زاد المسير في
علم التفسير يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى
يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (217)
فتحاً ولا غنيمة ولا شهادة. وَاللَّهُ
يَعْلَمُ أن الجهاد خير لكم. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ حين
أحببتم القعود عنه.
فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة
أقوال: أحدها: أنها من المحكم الناسخ للعفو عن المشركين.
والثاني: أنها منسوخة، لأنها أوجبت الجهاد على الكل، فنسخ ذلك
بقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً
«1» . والثالث: إنها ناسخة من وجه، منسوخة من وجه. وقالوا: إن
الحال في القتال كانت على ثلاثة مراتب: الأولى: المنع من
القتال، ومنه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ
لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ «2» . والثانية: أمر الكل
بالقتال، ومنه قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «3» ،
ومثلها هذه الآية. والثالثة: كون القتال فرضاً على الكفاية،
وهو قوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً، فيكون الناسخ منها إيجاب القتال بعد المنع منه،
والمنسوخ وجوب القتال على الكلّ.
[سورة البقرة (2) : آية 217]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ
قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ
بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ
عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ
عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ
فِيهِ.
(98) روى جندب بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
بعث رهطا واستعمل عليهم أبا عبيدة بن الحارث فلما انطلق ليتوجه
بكى صبابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث مكانه عبد
الله بن جحش، وكتب له كتاباً، وأمره ألا يقرأه إلا بمكان كذا
وكذا، وقال: «لا تكرهنَّ أحداً من أصحابك على المسير معك» ،
فلما صار إِلى المكان، قرأ الكتاب واسترجع، وقال: سمعاً وطاعة
لأمر الله ولرسوله فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب. فرجع رجلان
من أصحابه، ومضى بقيتهم، فأتوا ابن الحضرمي فقتلوه، فلم يدروا
ذلك اليوم، أمِن رجب، أو من جمادى الآخرة؟ فقال المشركون
للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأتوا
__________
صحيح دون تأمير أبي عبيدة وبكائه، فإنه ضعيف. أخرجه أبو يعلى
1534 والطبري 4087 والطبراني 1670 والبيهقي 9/ 11- 12 من حديث
جندب بن عبد الله، وإسناده ضعيف، فيه راو مجهول.
- وأصله محفوظ بشواهده، أخرجه الطبري 4085 من مرسل عروة. وورد
من مرسل السدي، أخرجه الطبري 4086. وورد من مرسل أبي مالك:
أخرجه الطبري 4092. وورد عن ابن عباس: أخرجه الطبري 4089
وإسناده حسن. وكرره 490 وإسناده واه لأجل عطية العوفي. وورد من
مرسل الضحاك: أخرجه الطبري 4096 وله شواهد أخرى عامتها مرسل.
- الخلاصة: هو حديث صحيح بطرقه وشواهده دون قوله «استعمل عليهم
أبا عبيدة ... فبعث مكانه» .
والصواب أن الأمير من أول الأمر هو عبد الله بن جحش.
__________
(1) التوبة: 122.
(2) النساء: 77.
(3) التوبة: 41.
(1/181)
النبي فحدثوه الحديث فنزلت هذه الآية، فقال
بعض المسلمين: لئن كان أصابهم خير فما لهم أجر، فنزلت: إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا إلى قوله: رَحِيمٌ.
قال الزهري: اسم ابن الحضرمي: عمرو، واسم الذي قتله عبد الله
بن واقد الليثي. قال ابن عباس: كان أصحاب النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم، يظنون تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب.
وقد روى عطيّة عن ابن عباس أنها نزلت في شيئين: أحدهما: هذا.
والثاني: دخول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكة في شهر حرام
يوم الفتح، حين عاب المشركون عليه القتال في شهر حرام «1» .
وفي السائلين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك قولان:
أحدهما: أنهم المسلمون، سألوه: هل أخطئوا أم أصابوا؟ قاله ابن
عباس وعكرمة ومقاتل. والثاني: أنهم المشركون سألوه على وجه
العيب على المسلمين، قاله الحسن، وعروة، ومجاهد. والشهر
الحرام: شهر رجب، وكان يدعى الأصم، لأنه لم يكن يسمع فيه
للسلاح قعقعة تعظيماً له، قِتالٍ فِيهِ أي: يسألونك عن قتال
فيه. قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ قال ابن مسعود وابن عباس: لا
يحِل. قال القاضي أبو يعلى: كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم
القتال في هذه الأشهر، فأعلمهم الله تعالى في هذه الآية ببقاء
التحريم.
فصل: اختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم: هل هو
باق أم نسخ؟ على قولين «2» : أحدهما: أنه باقٍ. روى ابن جريج
أن عطاء كان يحلف بالله: ما يحل للناس الآن أن يغزوا في الحرم،
ولا في الأشهر الحرم، إلا أن يقاتلوا فيه أو يغزوا، وما نسخت.
والثاني: أنه منسوخ، قال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار:
القتال جائز في الشهر الحرام، هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «3» ،
وبقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «4» ، وهذا قول فقهاء الأمصار.
__________
(1) أخرجه الطبري 4090 عن ابن عباس بسند فيه مجاهيل، وكرره
4088 عن مجاهد مرسلا.
(2) قال القرطبي رحمه الله 3/ 43: واختلف العلماء في نسخ هذه
الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم
مباح واختلفوا في ناسخها، فقال الزهري: نسخها وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً.
وقيل نسخها غزو النبي صلّى الله عليه وسلّم ثقيفا في الشهر
الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام.
وقيل نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة، وهذا ضعيف
فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم
عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على
الابتداء بقتالهم.
وذكر البيهقي عن عروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في
أثر قصة الحضرمي: فأنزل الله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ الآية، قال: فحدّثهم الله في
كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي
يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين
يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم، وكفرهم بالله وصدّهم المسلمين عن المسجد
الحرام في الحج والعمرة والصّلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد
الحرام وهم سكانه من المسلمين وفتنتهم إياهم عن الدين، فبلغنا
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عقل ابن الحضرمي وحرّم الشهر
الحرام كما كان يحرّمه حتى أنزل الله عزّ وجلّ بَراءَةٌ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز
القتال في الأشهر الحرم ويحلف على ذلك، لأن الآيات التي وردت
بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق.
وروى أبو الزبير عن جابر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم لا يقاتل في الشهر الحرام إلّا أن يغزى.
(3) التوبة: 5.
(4) التوبة: 19.
(1/182)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا
وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ (219)
قوله تعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ،
هو مرفوع بالابتداء، وخبر هذه الأشياء: أَكْبَرُ عِنْدَ
اللَّهِ.
وفي المراد ب «سبيل الله» هاهنا قولان: أحدهما: أنه الحج،
لأنهم صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عن مكة. قاله ابن
عباس والسدي عن أشياخه. والثاني: أنه الإسلام، قاله مقاتل. وفي
هاء الكناية في قوله «وكفرٌ به» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى
الله تعالى، قاله السدي عن أشياخه، وقتادة، ومقاتل، وابن
قتيبة.
والثاني: أنها تعود إلى السبيل، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة:
وخفض «المسجدِ الحرام» نسقا على:
سَبِيلِ اللَّهِ، كأنه قال: وصد عن سبيل الله، وعن المسجد
الحرام. قوله تعالى: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ لمّا آذوا
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه اضطروهم إلى الخروج
فكأنهم أخرجوهم، فأعلمهم الله أن هذه الأفعال أعظم من قتل كل
كافر. «والفتنة» هاهنا بمعنى الشرك، قاله ابن عمر، وابن عباس،
ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والجماعة. والفتنة في القرآن على
وجوه كثير، قد ذكرتها في كتاب «النظائر» . وَلا يَزالُونَ،
يعني الكفّار، يُقاتِلُونَكُمْ يعني: المسلمين. وحَبِطَتْ
بمعنى: بطلت.
[سورة البقرة (2) : آية 218]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا، في
سبب نزولها قولان: أحدهما: أنه لما نزل القرآن بالرخصة لأصحاب
عبد الله بن جحش في قتل ابن الحضرمي، قال بعض المسلمين: ما لهم
أجر، فنزلت هذه الآية «1» ، وقد ذكرنا هذا في سبب نزول قوله
تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ، عن جندب بن
عبد الله. والثاني: أنه لما نزلت لهم الرخصة قاموا، فقالوا: يا
رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين،
فنزلت هذه الآية «2» ، قاله ابن عباس. وقال: هاجَرُوا من مكة
إلى المدينة، وَجاهَدُوا في طاعة الله ابن الحضرميّ وأصحابه.
ورَحْمَتَ اللَّهِ: مغفرته وجنّته. قال الشعبي: أول لواء عقد
في الإسلام لواء عبد الله بن جحش، وأول مغنم قسم في الإسلام:
مغنمه.
[سورة البقرة (2) : آية 219]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما
إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ
مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، في
سبب نزولها قولان:
(99) أحدهما: أن عمر بن الخطاب قال: اللهم بين لنا في الخمر
بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية.
(100) والثاني: أن جماعة من الأنصار جاءوا إلى النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم، وفيهم عمر، ومعاذ، فقالوا: أفتنا
__________
حسن. أخرجه أبو داود 3670 والترمذي 3049 والنسائي 8/ 286
والحاكم 2/ 278 وأحمد 1/ 53 والطبري 12561 والبيهقي 1/ 53 من
حديث عمرو بن شرحبيل عن عمر. وإسناده حسن، رجاله ثقات، وصححه
الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. ويأتي في سورة المائدة
إن شاء الله تعالى.
لم أره مسندا، ذكره المصنف هكذا بدون إسناد ومن غير عزو لقائل.
وكذا ذكره الواحدي في «الأسباب» 132 بقوله: نزلت ... من غير
عزو لقائل ولا إسناد، فهذا خبر لا أصل له لخلوه عن الإسناد.
__________
(1) أخرجه الطبري 4105 من حديث جندب بسند فيه مجهول، فهو ضعيف
وتقدم.
(2) أخرجه الطبري 4106 بسند عن عروة مرسلا، ومراسيل عروة جياد.
ولم أره عن ابن عباس.
(1/183)
في الخمر، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال،
فنزلت هذه الآية.
وفي تسمية الخمر خمراً ثلاثة أقوال: أحدها: أنها سميت خمراً،
لأنها تخامر العقل، أي:
تخالطه. والثاني: لأنها تخمِّر العقل، أي: تستره. والثالث:
أنها تخمَّر، أي: تغطَّى. ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم.
وقال الزجاج: الخمر في اللغة: ما ستر على العقل، يقال: دخل
فلان في خمار الناس، أي: في الكثير الذي يستتر فيهم، وخمار
المرأة قناعها، سمي خماراً لأنه يغطّي. قال: والخمر هاهنا في
المجمع عليها، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له: خمر، وأن
يكون في التحريم بمنزلتها، لأن العلماء أجمعوا على أن القمار
كله حرام، وإنما ذكر الميسر من بينه، وجعل كله قياساً على
الميسر، والميسر إنما يكون قماراً في الجزر «1» خاصة. فأما
الميسر، فقال ابن عباس، وابن عمر، والحسن، وسعيد بن جبير،
ومجاهد، وقتادة في الآخرين: هو القمار. قال ابن قتيبة: يقال:
يسرت: إذا ضربت بالقداح، ويقال للضارب بالقداح: ياسر وياسرون،
ويُسر وأيْسار. وكان أصحاب الثروة والأجواد في الشتاء عند شدة
الزمان وكلبه ينحرون جزوراً ويجزئونها أجزاء ثم يضربون عليها
بالقداح فاذا قمر القامر، جعل ذلك لذوي الحاجة والمسكنة، وهو
النفع الذي ذكره الله تعالى، وكانوا يتمادحون بأخذ القداح،
ويتسابون بتركها ويعيبون من لا ييسر.
قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ، قرأ الأكثرون «كبير»
بالباء، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء.
وفي إثم الخمر ثلاثة أقوال: أحدها: أن شربها ينقص الدين، قاله
ابن عباس. والثاني: أنه إذا شرب سكر فآذى الناس، رواه السدي عن
أشياخه. والثالث: أنه وقوع العداوة والبغضاء وتغطية العقل الذي
يقع به التمييز، قاله الزجاج. وفي إثم الميسر قولان: أحدهما:
أنه يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقع العداوة، قاله ابن
عباس. والثاني: أنه يدعو إلى الظلم ومنع الحق. رواه السدي عن
أشياخه وجائز أن يراد جميع ذلك. وأما منافع الخمر فمن وجهين:
أحدهما: الربح في بيعها. والثاني: انتفاع الأبدان «2» مع
التذاذ النفوس. وأما منافع الميسر: فاصابة الرجل المال من غير
تعب. وفي قوله تعالى:
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما، قولان: أحدهما: أن
معناه: وإثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم، قاله
سعيد بن جبير والضحاك ومقاتل. والثاني: وإثمهما قبل التحريم
أكبر من نفعهما قبل التحريم أيضاً. لأن الإثم الذي يحدث في
أسبابهما أكبر من نفعهما. وهذا منقول عن ابن جبير أيضاً،
واختلفوا بماذا كانت الخمرة مباحة؟ على قولين: أحدهما: بقوله
تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ
مِنْهُ سَكَراً «3» ، قاله ابن جبير. والثاني: بالشريعة
الاولى، وأقر المسلمون على ذلك حتى حرمت.
فصل: اختلف العلماء: هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم
لا؟ على قولين: أحدهما: أنها
__________
(1) الجزر: جمع جزور وهي النوق.
(2) بل الخمر مضرة للجسم، مضرة للعقل، والقول المتقدم هو
الصواب.
(3) النحل: 67. [.....]
(1/184)
تقتضي ذمها دون تحريمها، رواه السدي عن
أشياخه، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة، ومقاتل. وعلى
هذا القول تكون هذه الآية منسوخة. والقول الثاني: أن لها
تأثيراً في التحريم، وهو أن الله تعالى أخبر أن فيها إثماً
كبيراً والإثم كله محرم بقوله: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ «1» ،
هذا قول جماعة من العلماء، وحكاه الزجاج، واختاره القاضي أبو
يعلى للعلة التي بيناها، واحتج لصحته بعض أهل المعاني، فقال:
لما قال تعالى: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ،
وقع التساوي بين الأمرين، فلما قال: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ
مِنْ نَفْعِهِما صار الغالب الإثم، وبقي النفع مستغرقاً في جنب
الإثم، فعاد الحكم للغالب المستغرق، فغلب جانب الخطر.
فصل: فأما الميسر فالقول فيه مثل القول في الخمر، إن قلنا: إن
هذه الآية دلت على التحريم، فالميسر حكمها حرام أيضاً، وإن
قلنا: إنها دلت على الكراهة فأقوم الأقوال أن نقول: إن الآية
التي في المائدة نصت على تحريم الميسر.
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ، قال ابن عباس:
الذي سأله عن ذلك عمرو بن الجموح.
قال ابن قتيبة: والمراد بالنفقة هاهنا: الصدقة والعطاء. قوله
تعالى: قُلِ الْعَفْوَ، قرأ أبو عمرو برفع واو «العفو» ، وقرأ
الباقون بنصبها، قال أبو علي: «ماذا» في موضع نصب، فجوابه
العفو بالنصب، كما تقول في جواب: ماذا أنفقت؟ درهماً، أي:
أنفقت درهماً، هذا وجه نصب العفو. ومن رفع جعل «ذا» بمنزلة
الذي، ولم يجعل «ماذا» اسماً واحداً، فاذا قال قائل: ماذا أنزل
ربكم؟ فكأنه قال: ما الذي أنزل ربكم؟ فجوابه: قرآن. قال
الزجاج: «العفو» في اللغة: الكثرة والفضل، يقال: قد عفا القوم:
إذا كثروا. و «العفو» : يأتي بغير كلفة. وقال ابن قتيبة:
العفو: الميسور. يقال: خذ ما عفاك، أي: ما أتاك سهلاً بلا
إكراه ولا مشقة.
وللمفسرين في المراد بالعفو هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنه ما
يفضل عن حاجة المرء وعياله، رواه مقسم عن ابن عباس. والثاني:
ما تطيب به أنفسهم من قليل وكثير، رواه عطية عن ابن عباس.
والثالث: أنه القصد من الإسراف والإقتار، قاله الحسن، وعطاء،
وسعيد بن جبير. والرابع: أنه الصدقة المفروضة، قاله مجاهد.
والخامس: أنه ما لا يتبين عليهم مقداره، من قولهم: عفا الأثر
إذا خفي ودرس، حكاه شيخنا عن طائفة من المفسرين «2» .
فصل: وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فروى السدي
عن أشياخه أنها نسخت بالزكاة، وأبى نسخها آخرون. وفصل الخطاب
في ذلك: أنا متى قلنا: إنه فرض عليهم بهذه الآية التصدق بفاضل
المال، أو قلنا: أوجبت عليهم هذه الآية صدقة قبل الزكاة،
فالآية منسوخة بآية الزّكاة،
__________
(1) الأعراف: 33.
(2) قال القرطبي رحمه الله 3/ 59: لما كان السؤال في الآية
المتقدمة وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ عن قدر الإنفاق وهو
في شأن عمرو بن الجموح فلما نزلت الآية قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ [البقرة: 215] قال: كم أنفق؟
فنزل قُلِ الْعَفْوَ والعفو ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على
القلب إخراجه، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا
فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية. وهو
معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسّدي والقرظي وغيرهم قالوا:
العفو ما فضل عن العيال ونحوه عن ابن عباس.
(1/185)
فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
ومتى قلنا: إنها محمولة على الزكاة
المفروضة كما قال مجاهد، أو على الصدقة المندوب إليها، فهي
محكمة.
قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ، قال الزجاج: إنما قال
كذلك، وهو يخاطب جماعة، لأن الجماعة معناها: القبيل، كأنه قال:
كذلك يا أيها القبيل. وجائز أن تكون الكاف للنبيّ صلّى الله
عليه وسلّم، كأنه قال:
كذلك يا أيّها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لأن الخطاب له
مشتمل على خطاب أمته. وقال ابن الأنباري: الكاف في «كذلك»
إشارة إلى ما بيَّن من الإنفاق، فكأنه قال: مثل ذلك الذي بينه
لكم في الإنفاق يبيّن الآيات.
ويجوز أن يكون «كذلك» غير إشارة إلى ما قبله، فيكون معناه:
هكذا، قاله ابن عباس. لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا
والآخرة فتعرفون فضل ما بينهما، فتعملون للباقي منهما.
[سورة البقرة (2) : آية 220]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى
قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، في سبب نزولها
قولان:
(101) أحدهما: أنه لما أنزل الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
«1» ، وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى
ظُلْماً «2» ، انطلق من كان عنده مال يتيم، فعزل طعامه من
طعامه، وشرابه من شرابه، وجعل يفضل الشيء من طعامِه فيحبس له
حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم، فذكروه للنبيّ صلّى الله
عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وعطاء، وسعيد
بن جبير، وقتادة، ومقاتل.
(102) والثاني: أن العرب كانوا يشددون في أمر اليتيم حتى لا
يأكلون معه في قصعته، ولا يستخدمون له خادما، فسألوا النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم عن مخالطتهم، فنزلت هذه الآية، ذكره
السدي عن أشياخه، وهو قول الضحاك.
وفي السائلين للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك قولان:
أحدهما: أن الذي سأله ثابت بن رفاعة الأنصاري، قاله مقاتل.
والثاني: عبد الله بن رواحة، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، قال ابن قتيبة:
معناه: تثمير أموالهم، والتنزه عن أكلها لمن وليها خير. وَإِنْ
تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، أي: فهم إخوانكم، حُكمهم في ذلك
حكم إخوانكم. قال ابن عباس: والمخالطة: أن يشرب من لبنك، وتشرب
من لبنه، ويأكل في قصعتك، وتأكل في قصعته.
__________
حسن. أخرجه أبو داود 2871 والنسائي 6/ 256 والحاكم 2/ 278
والطبري 4186 والواحدي 134 عن ابن عباس. وإسناده حسن بشواهده
لأجل عطاء بن السائب، فقد اختلط. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
- وله شاهد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى: أخرجه الطبري
4188. وله شاهد من مرسل قتادة: أخرجه الطبري 4189. وله شاهد من
مرسل الربيع بن أنس: أخرجه برقم 4191.
حسن. أخرجه الطبري 4198 عن السّدي مرسلا وأخرجه الطبري 4200 عن
الضحاك مرسلا أيضا. وأخرجه 4193 عن الشعبي مرسلا. وأخرجه 4195
عن عطاء مرسلا، فهذا خبر حسن بشواهده، وهو يشهد لما قبله.
__________
(1) الإسراء: 34.
(2) النساء: 9.
(1/186)
وَلَا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ
بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (221)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ، يريد: المتعمد أكل مال اليتيم، من المتحرّج الذي
لا يألو إلا الإصلاح. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ، قال
ابن عباس: أي لأحرجكم، ولضيّق عليكم. وقال ابن الأنباري: أصل
العنت: التشديد. تقول العرب: فلان يتعنت فلاناً ويعنته، أي:
يشدد عليه، ويلزمه المشاقّ، قال: ثم نقلت إلى معنى الهلاك،
واشتقاق الحرف «1» من قول العرب: أكمة عنوت: إذا كانت شديدة
شاقة المصعد، فجعلت هذه اللفظة مستعملة في كل شدّة.
[سورة البقرة (2) : آية 221]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا
تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ
مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ
وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
في سبب نزولها قولان:
(103) أحدهما: أن رجلاً يقال له: مرثد بن أبي مرثد بعثه النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم، إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين بها
أسرى، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها: عناق، وكانت خليلة
له في الجاهلية، فلما أسلم أعرض عنها، فأتته فقالت: ويحك يا
مرثد، ألا تخلو؟ فقال: إن الإسلام قد حال بيني وبينك، ولكن إن
شئتِ تزوّجتك، إذا رجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
استأذنته في ذلك، فقالت: أبي يتبرّم؟! واستغاثت عليه، فضربوه
ضرباً شديداً، ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة رجع إلى
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فسأله: أتحلُّ لي أن أتزوجها؟
فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل بن سليمان أنه
أبو مرثد الغنوي.
(104) والثاني: أن عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء، وأنه
غضب عليها فلطمها، ثم فزع، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
فأخبره خبرها فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وما هي يا
عبد الله» ؟ فقال: يا رسول الله، هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء،
وتشهد أن لا إِله إِلا الله، وأنك رسول الله، فقال: «يا عبد
الله، هذه مؤمنة» . فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنّها
ولأتزوجنّها ففعل، فعابه ناس من المسلمين، وقالوا: أنكح أمة،
وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن، فنزلت هذه
الآية. رواه السدي عن أشياخه. وقد ذكر بعض المفسرين أن قصة
عناق وأبي مرثد كانت سبباً لنزول قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ
__________
ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «الأسباب» 137 عن الكلبي عن أبي
صالح عن ابن عباس تعليقا، والكلبي كذاب، وأبو صالح روى عن ابن
عباس تفسيرا موضوعا. وورد عن مقاتل بن حيان مرسلا مختصرا،
أخرجه الواحدي 135 ومقاتل ذو مناكير، فهو ضعيف جدا. وهذه القصة
محفوظة لكن نزل في ذلك أوائل سورة النور. وسيأتي هناك باستيفاء
إن شاء الله.
أخرجه الطبري 4228 عن السدي مرسلا. ووصله الواحدي في «الأسباب»
136 عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس به. وإسناده لين، السدي
هو إسماعيل بن عبد الرحمن، فيه لين، وعنه أسباط بن نصر، وهو
صدوق كثير الخطأ.
__________
(1) أي الكلمة وهي «عنت» .
(1/187)
، وقصة ابن رواحة كانت سبباً لنزول قوله
تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ.
فأما التفسير، فقال المفضَّل: أصل النكاح: الجماع، ثم كثر ذلك
حتى قيل للعقد: نكاح. وقد حرّم الله عزّ وجلّ نكاح المشركات
عقدا ووطأ. وفي «المشركات» هاهنا قولان: أحدهما: أنه يعُم
الكتابيات وغيرهن، وهو قول الأكثرين «1» . والثاني: أنه خاص في
الوثنيات، وهو قول سعيد بن جبير، والنخعي، وقتادة. وفي المراد
بالأمة قولان: أحدهما: أنها المملوكة، وهو قول الأكثرين، فيكون
المعنى: ولَنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرة مشركة. والثاني:
أنها المرأة، وإن لم تكن مملوكة، كما يقال: هذه أمة الله، هذا
قول الضحّاك، والأول أصحّ. وفي قوله تعالى: وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ قولان:
أحدهما: بجمالها وحسنها. والثاني: بحسبها ونسبها.
فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فقال القائلون
بأن المشركات الوثنيات:
هي محكمة، وزعم بعض من نصر هذا القول أن اليهود والنصارى ليسوا
بمشركين بالله، وإن جحدوا بنبوة نبينا. قال شيخنا: وهو قولٌ
فاسد من وجهين: أحدهما: أن حقيقة الشرك ثابتة في حقهم حيث
قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله. والثاني: أن كفرهم
بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، يوجب أن يقولوا: إن ما جاء به
ليس من عند الله، وإضافة ذلك إلى غير الله شرك.
فأما القائلون بأنها عامة في جميع المشركات، فلهم في ذلك
قولان: أحدهما: أن بعض حكمها
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 3/ 65: قال إسحاق بن إبراهيم
الحربي: ذهب قوم فجعلوا الآية التي في «البقرة» هي الناسخة،
والتي في المائدة هي المنسوخة، فحرّموا نكاح كل مشركة كتابية
أو غير كتابية.
قال النحاس: ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما حدّثناه محمد
بن ريان قال حدثنا محمد بن رمح قال حدثنا الليث عن نافع أن عبد
الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية
قال: حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئا من الإشراك
أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله!. قال
النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة،
لأنه قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين
جماعة، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة. ومن التابعين
سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاوس وعكرمة
والشعبي والضحاك، وفقهاء الأمصار عليه. وأيضا يمتنع أن تكون
هذه الآية من سورة «البقرة» ناسخة للآية التي في سورة المائدة
لأن «البقرة» أول ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل.
وإنما الآخر ينسخ الأول. وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه، لأن
ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين، في
واحدة التحليل، وفي الأخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم
يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ
والمنسوخ بالتأويل. وذكر ابن عطية: وقال ابن عباس في بعض ما
روي عنه: إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات،
وكل من على غير الإسلام حرام. فعلى هذا تكون هي ناسخة للآية
التي في «المائدة» . وينظر إلى هذا قول ابن عمر.
وروي عن عمر: أنه فرّق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان
وبين كتابيتين وقالا نطلّق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال لو
جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أفرّق بينكما صغرة قمأه- قمأ:
ذلّ وصغر-. قال ابن عطية: وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن
عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي
سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام. ولكني أخاف
أن تعاطوا المومسات منهن. وروي عن ابن عباس نحو هذا. وذكر ابن
المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر بن الخطاب، ومن ذكر من
الصحابة والتابعين في قول النحاس. وقال في آخر كلامه: ولا يصح
عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك.
(1/188)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
منسوخ بقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وبقي الحكم في
غير أهل الكتاب محكماً.
والثاني: أنها ليست بمنسوخة، ولا ناسخة، بل هي عامة في جميع
المشركات، وما أخرج عن عمومها من إباحة كافرة فدليل خاص، وهو
قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ، فهذه خصصت عموم تلك من غير نسخ، وعلى هذا
عامة الفقهاء. وقد روي معناه عن جماعة من الصحابة، منهم:
عثمان، وطلحة، وحذيفة، وجابر، وابن عباس «1» .
قوله تعالى: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ، أي: لا تزوجوهم
بمسلمة حتى يؤمنوا والكلام في قوله تعالى: وَلَعَبْدٌ
مُؤْمِنٌ، وفي قوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ، مثل الكلام في
أول الآية.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ
وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ، قرأ الجمهور بخفض «المغفرة» وقرأ
الحسن، والقزاز، عن أبي عمرو، برفعها.
[سورة البقرة (2) : آية 222]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ
حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ. روى ثابت عن
أنس، قال:
(105) كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهن لم يؤاكلوها، ولم
يشاربوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسئل النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، فأمرهم النبي صلّى الله عليه
وسلّم أن يؤاكلوهن ويشاربوهن ويكونوا معهن في البيوت، وأن
يفعلوا كل شيء ما عدا النكاح.
(106) وقال ابن عباس: جاء رجل يقال له: ابن الدّحداحة من
الأنصار، إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية.
__________
صحيح. أخرجه مسلم 302 وأبو داود 258 و 2165 والترمذي 2977
والنسائي 1/ 152 و 187 وابن ماجة 644 والطيالسي 2052 والدارمي
1/ 245 وأبو عوانة 1/ 311 وابن حبان 1362 من حديث أنس.
- وانظر «تفسير القرطبي» 1168 بتخريجنا.
أخرجه الماوردي في كتابه «الصحابة» كما في «أسباب النزول» 141
للسيوطي من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن
ابن عباس. وإسناده ضعيف لجهالة شيخ ابن إسحاق، فإنه لا يعرف،
ولم يرو عنه سوى ابن إسحاق. وأخرج الطبري 4237 عن السدي أن
السائل هو ثابت. وورد من مرسل مقاتل بن حيان، أخرجه ابن المنذر
وابن أبي حاتم كما في «الدر» 1/ 222. وذكره الواحدي 140 بقوله:
قال المفسرون. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 3/ 65- 67. وقال بعض العلماء: وأما
الآيتان فلا تعارض بينهما فإن ظاهر لفظ المشرك لا يتناول أهل
الكتاب لقوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ففرق بينهم في اللفظ
وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.
وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا فلا يحلّ وسئل ابن عباس
عن ذلك فقال: لا يحلّ، وتلا قول الله تعالى:
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ إلى قوله صاغِرُونَ [التوبة: 29] . وكره مالك تزوج
الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر
والخنزير. واختلف العلماء في نكاح إماء أهل الكتاب فقال مالك:
لا يجوز نكاح الأمة الكتابية. وقال أبو حنيفة وأصحابه يجوز
نكاح إماء أهل الكتاب.
واختلفوا في نكاح نساء المجوس، فمنع مالك والشافعي وأبو حنيفة
والأوزاعي وإسحاق من ذلك، وقال ابن حنبل: لا يعجبني، وروي أن
حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية، وأن عمر قال له: طلّقها. وقال
ابن القصار:
قال بعض أصحابنا: يجب على أحد القولين: أن من لهم كتابا أن
تجوز مناكحتهم. وانظر التعليق السابق.
(1/189)
وفي المحيض قولان: أحدهما: أنه اسم للحيض،
قال الزجاج: يقال: قد حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحاضاً ومحيضاً.
وقال ابن قتيبة: المحيض: الحيض. والثاني: أنه اسم لموضع الحيض،
كالمقيل، فإنه موضع القيلولة، والمبيت موضع البيتوتة. وذكر
القاضي أبو يعلى أن هذا ظاهر كلام أحمد. فأما أرباب القول
الأول فأكدوه بأن في اللفظ ما يدل على قولهم، وهو أنه وصفه
بالأذى، وذلك صفة لتفسير الحيض، لا لمكانه. وأما أرباب القول
الثاني، فقالوا: لا يمتنع أن يكون المحيض صفة لموضع، ثم وصفه
بما قاربه وجاوره، كالعقيقة، فإنها اسم لشعر الصبي، وسميت بها
الشاة التي تذبح عند حلق رأسه مجازاً. والراوية: اسم للجمل،
وسميت المزادة راوية مجازاً. والأذى يحصل للواطئ بالنجاسة،
ونتن الريح. وقيل: يورث جماع الحائض علة بالغة في الألم.
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ، المراد به اعتزال
الوطء في الفرج، لأن المحيض نفس الدم أو نفس الفرج، وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ، أي: لا تقربوا جماعهن، وهو تأكيد لقوله:
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ. قوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ، قرأ
ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص، عن عاصم (حتى
يطهرن) خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر، عن عاصم
(يطَّهّرن) بتشديد الطاء والهاء وفتحهما. قال ابن قتيبة:
يطهرن: ينقطع عنهن الدم، يقال: طهُرت المرأة وطهَرت: إذا رأت
الطهر، وإن لم تغتسل بالماء. ومن قرأ: «يطَّهَّرن» بالتشديد
أراد: يغتسلن بالماء. والأصل يتطهرن، فأدغمت التاء في الطاء.
قال ابن عباس ومجاهد: حتى يطهرن من الدم، فاذا تطهرن اغتسلن
بالماء.
قوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ إباحة من حظر، لا على الوجوب. قوله
تعالى: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن معناه: من قبل الطهر، لا من قبل الحيض، قاله ابن
عباس، وأبو رزين، وقتادة، والسدي في آخرين. والثاني: أن معناه:
فأتوهن من حيث أمركم الله أن لا تقربوهن فيه، وهو محل الحيض،
قاله مجاهد. وقال من نصر هذا القول: إنما قال: أَمَرَكُمُ
اللَّهُ، والمعنى: نهاكم، لأن النهي أمر بترك المنهي عنه، و
«من» بمعنى «في» ، كقوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ «1» . والثالث: فأتوهنّ من قبل التزويج
والحلال، لا من قبل الفجور، قاله ابن الحنفية.
والرابع: أن معناه: فأتوهن من الجهات التي يحل أن تقرب فيها
المرأة، ولا تقربوهن من حيث لا ينبغي مثل أن كن صائمات أو
معتكفات أو محرمات. وهذا قول الزجاج وابن كيسان. وفي قوله
تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، قولان: أحدهما:
التوابين من الذنوب، قاله عطاء، ومجاهد في آخرين. والثاني:
التوابين من إتيان الحيض، ذكره بعض المفسرين. وفي قوله:
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، ثلاثة أقوال:
أحدها: المتطهرين من الذنوب، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو
العالية. والثاني: المتطهرين بالماء، قاله عطاء. والثالث:
المتطهرين من إتيان أدبار النساء، روي عن مجاهد.
__________
(1) الجمعة: 9.
(1/190)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
فصل: أقل الحيض يوم وليلة في إحدى
الروايتين عن أحمد. والثانية: يوم «1» . وقال أبو حنيفة:
أقله ثلاثة أيام. وقال مالك وداود: ليس لأقله حد. وفي أكثره
روايتان عن أحمد: إحداهما: خمسة عشر يوماً، وهو قول مالك
والشافعي. والثانية: سبعة عشر يوماً، وقال أبو حنيفة: أكثره
عشرة أيام.
والحيض مانع من عشرة أشياء: فعل الصلاة، ووجوبها، وفعل الصّيام
دون وجوبه، والجلوس في المسجد، والاعتكاف، والطواف، وقراءة
القرآن، وحمل المصحف، والاستمتاع فى الفرج، وحصول نيّة
الطّلاق.
[سورة البقرة (2) : آية 223]
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، في سبب نزولها ثلاثة
أقوال:
(107) أحدها: أن اليهود أنكرت جواز إتيان المرأة إلا من بين
يديها، وعابت من يأتيها على غير تلك الصفة، فنزلت هذه الآية.
روي عن جابر، والحسن، وقتادة.
(108) والثاني: أن حياً من قريش كانوا يتزوجون النساء بمكة،
ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات، فلما قدموا المدينة، تزوجوا من
الأنصار، فذهبوا ليفعلوا ذلك، فأنكرنه، وانتهى الحديث إلى
النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. رواه مجاهد عن
ابن عباس.
(109) والثالث: أن عمر بن الخطاب جاء إلى النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم، فقال: هلكت، حوّلت رحلي الليلة،
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4528 ومسلم 1435 والترمذي 2978 والنسائي
في عشرة النساء 93 وابن ماجة 1925 والواحدي 141 والحميدي 1263
وأبو يعلى 2024 والطحاوي في «المعاني» 3/ 40 من حديث جابر
بألفاظ متقاربة. وانظر «تفسير القرطبي» 1181 بتخريجنا.
حسن. أخرجه أبو داود 2164 والحاكم 2/ 279 من حديث ابن عباس
وقال الذهبي: على شرط مسلم.
جيد. أخرجه أحمد 1/ 297 والترمذي 2980 والنسائي في «التفسير»
60 وأبو يعلى 2736 وابن حبان 4202 والبغوي في «تفسيره» 1/ 198
والطبراني 12317 والطبري 2/ 235 وإسناده جيد رجاله ثقات كلهم.
وقال الترمذي: حسن غريب وصححه الحافظ في «الفتح» 8/ 191.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 3/ 80- 83: واختلف العلماء في مقدار
الحيض فقال فقهاء المدينة: إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر
يوما، وجائز أن يكون خمسة عشر يوما فما دون، وما زاد على خمسة
عشر يوما لا يكون حيضا وإنما هو استحاضة، وهذا مذهب مالك
وأصحابه. وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيرة
إلّا ما يوجد في النساء، فكأنه ترك قوله الأول ورجع إلى عادة
النساء. قال محمد بن مسلمة: أقل الطهر خمسة عشر يوما، وهو
اختيار أكثر البغداديين من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي
حنيفة وأصحابهما والثوري، وهو الصحيح في الباب. وقال الشافعي:
أقلّ الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما وقد روي عنه مثل
قول مالك: إن ذلك مردود إلى عرف النساء. وقال أبو حنيفة
وأصحابه: أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة. قال ابن عبد البر:
ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة، لا يمنع من
الصّلاة إلّا عند أول ظهوره لأنه لا يعلم مبلغ مدته. ثم على
المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات. وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند
الكوفيين. وعند الحجازيين ما زاد على خمسة عشر يوما فهو
استحاضة، وما كان أقل من يوم وليلة عند الشافعي فهو استحاضة.
وممن قال: أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما عطاء بن
أبي رباح وأبو ثور وأحمد بن حنبل.
(1/191)
فنزلت هذه الآية. رواه سعيد بن جبير عن ابن
عباس.
والحرث: المزدرع، وكنى به هاهنا عن الجماع، فسماهن حرثاً،
لأنهن مزدرع الأولاد، كالأرض للزرع، فان قيل: النساء جمع، فلم
لم يقل: حروث؟ فعنه ثلاثة أجوبة، ذكرها ابن القاسم الأنباري
النحوي: أحدها: أن يكون الحرث مصدراً في موضع الجمع، فلزمه
التوحيد، كما تقول العرب:
إخوتك صوم، وأولادك فطر، يريدون: صائمين ومفطرين، فيؤدي المصدر
بتوحيده عن اللفظ المجموع. والثاني: أن يكون أراد: حروث لكم،
فاكتفى بالواحد من الجمع، كما قال الشاعر:
كلوا في نصف بطنكُم تعيشوا
أي: في أنصاف بطونكم. والثالث: أنه إنما وحَّد الحرث، لأن
النساء شبهن به، ولسن من جنسه، والمعنى: نساؤكم مثل حروث لكم.
قوله تعالى: أَنَّى شِئْتُمْ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه
بمعنى: كيف شئتم، ثم فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: كيف شئتم، مقبلة أو مدبرة، وعلى كل حال،
إذا كان الإتيان في الفرج. وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعطية،
والسدي، وابن قتيبة في آخرين. والثاني: أنها نزلت في العزل،
قاله سعيد بن المسيب، فيكون المعنى: إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم
فلا تعزلوا. والقول الثاني: أنه بمعنى:
إذا شئتم، ومتى شئتم، وهو قول ابن الحنفية والضحاك، وروي عن
ابن عباس أيضاً. والثالث: أنه بمعنى: حيث شئتم، وهذا محكي عن
ابن عمر ومالك بن أنس، وهو فاسِد من وجوه: أحدها: أن سالم بن
عبد الله لما بلغه أن نافعاً تحدث بذلك عن ابن عمر، قال: كذب
العبد، إنما قال عبد الله:
يؤتون في فروجهن من أدبارهن. وأما أصحاب مالك، فانهم ينكرون
صحته عن مالك «1» .
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 261- 262: روى أبو داود عن
مجاهد عن ابن عباس قال: إن ابن عمر- والله يغفر له- أو هم
وإنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من
يهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا
يقتدون بكثير من فعلهم وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء
إلّا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة ... فذكر القصة بتمام
سياقها، وقول ابن عباس إن ابن عمر- والله يغفر له- أوهم كأنه
يشير إلى ما رواه البخاري عن نافع قال كان ابن عمر إذا قرأ
القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عنه يوما فقرأ سورة البقرة
حتى انتهى إلى مكان قال. أتدري فيم أنزلت؟ قلت لا قال: أنزلت
في كذا وكذا ثم مضى. وعن عبد الصمد قال حدثني أبي حدثنا أيوب
عن نافع عن ابن عمر فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قال
أن يأتيها في؟ هكذا رواه البخاري. وقد تفرّد به من هذا الوجه.
وقال ابن جرير عن ابن عون عن نافع: قال قرأت ذات يوم
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
فقال ابن عمر أتدري فيم نزلت؟ قلت لا قال: نزلت في إتيان
النساء في أدبارهن. وروي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ولا
يصح. وروى النسائي أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه
من ذلك وجدا شديدا فأنزل الله [الآية] ، وهذا الحديث محمول على
أنه يأتيها في قبلها من دبرها. لما رواه النسائي عن أبي النضر
قال لنافع مولى ابن عمر إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن
ابن عمر أنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال: كذبوا عليّ
ولكن سأحدثك كيف كان الأمر. إن ابن عمر عرض المصحف يوما وأنا
عنده حتى بلغ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ فقال يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت:
لا قال: إنا كنا معشر قريش نجبي النساء فلما دخلنا المدينة
ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد فآذاهن فكرهن
ذلك وأعظمنه وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود.
إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل الله نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ. وهذا إسناد صحيح وقد
رواه ابن مردويه عن الطبراني عن كعب بن علقمة فذكره. وقد روينا
عن ابن عمر خلاف ذلك صريحا وأنه لا يباح ولا يحل وإن كان قد
نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم وعزاه بعضهم
إلى الإمام مالك في كتاب السر وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن
الإمام مالك رحمه الله وقد وردت الأحاديث المروية من طرق
متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه فعل جابر قال قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: «استحيوا إن الله لا يستحي من الحق لا
يحل أن تأتوا النساء في حشوشهن» وفي رواية أحمد (أعجازهن)
والنسائي وابن ماجة من طرق عن خزيمة بن ثابت. فائدة: قال
الطحاوي في «مجمع الآثار» 3/ 46 فلما تواترت هذه الآثار عن
النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنهي عن وطأ المرأة في الدبر ثم
جاء عن أصحابه وتابعيهم ما يوافق ذلك وجب القول به، وترك ما
يخالفه اه. وفائدة أخرى: الآن ظهر الأمر جليا وذلك بمرض
الإيدز- أي فقد المناعة- فقد أجمع الأطباء على أن الإتيان في
الدبر سواء للرجل أو المرأة هو أكثر العوامل التي تسبب مرض
الإيدز وهذا مما يؤيد ما نصّ عليه شرعنا الحنيف، فهو حرام قطعا
ويقينا لا مجال للخوض فيه ولا للمناقشة وقد تقدم عن النبي صلّى
الله عليه وسلّم أحاديث بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وهي تبلغ
حد الشهرة، ومشى إلى ذلك الصحابة والتابعون والفقهاء وأهل
العلم سوى من شذ والله أعلم. وانظر مزيد الكلام عليه في «تفسير
ابن كثير» 1/ 268- 272 عند هذه الآية بتعليقي. وانظر «تفسير
الشوكاني» 1/ 262- 263 بتعليقي، والله الموفق للصواب.
(1/192)
(110) والثاني: أن أبا هريرة روى عن النبي
صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «ملعون من أتى النساء في
أدبارهن» ، فدل على أن الآية لا يراد بها هذا. والثالث: أن
الآية نبهت على أنه محل الولد بقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ،
وموضع الزرع: هو مكان الولد. قال ابن الأنباري: لما نصَّ الله
على ذكر الحرث، والحرث به يكون النبات، والولد مشبَّه بالنبات،
لم يجز أن يقع الوطء في محل لا يكون منه ولد. والرابع: أن
تحريم إتيان الحائض كان لعلة الأذى، والأذى ملازم لهذا المحل
لا يفارقه.
قوله تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن معناه: وقدموا لأنفسكم من العمل الصالح، رواه أبو
صالح عن ابن عباس. والثاني: وقدموا التسمية عند الجماع، رواه
عطاء عن ابن عباس. والثالث: وقدموا لأنفسكم في طلب الولد، قاله
مقاتل. والرابع: وقدّموا طاعة الله واتباع أمره، قاله الزجّاج.
__________
حسن. أخرجه أبو داود 2162 وأحمد 2/ 444 والنسائي في «الكبرى»
9014 وفيه الحارث بن مخلد وهو مجهول كما في «التقريب» لكن
للحديث شواهد يحسن بها.
- وفي الباب «إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في
أعجازهن» . أخرجه الشافعي 2/ 29 والنسائي في «الكبرى» 8982 و
8984 و 8985 و 8989 والدارمي 1/ 261 و 2/ 145 وأحمد 5/ 213-
215 وصححه ابن حبان 4198 و 4200 والطحاوي 3/ 43 وابن ماجة 1924
وابن الجارود 728 والطبراني 3741 و 3742 و 3743 والبيهقي 7/
197 والخطابي في «غريب الحديث» 1/ 376 والبغوي في «التفسير» 1/
199 من طرق كلهم من حديث خزيمة بن ثابت، وهو حديث قوي الإسناد
لمجيئه من عدة طرق وله شواهد. وفي الباب عن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينظر الله إلى رجل أتى
امرأة في دبرها» . إسناده حسن، رجاله رجال الصحيح، لكن في أبي
خالد الأحمر- وهو سليمان بن حيان- كلام ينزله عن رتبة الصحيح.
وأخرجه النسائي في «الكبرى» كما في التحفة 5/ 210 والترمذي
1165 وقال الترمذي حسن غريب. وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 251- 252
وأبو يعلى 2378 وابن حبان 4204 و 4418. وفي الباب أحاديث كثيرة
تبلغ حد الشهرة.
(1/193)
وَلَا تَجْعَلُوا
اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
[سورة البقرة (2) : آية 224]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ،
في سبب نزولها أربعة أقوال:
(111) أحدها: أنها نزلت في عبد الله بن رواحة، كان بينه وبين
ختنه «1» شيء، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه، وجعل
يقول: قد حلفت بالله، ولا يحل لي، إلا أن تبرّ يميني، فنزلت
هذه الآية، قاله ابن عباس. والثاني: أن الرجل كان يحلف بالله
أن لا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس، فنزلت هذه الآية، قاله
الربيع بن أنس. والثالث: أنها نزلت في أبي بكر حين حلف: لا
ينفق على مسطح، قاله ابن جريج «2» . والرابع: نزلت في أبي بكر،
حلف أن لا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم، قاله المقاتلان: ابن
حيان، وابن سليمان «3» .
قال الفراء: والمعنى: ولا تجعلوا الله مُعترضاً لأيمانكم. وقال
أبو عبيد: نصباً لأيمانكم، كأنه يعني: أنكم تعترضونه في كل شيء
فتحلفون به.
وفي معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناها: لا تحلفوا
بالله أن لا تبرّوا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، هذا قول
ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وابن جبير، والضحاك، وقتادة، والسدي،
ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين. والثاني: أن
معناها: لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبرّوهم،
وتصلحوا بينهم بالكذب، روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس.
والثالث: أن معناها: لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارّين
مصلحين، فان كثرة الحلف بالله ضرب من الجرأة عليه، هذا قول ابن
زيد.
[سورة البقرة (2) : آية 225]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ
يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
حَلِيمٌ (225)
قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمانِكُمْ، قال الزجاج: اللغو في كلام العرب: ما أطُّرح ولم
يعقد عليه أمر، ويسمى ما لا يعتد به، لغواً. وقال ابن فارس:
اشتقاق ذلك من قولهم لما لا يعدّ من أولاد الإبل في الدّية أو
غيرها لغو، يقال منه: لغا يلغو، وتقول: لغي بالأمر يلغى: إذا
لهِج به. وقيل:
إن اشتقاق اللغة منه: أي يلهج صاحبها بها. وفي المراد باللغو
هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أن يحلف على الشيء ويظنّ أنه كما
حلف، ثم يتبين له أنه بخلافه، وإلى هذا المعنى ذهب أبو هريرة،
وابن عباس، والحسن، وعطاء، والشعبي، وابن جبير، ومجاهد،
وقتادة، والسدي عن أشياخه، ومالك، ومقاتل. والثاني: أنه: لا
والله، وبلى والله، من غير قصد لعقد اليمين، وهو قول عائشة،
وطاوس، وعروة، والنخعي، والشافعي. واستدل أرباب هذا القول
بقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ،
وكسب القلب: عقده وقصده، وهذان القولان منقولان عن الإمام
أحمد، روى عنه ابنه
__________
لا أصل له. ذكره الواحدي 148 عن الكلبي، وهو معضل والكلبي
متهم.
__________
(1) ورد في الأثر المتقدم أنه النعمان بن بشير، لكن الأثر باطل
كما تقدم.
(2) ضعيف جدا. أخرجه الطبري 4371 وهذا معضل، وما يرسله ابن
جريج واه بمرة.
(3) هذا واه ليس بشيء، مقاتل بن سليمان كذاب، وابن حيان ذو
مناكير.
(1/194)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ
فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
عبد الله أنه قال: اللغو عندي أن يحلف على
اليمين، يرى أنه كذلك، ولا كفارة. والرجل يحلف ولا يعقد قلبه
على شيء، فلا كفارة. والثالث: أنه يمين الرجل وهو غضبان، رواه
طاوس عن ابن عباس.
والرابع: أنه حلف الرجل على معصية، فليحنث، وليكفِّر، ولا إثم
عليه، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: أن يحلف الرجل على شيء، ثم ينساه، قاله النخعي. وقول
عائشة أصح الجميع. قال حنبل: سئل أحمد عن اللغو فقال: الرجل
يحلف فيقول: لا والله، وبلى والله، لا يريد عقد اليمين، فاذا
عقد على اليمين لزمته الكفارة. قوله تعالى: وَلكِنْ
يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، قال مجاهد: أي:
ما عقدت عليه قلوبكم. «والحليم» : ذو الصفح الذي لا يستفزه
غضب، فيعجل، ولا يستخفه جهل جاهل مع قدرته على العقوبة. قال
أبو سليمان الخطابي: ولا يستحق اسم الحليم من سامح مع العجز عن
المجازاة، إنما الحليم الصفوح مع القدرة، المتأني الذي لا يعجل
بالعقوبة. وقد أنعم بعض الشعراء أبياتاً في هذا المعنى، فقال:
لا يدرك المجدَ أقوامٌ وإِن كرموا ... حتى يذلّوا وإِن عزّوا
لأقوام
ويُشْتَموا فترى الألوانَ مسفرةً ... لا صفح ذلٍ ولكن صفحَ
أحلام
قال: ويقال: حَلم الرجل يحلمُ حُلُما بضم اللام في الماضي
والمستقبل. وحلَم في النوم، بفتح اللام، يحلم حُلماً، اللام في
المستقبل والحاء في المصدر مضمومتان.
فصل: الأيمان على ضربين، ماضٍ ومستقبل، فالماضي على ضربين:
يمين محرمة، وهي:
اليمين الكاذبة، وهي أن يقول: والله ما فعلت، وقد فعل. أو: قد
فعلت، وما فعل. ويمين مباحة، وهي أن يكون صادقاً في قوله: ما
فعلت، أو: لقد فعلت. والمستقبلة على خمسة أقسام: أحدها: يمين
عقدها طاعة والمقام عليها طاعة، وحلها معصية، مثل أن يحلف:
لأصلينَّ الخمس، ولأصومنَّ رمضان، أو: لا شربت الخمر. والثاني:
عقدها معصية، والمقام عليها معصية، وحلها طاعة، وهي عكس
الأولى. والثالث: يمين عقدها طاعة، والمقام عليها طاعة، وحلّها
مكرهة، مثل أن يحلف:
ليَفعلنّ النوافل من العبادات. والرابع: يمين عقدها مكروه،
والمقام عليها مكروه، وحلها طاعة، وهي عكس التي قبلها.
والخامس: يمين عقدها مباح، والمقام عليها مباح، وحلها مباح مثل
أن يحلف: لا دخلت بلداً فيه من يظلم الناس، ولا سلكت طريقا
مخوفا، ونحو ذلك «1» .
[سورة البقرة (2) : آية 226]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ.
(112) قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته
شيئاً، فأبت أن تعطيه
__________
حسن. أخرجه سعيد بن منصور 1884 والطبراني في «الكبير» 11/ 158
والبيهقي في 7/ 381 والواحدي في «أسباب النزول» 149 عن ابن
عباس وإسناده حسن، ورجاله ثقات.
__________
(1) قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ مثل قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما
عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة: 89] وهناك يأتي الكلام فيه
مستوفى، إن شاء الله تعالى. [.....]
(1/195)
حلف أن لا يقربها السنة، والثلاث، فيدعها
لا أيّماً ولا ذات بعل، فلما كان الإسلام جعل الله تعالى ذلك
للمسلمين أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية. وقال سعيد بن المسيب:
كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، وكان الرجل لا يريد المرأة،
ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبداً، فجعل الله
تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر،
وأنزل هذه الآية. قال ابن قتيبة: يؤلون، أي: يحلفون، يقال:
آليت من امرأتي، أولي إيلاء: إذا حلف لا يجامعها. والاسم:
الأليَّة. وقال الزجاج: يقال من الإيلاء: آليت أولي إيلاء
وأليَّة وأُلْوةً وأَلْوَةً وإِلْوَةً، وهي بالكسر أقل اللغات،
قال كثير:
قليل الألايا حافظٌ ليمينه ... وإِن بدرت منه الأليَّة برَّت
وحكي ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: «من» بمعنى: «في»
أو: «على» ، والتقدير: على وطء نسائهم، فحذف الوطء، وأقام
النساء مقامه، كقوله تعالى: ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «1» ،
أي: على ألسنة رسلك. وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يؤلون،
يعتزلون من نسائهم. والتربص: الانتظار. ولا يكون مؤلياً إلا
إذا حلف بالله لا يصيب زوجته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على
أربعة أشهر فما دون، لم يكن مؤلياً. وهذا قول مالك، وأحمد،
والشافعي «2» . وفاؤوا: رجعوا، ومعناه رجعوا إلى
__________
(1) آل عمران: 194.
(2) قال القرطبي رحمه الله 3/ 100: واختلف العلماء فيما يقع
فيه الإيلاء من اليمين، فقال قوم: لا يقع الإيلاء إلّا باليمين
بالله تعالى وحده. لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان حالفا
فليحلف بالله أو ليصمت» وبه قال الشافعي في الجديد.
وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء وبه قال النخعي
ومالك والشعبي وأهل الحجاز وسفيان الثوري وأهل العراق والشافعي
في القول الآخر. قال ابن عبد البر: وكل يمين لا يقدر صاحبها
على جماع امرأته من أجلها إلّا بأن يحنث بها فهو بها مول، إذا
كانت يمينه على أكثر من أربعة أشهر. فإن قال: أقسم أو عزم ولم
يذكر الله فقيل: لا يدخل عليه الإيلاء، إلّا أن يكون أراد ب
«الله» ونواه. واختلف العلماء في الإيلاء المذكور في القرآن،
فقال ابن عباس: لا يكون موليا حتى يحلف ألا يمسها أبدا. وقالت
طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يوما أو أقل أو أكثر ثم لم يطأ
أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول
كثير من أهل العلم. وقال الجمهور: الإيلاء هو أن يحلف ألا يطأ
أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة فما دونها لا يكون
موليا وكانت عندهم يمينا محضا. لو وطئ في هذه المدة لم يكن
عليه شيء كسائر الأيمان، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي
ثور. وقال مالك والشافعي: جعل الله للمولي أربعة أشهر، فهي
بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجّل لا
يستحق صاحبه المطالبة به إلّا بعد تمام الأجل.
واختلفوا فيمن حلف ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر فانقضت
الأربعة أشهر فلم تطالبه امرأته ولا رفعته إلى السلطان ليوقفه،
لم يلزمه شيء عند مالك وأصحابه وأكثر أهل المدينة. ومن علمائنا
من يقول: يلزمه بانقضاء الأربعة أشهر طلقة رجعية. ومن غيرهم من
يقول: طلقة بائنة والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه، وذلك أن
المولي لا يلزمه طلاق حتى يوقفه السلطان بمطالبة زوجته له
ليفيء ويكفر عن يمينه أو يطلق ولا يتركه حتى يفيء أو يطلق. وبه
قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور واختاره ابن المنذر. وأجل
المولي من يوم الحلف لا من يوم تخاصمه امرأته وترفعه إلى
الحاكم. وأوجب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور
العلماء الكفارة على المولي إذا فاء بجماع امرأته وقال الحسن:
لا كفارة عليه، وبه قال النخعي. قلت: وقد يستدل لهذا القول من
السنة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله
عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها
فليتركها فإنّ تركها كفارتها» .
(1/196)
وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ
قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ
اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ
فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
الجماع، قاله عليّ، وابن عباس، وابن جبير،
ومسروق، والشعبي، وإذا كان للمؤلي عذر لا يقدر معه على الجماع،
فإنه يقول: متى قدرت جامعتها، فيكون ذلك من قوله فيئة فمتى قدر
فلم يفعل، أمر بالطلاق، فان لم يطلق، طلق الحاكم عليه.
قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قال عليّ، وابن
عباس: غفور لإثم اليمين.
[سورة البقرة (2) : آية 227]
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(227)
قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، أي: حققوه «1» . وفي
عزم الطلاق قولان:
أحدهما: أنه إذا مضت الأربعة أشهر استحق عليه أن يفيء، أو
يطلق، وهو مروي عن عمر، وعثمان، وعليّ، وابن عمر، وسهل بن سعد،
وعائشة، وطاوس، ومجاهد، والحكم، وأبي صالح.
وحكاه أبو صالح عن اثني عشر رجلاً من الصحابة، وهو قول مالك،
وأحمد، والشافعي. والثاني: أنه لا يفيء حتى يمضي أربعة أشهر،
فتطلق بذلك من غير أن يتكلم بطلاق.
واختلف أرباب هذا القول فيما سيلحقها من الطلاق على قولين:
أحدهما: طلقة بائنة. روي عن عثمان، وعليّ، وابن عمر، وزيد بن
ثابت، وقبيصة بن ذؤيب. والثاني: طلقة رجعية، روي عن سعيد بن
المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن شبرمة. قوله تعالى:
فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيه قولان: أحدهما: سميع
لطلاقه، عليم بنيته. والثاني: سميع ليمينه، عليم بها.
[سورة البقرة (2) : آية 228]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ
اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ
فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، سبب نزولها: أن المرأة كانت إذا طلقت وهي
راغبة في زوجها، قالت: أنا حبلى، وليست حبلى، لكي يراجعها، وإن
كانت حبلى وهي كارهة، قالت: لست بحبلى، لكي لا يقدر على
مراجعتها. فلما جاء الإسلام ثبتوا على هذا، فنزل قوله تعالى:
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 3/ 107: في قوله تعالى وَإِنْ
عَزَمُوا الطَّلاقَ دليل على أنها لا تطلق بمضي أربعة أشهر كما
قال مالك، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة. وأيضا فإنه قال:
«سميع» وسميع يقتضي مسموعا بعد المضي. وقال أبو حنيفة: «سميع»
لإيلائه «عليم» بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة أشهر قال القاضي
ابن العربي: وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا: لِلَّذِينَ
يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
فَإِنْ فاؤُ بعد انقضائها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
وتقديرها عندهم لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فيها فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ بترك
الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ. قال ابن عربي: وهذا احتمال متساو ولأجل تساويه توقفت
الصحابة فيه.
قلت: وإذا تساوى الاحتمالين كان القول قياسا على المعتدة
بالشهور والأقراء إذ كل أجل ضربه الله تعالى فبانقضائه انقطعت
العصمة وأبينت من غير خلاف ولم يكن لزوجها سبيل عليها إلّا
بإذنها، فكذلك الإيلاء، حتى لو نسي الفيء وانقضت المدة لوقع
الطلاق والله أعلم.
(1/197)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ «1» ، ثم نزلت: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
فأما التفسير فالطلاق: التخلية. قال ابن الأنباري: هي من قول
العرب: أطلقت الناقة، فطلقت:
إذا كانت مشدودة، فأزلت الشد عنها، وخليتها، فشبه ما يقع
للمرأة بذلك، لأنها كانت متصلة الأسباب بالرجل، وكانت الأسباب
كالشد لها فلما طلقها قطع الأسباب. ويقال: طلقت المرأة
وطُلّقت. وقال غيره: الطلاق: من أطلقت الشيء من يدي، إلا أنهم
لكثرة استعمالهم اللفظتين فرقوا بينهما، ليكون التطليق مقصوراً
في الزوجات. وأما القروء: فيراد بها: الأطهار، ويراد بها
الحيض. يقال: أقرأت المرأة إذا حاضت، وأقرأت: إذا طهرت.
(113) قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المستحاضة: «تقعد
أيام أقرائها» ، يريد: أيام حيضها.
وقال الأعشى:
وفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا «2»
مُورِّثةٍ مالاً، وفي الحي رفعةً ... لما ضاع فيها من قروء
نسائكا
أراد بالقروء: الأطهار، لأنه لما خرج عن نسائه أضاع أطهارهن.
واختلف أهل اللغة في أصل القروء على قولين: أحدهما: أن أصله
الوقت، يقال: رجع فلان لقرئه، أي: لوقته الذي كان يرجع
__________
ضعيف. أخرجه الدارقطني 1/ 212 عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن
عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلّى الله عليه
وسلّم، قالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع
الصّلاة؟ فقال: «دعي الصّلاة أيام أقرائك، ثم اغتسلي وصلّي وإن
قطر الدم على الحصير» . وقال غيره عن وكيع «وتوضئي لكل صلاة» .
وهو معلول. قال الدارقطني: قال يحيى بن سعيد: الثوري أعلم
الناس بهذا، زعم أن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن
الزبير شيئا، ونقل الآبادي في «التعليق المغني» عن البيهقي في
«المعرفة» قوله:
حديث حبيب بن أبي ثابت ضعفه يحيى القطان وعلي المديني وابن
معين، وكذا الثوري ا. هـ ملخصا. ولو صح هذا اللفظ لكان فيصلا
في هذه المسألة إلّا أن عدم ثبوته جعل الناس مختلفين في شأن
«القرء» هل المراد الطهر أو الحيض والله تعالى أعلم، وقد صح
هذا الخبر موقوفا كما رجح غير واحد وهو الصواب، والمرفوع بهذا
اللفظ ضعيف.
- وأصل الخبر في «الصحيح» دون لفظ «أقرائك» . أخرجه البخاري
228 و 306 و 320 و 331 ومسلم 333 وأبو داود 282 والترمذي 125
والنسائي 1/ 81 و 85 و 186 ومالك 1/ 61 والشافعي 1/ 39- 40
وعبد الرزاق 1165 وابن أبي شيبة 1/ 125 والدارمي 1/ 199 وابن
حبان 1350 والطحاوي في «المعاني» 1/ 102 والبيهقي 1/ 206 و 207
وأبو عوانة 1/ 319 وابن الجارود 112 والبيهقي 1/ 323 و 324 و
325 و 327 و 329 من طرق عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة،
قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم
فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع
الصّلاة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا إنما ذلك
عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصّلاة، وإذا
أدبرت، فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل
صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. وانظر «تلخيص الحبير» 1/ 71.
__________
(1) الطلاق: 1.
(2) في اللسان: جشم الأمر تكلّفه على مشقة. والعزم: الجدّ.
والعزاء: الصبر.
(1/198)
فيه، ورجع لقارئه أيضاً. قال الهذلي:
كرهت العقر عقر بني شليل ... إذا هبت لقارئها الرياح
فالحيض يأتي لوقت، والطهر يأتي لوقت، هذا قول ابن قتيبة.
والثاني: أن أصله الجمع.
وقولهم: قرأت القرآن، أي: لفظت به مجموعاً. والقرء: اجتماع
الدم في البدن، وذلك إنما يكون في الظّهر، وقد يجوز أن يكون
اجتماعه في الرحم، وكلاهما حسن، هذا قول الزجاج.
واختلف الفقهاء في الأقراء على قولين «1» : أحدهما: أنها
الحيض، روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، وعبادة بن
الصامت، وأبي الدرداء، وعكرمة، والضحاك، والسدي، وسفيان
الثوري، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد
بن حنبل رضي الله عنه، فإنه قال: قد كنت أقول: إن القروء:
الأطهار، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض. والثاني: أنها
الأطهار، روي عن زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، والزهري،
وأبان بن عثمان، ومالك بن أنس، والشافعي، وأومأ إليه أحمد.
