زاد المسير في علم التفسير

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)

قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ قال بعضهم: معناه: لا يعاقبهم بلا جُرمٍ. وقال الزجاج:
أعلمنا أنه يعذب من عذبه باستحقاق.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 109 الى 110]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)
قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ سبب نزولها أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين، قالا لابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل: ديننا خير مما تدعونا إليه، ونحن أفضل منكم، فنزلت هذه الآية «1» ، هذا قول عكرمة ومقاتل.
وفيمن أُريد بهذه الآية، أربعة أقوال: أحدها: أنهم أهل بدر. والثاني: أنهم المهاجرون.
والثالث: جميع الصحابة. والرابع: جميع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، نقلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس.
(201) وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «إِنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها على الله عز وجل» . قال الزجّاج: وأصل الخطاب لأصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو يعم سائر أمته.
وفي قوله تعالى: كُنْتُمْ، قولان: أحدهما: أنها على أصلها، والمراد بها الماضي، ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: كنتم في اللوح المحفوظ. والثاني: أن معناه: خلقتم وجدتم. ذكرهما المفسرون. والثالث: أن المعنى: كنتم مذ كنتم، ذكره ابن الأنباري. والثاني: أن معنى كنتم: أنتم، كقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «2» . ذكره الفراء، والزجاج. قال ابن قتيبة: وقد يأتي الفعل على بنية الماضي، وهو راهن، أو مستقبل، كقوله تعالى: كُنْتُمْ ومعناه: أنتم، ومثله: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى «3» ، أي: وإذ يقول. ومثله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ «4» ، أي: سيأتي، ومثله:
__________
حديث صحيح بشواهده. إسناده حسن للاختلاف المعروف في بهز عن آبائه، وهي سلسلة الحسن، وللحديث شواهد، جد بهز هو معاوية بن حيدة رضي الله عنه. أخرجه الترمذي 3001 وابن ماجة 4287 وأحمد 4/ 447 والحاكم 4/ 84 والطبري 7619 والطبراني في «الكبير» 19/ 1023 و 1030 من حديث بهز بن حكيم.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث حسن. وذكره الهيثمي في «المجمع» 18645 وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات.
- وأخرج الطبري 7621 عن قتادة قال: «ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم وهو مسند ظهره إلى الكعبة:
نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة، نحن آخرها وخيرها» اه. وللحديث شواهد يتقوى بها إن شاء الله تعالى.
ويشهد له ما أخرجه أحمد 3/ 61 (11193) عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا وإن هذه الأمة توفّي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عز وجل» . وهو حديث حسن، وسيأتي.
__________
(1) ضعيف. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 235 عن عكرمة ومقاتل بدون إسناد وأخرجه الطبري 7607 عن عكرمة مرسلا مختصرا.
(2) سورة النساء: 96.
(3) سورة المائدة: 116.
(4) سورة النحل: 1. [.....]

(1/314)


لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)

كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ «1» ، أي: من هو في المهد، ومثله: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً «2» أي: والله سميع بصير، ومثله: فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ «3» أي: فنسوقه.
وفي قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قولان: أحدهما: أن معناه: كنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة: يأتون بهم في السلاسل حتى يدخلوهم في الإسلام. والثاني: أن معناه: كنتم خير الأمم التي أُخرجت.
وفي قوله تعالى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ قولان: أحدهما: أنه شرط في الخيريَّة، وهذا المعنى مروي عن عمر بن الخطاب، ومجاهد، والزجاج. والثاني: أنه ثناء من الله عليهم، قاله الربيع بن أنس. قال أبو العالية: والمعروف: التوحيد. والمنكر: الشرك. قال ابن عباس:
وأهل الكتاب: النّصارى واليهود.
قوله تعالى: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ: مَنْ أسلم، كعبد الله بن سلام وأصحابه. وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ يعني: الكافرين، وهم الذين لم يسلموا.

[سورة آل عمران (3) : آية 111]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)
قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً قال مقاتل: سبب نزولها أن رؤساء اليهود عمدوا إلى عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم، فنزلت هذه الآية «4» . قال ابن عباس: والأذى قولهم:
«عزير ابن الله» و «المسيح ابن الله» و «ثالث ثلاثة» . وقال الحسن: هو الكذب على الله، ودعاؤهم المسلمين إلى الضلالة. وقال الزجاج: هو البهت والتحريف. ومقصود الآية إعلام المسلمين بأنه لن ينالهم منهم إلا الأذى باللسان من دعائهم إياهم إلى الضلال، وإسماعهم الكفر، ثم وعدهم النَّصرَ عليهم في قوله: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ، وكذلك كان.

[سورة آل عمران (3) : آية 112]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)
قوله تعالى: أَيْنَ ما ثُقِفُوا معناه: أُدركوا وَوُجِدوا، وذلك أنهم أين نزلوا احتاجوا إلى عهد من أهل المكان، وأداء جزية. قال الحسن: أدركتهم هذه الأمة، وإنّ المجوس لتجبيهم الجزية. وأما الحبل، فقال ابن عباس، وعطاء، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد: الحبل: العهد، قال بعضهم: ومعنى الكلام: إلا بعهدٍ يأخذونه من المؤمنين بإذن الله. قال الزجاج: وما بعد الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ ليس من الأول، وإنما المعنى: أنهم أذلاء، إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه. وقد سبق في «البقرة» تفسير باقي الآية.
__________
(1) سورة مريم: 29.
(2) سورة النساء: 34.
(3) سورة فاطر: 9.
(4) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو متروك متهم بالكذب، فخبره لا شيء.

(1/315)


لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)

[سورة آل عمران (3) : آية 113]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
قوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً، في سبب نزولها قولان:
(202) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، احتبس عن صلاة العشاء ليلةً حتى ذهب ثلث الليل، ثم جاء فبشرهم، فقال: «إِنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب» ، فنزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود.
والثاني: أنه لما أسلم ابن سلاَّم في جماعة من اليهود، قال أحبارهم: ما آمن بمحمد إلا أشرارنا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، ومقاتل.
وفي معنى الآية قولان: أحدهما: ليس أمة محمد واليهود سواء، هذا قول ابن مسعود، والسدي.
والثاني: ليس اليهود كلهم سواء، بل فيهم من هو قائم بأمر الله، هذا قول ابن عباس، وقتادة. وقال الزجاج: الوقف التام لَيْسُوا سَواءً أي: أهل الكتاب متساوين.
وفي معنى «قائمة» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الثابتة على أمر الله، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنها العادلة، قاله الحسن، ومجاهد، وابن جريج. والثالث: أنها المستقيمة، قاله أبو عبيد، والزجاج. قال الفراء: ذكر أمة واحدة ولم يذكر بعدها أخرى، والكلام مبني على أخرى، لأن «سواءً» لا بد لها من اثنين، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان في الكلام دليل عليه، قال أبو ذؤيب:
عصيت إِليها القلب إني لأمرِهِ ... سميعٌ فما أدري أرشد طلابها؟!
ولم يقل: أم لا، ولا أم غيّ، لأن الكلام معروف المعنى. وقال آخر «1» :
وما أدري إذا يمَّمت أرضاً ... أُريدُ الخَيْرَ أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني
ومثله قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً ولم يذكر ضده، لأن في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «2» ، دليلاً على ما أضمر من ذلك، وقد رد هذا القول الزجاج، فقال: قد جرى ذكر أهل الكتاب في قوله تعالى: كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ فأعلم الله أن منهم أمة قائمة. فما الحاجة إلى أن يقال: وأمة غير قائمة؟ وإنما بدأ بذكر فعل الأكثر منهم، وهو الكفر والمشاقة، فذكر من كان منهم مبايناً لهؤلاء. قال: وآناءَ اللَّيْلِ ساعاته، وواحد
__________
حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 93 وأحمد 1/ 396 وأبو يعلى 5306 وابن حبان 1530 والبزار 375 «كشف» والواحدي في «أسباب النزول» 238 من حديث ابن مسعود، وإسناده حسن لأجل عاصم بن أبي النجود، وحسنه السيوطي في «الدر» 2/ 65 وكما نقل الشوكاني في «فتح القدير» 1/ 430 ووافقه، وله شاهد من حديث عائشة، أخرجه البخاري 566 ومسلم 638. وشاهد آخر من حديث ابن عمر أخرجه البخاري 564 ومسلم 639 وليس فيهما نزول الآية. فالحديث حسن بتمامه، وأصله صحيح بشواهده، والله أعلم.
__________
(1) هو المثقّب العبدي- عائذ بن محصن، والبيت من قصيدة جيدة في المفضّليات.
(2) سورة الزمر: 9.

