زاد المسير في علم التفسير

الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)

سورة آل عمران
(153) ذكر أهل التفسير أنها مدنيّة، وأن صدرا من أوّلها نزل في وفد نجران، قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ستّين راكبا، فيهم العاقب، والسّيّد، فخاصموه في عيسى، فقالوا: إن لم يكن ولد الله، فمن أبوه؟ فنزلت فيهم صدر (آل عمران) إلى بضع وثمانين آية منها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني: القرآن بِالْحَقِّ يعني: العدل. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتاب. وقيل: إنما قال في القرآن: «نزّل» بالتشديد، وفي التوراة والإنجيل: أنزل، لأن كل واحد منهما أنزل في مرة واحدة، وأنزل القرآن في مرات كثيرة. فأما التوراة. فذكر ابن قتيبة عن الفراء أنه يجعلها من: وري الزند يري: إذا خرجت ناره، وأوريتُه، يريد أنها ضياء. قال ابن قتيبة: وفيه لغة أخرى: ورى يري، ويقال: وريت بك زنادي. والإنجيل، من نجلت الشيء: إذا أخرجته، وولد الرجل: نجله، كأنه هو استخرجه، يقال: قبح الله ناجليه، أي: والديه، وقيل للماء يظهر من البئر:
نجل، يقال: قد استنجل الوادي: إذا ظهر نزوزه. وإنجيل: إفعيل من ذلك، كأن الله أظهر به عافياً من الحق دارساً. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: والإنجيل: أعجمي معرب، قال: وقال بعضهم: إن كان عربياً، فاشتقاقه من النجل، وهو ظهور الماء على وجه الارض، واتساعه، ونجلت الشيء: إذا استخرجته وأظهرته، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم، وقيل: هو إفعيل من النجل وهو الأصل:
فالإنجيل أصل لعلوم وحكم. وفي الفرقان هاهنا قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله قتادة، والجمهور.
قال أبو عبيدة: سمي القرآن فرقاناً، لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر. والثاني: أنه الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى حين اختلفوا فيه، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وقال السّدّيّ: في الآية
__________
أخرجه الطبري 6540 وابن هشام في «السيرة» 2/ 164 من طريق ابن اسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير.
وكذا ابن كثير في «التفسير» 1/ 376 من طريق ابن إسحاق وعزاه البغوي في «تفسيره» 358 للكلبي والربيع بن أنس وغيرهما. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 190 نقلا عن المفسرين. وانظر دلائل النبوة للبيهقي 5/ 382- 384 وهذه المراسيل تتأيد بمجموعها.

(1/257)


مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

تقديم وتأخير، تقديره: وأنزل التوراة، والإنجيل، والفرقان، فيه هدى للناس.

[سورة آل عمران (3) : آية 4]
مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ قال ابن عباس: يريد وفد نجران النصارى، كفروا بالقرآن، وبمحمد. والانتقام: المبالغة في العقوبة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 5 الى 6]
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، قال أبو سليمان الدمشقي: هذا تعريض بنصارى أهل نجران فيما كانوا ينطوون عليه من كيد النبيّ عليه السلام. وذكر التصوير في الأرحام تنبيه على أمر عيسى.

[سورة آل عمران (3) : آية 7]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)
قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ المحكم: المتقن المبيّن. وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال «1» :
أحدها: أنه الناسخ، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، السّدّيّ في آخرين. والثاني: أنه الحلال والحرام، روي عن ابن عباس ومجاهد. والثالث: أنه ما علم العلماء تأويله، روي عن جابر بن عبد الله. والرابع: أنه الذي لم ينسخ، قاله الضّحّاك. والخامس: أنه ما لم تتكرر ألفاظه، قاله ابن زيد.
والسادس: أنه ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان، ذكره القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد. وقال الشافعي، وابن الأنباري: هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً. والسابع: أنه جميع القرآن غير الحروف المقطعة. والثامن: أنه الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، ذكر هذا والذي قبله القاضي أبو يعلى بن الفرّاء.
وأم الكتاب أصله. قاله ابن عباس، وابن جبير، فكأنه قال: هن أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهن في الأحكام، ومجمع الحلال والحرام.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 345: وأحسن ما قيل فيه الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله حيث قال: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. قال: والمتشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق.
- وقال الشوكاني رحمه الله في «فتح القدير» 1/ 360 بعد أن ذكر الأقوال المتقدمة: والأولى أن يقال: إن المحكم هو الواضح المعنى، الظاهر الدلالة إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره.
- والمتشابه: ما لا يتضح معناه، أو لا تظهر دلالته، لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره.
- وانظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي 4/ 13- 14 بتخريجنا- طبع «دار الكتاب العربي» .

(1/258)


وفي المتشابه سبعة أقوال: أحدها: أنه المنسوخ، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، والسدي في آخرين. والثاني: أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل، كقيام الساعة، روي عن جابر بن عبد الله. والثالث: أنه الحروف المقطعة كقوله: «ألم» ونحو ذلك، قاله ابن عباس. والرابع: أنه ما اشتبهت معانيه، قاله مجاهد. والخامس: أنه ما تكررت ألفاظه، قاله ابن زيد. والسادس: أنه ما احتاج إلى بيان، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد. وقال الشّافعيّ: ما احتمل من التأويل وجوهاً. وقال ابن الأنباري: المحكم ما لا يحتمل التأويلات، ولا يخفى على مميّز، والمتشابه: الذي تعتوره تأويلات.
والسابع: أنه القصص والأمثال، ذكره القاضي أبو يعلى.
فإن قيل: فما فائدة إنزال المتشابه، والمراد بالقرآن البيان والهدى؟ فعنه أربعة أجوبة:
أحدها: أنه لما كان كلام العرب على ضربين: أحدهما: الموجز الذي لا يخفى على سامعه، ولا يحتمل غير ظاهره. والثاني: المجاز، والكنايات، والإشارات، والتلويحات، وهذا الضرب الثاني هو المستحلى عند العرب، والبديع في كلامهم، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله، فكأنه قال: عارضوه بأي الضربين شئتم، ولو نزل كله محكماً واضحاً، لقالوا: هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا؟ ومتى وقع الكلام إشارة أو كناية، أو تعريض أو تشبيه، كان أفصح وأغرب. قال امرؤ القيس:
ما ذرفت عيناك إلّا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتَّل
فجعل النظر بمنزلة السهم على جهة التشبيه، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد، وزاد في بلاغته، وقال امرؤ القيس أيضاً:
رَمَتْني بَسَهْمٍ أَصَابَ الفُؤَادَ ... غَدَاةَ الرَّحِيلِ فَلَمْ أنتصر
وقال أيضاً:
فقلت له لما تمطى بصُلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل «1»
فجعل لليل صلباً وصدراً على جهة التشبيه، فحسن بذلك شعره. وقال غيره:
من كميت أجادها طابخاها ... لم تمت كل موتها في القدور
أراد بالطابخين: الليل والنهار على جهة التشبيه. وقال آخر:
تبكي هاشماً في كل فجر ... كما تبكي على الفنن الحمام
وقال الآخر:
عَجِبْتُ لها أَنَّى يَكُونُ غِناؤها ... فَصيحاً ولم تفتح بمنطقها فما
فجعل لها غناء وفماً على جهة الاستعارة.
والجواب الثاني: أن الله تعالى أنزله مختبراً به عباده، ليقف المؤمن عنده، ويردّه إلى عالمه، فيعظم بذلك صوابه، ويرتاب به المنافق، فيداخله الزيغ، فيستحق بذلك العقوبة، كما ابتلاهم بنهر
__________
(1) في «اللسان» : الكلكل من الفرس: ما بين محزمه إلى ما مسّ الأرض منه إذا ربض وقد يستعار الكلكل لما ليس بجسم في صفة الليل.

(1/259)


طالوت. والثالث: أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردّهم المتشابه إلى المحكم فيطول بذلك فكرهم، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم فيثابون على تعبهم، كما أثيبوا على سائر عباداتهم، ولو جعل القرآن كله محكماً لاستوى فيه العالم والجاهل، ولم يفضل العالم على غيره، ولماتت الخواطر، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم، وقد قال الحكماء: عيب الغنى: أنه يورث البلادة، وفضل الفقر: أنه يبعث على الحيلة، لأنه إذا احتاج احتال. والرابع: أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلّمون، ويمرّونهم على انتزاع الجواب، لأنهم إذا قدروا على الغامض، كانوا على الواضح أقدر، فلما كان ذلك حسناً عند العلماء، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة وابن الأنباري.
قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ في الزيغ قولان: أحدهما: أنه الشك، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: أنه الميل، قاله أبو مالك، وعن ابن عباس كالقولين، وقيل: هو الميل عن الهدى.
وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الخوارج، قاله الحسن. والثاني: المنافقون، قاله ابن جريج. والثالث: وفد نجران من النصارى، قاله الربيع. والرابع: اليهود، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمة من حساب الجُمّل، قاله ابن السائب. قوله تعالى: فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ قال ابن عباس: يُحيلون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويُلبسون. وقال السدي يقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا، ثم نسخت. وفي المراد بالفتنة هاهنا، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الكفر، قاله السدي، والربيع، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: الشبهات، قاله مجاهد. والثالث: إفساد ذات البين، قاله الزجاج. وفي التأويل وجهان: أحدهما: أنه التفسير. والثاني: العاقبة المنتظرة. والراسخ: الثابت، رسخ يرسخ رسوخاً.
وهل يعلم الراسخون تأويله أم لا؟ فيه قولان «1» : أحدهما: أنهم لا يعلمونه، وأنهم مستأنفون،
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 346: وقوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ اختلف القراء في الوقف هاهنا فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: التفسير على أربعة أنحاء، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلّا الله ... وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا أخاف على أمتي إلّا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ الآية وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يسألون عنه» غريب جدا ...
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابن العاص عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به» وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: كان ابن عباس يقرأ (وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الراسخون آمنا به) . وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله. وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود: (إِن تأويله إِلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) وكذا عن أبي بن كعب. ومنهم من يقف على قوله (والراسخون في العلم) وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد وقد روي عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. وقال مجاهد: والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: (وما يعلم تأويله) الذي أراد ما أراد (إلّا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا

(1/260)


رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

وقد روى طاوس عن ابن عباس أنه قرأ «ويقول الراسخون في العلم آمنّا به» وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن عباس، وعروة، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والفراء، وأبو عبيدة، وثعلب، وابن الأنباري، والجمهور. قال ابن الأنباري: في قراءة عبد الله «إن تأويله، إلّا عند الله» وفي قراءة أُبيّ، وابن عباس «ويقول الراسخون» وقد أنزل الله تعالى في كتابه أشياء، استأثر بعلمها، وقوله تعالى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً «1» فأنزل تعالى المجمل، ليؤمن به المؤمن، فيسعد، ويكفر به الكافر، فيشقى. والثاني: أنهم يعلمون، فهم داخلون في الاستثناء. وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله، وهذا قول مجاهد، والربيع، واختاره ابن قتيبة، وأبو سليمان الدمشقي. قال ابن الأنباري: الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح، ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 8 الى 9]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)
قوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي يقولون: ربنا لا تُمل قلوبنا عن الهدى بعد إذ هديتنا. قال أبو عبد الرحمن السلمي، وابن يعمر، والجحدري «لا تزغ» بفتح التاء «قلوبنا» برفع الباء. ولدنك: بمعنى عندك. والوهاب: الذي يجود بالعطاء من غير استثابة، والمخلوقون لا يملكون أن يهبوا شفاءً لسقيم، ولا ولداً لعقيم، والله تعالى قادر على أن يهب جميع الأشياء.

[سورة آل عمران (3) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
قوله تعالى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ أي: لن تدفع، لأن المال يدفع عن صاحبه في الدنيا، وكذلك الأولاد، فأما في الآخرة، فلا ينفع الكافر ماله، ولا ولده. وقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ أي:
من عذابه

[سورة آل عمران (3) : آية 11]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)
قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، في الدأب قولان: أحدهما: أنه العادة، فمعناه: كعادة آل
__________
(1) الفرقان: 38.

(1/261)


قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

فرعون، يريد: كفر اليهود. ككفر من قبلهم، قاله ابن قتيبة. وقال ابن الأنباري: و «الكاف» في «كدأب» متعلقة بفعل مضمر، كأنه قال: كفرت اليهود ككفر آل فرعون. والثاني: أنه الاجتهاد، فمعناه: أن دأب هؤلاء وهو اجتهادهم في كفرهم، وتظاهرهم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام، قاله الزّجّاج.

[سورة آل عمران (3) : آية 12]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)
قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ بالتاء ويَرَوْنَهُمْ بالياء، وقرأ نافع ثلاثتهن بالتاء! وقرأهن حمزة، والكسائي بالياء. وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(154) أحدها: أن يهود المدينة لما رأوا وقعة بدر، همّوا بالإِسلام، وقالوا: هذا هو النبي الذي نجده في كتابنا، لا ترد له راية، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا له وقعة أخرى، فلما كانت أُحد، شكّوا، وقالوا: ما هو به، ونقضوا عهدا كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة، فقالوا: تكون كلمتنا واحدة، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
(155) والثاني: أنها نزلت في قريش قبل وقعة بدر، فحقق الله وعده يوم بدر، روي عن ابن عباس، والضحاك.
(156) والثالث: أن أبا سفيان في جماعة ن قريش، جمعوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد وقعة بدر، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السّائب.

[سورة آل عمران (3) : آية 13]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)
قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا في المخاطبين بهذا ثلاثة أقوال «1» : أحدها:
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 191 قال الكلبي قال أبو صالح قال ابن عباس. وهذا الإسناد ساقط، الكلبي متروك متهم، وأبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس. وورد من وجه آخر، أخرجه الطبري 6663 وفيه محمد بن أبي محمد، وهو مجهول. وورد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 6664، وورد من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري 6667. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
ذكره الماوردي في «تفسيره» عن ابن عباس والضحاك بدون إسناد. فهذا الخبر لا شيء لخلوه عن الإسناد.
- والقول المتقدم هو الصواب، فإن الآية الآتية تدل على أن ذلك كان بعد بدر.
لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي واسمه محمد، وهو متروك متهم بالكذب، فهذا الأثر لا شيء. والقول الأول هو الصواب، والله أعلم.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 350: يقول الله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ أي قد كان لكم أيها اليهود القائلون ما قلتم آية أي دلالة على أن الله معزّ دينه، وناصر رسوله، ومظهر كلمته، ومعدل أمره.

(1/262)


أنهم المؤمنون، روي عن ابن مسعود، والحسن. والثاني: الكفار، فيكون معطوفاً على الذي قبله، وهو يخرج على قول ابن عباس الذي ذكرناه آنفاً. والثالث: أنهم اليهود، ذكره الفراء، وابن الأنباري، وابن جرير. فإن قيل: لم قال قَدْ كانَ لَكُمْ ولم يقل قد كانت لكم: فالجواب من وجهين: أحدهما: أَن ما ليس بمؤنث حقيقي، يجوز تذكيره. والثاني: أنه ردّ المعنى إلى البيان، فمعناه: قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى، وترك اللفظ، وأنشدوا:
إنّ امرأ غره منكنَّ واحدةٌ ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
وقد سبق معنى «الآية» ، و «الفئة» وكل مشكل تركت شرحه، فإنك تجده فيما سبق، والمراد بالفئتين: النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ومشركو قريش يوم بدر. قاله قتادة والجماعة.
وفي قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قولان: أحدهما: يرونهم ثلاثة أمثالهم قاله الفراء، واحتج بأنك إذا قلت: عندي ألف دينار، وأحتاج إلى مثليه، فانك تحتاج إلى ثلاثة آلاف. والثاني: أن معناه يرونهم ومثلهم، قال الزجاج: وهو الصحيح.
قوله تعالى: رَأْيَ الْعَيْنِ أي: في رأي العين. قال ابن جرير: جاء هذا على مصدر رأيته، يقال: رأيته رأياً، ورؤية. واختلفوا في الفئة الرائية على ثلاثة أقوال: هي التي ذكرناها في قوله تعالى:
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فان قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون، فوجهه أن المشركين كانوا يضعفون على عدد المسلمين، فرأوهم على ما هم عليه، ثم نصرهم الله، وكذلك إن قلنا: إنهم اليهود. وإن قلنا:
إنهم المشركون، فتكثير المسلمين في أعينهم من أسباب النصر. وقد قرأ نافع: «ترونهم» بالتاء. قال ابن الأنباري: ذهب إلى أن الخطاب لليهود. قال الفراء: ويجوز لمن قرأ «يرونهم» بالياء أن يجعل الفعل لليهود، وإن كان قد خاطبهم في قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ لأن العرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب. وقد شرحنا هذا في «الفاتحة» وغيرها. فإن قيل: كيف يقال: إن المشركين استكثروا المسلمين، وإن المسلمين استكثروا المشركين، وقد بين قوله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ «1» أن الفئتين تساوتا في استقلال إحداهما للأخرى؟ فالجواب: أنهم استكثروهم في حال، واستقلوهم في حال، فإن قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون، فإنهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ما هم عليه، ثم قلل الله المشركين في أعينهم حتى اجترءوا عليهم، فنصرهم الله بذلك السبب. قال ابن مسعود: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً. وقال في رواية اخرى: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا منهم رجلاً فقلت:
كم كنتم؟ قال: ألفاً. وإن قلنا: إن الفئة الرائية المشركون فإنهم استقلوا المسلمين في حال، فاجترؤوا عليهم، واستكثروهم في حال، فكان ذلك سبب خذلانهم، وقد نقل أن المشركين لما أسروا يومئذ، قالوا للمسلمين: كم كنتم؟ قالوا: كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر. قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ، أي: يقوي، إِنَّ فِي ذلِكَ في الإشارة قولان: أحدهما: أنها
__________
(1) الأنفال: 44.

(1/263)


زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

ترجع إلى النصر. والثاني: إلى رؤية الجيش مثليهم. والعبرة: الدلالة الموصلة إلى اليقين، المؤدية إلى العلم، وهي من العبور، كأنه طريق يعبر به ويتوصّل به المراد. وقيل: العبرة: الآية التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى العلم. والأبصار: العقول والبصائر.

[سورة آل عمران (3) : آية 14]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قرأ أبو رزين العقيلي وأبو رجاء العطاردي، ومجاهد، وابن محيصن «زين» بفتح الزاي «حب» بنصب الباء، وقد سبق في «البقرة» بيان التزيين. والقناطير:
جمع قنطار، قال ابن دريد: ليست النون فيه أصلية، وأحسب أنه معرب. واختلف العلماء: هل هو محدود أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه محدود، ثم فيه أحد عشر قولا:
(157) أحدها: أنه ألف ومائتا أوقية، رواه أبيّ بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبه قال معاذ بن جبل، وابن عمر، وعاصم بن أبي النجود، والحسن في رواية.
(158) والثاني: أنه اثنا عشر ألف أوقية، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وعن أبي هريرة كالقولين، وفي رواية عن أبي هريرة أيضاً: اثنا عشر أوقية.
(159) والثالث: أنه ألف ومائتا دينار، ذكره الحسن عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ورواه العوفي عن ابن عباس.
والرابع: أنه اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وروي عن الحسن، والضحاك، كهذا القول، والذي قبله. والخامس: أنه سبعون ألف دينار، روي عن ابن عمر، ومجاهد. والسادس: ثمانون ألف درهم، أو مائة رطل من الذهب، روي عن سعيد بن المسيب، وقتادة. والسابع: أنه سبعة آلاف دينار، قاله عطاء. والثامن: ثمانية آلاف مثقال، قاله السدي. والتاسع:
أنه ألف مثقال ذهب أو فضة، قاله الكلبي. والعاشر: أنه ملء مسك ثور ذهباً، قاله أبو نضرة، وأبو عبيدة. والحادي عشر: أن القنطار: رطل من الذهب، أو الفضة، حكاه ابن الأنباريّ.
__________
أخرجه الطبري 6698 وإسناده ضعيف جدا. له علتان: علي بن زيد وعنه مخلد بن عبد الواحد، وهذا الأخير منكر الحديث جدا، والأول ضعيف. وقد رجح ابن كثير رحمه الله فيه الوقف 1/ 359 فقد ورد عن جماعة من الصحابة موقوفا. وشدة الاختلاف في ذلك يدل على عدم صحة المرفوع أصلا، وانظر مزيد الكلام عليه في تفسير ابن كثير بتخريجي عند هذه الآية. وانظر «تفسير الشوكاني» 476.
أخرجه الترمذي 3023 والحاكم 2/ 300 والطبري 8368 وعبد الرزاق في «تفسيره» 498 والواحدي 285 من حديث أم سلمة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وهو حديث حسن. قال عبد الرزاق في روايته، وكذا الترمذي والطبري: عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة. وأما الواحدي فقال: عن سلمة بن عمر رجل من ولد أم سلمة. وصححه الألباني وأورده في صحيح الترمذي، والله أعلم.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 6699 عن الحسن مرسلا، ومع إرساله مراسيل الحسن واهية، وكرره الطبري 6700 عن الحسن قوله، وهو الصحيح.