ولفظ قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ، لفظ الخبر،
ومعناه: الأمر، كقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ «2» ، وقد يأتي لفظ الأمر
في معنى الخبر كقوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ
مَدًّا «3» ، والمراد بالمطلقات في هذه الآية، البالغات
المدخول بهن غير الحوامل. قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ، فيه
ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحمل، قاله عمر، وابن عباس، ومجاهد،
وقتادة، ومقاتل، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه الحيض،
قاله عكرمة، وعطية، والنخعي، والزهري. والثالث: الحمل والحيض،
قاله ابن عمر، وابن زيد. وقوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، خرِّج مخرج الوعيد لهن
والتوكيد، قال الزجاج: وهو كما تقول للرجل: إن كنت مؤمناً فلا
تظلم. وفي سبب وعيدهم بذلك قولان: أحدهما: أنه لأجل ما يستحقه
الزوج من الرجعة، قاله ابن عباس. والثاني: لأجل إلحاق الولد
بغير أبيه، قاله قتادة. وقيل: كانت المرأة إذا
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 3/ 108: اختلف العلماء في الأقراء.
فقال أهل الكوفة: هي الحيض وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي
موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي. وذلك لاجتماع الدم
في الرحم.
وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن
ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي وجعله اسما للطهر
لاجتماعه في البدن. وقال قوم: هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض،
وهو جمعه، ومنه القرآن لاجتماع المعاني ويقال لاجتماع حروفه
قال ابن عبد البر: قول من قال: إن القرء مأخوذ من قولهم:
قريت الماء في الحوض ليس بشيء، لأن القرء مهموز وهذا غير
مهموز. وقيل: القرء، الخروج وعلى هذا قال الشافعي القرء
الانتقال من الطهر إلى الحيض ولا يرى الخروج من الحيض إلى
الطهر قرء. وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرء، ويكون معنى
قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أي ثلاثة أدوار أو ثلاثة انتقالات والمطلقة
متصفة بحالتين فقط، فتارة تنتقل من طهر إلى حيض وتارة من حيض
إلى طهر فيستقيم معنى الكلام ودلالته على الطهر والحيض جميعا،
فيصير الاسم مشتركا. ويقال: إذا ثبت أن القرء الانتقال فخروجها
من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلا، ولذلك لم يكن الطلاق في
الحيض سنّيا مأمورا به، وهو الطلاق للعدة فإن الطلاق للعدة ما
كان في الطهر، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال،
والطلاق في الطهر سنيا.
(2) البقرة: 233.
(3) مريم: 75.
(1/199)
رغبت عن زوجها، قالت: إني حائض، وقد طهرت.
وإذا زهدت فيه، كتمت حيضها حتى تغتسل، فتفوته.
والبعولة: الأزواج. و «ذلك» : إشارة إلى العدة، قاله مجاهد،
والنخعي، وقتادة في آخرين.
وفي الآية دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم أوله، ولا
يوجب تخصيصه، لأن قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ،
عام في المبتوتات والرجعيات، وقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ خاص في الرجعيات.
قوله تعالى: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً، قيل: إن الرجل كان إذا
أراد الإضرار بامرأته، طلقها واحدة وتركها، فاذا قارب انقضاء
عدتها راجعها، ثم تركها مدّة، ثم طلقها، فنهوا عن ذلك. وظاهر
الآية يقتضي أنه إنما يملك الرجعة على غير وجه المضارة بتطويل
العدة عليها، غير أنه قد دل قوله تعالى:
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا، على صحة الرجعة وإن
قصد الضرار، لأن الرجعة لو لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه
الضرار لما كان ظالماً بفعلها.
قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ، وهو: المعاشرة الحسنة، والصحبة الجميلة.
(114) روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن حق
المرأة على الزوج فقال: «أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا
اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت» .
وقال ابن عباس: إني أحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي
لهذه الآية.
قوله تعالى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، قال ابن عباس:
بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال. وقال مجاهد:
بالجهاد والميراث. وقال أبو مالك: يطلقها، وليس لها من الأمر
شيء. وقال الزجاج: تنال منه من اللذة كما ينال منها، وله الفضل
بنفقته.
(115) وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«لو أمرتُ أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» .
__________
صحيح. أخرجه النسائي في «الكبرى» 9171 و 11104 وابن ماجة 1850
وأحمد 4/ 447 وابن حبان 4175 والطبراني 19/ 1034 و 1037 و 1038
والحاكم 2/ 187- 188 وابن أبي الدنيا في «العيال» 488 والبيهقي
7/ 295 و 305 من طرق عن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري وصححه
الحاكم ووافقه الذهبي.
وأخرجه أبو داود 2143 وأحمد 5/ 5 والطبراني 19/ 1000 وابن أبي
الدنيا 489 من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وأخرجه أحمد
5/ 3 عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي قزعة وعطاء.
صحيح بشواهده. أخرجه الترمذي 1159 وابن حبان 4162 والبيهقي 7/
291 من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. ومحمد
بن عمرو حسن الحديث. وأخرجه الحاكم 4/ 171- 172 والبزار 1466
من طريق سليمان بن داود من حديث أبي هريرة وصححه الحاكم وقال
الذهبي: بل سليمان هو اليمامي ضعفوه. وكذا ضعفه الهيثمي في
«المجمع» 4/ 307. وله شواهد- منها حديث أنس عند النسائي في
«الكبرى» 9147 وأحمد 3/ 58 والبزار 2454 وابن أبي الدنيا 529.
وفي إسناده، خلف بن خليفة صدوق اختلط في الآخر كما في
«التقريب» . وحديث عائشة عند ابن ماجة 1852 وأحمد 6/ 86. وابن
أبي الدنيا 541 وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
وحديث ابن عباس عند الطبراني 12003 والبزار 1467 وابن أبي
الدنيا في «العيال» 542 وفيه الحكم بن طهمان، وهو ضعيف. وحديث
معاذ بن جبل من طريق أبي ظبيان.
أخرجه أحمد 5/ 227- 228 (21480) وإسناده منقطع أبو ظبيان لم
يسمع من معاذ. وأخرجه أيضا برقم 21481 من طريق ابن نمير عن
الأعمش قال سمعت أبا ظبيان يحدث عن رجل من الأنصار عن معاذ بن
جبل ... فذكره. وورد من طريق أخرى عن معاذ بن جبل مرفوعا عند
الحاكم 4/ 172 والبزار 1461 والطبراني في «الكبير» 20/ 52 وابن
أبي الدنيا في «العيال» 538 وصححه الحاكم على شرط الشيخين!
ووافقه الذهبي! مع أنه من رواية القاسم بن عوف الشيباني، وقد
تفرد عنه مسلم، ولم يدرك معاذا. وقال الهيثمي في «المجمع» 4/
309 (7649) ورجال البزار رجال الصحيح، وكذلك طريق من طرق أحمد،
وروى الطبراني بعضه أيضا اه. وأخرجه ابن ماجة 1853 وأحمد 4/
381 وابن حبان 4171 والبيهقي 7/ 292 عن أيوب عن القاسم بن عوف
الشيباني عن ابن أبي أوفى قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام
سجد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم...... فذكره. وفي إسناده
القاسم وثقه ابن حبان، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه. وقال
أبو حاتم: مضطرب الحديث، ومحله عندي الصدق. وروى له مسلم حديثا
واحدا. وأخرجه البزار 1470 والطبراني 7294 وابن أبي الدنيا في
«العيال» 539 عن القاسم بن عوف عن ابن أبي ليلى عن أبيه عن
صهيب أن معاذا..... فذكره. وقال الهيثمي في «المجمع» 4/ 310:
وفيه النهاس بن قهم، وهو ضعيف اه.
وأخرجه البزار 1468 و 1469 والطبراني في «الكبير» 5117 وابن
أبي الدنيا 543. وقال الهيثمي: وأحد إسنادي الطبراني رجاله
رجال الصحيح، خلا صدفة بن عبد الله السمين، وثقه أبو حاتم
وجماعة، وضعفه البخاري وجماعة اه. الخلاصة: المرفوع منه صحيح
بمجموع طرق شواهده.
(1/200)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ
شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
وقالت ابنة سعيد بن المسيب: ما كنا نكلم
أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم.
فصل: اختلف العلماء في هذه الآية: هل تدخل في الآيات المنسوخات
أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنها تدخل في ذلك. واختلف هؤلاء في المنسوخ منها، فقال
قوم: المنسوخ منها قوله تعالى:
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ، وقالوا: فكان يجب على كل مطلقة أن تعتدّ بثلاثة قروء،
فنسخ حكم الحامل بقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ «1» ، وحكم المطلقة قبل
الدخول بقوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «2» ، وهذا مروي عن
ابن عباس، والضحاك في آخرين. وقال قوم: أولها محكم، والمنسوخ
قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ، قالوا:
كان الرجل إذا طلق امرأته كان أحق برجعتها، سواء كان الطلاق
ثلاثاً، أو دون ذلك، فنسخ بقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ
«3» .
والقول الثاني: أن الآية كلها محكمة، فأولها عام. والآيات
الواردة في العدد خصت ذلك من العموم، وليس بنسخ. وأما ما قيل
في الارتجاع، فقد ذكرنا أن معنى قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ، أي: في العدة قبل انقضاء
القروء الثلاثة، وهذا القول هو الصحيح.
[سورة البقرة (2) : آية 229]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما
حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ
اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ.
__________
(1) الطلاق: 4.
(2) الطلاق: 1.
(3) البقرة: 230.
(1/201)
(116) سبب نزولها: أن الرجل كان يطلق
امرأته، ثم يراجعها ليس لذلك شيء ينتهي إليه، فقال رجل من
الأنصار لامرأته: والله لا أؤويك إليّ أبدا ولا تحلِّين مني.
فقالت: كيف ذلك؟ قال: أطلقك، فاذا دنا أجلك، راجعتك، فذهبتْ
إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، تشكو إليه ذلك فنزلت هذه
الآية، فاستقبلها الناس جديداً من كان طلق، ومن لم يكن يطلّق.
رواه هشام بن عروة عن أبيه.
فأما التفسير، ففي قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قولان:
أحدهما: أنه بيان لسنَّة الطلاق، وأن يوقع في كل قرءٍ طلقة،
قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أنه بيان للطلاق الذي تملك
معه الرجعة، قاله عروة، وقتادة، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين.
قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ، معناه: فالواجب عليكم
إمساك بمعروف، وهو ما يعرف من إقامة الحق في إمساك المرأة.
وقال عطاء، ومجاهد، والضحاك، والسدي: المراد بقوله تعالى:
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ: الرجعة بعد الثانية. وفي قوله تعالى:
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، قولان:
أحدهما: أن المراد به: الطلقة الثالثة، قاله عطاء، ومجاهد،
ومقاتل.
والثاني: أنه الإمساك عن رجعتها حتى تنقضي عدتها، قاله الضحاك،
والسدي. قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفرّاء وهذا
هو الصحيح، لأنه قال عقيب الآية: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ،
والمراد بهذه الطلقة الثالثة بلا شك، فيجب إذن أن يحمل قوله
تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ على تركها حتى تنقضي عدتها،
لأنه إن حمل على الثالثة، وجب أن يحمل قوله تعالى: فَإِنْ
طَلَّقَها على رابعة، وهذا لا يجوز.
فصل: الطلاق على أربعة أضرب: واجب، ومندوب إليه، ومحظور،
ومكروه. فالواجب:
طلاق المؤلي بعد التربص، إذا لم يفئ، وطلاق الحكمين في شقاق
الزوجين، إذا رأيا الفرقة.
والمندوب: إذا لم يتفقا، واشتدَّ الشقاق بينهما، ليتخلصا من
الإثم. والمحظور: في الحيض، إذا كانت مدخولاً بها، وفي طهر
جامعها فيه قبل أن تطهر. والمكروه: إذا كانت حالهما مستقيمة،
وكل واحد منهما قيّم بحال صاحبه.
قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً.
(117) نزلت في ثابت بن قيس بن شمَّاس، أتت زوجته إلى النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين
ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضاً. فقال
لها النبي صلّى الله عليه وسلّم:
__________
أخرجه مالك 2/ 588 والطبري عن عروة مرسلا. ووصله الترمذي 1192
والحاكم 2/ 279- 280 والواحدي 152 والبيهقي 7/ 333 من حديث
عائشة، وصححه الحاكم، وضعفه الذهبي بقوله: يعقوب بن حميد غير
واحد. قلت: وفيه يعلى بن شبيب وثقه ابن حبان وهو مجهول،
فالراجح إرساله لكن مراسيل عروة جياد.
ولبعضه شاهد من مرسل قتادة أخرجه الطبري 4785، ومن مرسل ابن
زيد أخرجه برقم 4787.
جيد. أخرجه ابن ماجة 2056 بهذا اللفظ من حديث ابن عباس وإسناده
جيد كما قال ابن كثير.
- وأصله. أخرجه البخاري 5273 و 5274 و 5275 و 5276 والنسائي 6/
169 والبيهقي 7/ 313 من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس
أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله ثابت بن
قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن لا أطيقه! فقال: «أتردين
عليه حديقته؟» قالت نعم. وفي الباب روايات وألفاظ أخرى.
(1/202)
«أتردّين عليه حديقته» ؟ قالت: نعم، فأمره
النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن يأخذها، ولا يزداد. رواه عكرمة
عن ابن عباس. واختلفوا في اسم زوجته، فقال ابن عباس: جميلة.
ونسبها يحيى بن أبي كثير، فقال: جميلة بنت عبد الله بن أبيّ بن
سلول، وكناها مقاتل، فقال: أمّ حبيبة بنت عبد الله بن أبيّ.
وقال آخرون: إنما هي جميلة أخت عبد الله بن أبيّ، وروى يحيى بن
سعيد عن عمرة روايتين: إحداهما: أنها حبيبة بنت سهل. والثانية:
سهلة بنت حبيب. وهذا الخلع أول خلع كان في الإسلام. والخوف في
الآية بمعنى:
العلم. والحدود قد سبق بيان معناها.
ومعنى الآية: أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها
لبغضها إياه، وخاف الزوج أن يعتدي عليها لامتناعها عن طاعته
جاز له أن يأخذ منها الفدية، إذا طلبت ذلك. هذا على قراءة
الجمهور في فتح «ياء» يَخافا، وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو جعفر،
وحمزة والأعمش: (يُخافا) بضم الياء. قوله تعالى فَإِنْ
خِفْتُمْ، قال قتادة: هو خطاب للولاة، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما
على المرأة فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، وعلى الزوج فيما أخذ، لأنه
ثمن حقّه. وقال الفراء: يجوز أن يراد الزوج وحده، وإن كانا قد
ذكرا جميعاً كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ «1» ، وإنما يخرج من أحدهما.
وقوله: نَسِيا حُوتَهُما «2» : وإنما نسي أحدهما.
فصل: وهل يجوز له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؟ فيه قولان «3»
: أحدهما: يجوز، وبه قال عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن عباس
والحسن ومجاهد والنخعي والضحاك ومالك والشافعي.
والثاني: لا يجوز، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والشعبي وطاوس
وابن جبير والزّهريّ وأحمد بن
__________
(1) الرحمن: 22.
(2) الكهف: 61.
(3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 10/ 269- 270:
ولا يستحب له أن يأخذ أكثر مما أعطاها، هذا القول يدلّ على صحة
الخلع بأكثر من الصداق، وأنهما إذا تراضيا على الخلع بشيء صح.
وهذا قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن عثمان وابن عمر، وابن
عباس، وعكرمة ومجاهد وقبيصة بن ذؤيب، والنخعي، ومالك، والشافعي
وأصحاب الرأي، ويروى عن ابن عباس وابن عمر، أنهما قالا: لو
اختلعت امرأة من زوجها بميراثها، وعقاص رأسها، كان ذلك جائزا.
قال عطاء، وطاوس والزهري وعمرو بن شعيب: لا يأخذ أكثر مما
أعطاها. وروي ذلك عن عليّ بإسناد منقطع. واختاره أبو بكر، قال:
فإن فعل رد الزيادة. وعن سعيد بن المسيب قال: ما أرى أن يأخذ
كل مالها، ولكن ليدع لها شيئا. واحتجّوا بما روي أن جميلة بنت
سلول أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: والله ما أعيب
على ثابت في دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام، لا
أطيقه بغضاً. فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتردّين
عليه حديقته؟» قالت: نعم فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن
يأخذ منها حديقته ولا يزداد. رواه ابن ماجة، ولأنه بذل في
مقابلة فسخ، فلم يزد على قدره في ابتداء العقد، كالعوض في
الإقالة.
ولنا قول الله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ
بِهِ. ولأنه قول من سمينا من الصحابة قالت الربيع بنت معوّذ:
اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان بن عفان رضي
الله عنه، ومثل هذا يشتهر، فلم ينكر، فيكون إجماعا، ولم يصح عن
عليّ على خلافه. فإذا ثبت هذا، فإنه لا يستحب له أن يأخذ أكثر
مما أعطاها. وبذلك قال سعيد بن المسيب، والحسن، والشعبيّ،
والحكم ومالك والشافعي. قال مالك: لم أزل أسمع إجازة الفداء
بأكثر من الصداق. ولنا، حديث جميلة. وروي عن عطاء، عن النبي
صلّى الله عليه وسلّم، أنه كره أن يأخذ من المختلعة أكثر مما
أعطاها. رواه أبو حفص بإسناده. وهو صريح في الحكم، فنجمع بين
الآية والخبر، فنقول الآية دالة على الجواز، والنهي عن الزيادة
للكراهية. والله أعلم. [.....]
(1/203)
فَإِنْ طَلَّقَهَا
فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ
يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ
اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ
يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
حنبل، وقد نقل عن عليّ والحسن أيضاً. وهل
يجوز الخلع دون السلطان؟ قال عمر وعثمان وعليّ وابن عمر وطاوس
وشريح والزهري: يجوز، وهو قول جمهور العلماء. وقال الحسن وابن
سيرين وقتادة: لا يجوز إلا عند السّلطان.
[سورة البقرة (2) : آية 230]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ
اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ (230)
قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، ذكر مقاتل أن هذه الآية
نزلت في تميمة بنت وهب بن عتيك النّضيريّ، وفي زوجها رفاعة بن
عبد الرحمن القرظي.
(118) وقال غير مقاتل: إنها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك،
كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها، فطلقها ثلاثاً،
فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير، ثم طلّقها، فأتت إلى
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إني كنت عند رفاعة،
فطلقني، فأبتَّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه
طلقني قبل أن يمسني، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسّم رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا،
حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» .
قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها، يعني: الزوج المطلق مرتين. قال
ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: هي الطلقة الثالثة. واعلم أن الله
تعالى عاد بهذه الآية بعد الكلام في حكم الخلع إلى تمام الكلام
في الطلاق. قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها، يعني: الثاني فَلا
جُناحَ عَلَيْهِما يعني: المرأة، والزوج الأول إِنْ ظَنَّا
أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، قال طاوس: ما فرض الله على كل
واحد منهما من حسن العشرة والصحبة. قوله تعالى: وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها قراءة الجمهور (يبينها) بالياء.
وقرأ الحسن ومجاهد، والمفضل عن عاصم بالنون لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ، قال الزجاج: يعلمون أن أمر الله حقّ.
[سورة البقرة (2) : آية 231]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ
هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما
أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ
بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
قوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ، قال ابن عباس: كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها
قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها، يفعل ذلك يضارّها ويعضلها بذلك،
فنزلت هذه الآية. والأجل هاهنا: زمان العدة. ومعنى البلوغ
هاهنا: مقارنة الأجل دون حقيقة الانتهاء إليه، يقال: بلغت
المدينة:
إذا قاربتها، وبلغتها: إذا دخلتها. وإنما حمل العلماء هذا
البلوغ على المقاربة، لأنه ليس بعد انقضاء العدة رجعة. قوله
تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، قال ابن عباس، والحسن،
ومجاهد، وقتادة: المراد به الرجعة قبل انقضاء العدة. قوله
تعالى: أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، وهو تركها حتى تنقضي
عدّتها.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2639 و 2792 و 6084 ومسلم 1433 ح 111 و
112 والترمذي 1118 والنسائي 6/ 93 والدارمي 2/ 161 وابن ماجة
1932 من حديث عائشة مع اختلاف يسير فيه.
وأخرجه أبو داود 2309 وأحمد 6/ 42 والنسائي 6/ 146 وابن حبان
4122 من وجه آخر عن عائشة.
(1/204)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ
يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى
لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (232)
والمعروف في الإمساك: القيام بما يجب لها
من حق، والمعروف في التسريح: أن لا يقصد إضرارها، بأن يطيل
عدتها بالمراجعة، وهو معنى قوله: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً
لِتَعْتَدُوا، قاله الحسن ومجاهد، وقتادة في آخرين. وقال
الضحاك: إنما كانوا يضارّون المرأة لتفتدي وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ الاعتداء، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بارتكاب الإثم. قوله
تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فيه قولان:
أحدهما: أنه الرجل يطلق أو يراجع، أو يعتق، ويقول: كنت لاعباً.
روي عن عمر، وأبي الدرداء، والحسن. والثاني: أنه المضارّ
بزوجته في تطويل عدّتها بالمراجعة قبل الطلاق، قاله مسروق،
ومقاتل. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، قال ابن
عباس: احفظوا منته عليكم بالإسلام. قال: والكتاب: القرآن.
والحكمة: الفقه.
وَاتَّقُوا اللَّهَ، في الضرار وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ به وبغيره عَلِيمٌ.
[سورة البقرة (2) : آية 232]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا
بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ
مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ
أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ (232)
قوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ في سبب نزولها قولان:
(119) أحدهما: ما روى الحسن أن معقل بن يسار زوج أخته من رجل
من المسلمين، فكانت عنده ما كانت، فطلقها تطليقة ثم تركها ومضت
العدّة، وكانت أحق بنفسها، فخطبها مع الخطاب، فرضيت أن ترجع
إليه، فخطبها إلى معقل، فغضب معقل، وقال: أكرمتك بها،
فطلقتها؟! لا والله! لا ترجع إليك آخر ما عليك. قال الحسن:
فعلم الله، عزّ وجلّ، حاجة الرجل إلى امرأته، وحاجة المرأة إلى
بعلها، فنزلت هذه الآية، فسمعها معقل، فقال: سمعاً لربي،
وطاعة، فدعا زوجها، فقال:
أزوجك، وأكرمك. ذكر عبد الغني الحافظ عن الكلبي أنه سمى هذه
المرأة، فقال: جميلة بنت يسار.
(120) والثاني: أن جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنة عم،
فطلقها زوجها تطليقة، فانقضت عدتها، ثم رجع يريد رجعتها، فأبى
جابر، وقال: طلقت ابنة عمنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية؟!
وكانت المرأة تريد زوجها، قد راضته، فنزلت هذه الآية، قاله
السدي.
فأما بلوغ الأجل في هذه الآية، فهو انقضاء العدة، بخلاف التي
قبلها. قال الشّافعيّ رضي الله عنه: دل اختلاف الكلامين على
افتراق البلوغين. قوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ، خطاب
للأولياء، قال ابن عباس، وابن جبير، وابن قتيبة في آخرين:
معناه لا تحبسوهن، والعرب تقول للشدائد: معضلات.
وداءٌ عضال: قد أعيا. قال أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمناً ... وصاحبك الأدنى إِذا الأمر
أعضلا
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4529 و 5130 و 5131 وأبو داود 2087
والترمذي 2981 واستدركه الحاكم 2/ 280 والواحدي 153 من حديث
الحسن عن معقل بن يسار.
ضعيف. أخرجه الطبري 4942 والواحدي في «أسباب النزول» 156 وذكر
هذا القول ابن كثير في تفسيره وقال: الصحيح الأول أي حديث
معقل.
(1/205)
وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا
وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا
سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
وقالت ليلى الأخيلية:
إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شَفَاها من الدَّاءِ العُضَالِ الذي بها ... غلامٌ إذا هزَّ
القناة سقاها
قال الزجاج: وأصل العضل، من قولهم: عضلت الدجاجة، فهي مُعضِل:
إذا احتبس بيضها ونشب «1» فلم يخرج، وعضلت الناقة أيضاً: إذا
احتبس ولدها في بطنها.
قوله تعالى: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، قال
السدي، وابن قتيبة: معناه إذا تراضى الزوجان بالنكاح الصحيح.
قال الشافعي: وهذه الآية أبين آية في أنه ليس للمرأة أن تتزوج
إلا بولي.
قوله تعالى: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ، قال مقاتل: الإشارة إلى نهي
الولي عن المنع. قال الزجاج: إنما قال: «ذلك» ولم يقل: «ذلكم»
وهو يخاطب جماعة، لأن لفظ الجماعة لفظ الواحد، فالمعنى: ذلك
أيها القبيل. قوله تعالى: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ، يعني ردّ
النساء إلى أزواجهن، أفضل من التّفرقة بينهم، وَأَطْهَرُ، أي:
أنقى لقلوبكم من الريبة لئلا يكون هناك نوع محبة، فيجتمعان على
غير وجه صلاح.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فيه
قولان: أحدهما: أن معناه: يعلم ودّ كل واحد منهما لصاحبه، قاله
ابن عباس، والضحاك. والثاني: يعلم مصالحكم عاجلاً وآجلا، قاله
الزجّاج في آخرين.
[سورة البقرة (2) : آية 233]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ
لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا
مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ
فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا
جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا
أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما
آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ لفظه لفظ
الخبر، ومعناه الأمر، كقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «2» ، وقال
القاضي أبو يعلى: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء، لأن عليهم
الاسترضاع، لا إلى الوالدات، بدليل قوله تعالى: وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ، وقوله تعالى: فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ «3» ، فلو كان متحتماً على الوالدة، لم تستحق
الأجرة، وهل هو عام في جميع الوالدات؟ فيه قولان: أحدهما: أنه
خاص في المطلقات، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي،
ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه عام في الزوجات والمطلقات،
ولهذا يقال: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها، سواء كانت مع
الزوج، أو مطلقة، قاله القاضي أبو يعلى، وأبو سليمان الدمشقي
في آخرين.
والحول: السنة، وفي قوله: كامِلَيْنِ قولان: أحدهما: أنه دخل
للتوكيد كقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «4» . والثاني:
أنه لما جاز أن يقول: «حولين» ، ويريد أقل منهما، كما قال:
فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ «5» ، ومعلوم أنه يتعجل في
يوم، وبعض آخر. وتقول العرب: لم أر فلاناً منذ يومين، وإنما
__________
(1) في «القاموس» نشب وانتشب: اعتلق، وتناشبوا: تضاموا وتعلق
بعضهم ببعض.
(2) البقرة: 228.
(3) النساء: 24.
(4) البقرة: 196.
(5) البقرة: 203.
(1/206)
يريدون: يوماً وبعض آخر- قال: كاملين
لتبيين أنه لا يجوز أن يُنقص منهما، وهذا قول الزجاج، والفراء.
فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، فقال
بعضهم: هو محكم، والمقصود منه بيان مدة الرضاع، ويتعلق به
أحكام، منها أنه كمال الرضاع، ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرضاع
مدّة الحولين، ويجبره الحاكم على ذلك، ومنها أنه يثبت تحريم
الرضاع في مدَّة الحولين، ولا يثبت فيما زاد، ونقل عن قتادة،
والربيع بن أنس في آخرين أنه منسوخ بقوله تعالى: فَإِنْ أَرادا
فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما، قال شيخنا عليّ بن عبيد الله:
وهذا قول بعيد، لأن الله تعالى قال في أولها: لِمَنْ أَرادَ
أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ، فلما قال في الثاني: فَإِنْ أَرادا
فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما خيّر بين الإرادتين، وذلك لا
يعارض المدة المقدرة في التمام.
قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ، أي: هذا
التقدير بالحولين لمريدي إتمام الرضاعة. وقرأ مجاهد بتاءين
«تتم الرضاعةُ» وبالرفع، وهي رواية الحلبي عن عبد الوارث. وقد
ذكر التمام على نفي حكم الرضاع بعد الحولين، وأكثر القراء على
فتح راء «الرضاعة» ، وقرأ طلحة بن مُصرِّف، وابن أبي عبلة،
وأبو رجاء بكسرها، قال الزجاج، يقال: الرضاعة بفتح الراء
وكسرها، والفتح أكثر، ويقال: ما حمله على ذلك إلا اللؤم
والرضاعة بالفتح هاهنا لا غير.
قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ، يعني: الأب.
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ يعني: المرضعات. وفي قوله:
بِالْمَعْرُوفِ دلالة على أن الواجب على قدر حال الرجل في
إعساره ويساره، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر ما لا يطيقه،
ولا الموسر النزر الطفيف. وفي الآية دليل على تسويغ اجتهاد
الرأي في أحكام الحوادث، إذ لا يتوصل إلى تقدير النفقة
بالمعروف إلا من جهة غالب الظن، إذ هو معتبر بالعادة. قوله
تعالى: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها، أي: إلا ما
تطيقه. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها، قرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، وأبان عن عاصم (لا تضارُّ) برفع الراء، وقرأ نافع وعاصم،
وحمزة، والكسائي بنصبها، قال أبو عليّ: من رفع، فلأجل المرفوع
قبله، وهو «لا تكلفُ» ، فأتبعه بما قبله ليقع تشابه اللفظ، ومن
نَصب جعله أمراً، وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو
الألف، قال ابن قتيبة:
معناه: لا تضارر، فأدغمت الراء في الراء. وقال سعيد بن جبير:
لا يحملنّ المطلقة مضارة الزوج أن تلقي إليه ولده. وقال مجاهد:
لا تأبى أن ترضعه ضراراً بأبيه، ولا يضارّ الوالد بولده، فيمنع
أمه أن ترضعه، ليحزنها بذلك. وقال عطاء، وقتادة، والزهري،
وسفيان، والسدي في آخرين: إذا رضيت بما يرضى به غيرها، فهي أحق
به. وقرأ أبو جعفر: «لا تضار» بتخفيفها وإسكانها.
قوله تعالى: وَعَلَى الْوارِثِ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه
وارث المولود، وهو قول عطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وابن أبي
ليلى، وقتادة، والسدي، والحسن بن صالح، ومقاتل في آخرين واختلف
أرباب هذا القول، فقال بعضهم: هو وارث المولود من عصبته،
كائناً من كان، وهذا مروي عن عمر، وعطاء، والحسن، ومجاهد،
وإبراهيم، وسفيان. وقال بعضهم: هو وارث المولود على الإطلاق من
الرجال والنساء، روي عن ابن أبي ليلى، وقتادة، والحسن بن صالح،
وإسحاق، وأحمد بن حنبل. وقال آخرون: هو من كان ذا رحم محرم من
ورثة المولود، روي عن أبي حنيفة،
(1/207)
وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
وأبي يوسف، ومحمد. والقول الثاني: أن
المراد بالوارث هاهنا، وارث الوالد، روي عن الحسن والسدي.
والثالث: أن المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة
الآخر، روي عن سفيان.
والرابع: أنه أريد بالوارث الصبي نفسه، فالنفقة عليه، فإن لم
يملك شيئاً، فعلى عصبته، قاله الضحاك، وقبيصة بن ذؤيب. قال
شيخنا عليّ بن عبيد الله: وهذا القول لا ينافي قول من قال:
المراد بالوارث وارث الصبي، لأن النفقة تجب للموروث على الوارث
إذا ثبت إعسار المنفق عليه. وفي قوله تعالى:
مِثْلُ ذلِكَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الإشارة إلى أجرة الرضاع
والنفقة، روي عن عمر، وزيد بن ثابت، والحسن، وعطاء، ومجاهد،
وابراهيم، وقتادة، وقبيصة بن ذؤيب، والسدي. واختاره ابن قتيبة.
والثاني: أن الإشارة بذلك إلى النهي عن الضرار، روي عن ابن
عباس والشعبي والزهري.
واختاره الزجاج. والثالث: أنه إشارة إلى جميع ذلك، روي عن سعيد
بن جبير ومجاهد ومقاتل وأبي سليمان الدمشقي واختاره القاضي أبو
يعلى. ويشهد لهذا أنه معطوف على ما قبله، وقد ثبت أن على
المولود له النفقة والكسوة، وأن لا يضار، فيجب أن يكون قوله:
مِثْلُ ذلِكَ مشيراً إلى جميع ما على المولود له.
قوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا، الفصال: الفطام. قال ابن
قتيبة: يقال: فصلت الصبيّ من أمّه:
إذا فطمته. ومنه قيل للحوار «1» إذا قُطع عن الرضاع: فصيل،
لأنه فصل عن أمه، وأصل الفصل:
التفريق. قال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين إن أرادت أن
تفطم وأبى، فليس لها، وإن أراد هو، ولم ترد، فليس له ذلك حتى
يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور، يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما
وإلى صبيهما. قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ، قال الزجاج: أي: لأولادكم. قال
مقاتل: إِذا لم ترض الأم بما يرضى به غيرها، فلا حرج على الأب
أن يسترضع لولده. وفي قوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ ما
آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ قولان: أحدهما: إذا سلَّمتم أيها
الآباء إِلى أمهات الأولاد أُجور ما أرضعن قبل امتناعهن، قاله
مجاهد، والسدي. والثاني: إذا سلمتم إلى الظئر أجرها بالمعروف،
قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. وقرأ ابن كثير (ما أتيتم) بالقصر،
قال أبو عليّ: وجهه أن يقدّر فيه: ما أوتيتم نقده أو أوتيتم
سوقه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما تقول: أتيت
جميلا، أي: فعلته.
[سورة البقرة (2) : آية 234]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ، أي: يقبضون
بالموت. وقرأ المفضَّل عن عاصم «يَتوفون» بفتح الياء في
الموضعين. قال ابن قتيبة: هو من استيفاء العدد، واستيفاء
الشيء: أن نستقصيه كلّه، يقال: توفّيته واستوفيته، كما يقال:
تيقّنت الخير واستيقنته، هذا الأصل، ثم قيل للموت: وفاة وتوفّ
يَتَرَبَّصْنَ ينتظرن، قال الفراء: وإنما قال: وَعَشْراً ولم
يقل: عشرة، لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام،
غلّبوا عليه الليالي على الأيام، حتى إنهم ليقولون: صمنا عشراً
من شهر رمضان،
__________
(1) في «اللسان» الحوار: ولد الناقة من حين يوضع إلى أن يفطم
ويفصل.
(1/208)
لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام، فاذا
أظهروا مع العدد تفسيره، كانت الإناث بغير هاء، والذكور بالهاء
«1» كقوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ
وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً «2»
. فان قيل: ما وجه الحكمة في زيادة هذه العشرة؟ فالجواب: أنه
يبين صحة الحمل بنفخ الروح فيه، قاله سعيد بن المسيب، وأبو
العالية.
(121) ويشهد له الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«إِن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون
علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك،
فينفخ فيه الروح» .
فصل: وهذه الآية ناسخة للتي تشابهها، وهي تأتي بعد آيات، وهي
قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ
لأن تلك كانت تقتضي وجوب العدة سنة،
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3208 و 3332 و 6594 و 7454 ومسلم 2643
وأبو داود 4708 والترمذي 2137 والنسائي 6/ 29 وابن ماجة 76
وابن حبان 6174 والبيهقي 387 و 137- 138 من حديث ابن مسعود:
«إِن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وأربعين ليلة، ثم
يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يبعث إليه الملك فيؤذن
بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه
الروح، فإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها
وبينه إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار
فيدخل النار وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون
بينها وبينه إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة
فيدخلها» لفظ البخاري.
__________
(1) قال أبو حيان في «البحر المحيط» 2/ 234: ولا يحتاج إلى
تأويل عشر بأنها ليال لأجل حذف التاء ولا إلى تأويلها بمدد كما
ذهب إليه «المبرد» بل الذي نقل أصحابنا إنه إذا كان المعدود
مذكرا وحذفته فلك فيه وجهان أحدهما وهو الأصل أن يبقى العدد
على ما كان عليه لو لم يحذف المعدود فتقول صمت خمسة تريد خمسة
أيام قالوا وهو الفصيح قالوا ويجوز أن تحذف منه كله تاء
التأنيث، وحكى «الكسائي» عن أبي الجراح صمنا من الشهر خمسا
ومعلوم أن الذي يصام من الشهر إنما هي الأيام واليوم مذكر.
وقوله ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه كما ذكر بل استعمال
التذكير هو الكثير الفصيح فيه كما ذكرنا وقوله ومن البين فيه
إن لبثتم إلا عشرا قد بينا مجيء هذا على الجائز فيه وأن محسن
ذلك إنما هو كونه فاصلة وقوله: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً
[طه:
104] .
فائدة: ذكر «الزمخشري» هذا أنه على زعمه أراد الليالي والأيام
داخلة معها فأتى بقوله إلا يوما للدلالة على ذلك وهذا عندنا
يدل على أن قوله عشرا إنما يريد بها الأيام لأنهم اختلفوا في
مدة اللبث فقال قوم عشر، وقال أمثلهم طريقة يوم، فقوله: إلا
يوما مقابل لقولهم إلا عشرا ويبين أنه أريد بالعشر الأيام إذ
ليس من التقابل أن يقول بعضهم عشر ليال، ويقول بعض يوما، وظاهر
قوله أربعة أشهر ما يقع عليه اسم الشهر فلو وجبت العدّة مع
رؤية الهلال لاعتدّت بالأهلة، كان الشهر تاما أو ناقصا وإن
وجبت في بعض شهر فقيل تستوفي مائة وثلاثين يوما وقيل تعتد بما
يمر عليها من الأهلة شهورا ثم تكمل الأيام الأول، وكلا القولين
عن أبي حنيفة ولما كان الغالب على من مات عنها زوجها أن تعلم
ذلك فتعتد إثر الوفاة جاء الفعل مسندا إليهن وأكد بقوله
بِأَنْفُسِهِنَّ فلو مضت عليها مدة العدة من حين الوفاة وقامت
على ذلك البينة ولم تكن علمت بوفاته إلى أن انقضت العدة فالذي
عليه الجمهور أن عدتها من يوم الوفاة.
(2) الحاقة: 7.
(1/209)
وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ
أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ
فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
وسنذكر ما يتعلق بها هنالك، إن شاء الله.
فأما التي نحن في تفسيرها: فقد روي عن ابن عباس أنه قال:
نسختها وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ «1» . والصحيح: أنها عامة دخلها التخصيص، لأن
ظاهرها يقتضي وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر
وعشراً، سواء كانت حاملاً، أو غير حامل، غير أن قوله تعالى:
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
خص أُولات الحمل، وهي خاصة أيضاً في الحرائر، فإن الأمة عدتها
شهران وخمسة أيام، فبان أنها من العام الذي دخله التخصيص.
قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، يعني: انقضاء العدة.
قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فيه قولان: أحدهما أن
معناه: فلا جناح على الرجال في تزويجهن بعد ذلك. والثاني: فلا
جناح على الرجال في ترك الإنكار عليهن إذا تزينَّ وتزوجن. قال
أبو سليمان الدمشقي: وهو خطاب لأوليائهن.
قوله تعالى: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
فيه قولان: أحدهما: أنه التزين والتشوف للنكاح، قاله الضحاك،
ومقاتل. والثاني: أنه النكاح، قاله الزهري، والسدي.
و «الخبير» من أسماء الله تعالى، ومعناه: العالِم بكنه الشيء
المطلع على حقيقته. و «الخبير» في صفة المخلوقين، إنما يستعمل
في نوع من العلم، وهو الذي يتوصل إليه بالاجتهاد دون النوع
المعلوم ببداءة العقول. وعلم الله تعالى سواء فيما غمض ولطف
وفيما تجلّى وظهر.
[سورة البقرة (2) : آية 235]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ
النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ
سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ
أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي
أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ (235)
قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ
مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ، هذا خطاب لمن أراد تزويج معتدة.
والتعريض: الإيماء والتلويح من غير كشف، فهو إشارة بالكلام إلى
ما ليس له في الكلام ذكر. والخِطبة بكسر الخاء: طلب النكاح،
والخُطبة بضم الخاء: مثل الرّسالة التي لها أول وآخر.
وقال ابن عباس: التعريض أن يقول: إني أريد أن أتزوج. وقال
مجاهد: أن يقول: إنكِ لجميلة، وإِنك لحسنة، وإنك لإلى خير.
قوله تعالى: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، قال الفراء:
فيه لغتان:
كننت الشيء، وأكننته. وقال ثعلب: أكننت الشيء: إذا أخفيته في
نفسك، وكننته: إذا سترته بشيء.
وقال ابن قتيبة: أكننت الشيء: إذا سترته، ومنه هذه الآية،
وكننته: إذا صنته، ومنه قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ «2» ، قال بعضهم: يجعل كننته، وأكننته، بمعنى. قوله
تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ، قال
مجاهد: ذكره إياها في نفسه. قوله تعالى: وَلكِنْ لا
تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا فيه أربعة أقوال: أحدها: أن المراد
بالسر هاهنا: النكاح، قاله ابن عباس. وأنشد بيت امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسةُ «3» اليوم أنني ... كبرتُ وأن لا يشهد السّرّ
أمثالي
__________
(1) الطلاق: 4.
(2) الصافات: 49.
(3) في «القاموس» بسباسة: امرأة من بني أسد.
(1/210)
لَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ (236)
وفي رواية: يشهد اللهو. قال الفرّاء: ويرى
أنه مما كنى الله عنه كقوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
مِنَ الْغائِطِ «1» . وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن السر:
الإفضاء بالنكاح المحرم، وأنشد «2» :
ويَحْرمُ سِرُّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارُهم أنفَ القصاع «3»
قال ابن قتيبة: استعير السرّ للنكاح، لأن النكاح يكون سراً،
فالمعنى: لا تواعدوهن بالتزويج، وهن في العدة تصريحاً، إِلَّا
أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً لا تذكرون فيه رفثاً ولا
نكاحاً. والثاني: أن المواعدة سراً: أن يقول لها: إني لك محب،
وعاهديني أن لا تتزوجي غيري، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث:
أن المراد بالسر الزنى، قاله الحسن، وجابر بن زيد، وأبو مجلز،
وإبراهيم، وقتادة، والضحاك. والرابع: أن المعنى: لا تنكحوهن في
عدتهن سراً، فاذا حلَّت أظهرتم ذلك، قاله ابن زيد.
وفي القول المعروف قولان: أحدهما: أنه التعريض لها، وهو قول
ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، والقاسم بن محمد، والشعبي،
ومجاهد، وإبراهيم، وقتادة، والسدي. والثاني: أنه إعلام وليها
برغبته فيها، وهو قول عبيدة.
قوله تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ، قال الزجّاج:
لا تعزموا على عقدة النكاح، وحذفت «على» استخفافاً، كما قالوا:
ضرب زيد الظَّهر والبطن، معناه: على الظهر والبطن. حَتَّى
يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ، أي: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله،
قال: ويجوز أن يكون «الكتاب» بمعنى «الفرض» كقوله تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «4» ، فيكون المعنى: حتى يبلغ
الفرض أجله. قال ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدي:
بلوغ الكتاب أجله: انقضاء العدة.
قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي
أَنْفُسِكُمْ، قال ابن عباس: من الوفاء، فاحذروه أن تخالفوه في
أمره. والحليم قد سبق بيانه.
[سورة البقرة (2) : آية 236]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ (236)
قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ
ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن
عامر، وأبو عمرو «تمسوهن» بغير الف حيث كان، وبفتح التاء. وقرأ
حمزة، والكسائي، وخلف «تماسُّوهن» بألف وضم التاء في الموضعين
هنا، وفي الأحزاب ثالث. قال أبو علي: وقد يراد بكل واحد من
«فاعل» و «فعل» ما يراد بالآخر، تقول: طارقت النعال وعاقبت
اللص.
(122) قال مقاتل بن سليمان: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار
تزوج امرأة من بني حنيفة،
__________
لا أصل له. عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهذا معضل، ومع ذلك
مقاتل كذاب يضع الحديث، وقد تفرد بهذا الخبر. قال الحافظ ابن
حجر في «تخريج الكشاف» 1/ 285 لم أجده. وذكره القرطبي في تفسير
35/ 190 ونسبه للثعلبي، وتفرد الثعلبي به يدل على أنه غير حجة
لأنه كحاطب ليل حتى الواحدي لم يذكره في «أسباب النزول» . وكذا
السيوطي وهذا الخبر أمارة الوضع لائحة عليه.
__________
(1) النساء: 43.
(2) البيت للحطيئة.
(3) في «اللسان» : القصعة الضخمة تشبع العشرة والجمع قصاع.
وأنف كل شيء: طرفه وأوله. [.....]
(4) البقرة: 183.
(1/211)
وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا
أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا
تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
ولم يسم لها مهراً، فطلقها قبل أن يمسّها،
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هل متعتها بشيء؟» قال: لا،
قال: «متعها ولو بقلنسوتك» ، ومعنى الآية: ما لم تمسوهن، ولم
تفرضوا لهن فريضة. وقد تكون «أو» بمعنى الواو.
كقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً «1» .
والمسُّ: النكاح، والفريضة: الصداق، وقد دلت الآية على جواز
عقد النكاح بغير تسمية مهر وَمَتِّعُوهُنَّ أي: أعطوهن ما
يتمتعن به من أموالكم على قدر أحوالكم في الغنى والفقر.
والمتاع: اسم لما ينتفع به، فذلك معنى قوله تعالى: عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، وقرأ ابن
كثير ونافع، وأبو عمرو «قدْره» باسكان الدال في الحرفين، وقرأ
ابن عامر، وحمزة، والكسائي بتحريك الحرفين، وعن عاصم:
كالقراءتين وهما لغتان.
فصل: وهل هذه المتعة واجبة، أم مستحبة؟ فيه قولان: أحدهما:
واجبة، واختلف أرباب هذا القول، لأي المطلقات تجب، على ثلاثة
أقوال: أحدها: أنها واجبة لكل مطلقة، روي عن علي والحسن وأبي
العالية والزهري. والثاني: أنها تجب لكل مطلقة إلا المطلقة
التي فرض لها صداقاً ولم يمسها، فإنه يجب لها نصف ما فرض، روي
عن ابن عمر والقاسم بن محمد وشريح وإبراهيم.
والثالث: أنها تجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهراً،
فان دخل بها، فلا متعة، ولها مهر المثل، روي عن الأوزاعي
والثوري وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل.
والثاني: أن المتعة مستحبة، ولا تجب على أحد، سواء سمى للمرأة،
أو لم يسم، دخل بها، أو لم يدخل، وهو قول مالك، والليث بن سعد،
والحكم، وابن أبي ليلى.
واختلف العلماء في مقدار المتعة، فنقل عن ابن عباس، وسعيد بن
المسيب: أعلاها خادم، وأدناها كسوة يجوز لها أن تصلي فيها،
وروي عن حماد وأبي حنيفة: أنه قدر نصف صداق مثلها. وعن الشافعي
وأحمد: أنه قدر يساره وإعساره، فيكون مقدرا باجتهاد الحاكم.
ونقل عن أحمد: أن المتعة بقدر ما تجزئ فيه الصلاة من الكسوة،
وهو درع وخمار.
قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ، أي: بقدر الإمكان، والحق:
الواجب. وذكر المحسنين والمنافقين ضرب من التأكيد.
[سورة البقرة (2) : آية 237]
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ
إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا
تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ، أي: قبل الجماع وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ أي:
__________
(1) الدهر: 24.
(1/212)
أوجبتم لهن شيئاً التزمتم به، وهو المهر
إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ، يعني: النساء، وعفو المرأة: ترك حقّها
من الصّداق. وفي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ثلاثة
أقوال «1» : أحدها: أنه الزّوج، وهو قول عليّ، وجبير بن مطعم،
وابن المسيب، وابن جبير، ومجاهد، وشريح، وجابر بن زيد،
والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وابن شبرمة،
والشافعي، وأحمد رضي الله عنهم في آخرين. والثاني: أنه الولي،
روي عن ابن عباس، والحسن، وعلقمة، وطاوس، والشعبي، وابراهيم في
آخرين. والثالث: أنه أبو البكر، روي عن ابن عباس، والزهري،
والسدي في آخرين. فعلى القول الأول عفو الزوج: أن يكمل لها
الصداق، وعلى الثاني: عفو الولي: ترك حقها إذا أبت، روي عن ابن
عباس، وأبي الشعثاء. وعلى الثالث يكون قوله: إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ يختص بالثيبات. وقوله:
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 10/ 160: اختلف
أهل العلم في الذي بيده عقدة النكاح، فظاهر مذهب أحمد رحمه
الله. أنه الزوج. وروي ذلك عن عليّ وابن عباس، وجبير بن مطعم
رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب، وشريح، وسعيد بن جبير،
ونافع بن جبير، ونافع مولى ابن عمر، ومجاهد وإياس بن معاوية،
وجابر بن زيد، وابن سيرين، والشّعبي والثوري، وإسحاق، وأصحاب
الرأي. والشافعي في الجديد وعن أحمد أنه الوليّ إذا كان أبا
الصغيرة وهو قول الشافعي القديم إذا كان أبا أو جدا وحكي عن
ابن عباس وعلقمة والحسن وطاوس والزهري وربيعة ومالك، أنه
الوليّ لأن الوليّ بعد الطلاق هو الذي بيده عقدة النكاح،
لكونها قد خرجت عن يد الزّوج ولأن الله تعالى ذكر عفو النساء
عن نصيبهنّ، فينبغي أن يكون عفو الذي بيده عقدة النكاح عنه،
ليكون المعفو عنه في الموضعين واحدا، ولأن الله تعالى بدأ
بخطاب الأزواج على المواجهة بقوله وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ثم قال: أَوْ يَعْفُوَا
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وهذا خطاب غير حاضر.
ولنا، ما روى أنه الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه
عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «وليّ العقدة
الزوج» ولأن الذي بيده عقدة النكاح بعد العقد هو الزوج فإنه
يتمكّن من قطعه وفسخه وإمساكه، وليس إلى الوليّ منه شيء، ولأنّ
الله تعالى قال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى والعفو
الذي هو أقرب إلى التّقوى ولأن المهر مال للزوجة، فلا يملك
الوليّ هبته وإسقاطه، كغيره من أموالها وحقوقها، كسائر
الأولياء، ولا يمتنع العدول عن خطاب الحاضر إلى خطاب الغائب
كقوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ
ما حُمِّلْتُمْ. فعلى هذا متى طلق الزّوج قبل الدخول تنصّف
المهر بينما إن عفا الزّوج لها عن النّصف الذي له، كمل لها
الصّداق جميعه، وإن عفت المرأة عن النّصف الذي لها منه، وتركت
له جميع الصداق، جاز إذا كان العافي منهما رشيدا جائزا تصرّفه
في ماله، وإن كان صغيرا أو سفيها، لم يصحّ عفوه لأنّه ليس له
التّصرّف في ماله بهبة ولا إسقاط. ولا يصحّ عفو الوليّ عن صداق
الزّوجة، أبا كان أو غيره، صغيرة كانت أو كبيرة. نصّ عليه
أحمد، في رواية الجماعة، وروى عنه ابن منصور: إذا طلّق امرأته
وهي بكر قبل أن يدخل بها، فعفا أبوها أو زوجها، ما أرى عفو
الأب إلّا جائزا. قال أبو حفص: ما أرى ما نقله ابن منصور إلّا
قولا لأبي عبد الله قديما. وظاهر قول أبي حفص أن المسألة رواية
واحدة، وأن أبا عبد الله رجع عن قوله بجواز عفو الأب وهو
الصحيح، لأن مذهبه أنه لا يجوز للأب إسقاط ديون ولده الصغير
ولا إعتاق عبيده، ولا تصرّفه له إلّا بما فيه مصلحته ولا حظّ
لها في هذا الإسقاط فلا يصح- وإن قلنا برواية ابن منصور، لم
يصحّ إلّا بخمس شرائط: الأول أن يكون أبا لأنّه الذي يلي
مالها، ولا يتّهم عليه. والثاني أن تكون صغيرة ليكون وليا على
مالها، فإنّ الكبيرة تلي مال نفسها. الثالث أن تكون بكرا لتكون
غير مبتذلة، ولأنّه لا يملك تزويج الثيّب وإن كانت صغيرة، فلا
تكون ولايته عليها تامة. الرابع، أن تكون مطلقة، لأنها قبل
الطلاق معرّضة لإتلاف البضع. الخامس أن تكون قبل الدّخول، لأنّ
ما بعده قد أتلف البضع فلا يعفو عن بدل متلف. ومذهب الشافعيّ
على نحو هذا إلّا أنّه يجعل الجدّ كالأب.
(1/213)
حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ (238)
أَوْ يَعْفُوَا، يختص أبا البكر، قاله
الزهري، والأول أصح، لأن عقدة النكاح خرجت من يد الولي، فصارت
بيد الزوج، والعفو إنما يُطلق على ملك الإِنسان، وعفو الولي
عفو عما لا يملك، ولأنه قال:
وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، والفضل في هبة الإنسان
مال نفسه، لا مال غيره. قوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوى، فيه قولان: أحدهما: أنه خطاب للزوجين جميعاً، روي
عن ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنه خطاب للزوج وحده، قاله
الشعبي، وكان يقرأ: «وأن يعفو» بالياء. قوله تعالى:
وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، خطاب للزوجين، قال
مجاهد: هو إتمام الرجل الصّداق، وترك المرأة شطرها.
[سورة البقرة (2) : آية 238]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا
لِلَّهِ قانِتِينَ (238)
قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ، المحافظة: المواظبة
والمداومة، والصلوات بالألف واللام ينصرف إلى المعهود،
والمراد: الصلوات الخمس.
قوله تعالى: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قال الزّجّاج: هذه الواو
تنصرف إلى المعهود والمراد الصلوات الخمس إذا جاءت مخصصة، فهي
دالة على فضل الذي تخصّصه، كقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ
«1» قال سعيد بن المسيب: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه «2» .
ثم فيها خمسة أقوال: أحدها: أنها العصر.
(123) روى مسلم في أفراده من حديث عليّ رضي الله عنه عن النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال يوم الأحزاب:
«شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ قبورهم وبيوتهم
ناراً» .
(124) وروى ابن مسعود، وسمرة، وعائشة عن النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم أنها صلاة العصر.
__________
أخرجه البخاري 2931 و 4111 و 4533 و 6396 ومسلم 627 وأبو داود
409 وأحمد 1/ 122 والدارمي 1/ 280 من طريق هشام بن حسّان عن
محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي. وأخرجه مسلم 627 ح
203 والترمذي 2984 والنسائي 1/ 36 وأحمد 1/ 135 و 37 و 153 و
154 والطبري 5425 و 5432 من طرق عن أبي حسّان عن عبيدة. وأخرجه
مسلم 627 ح 205 وعبد الرزاق 3194 وأحمد 1/ 81 و 82 و 83 و 126
و 146 والطبري 5427 و 5429 والبيهقي 1/ 460 و 2/ 220 من طريق
الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن شتير بن شكل عن علي.
حديث ابن مسعود، أخرجه مسلم 628 والترمذي 181 و 2985 والطيالسي
366 وأحمد 1/ 392 و 403 و 404 و 456 والطبري 5433 والطحاوي 1/
174 والبيهقي 1/ 461 من طريق محمد بن طلحة عن زبيد بن الحارث
عن مرة بن شراحيل عن ابن مسعود. قال حبس المشركون رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم عن صلاة العصر حتّى احمرّت الشّمس أو
اصفرّت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «شغلونا عن
الصلاة الوسطى صلاة العصر. ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا» أو
قال: «حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا» .
- وحديث سمرة أخرجه الترمذي 2983 وأحمد 5/ 13 و 22 ولفظه «إن
النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: صلاة الوسطى صلاة العصر» .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وحديث عائشة أخرجه مسلم 629 وأبو داود 410 والترمذي 2982
والنسائي 66 وأخرجه مالك 1/ 138- 139 وأحمد 6/ 73 و 178
والطحاوي في المعاني 1/ 172 وابن أبي داود في المصاحف ص 84
والبيهقي 1/ 462 من طريق زيد بن أسلم به. وأخرجه الطبري 5470
من طريق زيد بن أسلم أنه بلغه عن أبي يونس: عن عائشة. وأخرجه
مسلم حدثنا يحيى بن يحيى التميميّ قال قرأت على مالك عن زيد بن
أسلم عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة، أنه قال:
«أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية
فآذنّي: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى
[البقرة، الآية: 238] فلمّا بلغتها آذنتها. فأملت عليّ:
حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر. وقوموا لله
قانتين قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) البقرة: 97.
(2) أخرجه الطبري 5495 عن قتادة عن ابن المسيب، وفيه إرسال
بينهما فإن قتادة لم يسمعه من سعيد فهو ضعيف. وقوله «وشبك بين
أصابعه» أي مختلفين كما في رواية الطبري.
(1/214)
(125) وروى مسلم في أفراده من حديث البراء
بن عازب قال: نزلت هذه الآية «حافظوا على الصلوات والصلاة
الوسطى وصلاة العصر» ، فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله،
فنزلت: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وهذا
قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود، وأبيّ، وأبيّ
أيوب، وابن عمر في رواية، وسمرة بن جندب، وأبي هريرة، وابن
عباس في رواية عطية، وأبي سعيد الخدري، وعائشة في رواية،
وحفصة، والحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء في
رواية، وطاوس، والضحاك، والنخعي، وعبيد بن عمير، وزرّ بن حبيش،
وقتادة، وأبي حنيفة، ومقاتل في آخرين، وهو مذهب أصحابنا.
والثاني: أنها الفجر، روي عن عمر، وعليّ في رواية، وأبي موسى،
ومعاذ، وجابر بن عبد الله، وأبي أُمامة، وابن عمر في رواية
مجاهد، وزيد بن أسلم، في رواية أبي رجاء العطاردي، وعكرمة،
وجابر بن زيد، وأنس بن مالك، وعطاء، وطاوس في رواية ابنه، وعبد
الله بن شداد، ومجاهد، ومالك، والشافعي. وروى أبو العالية قال
صلّيت مع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغداة فقلت
لهم: أيما الصلاة الوسطى؟ فقالوا: التي صليت قبل. والثالث:
أنها الظهر، روي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد،
وأبي سعيد الخدري، وعائشة في رواية، وروى [عاصم بن ضمرة] «1»
عن عليّ عليه السلام قال: هي صلاة الجمعة، وهي سائر الأيام
الظهر. والرابع: أنها المغرب، روي عن ابن عباس، وقبيصة بن
ذؤيب. والخامس: أنها العشاء الأخيرة، ذكره علي بن أحمد
النيسابوري في «تفسيره» .
وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أوسط الصلوات
محلاً. والثاني: أوسطها مقداراً.
والثالث: أفضلها، ووسط الشيء: خيره وأعدله. ومنه قوله تعالى:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «2» ، فان قلنا: إن
الوسطى بمعنى: الفضلى، جاز أن يدّعي هذا كل ذي مذهب فيها. وإن
قلنا: إنها أوسطها مقداراً، فهي المغرب، لأن أقل المفروضات
ركعتان، وأكثرها أربعاً. وإن قلنا: أوسطها محلاً، فللقائلين:
إنها العصر أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار، وبعدها صلاتان
في الليل، فهي الوسطى.
__________
صحيح. أخرجه مسلم 630 والطبري 5437 والحاكم 2/ 281 والطحاوي في
«المشكل» 2071 والبيهقي 1/ 459 من حديث البراء بن عازب.
__________
(1) ما بين المعقوفتين في نسخة «الفكر» «أبو ضمرة» وفي نسخة
«المكتب» ضمرة وكلاهما خطأ، ليس في الرواة عن علي ضمرة أو أبو
ضمرة، وإنما يروي عنه عاصم بن ضمرة.
(2) البقرة: 142
(1/215)
فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
(239)
ومن قال: هي الفجر، فقال عكرمة: هي وسط بين
الليل والنهار، وكذلك قال ابن الأنباري: هي وسط بين الليل
والنهار، وقال: وسمعت أبا العباس يعني، ثعلباً يقول: النهار
عند العرب أوله: طلوع الشمس. قال ابن الأنباري: فعلى هذا صلاة
الصبح من صلاة الليل، قال: وقال آخرون: بل هي من صلاة النهار،
لأن أول وقتها أول وقت الصوم. قال: والصواب عندنا أن نقول:
الليل المحض خاتمته طلوع الفجر، والنهار المحض أوله: طلوع
الشمس، والذي بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس يجوز أن يسمى
نهاراً، ويجوز أن يسمى ليلاً، لما يوجد فيه من الظلمة والضوء،
فهذا قول يصح به المذهبان.
قال ابن الأنباري: ومن قال: هي الظهر، قال: هي وسط النهار،
فأما من قال: هي المغرب، فاحتج بأن أول صلاة فرضت، الظهر،
فصارت المغرب وسطى، ومن قال: هي العشاء، فإنه يقول: هي بين
صلاتين لا تقصران. قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ،
المراد بالقيام هاهنا: القيام في الصلاة، فأما القنوت، فقد
شرحناه فيما تقدم. وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه الطاعة، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير،
والشّعبيّ، وطاوس، والضحاك، وقتادة في آخرين. والثاني: أنه طول
القيام في الصلاة، روي عن ابن عمر، والربيع بن أنس، وعن عطاء
كالقولين. والثالث: أنه الإمساك عن الكلام في الصلاة.
__________
قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: وَقُومُوا
لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
[سورة البقرة (2) : آية 239]
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ (239)
قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا، أي: خفتم عدواً، فصلوا
رجالاً، وهو جمع راجل، والركبان جمع راكب، وهذا يدل على تأكيد
أمر الصلاة، لأنه أمر بفعلها على كل حال. وقيل: إن هذه الآية
أنزلت بعد التي في سورة النساء، لأن الله تعالى وصف لهم صلاة
الخوف في قوله: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ
الصَّلاةَ «1» ، ثم أنزل هذه الآية: فَإِنْ خِفْتُمْ، أي:
خوفاً أشد من ذلك، فصلوا عند المسايفة كيف قدرتم. فإن قيل: كيف
الجمع بين هذه الآية، وبين:
(127) ما روى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صلى
يوم الخندق الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشّفق؟
فالجواب:
(126) صحيح. أخرجه البخاري 4534 ومسلم 539 وأبو داود 949
والترمذي 2986 و 5524 والنسائي 3/ 18 وابن خزيمة 856 وابن حبان
2245 و 2246 و 2250 والطبري 5527 والطبراني 5063 و 5064
والبيهقي 2/ 248 من حديث زيد بن الأرقم.
لم أره من حديث ابن عباس، ولعله سبق قلم، وإنما هو من حديث ابن
مسعود. كذا أخرجه الترمذي 179 والنسائي 1/ 297 و 2/ 17
والطيالسي 333 وأحمد 1/ 423 والبيهقي 1/ 403 كلهم من طريق أبي
عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «كنا في غزوة مع رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم فحبسنا المشركون عن صلاة الظهر
والعصر والمغرب والعشاء، فلما انصرف المشركون أمر رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم مناديا، فأقام لصلاة الظهر ... » الحديث.
إسناده ضعيف، لانقطاعه بين أبي عبيدة وأبيه. قال الترمذي:
إسناده ليس به بأس، إلّا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. قلت:
وليس فيه لفظ بعد ما غربت، وإنما جاءت هذه اللفظة في حديث
جابر، لكن في هذا الأخير أن صلاة العصر فقط هي التي فاتته. كذا
أخرجه البخاري 596 و 598 ومسلم 641 وغيرهما. وكذا ورد لفظ «حتى
غربت» في حديث أبي سعيد، وهو الآتي.
- الخلاصة: حديث ابن مسعود ضعيف الإسناد، إلّا أن أصله محفوظ
بشاهده الآتي عن أبي سعيد، فهو يشهد له في كونه عليه الصّلاة
والسّلام فاتته أربع صلوات، ويعارضه، بأن فيه «قبل نزول الآية»
.
صحيح. أخرجه الشافعي في «السنن» 1 و «الأم» 1/ 75 وأحمد 3/ 67-
68 والدارمي 1/ 358 والنسائي 2/ 17 وابن حبان 2890 والبيهقي 1/
403 كلهم من حديث أبي سعيد قال: «شغلنا المشركون يوم الخندق عن
صلاة الظهر حتى غربت الشمس، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما
نزل، فأنزل الله عزّ وجلّ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتالَ فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا، فأقام
لصلاة الظهر ... » الحديث. إسناده صحيح على شرط مسلم. وكذا
صححه ابن السكن، ووافقه الحافظ في «تلخيص الحبير» 1/ 195. وقال
السيوطي في «شرح سنن النسائي» 2/ 18: قال ابن سيد الناس: هذا
إسناد صحيح جليل.
__________
(1) النساء: 102.
(1/216)
وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً
لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ
فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ
فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(240)
(128) أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول
قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً، قال
أبو بكر الأثرم: فقد بيّن أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق
منسوخ.
قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ، في هذا
الذِّكر قولان: أحدهما: أنه الصلاة، فتقديره:
فصلوا كما كنتم تصلون آمنين. والثاني: أنه الثّناء على الله،
والحمد له.
[سورة البقرة (2) : آية 240]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ
إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (240)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْواجاً.
(129) روى ابن حيان أن هذه الآية نزلت في رجل من أهل الطائف،
يقال له: حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة، ومعه أبواه
وامرأته، وله أولاد، فمات فرفع ذلك إلى النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم، فنزلت هذه الآية، فأعطى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
أبويه وأولاده من ميراثه، ولم يعط امرأته شيئا، غير أنه أمرهم
أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً.
قوله تعالى: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرأ أبو عمرو، وحمزة،
وابن عامر «وصية» بالنصب، وقرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي
«وصية» بالرفع. وعن عاصم كالقراءتين. قال أبو عليّ: من نصب
حَمَلَهُ على الفعل، أي: ليوصوا وصية، ومن رفع، فمن وجهين:
أحدهما: أن يجعل الوصية مبتدأ، والخبر لأزواجهم. والثاني: أن
يضمر له خبراً، تقديره: فعليهم وصية. والمراد منه من قارب
الوفاة، فليوص، لأن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى. قوله تعالى:
مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ، أي: متعوهن إلى الحول، ولا تخرجوهن.
والمراد بذلك نفقة السنة وكسوتها وسكناها فَإِنْ خَرَجْنَ أي:
من قبل أنفسهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يعني: أولياء الميت فِي
ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ يعني التشوف
للنّكاح. وفي ماذا رفع الجناح عن الرجال؟ فيه قولان: أحدهما:
أنه في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول.
__________
ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 157 وإسحاق بن راهويه
في «تفسيره» كما في «أسباب النزول» للسيوطي 170 عن مقاتل بن
حيان، وهذا معضل، فالخبر واه.
(1/217)
والثاني: في ترك منعهن من الخروج، لأنه لم
يكن مقامُها الحولَ واجباً عليها، بل كانت مخيّرة في ذلك.
(130) فصل: ذكر علماء التفسير أن أهل الجاهلية كان إذا مات
أحدهم، مكثت زوجته في بيته حولاً، ينفق عليها من ميراثه، فاذا
تم الحول، خرجت إلى باب بيتها، ومعها بعرة، فرمت بها كلباً،
وخرجت بذلك من عدتها. وكان معنى رميها بالبعرة أنها تقول: مكثي
بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة. ثم جاء الإسلام،
فأقرهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية، ثم نسخ ذلك
بالآية المتقدمة في نظم القرآن على هذه الآية، وهي قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً.
ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه «1» .
__________
ورد هذا المعنى في حديث مرفوع: «قالت زينب: سمعت أمي أم سلمة
تقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا
رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عيناها
فنكحّلها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا» مرتين أو
ثلاثا، كل ذلك يقول: «لا إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت
إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول» . أخرجه
البخاري 5334 ومسلم 1486 وأبو داود 2299 والترمذي 1195 و 1196
و 1197 والنسائي 6/ 201 والشافعي 2/ 61 والبيهقي 7/ 437 وعبد
الرزاق 12130.
__________
(1) قال الطبري في تفسيره 2/ 593 وقرأ آخرون: «وصيّة لأزواجهم»
برفع «الوصية» ثم اختلف أهل العربية في وجه رفع «الوصية» فقال
بعضهم: رفعت بمعنى: كتبت عليهم الوصية واعتل في ذلك بأنها كذلك
في قراءة عبد الله فتأويل الكلام على ما قاله هذا القائل:
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، كتبت عليهم وصية لأزواجهم-
ثم ترك ذكر «كتبت» ورفعت «الوصية» بذلك المعنى، وإن كان متروكا
ذكره. وقال آخرون منهم:
بل «الوصية» مرفوعة بقوله لِأَزْواجِهِمْ فتأوّل: لأزواجهم
وصية. والقول الأول أولى بالصواب في ذلك وهو أن تكون «الوصية»
إذا رفعت مرفوعة بمعنى: كتب عليكم وصية لأزواجكم. لأن العرب
تضمر النكرات مرافعها قبلها إذا أضمرت، فإذا أظهرت بدأت به
قبلها، فتقول: جاءني رجل اليوم» ، وإذا قالوا: «رجل جاءني
اليوم» لم يكادوا يقولونه إلّا والرجل حاضر يشيرون إليه ب
«هذا» أو غائب قد علم المخبر عنه خبره، أو كحذف «هذا» وإضماره
وإن حذفوه لمعرفة السامع بمعنى المتكلم، كما قال الله تعالى
ذكره سُورَةٌ أَنْزَلْناها [النور: 1] وبَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ [التوبة: 1] فكذلك ذلك في قوله: «وصية لأزواجهم» .
قال أبو جعفر:
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه رفعا،
لدلالة ظاهر القرآن على أن مقام المتوفى عنها زوجها في بيت
زوجها المتوفّى حولا كاملا، كان حقّا لها قبل نزول قوله:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً
[البقرة: 234] وقبل نزول آية الميراث، ولتظاهر الأخبار عن رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم بنحو الذي دل عليه الظاهر من ذلك،
أوصى لهنّ أزواجهنّ بذلك قبل وفاتهن، أو لم يوصوا لهن به. فإن
قال قائل: وما الدلالة على ذلك؟ قيل: لمّا قال الله تعالى ذكره
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ وكان الموصي لا شك، إنما يوصي في
حياته بما يأمر بإنفاذه بعد وفاته، وكان محالا أن يوصي بعد
وفاته وكان تعالى ذكره إنما جعل لامرأة الميت سكن الحول بعد
وفاته، علمنا أنه حقّ لها وجب في ماله بغير وصية منه لها، إذ
كان الميت مستحيلا أن تكون منه وصية بعد وفاته. ولو كان معنى
الكلام على ما تأوله من قال: «فليوص وصية» ، لكان التنزيل:
والذين تحضرهم الوفاة ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم، كما قال:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ
تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [البقرة: 180] . وبعد، فلو كان
ذلك واجبا لهن بوصية من أزواجهن المتوفين، لم يكن ذلك حقا لهن
إذا لم يوص أزواجهن لهن به قبل وفاتهم ولكان قد كان لورثتهم
إخراجهنّ قبل الحول، وقد قال الله تعالى ذكره: غَيْرَ إِخْراجٍ
ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنه في تأويله قارئه: وَصِيَّةً
لِأَزْواجِهِمْ بمعنى: أنّ الله تعالى كان أمر أزواجهن بالوصية
لهنّ.
وإنما تأويل ذلك: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، كتب الله
لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون- أن لا تخرجوهن من
منازل أزواجهن حولا كما قال تعالى ذكره في «سورة النساء»
غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ [النساء: 12] ثم ترك
ذكر «كتب الله» اكتفاء بدلالة الكلام عليه، ورفعت «الوصية»
بالمعنى الذي قلنا قبل. فإن قال قائل: فهل يجوز نصب
الْوَصِيَّةُ على الحال، بمعنى: موصّين لهنّ وصية؟ قيل:
لا، لأن ذلك إنما كان يكون جائزا لو تقدم «الوصية» من الكلام
ما يصلح أن تكون الوصية خارجة منه فأما ولم يتقدمه ما يحسن أن
تكون منصوبة بخروجها منها فغير جائز نصبها بذلك المعنى.
(1/218)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ
اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ
(243)
[سورة البقرة (2) : آية 241]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ (241)
قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ قد سبق
الكلام في المتعة بما فيه كفاية.
[سورة البقرة (2) : آية 242]
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (242)
قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ، أي:
كما بيّن الذي تقدم من الأحكام يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: يثبت لكم وصف العقلاء
باستعمال ما بين لكم، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة،
ألا ترى إلى قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ «1» ، وإنما سموا
جهالاً لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق.
[سورة البقرة (2) : آية 243]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ
أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ
أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ، معناه: ألم تعلم. قال ابن قتيبة: وهذا على جهة
التعجب، كما تقول: ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟ قوله تعالى:
وَهُمْ أُلُوفٌ فيه قولان:
أحدهما: أن معناه: وهم مؤتلفون، قاله ابن زيد. والثاني: أنه من
العدد، وعليه العلماء. واختلفوا في عددهم على سبعة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا أربعة آلاف. والثاني: أربعين ألفاً،
والقولان عن ابن عباس. والثالث: تسعين ألفاً، قاله عطاء بن أبي
رباح. والرابع: سبعة آلاف، قاله أبو صالح.
والخامس: ثلاثين ألفاً، قاله أبو مالك. والسادس: بضعة وثلاثين
ألفاً، قاله السدي. والسابع: ثمانية آلاف، قاله مقاتل. وفي
معنى: حذرهم من الموت، قولان: أحدهما: أنهم فروا من الطاعون،
وكان قد نزل بهم، قاله الحسن، والسدي. والثاني: أنهم أمروا
بالجهاد، ففروا منه، قاله عكرمة، والضحاك، وعن ابن عباس،
كالقولين.
(الإشارة الى قصتهم) روى حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف
قال: كانت أمَّة من بني إِسرائيل إذا وقع فيهم الوجع، خرج
أغنياؤهم، وأقام فقراؤهم، فمات الذين أقاموا، ونجا الذين
خرجوا، فقال الأشراف: لو
__________
(1) النساء: 17.
(1/219)
وَقَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ
وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا وقال الفقراء:
لو ظعنا كما ظعن هؤلاء سلمنا، فأجمع رأيهم في بعض السنين على
أن يظعنوا جميعاً، فظعنوا فماتوا، وصاروا عظاماً تبرق، فكنسهم
أهل البيوت والطرق عن بيوتهم وطرقهم، فمر بهم نبي من الأنبياء،
فقال: يا رب لو شئت أحييتهم، فعبدوك، وولدوا أولاداً يعبدونك
ويعمرون بلادك. قال: أو أحب إليك أن أفعل؟ قال: نعم. فقيل له:
تكلم بكذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام تخرج من عند العظام
التي ليست منها إلى التي هي منها ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا
فتكلم به فنظر إلى العظام تكسى لحماً وعصباً، ثم قيل له: تكلم
بكذا وكذا، فنظر فاذا هم قعود يسبحون الله ويقدسونه. وأنزل
الله تعالى فيهم هذه الآية. وهذا الحديث يدل على بعد المدة
التي مكثوا فيها أمواتاً. وفي بعض الأحاديث: أنهم بقوا أمواتاً
سبعة أيام، وقيل: ثمانية أيام. وفي النبي الذي دعا لهم قولان:
أحدهما: أنه حزقيل. والثاني: أنه شمعون. فإن قيل كيف أُميت
هؤلاء مرتين في الدنيا، وقد قال الله تعالى: إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولى «1» ، فالجواب أن موتهم بالعقوبة لم يفن
أعمارهم، فكان كقوله تعالى: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنامِها «2» ، وقيل: كان إحياؤهم آية من آيات نبيهم، وآيات
الأنبياء نوادر لا يقاس عليها، فيكون تقدير قوله تعالى: إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولى التي ليست من آيات الأنبياء، ولا لأمر
نادر. وفي هذه القصة احتجاج على اليهود إذ أخبرهم النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم بأمر لم يشاهدوه، وهم يعلمون صحته واحتجاج على
المنكرين للبعث، فدلهم عليه بإحياء الموتى في الدنيا، ذكر ذلك
جميعه ابن الأنباري.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، نبّه
عزّ وجلّ بذكر فضله على هؤلاء على فضله على سائر خلقه مع قلّة
شكرهم.
[سورة البقرة (2) : آية 244]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ في المخاطَبين
بهذا قولان: أحدهما: أنهم الذين أماتهم الله، ثم أحياهم، قاله
الضحّاك. والثاني: أنه خطاب لأمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم،
فمعناه: لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء، فما ينفعكم الهرب
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بما تنطوي
عليه ضمائركم.
[سورة البقرة (2) : آية 245]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ
وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ، قال الزجاج:
أصل القرض ما يعطيه الرجل أو يفعله ليجازى عليه، وأصله في
اللغة القطع، ومنه أخذ المقراض. فمعنى أقرضته: قطعت له قطعة
يجازيني عليها. فإن قيل: فما وجه تسمية الصدقة قرضاً؟ فالجواب
من ثلاثة أوجه: أحدها: أن القرض يبدل بالجزاء. والثاني: لأنه
يتأخر قضاؤه إلى يوم القيامة. والثالث: لتأكيد استحقاق الثواب
به، إذ لا يكون قرض إلا والعوض مستحق به. فأما اليهود فإنهم
جهلوا هذا، فقالوا: أيستقرض الله منا؟ وأما المسلمون فوثقوا
بوعد الله، وبادروا إلى معاملته. قال ابن مسعود:
__________
(1) الدخان: 56.
(2) الزمر: 42.
(1/220)
(131) لما نزلت هذه الآية، قال أبو
الدحداح: وإن الله تعالى ليريد منا القرض؟ فقال النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم:
«نعم» . قال: أرني يدك. قال: إني أقرضت ربي حائطي، قال: وحائطه
فيه ستمائة نخلة، ثم جاء إلى الحائط، فقال: يا أم الدحداح
اخرجي من الحائط، فقد أقرضته ربي.
__________
وفي بعض الألفاظ: فعمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم، وتنفض
ما في أكمامهم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كم من عذق
«1» رداح في الجنة لأبي الدحداح» .
وفي معنى القرض الحسن ستة أقوال: أحدها: أنه الخالص لله، قاله
الضحاك. والثاني: أن يخرج عن طيب نفس، قاله مقاتل. والثالث: أن
يكون حلالا، قاله ابن المبارك. والرابع: أن يحتسب عند الله
ثوابه. والخامس: أن لا يتبعه منّا ولا أذى. والسادس: أن يكون
من خيار المال. قوله تعالى:
فَيُضاعِفَهُ لَهُ قرأ أبو عمرو فيضاعفه بألف مع رفع الفاء،
وكذلك في جميع القرآن، إلا في الأحزاب «يضعف لها العذاب ضعفين»
، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائيّ، جميع ذلك بالألف مع رفع الفاء،
وقرأ ابن كثير (فيضعفه) برفع الفاء من غير ألف في جميع القرآن،
وقرأ ابن عامر (فيضعفه) بغير ألف مشددة في جميع القرآن، ووافقه
عاصم على نصب الفاء في «فيضاعفه» إلا أنه أثبت الألف في جميع
القرآن.
قال أبو عليّ: للرفع وجهان: أحدهما: أن يعطفه على ما في
الصّلة، وهو يقرض. والثاني: أن يستأنفه. ومن نصب حمل الكلام
على المعنى، لأن المعنى: أيكون قرض؟ فحمل عليه «فيضاعفه» ،
وقال: معنى ضاعف وضعّف واحد، والمضاعفة: الزّيادة على الشيء
حتى يصير مثلين أو أكثر. وفي الأضعاف الكثيرة قولان:
أحدهما: أنها لا يحصى عددها، قاله ابن عباس والسّدّيّ.
حسن. أخرجه أبو يعلى 4986 والبزار 944 «كشف» والطبري 5623
والطبراني 22/ 301 والبيهقي في «الشعب» 3452 كلهم من طريق حميد
بن عطاء الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود به.
وإسناده ضعيف لضعف حميد بن عطاء. وقال الهيثمي في «المجمع» 3/
114: فيه حميد بن عطاء وهو ضعيف.
- وله شاهد من مرسل زيد بن أسلم: أخرجه عبد الرزاق في
«التفسير» 307 والطبري 5621 من طريقه عن معمر به، وهذا مرسل
صحيح، ليس له علة إلّا الإرسال، لكن يصلح شاهدا لما قبله.
ووصله ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 299 من وجه آخر
عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر. وإسناده واه
لأجل عبد الرحمن. وهو عند الطبراني في «الأوسط» 1887 من طريق
عبد الرحمن، وعنه إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو متروك.
- وله شاهد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 5622 مختصرا، ولم يسم
الصحابي.
- وله شاهد صحيح من حديث أنس: أخرجه أحمد 3/ 46 وابن حبان
7159. وإسناده صحيح على شرط مسلم. وليس فيه ذكر الآية. وأصله
عند مسلم 965 من حديث جابر بن سمرة، وليس فيه ذكر القصة.
- الخلاصة: حديث الباب حسن بشاهده المرسل. وأما أصله وهو بشارة
أبي الدحداح من النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذا قصته مع
امرأته فصحيح.
لم أقف على هذا اللفظ، وهو منكر، والأشبه أنه موضوع إذ لا
يستدعي الأمر إخراج ما في فم الأولاد الصغار، وبكل حال لم أقف
له على إسناد، وهذا ما يعبر عنه أهل الحديث بقولهم: ليس له
أصل.
- والمحفوظ ما قبله.
__________
(1) في «القاموس» العذق: النخلة بحملها، وبالكسر «العذق» القنو
منها. ورداح: ثقيل.
(1/221)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ
قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا
نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ
دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
(133) وروى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة
أنه قال: إن الله يكتب للمؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة.
وقرأ هذه الآية، ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة» .
والثاني: أنها معلومة المقدار، فالدرهم بسبعمائة، كما ذكر في
الآية بعدها، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ، قرأ ابن كثير،
وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي «يبسط» و «بسطة» بالسين، وقرأهما
نافع بالصاد.
وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أن معناه: يقتر على من يشاء في
الرزق، ويبسطه على من يشاء، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد
ومقاتل. والثاني: يقبض يد من يشاء عن الإنفاق في سبيله، ويبسط
يد من يشاء بالإنفاق، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ في آخرين.
[سورة البقرة (2) : آية 246]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ
بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا
مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا
وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ
أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ، قال الفراء: الملأ: الرجال في كل القرآن لا يكون
فيهم امرأة، وكذلك القوم والنفر والرهط، وقال الزجاج: الملأ:
هم الوجوه، وذوو الرأي، وإنما سمّوا ملأً، لأنهم مليئون بما
يحتاج إليه منهم.
وفي نبيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شمويل، قاله ابن عباس،
ووهب. والثاني: أنه يوشع بن نون، قاله قتادة. والثالث: أنه
نبي، يقال له: سمعون بالسين المهملة، سمته أمه بذلك، لأنها دعت
الله أن يرزقها غلاماً، فسُمِع دعاؤها فيه، هذا قول السدي.
وسبب سؤالهم ملكاً أن عدوهم غلب عليهم.
قوله تعالى: نُقاتِلْ قراءة الجمهور بالنون والجزم، وقرأ ابن
أبي عبلة بالياء والرفع، كناية عن الملك. قوله تعالى: هَلْ
عَسَيْتُمْ، قراءة الجمهور بفتح السين، وقرأ نافع بكسرها
هاهنا، وفي سورة «محمد» وهي لغتان. قوله تعالى: إِنْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، أي فرض أَلَّا تُقاتِلُوا أي:
لعلكم تجبنون. قوله تعالى: وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا،
يعنون: أُخرج بعضنا، وهم الذين سبوا منهم وقهروا. فظاهره
العموم، ومعناه الخصوص. قوله تعالى: تُوَلُّوا، أي: أعرضوا عن
الجهاد. إِلَّا قَلِيلًا وهم الذين عبروا النّهر، وسيأتي
ذكرهم.
__________
ذكره المصنف موقوفا، وورد مرفوعا، وهو ضعيف. أخرجه أحمد 2/
296- 521- 522 من طريق علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن أبي
هريرة مرفوعا. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد. وضعفه الحافظ ابن
كثير 1/ 299 بقوله: غريب، وعلي بن زيد عنده مناكير. قلت: جزم
الحافظ في «التقريب» بضعفه. ومع ذلك قال الهيثمي 10/ 144: رواه
أحمد بإسنادين، واحد إسناديه جيد؟!!!. مع أن فيه ابن زيد.
وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 299 من وجه
آخر عن زياد الجصاص عن أبي عثمان به. وإسناده واه، زياد هو ابن
أبي زياد، متروك الحديث. والراجح فيه الوقف. وانظر «فتح
القدير» 391 بتخريجنا.
(1/222)
وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ
مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً
مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ
تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
[سورة البقرة (2) : آية 247]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ
طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ
عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ
سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ
وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)
قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ
بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً، ذكر أهل التفسير أن نبي بني
إسرائيل سأل الله أن يبعث لهم ملكاً، فأتى بعصا وقرن فيه دهن،
وقيل له: إن صاحبكم الذي يكون ملكاً يكون طوله طول هذه العصا،
ومتى دخل عليك رجل فنشق الدهن، فهو الملك، فادهن به رأسه،
وملكه على بني إسرائيل فقاس القوم أنفسهم بالعصا، فلم يكونوا
على مقدارها. قال عكرمة، والسدي: كان طالوت سقاءً يسقي على
حمار له، فضلَّ حماره، فخرج يطلبه. وقال وهب: بل كان دباغاً
يعمل الأدم، فضلّت حمر لأبيه فأرسله مع غلام له في طلبها، فمرا
ببيت شمويل النبي فدخلا ليسألاه عن ضالتهما، فنشق الدهن، فقام
شمويل، فقاس طالوت بالعصا، وكان على مقدارها، فدهنه، ثم قال
له: أنت ملك بني إسرائيل، فقال طالوت: أما علمت أن سبطي أدنى
أسباط بني إسرائيل، وبيتي أدنى بيوتهم؟ قال: بلى، قال: فبأية
آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، فكان كما قال.
قال الزجاج: طالوت، وجالوت، وداود تنصرف، لأنها أسماء أعجمية،
وهي معارف، فاجتمع فيها التعريف والعجمة.
ومعنى قوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ من أي جهة يكون له الملك
علينا. قال ابن عباس: إنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل
سبطان، في أحدهما النبوة، وفي الآخر الملك، فلم يكن هو من أحد
السبطين. قال قتادة: كانت النبوة في سبط لاوي، والملك في سبط
يهوذا.
قوله تعالى: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ، أي: لم يؤت ما
يتملّك به الملوك. قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ،
أي: اختاره، وهو «افتعل» من الصّفوة. والبسطة: السّعة، قال ابن
قتيبة: هو من قولك: بسطت الشيء: إِذا كان مجموعاً، ففتحته،
ووسعته. قال ابن عباس: كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب،
وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه. وهل كانت هذه الزيادة
قبل الملك، أم أحدثت له بعد؟ فيه قولان: أحدهما: قبل الملك،
قاله وهب، والسدي. والثاني: بعد الملك، قاله ابن زيد. والمراد
بتعظيم الجسم، فضل القوة، إذ العادة أن من كان أعظم جسماً، كان
أكثر قوة. والواسع:
الغنيّ.
[سورة البقرة (2) : آية 248]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (248)
قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ،
الآية: العلامة، فمعناه: علامة تمليك الله إياه أَنْ
يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وهذا من مجاز الكلام، لأن التابوت
يؤتى به، ولا يأتي، ومثله: فَإِذا عَزَمَ
(1/223)
الْأَمْرُ
«1» ، وإنما جاز مثل هذا، لزوال اللبس فيه، كما بينا في قوله
تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «2» .
وروي عن ابن مسعود، وابن عباس: أنهم قالوا لنبيهم: إن كنت
صادقاً فأتنا بآية تدل على أنه ملك، فقال لهم ذلك. وقال وهب:
خيّرهم، أي آية يريدون؟ فقالوا: أن يردَّ علينا التابوت. قال
ابن عباس:
كان التابوت من عود الشمشار عليه صفائح الذهب، وكان يكون مع
الأنبياء إذا حضروا قتالاً، قدموه بين أيديهم يستنصرون به،
وفيه السكينة. وقال وهب بن منبه: كان نحواً من ثلاث أذرع في
ذراعين. قال مقاتل: فلما تفرقت بنو إسرائيل، وعصوا الأنبياء،
سلط الله عليهم عدوهم، فغلبوهم عليه.
وفي السكينة سبعة أقوال «3» : أحدها: أنها ريح هفافة لها وجه
كوجه الإنسان، رواه أبو الأحوص عن عليّ رضي الله عنه. والثاني:
أنها دابة بمقدار الهرّ، لها عينان لهما شعاع، وكانوا إذا
التقى الجمعان، أخرجت يدها، ونظرت إليهم، فيهزم الجيش من
الرعب. رواه الضحاك عن ابن عباس.
وقال مجاهد: السكينة لها رأس كرأس الهرّة وذنب كذنب الهرّة،
وجناحان. والثالث: أنها طست من ذهب تغسل فيه قلوب الأنبياء،
رواه أبو مالك عن ابن عباس. والرابع: أنها روح من الله تعالى
تتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شيء، كلّمهم وأخبرهم ببيان ما
يريدون، رواه عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه. والخامس: أن
السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، رواه ابن جريج عن
عطاء بن أبي رباح، وذهب إلى نحوه الزجاج، فقال: السكينة: من
السكون، فمعناه: فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم.
والسادس: أن السّكينة معناها هاهنا: الوقار، رواه معمر عن
قتادة. والسابع: أن السكينة: الرحمة، قاله الربيع بن أنس.
وفي البقية تسعة أقوال: أحدها: أنها رضاض «4» الألواح التي
تكسرت حين ألقاها موسى وعصاه، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي.
والثاني: أنها رضاض الألواح، قاله عكرمة، ولم يذكر العصا.
وقيل: إنما اتخذ موسى التابوت ليجمع رضاض الألواح فيه.
والثالث: أنها عصا موسى، والسكينة، قاله وهب. والرابع: عصا
موسى، وعصا هارون، وثيابهما، ولوحان من التوراة، والمنُّ، قاله
أبو
__________
(1) محمد: 21. [.....]
(2) البقرة: 16.
(3) قال الإمام الشوكاني رحمه الله في «فتح القدير» 1/ 306 بعد
أن ذكر هذه الأقوال: هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلى
هؤلاء الأعلام من جهة اليهود أقمأهم الله، فجاؤوا بهذه الأمور
لقصد التلاعب بالمسلمين رضي الله عنهم والتشكيك عليهم، وانظر
إلى جعلهم لها تارة حيوانا وتارة جمادا وتارة شيئا لا يعقل،
كقول مجاهد:
كهيئة الريح لها وجه كوجه الهرّ، وجناحان وذنب مثل ذنب الهر.
وهكذا كل منقول عن بني إسرائيل يتناقض ويشتمل على ما لا يعقل
في الغالب، ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير المتناقضة مرويا
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا رأيا رآه قائله، فهم أجلّ
قدرا في التفسير بالرأي وبما لا مجال للاجتهاد فيه. إذا تقرر
لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة
وهو معروف ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة،
فقد جعل الله عنها سعة، ولو ثبت لنا في السكينة تفسير عن النبي
صلّى الله عليه وسلّم لوجب علينا المصير إليه والقول به، ولكنه
لم يثبت من وجه صحيح بل ثبت أنها تنزلت على بعض الصحابة عند
تلاوة القرآن كما في صحيح مسلم عن البراء، قال: كان رجل يقرأ
سورة الكهف وعنده فرس مربوط فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو،
وجعل فرسه ينفر منها: فلما أصبح أتى النبي صلّى الله عليه
وسلّم فذكر ذلك له فقال: «تلك السكينة نزلت للقرآن» .
(4) في «اللسان» رضاض الشيء: فتاته وكل شيء كسّرته فقد رضرضته.
(1/224)
فَلَمَّا فَصَلَ
طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ
بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً
بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا
جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا
طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
صالح. والخامس: أن البقية، العلم والتوراة،
قاله مجاهد، وعطاء بن رباح. والسادس: أنها رضاض الألواح، وقفيز
«1» من مَنٍّ في طست من ذهب، وعصا موسى وعمامته، قاله مقاتل.
والسابع: أنها قفيز من مَنٍّ ورضاض الألواح، حكاه سفيان الثوري
عن بعض العلماء. والثامن: أنها عصا موسى والنعلان:
ذكره الثوري أيضاً عن بعض أهل العلم. والتاسع: أن المراد
بالبقية: الجهاد في سبيل الله، وبذلك أمروا، قاله الضحاك.
والمراد بآل موسى وآل هارون: موسى وهارون. وأنشد أبو عبيدة:
ولا تبك ميتاً بعد ميت أحبة ... عليّ وعباس وآل أبي بكر
يريد: أبا بكر نفسه.
قوله تعالى: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ قرأ الجمهور «تحمله»
بالتاء، وقرأ الحسن ومجاهد والأعمش بالياء. وفي المكان الذي
حملته منه الملائكة إليهم قولان: أحدهما: أنه كان مرفوعاً مع
الملائكة بين السماء والأرض، منذ خرج عن بني إسرائيل، قاله
الحسن. والثاني: أنه كان في الأرض. وفي أي مكان كان؟ فيه
قولان: أحدهما: أنه كان في أيدي العمالقة قد دفنوه، قال ابن
عباس: أخذ التابوت قوم جالوت، فذفنوه في متبرز لهم، فأخذهم
الباسور فهلكوا، ثم أخذه أهل مدينة أخرى، فأخذهم بلاء، فهلكوا،
ثم أخذه غيرهم كذلك، حتى هلكت خمس مدائن، فأخرجوه على بقرتين،
ووجهوهما إلى بني إسرائيل، فساقتهما الملائكة. والثاني: أنه
كان في برية التيه، خلّفه فيها يوشع، ولم يعلموا بمكانه حتى
جاءت به الملائكة، قاله قتادة.
وفي كيفية مجيء الملائكة به قولان: أحدهما: أنها جاءت به
بأنفسها، قال وهب: قالوا لنبيهم:
اجعل لنا وقتاً يأتينا فيه، فقال: الصبح، فلم يناموا ليلتهم،
ووافت به الملائكة مع الفجر، فسمعوا حفيف الملائكة تحمله بين
السماء والأرض. والثاني: أن الملائكة جاءت به على عجلة وثورين،
ذكر عن وهب أيضاً. فعلى القول الأول: يكون معنى تحمله: تقله،
وعلى الثاني: يكون معنى حملها إياه:
تسببها في حمله.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ، أي: علامة تدل
على تمليك طالوت. قال المفسرون: فلما جاءهم التابوت وأقروا له
بالملك، تأهب للخروج، فأسرعوا في طاعته، وخرجوا معه، فذلك قوله
تعالى:
[سورة البقرة (2) : آية 249]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ
مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ
اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ
قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ
وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا
اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
قوله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ، أي: خرج وشخص. وفي عدد
من خرج معه ثلاثة أقوال:
__________
(1) في «اللسان» القفيز: من المكاييل، معروف، وهو ثمانية
مكاكيك عند أهل العراق.
(1/225)
وَلَمَّا بَرَزُوا
لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ (250)
أحدها: سبعون ألفاً، قاله ابن عباس.
والثاني: ثمانون ألفاً، قاله عكرمة والسدي. والثالث: مائة ألف،
قاله مقاتل. قال: وساروا في حر شديد، فابتلاهم الله بالنهر.
والابتلاء: الاختبار. وفي النهر لغتان:
إحداهما: تحريك الهاء، وهي قراءة الجمهور. والثانية: تسكينها،
وبها قرأ الحسن ومجاهد. وفي هذا النهر قولان: أحدهما: أنه نهر
فلسطين، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: نهر بين الأردن
وفلسطين، قاله عكرمة، وقتادة، والربيع بن أنس.
ووجه الحكمة في ابتلائهم أن يعلم طالوت من له نية في القتال
منهم، ومن ليس له نيّة.
وقوله تعالى: فَلَيْسَ مِنِّي أي ليس من أصحابي. قوله تعالى:
إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً، قرأ ابن كثير ونافع وأبو
عمرو: «غَرفة» بفتح الغين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي
بضمها، قال الزجاج: من فتح الغين أراد المرة الواحدة باليد،
ومن ضمها أراد ملء اليد. وزعم مقاتل أن الغرفة كان يشرب منها
الرجل ودابته وخدمه ويملأ قربته. وقال بعض المفسرين: لم يرد به
غرفة الكف، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه
ذلك. وفي عدد القليل الذين لم يشربوا إلا غرفة قولان:
أحدهما: أنهم أربعة آلاف، قاله عكرمة والسدي. والثاني:
ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وهو الصحيح، لما روي عن النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم أنه قال لأصحابه يوم بدر:
(134) «أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت» ، وكانوا يوم
بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر.
قوله تعالى: لا طاقَةَ لَنَا، أي: لا قوّة لنا، قال الزجّاج:
أطقت الشيء، إطاقة وطاقة، وطوقاً، مثل قولك: أطعته إطاعة وطاعة
وطوعاً. واختلفوا في القائلين لهذا على ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم الذين شربوا أكثر من غرفة، فإنهم انصرفوا ولم يشهدوا،
وكانوا أهل شك ونفاق، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنهم
الذين قلت بصائرهم من المؤمنين، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.
