. قال فعن أبي بكر؟
قال: لا. قال: فعن عمر؟ قال: لا. قال: وأظنه قال: فعن عثمان؟ قال: لا. فخرجت من عنده، فلقيت عطاء وطاوسا، فسألتهما، فقال طاوس: كان فلان لا يرى عليها صياما، إلا أن تجعله على نفسها، وأحاديثهم لا تصح. أما حديثهم عن عمر، فتفرّد به ابن بديل، وهو ضعيف. والصحيح ما رويناه، أخرجه البخاري والنسائي، وغيرهما. وحديث عائشة موقوف عليها، ومن رفعه فقد وهم. فإن الصوم فيه أفضل. ويخرج به من الخلاف.

(1/150)


وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

الحدود ما منع الله من مخالفتها، فلا يجوز مجاوزتها. وأصل الحد في اللغة: المنع، ومنه: حد الدار، وهو ما يمنع غيرها من الدخول فيها. والحداد في اللغة: الحاجب والبوّاب، وكلّ ما منع شيئاً فهو حداد، قال الأعشى:
فقمنا ولما يصحْ ديكنا ... إِلى جونة عند حدادها
أي: عند ربها الذي يمنعها إلا بما يريده. وأحدّث المرأة على زوجها، وحدّت فهي حاد، ومحد: إذا قطعت الزينة، وامتنعت منها، وأحددت النظر إلى فلان: إذا منعت نظرك من غيره. وسمي الحديد حديدا، لأنه يمتنع به من الأعداء.
قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ، أي: مثل هذا البيان الذي ذكر.

[سورة البقرة (2) : آية 188]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ.
__________
سبب نزولها: أنّ امرأ القيس بن عابس وعبدان الحضرمي، اختصما في أرض، وكان عبدان هو الطالب ولا بينة له، فأراد امرؤ القيس أن يحلف، فقرأ عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا، فكره أن يحلف، ولم يخاصم في الأرض، فنزلت هذه الآية. هذا قول جماعة، منهم: سعيد بن جبير.
ومعنى الآية: لا يأكل بعضكم مال بعض، كقوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. قال القاضي أبو يعلى:
والباطل على وجهين: أحدهما: أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه، كالسرقة، والغصب، والخيانة.
والثاني: أن يأخذه بطيب نفسه، كالقمار، والغناء، وثمن الخمر، وقال الزجاج: الباطل: الظلم.
«وتدلوا» أصله في اللغة من: أدليت الدلو: إِذا أرسلتها لتملأها، ودلوتها إِذا أخرجتها. ومعنى أدلى فلان بحجته: أرسلها، وأتى بها على صحة. فمعنى الكلام: تعملون على ما يوجبه إدلاء الحجّة، وتخونون في الأمانة، وأنتم تعلمون أنّ الحجّة عليكم في الباطن «1» . وفي هاء «بها» قولان: أحدهما:
(73) ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» 94 للسيوطي عن سعيد بن جبير مرسلا، ولم أقف على إسناده إلى سعيد، وهو ضعيف بكل حال، لإرساله، فالمرسل ضعيف عند أهل الحديث.
- وذكره الواحدي 95 وعزاه لمقاتل بن حيان، وهذا مرسل، وهو بدون إسناد، ومقاتل ذو مناكير.
- وأصله صحيح، انظر صحيح البخاري 2416 ومسلم 139 فهو بهذا اللفظ مع ذكر سبب النزول ضعيف.
__________
(1) فائدة: قال القرطبي رحمه الله 2/ 336: من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل. ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر. وهذا إجماع في الأموال، وإن كان عند أبي حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا، وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال فهو في الفروج أولى. وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار- في رواية- فليحملها أو يذرها) وعلى هذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن. واتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قلّ أو كثر أنه يفسق بذلك، وأنه محرّم عليه أخذه. خلافا لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا: إن المكلّف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يفسق بدون ذلك. وكله مردود بالقرآن والسنة واتفاق العلماء، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» الحديث متفق عليه.

(1/151)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

أنها ترجع إلى الأموال، كأنه قال: لا تصانعوا ببعضها جَوَرَة الحكام. والثاني: أنها ترجع إلى الخصومة.
إن قيل: كيف أعاد ذكر الأكل فقال: وَلا تَأْكُلُوا لِتَأْكُلُوا؟ فالجواب: أنه وصل اللفظة الأولى بالباطل، والثانية بالإثم، فأعادها للزيادة في المعنى، ذكره ابن الأنباريّ.

[سورة البقرة (2) : آية 189]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ. هذه الآية من أولها إلى قوله: وَالْحَجِّ، نزلت على سبب:
(74) وهو أن رجلين من الصحابة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو دقيقاً، ثم يزيد ويمتلئ حتى يستدير ويستوي، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، هذا قول ابن عباس «1» .
ومن قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها إلى آخرها يدل على سبب آخر:
(75) وهو أنهم كانوا إذا حجوا، ثم قدموا المدينة، لم يدخلوا من باب، ويأتون البيوت من ظهورها، فنسي رجل، فدخل من باب، فنزلت: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها هذا قول البراء بن عازب.
وفيما كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها لأجله أربعة أقوال: أحدها: أنهم كانوا يفعلون ذلك لأجل الإحرام، قاله ابن عباس، وأبو العالية، والنخعي، وقتادة، وقيس النهشلي. والثاني: لأجل دخول الشهر الحرام، قاله البراء بن عازب. والثالث: أن أهل الجاهلية كانوا إذا همَّ أحدهم بالشيء فاحتبس عنه لم يأت بيته من بابه حتى يأتي الذي كان هم به، قاله الحسن. والرابع: أن أهل المدينة كانوا إذا رجعوا من عيدهم فعلوا ذلك، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه.
__________
باطل. أخرجه أبو نعيم وابن عساكر كما في «أسباب النزول» 97 للسيوطي من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وهذا إسناد ساقط، بل هذه السلسلة هي سلسلة الكذب، فالسدي هو الصغير متهم، والكلبي كذبه غير واحد، وتقدم في المقدمة بيانه. وعزاه الواحدي في «الأسباب» 98 للكلبي.
صحيح. أخرجه البخاري 4512 ومسلم 3026 والواحدي في «أسباب النزول» 99 عن البراء بن عازب.
__________
(1) كذا وقع للمصنف رحمه الله! وهو غريب، إذ ورد عن ابن عباس مرفوعا، ثم مع ذلك ينسب ذلك لابن عباس، مع أن ابن الجوزي رحمه الله من أهل الحديث، ولكل جواد كبوة، والله الموفق للصواب.

(1/152)


وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

فأما التفسير فانما سألوه عن وجه الحكمة في زيادة الأهلَّة ونقصانها، فأخبرهم أنها مقادير لما يحتاج الناس إليه في صومهم وحجهم وغير ذلك. والأهلَّة: جمع هلال. وكم يبقى الهلال على هذه التسمية؟ فيه للعرب أربعة أقوال: أحدها: أنه يسمى هلالاً لليلتين من الشهر. والثاني: لثلاث ليال، ثم يسمى قمراً. والثالث: إلى أن يحجر، وتحجيره: أن يستدير بخطة دقيقة، وهو قول الأصمعي.
والرابع: إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل. حكى هذه الأقوال ابن السري واختار الأول، قال: واشتقاق الهلال من قولهم: استهل الصبي: إذا بكى حين يولد. وأهل القوم بالحج: إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، فسمي هلالاً لأنه حين يُرى يُهل الناس بذكره.
قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى، مثل قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وقد سبق بيانه، واختلف القرّاء في البيوت وما أشبهها، قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي بكسر باء «البيوت» وعين «العُيون» وغين «الغُيوب» ، وروي عن نافع أنه ضم باء «البيوت» وعين «العيون» وغين «الغيوب» وجيم «الجيوب» وشين «الشيوخ» ، وروى عنه قالون أنه كسر باء «البيوت» ، وقرأ أبو عمرو، وأبو جعفر بضم الأحرف الخمسة، وكسرهن جميعاً حمزة، واختلف عن عاصم. قال الزجاج: من ضم «البيوت» فعلى أصل الجمع: بيت وبيوت، مثل: قلب وقلوب، وفلس وفلوس. ومن كسر، الياء بعد الباء، وذلك عند البصريين رديء جدا، لأنه ليس في الكلام فعول بكسر الفاء. وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: إذا كان الجمع على فعول، وثانيه ياء، جاز فيه الضم والكسر، تقول: بُيوتٌ وبِيوت، وشُيوخٌ وشيوخ، وقيود وقيود.

[سورة البقرة (2) : آية 190]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ (76) سبب نزولها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صُدّ عن البيت، ونحر هديه بالحديبية، وصالحه المشركون على أن يرجع من العام المقبل رجع، فلما تجهز في العام المقبل خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم ويقاتلوهم، وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
قوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا، أي: ولا تظلموا. وفي المراد بهذا الاعتداء أربعة أقوال: أحدها:
أنه قتل النساء والولدان، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أن معناه: لا تقاتلوا من لم يقاتلكم، قاله سعيد بن جبير، وأبو العالية، وابن زيد. والثالث: أنه إتيان ما نهوا عنه، قاله الحسن. والرابع: أنه ابتداؤهم بالقتال في الحرم في الشهر الحرام، قاله مقاتل.
فصل: اختلف العلماء: هل هذه الآية منسوخة أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنها منسوخة. واختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين: أحدهما: أنه
__________
ضعيف جدا، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 102 تعليقا عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به، وهذا إسناد ساقط، وتقدم بيانه في المقدمة. وسيأتي بنحو هذا السياق عند الآية 194.

(1/153)


أولها، وهو قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، قالوا: وهذا يقتضي أن القتال يباح في حق من قاتل من الكفار، ولا يباح في حق من لم يقاتل، وهذا منسوخ بقوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ.
والثاني: أن المنسوخ منها: وَلا تَعْتَدُوا، ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان: أحدهما: أنه قتل من لم يقاتل. والثاني: أنه ابتداء المشركين بالقتال، وهذا منسوخ بآية السيف.
والقول الثاني: أنها محكمة، ومعناها عند أرباب هذا القول: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وهم الذين أعدوا أنفسهم للقتال، فأما من ليس بمعدٍّ نفسه للقتال، كالرهبان والشيوخ الفناة، والزمنى، والمكافيف، والمجانين، فان هؤلاء لا يقاتلون وهذا حكمٌ باقٍ غيرُ منسوخ «1» .
فصل: واختلف العلماء في أول آية نزلت في إباحة القتال على قولين: أحدهما: أنها قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، قاله أبو بكر الصِّدِّيق، وابن عباس، وسعيد بن جبير، والزهري. والثاني: أنها هذه الآية: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قاله أبو العالية، وابن زيد.
__________
(1) فائدة: قال القرطبي رحمه الله 2/ 346: وللعلماء فيهم صور ست: الأولى: النساء إن قاتلن قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيّرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.
الثانية: الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم فإن قاتل الصبي قتل.
الثالثة: الرهبان لا يقتلون ولا يسترقّون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد: «وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له» . فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة لا تهاج. رواه أشهب وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها.
الرابعة: الزّمنى. قال سحنون: يقتلون. وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة.
الخامسة: الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة. والثاني: يقتل هو والراهب. والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت به إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيّرا بين خمسة أشياء: القتل أو المنّ أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذّمّة على أداء الجزية.
السادسة: العسفاء، وهم الأجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية والأول أصح، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن ربيع: «الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا» وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرية والفلاحين لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرّاثا. وقوله تعالى لا تَعْتَدُوا قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة. وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة. وقيل: لا تَعْتَدُوا أي لا تقاتلوا من لم يقاتل فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار والله أعلم.