(1/264)


قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)

والقول الثاني: أن القنطار ليس بمحدود. وقال الربيع بن أنس «1» : القنطار: المال الكثير، بعضه على بعض، وروي عن أبي عبيدة أنه ذكر عن العرب أن القنطار وزن لا يحدّ، وهذا اختيار ابن جرير الطبري. قال ابن الأنباري قال بعض اللغويين القنطار العقدة الوثيقة المحكمة من المال.
وفي معنى المقنطرة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها المضعَّفة، قال ابن عباس: القناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة، وهذا قول الفراء. والثاني: أنها المكملة، كما تقول: بدرة مبدَّرة، وألف مؤلَّفة، وهذا قول ابن قتيبة. والثالث: أنها المضروبة حتى صارت دنانير ودراهم، قاله السّدّيّ.
في المسومة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الراعية، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد في رواية، والضحاك، والسدي، والربيع، ومقاتل. قال ابن قتيبة: يقال: سامت الخيل، وهي سائمة: إذا رعت، وأسمتها وهي مسامة، وسومتها، فهي مسوَّمة: إذا رعيتها، والمسومة في غير هذا: المعلمة في الحرب بالسومة وبالسيِّماء أي: بالعلامة. والثاني: أنها المعلمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، واختاره الزجاج، وعن الحسن كالقولين وفي معنى المعلمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها معلمة بالشية، وهو اللون الذي يخالف سائر لونها، روي عن قتادة.
والثاني: بالكي، روي عن المؤرج. والثالث: أنها البلق، قاله ابن كيسان. والثالث: أنها الحسان، قاله عكرمة، ومجاهد.
فأما الأنعام، فقال ابن قتيبة: هي: الإبل، والبقر، والغنم، واحدها نعم وهو جمع لا واحد له من لفظه. والمآب: المرجع. وهذه الأشياء المذكورة قد تحسن نية العبد بالتلبس بها، فيثاب عليها، وإنما يتوجه الذّم إلى سوء القصد فيها.

[سورة آل عمران (3) : آية 15]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15)
قوله تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ، روى عطاء بن السائب عن أبي بكر بن حفص قال:
لما نزلت زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قال عمر: يا ربّ الآن حين زيّنتها؟! فنزلت: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ووجه الآية أنه خبَّر أن ما عنده خير مما في الدنيا، وإن كان محبوباً، ليتركوا ما يحبون لما يرجون. فأما الرضوان فقرأ عاصم، إلا حفصا وأبان بن يزيد عنه، برفع الراء في جميع القرآن، واستثنى يحيى والعليمي كسر الراء في المائدة في قوله تعالى: مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ «2» ، وقراء الباقون بكسر الراء، والكسر لغة قريش. قال الزجاج: يقال: رضيت الشيء أرضاه رضىً ومرضاة ورِضواناً ورُضواناً، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ، يعلم من يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا، فهو يجازيهم على أعمالهم.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 4/ 33: وقال الربيع بن أنس: القنطار المال الكثير بعضه على بعض، وهذا المعروف عند العرب ومنه قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً أي مالا كثيرا. ومنه الحديث- الأثر- «إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه» ) أي صار له قنطار من المال.
(2) المائدة: 16. [.....]

(1/265)


الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

[سورة آل عمران (3) : الآيات 16 الى 17]
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)
قوله تعالى: الصَّابِرِينَ أي: على طاعة الله عز وجل، وعن محارمه وَالصَّادِقِينَ في عقائدهم وأقوالهم وَالْقانِتِينَ بمعنى المطيعين لله وَالْمُنْفِقِينَ في طاعته. وقال ابن قتيبة يعني: بالنفقة الصدقة. وفي معنى استغفارهم قولان: أحدهما: أنه الاستغفار المعروف باللسان، قاله ابن مسعود، والحسن في آخرين. والثاني: أنه الصلاة. قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك ومقاتل في آخرين. فعلى هذا إنما سميت الصلاة استغفاراً، لأنهم طلبوا بها المغفرة. فأما السحر، فقال إبراهيم بن السري:
السحر: الوقت الذي قبل طلوع الفجر، وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر، فوصفهم الله بهذه الطاعات، ثم وصفهم بأنهم لشدّة خوفهم يستغفرون.

[سورة آل عمران (3) : آية 18]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
(160) سبب نزول هذه الآية أن حبرين من أحبار الشّام قدما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عرفاه بالصفة، فقالا: أنت محمد؟ قال: «نعم» . قالا: وأحمد؟ قال: «نعم» . قالا: نسألك عن شهادة، فإن أخبرتنا بها، آمنّا بك، فقال: «سلاني» . فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله، فنزلت هذه الآية، فأسلما، قاله ابن السائب.
وقال غيره: هذه الآية رد على نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام، وقد سبق ذكر خبرهم في أول السورة. وقال سعيد بن جبير: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وكان لكل حي من العرب صنم أو صنمان، فلما نزلت هذه الآية، خرّت الأصنام سجداً. وفي معنى شَهِدَ اللَّهُ قولان: أحدهما: أنه بمعنى قضى وحكم، قاله مجاهد والفراء وأبو عبيدة. والثاني: بمعنى بيّن، قاله ثعلب والزجاج. قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه، أنه لا إله إلا هو. وسئل بعض الأعراب: ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال: إن البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أما يدلان على الصانع الخبير؟! وقرأ ابن مسعود وأبيّ بن كعب وعاصم الجحدري (شهداء الله) بضم «الشين» وفتح «الهاء والدال» وبهمزة مرفوعة بعد المد، وخفض «الهاء» من اسم الله تعالى. قائِماً بِالْقِسْطِ أي بالعدل.
قال جعفر الصادق: وإنما كرر لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لأن الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، أي قولوا: لا إله إلا هو.
__________
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسبابه» 193 عن الكلبي وهو محمد بن السائب، وتقدم أنه يضع الحديث.

(1/266)


إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

[سورة آل عمران (3) : آية 19]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)
قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ الجمهور على كسر «إِن» إِلا الكسائي، فإنه فتح «الألف» ، وهي قراءة ابن مسعود، وابن عباس، وأبي رزين، وأبي العالية، وقتادة. قال أبو سليمان الدمشقي: لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية، نزلت هذه الآية. قال الزجاج: الدين: اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه، وأمرهم بالإقامة عليه، وأن يكون عادتهم، وبه يجزيهم. وقال شيخنا علي بن عبيد الله: الدين: ما التزمه العبد لله عزّ وجلّ. قال ابن قتيبة: والإسلام الدخول في السلم، أي: في الانقياد والمتابعة، ومثله الاستسلام، يقال: سلم فلان لأمرك، واستسلم، وأسلم، كما تقول: أشتى الرجل، أي: دخل في الشتاء، وأربع:
دخل في الربيع. وفي الذين أوتوا الكتاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله الربيع. والثاني: أنهم النصارى، قاله محمد بن جعفر بن الزبير. والثالث: أنهم اليهود، والنصارى، قاله ابن السائب. وقيل:
الكتاب هاهنا: اسم جنس بمعنى الكتاب. وفي الذين اختلفوا فيه أربعة أقوال: أحدها: دينهم. والثاني:
أمر عيسى. والثالث: دين الإسلام، وقد عرفوا صحّته. والرابع: نبوة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقد عرفوا صفته.
قوله تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي: الإيضاح لما اختلفوا فيه بَغْياً بَيْنَهُمْ قال الزجاج:
معناه: اختلفوا للبغي، لا لقصد البرهان، وقد ذكرنا في «البقرة» معنى: سريع الحساب.

[سورة آل عمران (3) : آية 20]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)
قوله تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ أي: جادلوك، وخاصموك. قال مقاتل: يعني اليهود، قال ابن جرير:
يعني نصارى نجران في أمر عيسى، وقال غيرهما: اليهود والنصارى. فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ قال الفراء:
معناه: أخلصت عملي، وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى الله.
قوله تعالى: وَمَنِ اتَّبَعَنِ أثبت الياء في الوصل دون الوقف أهل المدينة والبصرة، وابن شنبوذ عن قنبل، ووقف ابن شنبوذ ويعقوب بياء. قال الزجاج: والأحب إِلىَّ اتباع المصحف. وما حذف من الياءات في مثل قوله تعالى: وَمَنِ اتَّبَعَنِ ولَئِنْ أَخَّرْتَنِ ورَبِّي أَكْرَمَنِ ورَبِّي أَهانَنِ. فهو على ضربين: أحدهما: ما كان مع النون، فإن كان رأس آية، فأهل اللغة يجيزون حذف الياء، ويسمون أواخر الآي الفواصل، كما أجازوا ذلك في الشعر. قال الأعشى:
ومن شانئ كاسف باله ... إذا ما انتسبت له أنكرن «1»
وهل يمنعني ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين
فأما إذا لم يكن آخر آية أو قافية، فالأكثر إثبات الياء، وحذفها جيد أيضاً، خاصة مع النونات، لأن أصل «اتبعني» «اتبعي» ولكن «النون» زيدت لتسلم فتحة العين، فالكسرة مع النون تنوب عن الياء،
__________
(1) الشانئ: المبغض. كاسف الوجه: عابسه من سوء الحال. والكسوف في الوجه: الصفرة والتغير.

(1/267)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

فأما إذا لم تكن النون، نحو غلامي وصاحبي، فالأجود إثباتها، وحذفها عند عدم النون جائز على قلته، تقول: هذا غلام، قد جاء غلاميَ، وغلاميْ. بفتح الياء وإسكانها، فجاز الحذف، لأن الكسرة تدل عليها. قوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يريد اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ بمعنى مشركي العرب، وقد سبق في البقرة شرح هذا الاسم. قوله تعالى: أَأَسْلَمْتُمْ قال الفراء: هو استفهام ومعناه الأمر، كقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «1» .
فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، وأن المراد بها تسكين نفس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند امتناع من لم يجبه، لأنه كان يحرص على إيمانهم، ويتألم من تركهم الإجابة. وذهبت طائفة إلى أن المراد بها الاقتصار على التّبليغ، وهذا منسوخ بآية السيف.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ قال أبو سليمان الدمشقي: عنى بذلك اليهود والنصارى. قال ابن عباس: والمراد بآيات الله محمد والقرآن. وقد تقدم في «البقرة» شرح قتلهم الأنبياء، والقسط، والعدل. وقرأ الجمهور وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وقرأ حمزة «ويقاتلون» بألف. وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
(161) «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عبَّاد بني اسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعاً في آخر النهار» فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم، وإنما وبخ بهذا الذين كانوا في زمن النّبيّ عليه السلام لأنهم تولوا أولئك، ورضوا بفعلهم. فَبَشِّرْهُمْ بمعنى: أخبرهم، وقد تقدم شرحه في «البقرة» . ومعنى حَبِطَتْ: بطلت.

[سورة آل عمران (3) : آية 23]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
__________
أخرجه الطبري 6777 وإسناده ضعيف. لضعف محمد بن حفص الحمصي، ضعفه ابن مندة كما في «الميزان» . وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 363 والبزار 3314 «كشف» ومداره على أبي الحسن مولى بني أسد، وهو مجهول كما قال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 348 وفيه أيضا محمد بن حمير لين الحديث. وقال الهيثمي في «المجمع» 12166: فيه من لم أعرفه اثنان اه. وفي الباب من حديث ابن عباس وفيه «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي.....» أخرجه البيهقي في «الشعب» 7888. وإسناده واه، فيه محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف متروك.
__________
(1) المائدة: 91.

(1/268)


ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(162) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل بيت المدراس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله فقال رجلان منهم: على أي دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم. قالا: فإنه كان يهودياً. قال: فهلموا إلى التوراة، فأبيا عليه، فنزلت هذه الآية. رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس (163) والثاني: أنّ رجلا وامرأة من اليهود زنيا، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرفعوا أمرهما إلى النّبيّ عليه السلام رجاء أن يكون عنده رخصة، فحكم عليهما بالرجم، فقالوا: جرْت علينا يا محمد، ليس علينا الرجم. فقال: بيني وبينكم التوراة، فجاء ابن صوريا، فقرأ من التوراة، فلما أتى على آية الرجم، وضع كفه عليها، وقرأ ما بعدها، فقال ابن سلام: قد جاوزها، ثم قام، فقرأها، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باليهوديِّين، فرجما، فغضب اليهود. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(164) والثالث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا اليهود إلى الإسلام، فقال نعمان بن أبي أوفى: هلم نحاكمك إلى الأحبار. فقال: بل إلى كتاب الله، فقال: بل إلى الأحبار، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
(165) والرابع: أنها نزلت في جماعة من اليهود، دعاهم النبي إلى الإسلام، فقالوا: نحن أحق بالهدى منك، وما أرسل الله نبياً إلا من بني اسرائيل. قال: فأخرجوا التوراة، فإني مكتوب فيها أني نبي، فأبوا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن سليمان.
فأما التفسير، فالنصيب الذي أوتوه: العلم الذي علموه من التوراة. وفي الكتاب الذي دعوا إليه قولان: أحدهما: أنه التوراة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه القرآن، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول الحسن وقتادة. وفي الذي أريد أن يحكم الكتاب بينهم فيه أربعة أقوال: أحدها: ملة إبراهيم. والثاني: حد الزنى. رويا عن ابن عباس. والثالث: صحة دين الإسلام، قاله السدي. والرابع: صحّة نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. فان قيل: التولي هو الإعراض، فما فائدة تكريره؟ فالجواب من أربعة أوجه: أحدها: التأكيد. والثاني: أن يكون المعنى: يتولون عن الداعي، ويعرضون عما دعا إليه. والثالث: يتولون بأبدانهم، ويعرضون عن الحق بقلوبهم. والرابع: أن يكون الذين تولوا علماءهم، والذين أعرضوا أتباعهم، قاله ابن الأنباريّ.

[سورة آل عمران (3) : آية 24]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا يعني: الذي حملهم على التّولي والإعراض أنهم قالوا:
__________
ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر كما في «الدر» 1/ 24 والطبري 67780 عن ابن عباس. وفيه محمد بن أبي محمد. قال الذهبي: في «الميزان» لا يعرف. وانظر «تفسير القرطبي» 1639 بتخريجنا.
عزاه المصنف، وكذا البغوي في «تفسيره» 373 للكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط، ومر في المقدمة. وأصل هذا الخبر صحيح دون ذكر نزول الآية، وسيأتي في بحث التراجم.
عزاه المصنف للسدي، وهذا مرسل، ولم أقف على إسناده فهذا خبر لا حجة فيه.
- وكذا الواحدي في «الأسباب» 194 للسدي بدون إسناد.
عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهو متروك كذاب.
- ولم يصح في سبب نزول هذه الآية شيء، إلّا أنه لا ريب أن المراد بالآية اليهود.

(1/269)


فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)

لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وقد ذكرناها في «البقرة» . ويَفْتَرُونَ: يختلقون. وفي الذي اختلقوه قولان: أحدهما: أنه قولهم: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، قاله مجاهد، والزجاج. والثاني:
قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، قاله قتادة، ومقاتل.

[سورة آل عمران (3) : آية 25]
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)
قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ معناه: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم لِيَوْمٍ أي: لجزاء يوم، أو لحساب يوم. وقيل «اللام» بمعنى: «في» .

[سورة آل عمران (3) : آية 26]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(166) أحدها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لما فتح مكة، ووعد أمته ملك فارس والرّوم، قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك.
(167) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فنزلت هذه الآية، حكاه قتادة.
والثالث: أن اليهود قالوا: والله لا نطيع رجلاً جاء ينقل النبوة من بني اسرائيل إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو سليمان الدمشقي.
فأما التفسير، فقال الزجاج: قال الخليل وسيبويه وجميع النحويين الموثوق بعلمهم: «اللهم» بمعنى «يا الله» ، و «الميم» المشددة زيدت عوضاً من «يا» لأنهم لم يجدوا «يا» مع هذه «الميم» في كلمة، ووجدوا اسم الله عزّ وجلّ مستعملاً ب «يا» إذا لم تذكر الميم، فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة «ياء» في أولها والضمة التي في «الهاء» هي ضمة الاسم المنادى المفرد. قال أبو سليمان الخطابي:
ومعنى «مالك الملك» : أنه بيده، يؤتيه من يشاء، قال: وقد يكون معناه: مالك الملوك، ويحتمل أن يكون معناه: وارث المالك يوم لا يدعيه مدّع، كقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ. قوله تعالى:
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ في هذا الملك قولان: أحدهما: أنه النبوة، قاله ابن جبير، ومجاهد. والثاني:
أنه المال، والعبيد، والحفدة، ذكره الزجاج. وقال مقاتل: تؤتي الملك من تشاء، يعني محمداً وأمته، وتنزع الملك ممن تشاء، يعني فارس الرّوم. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ محمداً وأمته وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ فارس والروم. وبماذا يكون هذا العز والذل؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: العز بالنصر، والذل بالقهر. والثاني:
العز بالغنى، والذل بالفقر. والثالث: العز بالطاعة، والذل بالمعصية. قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ قال ابن عباس: يعني النصر والغنيمة، وقيل: معناه بيدك الخير والشر، فاكتفى بأحدهما، لأنه المرغوب فيه.
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 197 عن ابن عباس وأنس بدون إسناد. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 350: ولم أجد له إسنادا. اه. فالخبر ليس بحجة، بل هو لا شيء لخلوه عن الإسناد.
ضعيف. أخرجه الطبري 6787 والواحدي 198 عن قتادة مرسلا. فهو ضعيف لإرساله.

(1/270)


تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

[سورة آل عمران (3) : آية 27]
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)
قوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي: تدخل ما نقّصت من هذا في هذا. قال ابن عباس، ومجاهد: ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر. قال الزجاج: يقال: ولج الشيء يلج ولوجاً وولجاً وولجة. قوله تعالى: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «وتخرج الحي من الميْت وتخرج الميّت من الحيّ» ، و «لبلد ميت» «1» ، وأَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً «2» ، ووَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً «3» ، والْأَرْضُ الْمَيْتَةُ «4» : كله بالتخفيف. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ولِبَلَدٍ مَيِّتٍ وإِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ «5» ، وخفف حمزة، والكسائي غير هذه الحروف. وقرأ نافع: «أو من كان ميِّتاً» ، و «الأرض الميِّتة» ، و «لحم أخيه ميّتا» «6» ، وخفف في سائر القرآن ما لم يمت. وقال أبو علي: الأصل التثقيل، والمخفف محذوف منه، وما مات، وما لم يمت في هذا الباب مستويان في الاستعمال. وأنشدوا:
ومنهل فيه الغراب مَيتُ ... سَقَيتُ مِنه القومَ واستقيت
فهذا قد مات. وقال آخر: «7»
ليسَ مَن ماتَ، فاستراحَ بميتٍ ... إِنما المَيْتُ ميّت الأحياء
فخفف ما مات، وشدد ما لم يمت. وكذلك قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «8» . ثم في معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إخراج الإنسان حياً من النطفة، وهي ميتة. وإخراج النطفة من الإنسان، وكذلك إخراج الفرخ من البيضة من الطائر، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والجمهور. والثاني: أنه إخراج المؤمن الحي بالإيمان من الكافر الميت بالكفر، وإخراج الكافر الميت بالكفر من المؤمن الحي بالإيمان، روى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء. والثالث: أنه إخراج السنبلة الحيّة من الحبة الميّتة، والنخلة الحيّة من النواة الميّتة، والنواة الميّتة من النخلة الحية، قاله السدي. وقال الزجاج: يخرج النبات الغض من الحب اليابس، والحب اليابس من النبات الحي النامي.
قوله تعالى: بِغَيْرِ حِسابٍ أي: بغير تقتير. قال الزجاج: يقال للذي ينفق موسعاً: فلان ينفق بغير حساب، كأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقا.

[سورة آل عمران (3) : آية 28]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ، في سبب نزولها أربعة أقوال:
__________
(1) الأعراف: 57.
(2) الأنعام: 122.
(3) الأنعام: 139.
(4) يس: 33.
(5) فاطر: 9.
(6) الحجرات: 12.
(7) هو عدي بن الرّعلاء. كما في «اللسان» .
(8) الزمر: 30.