والثالث:
أنه قول الذين جاوزوا معه، وإنما قال ذلك بعضهم لبعض، لما رأوا
من قلتهم، وهذا اختيار الزجاج.
قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ في هذا الظن قولان:
أحدهما: أنه بمعنى اليقين، قاله السدي في آخرين. والثاني: أنه
الظن الذي هو التردد، فان القوم توهموا لقلة عددهم أنهم
سيقتلون فيلقون الله، قاله الزجاج في آخرين. وفي الظانين هذا
الظن قولان: أحدهما: أنهم الثلاثمائة والثلاثة عشر، قالوا
للراجعين: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، قاله السدي.
والثاني: أنهم أُولو العزم والفضل من الثلاثمائة والثلاثة عشر.
والفئة: الفرقة، قال الزجاج: وإنما قيل لهم: فئة من قولهم:
فأوت رأسه بالعصا، وفأيته: إذا شققته. قوله تعالى: بِإِذْنِ
اللَّهِ، قال الحسن: بنصر الله. قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ: أي بالنصر والإعانة.
[سورة البقرة (2) : آية 250]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا
أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا
عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250)
(134) أخرجه الطبري 5732 عن قتادة مرسلا. وورد عن البراء بن
عازب قال «كنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم نتحدث أن عدة
أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم
يجاوز معه إلّا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة» . أخرجه البخاري 3958
وهذا هو الصواب، كونه موقوفا.
(1/226)
فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ
الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ
(251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
قوله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا، أي: صاروا
بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر واستوى. وأَفْرِغْ بمعنى: اصبب
وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي: قوِّ قلوبنا لتثبيت أقدامنا، وإنما
تثبت الأقدام عند قوة القلوب. قال مقاتل: كان جالوت وجنوده
يعبدون الأوثان.
[سورة البقرة (2) : آية 251]
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ
وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا
يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْعالَمِينَ (251)
قوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ أي: كسروهم وردوهم، قال الزجاج: أصل
الهزم في اللغة: كسر الشيء، وثني بعضه على بعض، يقال: سقاء
منهزم ومهزم إذا كان بعضه قد ثني على بعض مع جفاف، وقصب منهزم:
قد كسر وشقق، والعرب تقول: هزمت على زيد، أي: عطفت عليه. قال
الشاعر:
هزمت عليك اليوم يا ابنة مالك ... فجودي علينا بالنوال وأنعمي
ويقال: سمعت هزمة الرعد، قال الأصمعي: كأنه صوت فيه تشقق.
وداود: هو نبي الله أبو سليمان، وهو اسم أعجمي، وقيل: إن إخوة
داود كانوا مع طالوت، فمضى داود لينظر إليهم، فنادته أحجار:
خذني، فأخذها، وجاء إلى طالوت، فقال: ما لي إن قتلت جالوت؟
قال: ثلث ملكي، وأنكحك ابنتي، فقتل جالوت.
قوله تعالى: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، يعني: آتى داود ملك
طالوت. وفي المراد ب «الحكمة» هاهنا قولان: أحدهما: أنها
النبوَّة، قاله ابن عباس. والثاني: الزبور، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ، فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها صنعة الدروع. والثاني:
الزبور. والثالث: منطق الطير. قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قرأ الجمهور دَفْعُ بغير
ألف هاهنا، وفي «الحج» «إن الله يدفع» ، وقرأ نافع، ويعقوب،
وأبان (ولولا دفاع الله) .
قال أبو علي: المعنيان متقاربان، قال الشاعر «1» :
ولقد حَرصتُ بأن أدافع عنهمُ ... فاذا المنية أقبلت لا تدفع
وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أن معناه: لولا أن الله يدفع
بمن أطاعه عن من عصاه، كما دفع عن المتخلفين عن طالوت بمن
أطاعه، لهلك العُصاة بسرعة العقوبة، قاله مجاهد.
والثاني: أن معناه، لولا دفع الله المشركين بالمسلمين، لغلب
المشركون على الأرض، فقتلوا المسلمين، وخربوا المساجد، قاله
مقاتل. ومعنى: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ: لهلك أهلها.
[سورة البقرة (2) : آية 252]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ، أي: نقص
عليك من أخبار المتقدمين.
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حُكمُك حكمهم، فمن صدقك،
فسبيله سبيل من صدقهم، ومن عصاك، فسبيله سبيل من عصاهم.
__________
(1) هو أبو ذؤيب الهذلي.
(1/227)
تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ
اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ
كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا
شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ
سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ
حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
[سورة البقرة (2) : آية 253]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ
مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ
اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ
يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)
قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ، يعني:
موسى عليه السلام. وقرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك «1» ، وابن
السّميفع: «منهم من كالم الله» بألف خفيفة اللام، ونصب اسم
«الله» .
وفي المراد بقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ قولان:
أحدهما: عنى بالمرفوع درجات، محمّدا عليه السلام، فإنه بعث إلى
الناس كافة، وغيره بعث إلى أمته خاصة، هذا قول مجاهد. والثاني:
أنه عنى تفضيل بعضهم على بعض فيما آتاه الله، هذا قول مقاتل.
قال ابن جرير الطبري: والدرجات:
جمع درجة، وهي المرتبة، وأصل ذلك: مراقي السلَّم ودَرجه، ثم
يستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب. وقد تقدم تفسير «البينات»
و «روح القدس» .
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ، أي: من بعد الأنبياء. وقال قتادة: من بعد موسى
وعيسى. قال مقاتل: وكان بينهما ألف نبي.
قوله تعالى: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا يعني: الأمم.
[سورة البقرة (2) : آية 254]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(254)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقْناكُمْ، هذه الآية تحث على الصدقات، والإنفاق في وجوه
الطاعات. وقال الحسن: أراد الزكاة المفروضة.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ، يعني: يوم
القيامة لا بَيْعٌ فِيهِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو:
(لا بيعَ فيه ولا خلةَ ولا شفاعةَ) بالنصب من غير تنوين، ومثله
في «إبراهيم» : «لا بيعَ فيه» ، وفي الطور: «لا لغوَ فيها ولا
تأثيمَ» ، وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، جميع
ذلك بالرفع والتنوين. قال ابن عباس: لا فدية فيه، وقيل: إنما
ذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة، وأخذ البدل. والخلة:
الصداقة. وقيل: إنما نفى هذه الأشياء، لأنه عنى عن الكافرين،
وهذه الأشياء لا تنفعهم، ولهذا قال: وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ.
[سورة البقرة (2) : آية 255]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا
تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما
فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ
حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
__________
(1) هو عثمان بن نهيك، تابعي ثقة.
(1/228)
قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
(135) روى مسلم في «صحيحه» عن أبيّ بن كعب، أن النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم قال له: «يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب
الله أعظم؟» قال: قلت: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ، قال: فضرب في صدري! قال: «ليهنك العلم يا أبا
المنذر» .
قال أبو عبيدة: القيوم: الذي لا يزول، لاستقامة وصفه بالوجود،
حتى لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه. وقال الزجاج:
القيوم: القائم بتدبير أمر الخلق. وقال الخطابي: القيوم: هو
القائم الدائم بلا زوال، وزنه: «فيعول» من القيام، وهو نعت
للمبالغة للقيام على الشيء، ويقال: هو القائم على كل شيء
بالرعاية، يقال: قمت بالشيء: إذا وليته بالرعاية والمصلحة. وفي
«القيوم» ثلاث لغات: القيّوم، وبه قرأ الجمهور، والقيّام، وبه
قرأ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن أبي عبلة، والأعمش.
و «القيّم» ، وبه قرأ أبو رزين، وعلقمة. وذكر ابن الأنباري أنه
كذلك في مصحف ابن مسعود، قال:
وأصل القيوم: القيووم. فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن،
جعلتا ياء مشددة. وأصل القيام:
القوام، قال الفراء: وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفيعال،
فيقولون للصواغ: صياغ.
فأما «السِنَة» فهي: النعاس من غير نوم، ومنه: الوسنان. قال
ابن الرقاع:
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النعاس فرنَّقت ... في عينه سنة وليس بنائم «1»
قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، قال
بعض العلماء: إنما لم يقل: والأرضين، لأنه قد سبق ذكر الجمع في
السماوات، فاستغنى بذلك عن إعادته، ومثله: وَجَعَلَ
الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ولم يقل: والأنوار. قوله تعالى: مَنْ
ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فيه رد على
من قال: ما نعبُدُهم إلا لِيُقَرِّبونا إِلى الله زُلْفى. قوله
تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، ظاهر
الكلام يقتضي الإشارة إلى جميع الخلق، وقال مقاتل: المراد بهم
الملائكة. وفي المراد ب ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ
ثلاثة أقوال: أحدها: أن الذي بين أيديهم أمر الآخرة، والذي
خلفهم أمر الدنيا، روي عن ابن عباس، وقتادة. والثاني: أن الذي
بين أيديهم الدنيا، والذي خلفهم الآخرة، قاله السدي عن أشياخه،
ومجاهد، وابن جريج، والحكم بن عتيبة. والثالث: ما بين أيديهم:
ما قبل خلقهم، وما خلفهم: ما بعد خلقهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ، قال الليث: يقال لكل من أحرز
شيئاً، أو بلغ علمه أقصاه: قد أحاط به. والمراد بالعلم هاهنا
المعلوم. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ، أي: احتمل وأطاق. وفي المراد
بالكرسي ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كرسي فوق السماء السابعة دون
العرش.
__________
صحيح. أخرجه مسلم 810 وأبو داود 1460 وأحمد 5/ 58. وانظر
«تفسير الشوكاني» 403 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» الحور شدة سواد المقلة في شدة بياضها، في شدة
بياض الجسد. والجآذر: جمع الجؤذر وهو ولد البقر، وفي «الصحاح»
: البقرة الوحشية. رنّق النوم في عينه: خالطها.
(1/229)
لَا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
(136) قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«ما السّماوات السبع في الكرسي إِلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة»
. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء. والثاني: أن المراد
بالكرسي علم الله تعالى، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثالث:
أن الكرسي هو العرش، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَلا يَؤُدُهُ، أي: لا يثقله، يقال: آده الشيء
يؤوده أوداً وإِياداً. والأود: الثقل، وهذا قول ابن عباس،
وقتادة، والجماعة. والعلي: العالي القاهر، «فعيل» بمعنى «فاعل»
قال الخطابي:
وقد يكون من العلو الذي هو مصدر: علا يعلو، فهو عال كقوله
تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «1» ، ويكون ذلك من
علاء المجد والشرف، يقال منه: علي يعلى علاءً. ومعنى العظيم:
ذو العظمة والجلال، والعظم في حقه تعالى منصرف إلى عظم الشأن،
وجلالة القدر، دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام.
[سورة البقرة (2) : آية 256]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، في سبب نزولها أربعة
أقوال:
(137) أحدها: أن المرأة من نساء الأنصار كانت في الجاهلية إذا
لم يعش لها ولد، تحلف: لئن
__________
حسن بشواهده، ورد مرفوعا من وجوه، فقد أخرجه الطبري 5795 وأبو
الشيخ في «العظمة» 222 كلاهما عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن
أبيه مرسلا، ومع إرساله، فإن ابن زيد واه. قاله الذهبي في
«العلو» ص 91 اه. وقد أخرجه ابن حبان 361 وأبو نعيم في
«الحلية» 1/ 166 وأبو الشيخ في «العظمة» 261 والبيهقي في
«الأسماء والصفات» 862 من طريق إبراهيم بن هشام الغساني بسنده
عن أبي ذر، والغساني هذا ضعيف جدا، وقال الذهبي: متروك وكذبه
أبو حاتم وأبو زرعة. لكن تابعه يحيى بن سعيد القرشي السعدي عند
ابن عدي 7/ 2699 وأبي الشيخ في «العظمة» 208 وأبي نعيم 1/ 168
والطبراني 5795 والبيهقي 9/ 4 وفي الأسماء والصفات 861 من حديث
أبي ذر. ويحيى القرشي هذا ضعيف، جرحه ابن حبان وقال ابن عدي:
هذا حديث منكر من هذا الطريق. وأخرجه أبو الشيخ في «العظمة»
254 عن إسماعيل من عياش بسنده عن أبي ذر، به، وإسماعيل ضعيف في
روايته عن غير الشاميين، وشيخه هاهنا حجازي، وفي الإسناد
انقطاع. وأخرجه ابن أبي شيبة في «العرش» 58 من وجه آخر من حديث
أبي ذر، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وهو المكي، وهو ضعيف.
وتابعه عليه القاسم بن محمد المصري عند ابن مردويه كما في
«تفسير ابن كثير» 1/ 317 والقاسم ضعيف. وانظر مزيد الكلام عليه
في «تفسير ابن كثير» بتخريجي. وصححه الألباني في «الصحيحة» 109
لطرقه والصواب أنه لا يرقى عن درجة الحسن، فعامة طرقه شديدة
الضعف.
تنبيه: وقع عند الألباني في «الصحيحة» 1/ 175 أن ابن زيد في
رواية الطبري هو عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن
الخطاب، فوهم بذلك فإن ابن جرير يروي عن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم، وهو المراد عند الإطلاق في تفسيره.
حسن. أخرجه الطبري 5819 والبيهقي 9/ 186 من طريق أبي عوانة عن
أبي بشر عن سعيد بن جبير مرسلا.
ووصله أبو داود 2682 والنسائي في «الكبرى» 11048. وابن حبان
140 والطبري 5813 والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص 82 والواحدي
في «أسباب النزول» 158 و 159. والبيهقي 9/ 186 من طرق عن شعبة
عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهذا الإسناد رجاله
رجال الصحيح. لكن أرسله أبو عوانة فيما تقدم فالحديث حسن إن
شاء الله.
__________
(1) طه: 5.
(1/230)
عاش لها ولد لتهوّدنّه. فلما أجليت يهود
بني النضير، كان فيهم ناس من أبناء الأنصار. فقال الأنصار:
يا رسول الله أبناؤنا؟ فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
وقال الشعبي: قالت الأنصار: والله لنكرهن أولادنا على الإسلام،
فإنّا إنّما جعلنا في دين اليهود إذ لم نعلم ديناً أفضل منه،
فنزلت هذه الآية.
(138) والثاني: أن رجلا من الأنصار تنصّر له ولدان قبل أن يبعث
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما،
وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا، فاختصموا إلى النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول مسروق.
والثالث: أن ناساً كانوا مسترضعين في اليهود، فلما أجلى رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم بني النضير، قالوا: والله لنذهبن
معهم، ولندينن بدينهم، فمنعهم أهلوهم، وأرادوا إكراههم على
الإسلام، فنزلت الآية «1» .
والرابع: أن رجلاً من الأنصار كان له غلام اسمه صبيح، كان
يكرهه على الإسلام، فنزلت هذه الآية، والقولان عن مجاهد.
فصل: واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية،
فذهب قوم إلى أنه محكم، وأنه من العام المخصوص، فإنه خص منه
أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام، بل يخيّرون بينه وبين
أداء الجزية، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وقال ابن الأنباري: معنى الآية:
ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم
يشهد به القلب، وتنطوي عليه الضمائر، إنما الدين هو المنعقد
بالقلب. وذهب قوم إلى أنه منسوخ، وقالوا هذه الآية نزلت قبل
الأمر بالقتال، فعلى قولهم، يكون منسوخاً بآية السيف، وهذا
مذهب الضحاك، والسدي، وابن زيد.
والدين هاهنا: أريد به الإسلام. والرشد: الحق، والغي: الباطل.
وقيل: هو الإيمان والكفر.
وأما الطاغوت فهو اسم مأخوذ من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، قال
ابن قتيبة: الطاغوت: واحد، وجمع، ومذكّر، ومؤنث. قال تعالى:
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، وقال: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا
الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها «2» ، والمراد بالطاغوت هاهنا
خمسة أقوال: أحدها: أنه الشيطان «3» ، قاله عمر وابن عباس
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 162 عن مسروق بدون سند فلا حجة
فيه، وله شاهد من مرسل السدي، أخرجه الطبري 5820 ومع إرساله،
السدي يروي مناكير.
- وفي الباب من حديث ابن عباس عن الطبري 5818 لكن إسناده ضعيف
فيه محمد بن أبي محمد، وهو مجهول، والراجح في هذا هو المتقدم
أولا عن ابن عباس وغيره، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه الطبري 5821 و 5822 من طريقين عن مجاهد، وهذا مرسل.
(2) الزمر: 17.
(3) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 311: معنى قوله في الطاغوت: إنه
الشيطان، قوي جدا فإنه يشمل كل شرّ كان عليه أهل الجاهلية. من
عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها.
(1/231)
اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
ومجاهد والشعبي والسدي ومقاتل في آخرين.
والثاني: أنه الكاهن، قاله سعيد بن جبير وأبو العالية.
والثالث: أنه الساحر، قاله محمد بن سيرين. والرابع: أنه
الأصنام، قاله اليزيدي والزجاج. والخامس:
أنه مردة أهل الكتاب، ذكره الزجاج أيضاً. قوله تعالى: فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى هذا مثلَ للإيمان شبَّه
التمسك به بالمتمسك بالعروة الوثيقة. وقال الزجاج: معنى
الكلام: فقد عقد لنفسه عقداً وثيقاً. والانفصام: كسر الشيء من
غير إبانة.
[سورة البقرة (2) : آية 257]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ
إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (257)
قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، أي: متولي
أمورهم، يهديهم، وينصرهم، ويعينهم.
والظلمات: الضلالة، والنّور، الهدى، والطّاغوت: الشياطين، هذا
قول ابن عباس، وعكرمة في آخرين. وقال مقاتل: الذين كفروا: هم
اليهود، والطاغوت: كعب بن الأشرف. قال الزجّاج:
الطّاغوت هاهنا: واحد في معنى جماعة، وهذا جائز في اللغة إذا
كان في الكلام دليل على الجماعة.
قال الشاعر «1» :
بِها جِيَفُ الْحَسْرَى فأَمّا عِظامُها ... فَبِيضٌ وأَمّا
جلدها فصليب
يريد جلودها، فان قيل: متى كان المؤمنون في ظلمة؟ ومتى كان
الكفار في نور؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن عصمة الله
للمؤمنين عن مواقعة الضلال، إخراج لهم من ظلام الكفر، وتزيين
قرناء الكفار لهم الباطل الذي يحيدون به عن الهدى، إخراج لهم
من نور الهدى، و «الإخراج» مستعار هاهنا.
وقد يقال للممتنع من الشيء: خرج منه، وإن لم يكن دخل فيه. قال
تعالى: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ «2» ، وقال: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ «3» ، وقد سبقت شواهد هذا في قوله تعالى:
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «4» . والثاني: أن إيمان
أهل الكتاب بالنبي قبل أن يظهر نورٌ لهم، وكفرهم به بعد أن
ظهر، خروج إلى الظلمات. والثالث: أنه لما ظهرت معجزات رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم، كان المخالف له خارجاً من نور قد
علمه، والموافق له خارجاً من ظلمات الجهل إلى نور العلم.
[سورة البقرة (2) : آية 258]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ
أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ
إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي
رَبِّهِ، قد سبق معنى «ألم تر» . وحاجّ: بمعنى خاصم، وهو نمروذ
في قول الجماعة. قال ابن عباس: ملك الأرض شرقها وغربها مؤمنان،
وكافران فالمؤمنان سليمان بن داود، وذو القرنين. والكافران:
نمروذ، وبختنصر «5» . قال ابن قتيبة:
__________
(1) هو علقمة بن عبدة بن النعمان. والحسرى: الإبل المعيبة
المريضة. الصليب هنا: الجلد اليابس.
(2) يوسف: 37.
(3) النحل: 70. [.....]
(4) البقرة: 210.
(5) هذا قول بلا برهان، مصدره كتب الأقدمين، وهو قول بعيد جدا.
(1/232)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ
أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ
اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ
قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ
لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ
آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ
قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(259)
معنى الآية: حاجَّ إبراهيم، لأن الله آتاه
الملك، فأعجب بنفسه وملكه.
قوله تعالى: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ، قال بعضهم: هذا جواب سؤال سابق غير مذكور، تقديره:
أنه قال له: من ربك؟ فقال: ربّي الذين يحيي ويميت. قال نمروذ:
أنا أحيي وأميت. قال ابن عباس: يقول: أترك من شئت، وأقتل من
شئت. فإن قيل: لم انتقل إبراهيم إلى حجة أخرى، وعدل عن نصرة
الأولى؟ فالجواب: أن إبراهيم رأى من فساد معارضته أمرا يدل على
ضعف فهمه، فإنه عارض اللفظ بمثله، ونسي اختلاف الفعلين، فانتقل
إلى حجة أخرى، قصداً لقطع المحاجّ لا عجزاً عن نصرة الأولى.
وقرأ أبن رزين العقيلي، وابن السميفع: فبهت، بفتح الباء
والهاء، وقرأ أبو الجوزاء، ويحيى بن يعمر، وأبو حياة: فبهت
بفتح الباء، وضم الهاء. قال الكسائي: ومن العرب من يقول: بهت،
وبهت، بكسر الهاء وضمها وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ، يعني: الكافرين. قال مقاتل: لا يهديهم إلى
الحجّة، وعنى بذلك نمروذ.
[سورة البقرة (2) : آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها
فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ
لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ
لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ
آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها
ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ
أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ، قال الزجاج:
هذا معطوف على معنى الكلام الذي قبله، أرأيت كالذي حاج
إبراهيم، أو كالذي مر على قرية؟ وفي المراد بالقرية قولان:
أحدهما: أنها بيت المقدس لما خربه بختنصر، قاله وهب، وقتادة،
والربيع بن أنس. والثاني: أنها التي خرج منها الألوف حذر
الموت، قاله ابن زيد. وفي الذي مر عليها ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه عزير، قاله علي بن أبي طالب، وأبو العالية، وعكرمة، وسعيد
بن جبير، وناجية بن كعب، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل.
والثاني: أنه أرمياء، قاله وهب، ومجاهد وعبد الله بن عبيد بن
عمير. والثالث: أنه رجل كافر شك في البعث، نقل عن مجاهد أيضاً.
والخاوية: الخالية، قاله الزجاج. وقال ابن قتيبة: الخاوية:
الخراب، والعروش: السقوف، وأصل ذلك أن تسقط السقوف، ثم تسقط
الحيطان عليها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ، أي: كيف
يحييها.
فإن قلنا: إن هذا الرجل نبي، فهو كلام من يؤثر أن يرى كيفية
الإعادة، أو يستهولها، فيعظم قدرة الله، وإن قلنا: إنه كان
رجلاً كافراً، فهو كلام شاك، والأول أصح.
قوله تعالى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ.
(الاشارة الى قصته) روى ناجية بن كعب عن عليّ عليه السلام،
قال: خرج عزير نبي الله من مدينته، وهو رجل شاب، فمر على قرية،
وهي خاوية على عروشها، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها،
فأماته الله مائة
(1/233)
عام، ثم بعثه، وأول ما خلق الله منه عيناه،
فجعل ينظر إلى عظمه تنضمّ بعضها إلى بعض، ثم كسيت لحماً، ونفخ
فيها الروح. قال الحسن: قبضه الله أول النهار، وبعثه الله آخر
النهار بعد مائة سنة. قال مقاتل: ونودي من السماء: كم لبثت؟
قال قتادة: فقال: لبثت يوماً، ثم نظر فرأى بقية من الشمس،
فقال: أو بعض يوم. فهذا يدل على أنه عزير.
وقال وهب بن منبه: أقام أرميا بأرض مصر فأوحى الله إليه أن
الحق بأرض إيلياء، فركب حماره، وأخذ معه سلة من عنب وتين، ومعه
سقاء جديد، فيه ماء، فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من
القرى والمساجد نظر إلى خراب لا يوصف فلما رأى هدم بيت المقدس
كالجبل العظيم قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ثم نزل منها
منزلاً، وربط حماره، وعلق سقاءه، وألقى الله عليه النوم، ونزع
روحه مائة عام، فلما مر منها سبعون عاماً، أرسل الله ملكاً إلى
ملك من ملوك فارس، عظيم، فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك،
فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أعمر ما كانت،
فانتدب ثلاثمائة قهرمان، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل، وما
يصلحه من أداة العمل، فسار إليها قهارمته ومعهم ثلاثمائة ألف
عامل. فلما وقعوا في العمل، رد الله روح الحياة في عيني أرميا،
وآخر جسده ميت، فنظر إليها تعمر، فلما تمت بعد ثلاثين سنة رد
الله إليه الروح، فنظر إلى طعامه وشرابه فلم يتسنّه، ونظر إلى
حماره واقفاً كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى
الرّمّة في عنق الحمار لم تتغير ولم تنتقص شيئاً وقد نحل جسم
أرميا من البلى، فأنبت الله له لحماً جديداً ونشز عظامه وهو
ينظر، فقال له الله: (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه، وانظر
إلى حمارك ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم
نكسوها لحماً فلما تبين له قال: اعلم أن الله على كل شيء قدير)
.
وزعم مقاتل أن هذه القصة كانت بعد رفع عيسى عليه السلام.
قوله تعالى: كَمْ لَبِثْتَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم «لبثت»
و «لبثتم» في كل القرآن باظهار التاء، وقرأ أبو عمرو، وابن
عامر، وحمزة، والكسائي بالإدغام، قال أبو علي الفارسي: من بين
«لبثت» فلتباين المخرجين، وذلك أن الظاء والذال والثاء من حيز،
والطاء والتاء والدال من حيز، فلما تباين المخرجان، واختلف
الحيزان، لم يدغم. ومن أدغمهما أجراها مجرى المثلين، لاتفاق
الحرفين في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا، واتفاقهما في
الهمس، ورأى الذي بينهما من الاختلاف يسيراً، فأجراهما مجرى
المثلين. فأما طعامه وشرابه، فقال وهب: كان معه مكتل فيه عنب
وتين، وقلة فيها ماء. وقال السدي: كان معه تين وعنب، وشرابه من
العصير، ولم يحمض التين والعنب، ولم يختمر العصير.
قوله تعالى: لَمْ يَتَسَنَّهْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو،
وعاصم، وابن عامر: يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ «1» وما أَغْنى
عَنِّي مالِيَهْ «2» وسُلْطانِيَهْ «3» وما هِيَهْ «4» بإثبات
الهاء في الوصل.
وقرأ الكسائيّ في حذف موضعين يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ وكلهم يقف
على الهاء. ولم يختلفوا في كِتابِيَهْ وحِسابِيَهْ بالهاء
وصلاً ووقفاً. فأما معنى: لَمْ يَتَسَنَّهْ، فقال ابن عباس،
والحسن،
__________
(1) الأنعام: 90.
(2) الحاقة: 28.
(3) الحاقة: 29.
(4) القارعة: 10.
(1/234)
وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ
ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
وقتادة في آخرين: لم يتغير. وقال ابن
قتيبة: لم يتغير بمر السنين عليه، واللفظ مأخوذ من السّنه،
يقال:
سانهت النخلة: إذا حملت عاماً، وحالت عاماً.
قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ، قال مقاتل: انظر إليه،
وقد ابيضت عظامه، وتفرقت أوصاله، فأعاده الله. قوله تعالى:
وَلِنَجْعَلَكَ اللام صلة مضمر تقديره: فعلنا بك ذلك لنراك
قدرتنا، ولنجعلك آية للناس، أي: علَماً على قدرتنا، فأضمر
الفعل لبيان معناه. قال ابن عباس: مات وهو ابن أربعين سنة،
وابنه ابن عشرين سنة، ثم بعث وهو ابن أربعين وابنه ابن عشرين
ومائة، ثم أقبل حتى أتى قومه في بيت المقدس، فقال لهم: أنا
عزير، فقالوا: حدثنا آباؤنا أن عزيراً مات بأرض بابل، فقال
لهم: أنا هو أرسلني الله إليكم أجدد لكم توراتكم، وكانت قد
ذهبت، وليس منهم أحد يقرؤها فأملاها عليهم.
قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ، قيل: أراد عظام نفسه،
وقيل: عظام حماره، وقيل: هما جميعاً. قوله تعالى: كَيْفَ
نُنْشِزُها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «ننشرها» بضم النون
الأولى، وكسر الشين وراء مضمومة. ومعناه: نحييها. يقال: أنشر
الله الميت، فنشر. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
(ننشزها) بضم النون مع الزاي، وهو من النشز الذي هو الارتفاع.
والمعنى: نرفع بعضها إلى بعض للأحياء. وقرأ الأعمش: (ننشزها)
بفتح النون ورفع الشين مع الزاي.
وقرأ الحسن، وأبان، عن عاصم: ننشرها، بفتح النون مع الراء،
كأنه من النشر عن الطي، فكأن الموت طواها، والإحياء نشرها.
قوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ، أي: بان له إحياء
الموتى، قالَ أَعْلَمُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن
عامر: «أعلم» مقطوعة الألف، مضمومة الميم. والمعنى: قد علمت ما
كنت أعلمه غيباً مشاهدة. وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف، وسكون
الميم على معنى الأمر، والابتداء، على قراءتهما بكسر الهمزة،
وظاهر الكلام أنه أمر من الله له. وقال أبو علي: نزل نفسه
منزلة غيره فأمرها وخاطبها. وقرأ الجعفي «1» عن أبي بكر:
«أعلم» بكسر اللام على معنى الأمر بإعلام الغير.
[سورة البقرة (2) : آية 260]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ
الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ
مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ الْمَوْتى في سبب سؤاله هذا أربعة أقوال:
أحدها: أنه رأى ميتة تمزقها الهوام والسباع فسأل هذا السؤال،
وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني،
وابن جريج، ومقاتل. وما الذي كانت هذه الميتة؟ فيه ثلاثة
أقوال: أحدها: كان رجلاً ميتاً، قاله ابن عباس. والثاني: كان
جيفة حمار، قاله ابن جريج، ومقاتل.
والثالث: كان حوتاً ميتاً، قاله ابن زيد.
__________
(1) هو الإمام أبو علي الحسين بن علي الجعفي الكوفي، توفي سنة
203.
(1/235)
والثاني: أنه لما بشر باتخاذ الله له
خليلاً، سأل هذا السؤال ليعلم صحة البشارة، ذكره السدي عن ابن
مسعود، وابن عباس. وروي عن سعيد بن جبير أنه لما بشر بذلك،
قال: ما علامة ذلك؟ قال: أن يجيب الله دعاءك، ويحيي الموتى
بسؤالك، فسأل هذا السؤال.
والثالث: أنه سأل ذلك ليزيل عوارض الوسواس، وهذا قول عطاء بن
أبي رباح.
والرابع: أنه لما نازعه نمروذ في إحياء الموتى سأل ذلك ليرى ما
أخبر به عن الله تعالى، وهذا قول محمد بن إسحاق.
قوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ، أي: أولست قد آمنت أني أحيي
الموتى؟ وقال ابن جبير: ألم توقن بالخلة؟ قوله تعالى: بَلى
وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، «اللام» متعلقة بفعل مضمر،
تقديره: ولكن سألتك ليطمئن، أو أرني ليطمئن قلبي، ثم في المعنى
أربعة أقوال: أحدها: لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، قاله ابن
عباس. والثاني: ليزداد قلبي يقيناً، قاله سعيد بن جبير. وقال
الحسن: كان إبراهيم موقناً، ولكن ليس الخبر كالمعاينة.
والثالث: ليطمئن قلبي بالخلة، روي عن ابن جبير أيضاً. والرابع:
أنه كان قلبه متعلقاً برؤية إحياء الموتى، فأراد: ليطمئن قلبه
بالنظر، قاله ابن قتيبة. وقال غيره: كانت نفسه تائقة إلى رؤية
ذلك، وطالب الشيء قلق إلى أن يظفر بطلبته، ويدلّ على أنه لم
يسأل لشك، أنه قال: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، وما قال:
هل تحيي الموتى؟
قوله تعالى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ في الذي أخذ
سبعة أقوال: أحدها: أنها الحمامة، والديك، والكركيّ، والطّاوس،
رواه عبد الله بن هبيرة عن ابن عباس. والثاني: أنها الطّاوس،
والديك، والدجاجة السندية، والأوزة، رواه الضحاك عن ابن عباس.
وفي لفظ آخر، رواه الضحاك مكان الدجاجه السندية الرأل، وهو فرخ
النعام. والثالث: أنها الشّعانين، وكان قرباهم يومئذ، رواه أبو
صالح عن ابن عباس. والرابع: أنها الطّاوس، والنسر، والغراب،
والديك، نقل عن ابن عباس أيضا.