(1/316)


يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

الآناء: إنى. قال ابن فارس: يقال: مضى من الليل إنى وإنيان، والجمع: الآناء. واختلف المفسرون: هل هذه الآناء معينة من الليل أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها معينة، ثم فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صلاة العشاء، قاله ابن مسعود، ومجاهد. والثاني: أنها ما بين المغرب والعشاء، رواه سفيان عن منصور. والثالث: جوف الليل، قاله السدي. والثاني: أنها ساعات الليل من غير تعيين، قاله قتادة في آخرين.
وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَسْجُدُونَ، قولان: أحدهما: أنه كناية عن الصلاة، قاله مقاتل، والفراء، والزجاج. والثاني: أنه السجود المعروف، وليس المراد أنهم يتلون في حال السجود، ولكنهم جمعوا الأمرين، التلاوة والسّجود.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 114 الى 115]
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
قوله تعالى: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: تفعلوا، وتكفروه، بالتاء في الموضعين على الخطاب، لقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. قال قتادة: فلن تُكفروه: لن يضل عنكم. وقرأ قوم، منهم: حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وعبد الوارث عن أبي عمرو: يفعلوا، ويكفروه، بالياء فيهما، إخباراً عن الأمة القائمة. وبقية أصحاب أبي عمرو يخيّرون بين الياء والتاء.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
قوله تعالى: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
اختلفوا فيمن أنزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنها في نفقات الكفّار، وصدقاتهم، قاله مجاهد. الثاني: في نفقة سفلة اليهود على علمائهم، قاله مقاتل. والثالث: في نفقة المشركين يوم بدر. والرابع: في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين، ذكر هذين القولين أبو الحسن الماوردي. وقال السدي: إنما ضرب الإنفاق مثلاً لأعمالهم في شركهم.
وفي الصرّ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه البرد، قاله الأكثرون. والثاني: أنه النّار، قاله ابن عباس، قال ابن الأنباري: وإنما وصفت النار بأنها صرّ لتصويتها عند الالتهاب. والثالث: أن الصرّ: التصويت، والحركة من الحصى والحجارة، ومنه: صرير النعل، ذكره ابن الأنباري.
والحرث: الزرع. وفي معنى لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
قولان: أحدهما: ظلموها بالكفر، والمعاصي، ومنع حق الله تعالى. والثاني: بأن زرعوا في غير وقت الزّرع.
قوله تعالى: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
قال ابن عباس: أي: ما نقصهم ذلك بغير جرم أصابوه، وإنما أُنزل بهم ذلك لظلمهم أنفسهم بمنع حق الله منه، وهذا مثل ضربه الله لإبطال أعمالهم في الآخرة.

(1/317)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)

وحدّثنا عن ثعلب، قال: بدأ الله عزّ وجلّ هذه الآية بالريح، والمعنى: على الحرث، كقوله تعالى:
كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ «1» وإنما المعنى على المنعوق به. وقريب منه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ «2» فخبر عن «الأزواج» وترك «الذين» ، كأنه قال: أزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، فبدأ بالذين، ومراده: بعد الأزواج. وأنشد:
لعلِّيَ إن مالت بي الرّيح ميلة ... عن ابن أبي ديَّان أن يتندَّما
فخبر عن ابن أبي ديان، وترك نفسه، وإنما أراد: لعل ابن أبي ديان أن يتندما إن مالت بي الريح ميلةً. وقد يبدأ بالشيء، والمراد التأخير، كقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «3» والمعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة يوم القيامة.

[سورة آل عمران (3) : آية 118]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ قال ابن عباس، ومجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، ويواصِلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة، والصداقة، والجوار، والرضاع، والحلف، فنهوا عن مباطنتهم. قال الزجاج: البطانة: الدُّخلاء الذين يستبطنون أمره وينبسط إليهم، يقال: فلان بطانة لفلان، أي: مُداخل له، مؤانس. ومعنى لا يألونكم:
لا يتقون غاية في إلقائكم فيما يُضرُّكم.
قوله تعالى: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي: ودُّوا عَنتكم، وهو ما نزل بكم من مكروه وضرّ، ويقال: فلان يعنت فلاناً، أي: يقصد إدخال المشقة والأذى عليه، وأصل هذا من قولهم: أكمةٌ عنوتٌ، إذا كانت طويلة، شاقة المسلك. قال ابن قتيبة: ومعنى مِنْ دُونِكُمْ أي: من غير المسلمين. والخبال: الشر.
قوله تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ قال ابن عباس: أي: قد ظهر لكم منهم الكذب، والشتم، ومخالفة دينكم، قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنَّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة «4» ، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذِّمة على قتال أهل الحرب، وروي عن عمر أنه بلغه أنَّ أبا موسى استكتب رجلاً من أهل الذمة، فكتب إليه يعنفه، وقال: لا تردوهم إلى العزِّ بعد إذ أذلّهم الله.

[سورة آل عمران (3) : آية 119]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)
__________
(1) سورة البقرة: 171.
(2) سورة البقرة: 234.
(3) سورة الزمر: 60.
(4) قال ابن كثير رحمه الله 1/ 398: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين، ففي هذا الأثر مع هذه الآية، دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب.

(1/318)


إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)

قوله تعالى: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ قال ابن عباس: كان عامة الأنصار يواصلون اليهود ويواصلونهم، فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود، فنزلت هذه الآية. والخطاب بهذه الآية للمؤمنين. قال ابن قتيبة: ومعنى الكلام: ها أنتم يا هؤلاء. فأما «تحبونهم» ، فالهاء والميم عائدة إلى الذين نهوا عن مصافاتهم. وفي معنى محبة المؤمنين لهم أربعة أقوال: أحدها: أنها الميل إليهم بالطباع، لموضع القرابة والرضاع والحلف، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس. والثاني: أنها بمعنى الرحمة لهم، لما يفعلون من المعاصي التي يقابلها العذاب الشديد، وهذا المعنى منقول عن قتادة. والثالث: أنها لموضع إظهار المنافقين الإيمان، روي عن أبي العالية. والرابع: أنها بمعنى الإسلام لهم، وهم يريدون المسلمين على الكفر، وهذا قول المفضّل، والزجّاج. والكتاب: بمعنى الكتاب، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا هذه حالة المنافقين، وقال مقاتل: هم اليهود. والأنامل:
أطراف الأصابع. قال ابن عباس: والغيظ: الحنق عليكم، وقيل: هذا من مجاز الكلام، ضُرِب مثلاً لما حلَّ بهم، وإن لم يكن هناك عض على أنملة، ومعنى مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ: ابقوا به حتى تموتوا، وإنما كان غيظهم من رؤية شمل المسلمين ملتئماً. قال ابن جرير: هذا أمر من الله تعالى لنبيه أن يدعو عليهم بأن يهلكم الله كمدا من الغيظ.

[سورة آل عمران (3) : آية 120]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
قوله تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ قال قتادة: وهي الألفة والجماعة. والسيئة: الفرقة والاختلاف، وإصابة طرف من المسلمين. وقال ابن قتيبة: الحسنة: النعمة. والسيئة: المصيبة.
قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا فيه قولان: أحدهما: على أذاهم، قاله ابن عباس. والثاني: على أمر الله، قاله مقاتل. وفي قوله تعالى: وَتَتَّقُوا قولان: أحدهما: الشرك، قاله ابن عباس. والثاني:
المعاصي، قاله مقاتل.
قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «لا يضِركم» بكسر الضاد، وتخفيف الراء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «لا يضركم» بضم الضاد وتشديد الراء.
قال الزجاج: الضر والضير بمعنى واحد. فأما الكيد فقال ابن قتيبة: هو المكر. قال أبو سليمان الخطابي: والمحيط: الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وأحاط علمه بالأشياء كلّها.