(1/154)


وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)

[سورة البقرة (2) : آية 191]
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191)
قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. أي: وجدتموهم. يقال: ثقفته أثقفه: إذا وجدته. قال القاضي أبو يعلى: قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، عام في جميع المشركين، إلا من كان بمكة، فانهم أمروا باخراجهم منها، إلا من قاتلهم فإنهم أُمروا بقتالهم، يدل على ذلك قوله في نسق الآية:
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، وكانوا قد آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج، فكأنهم أخرجوهم. فأما الفتنة، ففيها قولان: أحدهما: أنها الشرك، قاله ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وقتادة في آخرين. والثاني: أنها ارتداد المؤمن إلى عبادة الأوثان، قاله مجاهد. فيكون معنى الكلام على القول الأول: شرك القوم أعظم من قتلكم إياهم في الحرم. وعلى الثاني: ارتداد المؤمن إلى الأوثان أشد عليه من أن يقتل محقاً. قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فان قتلوكم) ، بحذف الألف فيهن. وقد اتفق الكل على قوله: فَاقْتُلُوهُمْ، فاحتجّ من قرأ بالألف بقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، واحتج من حذف الألف بقوله: فَاقْتُلُوهُمْ.
فصل: واختلف العلماء في قوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، هل هو منسوخ أم لا؟ فذهب مجاهد في جماعة من الفقهاء إلى أنه محكم وأنه لا يقاتل فيه إلا من قاتل.
(77) ويدل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه خطب يوم فتح مكة، فقال: «يا أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والارض، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي.
وإنما أُحلت لي ساعةً من نهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة» .
فبين صلّى الله عليه وسلّم أنه خص في تلك الساعة بالإباحة على سبيل التخصيص، لا على وجه النسخ، فثبت بذلك حظر القتال في الحرم، إلا أن يقاتلوا فيدفعون دفعا، وهذا أمر مستمر الحكم غير منسوخ، وقد ذهب قتادة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، فأمر بقتالهم في الحل والحرم وعلى كل حال. وذهب الربيع بن أنس، وابن زيد، إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وزعم مقاتل إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. والقول الأول أصح. قوله تعالى: فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، قال مقاتل: أي: فقاتلوهم.

[سورة البقرة (2) : آية 192]
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
قوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: فإن انتهوا عن شركهم وقتالكم.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 1120 و 2434 و 6880 ومسلم 1355 و 448 وأبو داود 2017 و 4505 والترمذي 1405 و 2667 والبيهقي 8/ 53 وقال الترمذي: حسن صحيح وابن ماجة مختصرا 2624 وابن حبان 3715 وأحمد مطولا ومفرقا 2/ 238 والبيهقي في «السنن» 8/ 52 من طرق عن أبي هريرة.

(1/155)


وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

والثاني: عن كفرهم. والثالث: عن قتالكم دون كفرهم، فعلى القولين الأولين تكون الآية محكمة، ويكون معنى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور لشركهم وجرمهم، وعلى القول الأخير يكون في معنى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ قولان: أحدهما: غفور لكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم. والثاني: أن معناه: يأمركم بالغفران والرحمة لهم. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية السّيف.

[سورة البقرة (2) : آية 193]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ. قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة في آخرين:
الفتنة هاهنا: الشرك. قوله تعالى: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، قال ابن عباس: أي يخلص له التوحيد.
والعدوان: الظلم، وأُريد به هاهنا الجزاء، فسمي الجزاء عدواناً مقابلة للشيء بمثله، كقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ، والظالمون هاهنا المشركون، قاله عكرمة وقتادة في آخرين.
فصل: وقد روي عن جماعة من المفسرين، منهم قتادة، أن قوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، منسوخ بآية السيف، وإنما يستقيم هذا إذا قلنا: إن معنى الكلام: فإن انتهوا عن قتالكم مع إقامتهم على دينهم، فأما إذا قلنا: إن معناه: فإن انتهوا عن دينهم فالآية محكمة.

[سورة البقرة (2) : آية 194]
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ هذه الآية نزلت على سبب واختلفوا فيه على قولين:
(78) أحدهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أقبل هو وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي، فصدهم المشركون، فصالحهم نبي الله على أن يرجع عنهم ثم يعود في العام المقبل، فيكون بمكة ثلاث ليال، ولا يدخلها بسلاح، ولا يخرج بأحد من أهل مكة، فلما كان العام المقبل أقبل هو وأصحابه فدخولها، فافتخر المشركون عليه إذ ردوه يوم الحديبية، فأقصه الله منهم وأدخله مكة في الشهر الذي ردوه فيه، فقال: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وقتادة في آخرين.
(79) والثاني: أن مشركي العرب قالوا للنبي عليه السلام: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال:
«نعم» ، وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام، فيقاتلوه فيه، فنزلت هذه الآية، يقول: إن استحلّوا منكم شيئاً في الشهر الحرام، فاستحلوا منهم مثله، هذا قول الحسن، واختاره إبراهيم بن السّريّ الزجّاج.
__________
حسن صحيح بشواهده. أخرجه الطبري 3139 عن قتادة مرسلا. وكرره 3140 من مرسل قتادة ومقسم، وبرقم 3137 من مرسل مجاهد و 3141 من مرسل السدي، وبرقم 3143 من مرسل الربيع بن أنس وبرقم 3144 عن ابن عباس، لكن إسناده واه، فيه مجاهيل.
الخلاصة: رووه بألفاظ متقاربة والمعنى واحد، فالخبر حسن بشواهده.
عزاه المصنف للحسن، ولم أقف على إسناده، وهو مرسل، بكل حال، ومراسيل الحسن واهية، والخبر المتقدم هو المحفوظ في هذا.

(1/156)


وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

وأما أرباب القول الأول فيقولون: معنى الآية: الشهر الحرام الذي دخلتم فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه عام أول. وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ: اقتصصت لكم منهم في ذي القعدة كما صدوكم في ذي القعدة. وقال الزجاج: الشهر الحرام، أي: قتال الشهر الحرام بالشهر الحرام، فأعلم الله عزّ وجلّ أن أمر هذه الحرمات لا تجوز للمسلمين إلا قصاصاً، ثم نسخ ذلك بآية السيف، وقيل: إنما جمع الحرمات، لأنه أراد الشهر الحرام بالبلد الحرام، وحرمة الإحرام.
قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ، قال ابن عباس: من قاتلكم في الحرم فقاتلوه.
وإنما سمى المقابلة على الاعتداء اعتداءً، لأن صورة الفعلين واحدة، وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية. قال الزجاج: والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته، أي: جازيته بظلمه. وجهل فلان عليَّ، فجهلت عليه. وقد سبق بيان هذا المعنى في أول السورة.
قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ، قال سعيد بن جبير: واتقوا الله ولا تبدأوهم بقتال في الحرم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 195 الى 196]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)
قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. هذه الآية نزلت على سبب، وفيه قولان:
(80) أحدهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما أمر بالتجهز إلى مكة، قال ناسٌ من الأعراب: يا رسول الله! بماذا نتجهز؟ فو الله ما لنا زاد ولا مال! فنزلت، قاله ابن عباس.
__________
والثاني: أن الأنصار كانوا ينفقون ويتصدّقون، فأصابهم سنة، فأمسكوا فنزلت، قاله أبو جبيرة بن الضحاك.
والسبيل في اللغة: الطريق. وإنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد، لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين. والتهلكة: بمعنى الهلاك، يقال: هلك الرجل يهلك هلاكاً وهُلكاً وتهلكة. قال المبرد: وأراد بالأيدي: الأنفس فعبر بالبعض عن الكل. وفي المراد بالتهلكة هاهنا أربعة أقوال:
(80) لم أقف عليه بعد البحث، ولم يذكره سوى المصنف والقرطبي 2/ 360، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.
- وانظر ما بعده.
صحيح. أخرجه أبو يعلى كما في «إتحاف المهرة» 6345 وابن حبان 5709 والطبراني 22/ 390 والواحدي في «الأسباب» 105 من طريق هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبيرة به. كذا وقع عندهم سوى الطبراني قال: أبو جبيرة بن الضحاك. وهذا هو الصواب.
ورجال إسناده رجال البخاري ومسلم سوى حمّاد فقد تفرد عنه مسلم. وصحابية مختلف في صحبته. قال البوصيري في «الإتحاف» : رجال أبي يعلى ثقات. وقال الهيثمي في «المجمع» 6/ 317: رجاله رجال الصحيح.

(1/157)


أحدها: أنها ترك النفقة في سبيل الله، قاله حذيفة، وابن عباس، والحسن، وابن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والضحاك. والثاني: أنها القعود عن الغزو شغلاً بالمال، قاله أبو أيوب الأنصاري.
والثالث: أنها القنوط من رحمة الله، قاله البراء، والنعمان بن بشير، وعبيدة. والرابع: أنها عذاب الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس «1» .
قوله تعالى: وَأَحْسِنُوا، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: أحسنوا الإنفاق، وهو قول أصحاب القول الأول. والثاني: أحسنوا الظن بالله، قاله عكرمة، وسفيان، وهو يخرّج على قول من قال: التهلكة: القنوط. والثالث: أن معناه: أدوا الفرائض، رواه سفيان عن أبي إسحاق.
قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، قال ابن فارس: الحج في اللغة: القصد، والاعتمار في الحج أصله: الزيارة. قال ثعلب: الحج بفتح الحاء: المصدر، وبكسرها: الاسم. قال: وربما قال الفراء: هما لغتان. وذكر ابن الأنباري في العمرة قولين: أحدهما: الزيارة. والثاني: القصد. وفي إتمامها أربعة أقوال: أحدها: أن معنى إتمامها: أن يفصل بينهما، فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحج، قاله عمر بن الخطاب، والحسن وعطاء. والثاني: أن يحرم الرجل من دويرة أهله، قاله علي بن أبي طالب، وطاوس، وابن جبير. والثالث: أنه إذا شرع في أحدهما لم يفسخه حتى يتم، قاله ابن عباس.
والرابع: أنه فعل ما أمر الله فيهما، قاله مجاهد.
وجمهور القراء على نصب «العمرة» بايقاع الفعل عليها. وقرأ الأصمعي عن نافع والقزاز عن أبي عمرو والكسائي عن أبي جعفر برفعها، وهي قراءة ابن مسعود وأبي رزين والحسن والشّعبيّ.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 360 بعد أن ذكر الأقوال المتقدمة: وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأدّاهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس.
فهذه خمسة أقوال. و «سبيل الله» هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله. وقيل: لا تأخذوا فيما يهلككم قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم وهلكتم وقيل إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. ويقال لا تنفقوا من حرام فيردّ عليكم فتهلكوا ونحوه عن عكرمة وقال الطبري: قوله «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه إذ اللفظ يحتمله. واختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده فقال القاسم بن مخيمرة: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنيّة خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة. وقيل: إن خلصت الشهادة وخلصت النية فليحمل لأن مقصوده واحد منهم. وقال ابن خويز منداد:
فأما أن يحمل الرجل على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن غلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين.
وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل- هو البراء بن مالك أخو أنس بن مالك كما في تاريخ الطبري- من المسلمين: ضعوني في الحجفة وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب. ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: «فلك الجنة» فانغمس في العدو حتى قتل.