(1/271)


قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)

(168) أحدها: أن عبادة بن الصامت كان له حُلفاء من اليهود، فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس.
(169) والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أُبيّ وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود، ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(170) والثالث: أن قوماً من اليهود، كانوا يباطنون نفراً من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك، وقالوا: اجتنبوا هؤلاء اليهود، فأبوا، فنزلت هذه الآية. روي عن ابن عباس أيضا.
(171) والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك، هذا قول المقاتلين، ابن سليمان، وابن حيان.
فأما التفسير، فقال الزجاج: معنى قوله تعالى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن، أي: لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين، وهذا كلام جرى على المثل في المكان، كما تقول: زيد دونك، ولست تريد المكان، ولكنك جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان، والخسة كالاستفال في المكان. ومعنى فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي: فالله بريء منه. قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قرأ يعقوب والمفضل عن عاصم «تَقيِّةً» بفتح التاء من غير ألف، قال مجاهد: إلا مصانعة في الدّنيا. قال أبو العالية: التقاة باللسان لا بالعمل.
فصل: والتقية رخصة، وليست بعزيمة. قال الإمام أحمد: وقد قيل: إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا. وقال: إِذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل، فمتى يتبين الحق؟ وسنشرح هذا المعنى في «النحل» عند قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ «1» ، إن شاء الله.

[سورة آل عمران (3) : آية 29]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
__________
ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 202 عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قوله، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس. وانظر «تفسير القرطبي» 4/ 60.
واه بمرة. ذكره الواحدي 201 عن الكلبي به، والكلبي متهم بالكذب وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي فالخبر ساقط.
ضعيف. أخرجه الطبري 6821 من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وإسناده ضعيف لجهالة محمد شيخ ابن إسحاق.
عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان. وهو كذاب. وعزاه لمقاتل بن حيان، وهو ذو مناكير. وذكره البغوي 291 بدون إسناد.
__________
(1) النحل: 106.

(1/272)


يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

قوله تعالى: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ قال ابن عباس: يعني من اتّخاذ الكافرين أولياء.

[سورة آل عمران (3) : آية 30]
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)
قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً قال الزجاج: نصب «اليوم» بقوله:
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ في ذلك اليوم. قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون متعلقاً بالمصير، والتقدير:
والى الله المصير يوم تجد. ويجوز أن يكون متعلقاً بفعل مضمر، والتقدير: اذكر يوم تجد. وفي كيفية وجود العمل وجهان: أحدهما: وجوده مكتوباً في الكتاب. والثاني: وجود الجزاء عليه. والأمد:
الغاية. قال الطرماح:
كلُّ حيٍّ مُسْتَكْملٌ عِدَة العم ... رِ ومُودٍ إِذا انقضى أمَدُه
يريد: غاية أجله.

[سورة آل عمران (3) : آية 31]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي، في سبب نزولها أربعة أقوال:
(172) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقف على قريش، وقد نصبوا أصنامهم. فقالوا: يا محمد إِنما نعبد هذه حباً لله، ليقربونا إلى الله زلفى، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس.
(173) والثاني: أن اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحبَّاؤه، فنزلت هذه الآية، فعرضها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليهم، فلم يقبلوها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(174) والثالث: أن ناساً قالوا: إنّا لنحب ربنا حبّاً شديداً، فأحب الله أن يجعل لحبه علماً، فأنزل هذه الآية، قاله الحسن، وابن جريج.
(175) والرابع: أن نصارى نجران، قالوا: إنما نقول هذا في عيسى حباً لله وتعظيماً له، فنزلت هذه الآية، ذكره ابن اسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير، واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ.

[سورة آل عمران (3) : آية 32]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)
__________
باطل. لا أصل له عن ابن عباس، فالضحاك لم يلق ابن عباس وهو بدون إسناد كما ذكره الواحدي في «الوسيط» 1/ 429 من رواية الضحاك عن ابن عباس فلا حجة فيه وهو منكر، وعزاه في «الأسباب» 203 لابن عباس من طريق جويبر عن الضحاك وجويبر ابن سعيد، وهو متروك. ليس بشيء. ثم إن هذه السورة مدنية، والحديث يدل على أن ذلك كان في مكة؟!.
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 204 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط. الكلبي متهم بالكذب، وأبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس.
أخرجه الطبري 6840 عن الحسن، ومراسيل الحسن واهية. وورد من مرسل ابن جريج، أخرجه برقم 6842 ومراسيل ابن جريج ساقطة.
ضعيف. أخرجه الطبري 6844 هكذا مرسلا عن محمد بن جعفر، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 205 عن محمد بن جعفر بن الزبير.

(1/273)


إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)

قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(176) أحدها: أن عبد الله بن أبيّ قال لأصحابه: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبّت النّصارى عيسى ابن مريم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
(177) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا اليهود إلى الإسلام، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أشد حبّاً لله مما تدعونا إليه، فنزلت قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ونزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل. والثالث:
أنها نزلت في نصارى نجران «1» ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

[سورة آل عمران (3) : آية 33]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ، قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونحن على دينهم، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: ومعنى اصطفاهم في اللغة: اختارهم، فجعلهم صفوة خلقه، وهذا تمثيل بما يرى، لأن العرب تمثل المعلوم بالشيء المرئي، فاذا سمع السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عياناً، فنحن نُعاين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر، فكذلك صفوة الله من خلقه. وفيه ثلاث لغات: صَفوة، وصِفوة، وصُفوة. وأما آدم فعربي وقد ذكرنا اشتقاقه في «البقرة» . وأما نوح، فأعجمي مُعربّ، قال أبو سليمان الدمشقي: اسم نوح: السكن، وإنما سمي نوحاً، لكثرة نوحه. وفي سبب نوحه خمسة أقوال: أحدها: أنه كان ينوح على نفسه، قاله يزيد الرقاشي. والثاني: أنه كان ينوح لمعاصي أهله، وقومه. والثالث: لمراجعته ربه في ولده. والرابع:
لدعائه على قومه بالهلاك. والخامس: أنه مر بكلب مجذوم، فقال: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه:
أعِبتني يا نوح أم عبت الكلب؟
وفي آل إبراهيم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم من كان على دينه، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: أنهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، قاله مقاتل. والثالث: أن المراد ب «آل إبراهيم» هو نفسه، كقوله: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ «2» ، ذكره بعض أهل التفسير. وفي «عمران» قولان: أحدهما: أنه والد مريم، قاله الحسن ووهب. والثاني: أنه والد موسى وهارون، قاله مقاتل.
وفي «آله» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عيسى عليه السلام، قاله الحسن. والثاني: أن آله موسى وهارون، قاله مقاتل. والثالث: أن المراد ب «آله» نفسه، ذكره بعض المفسرين. وإنما خصّ هؤلاء بالذكر، لأن الأنبياء كلهم من نسلهم.
وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد اصطفى دينهم على سائر
__________
هو مكرر الحديث 173، وإسناده ساقط. وليس في هذا الأقوال شيء صحيح ولا حسن، ولا يلزم في كل آية وجود سبب لنزولها كما يظنه الكلبي ومقاتل وجويبر وغيرهم، وعامة ما يرويه هؤلاء موضوع.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو متروك كذاب.
__________
(1) هو المتقدم برقم 175.
(2) البقرة: 248.

(1/274)


ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)

الأديان، قاله ابن عباس، واختاره الفراء، والدمشقي. والثاني: اصطفاهم بالنبوة، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل. والثالث: اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم. والمراد ب «العالمين» : عالمو زمانهم، كما ذكرنا في «البقرة» .

[سورة آل عمران (3) : آية 34]
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ، قال الزجاج: نصْبُها على البدل، والمعنى: اصطفى ذرية بعضها من بعض. قال ابن الأنباري: وإنما قال: بعضها، لأن لفظ الذرية مؤنث، ولو قال: بعضهم، ذهب إلى معنى الذرية. وفي معنى هذه البعضية قولان: أحدهما: أن بعضهم من بعض في التناصُر والدين، لا في التناسل، وهو معنى قول ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنه في التّناسل، لأن جميعهم ذرية آدم، ثم ذرية نوح، ثم ذرية إبراهيم، ذكره بعض أهل التفسير. قال أبو بكر النقاش: ومعنى قوله:
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أن الأبناء ذرية للآباء، والآباء ذرية للأبناء كقوله تعالى: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ «1» ، فجعل الآباء ذرية للأبناء، وإنما جاز ذلك، لأن الذرّيّة مأخوذة من قوله: ذرأ الله الخلق، فسمي الولد للوالد ذرية، لأنه ذرئ منه، وكذلك يجوز أن يقال للأب: ذرية للابن، لأن ابنه ذرئ منه، فالفعل يتصل به من الوجهين، ومثله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، فأضاف الحب إلى الله، والمعنى: كحب المؤمن لله، ومثله وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ، فأضاف الحبّ إلى الطعام.

[سورة آل عمران (3) : آية 35]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
قوله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ، في «إذ» قولان: أحدهما: أنها زائدة، واختاره أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: أنها أصلٌ في الكلام، وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: اذكر إذ قالت امرأة عمران، قاله المبرّد، والأخفش. والثاني: أن العامل في إِذْ قالَتِ معنى الاصطفاء، فيكون المعنى:
اصطفى آل عمران، إذ قالت امرأة عمران، واصطفاهم إذ قالت الملائكة: يا مريم، هذا اختيار الزجاج.
والثالث: أنها من صلة «سميعٌ» تقديره: والله سميعٌ إذ قالت، وهذا اختيار ابن جرير الطبري. قال ابن عباس: واسم امرأة عمران حنة، وهي أم مريم، وهذا عمران بن ماتان، وليس ب «عمران أبي موسى» ، وليست هذه مريم أخت موسى. وبين عيسى وموسى ألف وثمانمائة سنة. والمحَرّر: العتيق. قال ابن قتيبة: يقال: أعتقت الغلام، وحررته: سواء. وأرادت: أي: نذرت أن أجعل ما في بطني محرراً من التعبيد للدنيا، ليعبدك. وقال الزجاج: كان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذرهم، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في متعبدهم. وقال ابن اسحاق: كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت، فرأت طائراً يطعم فرخاً له، فدعت الله أن يهب لها ولداً، وقالت: اللهم لك عليَّ إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس، فحملت بمريم، وهلك عمران، وهي حامل. قال القاضي أبو يعلى: والنذر في مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته، وأن يعلّمه القرآن، والفقه، وعلم الدّين، صحّ النّذر.
__________
(1) يس: 41. [.....]

(1/275)


فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

[سورة آل عمران (3) : آية 36]
فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36)
قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، قرأ ابن عامر، وعاصم إلا حفصاً ويعقوب (بما وضعْتُ) بإسكان العين، وضم التاء. وقرأ الباقون بفتح العين، وجزم التاء، قال ابن قتيبة: من قرأ بجزم التاء، وفتح العين، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: إني وضعتها أُنثى، وليس الذكر كالأنثى، والله أعلم بما وضعت. ومن قرأ بضم التاء، فهو كلام متصل من كلام أمّ مريم.
قوله تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى، من تمام اعتذارها، ومعناه: لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذكر، من خدمته المسجد، والإقامة فيه، لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس. قال السدي: ظنت أن ما في بطنها غلام، فلما وضعت جارية، اعتذرت. ومريم: اسم أعجمي. وفي الرّجيم قولان:
أحدهما: أنه الملعون، قاله قتادة. والثاني: أنه المرجوم بالحجارة، كما تقول: قتيل بمعنى مقتول، قاله أبو عبيدة، فعلى هذا سُمي رجيماً، لأنه يرمى بالنّجوم.

[سورة آل عمران (3) : آية 37]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)
قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وقرأ مجاهد (فتقبَّلْها) بسكون اللام «ربَّها» بنصب الباء (وأنبتها) بكسر الباء وسكون التاء على معنى الدعاء. قال الزجاج: الأصل في العربية: فتقبَّلها بتقبُّل حسن، ولكن «قبول» محمول على قبلها قبولاً يقال: قبلت الشيء قَبولاً، ويجوز قُبولا: إذا رضيته.
وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً، أي: جعل نشوءها نشوءاً حسناً، وجاء «نباتاً» على غير لفظ أنبت، على معنى:
نبتت نباتاً حسناً. وقال ابن الأنباري: لما كان «أنبت» يدل على نبت حمل الفعل على المعنى، فكأنه قال: وأنبتها، فنبتت هي نباتاً حسناً. قال امرؤ القيس:
فَصِرْنَا إِلى الحُسْنَى ورقَّ كَلامُنَا ... ورضتُ فذلَّت صعبةٌ أيَّ إِذلال
أراد: أي رياضة، فلما دل «رضت» على «أذللت» حمله على المعنى.
وللمفسرين في معنى النبات الحسن، قولان:
أحدهما: أنه كمال النشوء، قال ابن عباس: كان تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام.
والثاني: أنه ترك الخطايا، حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب، كما يصيب بنو آدم.
قوله تعالى: وَكَفَّلَها، قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «كفلها» بفتح الفاء خفيفة، و «زكرياء» مرفوع ممدود. وروى أبو بكر عن عاصم: تشديد الفاء، ونصب «زكرياء» ، وكان يمد «زكرياء» في كل القرآن في رواية أبي بكر. وروى حفص عن عاصم: تشديد الفاء و «زكريا» مقصور في كل القرآن. وكان حمزة والكسائي يشددان و «كفلها» ، ويقصران «زكريا» في كل القرآن. فأما «زكريا» فقال الفراء: فيه ثلاث لغات: أهل الحجاز يقولون: هذا زكريا قد جاء، مقصور، وزكرياء، ممدود، وأهل نجد يقولون: زكري، فيجرونه، ويلقون الألف. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، عن ابن

(1/276)


دريد، قال: زكريا اسم أعجمي، يقال: زكريُّ، وزكرياء ممدود، وزكريا مقصور. وقال غيره: وزكري بتخفيف الياء، فمن قال: زكرياء بالمد، قال في التثنيه: زكرياوان، وفي الجمع زكرياوون، ومن قال:
زكريا بالقصر، قال في التثنيه زكريان كما نقول: مدنيان، ومن قال: زكري بتخفيف الياء، قال في التثنية: زكريان الياء خفيفة، وفي الجمع: زكرون بطرح الياء.
(الإشارة إلى كفالة زكريا مريم) قال السدي: انطلقت بها أمها في خرقها، وكانوا يقترعون على الذين يؤتون بهم، فقال زكريا وهو نبيهم يومئذ: أنا أحقكم بها، عندي أختها، فأبوا، وخرجوا إلى نهر الأردن، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها، فجرت الأقلام، وثبت قلم زكريا، فكفلها، قال ابن عباس: كانوا سبعة وعشرين رجلا، فقالوا:
نطرح أقلامنا، فمن صعد قلمه مغالباً للجرية فهو أحق بها، فصعد قلم زكريا، فعلى هذا القول كانت غلبة زكريا بمصاعدة قلمه، وعلى قول السدي بوقوفه في جريان الماء. وقال مقاتل: كان يغلق عليها الباب، ومعه المفتاح، لا يأمن عليه أحداً، وكانت إذا حاضت، أخرجها إلى منزله تكون مع أختها أم يحيى، فاذا طهرت، ردها إلى بيت المقدس. والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة، وقد ذهب قوم إلى أنه كفلها عند طفولتها بغير قرعة، لأجل أن أمها ماتت وكانت خالتها عنده. فلما بلغت، أدخلوها الكنيسة لنذر أمها، وإنما كان الاقتراع بعد ذلك بمدة، لأجل سنة أصابتهم. فقال محمد بن إسحاق: كفلها زكريا إلى أن أصابت الناس سنة، فشكا زكريا إلى بني إسرائيل ضيق يده، فقالوا: ونحن أيضاً كذلك، فجعلوا يتدافعونها حتى اقترعوا، فخرج السهم على جريج النجار، وكان فقيراً، وكان يأتيها باليسير، فينمي، فدخل زكريا، فقال: ما هذا على قدر نفقة جريج، فمن أين هذا؟ قالت: هو من عند الله. والصحيح ما عليه الأكثرون، وأن القوم تشاحوا على كفالتها، لأنها كانت بنت سيدهم وإمامهم عمران، كذلك قال قتادة في آخرين، وأن زكريا ظهر عليهم بالقرعة منذ طفولتها.
فأما المحراب فقال أبو عبيدة: المحراب سيد المجالس، ومقدمها، وأشرفها، وكذلك هو من المسجد. وقال الأصمعي: المحراب هاهنا: الغرفة. وقال الزجاج: المحراب في اللغة: الموضع العالي الشريف. قال الشاعر «1» :
ربَّةُ مِحْرابٍ إِذا جِئْتُها ... لَمْ ألقها أو أرتقي سلماً
قوله تعالى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً، قال ابن عباس: ثمار الجنة، فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وهذا قول الجماعة. قوله تعالى: أَنَّى لَكِ هذا أي: من أين؟ قال الربيع بن أنس: كان زكريا إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب «2» ، فإذا دخل وجد عندها رزقاً. وقال الحسن: لم ترتضع ثدياً قط، وكان يأتيها رزقها من الجنة، فيقول زكريا: أنى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله، فتكلمت وهي صغيرة، وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئراً، وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون
__________
(1) هو وضّاح اليمن- واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل.
(2) هذا من الإسرائيليات المنكرة، فلماذا هذه الأبواب السبعة؟!!!.

(1/277)


هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

قوله لها: أنى لك هذا؟ لاستكثار ما يرى عندها. وما عليه الجمهور أصح. والحساب في اللغة:
التقتير والتضييق.

[سورة آل عمران (3) : آية 38]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38)
قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قال المفسرون: لما عاين زكريا هذه الآية المعجبة من رزق الله تعالى مريم الفاكهة في غير حينها، طمع في الولد على الكبر. ومِنْ لَدُنْكَ بمعنى: من عندك. والذرية، تقال للجمع، وتقال للواحد، والمراد بها هاهنا: الواحد. قال الفراء: وإنما قال:
طيبة، لتأنيث الذرية، والمراد بالطيبة: النقيّة الصالحة. والسميع: بمعنى السامع. وقيل: أراد مجيب الدّعاء.

[سورة آل عمران (3) : آية 39]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
قوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «فنادته» بالتاء، وقرأ حمزة، والكسائي: «فناداه» بألف ممالة، قال أبو علي: هو كقوله تعالى: وَقالَ نِسْوَةٌ «1» . وقرأ علي، وابن مسعود، وابن عباس: «فناداه» بألف. وفي الملائكة قولان: أحدهما:
جبريل وحده، قاله السدي، ومقاتل، ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع، تقول ركبت في السفن، وسمعت هذا من الناس. والثاني: أنهم جماعة من الملائكة، وهو مذهب قوم، منهم ابن جرير الطبري. وفي المحراب قولان: أحدهما: أنه المسجد. والثاني: أنه قبلة المسجد. وفي تسمية محراب الصلاة محراباً، ثلاثة أقوال: أحدها: لانفراد الإمام فيه، وبُعده من الناس، ومنه قولهم: فلان حرب لفلان: إذا كان بينهما مباغضة، وتباعد، ذكره ابن الأنباري عن أبيه، عن أحمد بن عبيد. والثاني: أن المحراب في اللغة أشرف الأماكن، وأشرف المسجد مقام الإمام. والثالث: أنه من الحرب، فالمصلي محارب للشيطان.
قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ قرأ الأكثرون بفتح الألف على معنى: فنادته الملائكة بأن الله، فلما حذف الجار منها، وصل الفعل إليها، فنصبها. وقرأ ابن عامر، وحمزة، بكسر «إنَّ» فأضمر القول.
والتقدير: فنادته، فقالت: إن الله يبشرك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يبشرك» بضم الياء، وفتح الباء، والتشديد في جميع القرآن إلا في «حم عسق» : يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ «2» فإنهما فتحا الياء وضما الشين، وخففاها. فأما نافع، وابن عامر، وعاصم، فشددا كل القرآن. وقرأ حمزة: «يبشر» خفيفاً في كل القرآن، إلا قوله تعالى: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ «3» . وقرأ الكسائي «يبشر» مخففة في خمسة مواضع، في (آل عمران) في قصة زكريا، وقصة مريم، وفي بني (إسرائيل) وفي (الكهف) وفي (حم عسق) ، قال الزجاج: وفي «يبشرك» ثلاث لغات: أحدها: يبشرك بفتح الباء وتشديد الشين. والثانية: «يبشرك» باسكان الباء، وضم الشين. والثالثة: «يبشرك» بضم الياء وإسكان الباء، فمعنى «يبشّرك» بالتشديد
__________
(1) يوسف: 30.
(2) الشورى: 23.
(3) الحجر: 54.