[سورة آل عمران (3) : آية 121]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ قال المفسرون: في هذا الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ولقد نصركم الله ببدر، وإذ غدوت من أهلك. وقال ابن قتيبة: تبوّئ، من قولك: بوَّأتُك منزلاً: إذا أفدتك إياه، أو أسكنتكه. ومعنى مقاعد للقتال: المعسكر والمصافُّ. واختلفوا في أي يوم كان ذلك، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم أُحد، قاله عبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، والزهري، وقتادة والسدي، والربيع وابن إسحاق، وذلك أنه خرج يوم أُحد من بيت عائشة إلى أُحد، فجعل يصف أصحابه للقتال. والثاني: أنه يوم الأحزاب، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل. والثالث: يوم بدر نقل عن

(1/319)


إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)

الحسن أيضاً. قال ابن جرير: والأول أصح، لقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وقد اتفق العلماء أن ذلك كان يوم أُحد.
قوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ قال أبو سليمان الدمشقي: سميع لمشاورتك إياهم في الخروج، ومرادهم للخروج عليم بما يخفون من حبّ الشهادة.

[سورة آل عمران (3) : آية 122]
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ قال الزجاج: كانت التبوئة في ذلك الوقت. وتفشلا: تجبنا، وتخورا. وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، أي: ناصرهما. قال جابر بن عبد الله:
(203) نحن هم بنو سلمة، وبنو حارثة، وما نحبُّ أن لو لم يكن ذلك لقول الله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. وقال الحسن: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله. وقيل: لما رجع عبد الله بن أُبي في أصحابه يوم أُحد، همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله.
فصل: فأما التوكل، فقال ابن عباس: هو الثقة بالله. وقال ابن فارس: هو إظهار العجز في الأمر والاعتماد على غيرك، ويقال: فلان وُكَلَهٌ تُكَلَةٌ، أي: عاجز، يكل أمره إلى غيره. وقال غيره: هو تفعل من الوكالة، يقال: وكلت أمري إلى فلان فتوكل به، أي: ضمنه، وقام به، وأنا متوكل عليه. وقال بعضهم: هو تفويض الأمر إلى الله ثقة بحسن تدبيره.

[سورة آل عمران (3) : آية 123]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
قوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ في تسمية بدر قولان: أحدهما: أنها بئر لرجل اسمه بدر، قاله الشعبي. والثاني: أنه اسم للمكان الذي التقوا عليه، ذكره الواقدي عن أشياخه.
قوله تعالى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أي لقلة العَدد والعُدد لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتكونوا من الشّاكرين.

[سورة آل عمران (3) : آية 124]
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ قال الشعبي: قال كُرْز بن جابر لمشركي مكة: إني أمدكم بقومي، فاشتد ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية. وفي أي يوم كان ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: يوم بدر، قاله ابن عباس، وعكرمة ومجاهد، وقتادة. والثاني: يوم أُحد، وعدهم فيه بالمدد إن صبروا، فلما لم يصبروا لم يُمدُّوا، روي عن عكرمة، والضحاك، ومقاتل.
والأول أصح. والكفاية: مقدار سد الخلة. والاكتفاء: الاقتصار على ذلك. والإمداد: إعطاء الشيء بعد الشيء.
قوله تعالى: مُنْزَلِينَ قرأ الأكثرون بتخفيف الزاي، وشددها ابن عامر.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4558 ومسلم 2505 والطبري 7727 من حديث جابر.
تنبيه: في هذا ردّ على الرافضة الذين اختصوا عليا وحده بالولاية. والآية نزلت في الأنصار بالاتفاق، وهؤلاء كلهم أولياء الله، والله وليهم، إنه نعم المولى ونعم النصير.

(1/320)


بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)

[سورة آل عمران (3) : آية 125]
بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
قوله تعالى: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا فيه قولان: أحدهما: أن معناه: من وجههم وسفرهم هذا، قاله ابن عباس والحسن، وقتادة ومقاتل، والزجاج. والثاني: من غضبهم هذا، قاله عكرمة، ومجاهد، والضحاك في آخرين. قال ابن جرير: من قال: من وجههم، أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر، ومن قال:
من غضبهم أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر. وأصل الفور ابتداء الأمر يؤخذ فيه، يقال: فارت القدر: إذ ابتداء ما فيها بالغليان، ثم اتصل. وقال ابن فارس: الفور: الغليان، يقال: فارت القدر تفور، وفار غضبه: إذا جاش، ويقولون: فعله من فوره، أي: قبل أن يسكن. وفي يوم فورهم قولان:
أحدهما: أنه يوم بدر، قاله قتادة. والثاني: يوم أُحد، قال مجاهد، والضحاك: كانوا غضبوا يوم أُحد ليوم بدر مما لقوا.
قوله تعالى: مُسَوِّمِينَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم بكسر الواو، والباقون بفتحها، فمن فتح الواو، أراد أن الله سوَّمها، ومن كسرها، أراد أن الملائكة سومت أنفسها. وقال الأخفش: سوّمت خيلها. وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال يوم بدر:
(204) «سوموا فإن الملائكة قد سومت» ونسب الفعل إليها، فهذا دليل الكسر.
قال ابن قتيبة: ومعنى مسومين: معلمين بعلامة الحرب، وهو من السّيماء، والسومة: العلامة التي يعلم بها الفارس نفسه. قال عليّ عليه السلام: وكان سيماء خيل الملائكة يوم بدر، الصوف الأبيض في أذنابها ونواصيها. وقال أبو هريرة: العهن الأحمر. وقال مجاهد: كانت أذناب خيولهم مجزوزة، وفيها العهن. وقال هشام بن عروة: كانت الملائكة على خيل بلق، وعليهم عمائم صفر.
(205) وروى ابن عباس عن رجل من بني غفار قال: حضرت أنا وابن عم لي بدراً، ونحن على شركنا، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا فيها حمحمة الخيل، وسمعنا فارساً يقول: أقدم حيزوم، فأما صاحبي فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم انتعشت.
(206) وقال أبو داود المازني: إني لأتبع يوم بدر رجلاً من المشركين لأضربه، فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن غيري قد قتله.
__________
ضعيف. أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 258 والطبري 7775 عن عمير بن إسحاق قال: إن أول ما كان الصوف يومئذ- يعني بدر- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسوّموا فإن الملائكة قد تسوّمت» ، وهذا مرسل والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.
ضعيف. أخرجه الطبري 7748 من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أنه حدّث عن ابن عباس ...
فذكره. وإسناده ضعيف، لجهالة المحدث لعبد الله.
صحيح. أخرجه الطبري 7750 من طريق ابن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن رجال من بني مازن عن أبي داود المازني به. وإسناده ضعيف، في الإسناد من لم يسمّ. وذكره ابن هشام في «السيرة» 2/ 274 وكذا الحافظ في «الإصابة» 4/ 58. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه مسلم 1763 بهذا السياق في أثناء حديث طويل، فالخبر صحيح إن شاء الله.

(1/321)


وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)

وفي عدد الملائكة يوم بدر خمسة أقوال: أحدها: خمسة آلاف، قاله الحسن.
(207) وروى [محمد بن] «1» جبير بن مطعم عن عليّ عليه السلام قال: بينا أنا أمتح «2» من قليب بدر، [إذ] جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة، وكان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول الله، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله، وكنت عن يساره، وهزم الله أعداءه.
والثاني: أربعة آلاف، قاله الشعبي. والثالث: ألف، قاله مجاهد. والرابع: تسعة آلاف، ذكره الزجاج. والخامس: ثمانية آلاف، ذكره بعض المفسرين.

[سورة آل عمران (3) : آية 126]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
قوله تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ يعني المدد إِلَّا بُشْرى، أي: إلا بشارة تطيِّب أنفسكم، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ، فتسكن في الحرب، ولا تجزع. والأكثرون على أن هذا المدد يوم بدر. وقال مجاهد:
يوم أُحد، وروي عنه ما يدل على أن الله أمدّهم بالملائكة في اليومين جميعاً، غير أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر.
قوله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: ليس بكثرة العَدد والعدد.