(1/158)


وممن ذهب إلى أن العمرة واجبة، عليّ، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأحمد، والشافعي. وروي عن ابن مسعود، وجابر، والشعبي، وإبراهيم، وأبي حنيفة، ومالك، أنها سنة وتطوع «1» .
قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ، قال ابن قتيبة: أحصره المرض والعدو: إذا منعه من السفر، ومنه هذه الآية. وحصره العدو: إذا ضيق عليه. قال الزجّاج: يقال للرجل إذا منعه الخوف والمرض من التّصرّف قد أحصر فهو محصر. يقال للرجل إذا حبس: قد حصر، فهو محصور. وللعلماء في هذا الإحصار قولان: أحدهما: أنه لا يكون إلا بالعدو، ولا يكون المريض محصراً. وهذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأنس، ومالك، والليث، والشافعي، وأحمد. ويدل عليه قوله: فَإِذا أَمِنْتُمْ.
والثاني: أنه يكون بكل حابس من مرض أو عدو أو عذر، وهو قول عطاء، ومجاهد، وقتادة، وأبي حنيفة. وفي الكلام اختصار وحذف، والمعنى: فإن أُحصرتم دون تمام الحج والعمرة فحللتم فعليكم ما استيسر من الهدي. ومثله: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ، تقديره: فحلق، ففدية. والهدي: ما أهدي إلى البيت. وأصله: هديّ مشدد، فخفف، قاله ابن قتيبة. وبالتشديد يقرأ الحسن ومجاهد. وفي المراد فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شاة، قاله عليّ بن أبي طالب وابن عباس والحسن وعطاء وابن جبير وإبراهيم وقتادة والضحّاك ومغيرة. والثاني: أنه ما تيسر من الإبل والبقر لا غير، قاله ابن عمر وعائشة، والقاسم. والثالث: أنه على قدر الميسرة، رواه طاوس عن ابن عباس، وروي عن الحسن وقتادة قالا: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة. وقال أحمد: الهدي من الأصناف الثلاثة، الإبل والبقر، والغنم، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ رحمهم الله.
قوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، قال ابن قتيبة: المحل: الموضع الذي يحل به نحره وهو من:
حل يحل. وفي المحل قولان: أحدهما: أنه الحرم، قاله ابن مسعود، والحسن، وعطاء، وطاوس،
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 366: في هذه الآية دليل على وجوب العمرة، لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين. وقال الثوري سمعنا أنها واجبة. وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت» أخرجه الدارقطني وكان مالك يقول: «العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها» . وحكى بعض القرويين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج وبأنها سنة ثابتة قاله ابن مسعود وجابر بن عبد الله. فعن جابر بن عبد الله قال: سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة والزكاة والحج. أواجب هو؟ قال:
«نعم» فسأله عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمر خير لك» رواه يحيى بن أيوب عن حجاج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفا من قول جابر. أخرجه الدارقطني فهذه حجة من لم يوجبها من السنة.
قالوا: وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب، لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وابتدأ بإيجاب الحج فقال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها بابتدائها، فلو حج عشر حجج، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء والله أعلم. واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال: عماد الحج الوقوف بعرفة وليس في العمرة وقوف، فلو كانت كسنّة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها.

(1/159)


ومجاهد، وابن سيرين، والثوري، وأبو حنيفة. والثاني: أنه الموضع الذي أُحصر به فيذبحه ويحل، قاله مالك، والشافعي، وأحمد «1» .
قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ، هذا نزل على سبب:
(82) وهو أن كعب بن عجرة كثر قمل رأسه حتى تهافت على وجهه، فنزلت هذه الآية فيه، فكان يقول: فيّ أنزلت خاصّة.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 1815 مع اختلاف يسير فيه، وانظر ما بعده.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 5/ 194- 197 و 202- 203: أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره عدوّ من المشركين، فمنعوه الوصول إلى البيت، ولم يجد طريقا آمنا، فله التحلل وقد نصّ الله تعالى عليه بقوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر أصحابه يوم حصروا في الحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلّوا. وسواء كان الإحرام بحج أو بعمرة أو بهما في قول إمامنا، وأبي حنيفة والشافعي.
وحكي عن مالك أن المعتمر لا يتحلل، لأنه لا يخاف الفوات. وليس بصحيح، لأن الآية إنما نزلت في حصر الحديبية وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه محرمين بعمرة فحلّوا جميعا. وإن منع من الوصول إلى البيت بمرض أو ذهاب نفقة، بعث الهدي، إن كان معه ليذبحه بمكة، وكان على إحرامه حتى يقدر على البيت. والمشهور في المذهب أن من يتعذر عليه الوصول إلى البيت لغير حصر العدو من مرض أو عرج أو ذهاب نفقة ونحوه، أنه لا يجوز له التحلل بذلك روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس ومروان. وبه قال مالك والشافعي وإسحاق.
وعن أحمد رواية أخرى: له التحلل بذلك. روي نحوه عن ابن مسعود وهو قول عطاء، والنخعي، والثوري، وأصحاب الرأي، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كسر، أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى» رواه النسائي ولأنه محصر يدخل في عموم قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
ووجه الأولى أنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حاله ولا التخلص من الأذى الذي به. ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على ضباعة بنت الزبير فقالت: إني أريد الحج، وأنا شاكية. فقال: «حجّي، واشترطي أن محلّي حيث حبستني» . فلو كان المرض يبيح الحل، ما احتاجت إلى شرط وحديثهم متروك الظاهر، فإن مجرد الكسر والعرج لا يصير به حلالا فإن حملوه على أنه يبيح التحلل، حملناه على ما إذا اشترط الحل بذلك، على أن حديثهم كلاما، فإنه يرويه ابن عباس ومذهبه خلافه. فإن قلنا: يتحلل فحكمه حكم من أحصر بعد وإن قلنا لا يتحلل. فإنه يقيم على إحرامه، ويبعث ما معه من الهدي ليذبح بمكة وليس له نحره في مكانه لأنه لم يتحلل.
فإن فاته الحج تحلل بعمرة، كغير المريض وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه. فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه، وإن لم يكن معه لزمه شراؤه إن أمكنه ويجزئه أدنى الهدي، وهو شاة أو سبع بدنة لقوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وله نحره في موضع حصره، من حل أو حرم. نص عليه أحمد. وهو قول مالك والشافعي. إلا أن يكون قادرا على أطراف الحرم، ففيه وجهان: أحدهما، يلزمه نحره فيه، لأن الحرم كله منحر، وقد قدر عليه. والثاني، ينحره في موضعه لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نحر هديه في موضعه. وعن أحمد: ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه، ويواطئ رجلا على نحره في وقت يتحلل فيه. وهذا يروى عن ابن مسعود، في من لدغ في الطريق. وروي نحو ذلك عن الحسن والشعبي والنخعي والله أعلم، في من كان حصره خاصا وأما الحصر العام فلا ينبغي أن يقوله أحد، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه نحروا هداياهم في الحديبية، وهي من الحل. قال البخاري: قال مالك وغيره: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حلقوا وحلّوا من كل شيء، قبل الطواف. وقبل أن يصل الهدي إلى البيت ولم يذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر أحدا أن يقضي شيئا، ولا يعودوا له.

(1/160)


فصل: قال شيخنا علي بن عبيد الله: اقتضى قوله: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، تحريم حلاق الشعر، سواء وجد به الأذى، أو لم يجد، حتى نزل فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ، فاقتضى هذا إباحة حلق الشعر عند الأذى مع الفدية، فصار ناسخاً لتحريمه المتقدم.
ومعنى الآية: فمن كان منكم- أي: من المحرمين، محصراً كان أو غير محصر- مريضاً، واحتاج إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام، ففعله، أو به أذىً من رأسه فحلق ففدية من صيام. وفي الصيام قولان:
(83) أحدهما: أنه ثلاثة أيام، روي في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه صيام عشرة أيام، روي عن الحسن وعكرمة ونافع.
وفي الصّدقة قولان: أحدهما: إطعام ستة مساكين، روي في حديث كعب، وهو قول من قال:
الصوم ثلاثة أيام. والثاني: أنها إطعام عشرة مساكين، وهو قول من أوجب صوم عشرة أيام. والنسك:
ذبح شاة، يقال: نسكت لله، أي: ذبحت له. وفي النسك لغتان: ضم النون والسين، وبها قرأ الجمهور، وضم النون مع تسكين السين، وهي قراءة الحسن.
قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ، أي: من العدو، إذ المرض لا تؤمن معاودته، وقال علقمة في آخرين: فاذا أمنتم من الخوف أو المرض. فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، معناه: من بدأ بالعمرة في أشهر الحج، وأقام الحج من عامه ذلك فعليه ما استيسر من الهدي. وهذا قول ابن عمر وابن عباس، وابن المسيب، وعطاء، والضحاك. وقد سبق الكلام فيما استيسر من الهدي. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، قال الحسن: هي قبل التّروية بيوم والتّروية، وعرفة، وهذا قول عطاء، والشعبي، وأبي العالية، وابن جبير، وطاوس، وإبراهيم. وقد نقل عن عليّ عليه السّلام. وقد روي عن الحسن، وعطاء قالا:
في أيّ العشر شاء صامهنّ. ونقل عن طاوس، ومجاهد، وعطاء، أنهم قالوا: في أي أشهر الحج شاء فليصمهن. ونقل عن ابن عمر أنه قال: من حين يحرم إلى يوم عرفة.
فصل: فإن لم يجد الهدي، ولم يصم الثلاثة الأيام قبل يوم النحر، فماذا يصنع؟ قال عمر بن الخطّاب، وابن عباس، وابن جبير، وطاوس، وإبراهيم: لا يجزيه إلا الهدي ولا يصوم. وقال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام منى. ورواه صالح عن أحمد، وهو قول مالك. وذهب آخرون إلى أنه لا يصوم أيام التشريق، بل يصوم بعدهن. روي عن عليّ. ورواه المرّوذي عن أحمد، وهو قول الشّافعيّ «1» .
__________
صحيح. أخرجه البخاري 1814 ومسلم 1201 وأبو داود 1856 و 1857 والترمذي 2973 والنسائي 5/ 195 والطيالسي 1062 وأحمد 4/ 241 و 242 كلهم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال له: «لعلك آذاك هو أمك؟» قال: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك بشاة» . رووه بألفاظ متقاربة، واللفظ للبخاري.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 5/ 200: فإن لم يكن معه هدي، ولا يقدر عليه، صام عشرة أيام، ثم حلّ وجملة ذلك أن المحصر، إذا عجز عن الهدي، انتقل إلى صوم عشرة أيام ثم حلّ. وبهذا قال الشافعي، في أحد قوليه. وقال مالك، وأبو حنيفة: ليس له بدل، لأنه لم يذكر في القرآن، ولنا أنه دم واجب للإحرام فكان له بدل، كدم التمتاع والطيب واللباس. ويتعين الانتقال إلى صيام عشرة أيام، كبدل هدي التمتاع، وليس له أن يتحلل إلا بعد الصيام، كما لا يتحلل واجد الهدي إلا بنحره. ولا يتحلل إلا بالنية، فيحصل الحل بشيئين، النحر أو الصوم والنية. إن قلنا الحلاق ليس بنسك، وإن قلنا: هو نسك حصل بثلاثة أشياء، الحلاق مع ما ذكرنا. [.....]