(1/278)


و «يبشرك» بضم الياء: البشارة. ومعنى «يبشرك» بفتح الياء: يَسُرّك ويفرحك، يقال: بشَرت الرجل أبشره،: إذا أفرحته، وبشر الرجل يبشر: وأنشد الأخفش والكسائي:
وإِذا لقيت الباهشين الى النّدى ... غُبْراً أكفُّهُم بقاعٍ مُمحِل
فأعنهمُ وابشَرْ بِما بَشِروا به ... واذا هُمُ نزلوا بضنك فانزل «1»
فهذا على بشر يبشَر: إذا فرح. وأصل هذا كله أن بشَرة الإنسان تنبسط عند السرور، ومنه قولهم:
يلقاني ببشر، أي: بوجهٍ منبسط.
وفي معنى تسميته «يحيى» خمسة أقوال: أحدها: لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه. قاله ابن عباس.
والثاني: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان. قاله قتادة. والثالث: لأنه أحياه بين شيخ وعجوز، قاله مقاتل. والرابع: لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها، قاله الزجاج. والخامس: لأن الله أحياه بالطاعة، فلم يعص، ولم يَهمَّ، قاله الحسن بن الفضل.
وفي «الكلمة» قولان: أحدهما: أنها عيسى، وسمي كلمة، لأنه بالكلمة كان، وهي «كن» وهذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة والسدّي، ومقاتل، وقيل: إن يحيى كان أكبر من عيسى بستة أشهر، وقتل يحيى قبل رفع عيسى. والثاني: أن الكلمة كتاب الله وآياته، وهو قول أبي عبيدة في آخرين. ووجهه أن العرب تقول: أنشدني فلان كلمة، أي: قصيدة.
وفي معنى السيد ثمانية أقوال: أحدها: أنه الكريم على ربه، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني:
أنه الحليم التقي، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الضحاك. والثالث: أنه الحكيم، قاله الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء وأبو الشعثاء والربيع ومقاتل. والرابع: أنه الفقيه العالم، قاله سعيد بن المسيب. والخامس: أنه التقي، رواه سالم عن ابن جبير. والسادس: أنه الحَسَن الخلق، رواه أبو روق عن الضحاك. والسابع: أنه الشريف، قاله ابن زيد. والثامن: أنه الذي يفوق قومَه في الخير، قاله الزجاج. وقال ابن الأنباري: السيد هاهنا الرئيس، والإمام في الخير.
فأما «الحصور» فقال ابن قتيبة: هو الذي لا يأتي النساء، وهو فعول بمعنى مفعول، كأنه محصور عنهن، أي: محبوس عنهن. وأصل الحصر: الحبس. ومما جاء على «فعول» بمعنى «مفعول» : ركوب بمعنى مركوب، وحلوب بمعنى محلوب، وهيوب بمعنى مهيب، واختلف المفسرون لماذا كان لا يأتي النساء؟ على أربعة أقوال: أحدها: أنه لم يكن له ما يأتي به النّساء.
(178) فروى عمرو بن العاص عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا
__________
ضعيف جدا، والصحيح موقوف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في ابن كثير 1/ 369 من حديث عمرو بن العاص مرفوعا. وقال ابن كثير: هذا غريب جدا، ثم كرره ابن أبي حاتم موقوفا وهو أصح من المرفوع وأخرجه من حديث أبي هريرة اه. قلت وفي إسناد حديث أبي هريرة حجاج بن سليمان قال أبو زرعة: منكر الحديث.
انظر الميزان، ورجّح السيوطي في «الدر» 2/ 22 الوقف فيه ومع ذلك هو منكر، وهو من الإسرائيليات، فإن ابن عمرو روى عن أهل الكتاب، وهذا منها. وانظر «تفسير القرطبي» 1666، ويأتي تفصيل ذلك في سورة مريم.
__________
(1) البيتان لعبد قيس بن خفاف البرجمي كما ورد في «لسان العرب» مادة «بشر» . وبشر الرجل: فرح. والبهش:
المسارعة إلى أخذ الشيء، ورجل باهش وبهوش. والقاع: الأرض الحرّة الطين التي لا يخالطها رمل فيشرب ماءها. الممحل: من المحل الجدب وهو انقطاع المطر ويبس الأرض.

(1/279)


قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)

ما كان من يحيى بن زكريا» قال: ثم دلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده إلى الأرض، فأخذ عوداً صغيراً، ثم قال:
«وذلك أنّه لم يكن له ما للرّجال إلا مثل هذا العود، ولذاك سماه الله سيداً وحصوراً» وقال سعيد بن المسيب: كان له كالنواة.
والثاني: أنه كان لا ينزل الماء، قاله ابن عباس والضحاك. والثالث: أنه كان لا يشتهي النساء، قاله الحسن وقتادة والسدي. والرابع: أنه كان يمنع نفسه من شهواتها، ذكره الماوردي «1» .
قوله تعالى: وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قال ابن الأنباري: معناه: من الصّالحي الحال عند الله.

[سورة آل عمران (3) : آية 40]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40)
قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي كيف يكون؟!. قال الكميت:
أنى ومن أينَ آبَكَ الطرب «2» قال العلماء، منهم الحسن، وابن الأنباري، وابن كيسان: كأنه قال: من أي وجه يكون لي الولد؟
أيكون بازالة العقر عن زوجتي، وردّ شبابي؟ أم يأتي ونحن على حالنا؟ فكان ذلك على سبيل الاستعلام، لا على وجه الشك، قال الزجاج: يقال: غلام بيّن الغلوميَّة، وبين الغلاميَّة، وبين الغلومة.
قال شيخنا أبو منصور اللغوي: الغلام: فعال، من الغُلمة، وهي شدة شهوة النكاح، ويقال للكهل:
غلام. قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج:
غلام إِذا هزَّ القناة سقاها «3» وكأن قولهم للكهل: غلام، أي: قد كان مرة غلاماً. وقولهم للطفل: غلام على معنى التفاؤل، أي: سيصير غلاماً. قال: وقيل: الغلام الطار الشارب، ويقال للجارية: غلامة. قال الشاعر «4» :
يهان لها الغلامة والغلام قوله تعالى: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي: وقد بلغت الكبر، قال الزجاج: كل شيء بلغته فقد بلغك. وفي سنة يومئذ ستة أقوال: أحدها: أنه كان ابن مائة وعشرين سنة، وامرأته بنت ثمان وتسعين، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كان ابن بضع وسبعين سنة، قاله قتادة. والثالث: ابن خمس وسبعين، قاله
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 361: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان (حصورا) . معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها، معصوم عن الفواحش والقاذورات. ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا عليه السّلام (هب لي من لدنك ذرية طيبة) كأنه قال ولدا له ذرية ونسل وعقب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) صدره: من حيث لا صبوة ولا ريب.
(3) صدره: شفاها من الداء العضال الذي بها.
(4) هو أوس بن غلفاء الهجيمي. وصدر بيته: ومركضة صريحيّ أبوها.

(1/280)


قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)

مقاتل. والرابع: ابن سبعين، حكاه فضيل بن غزوان. والخامس: ابن خمس وستين. والسادس: ابن ستين، حكاهما الزجاج. قال اللغويون: والعاقر من الرجال والنساء: الذي لا يأتيه الولد، وإنما قال:
«عاقر» ولم يقل: عاقرة، لأن الأصل في هذا الوصف للمؤنث، والمذكر فيه كالمستعار، فأجري مجرى «طالق» و «حائض» ، هذا قول الفرّاء.

[سورة آل عمران (3) : آية 41]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)
قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي: علامة على وجود الحمل. وفي علة سؤاله «آية» قولان:
أحدهما: أن الشيطان جاءه، فقال: هذا الذي سمعت من صوت الشيطان، ولو كان من وحي الله، لأوحاه إليك، كما يوحي إليك غيره، فسأل الآية، ذكره السدي عن أشياخه. والثاني: أنه إنما سأل الآية على وجود الحمل ليبادر بالشكر، وليتعجل السرور، لأن شأن الحمل لا يتحقق بأوله فجعل الله آية وجود الحمل حبس لسانه ثلاثة أيام. فأما «الرَمز» فقال الفراء: الرمز بالشفتين، والحاجبين، والعينين، وأكثره في الشفتين. قال ابن عباس: جعل يكلم الناس بيده، وإنما منع من مخاطبة الناس ولم يحبس عن الذكر لله تعالى. وقال ابن زيد: كان يذكر الله، ويشير إلى الناس. وقال عطاء بن السائِب: اعتُقِلَ لسانه من غير مرض. وجمهور العلماء على أنه إنما اعتقل لسانه آيةً على وجود الحمل. وقال قتادة، والربيع بن أنس: كان ذلك عقوبةً له إذ سأل الآية بعد مشافهة الملائكة بالبشارة.
قوله تعالى: وَسَبِّحْ قال مقاتل: صل. قال الزجاج: يقال: فرغت من سُبحتي، أي: من صلاتي. وسمّيت الصلاة تسبيحاً، لأن التسبيح تعظيم الله، وتبرئته من السوء، فالصلاة يوصف فيها بكل ما يبرئه من السوء. قوله تعالى: بِالْعَشِيِّ العشي: من حين نزول الشمس إلى آخر النهار وَالْإِبْكارِ ما بين طلوع الفجر إلى وقت الضحى: قال الشاعر:
فلا الظلَّ في بَردِ الضُّحى تَسْتَطِيعُهُ ... ولا الفيءَ مِن بردِ العشيّ يذوق
قال الزجاج: يقال: أبكر الرجل يبكر إِبكاراً، وبكر يبكر تبكيراً، وبكر يبكر في كل شيء تقدّم فيه.

[سورة آل عمران (3) : آية 42]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ، قال جماعة من المفسرين: المراد بالملائكة: جبريل وحده، وقد سبق معنى الاصطفاء. وفي المراد بالتطهير هاهنا أربعة أقوال: أحدها:
أنه التطهير من الحيض، قاله ابن عباس. وقال السدي: كانت مريم لا تحيض. وقال قوم: من الحيض والنفاس. والثاني: من مس الرجال، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: من الكفر، قاله الحسن ومجاهد. والرابع: من الفاحشة والإثم، قاله مقاتل. وفي هذا الاصطفاء الثاني أربعة أقوال: أحدها: أنه تأكيد للأول. والثاني: أن الأول للعبادة. والثاني لولادة عيسى عليه السلام. والثالث: أن الاصطفاء الأول اختيار مبهمَ، وعموم يدخل فيه صوالح من النساء، فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين.
والرابع: أنه لما أطلق الاصطفاء الاول، أبان بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال. قال ابن

(1/281)


يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)

عباس، والحسن، وابن جريج: اصطفاها على عالمي زمانها. قال ابن الأنباري: وهذا قول الأكثرين.

[سورة آل عمران (3) : آية 43]
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ قد سبق شرح القنوت في «البقرة» ، وفي المراد به هاهنا أربعة أقوال: أحدها: أنه العبادة، قاله الحسن. والثاني: طول القيام في الصلاة، قاله مجاهد. والثالث:
الطاعة، قاله قتادة، والسدي، وابن زيد. والرابع: الإخلاص، قاله سعيد بن جبير.
وفي تقديم السجود على الركوع أربعة أقوال: أحدها: أن الواو لا تقتضي الترتيب، وإنما تؤذن بالجمع، فالركوع مقدّم، ذكره الزجاج في آخرين. والثاني: أن المعنى استعملي السجود في حال، والركوع في حال، لا أنهما يجتمعان في ركعة، فكأنه حثٌ لها على فعل الخير. والثالث: أنه مقدم ومؤخر، والمعنى: اركعي واسجدي، كقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ «1» ذكرهما ابن الأنباري. والرابع: أنه كذلك كان في شريعتهم تقديم السجود على الركوع، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قال مقاتل: ومعناه اركعي مع المصلين قُرَّاء بيت المقدس. قال مجاهد: سجدت حتى قرحت.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 44 الى 46]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ «ذلك» إشارة إلى ما تقدّم من قصّة زكريا، ويحيى، وعيسى، ومريم. والأنباء: الأخبار. والغيب: ما غاب عنك. والوحي: كل شيء دللت به من كلام أو كتاب، أو إشارة، أو رسالة، قاله ابن قتيبة. والوحي في القرآن على أوجه تراها في كتابنا الموسوم ب «الوجوه والنظائر» مونقة. وفي الأقلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها التي يكتب بها، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسدي. والثاني: أنها العصيّ، قاله الربيع بن أنس. والثالث: أنها القداح، وهو اختيار ابن قتيبة، وكذلك قال الزجاج: هي قداح جعلوا عليها علامات يعرفونها على جهة القرعة. وإنما قيل للسهم:
القلم، لأنه يقلم، أي: يبرى. وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء، فقد قلمته، ومنه القلم الذي يكتب به، لأنه قُلم مرة بعد مرة، ومنه: قلمت أظفاري. قال: ومعنى: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ لينظروا أيهم تجب له كفالة مريم، وهو الضمان للقيام بأمرها. ومعنى لَدَيْهِمْ: عندهم. وقد سبق شرح كفالتهم لها آنفاً.
وفي المراد بالكلمة هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قول الله له: «كن» فكان، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنها بشارة الملائكة مريم بعيسى، حكاه أبو سليمان. والثالث: أن الكلمة اسم لعيسى، وسمي كلمة، لأنه كان عن الكلمة. وقال القاضي أبو يعلى: لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى. وفي تسميته بالمسيح ستة أقوال: أحدها: أنه لم يكن لقدمه أخمص، والأخمص: ما يتجافى عن الأرض من القدم، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ، رواه
__________
(1) آل عمران: 55.

(1/282)


قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه مسح بالبركة، قاله الحسن، وسعيد. والرابع: أن معنى المسيح:
الصديق قاله مجاهد، وإبراهيم النخعي، وذكره اليزيدي. قال أبو سليمان الدمشقي: ومعنى هذا أن الله مسحه، فطهره من الذنوب. والخامس: أنه كان يمسح الأرض أي: يقطعها، ذكره ثعلب. وبيانه: أنه كان كثير السياحة. والسادس: أنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن، قاله أبو سليمان الدمشقي، وحكاه ابن القاسم. وقال أبو عبيد: المسيح في كلام العرب على معنيين: أحدهما: المسيح الدجال، والأصل فيه: الممسوح، لأنه ممسوح أحد العينين. والمسيح عيسى، وأصله بالعبرانية «مشيحا» بالشين، فلما عربته العرب، أبدلت من شينه سيناً، كما قالوا: موسى، وأصله بالعبرانية موشى. قال ابن الأنباري: وإنما بدأ بلقبه، فقال: المسيح عيسى ابن مريم، لأن المسيح أشهر من عيسى، لأنه قل أن يقع على سميٍّ يشتبه به، وعيسى قد يقع على عدد كثير، فقدمه لشهرته، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم. فأما قوله: عيسى ابن مريم، فإنما نسبه إلى أمه لينفي ما قاله عنه الملحدون من النصارى، إذ أضافوه إلى الله تعالى.
قوله تعالى: وَجِيهاً قال ابن زيد: الوجيه في كلام العرب: المحبب المقبول. وقال ابن قتيبة:
الوجيه: ذو الجاه. وقال الزجاج: هو ذو المنزلة الرفيعة عند ذوي القدر والمعرفة، يقال: قد وجُه الرجل يوْجُه وجاهة، ولفلان جاه عند الناس، أي: منزلة رفيعة. قوله تعالى: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قال قتادة: عند الله يوم القيامة. والمهد: مضجع الصبي في رضاعه، وهو مأخوذ من التمهيد، وهو التوطئة.
وفي تكليمه للناس في تلك الحال قولان: أحدهما: لتبرئة أمه مما قذفت به. والثاني: لتحقيق معجزته الدالة على نبوته. قال ابن عباس: تكلم ساعة في مهده، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق.
وَكَهْلًا قال: ابن ثلاثين سنة أرسله الله تعالى، فمكث في رسالته ثلاثين شهراً، ثم رفعه الله. وقال وهب بن منبه: جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة فمكث في نبوته ثلاث سنين، ثم رفعه الله. وقال ابن الأنباري: كان عليه السلام قد زاد على الثلاثين، ومن أربى عليها، فقد دخل في الكهولة. والكهل عند العرب: الذي قد جاوز الثلاثين، وإنما سمي الكهل كهلاً، لاجتماع قوته، وكمال شبابه، وهو من قولهم: قد اكتهل النبات. وقال ابن فارس: الكهل: الرجل حين وخطه الشّيب. فإن قيل: فقد علم أن الكهل يتكلم، فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره، أي: أنه يبلغ الكهولة، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: وَكَهْلًا قال: ذلك بعد نزوله من السماء. والثاني: أنه أخبرهم أن الزمان يؤثر فيه، وأن الأيام تنقله من حال إلى حال، ولو كان إلهاً لم يدخل عليه هذا التغير، ذكره ابن جرير الطبري. والثالث: أن المراد بالكهل: الحليم، قاله مجاهد.

[سورة آل عمران (3) : آية 47]
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ في علة قولها هذا قولان: أحدهما: أنها قالت هذا تعجباً واستفهاماً، لا شكاً وإنكاراً، على ما أشرنا إليه في قصة زكريا، وعلى هذا الجمهور. والثاني: أن الذي خاطبها كان جبريل، وكانت تظنه آدميا يريد بهاً سوءاً، ولهذا قالت: أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
فلما بشّرها

(1/283)


وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

لم تتيقن صحة قوله، لأنها لم تعلم أنه ملك، فلذلك قالت: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ، قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي: ولم يقربني زوج. والمس: الجماع، قاله ابن فارس. وسمي البشر بشراً، لظهورهم، والبشرة: ظاهر جلد الإنسان، وأبشرت الأرض: أخرجت نباتها. وبشرت الأديم: إذا قشرت وجهه، وتباشير الصبح: أوائله. قال: يعني جبريل: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي: بسبب، وبغير سبب. وباقي الآية مفسّر في «البقرة» .

[سورة آل عمران (3) : آية 48]
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
قوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ قرأ الأكثرون «ونعلمه» بالنون. وقرأ نافع، وعاصم بالياء، فعطفاه على قوله «يبشرك» . وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه كُتُبُ النبيين وعلمهم، قاله ابن عباس. والثاني:
الكتابة، قاله ابن جريج ومقاتل. قال ابن عباس: والحكمة الفقه وقضاء النّبيين.

[سورة آل عمران (3) : آية 49]
وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
قوله تعالى: وَرَسُولًا قال الزجاج: ينتصب على وجهين: أحدهما: ونجعله رسولاً، والاختيار عندي: ويكلم الناس رسولاً.
قوله تعالى: أَنِّي أَخْلُقُ قرأ الأكثرون «أني» بالفتح، فجعلوها بدلاً من آية، فكأنه قال: قد جئتكم بأنّي أخلق، وقرأ نافع بالكسر، قال أبو علي «1» : يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مستأنفاً.
والثاني: أنه فسر الآية بقوله: إني أخلق، أي: أصور وأقدر. قال ابن عباس: أخذ طيناً، وصنع منه خفاشاً، ونفخ فيه، فاذا هو يطير، ويقال: لم يصنع غير الخفاش، ويقال: إن بني إسرائيل نعتوه بذلك لأنّ الخفّاش عجيبة الخلق. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا: الخفاش.
فسألوه أشدّ الطير خلقا، لأنه يطير من غير ريش. وقال وهب: كان الذي صنعه يطير ما دام الناس ينظرونه، فاذا غاب عن أعينهم، سقط ميتاً، ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق. والأكثرون قرءوا فَيَكُونُ طَيْراً وقرأ نافع هاهنا وفي (المائدة) «طائراً» قال أبو علي: حجة الجمهور قوله تعالى:
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ولم يقل: كهيئة الطائر. ووجهة قراءة نافع، أنه أراد: يكون ما أنفخ فيه، أو ما أخلقه، طائراً.
وفي «الأكمه» أربعة أقوال: أحدها: أنه الذي يولد أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس، وسعيد عن قتادة، وبه قال اليزيدي، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه الأعمى، ذكره ابن جريج عن ابن عباس، ومعمر عن قتادة، وبه قال الحسن، والسدي، وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه: هو الذي يولد أعمى، وهو الذي يعمى، وإن كان بصيراً. والثالث: أنه الأعمش، قاله عكرمة. والرابع: أنه الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل، قاله مجاهد والضحاك.
__________
(1) هو الفارسي النحوي صاحب كتاب «الحلبيات» في اللغة والأدب.

(1/284)


وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)

والأبرص: الذي به وضح. وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام، علم الطب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك، إلا أنه ليس في الطب إبراء الأكمه والأبرص، وكان ذلك دليلاً على صدقه.
قال وهب: ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً، وإنما كان يداويهم بالدعاء. وذكر المفسرون أنه أحيا أربعة أنفس من الموتى. وعن ابن عباس: أن الأربعة كلهم بقي حتى ولد له، إلا سام بن نوح.
قوله تعالى: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ قال سعيد بن جبير: كان عيسى إذا كان في المكتب يخبرهم بما يأكلون، ويقول للغلام: يا غلام إن أهلك قد هيّئوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه؟ وقال مجاهد: بما أكلتم البارحة، وبما خبأتم منه. وعلى هذا المفسرون، إلا أن قتادة كان يقول: وأنبئُكم بما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم، وما تدخرون منها، وكان أخذ عليهم أن يأكلوا منها، ولا يدَّخروا، فلما خانوا، مسخوا خنازير.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 50 الى 51]
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
قوله تعالى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ قال الزجاج: نصب «مصدقاً» على الحال، أي: وجئتكم مصدقاً وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قال قتادة: كان قد حرم عليهم موسى الإبل والثروب «1» وأشياء من الطير، فأحلها عيسى. قوله تعالى: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ أي: بآيات تعلمون بها صدقي وإنما وحد، لأن الكل من جنس واحد مِنْ رَبِّكُمْ أي: من عند ربّكم.