[سورة آل عمران (3) : آية 127]
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127)
قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً معناه: نصركم ببدر ليقطع طرفاً. قال الزجاج: أي: ليقتل قطعةً منهم. وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان: أحدهما: في يوم بدر، قاله الحسن، وقتادة، والجمهور.
والثاني: يوم أُحد، قتل منهم ثمانية وعشرون، قاله السدي.
قوله تعالى: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فيه سبعة أقوال: أحدها: أن معناه: يهزمهم، قاله ابن عباس، والزجاج. والثاني: يخزيهم، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: يصرعهم، قاله أبو عبيد، واليزيدي. وقال الخليل: هو الصرع على الوجه. والرابع: يهلكهم، قاله أبو عبيدة. والخامس: يلعنهم، قاله السدي.
والسادس: يُظفِّر عليهم، قاله المبرّد. والسابع: يغيظهم، قاله النّصر بن شميل واختاره ابن قتيبة. وقال ابن قتيبة: أهل النظر يرون أن التاء فيه منقلبة عن دال، كأن الأصل فيه: يكبدهم، أي: يصيبهم في
__________
ضعيف. أخرجه أبو يعلى 489 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 55 من طريق موسى بن يعقوب عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم عن علي، وإسناده ضعيف، أبو الحويرث هو عبد الرحمن بن معاوية وصفه الحافظ بأنه سيء الحفظ، ثم هو منقطع بين محمد بن جبير وعلي. ومع ذلك قال الهيثمي في «المجمع» 6/ 76: رجاله ثقات؟!.
__________
(1) ما بين معقوفتين زيادة عن «مسند أبي يعلى» و «دلائل النبوة» 3/ 55.
(2) في «اللسان» الماتح: المستقي، ومتح: جذب الدلو من البئر مستقيا.

(1/322)


لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)

أكبادهم بالحزن والغيظ، وشدة العداوة، ومنه يقال: فلان قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، والعرب تقول: العدو: أسود الكبد، قال الأعشى:
فما أُجْشِمْتُ من إِتيان قوم ... هم الأعداء والأكباد سود
كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة، اسودت، ومنه يقال للعدو: كاشح، لأنه يخبأ العداوة في كشحه. والكشح: الخاصرة، وإنما يريدون الكبد. لأن الكبد هناك. قال الشاعر:
وأُضمِر أضغاناً عليَّ كشوحُها «1»
والتاء والدال متقاربتا المخرج، والعرب تدغم إحداهما في الأخرى، وتبدل إحداهما من الأخرى، كقولهم: هرت الثوب وهرده: إذا خرقه، وكذلك: كبت العدو، وكبده، ومثله كثير.
قوله تعالى: فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ قال الزجاج: الخائب: الذي لم ينل ما أمَّل. وقال غيره: الفرق بين الخيبة واليأس، أن الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل، واليأس قد يكون من غير أمل.

[سورة آل عمران (3) : آية 128]
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128)
قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ في سبب نزولها خمسة أقوال:
(208) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كسرت رباعيته يوم أُحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربّهم عزّ وجلّ؟!» فنزلت هذه الآية. أخرجه مسلم في أفراده من حديث أنس. وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والرّبيع.
(209) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لعن قوماً من المنافقين، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر.
والثالث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم همَّ بسب الذين انهزموا يوم أُحد، فنزلت هذه للآية، فكفَّ عن ذلك، نقل عن ابن مسعود، وابن عباس «2» .
__________
حديث صحيح. أخرجه مسلم 1791 وأحمد 3/ 253 و 288 وابن حبان 6575 والواحدي في «أسباب النزول» 244 والبيهقي في «الدلائل» من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس.
وأخرجه الترمذي 3002 و 3003 وابن ماجة 4027 وأحمد 3/ 99 وابن حبان 6574 والواحدي 242 والبغوي 3642 والطبري 7805 و 7806 و 7807 من طريق حميد الطويل عن أنس.
ساقه المصنف بمعناه، وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري 4069 و 4559 و 7346 والترمذي 3004 و 3005 وأحمد 2/ 93 وأبو يعلى 5547 وابن خزيمة 622 وعبد الرزاق 4027 وابن حبان 1987 والنسائي في «التفسير» 95 و 96 والبيهقي 2/ 178 من حديث ابن عمر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو على أربعة نفر فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ فهداهم الله للإسلام. وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح يستغرب من هذا الوجه من حديث نافع عن ابن عمر اه. وأخرجه الطبري 7817 أيضا من هذا الوجه. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 552 بتخريجنا.
__________
(1) هو عجز بيت للنمر بن تولب، وصدره: تنفذ منهم نافذات تسؤنني.
(2) لم أره مسندا، ولا يصح، والصواب ما رواه الإمام مسلم وكذا البخاري.
- وذكره الماوردي في «تفسيره» 1/ 423 (آل عمران: 128) . [.....]

(1/323)


وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)

(210) والرابع: أن سبعين من أهل الصفة، خرجوا إلى قبيلتين من بني سليم، عصية وذكوان، فقتلوا جميعا، فدعا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليهم أربعين يوماً، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن سليمان.
(211) والخامس: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما رأى حمزة ممثلاً به، قال: «لأُمثلن بكذا وكذا منهم» فنزلت هذه الآية، قاله الواقدي.
وفي معنى الآية قولان: أحدهما: ليس لك من استصلاحهم أو عذابهم شيء. والثاني: ليس لك من النصر والهزيمة شيء. وقيل: إن «لك» بمعنى «إليك» .
قوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ قال الفراء: في نصبه وجهان إن شئت جعلته معطوفاً على قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً وإن شئت جعلت نصبه على مذهب «حتى» كما تقول: لا أزال معك حتى تعطيني. ولما نفى الأمر عن نبيه، أثبت أن جميع الأمور إليه بقوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 129 الى 130]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
__________
ضعيف. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك، وكذبه غير واحد. وله شاهد من مرسل الزهري ولكن مراسيل الزهري واهية، أرسله الزهري في أثناء حديثه.
- ويشهد له ما أرسله الزهري عقب حديث صحيح. وهو ما أخرج البخاري 4560 و 6200 ومسلم 675 والنسائي 2/ 201 والشافعي 1/ 86 و 87 وأحمد 2/ 255 وابن أبي شيبة 2/ 316 و 317 والطحاوي في «المعاني» 1/ 241 وأبو عوانة 2/ 280 و 283 وابن حبان 1972 وابن خزيمة 619 والدارمي 1/ 374 والواحدي في «أسباب النزول» 246 والبيهقي 2/ 197 و 244 من حديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر، ويرفع رأسه: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. ثم يقول وهو قائم: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيان ورعلا، وذكوان وعصيّة عصت الله ورسوله. ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ.
- وقول «ثم بلغنا» هو من مرسل الزهري كما بينه الحافظ في «الفتح» 8/ 71 فالخبر ضعيف.
وفي الباب من حديث أنس قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية يقال لهم: القرّاء فأصيبوا، فما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وجد على شيء ما وجد عليهم فقنت شهرا في صلاة الفجر ويقول: إن عصية عصوا الله ورسوله» .
أخرجه البخاري 6394 ومسلم 677.
- الخلاصة: خبر عصية وذكوان ورعل صحيح، لكن كون الآية نزلت فيهم ضعيف. وقال الحافظ في «الفتح» 8/ 227: قول الزهري ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت ... هذا البلاغ لا يصح، لأن قصة رعل وذكوان كانت بعد أحد، ونزول الآية لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ... كان في قصة أحد، فكيف يتأخر السبب عن النزول؟!.
واه بمرة عزاه المصنف للواقدي واسمه محمد بن عمر، وهو متروك متهم بالكذب، فخبره لا شيء، والصواب في ذلك ما رواه مسلم وكذا البخاري، وأما الأقوال الثلاثة الأخيرة فليست بشيء.
- وخبر حمزة سيأتي في سورة النحل عند الآية: 126.

(1/324)


وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا قال أهل التفسير: هذه الآية نزلت في ربا الجاهلية. قال سعيد بن جبير: كان الرجل يكون له على الرجل المال، فاذا حلّ الأجل، فيقول: أخّر عني، وأزيدك على مالك، فتلك الأضعاف المضاعفة.