(1/161)


فصل: فان وجد الهدي بعد الدخول في صوم الثلاثة الأيام، لم يلزمه الخروج منه، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: يلزمه الخروج، وعليه الهدي. وقال عطاء: إن صام يومين ثم أيسر فعليه الهدي. وإن صام ثلاثة ثم أيسر، فليصم السبعة، ولا هدي عليه «1» .
وفي معنى قوله: فِي الْحَجِّ، قولان: أحدهما: أن معناه: في أشهر الحج. والثاني: في زمن الإحرام بالحج. وفي قوله تعالى: وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، قولان: أحدهما: إذا رجعتم إلى أمصاركم، قاله ابن عباس، والحسن، وأبو العالية، والشعبي، وقتادة. والثاني: إذا رجعتم من حجكم، وهو قول عطاء، وسعيد بن جبير، وأبي حنيفة، ومالك. قال الأثرم: قلت لأبي عبيد الله، يعني: أحمد بن حنبل: فصيام السّبعة الأيام إذا رجع متى يصومهن؟ أفي الطريق، أم في أهله؟ قال: كل ذلك قد تأوله الناس. قيل لأبي عبد الله: ففرّق بينهن، فرخص في ذلك «2» .
قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، فيه خمسة أقوال: أحدها: أن معناه: كاملة في قيامها مقام الهدي، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، والحسن. قال القاضي أبو يعلى: وقد كان يجوز أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثواب، فأعلمنا الله تعالى أنّ العشرة بكمالها هي
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 2/ 396: وأجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدي واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدي فصام ثم وجد الهدي قبل إكماله صومه فذكر ابن وهب عن مالك قال:
إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحبّ إليّ أن يهدي، فإن لم يفعل أجزأه الصيام. وقال الشافعي: يمضي في صومه وهو فرضه، وكذلك قال أبو ثور وهو قول الحسن وقتادة، واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة: إذا أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل صومه ووجب عليه الهدي وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام لا يرجع إلى الهدي، وبه قال الثوري وابن أبي نجيح وحماد.
(2) قال القرطبي رحمه الله 2/ 398: قوله تعالى: إِذا رَجَعْتُمْ يعني إلى بلادكم، قاله ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء، وقاله مالك في كتاب محمد، وبه قال الشافعي. قال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، فلا يجب على أحد صوم السبعة إلّا إذا وصل وطنه، إلّا أن يتشدّد أحد، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان وقال أحمد وإسحاق: يجزيه الصوم في الطريق، وروي عن مجاهد وعطاء. قال مجاهد: إن شاء صامها في الطريق، إنما هي رخصة، وكذلك قال عكرمة والحسن وقال مالك في الكتاب: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم قال ابن العربي: «إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرّخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا. وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص، ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وأنها المراد في الأغلب» . قلت: بل فيه ظاهر يقرب إلى النص يبينه ما رواه مسلم عن ابن عمر قال: تمتاع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع بعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتاع الناس مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة قال للناس: (من كان منكم أهدى فإنه لا يحلّ من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصّر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) ، الحديث. وهذا كالنص في أنه لا يجوز صوم السبعة الأيام إلّا في أهله وبلده والله أعلم.

(1/162)


الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

القائمة مقامه. والثاني: أن الواو قد تقوم مقام «أو» في مواضع، منها قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، فأزال الله عزّ وجلّ احتمال التخيير في هذه الآية بقوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج. والثالث: أن ذلك للتوكيد. وأنشدوا للفرزدق:
ثلاث واثنتان فهنّ خمس ... وسادسة تميل إلى شمام «1»
وقال آخر:
هلّا سألت جوع كندة يوم ولوا أين أينا وقال آخر:
كم نعمة كانت له كم كم وكم
والقرآن نزل بلغة العرب، وهي تكرر الشيء لتوكيده. والرابع: أن معناه: تلك عشرة كاملة في الفصل، وإن كانت الثلاثة في الحج، والسبعة بعده، لئلا يسبق إلى وهم أحد أن السبعة دون الثلاثة، قاله أبو سليمان الدمشقي. والخامس: أنها لفظة خبر ومعناها: الأمر، فتقديره: تلك عشرة فأكملوها.
قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، في المشار إِليه بذلك قولان:
أحدهما: أنه التمتع بالعمرة إلى الحج. والثاني: أنه الجزاء بالنسك والصيام. واللام من «لمن» في هذا القول بمعنى: «على» . فأمّا حاضرو المسجد الحرام فقال ابن عباس، وطاوس، ومجاهد: هم أهل الحرم. وقال عطاء: من كان منزله دون المواقيت. قال ابن الأنباري: ومعنى الآية: إن هذا الفرض لمن كان من الغرباء، وإنما ذكر أهله، وهو المراد بالحضور، لأن الغالب على الرجل أن يسكن حيث أهله ساكنون.

[سورة البقرة (2) : آية 197]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)
قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ. في الحج لغتان: فتح الحاء، وهي لأهل الحجاز، وبها قرأ الجمهور. وكسرها، وهي لتميم، وقيل: لأهل نجد، وبها قرأ الحسن. قال سيبويه: يقال: حج حجاً، كقولهم: ذكر ذكراً. وقالوا: حجة، يريدون: عمل سنة. قال الفراء: المعنى: وقت الحج هذه الأشهر. وقال الزجاج: معناه: أشهر الحج أشهر معلومات.
وفي أشهر الحج قولان: أحدهما: أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قاله ابن مسعود، وابن عمر وابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، والشّعبيّ، وطاوس، والنخعي، وقتادة، ومكحول، والضحاك، والسدي، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، والشّافعيّ، رضي الله عنهم. والثاني: أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة، وهو مروي عن ابن عمر أيضاً، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والزهري، والربيع، ومالك بن أنس. قال ابن جرير الطبري: إنما أراد هؤلاء أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة، إنما هي للحج، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى، وقد
__________
(1) في «اللسان» : الشّمم: القرب، والدّنو.

(1/163)


كانوا يستحبون أن يفعلوا العمرة في غيرها. قال ابن سيرين: ما أحد من أهل العلم شك في أن عمرةً في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج، وإنما قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ
، وهي شهران وبعض الآخر على عادة العرب. قال الفراء: تقول العرب: له اليوم يومان لم أره، وإنما هو يوم، وبعض آخر.
وتقول: زرتك العام، وأتيتك اليوم، وإنما وقع الفعل في ساعة. وذكر ابن الأنباري في هذا قولين:
أحدهما: أن العرب توقع الجمع على التثنية، إذا كانت التّثنية أقلّ الجمع. كقوله تعالى: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ «1» ، وإنما يريد عائشة وصفوان، وكذلك قوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «2» ، يريد: داود وسليمان. والثاني: أن العرب توقع الوقت الطويل على الوقت القصير، فيقولون: قتل ابن الزبير أيام الحج، وإنما كان القتل في أقصر وقت.
فصل: اختلف العلماء فيمن أحرم بالحج قبل أشهر الحجّ، فقال عطاء، وطاوس ومجاهد، والشافعي: لا يجزئه ذلك، وجعلوا فائدة قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أنه لا ينعقد الحج إلا فيهن.
وقال أبو حنيفة، ومالك، والثوري، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل: يصح الإحرام بالحج قبل أشهر «3» ، فعلى هذا يكون قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، أي: معظم الحج يقع في هذه الأشهر.
(84) كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الحج عرفة» .
قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ، قال ابن مسعود: هو الإهلال بالحج والإحرام به. وقال طاوس وعطاء: هو أن يلبي. وروي عن علي وابن عمر ومجاهد والشعبي في آخرين: أنه إذا قلّد بدنته فقد أحرم، وهذا محمول على أنه قلّدها ناويا الحجّ. ونصّ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في رواية الأثرم: أن الإحرام بالنية. قيل له: يكون محرماً بغير تلبية؟ قال: نعم إذا عزم على الإحرام، وهذا قول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الدخول في الإحرام إلا بالتلبية أو تقليد الهدي وسوقه.
قوله تعالى: فَلا رَفَثَ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: «فلا رفثٌ ولا فسوقٌ» بالضم والتنوين.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير تنوين، ولم يرفع أحد منهم لام «جدال» إلا أبو جعفر. قال أبو علي: حجة من فتح أنه أشد مطابقة للمعنى المقصود، لأنه بالفتح قد نفى جميع الرفث والفسوق، كقوله: لا رَيْبَ فِيهِ، فاذا رفع ونون، كان النفي لواحد منه، وإنما فتحوا لام (الجدال) ، ليتناول النفي جميع جنسه، فكذلك ينبغي أن يكون جمع الاسمين قبله. وحجة من رفع أنه قد علم من فحوى الكلام نفي جميع الرفث، وقد يكون اللفظ واحداً والمراد بالمعنى الجميع، قال الشاعر:
__________
جيد. أخرجه أبو داود 1949 والترمذي 989 والنسائي 5/ 256 وابن ماجة 3015 والدارمي 1827 والطيالسي 1309 وأحمد 4/ 309- 335 والحاكم 1/ 464 والبيهقي 5/ 116 وإسناده جيد وصححه الحاكم، وأقره الذهبي. وقال الترمذي قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه الثوري.
__________
(1) النور: 26.
(2) الأنبياء: 78.
(3) قال القرطبي رحمه الله 2/ 401: قوله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ لما ذكر الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ بيّن اختلافهما في الوقت، فجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة، ووقت العمرة. وأما الحج فيقع في السنة مرة، فلا يكون في غير هذه الأشهر.

(1/164)


لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم وفي الرفث ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الجماع، قاله ابن عمر، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة في آخرين. والثاني: أنه الجماع، وما دونه من التعريض به، وهو مروي عن ابن عمر أيضاً، وابن عباس، وعمرو بن دينار في آخرين. والثالث: أنه اللغو من الكلام، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي. وفي الفسوق ثلاثة أقوال: أحدها: أنه السباب، قاله ابن عمر، وابن عباس، وإبراهيم في آخرين. والثاني:
أنه التنابز بالألقاب، مثل أن تقول لأخيك: يا فاسق، يا ظالم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث:
أنه المعاصي، قاله الحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وقتادة في آخرين، وهو الذي نختاره، لأن المعاصي تشمل الكل، ولأن الفاسق: الخارج من الطاعة إلى المعصية. قوله تعالى: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ، الجدال: المراء. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أن معناه: لا يمارينَّ أحد أحداً، فيخرجه المراء إلى الغضب، وفعل ما لا يليق بالحج، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عمر، وابن عباس، وطاوس، وعطاء، وعكرمة، والنخعي، وقتادة، والزهري، والضحاك في آخرين. والثاني: أن معناه:
لا شك في الحج ولا مراء، فانه قد استقام أمره وعرف وقته وزال النسيء عنه.
(85) قال مجاهد: كانوا يحجون في ذي الحجة عامين، وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسنة، ثم حجّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من قابل في ذي الحجة، فذلك حين قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض» ، وإلى هذا المعنى ذهب السدي عن أشياخه، والقاسم بن محمد.
قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.
(86) قال ابن عباس: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فيسألون الناس، فأنزل الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، قال الزجاج: أُمروا أن يتزودوا، وأعلموا أن خير ما تزوّد تقوى الله عزّ وجلّ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 199]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. قال ابن عباس:
(87) كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم، ويقولون: أيام ذكر فنزلت هذه الآية.
__________
أخرجه الطبري 3718 عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف، والمرفوع منه صحيح، أخرجه البخاري 3197 ومسلم 1679 وأبو داود 1947 وابن حبان 5975 و 3848 من حديث أبي بكرة. وسيأتي.
صحيح. أخرجه البخاري 1523 وأبو داود 1730 والنسائي في «الكبرى» 11033 و «التفسير» 53 والواحدي في «الأسباب» 113 من حديث ابن عباس.
حسن. أخرجه الطبري 3787 من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس به، وإسناده غير قوي لأجل يزيد. وأخرجه أبو داود 1731 بهذا الإسناد مع اختلاف يسير فيه. وأخرجه الطبري 3786 بإسناد ضعيف عن ابن عباس نحوه. وأصله عند البخاري 4519 والطبري 3794.