[سورة آل عمران (3) : آية 52]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
قوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى أي: علم. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أحسستُ بالشيء، وحسست به، وقول الناس في المعلومات «محسوسات» خطأ، إنما الصواب «المحسات» فأما المحسوسات، فهي المقتولات، يقال: حسه: إذا قتله. والأنصار: الأعوان. و «إِلى» بمعنى «مع» في قول الجماعة، قال الزجاج: وإنما حسنت في موضع «مع» لأن «إِلى» غاية و «مع» تضم الشيء بالشيء.
قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون المعنى: من أنصاري إلى أن أبين أمر الله. واختلفوا في سبب استنصاره بالحواريين، فقال مجاهد: لما كفر به قومه، وأرادوا قتله، استنصر الحواريّين. وقال غيره:
لما كفر به قومه، وأخرجوه من قريتهم، استنصر الحواريين. وقيل: استنصرهم، لإقامة الحق، وإظهار الحجة. والجمهور على تشديد «ياء» الحواريّين. وقرأ الجونيّ، والجحدريّ، وأبو حياة: الحواريون بتخفيف الياء.
وفي معنى الحواريّين أقوال: أحدها: أنهم الخواص الأصفياء، قال ابن عباس: الحواريون:
أصفياء عيسى. وقال الفراء: كانوا خاصة عيسى. وقال الزجاج: الحواريون في اللغة: الذين أخلصوا،
__________
(1) في «اللسان» : الثّرب: شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء، وجمعه ثروب.

(1/285)


رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)

ونقوا من كل عيب، وكذلك الدقيق: الحوّاري، إنما سمي بذلك، لأنه ينقى من لباب البر وخالصه.
قال حذاق اللغويين: الحواريون: صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في تصديقهم ونصرتهم.
ويقال: عين حوراء: إذا اشتد بياضها، وخلص، واشتد سوادها، ولا يقال: امرأة حوراء، إلا أن تكون مع حور عينها بيضاء. والثاني: أنهم البيض الثياب، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم سموا بذلك، لبياض ثيابهم. والثالث: أنهم القصارون، سموا بذلك، لأنهم كانوا يحورون الثياب، أي:
يبيضونها. قال الضحاك، ومقاتل: الحواريون: هم القصارون. قال اليزيدي: ويقال للقصارين:
الحواريون، لأنهم يبيضون الثياب، ومنه سمي الدقيق: الحُوَّارى، والعين الحوراء: النقية المحاجر.
والرابع: الحواريون: المجاهدون. وأنشدوا:
ونحن أناسٌ يملأ البَيض هامنا ... ونحن حواريون حين نزاحف
جَماجِمُنا يوم اللقاء تراسُنا ... إِلى الموت نمشي ليس فينا تحانف «1»
والخامس: الحواريون: الصيادون. والسادس: الحواريون: الملوك «2» ، حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري. قال ابن عباس: عدد الحواريين اثنا عشر رجلاً. وفي صناعتهم قولان: أحدهما: أنهم كانوا يصطادون السمك رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا يغسلون الثياب، قاله الضحاك، وأبو أرطاة.

[سورة آل عمران (3) : آية 53]
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
قوله تعالى: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ هذا قول الحواريين. والذي أنزل: الإنجيل. والرسول:
عيسى. وفي المراد بالشاهدين خمسة أقوال: أحدها: أنهم محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأمته، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ، رواه عكرمة عن ابن عباس «3» . والثاني: أنهم من آمن قبلهم من المؤمنين، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنهم الأنبياء، لأن كل نبي شاهد أمته، قاله عطاء. والرابع: أن الشاهدين:
الصادقون، قاله مقاتل. والخامس: أنهم الذين شهدوا للأنبياء بالتّصديق. فمعنى الآية: واعترفنا فاكتبنا مع من فعل فعلنا، هذا قول الزجّاج.

[سورة آل عمران (3) : آية 54]
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)
قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ قال الزجاج: المكر من الخلق: خبث وخداع، ومن الله عزّ وجلّ: المجازاة، فسمي باسم ذلك، لأنه مجازاة عليه، كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «4» ،
__________
(1) في «اللسان» : الحنف: الاعوجاج في الرّجل. [.....]
(2) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 365: والصحيح أن الحواري الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لكل نبي حواريّ وحواري الزبير» .
(3) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 365: قوله فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ مع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس. وهذا إسناد جيد اه.
- قلت: ولعل الراجح قول الزجاج وهو الأخير، فإنه عامّ شامل.
(4) البقرة: 15.

(1/286)


إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)

وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ، لأن مكره مجازاة، ونصر للمؤمنين. قال ابن عباس: ومكرهم، أن اليهود أرادوا قتل عيسى، فدخل خوخة «1» ، فدخل رجل منهم، فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى إلى السماء، فلما خرج إليهم، ظنّوه عيسى، فقتلوه.

[سورة آل عمران (3) : آية 55]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ قال ابن قتيبة: التوفي، من استيفاء العدد يقال:
توفيت، واستوفيت، كما يقال: تيقنت الخبر، واستيقنته، ثم قيل للموت: وفاة، وتوف. وأنشد أبو عبيدة «2» :
إِنَّ بني الأدرد ليسوا من أحدٍ ... ليسوا إِلى قيس وليسوا من أسد
ولا توفاهم قريش في العدد أي: لا تجعلهم وفاء لعددها، والوفاء: التمام. وفي هذا التوفي قولان: أحدهما: أنه الرفع إلى السماء. والثاني: أنه الموت. فعلى القول الأول يكون نظم الكلام مستقيماً من غير تقديم ولا تأخير، ويكون معنى «متوفيك» قابضك من الأرض وافياً تاماً من غير أن ينال منك اليهود شيئاً، هذا قول الحسن، وابن جريج، وابن قتيبة، واختاره الفراء. ومما يشهد لهذا الوجه قوله تعالى: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ «3» ، أي: رفعتني إلى السماء من غير موت، لأنهم إنما بدلوا بعد رفعه، لا بعد موته. وعلى القول الثاني يكون في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: إني رافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك، هذا قول الفراء، والزجاج في آخرين. فتكون الفائدة في إعلامه بالتوفي تعريفه أن رفعَه إلى السماء لا يمنع من موته «4» . قال سعيد بن المسيب: رُفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وقال مقاتل: رفع من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان. وقيل: عاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين. ويقال: ماتت قبل رفعه.
قوله تعالى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه قولان: أحدهما: أنه رفعه من بين أظهرهم.
والثاني: منعهم من قتله «5» . وفي الذين اتبعوه قولان: أحدهما: أنهم مسلمون من أمّة محمّد عليه السلام، لأنهم صدقوا بنبوته، وأنه روح الله وكلمته، وهذا قول قتادة، والرّبيع، وابن السّائب. والثاني:
__________
(1) في «اللسان» : الخوخة: مخترق ما بين كل دارين لم ينصب عليها باب.
(2) الرجز لمنظور الوبري. انظر «اللسان» مادة (وفي) .
(3) المائدة: 117.
(4) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 366: قال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا النوم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ. وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا قام من النوم: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا» الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال: في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه. قال الحسن: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لليهود «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» .
(5) وقع في المطبوع: قبله، والتصويب من «تفسير الماوردي» 1/ 397.

(1/287)


فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

أنهم النصارى، فهم فوق اليهود، واليهود مستذلون مقهورون، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني الدّين.

[سورة آل عمران (3) : آية 56]
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)
قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا قيل: هم اليهود والنصارى. وعذابهم في الدنيا بالسيف والجزية، وفي الآخرة بالنّار.

[سورة آل عمران (3) : آية 57]
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ قرأ الأكثرون بالنون، وقرأ الحسن، وقتادة، وحفص عن عاصم: «فيوفيهم» بالياء معطوفاً على قوله تعالى إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى.

[سورة آل عمران (3) : آية 58]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
قوله تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ يعني ما جرى من القصص. مِنَ الْآياتِ يعني الدلالات على صحة رسالتك، إذ كانت أخباراً لا يعلمها أميٌ. وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ قال ابن عباس: هو القرآن. قال الزجاج: معناه: ذو الحكمة في تأليفه ونظمه، وإبانة الفوائد منه.

[سورة آل عمران (3) : آية 59]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية، مخاصمة وفد نجران من النصارى للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، في أمر عيسى، وقد ذكرناه في أول السورة «1» . فأما تشبيه عيسى بآدم، فلأنهما جميعاً من غير أب.
وقوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ يعني: آدم. قال ثعلب: وهذا تفسير لأمر آدم. وليس بحال.
قوله تعالى: ثُمَّ قالَ لَهُ يعني آدم، وقيل لعيسى كُنْ فَيَكُونُ أي: فكان: فأريد بالمستقبل الماضي، كقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ «2» أي: ما تلت.

[سورة آل عمران (3) : آية 60]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
قوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ قال الزجاج: الحق مرفوع على خبر ابتداء محذوف، المعنى:
الذي أنبأتك به في قصة عيسى الحق من ربك فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي: الشاكين. والخطاب للنبي خطابٌ للخلق، لأنه لم يشك.

[سورة آل عمران (3) : آية 61]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)
قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ في هاء «فيه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى عيسى. والثاني:
__________
(1) تقدم برقم 153.
(2) البقرة: 102.

(1/288)


إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

إلى الحق. والعلم: البيان والإيضاح.
قوله تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا قال ابن قتيبة: تعال: تفاعل، من علوت، ويقال للاثنين من الرجال والنساء: تعاليا، وللنساء: تعالين. قال الفراء: أصلها من العلو، ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياها، صارت عندهم بمنزلة «هلم» حتى استجازوا أن يقولوا للرجل، وهو فوق شرف: تعال، أي: اهبط.
وإنما أصلها: الصعود. قال المفسرون: أراد بأبنائنا: فاطمة، والحسن، والحسين. وروى مسلم في «صحيحه» من حديث سعد بن أبي وقاص قال:
(179) لما نزلت هذه الآية تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: «اللهم هؤلاء أهلي» .
قوله تعالى: وَأَنْفُسَنا فيه خمسة أقوال: أحدها: أراد علي بن أبي طالب، قاله الشعبي.
والعرب تخبر عن ابن العم بأنه نفس ابن عمه. والثاني: أراد الإخوان، قاله ابن قتيبة. والثالث: أراد أهل دينه، قاله أبو سليمان الدمشقي. والرابع: أراد الأزواج. والخامس: أراد القرابة القريبة، ذكرهما علي بن أحمد النيسابوري. فأما الابتهال، فقال ابن قتيبة: هو التداعي باللَّعن، يقال: عليه بَهلةُ الله، وبُهلته، أي: لعنته. وقال الزجاج: معنى الابتهال في اللغة: المبالغة في الدعاء وأصله: الالتعان، يقال: بهله الله، أي: لعنه. وأمر بالمباهلة بعد إقامة الحجة.
(180) قال جابر بن عبد الله: قدم وفد نجران فيهم السيّد والعاقب فذكر الحديث.. إلى أن قال:
فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه أن يغادياه، فغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل اليهما، فأبيا أن يجيباه، فأقرا له بالخراج فقال: «والذي بعثني بالحقّ لو فعلا لأمطر الوادي نارا»

[سورة آل عمران (3) : آية 62]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ قال الزجاج: دخلت «مِن» هاهنا توكيداً ودليلاً على نفي جميع ما ادعى المشركون من الآلهة.

[سورة آل عمران (3) : آية 63]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عن الملاعنة، قاله مقاتل. والثاني: أنه عن البيان الذي أتى به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله الزجاج. والثالث: عن الإقرار بوحدانية الله، وتنزيهه عن الصاحبة والولد، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي الفساد هاهنا قولان: أحدهما: أنه العمل بالمعاصي، قاله
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2404 والترمذي 2999 والحاكم 3/ 147 من حديث سعد، وفيه قصة.
انظر «تفسير الشوكاني» 504.
أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 244 والواحدي 209 من حديث جابر، وفيه بشر بن مهران الخصاف، قال ابن أبي حاتم: ترك أبي حديثه وفيه أيضا محمد بن دينار، وهو ضعيف. وقد جعل الواحدي كلام جابر الأخير من كلام الشعبي، ويؤيد ذلك هو أن الحاكم أخرج حديث جابر 2/ 593 دون كلام جابر. وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

(1/289)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

مقاتل. والثاني: الكفر، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

[سورة آل عمران (3) : آية 64]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله قتاده، وابن جريج، والربيع بن أنس. والثاني: وفد نجران الذين حاجوا في عيسى، قاله السدي ومقاتل. والثالث: أهل الكتابين جميعاً «1» ، قاله الحسن.
__________
وقال ابن عباس: نزلت في القسيسين والرهبان، فبعث بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة. فقرأها جعفر، والنجاشي جالس، وأشراف الحبشة.
فأما «الكلمة» فقال المفسرون هي: لا إله إلا الله. فإن قيل: فهذه كلمات، فلم قال كلمة؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الكلمة تعبر عن ألفاظ وكلمات. قال اللغويون: ومعنى كلمة: كلام فيه شرح قصة وإن طال، تقول العرب قال زهير في كلمته يراد في قصيدته: قالت الخنساء:
وقافيةٍ مثلِ حدِّ السنا ... ن تبقى ويذهبُ من قالها
تقدُّ الذّؤابة مِن يَذْبلٍ ... أبت أن تزايل أو عالها «2»
نطْقتَ ابنَ عمروٍ فسهَّلتها ... ولم ينطق الناس أمثالها
فأوقعت القافية على القصيدة كلّها، والغالب على القافية أن تكون في آخر كلمة، من البيت، وإنما سمّيت قافية، لأن الكلمة تتبع البيت، وتقع آخره، فسمّيت قافية، من قول العرب: قفوت فلانا:
إذا اتّبعته، وإلى هذا الجواب يذهب الزجّاج وغيره.
والثاني: أن المراد بالكلمة: كلمات، فاكتفى بالكلمة من كلمات كما قال علقمة بن عبدة:
بها جيف الحسرى فأمّا عظامها ... فبيض وأمّا جلدها فصليب
أراد: وأما جلودها، فاكتفى بالواحد من الجمع، ذكره والذي قبله ابن الأنباريّ.
قوله تعالى: سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ قال الزجّاج: يعني بالسّواء العدل، وهو من استواء الشيء، ويقال: للعدل سواء وسواء. قال زهير بن أبي سلمى:
أروني خطّة لا ضيم فيها ... يسوّي بيننا فيها السّواء
فإن تركا السّواء فليس بيني ... وبينكم بني حصن بقاء
قال: وموضوع «أن» في قوله تعالى: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ خفض على البدل من «كلمة» المعنى:
(181) لم أقف له على إسناد، وهو غريب جدا، ويأتي في مطلع سورة مريم شيء من هذا.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 371: هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم.
(2) في «اللسان» سنان الرمح: حديدته لصقالتها، وملاستها. القد: القطع المستأصل والشق طولا. الذؤابة: ذؤابة كل شيء أعلاه. يذبل: جيل في أقصى أرض بني كلاب. تزايل: من تزيّل: تفرّق.

(1/290)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله. وجائز أن يكون «أن» في موضوع رفع، كأن قائلاً قال: ما الكلمة؟
فأجيب، فقيل: هي ألاّ نعبد إلا الله.
قوله تعالى: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سجود بعضهم لبعض، قاله عكرمة. والثاني: لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله، قاله ابن جريج. والثالث:
لا نجعل غير الله رباً، كما قالت النصارى في المسيح، قاله مقاتل والزجّاج.

[سورة آل عمران (3) : آية 65]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65)
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ. قال ابن عباس والحسن والسدي:
(182) اجتمع عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نصارى نجران، وأحبار اليهود، فقال هؤلاء: ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقال هؤلاء: ما كان إلا نصرانيا. فنزلت هذه الآية.

[سورة آل عمران (3) : آية 66]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ قرأ ابن كثير «ها أنتم» مثل: هعنتم، فأبدل من همزة الاستفهام «الهاء» أراد: أأنتم. وقرأ نافع وأبو عمرو «هانتم» ممدوداً استفهام بلا همزة، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، «ها أنتم» ممدوداً مهموزاً ولم يختلفوا في مد «هؤلاء» و «أولاء» .
قوله تعالى: فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فيه قولان: أحدهما: أنه ما رأوا وعاينوا قاله قتادة. والثاني: ما أُمروا به ونهوا عنه، قاله السدي. فأما الذي ليس لهم به علم، فهو شأن إبراهيم عليه السلام. روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان بين إبراهيم وموسى، خمسمائة وخمس وسبعون سنة. وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة «1» . وقال ابن إسحاق: كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة وخمس وستون سنة، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة. وقد سبق في «البقرة» معنى الحنيف.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 67 الى 68]
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
__________
أثر ابن عباس أخرجه الطبري 7198 من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لجهالة محمد، شيخ ابن إسحاق.
- وأثر السدي أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 2/ 72 وهذا مرسل.
- وأثر الحسن لم أره مسندا، وإنما ذكره الواحدي 214 بدون إسناد.
__________
(1) هذه الأقوال مصدرها الإسرائيليات.

(1/291)


وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)

قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، في سبب نزولها قولان:
(183) أحدهما: أن رؤساء اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لقد علمت أنَّا أولى بدين إبراهيم منك، وأنه كان يهودياً، وما بك إلا الحسد، فنزلت هذه الآية. ومعناها: أحق الناس بدين إبراهيم، الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم على دينه، قاله ابن عباس.
__________
والثاني: أن عمرو بن العاص أراد أن يُغضب النجاشي على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال للنجاشي: إنهم ليشتمون عيسى. فقال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقالوا: يقول: إنه عبد الله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم. فأخذ النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين، فقال: والله ما زاد على ما يقول صاحبكم ما يَزِن هذا القذى، ثم أبشروا، فلا دهورة «1» اليوم على حزب إبراهيم. قال عمرو بن العاص: ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرّهط وصاحبهم فأنزل الله يوم خصومتهم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، هذا قول عبد الرحمن بن غنم.

[سورة آل عمران (3) : آية 69]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69)
قوله تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ سبب نزولها أن اليهود قالوا لمعاذ بن جبل، وعمّار بن ياسر: تركتما دينكما، واتبعتما دين محمّد، فنزلت هذه الآية «2» ، قاله ابن عباس.
والطّائفة: اسم لجماعة مجتمعين على اجتمعوا عليه من دين، ورأي، ومذهب، وغير ذلك. وفي هذه الطائفة قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: اليهود والنّصارى، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. والضّلال: الحيرة. وفيه هاهنا قولان: أحدهما: أنه الاستنزال عن الحقّ إلى الباطل، وهو قول ابن عباس، ومقاتل. والثاني: الإهلاك، ومنه أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «3» قاله ابن جرير، والدّمشقيّ.
وفي قوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ قولان: أحدهما: وما يشعرون أنّ الله يدلّ المؤمنين على حالهم. والثاني: وما يشعرون أنهم يضلّون أنفسهم.

[سورة آل عمران (3) : آية 70]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 210 عن ابن عباس بدون إسناد، فهو لا شيء.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 211 عن أبي صالح عن ابن عباس. وهذا إسناد ساقط كما تقدم غير مرة.
وورد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» 2/ 73 وهذا مرسل، وشهر بن حوشب غير قوي. وله شاهد موصول من حديث أبي موسى: أخرجه الحاكم 2/ 309 وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، لكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية.
__________
(1) في «اللسان» : الدهورة: جمعك الشيء وقذفك به في مهواة ودهورت الشيء: كذلك. وفي حديث النجاشي: فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم، كأنه أراد لا ضيعة عليهم ولا يترك حفظهم وتعهدهم. [.....]
(2) ذكره الواحدي 213 بدون عزو لأحد فهو ساقط، ليس بشيء. وانظر «تفسير القرطبي» 4/ 110.
(3) السجدة: 10.

(1/292)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)

قوله تعالى: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ قال قتادة: يعني: محمداً والإسلام وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أن بعث محمد في كتابكم، ثم تكفرون به.