[سورة آل عمران (3) : آية 131]
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131)
قوله تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ قال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين، لئلا يستحلوا الربا. قال الزجاج: والمعنى: اتقوا أن تحلّوا ما حرّم الله فتكفّروا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 132 الى 133]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
قوله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ كلهم أثبت الواو في وَسارِعُوا إلا نافعاً، وابن عامر، فإنهما لم يذكراها. وقال أبو علي: وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام، فمن قرأ بالواو، عطف وَسارِعُوا على وَأَطِيعُوا ومن حذفها، فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى، فاستغنت عن العطف. ومعنى الآية: بادروا إلى ما يوجب المغفرة. وفي المراد بموجب المغفرة هاهنا عشرة أقوال: أحدها: أنه الإخلاص، قاله عثمان بن عفّان رضي الله عنه. والثاني: أداء الفرائض، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والثالث: الإسلام، قاله ابن عباس. والرابع: التكبيرة الأولى من الصلاة، قاله أنس بن مالك. والخامس: الطاعة، قاله سعيد بن جبير. والسادس: التّوبة، قاله عكرمة. والسابع:
الهجرة، قاله أبو العالية. والثامن: الجهاد، قاله الضحاك. والتاسع: الصلوات الخمس، قاله يمان.
والعاشر: الأعمال الصالحة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ قال ابن قتيبة: أراد بالعرض السعة، ولم يرد العرض الذي يخالف الطول، والعرب تقول: بلاد عريضة، أي: واسعة.
(212) وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للمنهزمين يوم أحد: «لقد ذهبتم فيها عريضة» .
قال الشاعر «1» :
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كِفَّةُ حابل
قال: وأصل هذا من العرض الذي هو خلاف الطول، وإذا عرض الشيء اتسع، وإذا لم يعرض ضاق ودق. وقال سعيد بن جبير: لو ألصق بعضهن إلى بعض كانت الجنة في عرضهنّ.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 8102 عن ابن إسحاق به، وهذا مرسل بل معضل، فهو ضعيف. وأخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق كما في «الدر» 2/ 157.
__________
(1) في «اللسان» مادة- كفف- قال ابن بري: شاهد كفة الحابل قول الشاعر ولم ينسبه لأحد.
وكفة حابل: ما يصاد به الظباء، يجعل كالطوق. والحابل: الصائد، وكفته: حبالته التي يصيد بها.

(1/325)


الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)

[سورة آل عمران (3) : آية 134]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ قال ابن عباس: في العسر واليسر، ومعنى الآية:
أنهم رغبوا في معاملة الله، فلم يبطرهم الرخاء فينسيهم، ولم تمنعهم الضراء فيبخلوا.
قوله تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ قال الزجاج: يقال: كظمت الغيظ: إذا أمسكت على ما في نفسك منه، وكظم البعير على جرَّته: إذا رددها في حلقه. وقال ابن الأنباري: الأصل في الكظم:
الإمساك على غيظ وغم.
(213) وروى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى» .
قوله تعالى: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ فيه قولان: أحدهما: أنه العفو عن المماليك، قاله ابن عباس. والثاني: أنه على إطلاقه، فهم يعفون عمن ظلمهم، قاله زيد بن أسلم، ومقاتل.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 136]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(214) أحدها: أن امرأة أتت إلى نبهان التمار تشتري منه تمراً فضمّها، وقبّلها، ثم ندم، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.
(215) والثاني: أن أنصارياً وثقفياً آخى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بينهما، فخرج الثّقفيّ مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بعض مغازيه، فكان الأنصاري يتعاهد أهل الثقفي، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها، فدخل ولم يستأذن فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها، فقبّله ثم ندم، فأدبر راجعا،
__________
جيد. أخرجه ابن ماجة 4189 والبيهقي في «الشعب» 8305 و 8307 وأحمد 2/ 128 من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف، فيه عنعنة الحسن، وهو مدلس. قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات اه. وورد من وجه آخر، أخرجه أحمد 2/ 128 من طريق شجاع بن الوليد عن عمر بن محمد بن سالم عن ابن عمر، وإسناده حسن، رجاله ثقات. وفي الباب حديث ابن عباس، أخرجه أحمد 1/ 327. وصدره «من أنظر معسرا، أو وضع له، وقاه الله فيح جهنم، ... » . وله شاهد آخر من حديث معاذ بن أنس، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور ما شاء» أخرجه أبو داود 4777 والترمذي 2022 و 2495 وابن ماجة 4186 وأبو يعلى 1497 وأبو نعيم في الحلية 8/ 47- 48 وأحمد 3/ 440 و 438.
لم أره مسندا، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 247 عن ابن عباس في رواية عطاء بدون إسناد ولا يصح سبب النزول هذا، وقد ورد خبر نبهان التمار. انظر سورة هود آية: 114.
باطل. ذكره الواحدي 248 عن ابن عباس من طريق الكلبي وهو باطل، الكلبي متروك كذاب، وأبو صالح لم يلق ابن عباس. ومقاتل إن كان ابن سليمان فهو كذاب وإن كان ابن حيان فقد روى مناكير كثيرة.

(1/326)


قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)

فقالت: سبحان الله خنت أمانتك، وعصيت ربك ولم تصب حاجتك، قال: فخرج يسيح في الجبال، ويتوب إلى الله من ذنبه. فلما قدم الثقفي أخبرته المرأة بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه، فندم على صنيعه، فوافقه ساجداً يقول: ذنبي ذنبي، قد خنت أخي. فقال له: يا فلان انطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاسأله عن ذنبك، لعل الله أن يجعل لك منه مخرجاً، فرجع إلى المدينة، فنزلت هذه الآية بتوبته، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذكره مقاتل.
(216) والثالث: أن المسلمين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كان أحدهم إذا أذنب، أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه، فنزلت هذه الآية، فقال النبيّ عليه السلام: «ألا أخبركم بخير من ذلك» ؟ فقرأ هذه الآية، والتي قبلها، هذا قول عطاء.
واختلفوا هل هذه الآية نعت للمنفقين في السراء والضراء؟ أم لقوم آخرين؟ على قولين: أحدهما:
أنها نعت لهم، قاله الحسن. والثاني: أنها لصنف آخر، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والفاحشة: القبيحة، وكل شيء جاوز قدره فهو فاحش. وفي المراد بها هاهنا قولان: أحدهما:
أنها الزنى، قاله جابر بن زيد، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنها كل كبيرة، قاله جماعة من المفسرين.
واختلفوا في «الظلم» المذكور بعدها، فلم يفرق قوم بينه وبين الفاحشة، وقالوا: الظلم للنفس فاحشة أيضاً، وفرق آخرون، فقالوا: هو الصغائر.
وفي قوله تعالى: ذَكَرُوا اللَّهَ قولان: أحدهما: أنه ذكر اللسان، وهو الاستغفار، قاله ابن مسعود، وعطاء في آخرين. والثاني: أنه ذكر القلب، ثم فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه ذكر العرض على الله، قاله الضحاك. والثاني: أنه ذكر السؤال عنه يوم القيامة، قاله الواقدي. والثالث: ذكر وعيد الله لهم على ما أتوا، قاله ابن جرير. والرابع: ذكر نهي الله لهم عنه. والخامس: ذكر غفران الله ذكر القولين أبو سليمان الدمشقي.
فأما الإصرار، فقال الزجاج: هو الإقامة على الشيء. وقال ابن فارس: هو العزم على الشيء والثبات عليه. وللمفسرين في المراد بالإصرار ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مواقعة الذنب عند الاهتمام به.
وهذا مذهب مجاهد. والثاني: أنه الثبوت عليه من غير استغفار، وهذا مذهب قتادة، وابن إسحاق.
والثالث: أنه ترك الاستغفار منه، وهذا مذهب السدي.
وفي معنى وَهُمْ يَعْلَمُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: وهم يعلمون أن الإصرار يضر، وأن تركه أولى من التمادي، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: يعلمون أن الله يتوب على من تاب، قاله مجاهد، وأبو عمارة. والثالث: يعلمون أنهم قد أذنبوا، قاله السّدّيّ، ومقاتل.

[سورة آل عمران (3) : آية 137]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ السنن: جمع سنة، وهي الطريقة. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: قد مضى قبلكم أهل سنن وشرائع، فانظروا ماذا صنعنا بالمكذبين منهم، وهذا قول
__________
ضعيف. أخرجه الواحدي 249 في «الأسباب» عن عطاء مرسلا، فهو حديث ضعيف.

(1/327)


هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

ابن عباس. والثاني: قد مضت قبلكم سنن الله في إهلاك من كذب من الأمم، فاعتبروا بهم، وهذا قول مجاهد. وفي معنى فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ قولان: أحدهما: أنه السير في السفر. قال الزجاج: إذا سرتم في أسفاركم، عرفتم أخبار الهالكين بتكذيبهم. والثاني: أنه التفكر. ومعنى: فانظروا: اعتبروا، والعاقبة: آخر الأمر.

[سورة آل عمران (3) : آية 138]
هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
قوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ قال سعيد بن جبير: هذه الآية أول ما نزل من «آل عمران» .
وفي المشار إليه ب «هذا» قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أنه شرح أخبار الأمم السالفة، قاله ابن اسحاق. والبيان: الكشف عن الشيء، بان الشيء: اتضح، وفلانٌ أبين من فلان، اي: أفصح. قال الشعبي: هذا بيان للناس من العمى، وهدىً من الضلالة، وموعظة من الجهل.