(1/165)


والابتغاء: الالتماس. والفضل هاهنا: النّفع بالتجارة والكسب قال ابن قتيبة: أفضتم، بمعنى:
دفعتم، وقال الزجاج: معناه: دفعتم بكثرة، يقال: أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا فيه، وأكثروا التصرف. وفي تسمية «عرفات» قولان: أحدهما: أن الله تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفات قال: قد عرفت، فسمّيت «عرفة» ، قاله عليّ عليه السّلام «1» . والثاني: أنها سميت بذلك لاجتماع آدم وحواء، وتعارفهما بها، قاله الضحاك «2» . قال الزجاج والمشعر: المعلم، سمي بذلك لأن الصلاة عنده. والمقام والمبيت والدعاء من معالم الحج، وهو مزدلفة وهي جمع يسمى بالاسمين.
قال ابن عمر ومجاهد: المشعر الحرام المزدلفة كلها.
قوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ، أي: جزاء هدايته لكم، فان قيل: ما فائدة تكرير الذكر؟ قيل: فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أنه كرره للمبالغة في الأمر به. والثاني: أنه وصل بالذكر الثاني ما لم يصل بالذكر الأول، فحسن تكريره. فالمعنى: اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته. والثالث: أنه كرره ليدل على مواصلته، والمعنى: اذكروه ذكراً بعد ذكر، ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم النحوي.
والرابع: أن الذكر في قوله: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ، هو: صلاة المغرب والعشاء اللتان يجمع بينهما بالمزدلفة. والذكر في قوله: كَما هَداكُمْ هو: الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع، حكاه القاضي أبو يعلى.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ، في هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: أنها ترجع إلى الهدى، قاله مقاتل، والزجاج. والثالث: أنها ترجع إلى القرآن، قاله سفيان الثوري.
قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ. قالت عائشة:
(88) كانت قريش ومن يدين بدينها، وهم الحمس، يقفون عشيّة عرفة بالمزدلفة، يقولون: نحن قطين البيت، وكان بقية العرب والناس يقفون بعرفات، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: سموا الحمس لأنهم تحمسوا في دينهم، أي: تشددوا. والحماسة: الشدة في كل شيء.
وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال «3» : أحدها: أنهم جميع العرب غير الحمس، ويدل عليه حديث عائشة، وهو قول عروة، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أن المراد بالناس هاهنا: إبراهيم الخليل،
__________
صحيح بهذا السياق. أخرجه الترمذي 884 من حديث عائشة وقال: حسن صحيح، وهو كما قال.
- وأصله صحيح، أخرجه البخاري 4520 ومسلم 1219 وابن حبان 3856 وأبو داود 1910 والنسائي 5/ 254 من حديث عائشة. وله شواهد كثيرة أوردها الطبري 3835- 3843.
__________
(1) ضعيف جدا. أخرجه الطبري 3797 عن ابن جريج عن ابن المسيب عن علي، وفيه إرسال بين ابن جريج وابن المسيب، وما يرسله ابن جريج واه بمرة.
(2) لم أقف عليه، والضحاك يروي عن كتب الأقدمين، فخبره هذا لا شيء.
(3) القول الأول هو الصواب، وباقي الأقوال منكرة ليست بشيء.

(1/166)


فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

عليه السلام، قاله الضحاك بن مزاحم. والثالث: أن المراد بالناس آدم، قاله الزهري. وقد قرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك، ومورَّق العجلي: «الناسي» باثبات الياء. والرابع: أنهم أهل اليمن وربيعة، فانهم كانوا يفيضون من عرفات، قاله مقاتل.
وفي المخاطبين بذلك قولان: أحدهما: أنه خطاب لقريش، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه خطاب لجميع المسلمين، وهو يخرج على قول من قال: الناس آدم، أو إبراهيم.
والإفاضة هاهنا على ما يقتضيه ظاهر اللفظ: هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النحر، إلا أن جمهور المفسرين على أنها الإفاضة من عرفات، فظاهر الكلام لا يقتضي ذلك، كيف يقال: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ، ثم أفيضوا من عرفات؟! غير أني أقول: وجه الكلام على ما قال أهل التفسير: أن فيه تقديماً وتأخيراً، تقديره: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله.
و «الغفور» : من أسماء الله، عزّ وجلّ، وهو من قولك: غفرت الشيء: إذا غطيته، فكأنّ الغفور الساتر لعبده برحمته، أو الساتر لذنوب عباده. والغفور: هو الذي يكثر المغفرة، لأن بناء المفعول للمبالغة من الكثرة، كقولك: صبور، وضروب، وأكول.

[سورة البقرة (2) : الآيات 200 الى 203]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ. في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن أهل الجاهلية كانوا إذا اجتمعوا بالموسم، ذكروا أفعال آبائهم وأيامهم وأنسابهم في الجاهلية، فتفاخروا بذلك فنزلت هذه الآية «1» . وهذا المعنى مرويّ عن الحسن، وعطاء، ومجاهد.
والثاني: أن العرب كانوا إذا حدثوا أو تكلموا يقولون: وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا فنزلت هذه الآية.
وهذا مروي عن الحسن أيضاً «2» . والثالث: أنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم، قام الرجل بمنى، فقال:
اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ذلك، فلا يذكر الله، إنما يذكر أباه ويسأل أن يعطى في دنياه فنزلت هذه الآية، وهذا قول السّدّي «3» .
__________
(1) أخرجه الطبري 3854 و 3855 و 3856 و 3857 عن مجاهد مرسلا، وكرره 3858 و 3859 عن قتادة مرسلا، وكرره 3860 عن سعيد بن جبير وعكرمة، وأخرجه برقم 3892 عن أبي وائل.
- الخلاصة: هذه المراسيل تتأيد بمجموعها، فهذا أرجح الأقوال في تفسير الآية.
(2) عزاه المصنف للحسن، ولم أقف عليه مسندا، وإنما ذكره الواحدي عنه في «الأسباب» 120 بدون إسناد، ومراسيل الحسن واهية، وهذا قول منكر.
(3) أخرجه الطبري 3869 عن السدي مرسلا، ويشهد لبعضه القول الأول، وبعضه غريب.

(1/167)


والمناسك: المتعبدات، وفي المراد بها هاهنا قولان: أحدهما: أنها أفعال الحج، قاله الحسن.
والثاني: أنها إراقة الدّماء، قاله مجاهد. وفي ذكرهم آباءهم أربعة أقوال: أحدها: أنه إقرارهم بهم.
والثاني: أنه حلفهم بهم. والثالث: أنه ذكر إحسان آبائهم إليهم، فانهم كانوا يذكرونهم وينسون إحسان الله إليهم. والرابع: أنه ذكر الأطفال الآباء، لأنهم أول نطقهم بذكر آبائهم، روي هذا المعنى عن عطاء، والضحاك. وفي «أو» قولان: أحدهما: أنها بمعنى «بل» . والثاني: بمعنى الواو. و «الخلاق» قد تقدم ذكره.
وفي حسنة الدنيا سبعة أقوال: أحدها: أنها المرأة الصالحة، قاله عليّ عليه السّلام. والثاني: أنها العبادة، رواه سفيان بن حسين عن الحسن. والثالث: أنها العلم والعبادة، رواه هشام عن الحسن.
والرابع: المال، قاله أبو وائل، والسدي، وابن زيد. والخامس: العافية، قاله قتادة. والسادس: الرزق الواسع، قاله مقاتل. والسابع: النعمة، قاله ابن قتيبة.
وفي حسنة الآخرة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحور العين، قاله عليّ عليه السلام. والثاني:
الجنة، قاله الحسن، والسدي، ومقاتل. والثالث: العفو والمعافاة، روي عن الحسن، والثوري.
قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا، قال الزجاج: معناه: دعاؤهم مستجاب، لأن كسبهم هاهنا هو الدعاء، وهذه الآية متعلقه بما قبلها، إلا أنه قد روي أنها نزلت على سبب يخالف سبب أخواتها.
(89) فروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال: «لو كان على أبيك دين قضيته، أفكان ذلك يجزئ عنه؟» قال: نعم، قال: «فدين الله أحق أن يقضى» ! قال: فهل لي من أجر؟ فنزلت هذه الآية.
وفي معنى سرعة الحساب خمسة أقوال: أحدها: أنه قِلَّته، قاله ابن عباس. والثاني: أنه قرب مجيئه، قاله مقاتل. والثالث: أنه لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه، كان سريع الحساب لذلك. والرابع: أن المعنى: والله سريع المجازاة، ذكر هذا القول والذي قبله الزجاج. والخامس: أنه لا يحتاج إلى فكر وروية كالعاجزين، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ في هذا الذكر قولان:
أحدهما: أنه التكبير عند الجمرات، وأدبار الصّلوات، وغير ذلك من أوقات الحجّ.
__________
متن صحيح دون ذكر نزول الآية، فإنه باطل. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، ولم أره في شيء من كتب الحديث والأثر والتفسير، والضحاك لم يلق ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك، فقد روى عن الضحاك عن ابن عباس تفسيرا كاملا ليس له أصل.
- والحديث دون ذكر نزول الآية: أخرجه النسائي 5/ 118 وفي «الكبرى» 3618 والبيهقي 4/ 329 وابن حبان 3990 والدارقطني 2/ 260 بألفاظ متقاربة وليس فيه «فنزلت هذه الآية» . وأخرجه البخاري 1513 و 1855 ومسلم 1334 وأبو داود 1809 والترمذي 928 والنسائي 5/ 118 و 119 و 8/ 228 وابن ماجة 2909 وابن حبان 2990 والشافعي 1/ 993 ومالك 1/ 359 وأحمد 1/ 346 و 359 من حديث ابن عباس لكن السائل هو امرأة. الخلاصة: الحديث صحيح دون ذكر نزول الآية، فإنه باطل.

(1/168)


والثاني: أنه التكبير عقيب الصلوات المفروضات. واختلف أرباب هذا القول في الوقت الذي يبتدئ فيه بالتكبير ويقطع على ستة أقوال: أحدها: أنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى ما بعد صلاة العصر من آخر أيام التّشريق، قاله عليّ عليه السلام، وأبو يوسف، ومحمد. والثاني: أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، قاله ابن مسعود، وأبو حنيفة. والثالث: من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد العصر من آخر يوم التشريق، قاله ابن عمر، وزيد بن ثابت وابن عباس، وعطاء. والرابع: أنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد صلاة الظهر من يوم النفر، وهو الثاني من أيام التشريق، قاله الحسن. والخامس: أنه يكبر من الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، قاله مالك بن أنس، وهو أحد قولي الشافعي. والسادس: أنه يكبر من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، هذا قول للشافعي، ومذهب إمامنا أحمد أنه إن كان محلاً، كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة أولها الفجر يوم عرفة، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق، وإن كان محرماً كبر عقيب سبعة عشر أولها الظهر من يوم النحر، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق.
وهل يختص هذا التكبير عقيب الفرائض بكونها في جماعة، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان:
إحداهما: يختص بمن صلاها في جماعة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. والثانية: يختص بالفريضة، وإن صلاها وحده، وهو قول الشافعي «1» .
وفي الأيام المعدودات ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أيام التشريق، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وقتادة في آخرين. والثاني: أنها يوم النحر ويومان بعده، روي عن علي، وابن عمر. والثالث: أنها أيام العشر، قاله سعيد بن جبير، والنخعي.
قال الزجاج: و «معدودات» يستعمل كثيراً للشيء القليل، كما يقال: دريهمات وحمامات.
قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، أي: فمن تعجل النفر الأول في اليوم الثاني من أيام منى، فلا إثم عليه، ومن تأخر إلى النفر الثاني، وهو اليوم الثالث من أيام منى، فلا إثم عليه.
فان قيل: إنما يخاف الإثم المتعجل، فما بال المتأخر ألحق به، والذي أتى به أفضل؟! فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أن المعنى: لا إثم على المتعجل، والمتأخر مأجور، فقال: لا إثم عليه، لتوافق اللفظة الثانية الأولى كقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. والثاني: أن المعنى: فلا إثم على المتأخر في ترك استعمال الرخصة. والثالث: أن المعنى: قد زالت آثام المتعجل والمتأخّر التي كانت عليهما قبل حجهما. والرابع: أن المعنى: طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر إنما يكون بشرط التقوى.
وفي معنى «لمن اتقى» ثلاثة أقوال: أحدها: لمن اتقى قتل الصيد، قاله ابن عباس. والثاني: لمن اتقى المعاصي في حجه، قاله قتادة. وقال ابن مسعود: إنما مغفرة الله لمن اتقى الله في حجه.
والثالث: لمن اتقى فيما بقي من عمره، قاله أبو العالية، وإبراهيم.
__________
(1) تقدّم التعليق على هذا البحث عند الآية 185.