والخامس: أنها الدّيك، والطّاوس والغراب، والحمام، قاله عكرمة،
ومجاهد، وعطاء، وابن جريج، وابن زيد. والسادس: أنها ديك،
وغراب، وبطّ، وطاوس، رواه ليث عن مجاهد. والسابع: أنها الديك،
والبطة، والغراب، والحمامة، قاله مقاتل. وقال عطاء الخراساني:
أوحى الله إليه أن خذ بطة خضراء وغراباً أسود، وحمامة بيضاء،
وديكاً أحمر.
قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، قرأ الجمهور بضم الصاد،
والمعنى: أملهن إليك، يقال: صرت الشيء فانصار، أي: أملته فمال،
وأنشدوا «1» :
الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى جيراننا صور «2»
فمعنى الكلام: اجمعهن إليك. ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ
مِنْهُنَّ جُزْءاً فيه إضمار قطعهن. قال ابن قتيبة: أضمر
«قطعهن» ، واكتفى بقوله: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ
مِنْهُنَّ جُزْءاً، عن قوله: «قطعهن» لأنه يدل عليه، وهذا كما
تقول: خذ هذا الثوب، واجعل على كل رمح عندك منه علماً. يريد:
قطعه،
__________
(1) البيت ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «صور» ولم ينسبه
لقائل.
(2) في «اللسان» : الصّور: الميل ورجل أصور بين الصّور: مائل
مشتاق.
(1/236)
وافعل ذلك، وقرأ أبو جعفر، وحمزة، وخلف،
والمفضّل، عن عاصم «فصرهنّ» بكسر الصاد. قال اليزيدي: هما
واحد، وقال ابن قتيبة: الكسر والضم لغتان. قال الفراء: أكثر
العرب على ضم الصاد، وحدثني الكسائي أنه سمع بعض بني سليم
يقول: صرته، فأنا أصيره. وروي عن ابن عباس ووهب، وأبي مالك،
وأبي الأسود الدؤلي، والسدي، أن معنى المكسورة الصاد: قطعهن.
قوله تعالى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ
جُزْءاً، قال الزجاج: معناه: اجعل على كل جبل من كل واحد منهن
جزءاً. وروى عوف عن الحسن قال: اذبحهن ونتّفهنّ، ثم قطّعهنّ
أعضاء، ثم خلّط بينهنّ جميعا، ثم جزّأهما أربعة أجزاء، وضع على
كل جبل جزءاً. ثم تنحى عنهن، فدعاهن، فجعل يعدو كل جزء إلى
صاحبه حتى استوين كما كن، ثم أتينه يسعين. وقال قتادة: أمسك
رؤوسها بيده، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة،
والبضعة إلى البضعة، وهو يرى ذلك، ثم دعاهنّ، فأقبلن على
أرجلهن يلقي لكل طائر رأسه. وفي عدد الجبال التي قسمن عليها
قولان:
أحدهما: أنه قسمهنّ على أربعة جبال، قاله ابن عباس، والحسن،
وقتادة. وروي عن ابن عباس قال:
جعلهن أربعة أجزاء في أرباع الأرض، كأنه يعني جهات الإنسان
الأربع. والثاني: أنه قسمهن سبعة أجزاء على سبعة أجبال، قاله
ابن جريج، والسدي.
قوله تعالى: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، قال ابن
قتيبة: يقال: عدواً، ويقال: مشياً على أرجلهن، ولا يقال للطائر
إذا طار: سعى وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي: منيع لا
يغلب حَكِيمٌ فيما يدبر.
ويزعم مقاتل أن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشام قبل أن يكون له
ولد، وقبل نزول الصحف عليه، وهو ابن خمس وسبعين سنة «1» .
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 3/ 283: اختلف الناس في هذا السؤال
هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟. فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم
عليه السّلام شاكّا في إحياء الموتى قط وإنما طلب المعاينة،
وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به. ولهذا قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الخبر كالمعاينة» . وقال
الأخفش: لم يرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين. قال ابن
عطية: وترجم الطبري في تفسيره فقال: وقال آخرون سأل ذلك ربه،
لأنه شك في قدرة الله تعالى. وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس
قال ما في القرآن آية أرجى عندي منها وذكر عن عطاء بن أبي رباح
أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رب
أرني كيف تحيي الموتى وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» ثم رجّح
الطبري هذا القول. قلت: حديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عنه
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: نحن أحق بالشك من
إبراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
«ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركن شديد ولو لبثت في
السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» . قال ابن عطية: وما ترجم به
الطبري عندي مردود. وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن
عباس: «هي أرجى آية» . فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى
وسؤال الإحياء في الدنيا وليست فطنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي
أرجى آية لقوله أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي أن الإيمان كاف لا يحتاج
معه إلى تنقيح وبحث. وأما قول عطاء: «دخل قلب إبراهيم بعض ما
يدخل قلوب الناس» فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدّم. وأما
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «نحن أحق بالشك من إبراهيم»
فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم
أحرى ألا يشك فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي ورد
فيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ذلك محض الإيمان»
إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين
أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل
عليه السلام. وإحياء الموتى. إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم
أعلم به يدلك على ذلك رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فالشك
يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة
والخلّة والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها
رذيلة إجماعا. وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية
لم تعط شكا وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء
موجود متفرد الوجود عند السائل والمسؤول. ولكن لما وجدنا بعض
المنكرين لوجود شيء قد يعبّرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة
لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا
يصح، فلما كانت عبارة الخليل إبراهيم عليه السلام بهذا
الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له
الحقيقة فقال له: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى فكمل الأمر
وتخلّص من كل شك ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.
(1/237)
مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ
مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا
مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
[سورة البقرة (2) : آية 261]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي
كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ
يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)
قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، حدثنا عن ثعلب أنه قال: إنما المثل- والله
أعلم- للنفقة، لا للرجال، ولكن العرب إذا دل المعنى على ما
يريدون، حذفوا، مثل قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْعِجْلَ، فأضمر «الحب» لأن المعنى معلوم، فكذلك هاهنا. أراد:
مثل نفقة الذين ينفقون ونحو هذا قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
هُوَ خَيْراً لَهُمْ «1» . يريد: بخل الباخلين فحذف البخل. وفي
المراد ب «سبيل الله» قولان: أحدهما: أنه الجهاد.
والثاني: أنه جميع أبواب البر. قال أبو سليمان الدمشقي: والآية
مردودة على قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ، وقد أعلم الله عزّ وجلّ بضرب
هذا المثل، أن الحسنة في النفقة في سبيله تضاعف بسبعمائة ضعف.
وقال الشعبي: نفقة الرجل على نفسه وأهل بيته تضاعف بسبعمائة
ضعف.
قال ابن زيد: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، أي: يزيد على
السّبعمائة.
[سورة البقرة (2) : آية 262]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ
لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (262)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ قال ابن السائب ومقاتل: نزلت في عثمان بن عفان في
نفقته في غزوة تبوك، وشرائه بئر رومة، ركية بالمدينة، تصدق بها
على المسلمين، وفي عبد الرحمن بن عوف حين تصدق بأربعة آلاف
درهم، وكانت نصف ماله «2» .
وأما المنّ ففيه قولان: أحدهما: أنه المن على الفقير، ومثل أن
يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه
المن على الله بالصدقة، روي عن ابن عباس. فإن قيل:
كيف مدحهم بترك المنّ. ووصف نفسه بالمنّان؟ فالجواب: يقال: منّ
فلان على فلان: إذا أنعم عليه، فهذا الممدوح، قال الشاعر:
__________
(1) آل عمران: 185.
(2) لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب ومقاتل. أما ابن
السائب، فهو محمد بن السائب الكلبي، وهو متروك كذاب. وأما
مقاتل فهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو كذاب أيضا، فهذا أثر
باطل لا أصل له، ولم أجده عن غيرهما.
(1/238)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى
كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ
عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ
أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ
يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (265)
فمنِّي علينا بالسلام فإنما ... كلامك
ياقوت ودر منظم
أراد بالمن الإنعام. وأما الوجه المذموم، فهو أن يقال: منّ
فلان على فلان، إذا استعظم ما أعطاه، وافتخر بذلك قال الشاعر
في ذلك:
أنلت قليلاً ثم أسرعت منَّة ... فنيلك ممنون كذاك قليل
ذكر ذلك أبو بكر الأنباري.
وفي الأذى قولان: أحدهما: أنه مواجهة الفقير بما يؤذيه، مثل أن
يقول له: أنت أبداً فقير، وقد بليت بك، وأراحني الله منك.
والثاني: أنه يخبر بإحسانه إلى الفقير، من يكره الفقير إطلاعه
على ذلك، وكلا القولين يؤذي الفقير وليس من صفة المخلصين في
الصدقة. ولقد حدثنا عن حسان بن أبي سنان أنه كان يشتري أهل بيت
الرجل وعياله، ثم يعتقهم جميعاً، ولا يتعرف إليهم، ولا يخبرهم
من هو.
[سورة البقرة (2) : آية 263]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، أي: قول جميل للفقير، مثل أن
يقول له: يوسع الله عليك وَمَغْفِرَةٌ أي: يستر على المسلم
خلته وفاقته، وقيل: أراد بالمغفرة التجاوز عن السائل إن استطال
على المسؤول وقت رده خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً
وقد سبق بيانه.
[سورة البقرة (2) : آية 264]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ
بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ
النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ
وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا
كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)
قوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ، أي: لا تبطلوا
ثوابها، كما تبطل ثواب صدقة المرائي الذي لا يؤمن بالله، وهو
المنافق فَمَثَلُهُ، أي: مثل نفقته، كَمَثَلِ صَفْوانٍ، قال
ابن قتيبة: الصفوان:
الحجر، والوابل: أشد المطر، والصلد: الأملس. وقال الزجاج:
الصفوان: الحجر الأملس، وكذلك الصفا. وقال ثعلب: الصلد: النقي.
وروي عن ابن عباس، وقتادة، فَتَرَكَهُ صَلْداً، قالا: ليس عليه
شيء. وهذا مثل ضربه الله تعالى للمرائي بنفقته، لا يقدر يوم
القيامة على ثواب شيء مما أنفق.
[سورة البقرة (2) : آية 265]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ
مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ
جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها
ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ
بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، أي: طلباً لرضاه. وفي معنى
التثبيت قولان: أحدهما: أنه الإنفاق عن يقين وتصديق، وهذا قول
الشّعبيّ، والسدي، في آخرين.
والثاني: أنه التثبيت لارتياد محل الإنفاق، فهم ينظرون أين
يضعونها، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وأبي صالح. قوله تعالى:
كَمَثَلِ جَنَّةٍ الجنة: البستان، وقرأ مجاهد، وعاصم الجحدري
«حبة» بالحاء. والربوة: ما ارتفع. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو
عمرو، وحمزة، والكسائي «بربوة» بضم الراء.
(1/239)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ
ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ (266)
وقرأ عاصم، وابن عامر، بفتح الراء وقرأ
الحسن والأعمش بكسر الراء، وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، برباوة،
بزيادة ألف، وفتح الراء، وقرأ أبيّ بن كعب، والجحدريّ كذلك،
إلا أنهما ضما الراء، وكذلك خلافهم في «المؤمنين» ، قال
الزجاج: يقال رَبوة ورِبوة ورُبوة ورباوة. والموضع المرتفع من
الأرض، إذا كان له ما يرويه من الماء، فهو أكثر ريعاً من
السفل. وقال ابن قتيبة: الربوة الارتفاع، وكل شيء ارتفع وزاد،
فقد ربا، ومنه الربا في البيع. قوله تعالى: فَآتَتْ أُكُلَها،
قرأ ابن كثير، ونافع:
أكلها. والأكل بسكون الكاف حيث وقع، ووافقهما أبو عمرو، فيما
أضيف إلى مؤنث، مثل: «أكلها» ، فأما ما أضيف إلى مذكر مثل:
أكله؟ أو كان غير مضاف إلى مكنى: مثل أُكُلٍ خَمْطٍ فثقله أبو
عمرو. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي جميع ذلك مثقلا.
وأكلها: ثمرها. ضِعْفَيْنِ أي: مثلين. فأما «الطّلّ» فقال ابن
قتيبة: هو أضعف المطر، وقال الزجاج: هو المطر الدائم، الصغار
القطر الذي لا تكاد تسيل منه المثاعب. قال ثعلب: وهذا لفظ
مستقبل وهو لأمر ماض، فمعناه: فان لم يكن أصابها وابل فطل،
ومعنى هذا المثل: أن صاحب هذه الجنة لا يخيب، فإنها إن أصابها
الطل حسنت، وإن أصابها الوابل أضعفت، فكذلك نفقة المؤمن
المخلص. والبصير: من أسماء الله تعالى، معناه: المبصر. قال
الخطابي: وهو فعيل بمعنى مفعل، كقولهم: أليم بمعنى مؤلم.
[سورة البقرة (2) : آية 266]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ
وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها
مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ
ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ
فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
قوله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ، هذه الآية متصلة بقوله
تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ، ومعنى:
«أيود» أيُحب، وإنما ذكر النخيل والأعناب، لأنهما من أنفس ما
يكون في البساتين، وخصّ ذلك بالكبير، لأنه قد يئس من سعي
الشباب في اكسابهم.
قوله تعالى: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ، أي: ضعاف، وإذا ضعفت
الذرية كان أحنى عليهم، وأكثر إشفاقاً فَأَصابَها يعني: الجنة
إِعْصارٌ وهي ريح شديدة، تهب بشدة، فترفع إلى السماء تراباً،
كأنه عمود. قال الشاعر:
إِن كنت ريحاً فقد لاقيتَ إِعصاراً
أي: لاقيت أشد منك. فان قيل: كيف جاز في الكلام أن يكون له جنة
فأصابها، ولم يقل:
فيصيبها؟ أفيجوز أن يقال: أيودّ أن يصيبَ مالاً، فضاع،
والمراد: فيضيع؟ فالجواب: أن ذلك جائز في «وددت» لأن العرب
تلقاها مرةً ب «أن» ، ومرةً ب «لو» ، فيقولون: وددت لو ذهبْت
عنا، ووددت أن تذهب عنا، قاله الفراء، وثعلب.
فصل: وهذه الآية مثلٌ ضربه الله تعالى في الحَسْرةِ بسلب
النعمة عند شدّة الحاجة. وفيمن قَصَدَ به ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عُمره، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه مثل للمفرط في طاعة الله تعالى حتى يموت، قاله
مجاهد. والثالث: أنه مثل للمرائي في النفقة، ينقطع عنه نفعها
أحوج ما يكون إليه، قاله السّدّيّ.
(1/240)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا
أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ (267)
[سورة البقرة (2) : آية 267]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما
كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ
بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ، في سبب نزولها قولان:
(139) أحدهما: أن الأنصار كانوا إذا جذّوا النخل، جاء كل رجل
بشيء من ذلك فعلقه في المسجد، فيأكل منه فقراء المهاجرين، وكان
أناسٌ ممن لا يرغب في الخير يجيء أحدهم بالقنو «1» فيه الحشف
والشيص، فيعلقه، فنزلت هذه الآية. هذا قول البراء بن عازب.
(140) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بزكاة
الفطر، فجاء رجل بتمر رديء، فنزلت هذه الآية. هذا قول جابر بن
عبد الله.
وفي المراد بهذه النفقة قولان: أحدهما: أنها الصدقة المفروضة،
قاله عبيدة السلماني في آخرين.
والثاني: أنها التطوع. وفي المراد بالطيب هاهنا قولان: أحدهما:
أنه الجيّد الأنفس، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الحلال، قاله أبو معقل في آخرين. قوله تعالى:
وَلا تَيَمَّمُوا، أي: لا تقصدوا. والتيمم في اللغة: القصد.
قال ميمون بن قيس:
تَيمَمتُ قيساً وكم دونه ... من الأرض من مَهْمَهٍ ذي شزَن «2»
وفي الخبيث قولان: أحدهما: أنه الرديء، قاله الأكثرون، وسبب
الآية يدل عليه. والثاني: أنه الحرام، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا
فِيهِ، قال ابن عباس: لو كان بعضكم يطلب من بعض حقاً له، ثم
قضاه ذلك، ولم يأخذه إِلى أن يرى أنه قد أغمض عن بعض حقه. وقال
ابن قتيبة:
أصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء، ويغمضه، فسمي الترخص
إغماضاً. ومنه قول الناس للبائع: أغمض، أي: لا تشخص، وكن كأنك
لا تبصر. وقال غيره: لما كان الرجل إذا رأى ما يكره
__________
جيد. أخرجه ابن ماجة 1822 والحاكم 2/ 285 والطبري 6138 و 6139
والواحدي 172 من طريق أسباط عن السدي عن عدي بن ثابت به. وصححه
الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وهو كما قالا: لكن في
أسباط بن نضر ضعف ينحط حديثه عن درجة الصحيح ومثله السدي.
وأخرجه الترمذي 2987 والبيهقي 4/ 136 من طريق السدي عن أبي
مالك عن البراء به وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وله
شاهد من حديث سهل بن حنيف، أخرجه الحاكم 2/ 284 وإسناده حسن.
أخرجه الحاكم 2/ 283 والواحدي في «الأسباب» 172 من حديث جابر،
وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وفيه قيس بن أنيف
لم أجد له ترجمة. ويشهد لأصله ما تقدم دون تعيين ذلك بكونه في
زكاة الفطر. وفي حديث سهل بن حنيف المتقدم «أمر بصدقة» ولعل
المراد صدقة الفطر وبكل حال أصل الخبر محفوظ بشواهده.
__________
(1) القنو: العذق بما فيه من الرطب. والحشف من التمر: اليابس
الفاسد. والشيص: رديء التمر ويقال للتمر الذي لا يشتد نواه
ويقوى وقد لا يكون له نوى أصلا، هو الشيص.
(2) المهمه: المفازة. الشّزن: شدة الإعياء من الحفا، والشدة
والغلظة، والغلظ من الأرض اه قاموس. [.....]
(1/241)
الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ
يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
أغمض عينيه، لئلا يرى جميع ما يكره جعل
التجاوز والمساهلة في كل شيء إغماضاً. قوله تعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ، قال الزجاج: لم يأمركم
بالتصدق عن عوز، لكنه بلا أخباركم، فهو حميد على ذلك. يقال: قد
غني زيد، يغنى غنى، مقصور: إذا استغنى، وقد غني القوم: إذا
نزلوا في مكان يغنيهم، والمكان الذي ينزلون فيه مغنى.
والغواني: النساء، قيل: إنما سمين بذلك، لأنهن غنين بجمالهن،
وقيل: بأزواجهن. فأما «الحميد» فقال الخطابي: هو بمعنى
المحمود، فعيل بمعنى مفعول.
[سورة البقرة (2) : آية 268]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ
بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ
وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)
قوله تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، قال الزجاج:
يقال: وعدته أعده وعداً وعدة وموعداً وموعدة وموعوداً، ويقال:
الفَقر، والفُقر. ومعنى الكلام: يحملكم على أن تؤدّوا من
الرديء، يخوفكم الفقر بإعطاء الجيد. ومعنى: يعدكم الفقر، أي:
بالفقر، وحذفت الباء. قال الشاعر «1» :
أمرتُكَ الخيرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرت بِهِ ... فقد تركتك ذا
مال وذا نشبِ
وفي الفحشاء قولان: أحدهما: البخل. والثاني: المعاصي. قال ابن
عباس: والله يعدكم مغفرة لفحشائكم، وفضلاً في الرّزق.
[سورة البقرة (2) : آية 269]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ
أُولُوا الْأَلْبابِ (269)
قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ، في المراد بهذه
الحكمة أحد عشر قولاً «2» : أحدها: أنها القرآن، قاله ابن
مسعود، ومجاهد، والضحاك، ومقاتل في آخرين. والثاني: معرفة ناسخ
القرآن، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره، ونحو ذلك،
رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: النبوة، رواه أبو
صالح عن ابن عباس. والرابع: الفهم في القرآن، قاله أبو
العالية، وقتادة، وإبراهيم. والخامس: العلم والفقه، رواه ليث
عن مجاهد. والسادس: الإصابة في القول، رواه ابن أبي نجيح عن
مجاهد. والسابع: الورع في دين الله، قاله الحسن. والثامن:
الخشية لله، قاله الربيع بن أنس. والتاسع: العقل في الدين،
قاله ابن زيد. والعاشر: الفهم، قاله شريك. والحادي عشر: العلم
والعمل، لا يسمى الرجل حكيماً إِلا إِذا جمعهما، قاله ابن
قتيبة.
قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ، قرأ يعقوب بكسر تاء
«يؤت» ، ووقف عليها بهاء والمعنى:
ومن يؤته الله الحكمة. وكذلك هي في قراءة ابن مسعود بهاء بعد
التاء. قوله تعالى: وَما يَذَّكَّرُ، قال الزجّاج: أي: وما
يفكّر فكراً يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا ذوو العقول. قال
ابن قتيبة:
«أولو» بمعنى: ذوو، وواحد «أولو» «ذو» ، و «أولات» «ذات» .
__________
(1) هو عمرو بن معدي كرب.
(2) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 322: والصحيح أن الحكمة كما
قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة،
والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل
التبع كما جاء في بعض الأحاديث «من حفظ القرآن فقد أدرجت
النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه» .
(1/242)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ
تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ
عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (271)
[سورة البقرة (2) : آية 270]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ
فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ
(270)
قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ، النذر: ما أوجبه
الإنسان على نفسه، وقد يكون مطلقاً، ويكون معلقاً بشرط.
فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، قال مجاهد: يُحصيه، وقال الزجاج:
يجازى عليه. وفي المراد بالظالمين هاهنا، قولان: أحدهما: أنهم
المشركون، قاله مقاتل. والثاني: المنفقون بالمنّ والأذى
والرياء، والمنذرون في المعصية، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والأنصار: المانعون. فمعناه: ما لهم مانع يمنعهم من عذاب الله.
[سورة البقرة (2) : آية 271]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ
عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (271)
قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ.
(141) قال ابن السائب: لما نزل قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ، قالوا: يا رسول الله، صدقة السر أفضل، أم
العلانية؟ فنزلت هذه الآية. قال الزجاج، يقال: بدا الشيء يبدو:
إذا ظهر، وأبديته إبداء: إذا أظهرته، وبدا لي بداء: إذا تغير
رأيي عمّا كان عليه.
وقوله تعالى: فَنِعِمَّا هِيَ، في «نعم» أربع لغات: «نعم» بفتح
النون، والعين، مثل: عَلِمَ.
و «نعم» بكسرها، و «نعم» بفتح النون، وتسكين العين، و «نعم»
بكسر النون، وتسكين العين. وأما قوله:
فَنِعِمَّا هِيَ قرأ نافع في غير رواية «ورش» ، وأبو عمرو،
وعاصم في رواية أبي بكر، والمفضل:
«فنعما» ، بكسر النون، والعين ساكنة. وقرأ ابن كثير، وعاصم في
رواية حفص، ونافع في رواية «ورش» ، ويعقوب بكسر النون والعين.
وقرأ ابن عامر، وحمزة والكسائي، وخلف: «فنعما» بفتح النون،
وكسر العين، وكلهم شددوا الميم. وكذلك خلافهم في سورة النساء.
قال الزجاج: «ما» في تأويل الشيء، أي: فنعمّ الشيء هو. قال أبو
عليّ: نعم الشيء إبداؤها. قوله تعالى فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ،
فهو الإخفاء. واتفق العلماء على أن إخفاء الصدقة النافلة أفضل
من إظهارها، وفي الفريضة قولان: أحدهما: أن إظهارها أفضل، قاله
ابن عباس في آخرين. واختاره القاضي أبو يعلى. وقال الزجاج: كان
إخفاء الزكاة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أحسن،
فأمّا اليوم، فالناس مسيئون الظن، فاظهارها أحسن. والثاني:
إخفاؤها أفضل، قاله الحسن، وقتادة، ويزيد بن أبي حبيب. وقد حمل
أرباب القول الأول الصدقات في الآية على الفريضة، وحملوا
وَإِنْ تُخْفُوها على النافلة، وهذا قول عجيب. وإنما فضلت صدقة
السر لمعنيين: أحدهما: يرجع إلى المعطي، وهو بُعْدُه عن
الرياء، وقربه من الإخلاص، والإعراض عما تؤثر النفس من
العلانية. والثاني: يرجع إلى المعطى، وهو دفع الذل عنه باخفاء
الحال، لأنه في العلانية ينكسر. قوله تعالى: وَيُكَفِّرُ
عَنْكُمْ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم (ونكفّر)
بالنون والرفع، والمعنى: ونحن نكفّر، ويجوز أن يكون مستأنفا.
__________
لا أصل له، ذكره المصنف عن الكلبي تعليقا بدون إسناد، ومع ذلك
هو معضل، والكلبي واسمه محمد بن السائب متروك كذاب، فهذا خبر
لا أصل له.
(1/243)
لَيْسَ عَلَيْكَ
هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا
يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ
أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا
يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
وقرأ نافع، وحمزة، والكسائيّ: «ونكفّر»
بالنون وجزم الراء. قال أبو علي: وهذا على حمل الكلام على موضع
قوله: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأن قوله: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في
موضع جزم، ألا ترى أنه لو قال: وإِن تخفوها يكون أعظم لأجركم
لجزم، ومثله: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ «1» ، حمل قوله و «أكن» على موضع
«فأصدَّق» . وقرأ ابن عامر: «ويكفّر» بالياء والرفع، وكذلك حفص
عن عاصم على الكناية عن الله عزّ وجلّ، وقرأ أبان عن عاصم،
«وتكفّر» بالتاء المرفوعة، وفتح الفاء مع إسكان الراء. قوله
تعالى: مِنْ سَيِّئاتِكُمْ، في «من» قولان: أحدهما: أنها
زائدة. والثاني: أنها داخلة للتبعيض. قال أبو سليمان الدمشقي:
ووجه الحكمة في ذلك أن يكون العباد على خوف ووجل.
[سورة البقرة (2) : آية 272]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما
تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا
مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ
(272)
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ في سبب نزولها قولان:
(142) أحدهما: أن المسلمين كرهوا أن يتصدقوا على أقربائهم من
المشركين، فنزلت هذه الآية، هذا قول الجمهور.
__________
والثاني: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تتصدقوا إلا
على أهل دينكم» ، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير.
والخير في الآية، أريد به المال، قاله ابن عباس، ومقاتل.
ومعنى: فَلِأَنْفُسِكُمْ، أي: فلكم ثوابه. قوله تعالى: وَما
تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، قال الزجاج: هذا
خاص للمؤمنين، أعلمهم الله أنه قد علم أن مُرادَهم ما عنده،
وإذا أعلمهم بصحة قصدهم، فقد أعلمهم بالجزاء عليه.
قوله تعالى: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، أي: توفون أجره. ومعنى الآية:
ليس عليك أن يهتدوا، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام، فان
تصدقتم عليهم أُثبتم. والآية محمولة على صدقة التّطوّع، إذ لا
يجوز أن يعطى الكافر من الصدقة المفروضة شيئاً.
[سورة البقرة (2) : آية 273]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا
يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ
أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا
يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
(142) أخرجه الواحدي في «الأسباب» 174 عن ابن الحنفية به، وفي
الإسناد سلمان المكي، لم أجد له ترجمة.
- ولمعناه شواهد منها عن ابن عباس: أخرجه الطبري 6200 وكرره
6203 من وجه آخر، وإسناده حسن.
وفي الباب مراسيل كثيرة، فالخبر قوي بشواهده.
ضعيف. أخرجه الواحدي في «الأسباب» 173 وابن أبي شيبة كما في
«الدر» 1/ 631 عن سعيد بن جبير مرسلا، فهو ضعيف لإرساله.
__________
(1) المنافقون: 10.
(1/244)
قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ
أُحْصِرُوا، لما حثهم على الصدقات والنفقات، دلهم على خير من
تُصدّق عليه. وقد تقدم تفسير الإحصار عند قوله: فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ «1» .
وفي المراد ب الَّذِينَ أُحْصِرُوا أربعة أقوال: أحدها: أنهم
أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله، ولم يكن لهم شيء، قاله
ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنهم فقراء المهاجرين، قاله مجاهد.
والثالث: أنهم قوم حبسوا أنفسهم على الغزو، فلا يقدرون على
الاكتساب، قاله قتادة. والرابع: أنهم قوم أصابتهم جراحات مع
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فصاروا زمنى. قاله سعيد بن
جبير، واختاره الكسائي، وقال:
أحصروا من المرض، ولو أراد الحبس، لقال: حُصروا، وإنما الإحصار
من الخوف، أو المرض.
والحصر: الحبس في غيرهما. وفي سبيل الله قولان: أحدهما: أنه
الجهاد. والثاني: الطاعة. وفي الضرب في الأرض قولان: أحدهما:
أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم، نقل عن ابن عباس. والثاني:
الكسب، قاله قتادة. وفي الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال: أحدها:
الفقر، قاله ابن عباس. والثاني:
أمراضهم، قاله ابن جبير، وابن زيد. والثالث: التزامهم بالجهاد،
قاله الزجاج.
قوله تعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ، قرأ ابن كثير، ونافع،
وأبو عمرو، والكسائي: «يحسبهم» و «يَحْسِبَنَّ» بكسر السين في
جميع القرآن. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، بفتح السين في
الكل. قال أبو علي: فتح السين أقيس، لأن الماضي إذا كان على
«فَعِلَ» ، نحو: حسب، كان المضارع على «يفعل» ، مثل: فرق يفرق،
وشرب يشرب، والكسر حسن لموضع السمع. قال ابن قتيبة: لم يرد
الجهل الذي هو ضد العقل، إنما أراد الجهل الذي هو ضد الخُبْر،
فكأنه قال: يحسبهم من لا يخبرُ أمرهم. والتعفف: ترك السؤال،
يقال: عف عن الشيء وتعفّف. والسيما: العلامة التي يعرف بها
الشيء، وأصله من السمة. وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال:
أحدها: تجملهم، قاله ابن عباس.
والثاني: خشوعهم، قاله مجاهد. والثالث: أثر الفقر عليهم، قاله
السدي والربيع بن أنس. وهذا يدل على أن للسيما حكماً يتعلق
بها. قال إمامنا أحمد في الميت يوجد في دار الحرب، ولا يعرف
أمره:
ينظر إلى سيماه، فإن كان عليه سِيما الكفار من عدم الختان، حكم
له بحكمهم، فلم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يصل عليه، وإن كان
عليه سيما المسلمين حكم له بحكمهم «2» . فأما الإلحاف، فهو:
الإلحاح، قال ابن قتيبة: يقال: ألحف في المسأله: إذا ألح، وقال
الزجاج: معنى ألحف: شَمِل بالمسألة، ومنه اشتقاق اللحاف، لأنه
يشمل الإنسان بالتغطية، فإن قيل: فهل كانوا يسألون غير
__________
(1) البقرة: 196.
(2) قال الإمام الموفّق رحمه الله في (المغني) 3/ 477: فإن
اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين، فلم يميزوا، صلّى على
جميعهم بنية المسلمين. قال أحمد: ويجعلهم بينه وبين القبلة، ثم
يصلي عليهم وإلا فلا، لأن الاعتبار بالأكثر، بدليل أن دار
المسلمين الظاهر فيها الإسلام، لكثرة المسلمين بها، وعكسها دار
الحرب، لكثرة من بها من الكفار. ولنا، أنه أمكن الصلاة على
المسلمين من غير ضرر، فوجب، كما لو كانوا أكثر، ولأنه إذا جاز
أن يقصد بصلاته ودعائه الأكثر، جاز قصد الأقل وإن وجد ميت، فلم
يعلم أمسلم هو أم كافر، نظر إلى العلامات من الختان، والثياب
والخضاب، فإن لم يكن عليه علامة، وكان في دار الإسلام، غسّل
وصلّي عليه، وإن كان في دار الكفر، لم يغسّل، ولم يصلّ عليه.
نصّ عليه أحمد، لأن الأصل أنّ من كان في دار فهو من أهلها،
يثبت له حكمهم ما لم يقم على خلافه دليل.
(1/245)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
ملحفين؟ فالجواب: أن لا، وإنما معنى
الكلام: أنه لم يكن منهم سؤال، فيكون إلحاف. قال الأعشى:
لا يغمز الساق من أينٍ ولا وَصَبٍ ... ولا يعضُّ على شرسوفِهِ
الصّفر «1»
معناه: ليس بساقه أين ولا وصب، فيغمزها لذلك. قال الفرّاء:
ومثله أن تقول: قلّ ما رأيت مثل هذا الرجل، ولعلك لم تر قليلاً
ولا كثيراً من أشباهه، فهم لا يسألون الناس إلحافاً، ولا غير
إلحاف.