[سورة آل عمران (3) : آية 139]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
قوله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا.
(217) سبب نزولها أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما انهزموا يوم أُحد، أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا قوَّةَ لنا إِلا بك» فنزلت هذه الآيات، قاله ابن عباس.
قال ابن عباس، ومجاهد: وَلا تَهِنُوا أي: ولا تضعفوا. وفيما نهوا عن الحزن عليه أربعة أقوال: أحدها: أنه قتل إخوانهم من المسلمين، قاله ابن عباس. والثاني: أنه هزيمتهم يوم أُحد، وقتلهم، قاله مقاتل. والثالث: أنه ما أصاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من شجه، وكسر رباعيته، ذكره الماوردي.
والرابع: أنه ما فات من الغنيمة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، قال ابن عباس: يقول: أنتم الغالبون وآخر الأمر لكم.

[سورة آل عمران (3) : آية 140]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
قوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ. قال ابن عباس:
(218) أصابهم يوم أحد قرح، فشكوا إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما لقوا، فنزلت هذه الآية.
__________
ضعيف بهذا اللفظ، والمرفوع منه صحيح، دون ذكر نزول الآية. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 250 عن ابن عباس بهذا اللفظ وبدون إسناد، وليس بصحيح، فإن المشهور في الأحاديث الصحيحة أن خالدا ومن معه قد علوا الجبل وكروا على المسلمين، وكان ما كان. وأخرجه الطبري 7891 عن ابن عباس مختصرا وفيه عطية العوفي وهو ضعيف وعنه مجاهيل، وهذا خبر منكر، وسيأتي في الصحيح ما يرده.
- وله شاهد أخرجه الطبري 7889 عن ابن جريج مرسلا، ومراسيل ابن جريج واهية جدا.
ضعيف. أخرجه الطبري 7899 عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه، وفيه حفص بن عمر ضعيف.
وأخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج كما في «الدر المنثور» 2/ 141 عن ابن عباس قال: نام المسلمون وبهم الكلوم- يعني يوم أحد- قال عكرمة: وفيهم أنزلت الآية. والآية إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ النساء: 104. وهو ضعيف، ابن جريج عن عكرمة منقطع.

(1/328)


وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

فأما المس، فهو الإصابة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع «قرح» بفتح القاف.
وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم «قرح» بضم القاف. واختلفوا هل معنى القراءتين واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد: القرح بالفتح: الجراح، والقتل. والقُرح بالضم: ألم الجراح. وقال الزجاج:
هما في اللغة بمعنى واحد، ومعناه: الجراح وألمها، قال: ومعنى نداولها: أي: نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون، فأما إذا أطاعوا، فهم منصورون، قال: ومعنى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ أي: ليعلم واقعاً منهم، لأنه عالم قبل ذلك، وإنما يجازي على ما وقع. وقال ابن عباس: معنى العلم هاهنا: الرؤية.
قوله تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ قال أبو الضحى: نزلت في قتلى أُحد، قال ابن جريج: كان المسلمون يقولون: ربنا أرنا يوماً كيوم بدر، نلتمس فيه الشهادة، فاتخذ منهم شهداء يوم أحد. قال ابن عباس: والظالمون هاهنا: المنافقون. وقال غيره: هم الذين انصرفوا يوم أحد مع ابن أبيّ المنافق.

[سورة آل عمران (3) : آية 141]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)
قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا قال الزجاج: معنى الكلام: جعل الله الأيام مداولة بين الناس، ليمحص المؤمنين، ويمحق الكافرين. وفي التمحيص قولان:
أحدهما: أنه الابتلاء والاختبار، وأنشدوا «1» :
رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففاً ... فكشَّفه التمحيص حتى بدا ليا
وهذا قول الحسن، ومجاهد، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة في آخرين.
والثاني: أنه التنقية، والتخليص، وهو قول الزجاج، وحكي عن المبرّد، قال: يقال: محص الحبل محصاً: إذا ذهب منه الوبر حتى يتخلّص، ومعنى قوله: اللهم محص عنا ذنوبنا: أذهبها عنا.
وذكر الزجّاج عن الخليل أن المحص: التخليص، يقال: محصت الشيءُ أمحصه محصاً: إذا أخلصته.
فعلى القول الأول التمحيص: ابتلاء المؤمنين بما يجري عليهم، وعلى الثاني: هو تنقيتهم من الذنوب بذلك. قال الفراء: معنى الآية: وليمحص الله بالذنوب عن الذين آمنوا.
قوله تعالى: وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ فيه أربعة أقوال: أحدها: يهلكهم، قاله ابن عباس. والثاني:
يذهب دعوتهم، قاله مقاتل. والثالث: ينقصهم ويقللهم، قاله الفراء. والرابع: يحبط أعمالهم، ذكره الزجّاج.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 143]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
__________
(1) البيت لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر كما في «الكامل» 1/ 183.

(1/329)


وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

قوله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ قال ابن عباس: لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، بما فعل بشهداء يوم بدر من الكرامة، رغبوا في ذلك، فتمنوا قتالاً يستشهدون فيه، فيلحقون بإخوانهم، فأراهم الله يوم أُحد، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا مَن شاء الله منهم، فنزل فيهم وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ يعني القتال مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أي: من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ يومئذ، قال الفراء، وابن قتيبة: أي: رأيتم أسبابه، وهي السيف ونحوه من السلاح. وفي معنى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: تنظرون إلى السيوف، قاله ابن عباس. والثاني: أنه ذكر للتوكيد، قاله الأخفش. وقال الزجاج: معناه: فقد رأيتموه، وأنتم بُصراء، كما تقول: رأيت كذا وكذا، وليس في عينك علّة، أي: رأيته رؤية حقيقية. والثالث: أن معناه: وأنتم تنظرون ما تمنيتم. وفي الآية إضمار، أي: فقد رأيتموه فلم انهزمتم!؟

[سورة آل عمران (3) : آية 144]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
قوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ. قال ابن عباس:
(219) صاح الشيطان يوم أُحد: قتل محمد. فقال قوم: لئن كان قتل لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا، ولو كان محمد حياً لم نهزم، فترخصوا في الفرار، فنزلت هذه الآية.
وقال الضحاك: قال قوم من المنافقين: قتل محمد، فالحقوا بدينكم الأول، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: قال أناس: لو كان نبياً ما قُتل، وقال ناسٌ من عِلْيَة أصحاب رسول الله: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى تلحقوا به، فنزلت هذه الآية. ومعنى الآية: أنه يموت كما ماتت قبله الرُّسل، أفإن مات على فراشه، أو قتل كمن قتل قبله من الأنبياء، أتنقلبون على أعقابكم؟! أي: ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر؟! وهذا على سبيل المثل، يقال لكل من رجع عما كان عليه: قد انقلب على عقبيه، وأصله:
رجعة القهقرى، والعقب: مؤخّر القدم.
وقوله تعالى: فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً أي: لن ينقص الله شيئاً برجوعه، وإنما يضر نفسه وَسَيَجْزِي أي: يثيب الشَّاكِرِينَ، وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الثابتون على دينهم، قاله علي عليه السلام، وقال: كان أبو بكر أمير الشاكرين. والثاني: أنهم الشاكرون على التوفيق والهداية.
والثالث: على الدّين.

[سورة آل عمران (3) : آية 145]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
قوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ في الإذن قولان:
__________
ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «أسبابه» 252 وعبد بن حميد وابن المنذر كما في «الدر» 2/ 144- آل عمران: 144- عن عطية العوفي، وعطية واه. وأخرجه الطبري 7948 عن عطية عن ابن عباس، وإسناده واه لأجل عطية، وعنه مجاهيل. وانظر «تفسير القرطبي» 1847 بتخريجنا.