(1/169)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)

[سورة البقرة (2) : آية 204]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، كان لين الكلام، كافر القلب، يظهر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم الحسن، ويحلف له أنه يحبه ويتبعه على دينه، وهو يضمر غير ذلك «1» ، هذا قول ابن عباس، والسّدّيّ ومقاتل. والثاني: أنّها فيمن نافق فأظهر بلسانه ما ليس في قلبه. وهذا قول الحسن، وقتادة، وابن زيد.
(90) والثالث: أنها نزلت في سرية الرجيع، وذلك أنّ كفّار قريش بعثوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو بالمدينة: إنا قد أسلمنا، فابعث لنا نفرا من أصحابك يعلّمونا ديننا، فبعث صلّى الله عليه وسلّم خبيب بن عدي، ومرثداً الغنوي، وخالد بن بكير، وعبد الله بن طارق، وزيد بن الدِثنَة، وأمرَّ عليهم عاصم بن ثابت، فساروا نحو مكة، فنزلوا بين مكة والمدينة ومعهم تمر، فأكلوا منه، فمرت عجوز فأبصرت النوى، فرجعت إلى قومها وقالت: قد سلك هذا الطريق أهل يثرب، فركب سبعون منهم حتى أحاطوا بهم، فحاربوهم فقتلوا مرثداً، وخالداً، وابن طارق، ونثر عاصم كنانته وفيها سبعة أسهم، فقتل بكل سهم رجلاً من عظمائهم، ثم قال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار، فاحم لحمي آخر النهار، ثم أحاطوا به فقتلوه، وأرادوا حزّ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكان قتل بعض أهلها، فنذرت: لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر، فأرسل الله تعالى رَجْلاً من الدبر- وهي الزّنابير- فحمته، فلم يقدروا عليه، فقالوا: دعوه حتى يمسي فجاءت سحابة فأمطرت كالعزالي «2» ، فبعث الله الوادي، فاحتمله فذهب به، وأسروا خبيباً وزيداً، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيباً ليقتلوه، لأنه قتل آباءهم، فلما خرجوا به ليقتلوه، قال: دعوني أصلّي ركعتين، ثم قال: لولا أن تقولوا: جزع خبيب، لزدت، وأنشأ يقول:
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً ... على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإِله وإِن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع
__________
عزاه المصنف لابن عباس، ولم أقف عليه بهذا التمام. وإنما هو منتزع من أحاديث.
- أما كون الآية نزلت في سرية الرجيع فهو ضعيف. عزاه البغوي في «تفسيره» 212 لابن عباس والضحاك بدون إسناد. وأخرجه الطبري 3965 من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس، فذكر عجزه، وهو «قال بعض المنافقين ... » وفيه نزول الآية. وإسناده ضعيف لجهالة شيخ ابن إسحاق. وأما قوله «أيكم يحمل خبيبا ... » وذكر الزبير والمقداد. فهذا باطل، لم أره في شيء من كتب الحديث والأثر. وأما باقي الحديث دون ما استثنيت من ألفاظ، فهو صحيح لكن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري 3045 و 3989 و 4086 و 7402 وأبو داود 2660 و 2661 والطيالسي 2597 وأحمد 2/ 294 و 295 و 310- 311 وعبد الرزاق 9730 وابن حبان 7039 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 323- 325 من طرق بألفاظ متقاربة. وانظر هذا الخبر في «السيرة النبوية» لابن هشام 3/ 134- 146 و «السيرة النبوية» لابن كثير 3/ 123- 130 و «دلائل النبوة» 3/ 324.
__________
(1) أخرجه الطبري 3964 عن السدي مرسلا، ولم أره عن ابن عباس ومقاتل، وورد عن الكلبي كما في «الدر» 1/ 232. والكلبي متروك، فالخبر ضعيف، وانظر الأسباب للواحدي 121 والسيوطي 121 و 122. [.....]
(2) العزالي: فم المزادة الأسفل، شبه اتساع المطر واندفاقه بالذي يخرج من فم المزادة.

(1/170)


وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)

فصلبوه حياً، فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس حولي من يبلغ رسولك سلامي، فجاءه رجل منهم يقال له: أبو سروعة، ومعه رمح، فوضعه بين يدي خبيب، فقال له خبيب: اتق الله، فما زاده ذلك إلا عتواً. وأما زيد فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فجاءه سفيان بن حرب حين قدم ليقتله، فقال: يا زيد! أنشدك الله، أتحب أن محمداً مكانك، وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، ثم قتل. وبلغ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخبر، فقال: أيكم يحتمل خبيباً عن خشبته وله الجنة؟ فقال الزبير: أنا وصاحبي المقداد، فخرجا يمشيان بالليل ويمكثان بالنهار، حتى وافيا المكان، وإذا حول الخشبة أربعون مشركاً نيام نشاوى، وإذا هو رطب يتثنى لم يتغير فيه شيء بعد أربعين يوماً، فحمله الزبير على فرسه وسار، فلحقه سبعون منهم، فقذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض، وقال الزبير: ما جرأكم علينا يا معشر قريش؟! ثم رفع العمامة عن رأسه وقال: أنا الزبير بن العوام، وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما، فان شئتم ناضلتكم، وإن شئتم نازلتكم، وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا، وقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبريل عنده، فقال: «يا محمد إِن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك» .
وقال بعض المنافقين في أصحاب خبيب: ويح هؤلاء المقتولين لا في بيوتهم قعدوا، ولا رسالة صاحبهم أدوا، فأنزل الله تعالى في الزبير والمقداد وخبيب وأصحابه والمنافقين هذه الآية، وثلاث آيات بعدها. وهذا الحديث بطوله مروي عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ، فيه قولان: أحدهما: أنه يقول: إن الله يشهد أن ما ينطق به لساني هو الذي في قلبي. الثاني: أنه يقول: اللهم اشهد عليّ بهذا القول.
وقرأ ابن مسعود: «ويستشهد الله» بزيادة سين وتاء. وقرأ الحسن، وطلحة بن مصرف، وابن محيصن وابن أبي عبلة: «ويشهد» بفتح الياء «الله» بالرفع.
قوله تعالى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ، الخصام: جمع خصم، يقال: خصم وخصام وخصوم. قال الزجاج: والألد: الشديد الخصومة، واشتقاقه من لديدي العنق، وهما صفحتا العنق، ومعناه: أن خصمه في أي وجه أخذ من أبواب الخصومة، غلبه في ذلك.

[سورة البقرة (2) : آية 205]
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205)
قوله تعالى: وَإِذا تَوَلَّى، فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه بمعنى: غضب، روي عن ابن عباس، وابن جريج. والثاني: أنه الانصراف عن القول الذي قاله، قاله الحسن. والثالث: أنه من الولاية، فتقديره: إذا صار والياً، قاله مجاهد والضحاك. والرابع: أنه الانصراف بالبدن، قاله مقاتل وابن قتيبة.
وفي معنى «سعى» قولان: أحدهما: أنه بمعنى: عمل، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني: أنه من السعي بالقدم، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي الفساد قولان: أحدهما: أنه الكفر. والثاني: الظلم. والحرث:
الزرع. والنسل: نسل كل شيء من الحيوان، هذا قول ابن عباس وعكرمة في آخرين. وحكى الزجاج عن قوم: أن الحرث: النساء، والنسل: الأولاد. قال: وليس هذا بمنكر، لأن المرأة تسمى حرثاً. وفي معنى إهلاكه للحرث والنسل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إهلاك ذلك بالقتل والإحراق والإفساد، قاله

(1/171)


وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

الأكثرون. والثاني: أنه إذا ظلم كان الظلم سبباً لقطع القطر، فيهلك الحرث والنسل، قاله مجاهد. وهو يخرج على قول من قال: إنه من التولي. والثالث: أنه إهلاك ذلك بالضلال الذي يؤول إلى الهلاك، حكاه بعض المفسرين.
قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ، قال ابن عباس: لا يرضى بالمعاصي.
وقد احتجت المعتزلة بهذه الآية، فأجاب أصحابنا بأجوبة. منها: الأول: أنه لا يحبه ديناً، ولا يريده شرعاً، فأما أنه لم يرده وجوداً فلا. والثاني: أنه لا يحبه للمؤمنين دون الكافرين. والثالث: أن الإرادة معنى غير المحبة، فان الإنسان قد يتناول المرّ، ويريد ربط الجرح، ولا يحب شيئاً من ذلك.
وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة، بطل ادعاؤهم التساوي بينهما، وهذا جواب معتمد.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ «1» .

[سورة البقرة (2) : آية 206]
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206)
قوله تعالى: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ، قال ابن عباس: هي الحمية. وأنشدوا:
أخذته عزة من جهله ... فتولى مغضباً فعل الضجر
ومعنى الكلام: حملته الحمية على الفعل بالإثم. وفي «جهنم» قولان، ذكرهما ابن الأنباري:
أحدهما: أنها أعجميَّة لا تجر للتعريف والعجمة. والثاني: أنها اسمٌ عربي، ولم يجر للتأنيث والتعريف. قال رؤبة: رُكَيَّة جهنّام: بعيدة القعر. وقال الأعشى:
دعوت خليلي مِسْحَلاً ودعوا له ... جُهنّام جدعاً للهجين المذمّم
فترك صرفه يدلُ على أنه اسم أعجمي معرّب.
وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: فحسبه جهنم جزاء عن إثمه. والثاني: فحسبه جهنم ذلاً من عزه. والمهاد: الفراش، ومهدت لفلان: إذا وطَّأت له، ومنه: مهد الصبي.

[سورة البقرة (2) : آية 207]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على خمسة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو معنى قول عمر وعليّ عليهما السّلام.
والثاني: أنها نزلت في الزبير والمقداد حين ذهبا لإنزال خبيب من خشبته، وقد شرحنا القصة. وهذا قول ابن عباس والضحاك. والثالث: أنها نزلت في صهيب الرومي، واختلفوا في قصته.
__________
فروي أنه أقبل مهاجراً نحو النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاتبعه نفر من قريش، فنزل، فانتثل كنانته، وقال:
(91) حسن. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 3/ 171 من طرق عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب مرسلا.
وإسناده ضعيف لضعف ابن زيد. وأخرجه الحاكم 3/ 400 من وجه آخر عن سعيد عن صهيب، وإسناده ضعيف لجهالة حصين بن حذيفة، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي!. وأخرجه الطبراني 7308 من وجه آخر عن صهيب، وفيه محمد بن الحسن بن زبالة، وهو واه. وأخرجه الحاكم 3/ 398 من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بنحوه، وإسناده على شرط مسلم، وكذا صححه الحاكم على شرطه، ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن سعد 3/ 172 عن عمر بن الحكم مرسلا، وفيه الواقدي، وهو متروك. وورد من مرسل أبي عثمان، أخرجه ابن سعد 1/ 171 وإسناده قوي، وليس فيه نزول الآية. وورد من مرسل الربيع بن أنس:
أخرجه الطبري 4005. وانظر ما بعده.
- الخلاصة: هذه الروايات تتأيد بمجموعها، فالحديث حسن في أقل تقدير إن شاء الله.
__________
(1) الزمر: 7.

(1/172)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

قد علمتم أني من أرماكم بسهمٍ، وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فان شئتم دللتكم على مالي. قالوا: فدلنا على مالك نخلِّ عنك، فعاهدهم على ذلك، فنزلت فيه هذه الآية، فلمّا رآه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ربح البيع يا أبا يحيى» ؟ وقرأ عليه القرآن. هذا قول سعيد بن المسيب، وذكر نحوه أبو صالح عن ابن عباس، وقال: إن الذي تلقاه فبشره بما نزل فيه أبو بكر الصديق «1» .
وذكر مقاتل أنه قال للمشركين: أنا شيخ كبير لا يضركم إن كنت معكم أو عليكم، ولي عليكم حق لجواري فخذوا مالي غير راحلة، واتركوني وديني، فاشترط أن لا يمنع عن صلاة ولا هجرة، فأقام ما شاء الله، ثم ركب راحلته، فأتى المدينة مهاجراً، فلقيه أبو بكر فبشره وقال: نزلت فيك هذه الآية «2» . وقال عكرمة: إنها نزلت في صهيب، وأبي ذر الغفاري، فأما صهيب، فأخذه أهله فافتدى بماله، وأما أبو ذر، فأخذه أهله فأفلت منهم حتى قدم مهاجراً «3» .
والرابع: أنها نزلت في المجاهدين في سبيل الله، قاله الحسن وابن زيد في آخرين.
والخامس: أنها نزلت في المهاجرين والأنصار حين قاتلوا على دين الله حتى ظهروا، هذا قول قتادة. و «يشري» كلمة من الأضداد، يقال: شرى، بمعنى: باع، وبمعنى: اشترى، فمعناها على قول من قال: نزلت في صهيب معنى: يشتري. وعلى بقية الأقوال بمعنى: يبيع.

[سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 210]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب، كانوا بعد إسلامهم يتقون السبت ولحم الجمل، وأشياء يتقيها أهل الكتاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس «4» . والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب الذين
__________
(1) عزاه لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح، هو الكلبي وهو كذاب، وأبو صالح متروك عن ابن عباس. فلا فائدة من هذه الطريق، والعبرة بما تقدم.
(2) عزاه لمقاتل، وهو متهم أيضا، وانظر ما بعده.
(3) أخرجه الطبري 4004 عن عكرمة مرسلا. وأخرجه الحاكم 313/ 400 عن ابن جريج، وهذا معضل.
(4) تقدم أنه من رواية الكلبي، وهو متهم عن أبي صالح، وهو واه.

(1/173)


لم يؤمنوا بالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، أمروا بالدخول في الإسلام. روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الضحاك «1» . والثالث: أنها نزلت في المسلمين، يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها، قاله مجاهد وقتادة «2» .
وفي «السلم» ثلاث لغات: كسر السين وتسكين اللام. وبها قرأ أبو عمرو وابن عامر في «البقرة» وفتحا السين في «الأنفال» وسورة «محمد» . وفتح السين مع تسكين اللام. وبها قرأ ابن كثير ونافع والكسائي في المواضع الثلاثة، وفتح السين واللام. وبها قرأ الأعمش في «البقرة» خاصة. وفي معنى «السلم» قولان: أحدهما: أنه الإسلام، قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين. والثاني: أنها الطاعة، روي عن ابن عباس أيضاً، وهو قول أبي العالية، والربيع.
وقال الزجاج: و «كافة» بمعنى الجميع، وهو في اشتقاق اللغة: ما يكف الشيء في آخره، من ذلك: كُفة القميص، وكل مستطيل فحرفه كُفَّة: بضم الكاف. ويقال في كل مستدير: كِفه بكسر الكاف نحو: كِفّة الميزان. ويقال: إنما سميت كُفّة الثوب، لأنها تمنعه أن ينتشر، وأصل الكف: المنع، وقيل لطرف اليد: كف، لأنها تكف بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف: قد كف بصره أن ينظر. واختلفوا:
هل قوله: «كافة» يرجع إلى السلم، أو إلى الداخلين فيه؟ على قولين: أحدهما: أنه راجع إلى السلم، فتقديره: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام. وهذا يخرج على القول الأول الذي ذكرناه في نزول الآية.
والثاني: أنه يرجع إلى الداخلين فيه، فتقديره: ادخلوا كلكم في الإسلام، وبهذا يخرج على القول الثاني. وعلى القول الثالث يحتمل قوله: «كافة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون أمراً للمؤمنين بألسنتهم أن يؤمنوا بقلوبهم. والثاني: أن يكون أمراً للمؤمنين بالدخول في جميع شرائِعه. والثالث: أن يكون أمراً لهم بالثبات عليه، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «3» .
و «خطوات الشيطان» : المعاصي. وقد سبق شرحها. و «البينات» : الدلالات الواضحات. وقال ابن جريج: هي الإسلام والقرآن. و «ينظرون» بمعنى: ينتظرون.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا. وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال: المراد به: قدرته وأمره. قال: وقد بينه في قوله تعالى: وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
. قوله تعالى: فِي ظُلَلٍ، أي: بظلل. والظلل: جمع ظلة. و «الغمام» : السحاب الذي لا ماء فيه. قال الضحاك: في قطع من السحاب. ومتى يكون مجيء الملائكة؟ فيه قولان:
__________
(1) من رواية الضحاك عن ابن عباس، وعن الضحاك جويبر، وهو متروك.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله 2/ 337- 338: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها. وقد يدخل في الَّذِينَ آمَنُوا المصدّقون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به، والمصدّقون بمن قبله من الأنبياء والرّسل وما جاءوا به. وقد دعا الله عزّ وجلّ كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم «الإيمان» ، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض.
(3) النساء: 136.

(1/174)


سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

أحدهما: أنه يوم القيامة أيضا، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه عند الموت، قاله قتادة. وقرأ الحسن بخفض «الملائكة» . ووَ قُضِيَ الْأَمْرُ: فرغ منه. ووَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، أي: تصير. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم، «تُرجع» بضم التاء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكَسائي بفتحها. فان قيل:
فكأن الأمور كانت إلى غيره؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أن المراد به إعلام الخلق أنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب، قاله الزجاج. والثاني: أنه لما عَبَد قومٌ غيره، ونسبوا أفعاله إلى سواه، ثم انكشف الغطاء يوم القيامة ردوا إليه ما أضافوا إلى غيره. والثالث: أن العرب تقول: قد رجع عليَّ من فلان مكروه: إذا صار إليه منه مكروه، وإن لم يكن سبق. قال الشاعر:
فانْ تكنِ الأيَّامُ أحَسنَّ مرَةً ... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
ذكرهما ابن الأنباري. ومما يشبه هذا قول لبيد:
وما المرء إِلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إِذ هو ساطع
أراد: يصير رمادا لا أنّه كان رمادا، ومثله قول أمية بن أبي الصلت:
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا «1»
أي: صارا. والرابع: أنه لما كانت الأمور إليه قبل الخلق، ثم أوجدهم فملكهم بعضها رجعت إليه بعد هلاكهم. فإن قيل: قد جرى ذكر اسمه تعالى في قوله: أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، فما الحكمة في أنه لم يقل: وإليه ترجع الأمور؟ فالجواب: أن إعادة اسمه أفخم وأعظم، والعرب إذا جرى ذكر شيء يفخم أعادوا لفظه، وأنشدوا:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فأعادوا ذكر الموت لفخامته في صدورهم، ذكره الزجّاج.

[سورة البقرة (2) : آية 211]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)
قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: له وللمؤمنين. قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: «سل» بغير همز، وبعض تميم يقولون: «اسأل» بالهمز، وبعضهم يقول: «إِسَلْ» «2» بالألف وطرح الهمز، والأولى أغربهنَّ، وبها جاء الكتاب. وفي المراد بالسؤال قولان: أحدهما: أنه
__________
(1) في اللسان: القعب: القدح الضخم.
(2) قال القرطبي رحمه الله 3/ 29 و 30: قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ «سل» من السؤال بتخفيف الهمز، فلما تحركت السين لم يحتج إلى ألف الوصل. وقيل: إن للعرب في سقوط ألف الوصل في «سل» وثبوتها في «واسأل» وجهين: أحدهما- حذفها في إحداهما وثبوتها في الأخرى، وجاء القرآن بهما. فاتبع خط المصحف في إثباته للهمزة وإسقاطها. والوجه الثاني- أنه يختلف إثباتها وإسقاطها باختلاف الكلام المستعمل فيه فتحذف الهمزة في الكلام المبتدأ، مثل قوله: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ وقوله:
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ [ن: 40] وتثبت في العطف، مثل قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 32] قاله علي بن عيسى. وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه «اسأل» على الأصل. وقرأ قوم «اسل» على نقل الحركة إلى السين وإبقاء ألف الوصل، على لغة من قال: الأحمر.

(1/175)


زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

التقرير والإذكار بالنعم. والثاني: التوبيخ على ترك الشكر.
والآية البينة: العلامة الواضحة، كالعصا، والغمام، والمن، والسلوى، والبحر. وفي المراد بنعمة الله قولان: أحدهما: أنها الآيات التي ذكرناها، قاله قتادة. والثاني: أنها حجج الله الدالة على أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله الزجاج. وفي معنى تبديلها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الكفر بها، قاله أبو العالية ومجاهد. والثاني: تغيير صفة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، قاله أبو سليمان الدمشقي. والثالث: تعطيل حجج الله بالتّأويلات الفاسدة.

[سورة البقرة (2) : آية 212]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)
قوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا، في نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في أبي جهل وأصحابه، قاله ابن عباس. والثاني: نزلت في علماء اليهود، قاله عطاء. والثالث: في عبد الله بن أبيّ وأصحابه من المنافقين، قاله مقاتل. قال الزجاج: وإِنما جاز في «زين» لفظ التذكير، لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، إذ معنى الحياة ومعنى العيش واحد. وإلى من يضاف هذا التزيين «1» فيه قولان:
أحدهما: أنه يضاف إلى الله. وقرأ أبيّ بن كعب والحسن، ومجاهد، وابن محيصن، وابن أبي عبلة:
«زَيّن» بفتح الزاي والياء، على معنى: زيّنها الله لهم. والثاني: أنه يضاف إلى الشيطان، روي عن الحسن. قال شيخنا علي بن عبيد الله: والتزيين من الله تعالى: هو التركيب الطبيعي فإنه وضع في الطبائع محبّة المحبوب لصورة فيه تزينت للنفس، وذلك من صنعه، وتزيين الشيطان بإذكار ما وقع من إغفاله مما مثله يدعو إلى نفسه لزينته، فالله تعالى يزيّن بالوضع، والشيطان يزيّن بالإذكار.
وما السبب في سخرية الكفار من المؤمنين؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم سخروا منهم للفقر.
والثاني: لتصديقهم بالآخرة. والثالث: لاتّباعهم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: إنهم كانوا يوهمونهم أنكم على الحق، سخرية منهم بهم. وفي معنى كونهم «فوقهم» ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك على أصله، لأن المؤمنين في عليّين، والكفار في سجين. والثاني: أن حجج المؤمنين فوق شبه الكافرين، فهم المنصورون. والثالث: في أن نعيم المؤمنين في الجنة فوق نعيم الكافرين في الدنيا. قوله تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، فيه قولان: أحدهما: أنه يرزق من يشاء رزقاً واسعاً غير ضيّق. والثاني:
يرزق من يشاء بلا محاسبة في الآخرة.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 3/ 30: وقوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا على ما لم يسم فاعله.
والمراد رؤساء قريش. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس على بناء الفاعل. قال النحاس: هي قراءة شاذة لأنه لم يتقدّم للفاعل ذكر. وقرأ ابن أبي عبلة (زيّنت) بإظهار العلامة، وجاز ذلك لكون التأنيث غير حقيقي والمزيّن هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها الشيطان بوسوسته وإغوائه. وخصّ الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة، وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا فالمؤمنون الذي هم على سنن الشرع لم تفتنهم، الزينة والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال: اللهم إنا لا نستطيع إلّا أن نفرح بما زينت لنا.