[سورة آل عمران (3) : آية 71]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
قوله تعالى: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ قال اليزيدي: معناه: لم تخلطون الحق بالباطل؟ قال ابن فارس: واللبس: اختلاط الأمر، وفي الأمر لبسة، أي: ليس بواضح. وفي الحق والباطل أربعة أقوال:
أحدها: أن الحق: إقرارهم ببعض أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والباطل: كتمانهم بعض أمره. والثاني: الحق:
إيمانهم بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم غدوة، والباطل: كفرهم به عشية، رويا عن ابن عباس. والثالث: الحق: التوراة، والباطل: ما كتبوه فيها بأيديهم، قاله الحسن، وابن زيد. والرابع: الحق: الإسلام. والباطل: اليهودية والنصرانية، قاله قتادة.
قوله تعالى: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ قال قتادة: كتموا الإسلام، وكتموا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم.

[سورة آل عمران (3) : آية 72]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
قوله تعالى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار، فآمنوا، وإذا كان آخره، فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب، وهم أعلم منا، فينقلبون عن دينهم، رواه عطية عن ابن عباس «1» . وقال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر حبراً من اليهود، فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد باللسان أول النهار، واكفروا آخره، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك، فيشك أصحابه في دينهم، ويقولون: هم أهل الكتاب، وهم أعلم منا، فيرجعون إلى دينكم، فنزلت هذه الآية «2» . وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور. والثاني: أن الله تعالى صرف نبيه إلى الكعبة عند صلاة الظهر، فقال قوم من علماء اليهود: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ يقولون: آمنوا بالقبلة التي صلوا إليها الصبح، واكفروا بالتي صلوا إليها آخر النهار، لعلهم يرجعون إلى قبلتكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس «3» . قال مجاهد وقتادة، والزجاج في آخرين: وجه النهار: أوله. وأنشد الزجاج «4» :
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
__________
(1) أخرجه الطبري 7233 بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي. وهو ضعيف عن ابن عباس، فالإسناد واه.
(2) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 214 عن الحسن والسدي بدون إسناد. وأثر السدي، أخرجه الطبري 7229 مع اختلاف يسير فيه. وورد من مرسل أبي مالك، أخرجه الطبري 7228.
(3) عزاه المصنف لابن عباس، وهو من رواية أبي صالح، وهو متروك في روايته عن ابن عباس، ورواية أبي صالح، هو الكلبي، كذبه الجمهور. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 215 عن مجاهد ومقاتل والكلبي بدون إسناد.
(4) البيتان لربيع بن زياد، يرثي مالك بن زهير العبسي.

(1/293)


وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)

يجد النساء حواسراً يَنْدبنه ... قد قُمن قبل تبلّج الأسحار «1»

[سورة آل عمران (3) : آية 73]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)
قوله تعالى: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، اختلف العلماء في توجيه هذه الآية على أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحدٌ مما أوتيتم من العلم، وفلق البحر، والمنِّ والسلوى، وغير ذلك، ولا تصدقوا أن يجادلوكم عند ربكم، لأنكم أصح ديناً منهم، فيكون هذا كله من كلام اليهود بينهم، وتكون اللام في «لمن» صلة، ويكون قوله تعالى:
قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ كلاماً معترضاً بين كلامين، هذا معنى قول مجاهد، والأخفش. والثاني: أن كلام اليهود تام عند قوله: لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ والباقي من قول الله تعالى، لا يعترضه شيءٌ من قولهم، وتقديره: قل يا محمد: إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم يا أمة محمد، إلاّ أن تجادلكم اليهود بالباطل، فيقولون: نحن أفضل منكم، هذا معنى قول الحسن، وسعيد بن جبير. وقال الفراء:
معنى: «أن يؤتى» : أن لا يؤتى. والثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، إلا من تبع دينكم، فأخرت «أن» ، وهي مقدمة في النية على مذهب العرب في التقديم والتأخير، ودخلت اللام على جهة التوكيد، كقوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ «2» أي:
ردفكم. وقال الشاعر:
ما كنتُ أخدعُ للخليل بخلَّة ... حتى يكون ليَ الخليلُ خَدوعا
أراد: ما كنت أخدع الخليل. وقال الآخر «3» :
يذمّون للدنيا وهم يحلبونها ... أفاويقَ حتى ما يَدِرُّ لها ثُعْل
أراد: يذمون الدنيا، ذكره ابن الأنباري. والرابع: أن اللام غير زائدة، والمعنى: لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاء به إلا لليهود. فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين كان عوناً لهم على تصديقه، قاله الزجاج. وقال ابن الأنباري: لا تؤمنوا أن محمداً وأصحابه على حق، إلا لمن تبع دينكم، مخافة أن يطلع على عنادكم الحق، ويحاجوكم به عند ربكم. فعلى هذا يكون معنى الكلام: لا تقروا بأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، وقد ذكر هذا المعنى مكي بن أبي طالب النحوي.
وقرأ ابن كثير: «أان يؤتى» بهمزتين: الأولى مخفّفة، والثانية مليّنة على الاستفهام، مثل: أانتم أعلم.
قال أبو علي: ووجهها أن «أن» في موضع رفع بالابتداء، وخبره: يصدقون به، أو يعترفون به، أو يذكرونه لغيركم، ويجوز أن يكون موضع «أن» نصباً، فيكون المعنى: أتشيعون، أو أتذكرون أن يؤتى
__________
(1) في «اللسان» : البلجة: ضوء الصبح آخر الليل عند انصداع الفجر.
(2) النمل: 72.
(3) هو ابن همّام السّلولي كما في «اللسان» مادة (ثعل) . والأفاويق: واحدها: فيقة: وهي اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ويقال شاة ثعول: تحلب من ثلاثة أمكنة وأربعة للزيادة التي في الطّبي. وإنما ذكر الثّعل للمبالغة في الارتضاع. والثعل لا يدرّ.

(1/294)


يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

أحدٌ، ومثله في المعنى: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ «1» . وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرّف: «إن يؤتى» ، بكسر الهمزة، على معنى: ما يؤتى.
وفي قوله تعالى أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قولان: أحدهما: أن معناه: ولا تصدقوا أنهم يحاجوكم عند ربكم، لأنهم لا حجة لهم، قاله قتادة. والثاني: أن معناه: حتى يحاجوكم عند ربكم على طريق التعبّد، كما يقال: لا يلقاه أو تقوم الساعة، قاله الكسائي.
قوله تعالى: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ قال ابن عباس: يعني النبوة، والكتاب، والهدى يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ لا ما تمنَّيتموه أنتم يا معشر اليهود من أنه لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم.

[سورة آل عمران (3) : آية 74]
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
قوله تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ في الرحمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الإسلام، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: النبوة، قاله مجاهد. والثالث: القرآن والإسلام، قاله ابن جريج.

[سورة آل عمران (3) : آية 75]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ قال ابن عباس: أودع رجل ألفا ومائتي أوقيه من ذهب عبد الله بن سلام، فأداها إليه، فمدحه الله بهذه الآية، وأودع رجل فنحاصَ بن عازوراء ديناراً، فخانه «2» . وأهل الكتاب: اليهود. وقد سبق الكلام في القنطار. وقيل. إِن «الباء» في قوله: «بقنطارٍ» بمعنى «على» . فأما الدينار، فقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: الدينار فارسي معرّب، وأصله: دِنّار، وهو وإِن كان معرباً، فليس تعرف له العرب اسماً غير الدينار، فقد صار كالعربيّ، ولذلك ذكره الله عزّ وجلّ في كتابه، لأنه خاطبهم بما عرفوا، واشتقوا منه فِعلاً، فقالوا: رجل مُدَنَّر:
كثير الدنانير. وبرذون «3» مدنّر: أشهب مستدير النقش ببياض وسواد. فان قيل: لم خصَّ أهل الكتاب بأن فيهم خائناً وأميناً والخلق على ذلك، فالجواب: أنهم يخونون المسلمين استحلالا لذلك، وقد بيّته في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فحذّر منهم. وقال مقاتل: الأمانة إلى من أسلم منهم، والخيانة إلى من لم يسلم. وقيل: إن الذين يؤدون الأمانة: النصارى، والذين لا يؤدونها: اليهود.
قوله تعالى: إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: دُمتَ ودُمتم، ومُت ومُتم، وتميم يقولون: مِت ودِمت بالكسر، ويجتمعون في «يفعل» يدوم ويموت. وفي هذا القيام
__________
(1) البقرة: 76.
(2) لا أصل له، ذكره البغوي في «تفسيره» 317 (آل عمران: 75) عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس، فالخبر باطل، وذكره القرطبي في «تفسيره» 4/ 114 بدون سند. وكذلك ذكره في «الكشاف» 1/ 401 بدون سند.
(3) في «اللسان» : برذون: دابة معروفة.

(1/295)


بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

قولان: أحدهما: أنه التقاضي، قاله مجاهد، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. قال ابن قتيبة:
والمعنى: ما دمت مواظباً بالاقتضاء له والمطالبة. وأصل هذا أن المطالب بالشيء يقوم فيه ويتصرَّف والتارك له يقعد عنه، قال الأعشى:
يقوم على الرَّغم في قومه ... فيعفو إِذا شاء أو ينتقم
أي: يطالب بالذّحل «1» ولا يقعد عنه. قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ «2» أي: عاملة غير تاركة، وقال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «3» أي: آخذ لها بما كسبت. والثاني: أنه القيام حقيقة، فتقديره: إلا ما دمت قائماً على رأسه، فإنه يعترف بأمانته، فاذا ذهبت ثم جئت، جحدك، قاله السدي.
قوله تعالى: ذلِكَ يعني: الخيانة. والسبيل: الإثم والحرج، ونظيره ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «4» قال قتادة: إنما استحل اليهود أموال المسلمين، لأنهم عندهم ليسوا أهل كتاب.
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ قال السدي: يقولون: قد أحلّ الله لنا أموال العرب.
وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: يعلمون أن الله قد أنزل في التوراة الوفاء، وأداء الأمانة. والثاني: يقولون الكذب، وهم يعلمون أنه كذب.

[سورة آل عمران (3) : آية 76]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
قوله تعالى: بَلى ردّ الله عزّ وجلّ عليهم قولهم: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ بقوله: بَلى قال الزجاج: وهو عندي وقف التمام، ثم استأنف، فقال: مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ، ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله: بَلى مَنْ أَوْفى. والعهد: ما عاهدهم الله عزّ وجلّ عليه في التّوراة. وفي «هاء» بِعَهْدِهِ قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى. والثاني: إلى الموفي.

[سورة آل عمران (3) : آية 77]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(185) أحدها: أن الأشعث بن قيس خاصم بعض اليهود في أرض، فجحده اليهودي فقدّمه إلى
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2356 و 2357 و 2676 و 2677 و 4549 و 4550 و 6659، و 6660، و 6676 و 6677 و 7183 و 7184 ومسلم 138 والشافعي 2/ 51 وأحمد 1/ 44 و 5/ 212 والطيالسي 262 و 1051 وأبو داود 3243 والترمذي 1269 وابن ماجة 2323 والطبري 7279 والواحدي في «أسباب النزول» 216 والبغوي 1/ 318 وابن حبان 5084 والبيهقي 10/ 44 من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان قال: فقال الأشعث:
فيّ والله كان ذلك. كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألك بينة» قلت لا. قال، فقال لليهودي: «احلف» . قال قلت: يا رسول الله إذا يحلف ويذهب بمالي، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا إلى آخر الآية» .
__________
(1) في «اللسان» الذّحل: الثأر، وقيل: طلب المكافأة بجناية العداوة والحقد.
(2) آل عمران: 113. [.....]
(3) الرعد: 33.
(4) التوبة: 91.

(1/296)


وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «ألك بينة» ؟ قال: لا. قال لليهودي: «أتحلف» ؟ فقال الأشعث: إذاً يحلف فيذهب بمالي. فنزلت هذه الآية. أخرجه البخاري ومسلم.
(186) والثاني: أنها نزلت في اليهود، عهد الله إليهم في التوراة تبيّن صفة النبيّ عليه السلام، فجحدوا، وخالفوا لما كانوا ينالون من سفلتهم من الدنيا، هذا قول عكرمة، ومقاتل.
(187) والثالث: أن رجلاً أقام سلعته في السوق أول النهار، فلما كان آخره، جاء رجل يساومه، فحلف: لقد منَعَها أول النهار من كذا، ولولا المساء لما باعها به، فنزلت هذه الآية. هذا قول الشعبي، ومجاهد.
فعلى القول الأول، والثالث، العهد: لزوم الطاعة، وترك المعصية، وعلى الثاني: ما عهده إلى اليهود في التوراة. واليمين: الحلف. وإن قلنا: إنها في اليهود، والكفار، فإن الله لا يكلمهم يوم القيامة أصلاً. وإن قلنا: إنها في العصاة، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا يكلمهم الله كلام خير. ومعنى وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، أي: لا يعطف عليهم بخير مقتاً لهم، قال الزجاج: تقول: فلان لا ينظر إلى فلان، ولا يكلمه معناه: أنه غضبان عليه.
قوله تعالى: وَلا يُزَكِّيهِمْ أي: لا يطهّرهم من دنس كفرهم وذنوبهم.

[سورة آل عمران (3) : آية 78]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في اليهود، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: في اليهود والنصارى، رواه الضحاك عن ابن عباس. وقوله تعالى: وَإِنَّ هي كلمة مؤكدة، واللام في قوله: «لَفريقاً» توكيد زائد على توكيد «إِنَّ» ، قال ابن قتيبه:
ومعنى يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ: يقلبونها بالتحريف والزيادة. والألسنة: جمع لسان، قال أبو عمرو: اللسان يذكر ويؤنَّث، فمن ذكره جمعه: ألسنة، ومن أنَّثه، جمعه: ألسناً. وقال الفراء: اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكراً. وتقول: سبق من فلان لسان، يعنون به الكلام، فيذكِّرونه. وأنشد ابن الأعرابي:
لسانك معسولٌ ونفسُك شحَّة ... وعند الثريا من صديقك مالُكا
وأنشد ثعلب «1» :
(186) ضعيف. أخرجه الطبري 7275 عن عكرمة مرسلا. وذكره السيوطي في «اللباب» ص 58، ونقل عن الحافظ قوله: الآية محتملة، لكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح اه. وهو المتقدم. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 220 بدون إسناد.
__________
أخرجه الطبري 7280 عن عامر الشعبي مرسلا، ورجاله ثقات، لكنه مرسل. ولأصله شاهد من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أخرجه البخاري 4551 والواحدي في «أسباب النزول» 219.
__________
(1) البيت للحطيئة كما في «اللسان» مادة «عكم» .

(1/297)


مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

ندِمت على لسانٍ كان مني ... فليت بأنَّه في جوفِ عِكْمِ «1»
والعكم: العدل. ودل بقوله: كان مني، على أن اللسان الكلام. وأنشد ثعلب:
أتتني لسان بني عامر ... أحاديثها بعد قول نكر
فأنّث لسان، لأنه عنى الكلمة والرّسالة.

[سورة آل عمران (3) : آية 79]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
قوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(188) أحدها: أن قوماً من رؤساء اليهود والنصارى، قالوا: يا محمد أتريد أن نتّخذك ربّا؟
فقال: معاذ الله، ما بذلك بعثني، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(189) والثاني: أن رجلاً قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا نسجد لك؟ قال «لا، فإنه لا ينبغي أن يُسجَد لأحد من دون الله» فنزلت هذه الآية، قاله الحسن البصري.
والثالث: أنها نزلت في نصارى نجران حيث عبدوا عيسى. قاله الضحاك، ومقاتل.
وفيمن عنى ب «البشر» قولان: أحدهما: محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والكتاب: القرآن، قاله ابن عباس، وعطاء.
والثاني: عيسى، والكتاب: الإنجيل، قاله الضحاك، ومقاتل. والحكم: الفقه والعلم، قاله قتادة في آخرين. قال الزجاج: ومعنى الآية لا يجتمع لرجل نبوَّة، والقول للناس: كونوا عباداً لي من دون الله، لأن الله لا يصطفي الكذبة.
قوله تعالى: وَلكِنْ كُونُوا أي: ولكن يقول لهم: كونوا، فحذف القول لدلالة الكلام عليه.
فأما الرّبّانيّون، فروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: هم الذين يغذّون الناس بالحكمة، ويربونهم عليها. وقال ابن عباس، وابن جبير: هم الفقهاء المعلِّمون. وقال قتادة، وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء. قال ابن قتيبة: واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون. وقال أبو عبيد: أحسب الكلمة ليست بعربية، إنما هي عبرانية، أو سريانيّة، وذلك أن عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربانيين.
وقال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء، وأهل العلم، قال: وسمعت رجلاً عالماً بالكتب يقول: هم العلماء
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 7294 والبيهقي في «الدلائل» 5/ 384 من حديث ابن عباس وفيه محمد بن أبي محمد، وهو مجهول. وعزاه السيوطي في «الدر» 2/ 82 لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في الدلائل.
ضعيف جدا. عزاه المصنف للحسن، وهذا مرسل، ومراسيل الحسن واهية. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 223 وعزاه السيوطي في «الدر» 2/ 82 (آل عمران: 80) لعبد بن حميد عن الحسن.
- تنبيه: والمرفوع منه صحيح، له شواهد، والوهن فقط في ذكر نزول الآية. والمرفوع سيأتي إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في «اللسان» عكم: داخل الجنب على المثل بالعكم، وهو النّمط تجعله المرأة كالوعاء تدخر فيه متاعها.

(1/298)


وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

بالحلال والحرام، والأمر والنهي. وحكى ابن الأنباري عن بعض اللغويين: الرباني: منسوب إلى الرب، لأن العلم: مما يطاع الله به، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة، كما قالوا: رجل لحياني: إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية.
قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «تعْلَمون» ، باسكان العين، ونصب اللام، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ: (تعلّمون) مثقلا، وكلهم قرءوا:
«تدرسون» خفيفة. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين وسعيد بن جبير، وطلحة بن مصرّف، وأبو حياة: «تُدرِّسون» ، بضم التاء مع التشديد. والدراسة: القراءة. قال الزجّاج: ومعنى الكلام: ليكن هديكم في التعليم هدي العلماء والحكماء، لأن العالم إنما يستحق هذا الاسم إذا عمل بعلمه.

[سورة آل عمران (3) : آية 80]
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
قوله تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ قرأ ابن عامر، وحمزة، وخلف، ويعقوب، وعاصم في بعض الروايات عنه وعبد الوارث، عن أبي عمرو، واليزيدي في اختياره، بنصب الراء. وقرأ الباقون برفع الراء، فمن نصب كان المعنى: وما كان لبشر أن يأمركم، ومن رفع قطعه مما قبله. قال ابن جريج: ولا يأمركم محمّد.

[سورة آل عمران (3) : آية 81]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ، قال الزجاج: موضع «إِذ» نصب، المعنى: واذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله. قال ابن عباس: الميثاق: العهد. وفي الذي أخذ ميثاقهم عليه قولان:
أحدهما: أنه تصديق محمّد صلّى الله عليه وسلّم، روي عن علي، وابن عباس، وقتادة، والسدي.
والثاني: أنه أخذ ميثاق الأول من الأنبياء ليؤمننَّ بما جاء به الآخر منهم، قاله طاوس. قال مجاهد والربيع بن أنس: هذه الآية خطأ من الكتَّاب «1» ، وهي في قراءة ابن مسعود: «وإِذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب» واحتج الربيع بقوله تعالى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ. وقال بعض أهل العلم: إنما أخذ الميثاق على النبيين وأممهم، فاكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم، لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التابع، وهذا معنى قول ابن عباس والزّجّاج.
__________
(1) باطل. أما أثر مجاهد، فأخرجه الطبري 7321 من طريق عيسى بن أبي عيسى الرازي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به. وإسناده واه إلى مجاهد لأجل عيسى هذا.
- وأما أثر الربيع، فأخرجه الطبري 7323 من طريق عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع به وأبو جعفر هو الرازي واسمه عيسى بن أبي عيسى، وهو المتقدم في إسناد مجاهد، وعنه ابنه عبد الله وهو واه، فهذا لا يصح عنهما، وهو قول باطل بكل حال، والصواب ما هو رسم المصحف، وهو المجمع عليه.