(1/330)


وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)

أحدهما: أنه الأمر، قاله ابن عباس. والثاني: الإذن نفسه، قاله مقاتل.
وقال الزجاج: ومعنى الآية: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله.
قوله تعالى: كِتاباً مُؤَجَّلًا توكيد، والمعنى: كتب الله ذلك كتاباً ذا أجل. والأجل: الوقت المعلوم، ومثله في التوكيد كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ «1» ، لأنه لمّا قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ «2» دلّ على أنه مرفوض، فأكّد بقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وكذلك قوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ «3» لأنه لما قال:
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً «4» دلّ على أنه خلق الله فأكد بقوله: صُنْعَ اللَّهِ.
قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها أي: من قصد بعمله الدنيا، أُعطي منها، قليلاً كان أو كثيراً، ومن قصد الآخرة بعمله، أُعطي منها. وقال مقاتل: عنى بالآية: من ثبت يوم أحد، ومن طلب الغنيمة.
فصل: وأكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم، وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله تعالى: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ والصحيح أنه محكم، لأنه لا يؤتى أحد شيئاً إلا بقدرة الله ومشيئته.
ومعنى قوله تعالى: نُؤْتِهِ مِنْها أي ما نشاء، وما قدرنا له، ولم يقل: ما يشاء هو.

[سورة آل عمران (3) : آية 146]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قرأ الجمهور وَكَأَيِّنْ في وزن «كعيِّن» . وقرأ ابن كثير «وكائن» في وزن «كاعن» . قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: «كأيِّن» مثل: «كعِّين» ينصبون الهمزة، ويشددون الياء.
وتميم يقولون: «وكائن» كأنه فاعل من كئت. وأنشدني الكسائي:
وكائِن ترى يسعى من الناس جاهداً ... على ابنٍ غدا منه شجاعٌ وعقربُ
وقال آخر:
وكائِن أصابت مؤمناً من مُصيبةٍ ... على الله عُقباها ومنه ثوابُها
وقال ابن قتيبة: كائن بمعنى «كم» مثل قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها «5» وفيها لغتان. «كأين» بالهمزة وتشديد الياء، و «كائن» على وزن «قائل» ، وقد قرئ بهما جميعاً في القرآن، والأكثر والأفصح تخفيفها. قال الشاعر «6» :
وكائن أرينا الموتَ من ذي تحيَّةٍ ... إذا ما ازدرانا أو أصرَّ لمأثمِ
وقال الآخر»
:
وكائِن ترى من صامتٍ لكَ معجب ... زيادته أو نقصه في التّكلّم
__________
(1) سورة النساء: 24.
(2) سورة النساء: 24.
(3) سورة النمل: 88.
(4) سورة النمل: 88.
(5) سورة الطلاق: 8.
(6) أنشده ابن فارس ولم ينسبه لقائل كما في «الصاحبي» ص 132.
(7) هو زهير بن أبي سلمى من «معلقته» في «شرح الزوزني» ص 89.

(1/331)


وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)

قوله تعالى: قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبان، والمفضل كلاهما عن عاصم: «قُتِل» بضم القاف، وكسر التاء من غير ألف، وقرأ الباقون: قاتَلَ بألف، وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأبو رجاء، والحسن، وابن يعمر، وابن جبير، وقتادة، وعكرمة، وأيوب: «ربيون» بضم الراء. وقرأ ابن عباس، وأنس وأبو مجلز، وأبو العالية، والجحدري بفتحها. فعلى حذف الألف يحتمل وجهين ذكرهما الزجّاج: أحدهما: أن يكون قتل للنبي وحده، ويكون المعنى: وكأين من نبي قتل، ومعه ربيون، فما وهنوا بعد قتله. والثاني: أن يكون قتل للربيين، ويكون «فما وهنوا» لمن بقي منهم.
وعلى إثبات الألف يكون المعنى: أن القوم قاتلوا، فما وهنوا. وفي معنى الربيين خمسة أقوال:
أحدها: أنهم الألوف، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، واختاره الفراء. والثاني: الجماعات الكثيرة رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع، واختاره ابن قتيبة. والثالث: أنهم الفقهاء والعلماء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الحسن، واختاره اليزيدي، والزجاج. والرابع: أنهم الأتباع، قاله ابن زيد. والخامس: أنهم المتألهون العارفون بالله تعالى، قاله ابن فارس.
قوله تعالى: فَما وَهَنُوا فيه قولان: أحدهما: أنه الضعف، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.
والثاني: أنه العجز، قاله قتادة.
قال ابن قتيبة: والاستكانة: الخشوع والذل، ومنه أخذ المساكين. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: فما وهنوا بالخوف، وما ضعفوا بنقصان القوة، ولا استكانوا بالخضوع. والثاني: فما وهنوا لقتل نبيهم، ولا ضعفوا عن عدوهم، ولا استكانوا لما أصابهم.

[سورة آل عمران (3) : آية 147]
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147)
قوله تعالى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ يعني الربيين. إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا أي: لم يكن قولهم غير الاستغفار. والإسراف: مجاوزة الحد، وقيل: أريد بالذنوب الصغائر، وبالإسراف: الكبائر. قوله تعالى: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا قال ابن عباس: على القتال. وقال الزجاج: معناه: ثبتنا على دينك، فإن الثابت على دينه ثابت في حربه.

[سورة آل عمران (3) : آية 148]
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
قوله تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا فيه قولان: أحدهما: أنه النصر، قاله قتادة. والثاني:
الغنيمة، قاله ابن جريج. وروي عن ابن عباس، أنه النصر والغنيمة.
وفي حسن ثواب الآخرة قولان: أحدهما: أنه الجنة. والثاني: الأجر والمغفرة. وهذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين ما يفعلون ويقولون عند لقاء العدوّ.

[سورة آل عمران (3) : آية 149]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149)

(1/332)


بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا. قال ابن عباس: نزلت في قول ابن أبي للمسلمين لما رجعوا من أحد: لو كان نبياً ما أصابه الذي أصابه «1» .
وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون، على قول ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن جريج. والثالث: أنهم عبدة الأوثان، قاله السدي. قالوا:
وكانوا قد أمروا المسلمين بالرجوع عن دينهم. ومعنى يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ: يصرفوكم إلى الشّرك. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ بالعقوبة.

[سورة آل عمران (3) : آية 150]
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي: وليكم ينصركم عليهم، فاستغنوا عن موالاة الكفّار.

[سورة آل عمران (3) : آية 151]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ.
(220) قال السدي: لما ارتحل المشركون يوم أُحد نحو مكة ندموا في بعض الطريق، وقالوا:
قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشرذمة، تركتموهم؟! ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلت هذه الآية.
والإلقاء: القذف. والرعب: الخوف. قرأ ابن كثير، ونافع وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة «الرعب» ساكنة العين خفيفة، وقرأ ابن عامر، والكسائي، ويعقوب، وأبو جعفر، مضمومة العين، مثقله، أين وقعت. والسلطان هاهنا: الحجة في قول الجماعة. والمأوى: المكان الذي يؤوى إليه.
والمثوى: المقام، والثوى: الإقامة. قال ابن عباس: والظّالمون هاهنا: الكافرون.

[سورة آل عمران (3) : آية 152]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ.
(221) قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من أُحد، قال قومٌ منهم: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟! فنزلت هذه الآية. وقال المفسرون: وعد الله تعالى المؤمنين
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 8002 عن السدي مرسلا، فهو ضعيف.
واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 254 عن محمد بن كعب القرظي مرسلا وبدون سند، فهو لا شيء. وانظر «تفسير القرطبي» 1857.
__________
(1) لم أقف عليه، وهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.

(1/333)


النصر بأحد، فنصرهم فلما خالفوا، وطلبوا الغنيمة، هُزِموا.
(222) وقال ابن عباس: ما نُصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في موطن ما نُصر في أُحد، فأنكر ذلك عليه، فقال: بيني وبينكم كتاب الله، إن الله يقول: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ. فأما الحسُّ، فهو القتل، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والسدي، والجماعة. وقال ابن قتيبة:
تحسونهم، أي تستأصلونهم بالقتل، يقال: سَنَةٌ حسوس: إذا أتت على كل شيء، وجراد محسوس: إذا قتله البرد.
وفي قوله تعالى: بِإِذْنِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: بأمره، قاله ابن عباس. والثاني: بعلمه، قاله الزجاج. والثالث: بقضائه، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ قال الزجاج: أي: جبنتم وَتَنازَعْتُمْ أي: اختلفتم مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ يعني: النصرة. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، معناه: حتى إذا تنازعتم في الأمر، فشلتم وعصيتم، وهذه الواو زائدة، كقوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ «1» معناه:
ناديناه.
(223) فأما تنازعهم، فإن بعض الرماة قال: قد إنهزم المشركون، فما يمنعنا من الغنيمة؟ وقال بعضهم: بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فترك المركز بعضهم، وطلب الغنيمة، وتركوا مكانهم، فذلك عصيانهم، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد أوصاهم: «لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم» .
قوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا قال المفسرون: هم الذين طلبوا الغنيمة، وتركوا مكانهم وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وهم الذين ثبتوا. وقال ابن مسعود: ما كنت أظنّ أحدا من
__________
أخرجه أحمد 2609 والحاكم 2/ 296 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 269 و 270 عن ابن عباس به، وأتم، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وإسناده لين لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد، فهو غير قوي، ومقصد ابن عباس هو في بداية المعركة كما هو ظاهر في رواية الحاكم، فللخبر تتمة توضح ذلك.
هو بعض الحديث المتقدم عن ابن عباس.
- وله شاهد صحيح: أخرجه البخاري 3039 و 4043 وأبو داود 2662 والنسائي في «الكبرى» 11079 والطيالسي 725 وأحمد 4/ 293 وابن سعد في «الطبقات» 2/ 47 وابن حبان 4738 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 229- 230 من طرق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «جعل النبي على الرّجالة يوم أحد- وكانوا خمسين رجلا- عبد الله بن جبير فقال: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» . فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النساء يشددن، قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن. فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم غير اثني عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين، وكان أصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة وسبعين أسيرا وسبعين قتيلا.....» . واللفظ للبخاري.
__________
(1) سورة الصافات: 103- 104.