(1/176)


كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

[سورة البقرة (2) : آية 213]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، في المراد ب «الناس» هاهنا ثلاثة أقوال «1» : أحدها: جميع بني آدم، وهو قول الجمهور. والثاني: آدم وحده، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري: وهذا الوجه جائز، لأن العرب توقع الجمع على الواحد. ومعنى الآية: كان آدم ذا دين واحد، فاختلف ولده بعده.
والثالث: آدم وأولاده كانوا على الحق، فاختلفوا حين قتل قابيلُ هابيلَ. ذكره ابن الأنباري. والأمَّة هاهنا: الصنف الواحد على مقصد واحد. وفي ذلك المقصد الذي كانوا عليه قولان: أحدهما: أنه الإسلام، قاله أبيّ بن كعب، وقتادة، والسدّي، ومقاتل. والثاني: أنه الكفر، رواه عطية عن ابن عباس.
ومتى كان ذلك، فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه حين عرضوا على آدم وأقروا بالعبودية، قاله أبيّ بن كعب. والثاني: في عهد إبراهيم كانوا كفاراً، قاله ابن عباس. والثالث: بين آدم ونوح، وهو قول قتادة.
والرابع: حين ركبوا السفينة، كانوا على الحق، قاله مقاتل. والخامس: في عهد آدم. ذكره ابن الأنباري.
فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بالجنّة وَمُنْذِرِينَ بالنار. هذا قول الأكثرين. وقال بعض السلف: مبشرين لمن آمن بك يا محمد، ومنذرين لمن كذّبك. والكتاب: اسم جنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس. وذكر بعضهم أنه في التوراة. وفي المراد بالحق هاهنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى الصدق والعدل. والثاني: أنه القضاء فيما اختلفوا فيه. لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ، في الحاكم هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الله تعالى. والثاني: النبي الذي أنزل عليه الكتاب. والثالث: الكتاب كقوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، وقرأ أبو جعفر: «ليُحكَم» بضم الياء وفتح الكاف. وقرأ مجاهد «لتحكم» بالتاء على الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
قوله تعالى: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، يعني: الدين. قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ في هذه الهاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعود إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن مسعود. والثاني: إلى الدين، قاله مقاتل.
والثالث: إلى الكتاب، قاله أبو سليمان الدمشقي. فأما هاء «أوتوه» فعائدة على الكتاب من غير خلاف.
قال الزجاج: ونصب «بغياً» على معنى المفعول له، فالمعنى: لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي، لأنهم عالمون بحقيقة الأمر في كتبهم. وقال الفراء: في اختلافهم وجهان: أحدهما: كفر بعضهم بكتاب بعض. والثاني: تبديل ما بدّلوا.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 250: أخرج ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا» ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار عن محمد بن بشار ثم قال. صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال العوفي عن ابن عباس كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً يقول كانوا كفارا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ والقول الأول عن ابن عباس أصح إسنادا ومعنى لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحا عليه السّلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.

(1/177)


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

قوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أي: لمعرفة ما اختلفوا فيه، أو تصحيح ما اختلفوا فيه. وفي الذي اختلفوا فيه ستة أقوال:
أحدها: أنه الجمعة، جعلها اليهود السبت، والنصارى الأحد.
(92) فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له. اليوم لنا، وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى» .
والثاني: أنه الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب.
والثالث: أنه إبراهيم. قالت اليهود: كان يهودياً، وقالت النصارى: كان نصرانياً.
والرابع: أنه عيسى، جعلته اليهود لفرية، وجعلته النّصارى إلها.
والخامس: أنه الكتاب، آمنوا ببعضها، وكفروا ببعضها.
والسادس: أنه الدين، وهو الأصح، لأن جميع الأقوال داخلة في ذلك.
قوله تعالى: بِإِذْنِهِ، قال الزجاج: إذنه: علمه. وقال غيره: أمره. قال بعضهم: توفيقه.

[سورة البقرة (2) : آية 214]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصحابة أصابهم يوم الأحزاب بلاء وحصر، فنزلت هذه الآية، ذكره السدي عن أشياخه وهو قول قتادة «1» .
(93) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما دخل المدينة هو وأصحابه اشتد بهم الضر، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء. والثالث: أن المنافقين قالوا للمؤمنين: لو كان محمد نبياً لم يُسلط عليكم القتل، فأجابوهم:
من قتل منا دخل الجنة، فقالوا: لم تمنّون أنفسكم بالباطل؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. وزعم أنها نزلت يوم أُحد «2» .
قال الفراء: أَمْ حَسِبْتُمْ بمعنى: أظننتم، وقال الزجاج: «أم» بمعنى: بل. وقد شرحنا «أم» فيما تقدم شرحاً كافياً. والمثَل بمعنى: الصفة. و «زلزلوا» خُوفوا وحُرِكوا بما يؤذي، وأصل الزلزلة في اللغة من: زل الشيء عن مكانه، فاذا قلت: زلزلته، فتأويله: كررت زلزلته مِن مكانه، وكل ما كان فيه ترجيع كرّرت فيه فاء الفعل، تقول: أقل فلان الشيء: إذا رفعه من مكانه، فاذا كرر رفعه وردّه، قيل:
__________
صحيح. أخرجه البخاري 238 و 876 و 2956 و 6624 و 7036 و 7495 ومسلم 855 وأحمد 2/ 243- 249 والنسائي 3/ 87 وابن ماجة 1083 وابن حبان 2784 عن أبي هريرة مرفوعا.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 128 عن عطاء بدون إسناد، فهو لا شيء.
__________
(1) أخرجه الطبري 4067 عن السدي مرسلا. وأخرجه 4068 عن قتادة مرسلا، فلعل هذه المراسيل تتأيد بمجموعها. [.....]
(2) عزاه لمقاتل، وتقدم أنه متهم بالكذب.

(1/178)


يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

قلقله. فالمعنى: أنه تكرر عليهم التحريك بالخوف، قاله ابن عباس. البأساء: الشدة والبؤس، والضراء: البلاء والمرض. وكل رسول بعث إلى أمته يقول: مَتى نَصْرُ اللَّهِ، والنصر: الفتح، والجمهور على فتح لام «حتى يقولَ» ، وضمها نافع.
فصل: ومعنى الآية: أن البلاء والجهد بلغ بالأمم المتقدمة إلى أن استبطئوا النصر لشدة البلاء.
وقد دلت على أن طريق الجنة إنما هو الصبر على البلاء.
(94) قالت عائشة: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام تباعاً من خبز بُرٍ حتى مضى لسبيله.
(95) وقال حذيفة: أقرّ أيامي لعيني، يوم أرجع إلى أهلي فيشكون إليَّ الحاجة. قيل: ولم ذلك؟
قال: لأني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إِن الله يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالخير، وإِن الله ليحمي المؤمن من الدنيا، كما يحمي المريض أهله الطعام» .
أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي صادق، قال: أخبرنا أبو عبد الله الشّيرازيّ، قال: سمعت أبا الطيّب بن الفرخان يقول: سمعت الجنيد يقول: دخلت على سري السقطي وهو يقول:
وما رُمتُ الدُخول عليهِ حتى ... حَلَلتُ محلّةَ العبد الذّليل
وأغضيتُ الجفون على قذاها ... وصُنتُ النفسَ عن قالٍ وقيل «1»

[سورة البقرة (2) : آية 215]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ، في سبب نزولها قولان:
(96) أحدهما: أنها نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان له مال كثيرٌ، فقال: يا
__________
صحيح. أخرجه البخاري 5416 و 6454 ومسلم 2970 وابن سعد 1/ 402 و 403 وأحمد 6/ 156 و 255 ووكيع 1/ 10 و 109 وهنّاد بن السّري 725 و 728 في «الزهد» من طرق عن عائشة.
- ويشهد له ما أخرجه البخاري 2069 و 2508 والترمذي 1215 وأحمد 3/ 238 وابن ماجة 4147 وابن حبان 6349 من طرق عن أنس بن مالك. أنه مشى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبز وإهالة سنخة، ولقد رهن النبي صلّى الله عليه وسلّم درعا له بالمدينة عند يهودي، وأخذ منه الشعير لأهله، ولقد سمعته يقول: «ما أمسى عند آل محمد صلّى الله عليه وسلّم صاع برّ ولا صاع حبّ» . ويشهد له ما أخرجه مسلم 2976 والترمذي 2358 وابن ماجة 3343 عن أبي هريرة قال: ما أشبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهله ثلاثة أيام تباعا من خبز البرّ حتى فارق الدنيا.
صدره ضعيف، وعجزه صحيح بشاهده. أخرجه الطبراني في «الكبرى» 3004 وأبو نعيم في «الحلية» 1/ 277 من حديث حذيفة، وإسناده ضعيف. قال الهيثمي في «المجمع» 10/ 285: وفيه من لم أعرفه.
- ويشهد لعجزه ما أخرجه الترمذي 2036. وأحمد في «الزهد» 17 والحاكم 4/ 207 و 4/ 309 وابن حبان 669 عن قتادة بن النعمان، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا أحبّ الله عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء» . وإسناده على شرط مسلم، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
لا أصل له. عزاه لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي، وهو كذاب.
__________
(1) الرّوم: رام الشيء، طلبه. القذى: ما يقع في العين وترمى به والقذى: إذا سكت على الذل والضيم.

(1/179)


كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

رسول الله بماذا نتصدق، وعلى مَن ننفق؟ فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(97) والثاني: أن رجلاً قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إِن لي ديناراً، فقال: «أنفقه على نفسك» ، فقال: إن لي دينارين، فقال: «أنفقهما على أهلك» ، فقال: إن لي ثلاثة، فقال: «أنفقها على خادمك» ، فقال: إن لي أربعة، فقال: «أنفقها على والديك» ، فقال: إن لي خمسة، فقال: «أنفقها على قرابتك» ، فقال: إِن لي ستة، فقال: «أنفقها في سبيل الله، وهو أحسنها» ، فنزلت فيه هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.
قال الزجاج: «ماذا» في اللغة على ضربين: أحدهما: أن تكون «ذا» بمعنى الذي، و «ينفقون» صلته، فيكون المعنى: يسألونك: أي شيء الذي ينفقون؟ والثاني: أن تكون «ما» مع «ذا» اسماً واحداً، فيكون المعنى: يسألونك: أي شيء الذي ينفقون، قال: وكأنهم سألوا: على مَن ينبغي أن يفضلوا، وما وجه الذي ينفقون؟ لأنهم يعلمون ما المنفق، فأعلمهم الله أن أولى مَن أُفضِل عليه الوالدان والأقربون.
والخير: المال، قاله ابن عباس في آخرين. وقال: ومعنى «فللوالدين» : فعلى الوالدين.
فصل: وأكثر علماء التفسير على أن هذه الآية منسوخة، قال ابن مسعود: نسختها آية الزكاة.
وذهب الحسن إلى إحكامها، وقال ابن زيد هي في النوافل، وهذا الظاهر من الآية، لأن ظاهرها يقتضي الندب، ولا يصح أن يقال: إنها منسوخة، إلا أن يقال: إنها اقتضت وجوب النفقة على المذكورين فيها.

[سورة البقرة (2) : آية 216]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)
قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، قال ابن عباس: لما فرض الله على المسلمين الجهاد شق عليهم وكرهوه، فنزلت هذه الآية. و «كتب» بمعنى: فرض في قول الجماعة.
قال الزجّاج: كرهت الشيء أكرهه كَرَهاً وكُرهاً، وكراهةً وكراهيةً. وكل ما في كتاب الله من الكره، فالفتح فيه جائز، إلا أن أبا عبيد ذكر أن الناس مجتمعون على ضم هذا الحرف الذي في هذه الآية. وإنما كرهوه لمشقَّته على النفوس، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى. وقال الفراء: الكُره والكَره:
لغتان. وكأن النحويين يذهبون بالكره إلى ما كان منك مما لم تُكره عليه، فإذا أُكرهت على الشيء استحبوا «كَرهاً» بالفتح. وقال ابن قتيبة: الكره بالفتح، معناه الإكراه والقهر، وبالضم معناه: المشقة.
ومن نظائر هذا: الجهد: الطاقة، والجَهد: المشقة. ومنهم مَن يجعلهما واحداً. وعُظْم الشيء: أكبره وعظمه: نفسه. وعُرض الشيء: إحدى نواحيه. وعَرضه: خلاف طوله. والأكل: مصدر أكلت، والأُكل: المأكول، وقال أبو علي: هما لغتان، كالفقر والفُقر، والضَّعف والضُّعف، والدَّف والدُّف، والشَّهد والشُّهد. قوله تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، قال ابن عباس: يعنى الجهاد. وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فتح وغنيمة أو شهادة. وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وهو القعود عنه. وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، لا تصيبون
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 129 عن عطاء عن ابن عباس ولم أقف له على إسناد، فهو لا شيء.

(1/180)