(1/299)


فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

واختلف العلماء في لام «لما» فقرأ الأكثرون «لما» بفتح اللام مع التخفيف، وقرأ حمزة مثلها، إلا أنه كسر اللام، وقرأ سعيد بن جبير «لما» مشدَّدة الميم، فقراءة ابن جبير، معناها: حين آتيتكم.
وقال الفراء في قراءة حمزة: يريد أخذ الميثاق للذي آتاهم، ثم جعل قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ من الأخذ.
قال الفراء: ومن نصب اللام جعلها زائدة. و «ما» هاهنا بمعنى الشرط والجزاء، فالمعنى: لئن آتيتكم ومهما آتيتكم شيئاً من كتاب وحكمة. قال ابن الأنباري: اللام في قوله تعالى: لَما آتَيْتُكُمْ على قراءة من شدَّد أو كسر: جواب لأخذ الميثاق، لأن أخذ الميثاق يمين. وعلى قراءة من خففها، معناها:
القسم، وجواب القسم اللام في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وإنما خاطب، فقال: آتيتكم. بعد أن ذكر النبيين وهم غيَّب، لأن في الكلام معنى قول وحكاية، فقال مخاطباً لهم: لما آتيتكم. وقرأ نافع «آتيناكم» بالنون والألف.
قوله تعالى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ قال عليّ عليه السلام: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد، إن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. وقال غيره: أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضُهم بعضاً.
والإصر هاهنا: العهد في قول الجماعة. قال ابن قتيبة: أصل الإصر الثِّقل، فسمي العهد إصراً، لأنه منعٌ من الأمر الذي أخذ له، وثقل وتشديد. وكلهم كسر ألف «إصري» وروى أبو بكر، عن عاصم ضمَّه.
قال أبو علي: يشبه أن يكون الضم لغة.
قوله تعالى: قالَ فَاشْهَدُوا قال ابن فارس: الشهادة: الإخبار بما شوهد. وفيمن خوطب بهذا قولان: أحدهما: أنه خطاب للنّبيين ثم فيه قولان: أحدهما: أن معناه: فاشهدوا على أممكم، قاله علي بن أبي طالب. والثاني: فاشهدوا على أنفسكم، قاله مقاتل. والثاني: أنه خطاب للملائكة، قاله سعيد بن المسيب، فعلى هذا يكون كناية عن غير مذكور.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 82 الى 83]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ قرأ أبو عمرو: «يبغون» بالياء مفتوحة. «وإِليه تُرجعون» بالتاء مضمومة، وقرأها الباقون بالياء في الحرفين. وروى حفص عن عاصم: «يبغون» و «يرجعون» بالياء فيهما، وفتح الياء وكسر الجيم، يعقوب على أصله.
(190) قال ابن عباس: اختصم أهل الكتابين، فزعمت كلُّ فرقة أنها أولى بدين إبراهيم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم» . فغضبوا، وقالوا: والله لا نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك، فنزلت هذه الآية.
والمراد بدين الله، دين محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وَلَهُ أَسْلَمَ انقاد، وخضع طَوْعاً وَكَرْهاً الطوع:
الانقياد بسهولة، والكره: الانقياد بمشقة وإباءٍ من النفس. وفي معنى الطوع والكره ستة أقوال: أحدها:
__________
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 224 بدون إسناد. ولم أره عند غيره، فهذا متن باطل لا أصل له لخلوه عن الإسناد، والظاهر أنه من رواية الكلبي بسلسلته المشهورة.

(1/300)


قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)

أن إسلام الكل كان يوم الميثاق طوعاً وكرهاً، رواه مجاهد عن ابن عباس، والأعمش عن مجاهد، وبه قال السدي. والثاني: أن المؤمن يسجد طائعاً، والكافر يسجد ظلُّه وهو كاره، روي عن ابن عباس، ورواه ابن أبي نجيح، وليث عن مجاهد. والثالث: أن الكل أقروا له بأنه الخالق، وإن أشرك بعضهم، فإقراره بذلك حجة عليه في إشراكه، هذا قول أبي العالية، ورواه منصور عن مجاهد. والرابع: أن المؤمن أسلم طائعاً، والكافر أسلم مخافة السيف، هذا قول الحسن. والخامس: أن المؤمن أسلم طائعاً، والكافر أسلم حين رأى بأس الله، فلم ينفعه في ذلك الوقت، وهذا قول قتادة. والسادس: أن إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جبلّتهم، لا يقدر أحدهم أن يمتنع من جبّلةٍ جبله عليها، ولا على تغييرها، هذا قول الزجاج، وهو معنى قول الشّعبيّ: انقاد كلّهم له.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 87]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)
قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(191) أحدها: أن رجلاً من الأنصار ارتدَّ، فلحق بالمشركين، فنزلت هذه الآية، إلى قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فكتب بها قومه إليه، فرجع تائبا فقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك منه وخلَّى عنه. رواه عكرمة عن ابن عباس. وذكر مجاهد والسدي أن اسم ذلك الرجل: الحارث بن سويد.
والثاني: أنها نزلت في عشرة رهط ارتدوا، فيهم الحارث بن سويد، فندم، فرجع «1» . رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثالث: أنها في أهل الكتاب، عرفوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم كفروا به.
رواه عطية عن ابن عباس «2» . وقال الحسن: هم اليهود والنصارى. وقيل: إن «كيف» هاهنا لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها الجحد، أي: لا يهدي الله هؤلاء.
__________
صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» 85 وأحمد 1/ 247 وابن حبان 4460 والحاكم 2/ 142 و 4/ 366 والطبري 7358 والبيهقي 8/ 197 والواحدي في «أسباب النزول» 225 من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وهو كما قالا، وله شواهد مرسلة. وانظر «تفسير الشوكاني» 520 بتخريجنا.
__________
(1) ذكره البغوي في «تفسيره» 324 عن الكلبي بدون إسناد، والكلبي كذبه غير واحد، روى عن أبي صالح عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، والصواب ما تقدم.
(2) ضعيف جدا. أخرجه الطبري 7366 بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي، وهو ضعيف عن ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر» 2/ 88 وعزاه لابن أبي حاتم. والصحيح ما تقدم عن ابن عباس.

(1/301)


خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)

[سورة آل عمران (3) : الآيات 88 الى 89]
خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها قال الزجاج أي: في عذاب اللعنة وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي: يؤخّرون عن الوقت. ومعنى: وَأَصْلَحُوا أي: أظهروا أنهم كانوا على ضلال، وأصلحوا ما كانوا أفسدوه، وغرّوا به من تبعهم ممن لا علم له.
فصل: وهذه الآية استثنت مَن تاب ممن لم يتب، وقد زعم قوم أنها نَسخت ما تضمنته الآيات قبلها من الوعيد، والاستثناء ليس بنسخ.

[سورة آل عمران (3) : آية 90]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت فيمن لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد، فإنهم قالوا: نقيم بمكة ونتربص بمحمد ريب المنون «1» ، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفراً بمحمد والقرآن، قاله الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني. والثالث: أنها نزلت في اليهود والنصارى، كفروا بمحمد بعد إيمانهم بصفته، ثم ازدادوا كفراً باقامتهم على كفرهم، قاله أبو العالية.
قال الحسن: كلما نزلت آية كفروا بها، فازدادوا كفراً.
وفي عِلة امتناع قبول توبتهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم ارتدوا، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم قوم تابوا من الذنوب في الشرك، ولم يتوبوا من الشرك، قاله أبو العالية. والثالث: أن معناه: لن تُقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، وهو قول الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسدي. والرابع: لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر، وهو قول مجاهد.

[سورة آل عمران (3) : آية 91]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ.
(192) روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما فتح مكة، دخل من كان من أصحاب
__________
باطل. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، ورواية أبي صالح عن الكلبي، وهذه تعرف بسلسلة الكذب عند العلماء، وهذا خبر باطل، فالسورة نزلت قبل فتح مكة بزمن طويل.
__________
(1) تقدم معناه عن ابن عباس، ولم أره مسندا بهذا اللفظ عن ابن عباس. وإنما ورد عن مجاهد بأتم منه، أخرجه الطبري 7365 والواحدي في «الأسباب» 226 وهذا مرسل، لكن يشهد لأصل حديث ابن عباس المتقدم أولا.

(1/302)


لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

الحارث بن سويد حياً في الإسلام، فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم كافراً.
قال الزجاج: وملء الشيء: مقدار ما يملؤه. قال سيبويه، والخليل: والملء بفتح الميم: الفعل، تقول: ملأت الشيء أملؤه ملأً، المصدر بالفتح لا غير. والملاءة: التي تلبس، ممدودة. والملاوة من الدهر: القطعة الطويلة منه، يقولون: ابل جديداً، وتمل حبيباً، أي: عش معه دهراً طويلاً. وذَهَباً منصوب على التمييز. وقال ابن فارس: ربما أُنث الذهب، فقيل: ذهبة، ويجمع على الأذهاب.
قوله تعالى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ قال الفراء: الواو هاهنا قد يستغنى عنها، ولو حذفت كان صواباً، كقوله تعالى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ «1» . قال الزجاج: هذا غلط، لأن فائدة الواو بيِّنة، فليست مما يلقى. قال النحاس: قال أهل النظر من النحويين في هذه الآية: الواو ليست مقحمة وتقديره: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً تبرعاً ولو افتدى به.

[سورة آل عمران (3) : آية 92]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ، في البر أربعة أقوال: أحدها: أنه الجنة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي في آخرين. قال ابن جرير: فيكون المعنى: لن تنالوا بر الله بكم الذي تطلبونه بطاعتكم. والثاني: التقوى، قاله عطاء، ومقاتل. والثالث: الطاعة، قاله عطية. والرابع: الخير الذي يُستحق به الأجر، قاله أبو روق. قال القاضي أبو يعلى: لم يرد نفي الأصل، وإنما نفي وجود الكمال.
فكأنه قال: لن تنالوا البر الكامل.
قوله تعالى: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، فيه قولان:
(193) أحدهما: أنه نفقة العبد من ماله وهو صحيح شحيح، رواه ابن عمر عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
والثاني: أنه الإنفاق من محبوب المال، قاله قتادة، والضحاك. وفي المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الصدقة المفروضة، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك. والثاني: أنها جميع الصدقات، قاله ابن عمر. والثالث: أنها جميع النفقات التي يُبتغى بها وجه الله تعالى، سواء كانت صدقة، أو لم تكن، نُقل عن الحسن، واختاره القاضي أبو يعلى.
(194) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة
__________
لم أره من حديث ابن عمر بعد بحث، وإنما صح من حديث أبي هريرة، وقد ساقه المصنف بمعناه.
وحديث أبي هريرة، أخرجه البخاري 1419 و 2748 ومسلم 1032 وأبو داود 2865 والنسائي 5/ 86 و 6/ 237 وابن ماجة 2706 وأحمد 2/ 25 و 231 و 415 و 447 والبغوي 1671 من طرق عن أبي هريرة، قال:
أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم قال: «أن تصدّق وأنت صحيح شحيح.
تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان» .
صحيح. أخرجه البخاري 1461 و 2318 و 2752 و 2769 و 4554 و 5611 ومسلم 998 وأحمد 3/ 141 والدارمي 2/ 390 وابن حبان 3340 والبيهقي 6/ 164- 165 و 275 ومالك 2/ 595- 596 من حديث أنس. وأخرجه الترمذي 2997 من وجه آخر عن أنس بنحوه. وأخرجه البخاري 2758 وأحمد 3/ 256 من طرق. عن أنس بن مالك.
__________
(1) الأنعام: 75.

(1/303)


كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)

أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء «1» ، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ. قال أنس: فلما نزلت: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قام أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها حيث أراك الله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بخ بخ، ذاك مال رابح أو رائح- شك الراوي «2» - وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمِّه.
وروي عن عبد الله بن عمر أنه قرأ هذه الآية فقال: لا أجد شيئاً أحب إليَّ من جاريتي رميثة «3» ، فهي حرة لوجه الله، ثم قال: لولا أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها، فأنكحها نافعاً، فهي أم ولده «4» . وسُئل أبو ذر: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة عماد الإسلام، والجهاد سنام العمل، والصّدقة شيء عجب. فقال السائل: يا أبا ذرٍ لقد تركت شيئاً هو أوثق عمل في نفسي ما ذكرته. قال:
ما هو؟ قال: الصيام. فقال: قربة وليس هناك، وتلا قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «5» . قال الزجاج: ومعنى قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي يجازي عليه.

[سورة آل عمران (3) : آية 93]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93)
قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ سبب نزولها أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(195) «أنا على ملة إِبراهيم» فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإِبل، وتشرب ألبانها؟
فقال: «كان ذلك حلالا لإبراهيم» . فقالوا: كل شيء نحرِّمه نحن، فإنه كان محرّماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا. فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم. قاله أبو روق، وابن السائب.
و «الطعام» : اسم للمأكول. قال ابن قتيبة: والحلّ: الحلال، والحرم والحرام، واللبس واللباس.
وفي الذي حرَّمه على نفسه، ثلاثة أقوال: أحدها: لحوم الإبل وألبانها. روي عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء بن أبي رباح، وأبي العالية في آخرين. والثاني: أنه العروق، رواه سعيد بن جبير عن
__________
واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 229 عن أبي روق والكلبي به، وهذا واه بمرة، شبه موضوع، الكلبي هو محمد بن السائب متهم بالوضع، وأبو روق، خبره معضل.
__________
(1) في «اللسان» : بيرحاء: وهو اسم مال، وموضع بالمدينة، وإنها فيعل من البراح، وهي الأرض الظاهرة.
(2) هو القعنبي، واسمه عبد الله بن مسلمة شيخ البخاري.
(3) في «الدر المنثور» 2/ 89 «مرجانة» وكذا في «المجمع» 10892.
(4) أخرجه البزار 2194 وقال الهيثمي في «المجمع» 6/ 326/ 10892: فيه من لم أعرفه.
(5) أخرجه الطبري 7394 من طريق ليث عن ميمون بن مهران عن أبي ذر به، وإسناده ضعيف لضعف ليث وهو ابن أبي سليم، وميمون لم يدرك أبا ذر. [.....]

(1/304)


فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)

ابن عباس، وهو قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين. والثالث: أنه زائدتا الكبد، والكليتان، والشحم إلا ما على الظهر، قاله عكرمة.
وفي سبب تحريمه لذلك أربعة أقوال:
(196) أحدها: أنه طال به مرضٌ شديد، فنذر: لئن شفاه الله، ليحرِّمنَّ أحبَّ الطعام والشراب إليه، روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
والثاني: أنه اشتكى عرق النسا فحرّم العروق، قاله ابن عباس في آخرين. والثالث: أن الأطباء وصفوا له حين أصابه «النسا» اجتناب ما حرمه، فحرمه، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: أنه كان إذا أكل ذلك الطعام، أصابه عرق النّسا فيبيت وقيدا «1» ، فحرمه، قاله أبو سليمان الدمشقي. واختلفوا:
هل حرّم ذلك بإذن الله، أم باجتهاده؟ على قولين. واختلفوا: بماذا ثبت تحريم الطعام الذي حرمه على اليهود، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حرم عليهم بتحريمه، ولم يكن محرماً في التوراة، قاله عطية.
وقال ابن عباس: قال يعقوب: لئن عافاني الله لا يأكله لي ولد. والثاني: أنهم وافقوا أباهم يعقوب في تحريمه، لا أنه حرِّم عليهم بالشرع، ثم أضافوا تحريمه إلى الله، فأكذبهم الله بقوله: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها، هذا قول الضحاك. والثالث: أن الله حرمه عليهم بعد التوراة لا فيها. وكانوا إذا أصابوا ذنباً عظيماً، حرم عليهم به طعام طيب، أو صب عليهم عذاب، هذا قول ابن السائب. قال ابن عباس:
فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها هل تجدون فيها تحريم لحوم الإبل وألبانها!.

[سورة آل عمران (3) : آية 94]
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
قوله تعالى: فَمَنِ افْتَرى
يقول: اختلق عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
أي: من بعد البيان في كتابهم، وقيل: من بعد مجيئكم بالتّوراة وتلاوتكم.

[سورة آل عمران (3) : آية 95]
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
قوله تعالى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ الصدق: الإخبار بالشيء على ما هو به، وضده الكذب. واختلفوا أي خبر عنى بهذه الآية؟ على قولين:
أحدهما: أنه عنى قوله تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا، قاله مقاتل، وأبو سليمان الدمشقي.
والثاني: أنه عنى قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا قاله ابن السّائب.

[سورة آل عمران (3) : آية 96]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96)
__________
حسن. أخرجه الترمذي 317 والنسائي في «الكبرى» 9072 وأحمد 1/ 273- 274 من حديث ابن عباس.
وفيه عبد الله بن الوليد. لينه الحافظ. وتوبع، فقد أخرجه الطبري 7418 من وجه آخر بإسناد لا بأس به عن ابن عباس مرفوعا، فالحديث حسن إن شاء الله. وقد حسنه الترمذي عن ابن عباس «أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
فأخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يسكن البدو، فاشتكى عرق النسا، فلم يجد شيئا يلائمه إلا تحريم الإبل وألبانها، فلذلك حرّمها» ، انظر «تفسير الشوكاني» 523 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» : الوقيذ الشديد المرض، الذي قد أشرف على الموت.

(1/305)


قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ قال مجاهد: افتخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود:
بيت المقدس أفضل من الكعبة. وقال المسلمون: الكعبة أفضل. فنزلت هذه الآية. وفي معنى كونه أوّلا قولان: أحدهما: أنه أول بيت كان في الأرض، واختلف أرباب هذا القول، كيف كان أوّل بيت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ظهر على وجه الماء حين خلق الله الأرض، فخلقه قبلها بألفي عام، ودحاها من تحته، فروى سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: كانت الكعبة حشفة «1» على وجه الماء، عليها ملكان يسبحان الليل والنهار قبل الأرض بألفي سنة. وقال ابن عباس: وضع البيت في الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة، ثم دُحيت الأرض من تحت البيت، وبهذا القول يقول ابن عمر، وابن عمرو، وقتادة، ومجاهد، والسدي في آخرين. والثاني: أن آدم استوحش حين أُهبط، فأوحى الله إليه، أن: ابن لي بيتاً في الأرض، فاصنع حوله نحو ما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي، فبناه، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثالث: أنه أُهبط مع آدم، فلما كان الطوفان، رُفع فصار معموراً في السماء، وبنى إبراهيم على أثره، رواه شيبان عن قتادة. القول الثاني: أنه أول بيت وُضع للناس للعبادة، وقد كانت قبله بيوت، هذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن، وعطاء بن السائب في آخرين.
فأما بكة، فقال الزجاج: يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقاً من البَكِّ. يقال: بكَّ الناس بعضهم بعضاً، أي: دفع. واختلفوا في تسميتها ببكة على ثلاثة أقوال: أحدها: لازدحام الناس بها، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والفراء، ومقاتل. والثاني: لأنها تبكّ أعناق الجبابرة، أي:
تدُّقها، فلم يقصدها جبارٌ إلا قصمه الله، روي عن عبد الله بن الزبير، وذكره الزجاج. والثالث: لأنها تضع من نخوة المتجبرين، يقال: بككت الرجل، أي: وضعت منه، ورددت نخوته، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي، وقُطرُب. واتفقوا على أن مكة اسمٌ لجميع البلدة. واختلفوا في بكة على أربعة أقوال: أحدها: أنه اسمٌ للبقعة التي فيها الكعبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو مالك، وإبراهيم، وعطيَّة. والثاني: أنها ما حول البيت، ومكة ما وراء ذلك، قاله عكرمة. والثالث: أنها المسجد، والبيت. ومكة: اسمٌ للحرم كله، قاله الزهري، وضمرة بن حبيب. والرابع: أن بكة هي مكة، قاله الضحاك، وابن قتيبة، واحتج ابن قتيبة بأن الباء تبدل من الميم يقال: سمد رأسه، وسبد رأسه: إذا استأصله. وشر لازم، ولازب.
قوله تعالى: مُبارَكاً قال الزجاج: هو منصوب على الحال. المعنى: الذي استقرّ بمكّة في حال بركته. وَهُدىً، أي: وذا هدىً. ويجوز أن يكون «هدى» في موضع رفع، المعنى: وهو هدى. فأما بركته، ففيه تغفر الذنوب، وتضاعف الحسنات، ويأمَن مَن دخله.
(197) وروى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من طاف بالبيت، لم يرفع قدما، ولم يضع
__________
حسن بشواهده. أخرجه الترمذي 959 وابن خزيمة 2753 وابن حبان 3697 والحاكم 1/ 489 من طريق جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا.
وإسناده ضعيف، جرير سمع من عطاء بعد الاختلاط. وأخرجه الطيالسي 1900 وأحمد 2/ 95 و 2/ 22- مطولا- وابن خزيمة 2753 عن محمد بن فضيل وهشيم عن عطاء به. وكلاهما سمع من عطاء بعد الاختلاط. وأخرجه النسائي 5/ 221 عن حماد عن عطاء عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عمر لكن بلفظ «من طاف سبعا فهو كعدل رقبة» . ورجاله ثقات، وهو صحيح إن كان سمعه عبد الله من ابن عمر، فإن عبارته تدل على الإرسال. لكن لهذا اللفظ طريق آخر، أخرجه ابن ماجة 2956 من طريق العلاء بن المسيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر به. وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين. وقال البوصيري: رجاله ثقات.
- قلت: فلفظ النسائي صحيح. وأما لفظ المصنف، فلم يرد من وجه صحيح عن ابن عمر، لكن في الباب أحاديث تشهد له، فهو حسن، والله أعلم.
__________
(1) في «القاموس» : الحشفة صخرة رخوة حولها سهل من الأرض، أو صخرة تنبت في البحر.