وإلى نحو هذا ذهب الزجاج، وابن الأنباري في آخرين.
[سورة البقرة (2) : آية 274]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ
سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة
أقوال:
(144) أحدها: أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله
عزّ وجلّ، رواه حنش الصنعاني عن ابن عباس، وهو قول أبي
الدّرداء وأبي أمامه، ومكحول، والأوزاعي في آخرين.
(145) والثاني: نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فإنه
كانت معه أربعة دراهم، فأنفق في الليل درهماً وبالنهار درهماً،
وفي السر درهماً، وفي العلانية درهماً، رواه مجاهد عن ابن
عباس، وبه قال مجاهد، وابن السائب، ومقاتل.
(146) والثالث: أنها نزلت في عليّ وعبد الرحمن بن عوف، فإن
علياً بعث بوسق من تمر إلى أهل الصفة ليلاً وبعث عبد الرحمن
إليهم بدنانير كثيرة نهاراً، رواه الضحاك عن ابن عباس.
__________
أخرجه الواحدي في «أسبابه» 176 عن حنش الصنعاني عن ابن عباس،
وفي إسناده، عبد الله بن صالح، وهو ضعيف. وله شاهد عن أبي
الدرداء، أخرجه الطبري 6230 وفيه راو لم يسم ممن يراد بهذه
الآية، لأن الآية خاصة في ذلك، والله أعلم.
باطل. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 344 والواحدي 180
والطبراني 11164 عن عبد الوهّاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن
عباس. إسناده ضعيف جدا، ابن مجاهد متروك ولم يسمع من أبيه كما
في «الميزان» وهذا أثر باطل لا أصل له، ولا يصح عن مجاهد لأنه
من رواية ابنه، ونسبه المصنف لابن السائب. الكلبي، وهو متروك
كذاب. وعزاه المصنف لمقاتل، وهو كذاب أيضا، والصواب عموم
الآية.
باطل. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، ولم أر من أسنده إلى
الضحاك، وبكل حال هو أثر ساقط، الضحاك لم يلق ابن عباس، ورواية
الضحاك هو جويبر بن سعيد، حيث روى عن الضحاك عن ابن عباس
تفسيرا كاملا، وجويبر متروك متهم. فهذا خبر ساقط، لا أصل له.
- والصواب عموم الآية، وأن الآية في كل من يتصف بذلك، والله
أعلم.
__________
(1) في «اللسان» : الغميزة: العيب وليس في فلان غميزة أي ما
فيه ما يغمز فيعاب به ولا مطعن. والأين: الإعياء والتعب،
والشرسوف: أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن. والصّفر:
دابة تعض الضلوع والشراسيف، وقيل الصّفر هاهنا الجوع.
(1/246)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي
الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
(276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (277)
[سورة البقرة (2) : آية 275]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما
يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ
وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا، الربا: أصله في
اللغة: الزّيادة، ومنه الرّبوة والرّابية، وأربى فلان على
فلان: زاد. وهذا الوعيد يشمل الأكل، والعامل به، وإنما خصّ
الأكل بالذكْر، لأنه معظم المقصود.
__________
وقد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه: «لعن آكل الربا
وموكله وشاهديه وكاتبه» .
قوله تعالى: لا يَقُومُونَ، قال ابن قتيبة أي: يوم البعث من
القبور. والمس: الجنون، يقال:
رجل ممسوس. فالناس إذا خرجوا من قبورهم أسرعوا كما قال تعالى:
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً «1» .
إلا أكله الربا، فانهم يقومون ويسقطون، لأن الله أربى الربا في
بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فلا يقدرون على الإسراع. وقال
سعيد بن جبير: تلك علامة آكل الربا إذا استحله يوم القيامة.
قوله تعالى:
ذلِكَ، أي: هذا الذي ذكر من عقابهم بِأَنَّهُمْ قالُوا
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، وقيل: إن ثقيف كانوا أكثر
العرب ربا، فلما نهوا عنه قالوا: إنّما هو مثل البيع.
قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ، قال
الزجّاج: كلّ تأنيث ليس بحقيقيّ، فتذكيره جائز، ألا ترى أن
الوعظ والموعظة معبّران عن معنى واحد؟ قوله تعالى: فَلَهُ ما
سَلَفَ، أي: ما أكل من الرّبا. وفي قوله تعالى: وَأَمْرُهُ
إِلَى اللَّهِ، قولان: أحدهما: أن «الهاء» ترجع إلى المربي،
فتقديره:
إن شاء عصمه منه، وإن شاء لم يفعل، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل.
والثاني: أنها ترجع إلى الرّبا، فمعناه: يعفو الله عمّا شاء
منه، ويعاقب على ما شاء منه، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. قوله
تعالى:
وَمَنْ عادَ، قال ابن جبير: من عاد إلى الرّبا مستحلّا محتجّا
بقوله تعالى: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا
[سورة البقرة (2) : الآيات 276 الى 277]
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا
يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
(147) صحيح. أخرجه مسلم 1598 وأحمد 3/ 304 والبيهقي 5/ 275
وأبو يعلى 1849 من طرق عن جابر قال:
«لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا، وموكله،
وكاتبه، وشاهديه» وقال: «هم سواء» .
- ويشهد له ما أخرجه أحمد 1/ 409 و 430 و 464 و 465، والنسائي
8/ 147 وابن حبان 3252 وأبو يعلى 5241 وعبد الرزاق 15350 وابن
خزيمة 2250 والحاكم 1/ 387- 388 وعنه البيهقي 9/ 19 من طرق عن
عبد الله بن مسعود قال: «آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهداه إذا
علموا به والواشمة والمستوشمة للحسن، ولاوي الصدقة والمرتد
أعرابيا بعد هجرته ملعونون على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم
يوم القيامة» .
__________
(1) المعارج: 43.
(1/247)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا فيه
قولان: أحدهما: أن معنى محقه: تنقيصه واضمحلاله، ومنه: محاق
الشهر، لنقصان الهلال فيه. روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن
عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أنه إبطال ما يكون منه
من صدقة ونحوها، رواه الضحاك عن ابن عباس. قوله تعالى:
وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ، قال ابن جبير: يضاعفها. والكَفَّار:
الذي يكثر فعل ما يكفر به، والأثيم: المتمادي في ارتكاب الإثم
المصرّ عليه.
[سورة البقرة (2) : آية 278]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما
بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا في نزولها ثلاثة أقوال:
(148) أحدها: أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف،
وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكان بنو المغيرة يأخذون الربا
من ثقيف، فلما وضع الله الربا، طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم
عليهم، فنزلت هذه الآية، والتي بعدها، هذا قول ابن عباس.
(149) والثاني: أنها نزلت في عثمان بن عفان، والعباس، كانا قد
أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ، قال صاحب التّمر: إن أخذتما
ما لكما لم يبق لي ولعيالي ما يكفي، فهل لكما أن تأخذوا النصف
وأضعّف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل، طلبا الزيادة، فبلغ ذلك
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنهاهما عليه السّلام، فنزلت هذه
الآية، هذا قول عطاء وعكرمة.
(150) والثالث: أنها نزلت في العباس وخالد بن الوليد، وكانا
شريكين في الجاهلية وكانا يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما
أموال عظيمة في الربا، فنزلت هذه الآية، فقال النبي صلّى الله
عليه وسلّم: «أَلا إِن كل رباً من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا
أضعه ربا العباس» هذا قول السدي.
قال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك، إنما قال: ما بَقِيَ مِنَ
الرِّبا لأن كل رباً كان قد ترك، فلم يبق إلا ربا ثقيف. وقال
قوم: الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه، وقبض بعضه في كفره،
ثم أسلم، فيجب عليه أن يترك ما بقي، ويعفى له عما مضى. فأما
المراباة بعد الإسلام، فمردودة فيما قبض، ويسقط ما بقي.
__________
أخرجه أبو يعلى 668 ومن طريقه الواحدي في «أسباب النزول» 183
عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وإسناده ضعيف جدا، الكلبي
متروك، وأبو صالح متروك في حديثه عن ابن عباس، وذكره الهيثمي
في «المجمع» 4/ 119- 120 وقال: رواه أبو يعلى وفيه محمد بن
السائب الكلبي، وهو كذاب اه.
وذكره ابن حجر في «المطالب العالية» 3537 ونقل الشيخ الأعظمي
عن البوصيري تضعيفه للكلبي! مع أنه متروك متهم. وأخرجه الطبري
6257 عن ابن جريج بنحوه، وأتم. وورد عن عكرمة مع أثر ابن جريج
عند الطبري، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله تعالى
أعلم. وانظر «فتح الباري» 4/ 313.
ذكره الواحدي 184 عن عطاء وعكرمة بدون إسناد، ولم أره عند
غيره، فهو لا شيء، وذكر عثمان في هذا الخبر باطل لا أصل له،
وأما ذكر العباس، فله ما يؤيده، وانظر ما بعده.
هو في «أسباب النزول» 185 للواحدي عن السدي بدون إسناد. وأخرجه
الطبري 6256 عن السدي، وليس فيه اللفظ المرفوع، وهذا مرسل.
واللفظ المرفوع منه صحيح، ورد في أحاديث أخر.
(1/248)
فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا
يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
[سورة البقرة (2) : آية 279]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا
تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)
قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا، قرأ ابن كثير
ونافع وأبو عمرو وابن عامر فَأْذَنُوا مقصورة مفتوحة. وقرأ
حمزة وأبو بكر عن عاصم «فآذنوا» بمد الألف وكسر الذال. قال
الزجاج: من قرأ:
فأذنوا، بقصر الألف وفتح الذال، فالمعنى: أيقنوا. ومن قرأ بمد
الألف وكسر الذال، فمعناه: أعلموا كل من لم يترك الربا أنه
حرب. قال ابن عباس: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك
للحرب.
قوله تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ أي
التي أقرضتموها، لا تَظلمون فتأخذون أكثر منها، ولا تُظلَمون
فتنقصون منها، والجمهور على فتح «تاء» تظلمون الأولى، وضم
«تاء» تظلمون الثانية.
وروى المفضل عن عاصم: ضم الأولى، وفتح الثانية.
[سورة البقرة (2) : آية 280]
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ. ذكر ابن السائب، ومقاتل
أنه لما نزل قوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا، قال
بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا، وندع لكم
الربا، فشكا بنو المغيرة العسرة، فنزلت هذه الآية «1» . فأما
العسرة، فهي الفقر، والضيق. والجمهور على تسكين السين، وضمها
أبو جعفر هاهنا، وفي ساعَةِ الْعُسْرَةِ «2» . وقرأ الجمهور
بفتح سين «الميسرة» ، وضمها نافع، وتابعه زيد عن يعقوب على ضم
السين، إلا أنه زاد، فكسر الراء، وقلب الياء هاء، ووصلها بباء.
قال الزجاج: ومعنى وإن كان: وإن وقع. والنظرة التأخير، فأمرهم
بتأخير رأس المال بعد إسقاط الربا إذا كان المطالب معسراً،
وأعلمهم أن الصدقة عليه بذلك أفضل بقوله تعالى: وَأَنْ
تَصَدَّقُوا والأكثرون على تشديد الصاد، وخففها عاصم مع تشديد
الدال. وسكنها ابن أبي عبلة مع ضم الدال فجعله من الصّدق.
[سورة البقرة (2) : آية 281]
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
(281)
قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ، قرأ أبو عمرو بفتح تاء «ترجعون» وضمّها الباقون. قال
ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن جبير، وعطية، ومقاتل في
آخرين:
هذه آخر آية نزلت من القرآن «3» . قال ابن عباس: وتوفّي رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها بأحد وثمانين
__________
(1) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 186 عن الكلبي، وهو محمد
بن السائب بدون إسناد، والكلبي متهم.
- وأما أثر مقاتل، فهو لا شيء أيضا، لكن ورد هذا الخبر من وجوه
أخر، انظر الحديث 148.
(2) سورة التوبة: 117.
(3) أثر ابن عباس صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» 77 و 78 عن
ابن عباس موقوفا وإسناده جيد. وبوب به البخاري فقال باب
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثم أخرج
4544 عن ابن عباس: آخر آية نزلت على النبي صلّى الله عليه
وسلّم آية الربا. وأثر عطية العوفي، أخرجه الواحدي في
«الأسباب» 9، وهذا مرسل. وأثر ابن جبير، أخرجه ابن أبي حاتم
كما في «الدر» 1/ 653، ولم أر من أسنده إلى أبي سعيد، وبكل حال
الخبر صحيح، في أنها آخر آية نزلت.
(1/249)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ
بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا
عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ
ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ
تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى
وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا
أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ
ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ
وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ
وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا
فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ
اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
يوماً «1» ، وقال ابن جريج: توفي بعدها
بتسع ليال. وقال مقاتل: بسبع ليال.
[سورة البقرة (2) : آية 282]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ
كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما
عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ
ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ
تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا
يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى
أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً
تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ
تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ
كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ
بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ، قال الزجاج: يقال: داينت الرجل إذا عاملته، فأخذت
منه بدين، وأعطيته. قال الشاعر «2» :
داينت أروى والديون تقضى ... فماطلت بعضاً وأدت بعضاً
والمعنى: إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمى، فاكتبوه،
فأمر الله تعالى بكتب الدّين والإشهاد حفظاً منه للأموال
وللناس من الظلم، لأن من كانت عليه البينة قل تحديثه لنفسه
بالطمع في إذهابه. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في السلم
خاصة. فإن قيل: ما الفائدة في قوله: «بدين» ، و «تداينتم» يكفي
عنه؟ فالجواب: إن تداينتم يقع على معنيين: أحدهما: المشاراة
والمبايعة والإقراض.
والثاني: المجازاة بالأفعال، فالأول يقال فيه: الدين بفتح
الدال، والثاني: يقال منه: الدين بكسر الدال.
قال تعالى: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، أي: يوم
الجزاء. وأنشدوا «3» :
دناهم كما دانوا فدلّ بقوله: «بدين» على المراد بقوله:
«تداينتم» ، ذكره ابن الأنباري. فأما العدل فهو الحق. قال
قتادة: لا تدعن حقاً، ولا تزيدن باطلا.
قوله تعالى: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ، أي: لا يمتنع أن يكتب كما
علمه الله، وفيه قولان:
__________
(1) أخرجه الفريابي وابن المنذر كما في «الدر» 1/ 653 من طريق
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط كما تقدم غير
مرة، وقول ابن جريج الآتي أقرب للصواب، وهو يوافق قول سعيد بن
جبير كما في «الدر» 1/ 653 وكذا قول مقاتل، والله أعلم. وأثر
ابن جريج، أخرجه الطبري 6312. وانظر «فتح الباري» 8/ 205.
(2) هو رؤبة بن العجاج.
(3) البيت من الهزج، وهو للفند الزماني- شهل بن شيبان- كما في
المعجم المفصّل، وتمامه:
ولم يبق سوى ... العدوان دناهم كما دانوا.
(1/250)
أحدهما: كما علمه الله الكتابة، قاله سعيد
بن جبير. وقال الشعبي: الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد.
والثاني: كما أمره الله به من الحق، قاله الزجاج.
قوله تعالى وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، قال سعيد
بن جبير: يعني المطلوب، يقول: ليمل ما عليه من حق الطالب على
الكاتب، وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ، أي: لا ينقص عند الإملاء. قال
شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أمللت أمل، وأمليت أملي لغتان:
فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال، لأن الممل يطيل
قوله على الكاتب ويكرره.
قوله تعالى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً،
في المراد بالسفيه هاهنا أربعة أقوال: أحدها: أنه الجاهل
بالأموال، والجاهل بالإملاء، قاله مجاهد، وابن جبير. والثاني:
أنه الصبي والمرأة، قاله الحسن. والثالث: أنه الصغير، قاله
الضحاك، والسدي. والرابع: أنه المبذر، قاله القاضي أبو يعلى.
وفي المراد بالضعيف ثلاثة أقوال: أحدها: أنه العاجز والأخرس
ومن به حمق، قاله ابن عباس وابن جبير. والثاني: أنه الأحمق،
قاله مجاهد والسدي. والثالث: أنه الصغير، قاله القاضي أبو
يعلى. قوله تعالى: أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ، قال
ابن عباس: لا يستطيع لعيِّه. وقال ابن جبير: لا يحسن أن يمل ما
عليه، وقال القاضي أبو يعلى: هو المجنون.
قوله تعالى فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها تعود إلى الحق، فتقديره:
فليملل ولي الحق، هذا قول ابن عباس، وابن جبير، والربيع بن
أنس، ومقاتل، واختاره ابن قتيبة.
والثاني: أنها تعود إلى الذي عليه الحق، وهذا قول الضحاك، وابن
زيد، واختاره الزجاج، وعاب قول الأوّلين، فقال: كيف يقبل
المدّعى! وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد، والقول قوله؟! وهذا
اختيار القاضي أبي يعلى أيضاً. والعدل: الإنصاف. وفي قوله
تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ، قولان: أحدهما: أنه يعني الأحرار،
قاله مجاهد. والثاني: أهل الإسلام، وهذا اختيار الزجاج،
والقاضي أبي يعلى، ويدل عليه أنه خاطب المؤمنين في أول الآية.
قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ، أراد: فإن لم يكن
الشهيدان رجلين فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ، ولم يرد به: إن لم
يوجد رجلان.
قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ، قال ابن
عباس: من أهل الفضل والدين.
قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا
الْأُخْرى، ذكر الزجاج، أن الخليل، وسيبويه، وسائر النحويين
الموثوق بعلمهم، قالوا: معناه: استشهدوا امرأتين، لأن تذكر
إِحداهما الأخرى. ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى. وقرأ حمزة
«إن تضل» بكسر الألف. والضلال هاهنا: النسيان، قاله ابن عباس،
والضحّاك، والسّدّيّ، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. فأمّا
قوله: «فتذكر» فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، بالتخفيف مع نصب
الراء، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف، وقرأ الباقون بالنصب
وتشديد الكاف، فمن شدّد أراد الإذكار عند النسيان، وفي قراءة
من خفف قولان: أحدهما: أنها بمعنى المشددة أيضاً، وهذا قول
الجمهور. قال الضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: ومعنى القراءتين
واحد.
والثاني: أنها بمعنى: تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر، وهذا
مذهب سفيان بن عيينة، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو نحوه. واختاره
القاضي أبو يعلى، وقد رده جماعة، منهم ابن قتيبة. قال أبو
(1/251)
علي: ليس مذهب ابن عيينة بالقوي، لأنهن لو
بلغن ما بلغن، لم تجز شهادتهن إلا أن يكون معهن رجل، ولأن
الضلال هاهنا: النسيان، فينبغي أن يقابل بما يعادله، وهو
التذكير.
قوله تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا، قال
قتادة: كان الرجل يطوف في الحِواء «1» العظيم، فيه القوم
فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه منهم أحد، فنزلت هذه الآية.
وإلى ماذا يكون هذا الدعاء؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: إلى تحمل
الشهادة، وإثباتها في الكتاب، قاله ابن عباس، وعطية، وقتادة،
والربيع. والثاني: إلى إقامتها وأدائها عند الحكام بعد أن
تقدمت شهادتهم بها، قاله سعيد بن جبير، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة،
وعطاء، والشعبي، وأبو مجلز، والضحاك، وابن زيد، ورواه
الميمونيّ عن أحمد بن حنبل. والثالث: إلى تحملها وإلى أدائها،
روي عن ابن عباس، والحسن، واختاره الزجاج، قال القاضي أبو
يعلى: إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا
لم يوجد من يشهد غيره، فأما إن كان قد تحملها جماعة، لم تتعين
عليه، وكذلك في حال تحملها، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد، فلا
يجوز لجميع الناس الامتناع منه.
قوله تعالى: وَلا تَسْئَمُوا، أي: لا تملّوا ولا تضجروا أن
تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله،
أي: إلى محل أجله ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، أي: أعدل،
وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ لأن الكتاب يذكر الشهود جميع ما شهدوا
عليه وَأَدْنى أي: أقرب أَلَّا تَرْتابُوا أي: لا تشكوا إِلَّا
أَنْ تَكُونَ الأموال تِجارَةً أي: إلا أن تقع تجارة. وقرأ
عاصم «تجارة» بالنصب على معنى:
إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة، وهي البيوع التي يستحق كل
واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل.
فأباح ترك الكتاب فيها توسعة، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في
مأكول ومشروب. قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ،
الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه.
فصل: وهذه الآية تتضمن الأمر باثبات الدين في كتاب، وإثبات
شهادة في البيع والدين.
واختلف العلماء، هل هذا أمر وجوب «2» ، أم على وجه الاستحباب؟
فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب، فعلى هذا هو محكم،
وذهبت طائفة إلى أن الكتابة والإشهاد واجبان، روي عن ابن عمر
وأبي موسى ومجاهد وابن سيرين وعطاء والضحاك وأبي قلابة والحكم
وابن زيد. ثم اختلف هؤلاء، هل هذا الحكم باقٍ أم منسوخ؟ فذهب
أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ
بقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ
الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ.
قوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ، قرأ أبو جعفر
بتخفيف الراء من «يضار» وسكونها.
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إن معناه: لا يضارَّ بأن
يدعى وهو مشغول، هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي،
والربيع بن أنس، والفراء، ومقاتل. وقال الرّبيع: كان أحدهم
__________
(1) في «اللسان» : الحواء: جماعة بيوت الناس إذا تدانت، والجمع
الأحوية. [.....]
(2) قال الحافظ ابن كثير 1/ 336 عند هذه الآية وهذا الأمر
محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب.
(1/252)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى
سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ
أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي، فيقول:
إني مشغول، فيلزمه، ويقول: إنك قد أُمرت بالكتابة، فيضاره، ولا
يدعه، وهو يجد غيره، وكذلك يفعل الشاهد، فنزلت وَلا يُضَارَّ
كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ.
والثاني: أن معناه: النهي للكاتب أن يضار من يكتب له بأن يكتب
غير ما يمل عليه، وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه، هذا قول
الحسن، وطاوس، وقتادة، وابن زيد، واختاره ابن قتيبة، والزجاج.
واحتج الزجاج على صحته بقوله تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا
فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، قال: ولا يسمى من دعا كاتباً ليكتب،
وهو مشغول، أو شاهداً فاسقاً، إنما يسمى من حرف الكتاب، أو كذب
في الشهادة، فاسقاً. والثالث: أن معنى المضارّة: امتناع الكاتب
أن يكتب، والشاهد أن يشهد، وهذا قول عطاء في آخرين.
قوله تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا، يعني: المضارّة.
[سورة البقرة (2) : آية 283]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ
مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ
الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ
وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ
آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ، إنما خص السفر، لأن
الأغلب عدم الكاتب والشاهد فيه، ومقصود الكلام: إذا عدمتم
التوثق بالكتاب والإشهاد، فخذوا الرهن.
قوله تعالى: فَرِهانٌ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعبد الوارث
(فرهن) بضم الراء والهاء من غير ألف، وأسكن الهاء عبد الوارث
وجماعة. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي
فَرِهانٌ بكسر الراء، وفتح الهاء، وإثبات الألف. قال ابن قتيبة
من قرأ فَرِهانٌ أراد: جمع رهن، ومن قرأ «رهن» أراد: جمع رهان،
فكأنه جمع الجمع. وقوله تعالى: مَقْبُوضَةٌ، يدل على أن من شرط
لزوم الرهن القبض، وقبض الرهن أخذه من راهنه منقولاً، فإن كان
مما لا ينقل، كالدور والأرضين، فقبضه تخلية راهنه بينه وبين
مرتهنه.
قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، أي: فإن وثق رب
الدين بأمانة الغريم، فدفع ماله بغير كتاب ولا شهود، ولا رهن،
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ وهو المدين أَمانَتَهُ
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أن يخون من ائتمنه. وقوله تعالى:
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، قال السدي عن أشياخه: فانه فاجر
قلبه. قال القاضي أبو يعلى: إنما أضاف الإثم إلى القلب، لأن
المآثم تتعلق بعقد القلب، وكتمان الشهادة إنما هو عقد النّيّة
لترك أدائها.
[سورة البقرة (2) : آية 284]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ
تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ
بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أما إبداء ما في النفس،
فانه العمل بما أضمره العبد، أو النطق، وهذا مما يحاسب عليه
العبد، ويؤاخذ به، وأما ما يخفيه في نفسه، فاختلف العلماء في
المراد بالمخفي في هذه الآية على قولين:
(1/253)
آمَنَ الرَّسُولُ
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
أحدهما: أنه عام في جميع المخفيات، وهو قول
الأكثرين. واختلفوا: هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة أم منسوخ؟
على قولين: أحدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، هذا قول ابن مسعود، وأبي
هريرة، وابن عباس في رواية، والحسن، والشعبي، وابن سيرين،
وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسدي، وابن زيد،
ومقاتل. والثاني: أنه ثابت في المؤاخذة على العموم، فيؤاخذ به
من يشاء، ويغفره لمن يشاء، وهذا مروي عن ابن عمر، والحسن،
واختاره أبو سليمان الدمشقي، والقاضي أبو يعلى. وروى ابن أبي
طلحة عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله عزّ
وجلّ إذا جمع الخلائق، يقول لهم: إني مخبركم بما أخفيتم في
أنفسكم مما لم تطّلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم،
ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله تعالى: يُحاسِبْكُمْ
بِهِ اللَّهُ، يقول: يخبركم به الله، وأما أهل الشرك والريب،
فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله تعالى: فَيَغْفِرُ
لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، والأكثرون على تسكين
راء «فيغفر» وباء «يعذب» منهم ابن كثير ونافع، وأبو عمرو،
وحمزة، والكسائي. إنما جزموا لإتباع هذا ما قبله، وهو
«يحاسبْكم» وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم ويعقوب: برفع
الراء، والباء فيهما. فهؤلاء قطعوا الكلام عن الأول، قال ابن
الأنباري: وقد ذهب قوم إلى أن المحاسبة هاهنا هي إطلاع الله
العبد يوم القيامة على ما كان حدث به نفسه في الدنيا، ليعلم
أنه لم يعزب عنه شيء. قال: والذي نختاره أن تكون الآية محكمة،
لأن النسخ إنما يدخل على الأمر والنهي. وقد روي عن عائشة أنها
قالت: أما ما أعلنت، فالله يحاسبك به، وأما ما أخفيت، فما
عُجلت لك به العقوبة في الدنيا.
والقول الثاني: أنه أمر خاص في نوع من المخفيات، ولأرباب هذا
القول فيه قولان: أحدهما:
أنه كتمان الشهادة، قاله ابن عباس في رواية، وعكرمة والشعبي.
والثاني: أنه الشك واليقين، قاله مجاهد. فعلى هذا المذكور تكون
الآية محكمة.
[سورة البقرة (2) : آية 285]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ
رَبِّهِ.
(151) روى البخاري ومُسلم في «صحيحيهما» من حديث أبي مسعود
البدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الآيتان من
آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه» ، قال أبو بكر
النقاش: معناه: كفتاه عن قيام الليل. وقيل: إنهما نزلتا على
سبب.
(152) وهو ما روى العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، قال: لما أنزل
الله تعالى
__________
صحيح. أخرجه البخاري 5008 و 5009 و 5040 و 5051 ومسلم 807
والطيالسي 2/ 10 وأحمد 4/ 121 وأبو داود 1397 والترمذي 2881
والنسائي في «اليوم والليلة» 719 وابن ماجة 1369 والدارمي 1/
349 وابن حبان 781 والبغوي 1199 من حديث أبي مسعود البدري.
صحيح. أخرجه مسلم 125 وأحمد 2/ 412 والطبري 6453 وأبو عوانة 1/
76 و 77 وابن حبان 139 والواحدي في «أسباب النزول» 187 من طرق
عن أبي هريرة.
(1/254)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا
تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، اشتد ذلك على أصحاب
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأتوا رسول الله ثم جثوا على
الركب. فقالوا: قد أُنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال:
«أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا
وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير» . فلما
قالوها وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها آمَنَ
الرَّسُولُ.
قال الزجاج: لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص
والأحكام ختمها بتصديق نبيه، والمؤمنين. وقرأ ابن عباس
«وكتابه» ، فقيل له في ذلك، فقال: كتاب أكثر من كُتُب، ذهب به
إلى اسم الجنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس. وقد وافق
ابن عباس في قراءته حمزة والكسائي وخلف، وكذلك في «التحريم»
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر
(وكتبه) هاهنا بالجمع، وفي «التحريم» بالتوحيد. وقرأ أبو عمرو
بالجمع في الموضعين. قوله تعالى لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْ رُسُلِهِ، قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنى على حرفين، مثل
«رسلنا» و «رسلكم» باسكان السين، وثقَّل ما عدا ذلك. وفي قوله
تعالى: عَلى رُسُلِكَ، روايتان، بالتخفيف والتثقيل وقرأ
الباقون كل ما كان في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل، ومعنى
قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، أي: لا نفعل
كما فعل أهل الكتاب، آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وقرأ يعقوب «لا
يفرق» بالياء وفتح الراء.
قوله تعالى: غُفْرانَكَ، أي: نسألك غفرانك. والمصير: المرجع.
[سورة البقرة (2) : آية 286]
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما
كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا
إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا
إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا
رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ
عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا
فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها،
الوسع: الطاقة، قاله ابن عباس، وقتادة.
ومعناه: لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته، كتكليف
الزمن السعي، والأعمى النظر. فأما تكليف ما يستحيل من المكلف،
لا لفقد الآلات، فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم
أنه لا يؤمن الإيمان، فالآية محمولة على القول الأول. ومن
الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية رَبَّنا وَلا
تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، فلو كان تكليف ما لا يطاق
ممتنعاً، كان السؤال عبثاً، وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم
قال فيهم: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا
إِذاً أَبَداً «1» ، وقال ابن الأنباري:
المعنى: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه، وان كنا مطيقين له على
تجشم، وتحمل مكروه، فخاطب العرب على حسب ما تعقل، فإن الرجل
منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليك، وهو مطيق لذلك،
لكنه يثقل عليه، ومثله قوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ
السَّمْعَ «2» . قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ، قال ابن عباس:
لها ما كسبت من طاعة وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من معصية. قال
أبو بكر النقاش:
فقوله: «لها» دليل على الخير، و «عليها» دليل على الشر. وقد
ذهب قوم إلى أن «كسبت» لمرة ومرات
__________
(1) الكهف: 57.
(2) هود: 20.
(1/255)
و «اكتسبت» لا يكون إلا لشيء بعد شيء، وهما
عند آخرين لغتان بمعنى واحد كقوله عزّ وجلّ: فَمَهِّلِ
الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «1» .
قوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا، هذا تعليم من الله تعالى
للخلق أن يقولوا ذلك، قال ابن الأنباري: والمراد بالنسيان
هاهنا: الترك مع العمد، لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد
أمنت الآثام من جهته. والخطأ أيضاً هاهنا من جهة العمد، لا من
جهة السهو، يقال: أخطأ الرجل: إذا تعمد، كما يقال: أخطأ إذا
أغفل. وفي «الإصر» قولان: أحدهما أنه العهد، قاله ابن عباس،
ومجاهد، والضحاك، والسدي. والثاني: الثقل، أي: لا تثقل علينا
من الفروض ما ثقلته على بني اسرائيل، قاله ابن قتيبة. قوله
تعالى: وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، فيه خمسة
أقوال «2» : أحدها: أنه ما يصعُب ويشق من الأعمال، قاله
الضحاك، والسدي، وابن زيد، والجمهور. والثاني: أنه المحبة،
رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم. والثالث: الغلمة «3» ، قاله
مكحول. والرابع: حديث النفس ووساوسها.
والخامس: عذاب النار.
قوله تعالى: أَنْتَ مَوْلانا، أي أنت ولينا فَانْصُرْنا أي:
أعنا.
وكان معاذ إذا فرغ من هذه السورة، قال: آمين.
__________
(1) الطارق: 17.
(2) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 343: وقوله رَبَّنا وَلا
تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أي من التكليف والمصائب
والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به اه. قلت: فالقول الأول هو
الصواب إن شاء الله تعالى.
(3) في «اللسان» : الغلمة: هيجان شهوة النكاح من المرأة
والرجل.
(1/256)
|