(1/306)


فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

أُخرى، إلا كتب الله له بها حسنة، وحظّ عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة» .
قوله تعالى: وَهُدىً لِلْعالَمِينَ، في معنى الهدى هاهنا أربعة أقوال: أحدها: أنه بمعنى القبلة، فتقديره: وقبلة للعالمين. والثاني: أنه بمعنى: الرحمة. والثالث: أنه بمعنى: الصلاح، لأن من قصده، صلحت حاله عند ربه. والرابع: أنه بمعنى: البيان، والدلالة على الله تعالى بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره، حيث يجتمع الكلب والظبي في الحرم، فلا الكلب يهيج الظبي، ولا الظبي يستوحش منه، قاله القاضي أبو يعلى.

[سورة آل عمران (3) : آية 97]
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ، الجمهور يقرءون: آيات. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ:
(فيه آية بينة مقام إبراهيم) ، وبها قرأ مجاهد. قالا: مقام إبراهيم. فأما مَن قرأ: آياتٌ فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: الآيات: مقام إبراهيم، وأمنُ مَنْ دخله. فعلى هذا يكون الجمع معبراً عن التثنية، وذلك جائز في اللغة، كقوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «1» وقال أبو رجاء: كان الحسن يعدّهن، وأنا أنظر إلى أصابعه: مقام إبراهيم، ومَن دخله كان آمناً، ولله على الناس حج البيت. وقال ابن جرير: في الكلام إضمار، تقديره: منهن مقام إبراهيم. قال المفسرون: الآيات فيه كثيرة، منها مقام إبراهيم، ومنها: أمن من دخله، ومنها: امتناع الطير من العلو عليه، واستشفاء المريض منها به، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا إخرابه، إلى غير ذلك. قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالبيت هاهنا: الحرم كلُّه، لأن هذه الآيات موجودة فيه، ومقام إبراهيم ليس في البيت، والآية في مقام إبراهيم أنه قام على حجر، فأثّرت قدماه فيه، فكان ذلك دليلاً على قدرة الله، وصدق إبراهيم.
قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، قال القاضي أبو يعلى: لفظه لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، وتقديره: ومَنْ دخَله، فأمنوه، وهو عام فيمن جنى جناية قبل دخوله، وفيمن جنى فيه بعد دخوله، إلا
__________
(1) سورة الأنبياء: 78.

(1/307)


أن الإجماع انعقد على أن من جنى فيه لا يؤمَّن، لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان، فبقي حكم الآية فيمن جنى خارجاً منه، ثم لجأ إلى الحرم. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أحمد في رواية المروذي: إذا قتل، أو قطع يداً، أو أتى حداً في غير الحرم، ثم دخله، لم يقم عليه الحدُّ، ولم يقتصَّ منه، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يؤاكل حتى يخرج، فإن فعل شيئاً من ذلك في الحرم، استوفي منه. وقال أحمد في رواية حنبل: إذا قتل خارج الحرم، ثم دخله، لم يقتل. وإن كانت الجناية دون النفس، فإنه يقام عليه الحد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال مالك والشافعي: يقام عليه جميع ذلك في النفس، وفيما دون النفس «1» .
وفي قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً دليل على أنه لا يقام عليه شيء من ذلك، وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، والشّعبيّ، وسعيد بن جبير، وطاوس.
قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، الأكثرون على فتح حاء «الحج» ، وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بكسرها. قال مجاهد: لما أنزل قوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ قال أهل الملل كلهم: نحن مسلمون، فنزلت هذه الآية، فحجه المسلمون، وتركه المشركون، وقالت اليهود: لا نحجه أبداً.
قوله تعالى: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، قال النّحويون: «من» بدل من «الناس» ، وهذا بدل البعض، كما تقول: ضربت زيداً رأسه.
(198) وقد روي عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، وعائشة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سُئِل: ما السبيل؟ فقال: «من وجد الزّاد والرّاحلة» .
__________
ورد عن جماعة من الصحابة بأسانيد واهية، لا تقوم بها حجة، منها:
1- حديث ابن عمر، أخرجه الترمذي 813 و 2998 وابن ماجة 2896 والدارقطني 2/ 217 والطبري 7482 و 7483 والبيهقي 4/ 330. وأشار الترمذي إلى ضعفه، حيث قال: إبراهيم هو ابن يزيد الخوزي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه اه. وكذا ضعف إسناده الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 390. لكن تابعه محمد بن عبد الله الليثي عند ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 394، لكن الليثي هذا واه.
2- حديث ابن مسعود، أخرجه أبو يعلى 5086 وذكره الهيثمي في «المجمع» 3/ 224 وقال: وفيه رجل ضعيف اه. وهو في مسند أبي حنيفة 223.
3- حديث أنس، أخرجه الدارقطني 2/ 216 والحاكم 1/ 442 وصححه على شرطهما، وقال: وقد توبع سعيد بن أبي عروبة، تابعه حمّاد بن سلمة عن قتادة، ثم أسنده هو والدارقطني من طريق حماد وقال: صحيح على شرط مسلم! وسكت الذهبي! وليس كذلك بل فيه عبد الله بن واحد الحراني، وهو متروك.
4- حديث عائشة: أخرجه الدارقطني 2/ 217 والعقيلي 323 والبيهقي 4/ 330 وأعلّه العقيلي بعتاب بن أعين وقال: وهم فيه والصواب عن الحسن مرسلا. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 390: حديث ابن عمر ضعيف، وحديث أنس معلول، وصوّب البيهقي أن يكون من مرسل الحسن، وأخرجه الدارقطني، بأسانيد ضعيفة اه باختصار.
- وجاء في «تلخيص الحبير» 2/ 221 ما ملخصه: وطرقه كلها ضعيفة، وكذا قال عبد الحق. وقال ابن منذر:
لا يثبت مسندا، والصواب من الروايات رواية الحسن المرسلة اه. ولمزيد الكلام عليه راجع «نصب الراية» 3/ 8- 10 فقد ذكر طرقه وكشف عن عللها. وانظر «تفسير ابن كثير» بتخريجي عند هذه الآية، وكذا «فتح القدير» للشوكاني.
__________
(1) تقدم هذا البحث في سورة البقرة.

(1/308)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ، فيه خمسة أقوال: أحدها: أن معناه: من كفر بالحج فاعتقده غير واجب، رواه مقسم عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، ومقاتل. والثاني: من لم يرج ثواب حجه، ولم يخف عقاب تركه، فقد كفر به، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث: أنه الكفر بالله، لا بالحج، وهذا المعنى مروي عن عكرمة، ومجاهد. والرابع: أنه إذا أمكنه الحج، فلم يحج حتى مات، وسم بين عينيه: كافر، هذا قول ابن عمر. والخامس: أنه أراد الكفر بالآيات التي أُنزلت في ذكر البيت، لأن قوماً من المشركين قالوا: نحن نكفر بهذه الآيات، هذا قول ابن زيد.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ. قال الحسن: هم اليهود والنصارى. فأما آيات الله فقال ابن عباس: هي القرآن ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم. وأما الشهيد، فقال ابن قتيبة: هو بمعنى الشاهد، وقال الخطابي: هو الذي لا يغيب عنه شيء، كأنه الحاضر الشاهد.
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ. قال مقاتل: دعت اليهود حذيفة، وعمار بن ياسر، إلى دينهم، فنزلت هذه الآية.
وفي المراد بأهل الكتاب هاهنا قولان: أحدهما: أنهم اليهودُ والنصارى، قاله الحسن. والثاني:
اليهود. قاله زيد بن أسلم، ومقاتل. قال ابن عباس: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: الإسلام، والحج.
وقال قتادة: لمَ تصدون عن نبي الله، وعن الإسلام. قال السديُّ: كانوا إذا سئلوا: هل تجدون محمداً في كتبكم؟ قالوا: لا. فصدوا عنه الناس.
قوله تعالى: تَبْغُونَها، قال اللغويون: الهاء كناية عن السبيل، والسبيل يذكَّر ويؤَنَّث. وأنشدوا:
فلا تبعُد فَكُلُّ فتى أُناس ... سَيُصبِحُ سالكاً تلك السبيلا
ومعنى «تبغونها» : تبغون لها، تقول العرب: ابغني خادماً، يريدون: ابتغه لي، فاذا أرادوا: ابتغ معي، وأعني على طلبه، قالوا: ابغني، ففتحوا الألف، ويقولون: وهبتك درهماً، كما يقولون: وهبت لك. قال الشاعر:
فتولَّى غُلامُهم ثم نادى ... أظليماً أصيدُكم أم حماراً؟ «1»
أراد: أصيدُ لكم. ومعنى الآية: يلتمسون لسبيل الله الزيغ والتحريف، ويريدون ردَّ الإيمان والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج، ويطلبون العدول عن القصد، هذا قول الفراء، والزّجّاج، واللغويين.
__________
(1) في «اللسان» : ظليم: الذكر من النعام. وأصيدكم: يعني أصيد لكم.

(1/309)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)

قال ابن جرير: خرج هذا الكلام على السبيل، والمعنى: لأهله، كأن المعنى: تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الحقِ عوجاً. أي: ضلالاً. قال أبو عبيدة: العوج بكسر العين، في الدين، والكلام، والعمل، والعَوج بفتحها، في الحائطِ والجذعِ. وقال الزجاج: العوج بكسر العين: فيما لا ترى له شخصاً، وما كان له شخص قلت: عَوج بفتحها، تقول: في أمره ودينه عِوَج، وفي العصا عَوج. وروى ابن الأنباري عن ثعلب قال: العِوج عند العرب بكسر العين: في كل ما لا يحاط به، والعَوج بفتح العين في كل ما لا يحصَّل، فيقال: في الأرضِ عوج، وفي الدين عوج، لأن هذين يتسعان، ولا يدركان. وفي العَصا عَوج، وفي السن عَوج، لأنهما يحاط بهما، ويبلغ كنههما. وقال ابن أبي فارس: العوج بفتح العين: في كل منتصب، كالحائط. والعِوج: ما كان في بساط أو أرض، أو دين، أو معاش.
قوله تعالى: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ فيه قولان: أحدهما: أن معناه، وأنتم شاهدون بصحة ما صددتم عنه، وبُطلان ما أنتم فيه، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وقتادة، والأكثرين. والثاني: أن معنى الشهداء هاهنا: العُقلاء، ذكره القاضي أبو يعلى في آخرين.

[سورة آل عمران (3) : آية 100]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100)
(199) سبب نزولها أن الأوس والخزرج كان بينهما حرب في الجاهلية، فلمّا جاء النّبيّ عليه السلام أطفأ تلك الحرب بالإسلام، فبينما رجلان أوسي وخزرجي يتحدثان، ومعهما يهودي، جعل اليهودي يذكِّرِهُما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهما حتى اقتتلا، فنادى كل واحد منهما بقومه، فخرجوا بالسلاح، فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأصلح بينهم، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وعكرمة، والجماعة. قال المفسرون: والخطاب بهذه الآية للأوس والخزرج. قال زيد بن أسلم: وعنى بذلك الفريق: شاس بن قيس اليهودي وأصحابه. قال الزجاج: ومعنى طاعتهم: تقليدهم.

[سورة آل عمران (3) : آية 101]
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ. قال ابن قتيبةَ: أي: يمتنع، وأصل العصمة: المنع، قال الزجاج: ويعتصم جَزمٌ ب «من» والجواب: فَقَدْ هُدِيَ

[سورة آل عمران (3) : آية 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
قال عكرمةُ: نزلت في الأوس والخزرج حين اقتتلوا، وأصلح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بينهم.
وفي حَقَّ تُقاتِهِ ثلاثة أقوال:
(200) أحدها: أن يطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يشكر فلا يكفر، رواه ابن مسعود
__________
ضعيف. أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» 2/ 103 (آل عمران: 100) والواحدي في «أسباب النزول» 231 عن عكرمة مرسلا، فهو ضعيف.
الصواب موقوف، كذا أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 441 والحاكم 2/ 294 والطبراني 8501 والطبري 7539 عن ابن مسعود. وصححه الحاكم على شرطهما، وكرره الطبري 7534 و 7535 و 7536 موقوفا و 7537 و 7538 و 7540 و 7541 من طرق موقوفا. ولم أجده مرفوعا، فقد رواه الأئمة كما رأيت موقوفا، وهو الصواب. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 538.

(1/310)


وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وهو قول ابن مسعود، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: أن يجاهد في الله حق الجهاد، وأن لا يأخذ العبد فيه لومة لائم، وأن يقوموا له بالقسط، ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أن معناه: اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه، قاله الزجاج.
فصل: واختلف العلماء: هل هذا الكلام محكم أو منسوخ؟ على قولين: أحدهما: أنه منسوخ، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد، والسدي، ومقاتل. قالوا: لما نزلت هذه الآية، شقت على المسلمين، فنسخها قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «1» . والثاني: أنها محكمة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول طاوس. قال شيخنا علي بن عبد الله: والاختلاف في نسخها وإحكامها، يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها، فالمعتقد نسخها يرى أن حَقَّ تُقاتِهِ الوقوف مع جميع ما يجب له ويستحقه، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به، فتحصيله من الواحد ممتنع، والمعتقد إحكامها يرى أن حَقَّ تُقاتِهِ أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته، فكان قوله تعالى:
مَا اسْتَطَعْتُمْ مفسراً ل حَقَّ تُقاتِهِ لا ناسخا ولا مخصّصا.

[سورة آل عمران (3) : آية 103]
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً قال الزجاج: اعتصموا: استمسكوا. فأما الحبل، ففيه ستة أقوال: أحدها: أنه كتاب الله: القرآن. رواه شقيق عن ابن مسعود، وبه قال قتادة، والضحاك، والسدي. والثاني: أنه الجماعة، رواه الشعبي عن ابن مسعود. والثالث: أنه دين الله، قاله ابن عباس، وابن زيد، ومقاتل، وابن قتيبة. وقال ابن زيد: هو الإسلام. والرابع: عهد الله، قاله مجاهد، وعطاء، وقتادة في رواية، وأبو عبيد، واحتج له الزجاج بقول الأعشى:
وإِذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلة ... أخذت من الأخرى إِليك حبالها
وأنشد ابن الأنباري:
فلو حبلاً تناول من سُليمى ... لمدَّ بحبلِها حبلاً متينا «2»
والخامس: أنه الإخلاص، قاله أبو العالية. والسادس: أنه أمر الله وطاعته، قاله مقاتل بن حيان.
قال الزجاج: وقوله: جَمِيعاً منصوب على الحال، أي: كونوا مجتمعين على الاعتصام به. وأصل
__________
(1) التغابن: 16.
(2) في «اللسان» : الحبل الوصال.

(1/311)


وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)

تَفَرَّقُوا: تتفرَّقوا، إلا أن التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد، والمحذوفة هي الثانية، لأن الأولى دليلة على الاستقبال، فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على الاستقبال، وهو مجزوم بالنهي، والأصل: ولا تتفرقون، فحذفت النون، لتدلّ على الجزم.
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، اختلفوا فيمن أُريد بهذا الكلام على قولين:
أحدهما: أنهم مشركو العرب، كان القوي يستبيح الضعيف، قاله الحسن، وقتادة.
والثاني: الأوس والخزرج، كان بينهم حرب شديد، قاله ابن إسحاق. والأعداء: جمع عدو.
قال ابن فارس: وهو من عَدَا: إِذا ظَلم.
قوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ أي: صرتم. قال الزجاج: وأصل الأخ في اللغة أنه الذي مقصده مقصد أخيه، والعرب تقول: فلان يتوخى مسارّ فلان، أي: ما يسره. والشَّفا: الحرف. واعلم أن هذا مثل ضربه الله لإشرافهم على الهلاك، وقربهم من العذاب، كأنه قال: كنتم على حرف حفرةٍ من النَّار، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا الموت على الكفر. قال السّدّيّ: فأنقذكم منها محمّد صلّى الله عليه وسلّم.

[سورة آل عمران (3) : آية 104]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ قال الزجاج: معنى الكلام: ولتكونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير، وتأمرون بالمعروف، ولكن «من» هاهنا تدخل لتحض المخاطبين من سائر الأجناس، وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين، ومثله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ معناه: اجتنبوا الأوثان، فانها رِجس. ومثله قول الشاعر «1» :
أخو رغائبَ يُعطيها ويسألها ... يأبى الظُّلامَةَ منه النَّوفل الزفر
وهو النوفل الزفر. لأنه وصفه بإعطاء الرغائب. والنوفل: الكثير الإعطاء للنوافل، والزفر: الذي يحمل الأثقال. ويدل على أن الكل أُمروا بالمعروف والنهي عن المنكر قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ قال: ويجوز أن يكون أمر منهم فرقة، لأن الدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه، وليس الخلق كلهم علماء ينوب بعض الناس فيه عن بعض، كالجهاد. فأما الخير، ففيه قولان: أحدهما: أنه الإسلام، قاله مقاتل. والثاني: العمل بطاعة الله، قاله أبو سليمان الدمشقي. وأما المعروف فهو ما يعرف كل عاقل صوابه، وضده المنكر، وقيل:
المعروف ها هنا: طاعة الله، والمنكر: معصيته.

[سورة آل عمران (3) : آية 105]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)
قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والحسن في آخرين. والثاني: أنهم الحروريّة «2» ، قاله أبو أمامة.
__________
(1) هو أعشى باهلة- عامر بن الحارث- كما في «اللسان» مادة (نفل) .
(2) حروراء: هي قرية بظاهر الكوفة وقيل على ميلين منها نزل بها الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنسبوا إليها- انظر معجم البلدان 2/ 245.

(1/312)


يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)

[سورة آل عمران (3) : آية 106]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ قرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عمران الجوني، وأبو نهيك: تبيض وتسود، بكسر التاء فيهما. وقرأ الحسن، والزهري، وابن محيصن، وأبو الجوزاء:
تبياضُّ وتسوادُّ بألف، ومدة فيهما. وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر. «فأمّا الذين اسوادّت وأمّا الذين ابياضّت» بألف ومدة. قال الزجاج: أخبر الله بوقت ذلك العذاب، فقال: يوم تبيض وجوه. قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنَّة، وتسود وجوه أهل البدعة. وفي الذين اسودت وجوههم، خمسة أقوال: أحدها: أنهم كل من كفر بالله بعد إيمانه يوم الميثاق، قاله أُبيّ بن كعب. والثاني: أنهم الحرورية، قاله أبو أُمامة، وأبو إسحاق الهمذاني. والثالث: اليهود، قاله ابن عباس. والرابع: أنهم المنافقون، قاله الحسن. والخامس: أنهم أهل البدع، قاله قتادة.
قوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ قال الزجاج: معناه: فيقال لهم: أكفرتم، فحذف القول لأن في الكلام دليلاً عليه، كقوله تعالى: وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «1» ، أي ويقولان: ربنا تقبَّل منا. ومثله: مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ والمعنى: يقولون: سلام عليكم. والألف لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التقرير والتوبيخ. فإن قلنا: إنهم جميع الكفار، فإنهم آمنوا يوم الميثاق، ثم كفروا، وإن قلنا: إنهم الحرورية، وأهل البدع، فكفرهم بعد إيمانهم: مفارقة الجماعة في الاعتقاد، وإن قلنا: اليهود، فإنهم آمنوا بالنبي قبل مبعثه، ثم كفروا بعد ظهوره، وإن قلنا: المنافقون، فإنهم قالوا بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم.
قوله تعالى: فَذُوقُوا الْعَذابَ أصل الذوق إنما يكون بالفم، وهذا استعارة منه، فكأنهم جعلوا ما يُتَعَرَّف ويُعرف مذوقاً على وجه التشبيه بالذي يعرف عند التطعم، تقول العرب: قد ذُقتُ من إكرام فلان ما يُرغبني في قصده، يعنون: عرفت، ويقولون ذق الفرس، فاعرف ما عنده. قال تميم بن مقبل:
أو كاهْتِزَازِ رُديني تُذاوِقُه ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا
وقال الآخر:
وإنَّ الله ذاقَ حُلومَ قيس ... فلمَا راءَ خِفَّتَها قلاها
يعنون بالذوق: العلم. وفي كتاب الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروه، فقد ذاقه.

[سورة آل عمران (3) : آية 107]
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)
قوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ قال ابن عباس: هم المؤمنون. ورحمة الله: جنته، قال ابن قتيبة: وسمَّى الجنة رحمة، لأن دخولهم إياها كان برحمته. وقال الزجاج: معناه: في ثواب رحمته، قال: وأعاد ذكر «فيها» توكيدا.

[سورة آل عمران (3) : آية 108]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108)
__________
(1) سورة البقرة: 127.

(1/313)