(1/334)


إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)

أصحاب محمد يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.
قوله تعالى: صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي: ردكم عن المشركين بقتلكم وهزيمتكم. لِيَبْتَلِيَكُمْ أي:
ليختبركم، فيبين الصابر من الجازع.
قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فيه قولان: أحدهما: عفا عن عقوبتكم، قاله ابن عباس.
والثاني: عفا عن استئصالكم، قاله الحسن. وكان يقول: هؤلاء مع رسول الله، في سبيل الله غضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فضيعوه، فما تركوا حتى غموا بهذا الغم، والفاسق اليوم يتجرم كل كبيرة ويركب كل داهية، ويزعم أن لا بأس عليه، فسوف يعلم.
قوله تعالى: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فيه قولان: أحدهما: إذا عفا عنهم، قاله ابن عباس.
والثاني: إذ لم يقتلوا جميعا، قاله مقاتل.

[سورة آل عمران (3) : آية 153]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)
قوله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ قال المفسرون: «إذ» متعلقة بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وأكثر القراء على ضم التاء، وكسر العين، من قوله تعالى: «تصعدون» وهو من الإصعاد. وروى أبان عن ثعلب، عن عاصم فتحهما، وهي قراءة الحسن، ومجاهد، وهو من الصعود. قال الفراء: الإصعاد في ابتداء الأسفار، والمخارج، تقول: أصعدنا من بغداد إلى خراسان، فإذا صعدت على سلم أو درجة، قلت: صعدت، ولا تقول: أصعدت. وقال الزجاج: كل من ابتدأ مسيراً من مكان، فقد أصعد، فأما الصّعود، فهو من أسفل إلى فوق، قال ومن فتح التاء والعين، أراد الصعود في الجبل.
وللمفسرين في معنى الآية قولان: أحدهما: أنه صعودهم في الجبل، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني:
أنه الإبعاد في الهزيمة، قاله قتادة، وابن قتيبة.
وتَلْوُونَ بمعنى: تعرجون. وقوله تعالى: عَلى أَحَدٍ عام.
(224) وقد روي عن ابن عباس أنه أُريد به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يناديهم من خلفهم: «إِليَّ عباد الله، أنا رسول الله» .
وقرأت عائشة وأبو مجلز وأبو الجوزاء وحميد «على أُحد» بضم الألف والحاء، يعنون الجبل.
قوله تعالى: فَأَثابَكُمْ أي: جازاكم. قال الفراء: الإثابة هاهنا بمعنى عقاب، ولكنه كما قال الشاعر «1» :
أخاف زياداً أن يكونَ عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا
__________
أخرجه الطبري 8053 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لانقطاعه، ابن جريج لم يدرك ابن عباس. وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن مرسلا كما في «الدر» 2/ 54- آل عمران: 153. وأخرجه الطبري أيضا 8048 عن قتادة مرسلا. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
__________
(1) هو الفرزدق، كما في «اللسان» - حدرج- وحدرج السوط: أحكم فتله حتى استوى.

(1/335)


ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)

المحدرجة: السياط. والسود فيما يقال: القيود.
قوله تعالى: غَمًّا بِغَمٍّ في هذه الباء أربعة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «مع» . والثاني: بمعنى «بعد» . والثالث: بمعنى «على» ، فعلى هذه الثلاثة الأقوال يتعلق الغمان بالصحابة. وللمفسرين في المراد بهذين الغمين خمسة أقوال: أحدها: أن الغم الأول ما أصابهم من الهزيمة والقتل، والثاني:
إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: أن الأول قرارهم الأول، والثاني. قرارهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل، قاله مجاهد. والثالث: أن الأول ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من القتل والجراح، والثاني: حين سمعوا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، قاله قتادة. والرابع: أن الأول ما فاتهم من الغنيمة، والفتح، والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، قاله السدي. والخامس: أن الأول إشراف خالد بن الوليد عليهم، والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، ذكره الثعلبي. والقول الرابع:
أن الباءَ بمعنى الجزاء، فتقديره: غمكم كما غممتم غيركم، فيكون أحد الغمين للصحابة، وهو أحد غمومهم التي ذكرناها عن المفسرين، ويكون الغم الذي جُوزوا لأجله لغيرهم. وفي المراد بغيرهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون غموهم يوم بدر، قاله الحسن. والثاني: أنه النبي صلّى الله عليه وسلّم غموه حيث خالفوه، فجوزوا على ذلك بأن غمّوا بما أصابهم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا في «لا» قولان: أحدهما: أنها باقية على أصلها، ومعناها النفي، فعلى هذا في معنى الكلام قولان: أحدهما: فأثابكم غماً أنساكم الحزن على ما فاتكم وما أصابكم، وقد روي أنهم لما سمعوا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، نسوا ما أصابهم وما فاتهم. والثاني: أنه متّصل بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فمعنى الكلام: عفا عنكم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم، لأن عفوه يذهب كل غم. والقول الثاني: أنها صلة، ومعنى الكلام: لكي تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم عقوبة لكم في خلافكم. ومثلها قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «1» أي: ليعلم. هذا قول المفضل. قال ابن عباس: والذي فاتهم: الغنيمة، والذي أصابهم: القتل والهزيمة.

[سورة آل عمران (3) : آية 154]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً قال ابن قتيبة: الأمنة: الأمن. يقال: وقعت الأمنة في الأرض. وقال الزجاج: معنى الآية: أعقبكم بما نالكم من الرعب أن أمنكم أمناً تنامون معه، لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام. و «نعاساً» منصوب على البدل من «أمنة» ، يقال: نعس الرجل ينعس
__________
(1) سورة الحديد: 29.

(1/336)


نعاساً، فهو ناعس. وبعضهم يقول: نعسان. قال الفراء: قد سمعتها، ولكني لا أشتهيها. قال العلماء:
النعاس: أخف النوم. وفي وجه الامتنان عليهم بالنعاس قولان: أحدهما: أنه أمنهم بعد خوفهم حتى ناموا، فالمنة بزوال الخوف، لأن الخائف لا ينام. والثاني: قواهم بالاستراحة على القتال.
قوله تعالى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر:
«يغشى» بالياء مع التفخيم، وهو يعود إلى النعاس. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف «تغشى» بالتاء مع الإمالة، وهو يرجع إلى الأمنة. فأما الطائفة التي غشيها النوم، فهم المؤمنون، والطائفة الذين أهمَّتهم أنفسهم: المنافقون، أهمهم خلاص أنفسهم، فذهب النوم عنهم.
(225) قال أبو طلحة: كان السيف يسقط من يدي، ثم آخذه، ثم يسقط، وآخذه من النعاس.
وجعلت أنظر، وما منهم أحد يومئذ إلا يميد تحت حَجَفَته «1» من النعاس.
(226) وقال الزبير: أرسل الله علينا النوم، فما منَّا رجل إلا ذقنه في صدره، فو الله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا فحفظتها منه.
قوله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم ظنُّوا أن الله لا ينصر محمداً وأصحابه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم كذبوا بالقدر، رواه الضحاك، عن ابن عباس.
والثالث: أنهم ظنوا أن محمداً قد قتل، قاله مقاتل. والرابع: ظنّوا أن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم مضمحل، قاله الزجاج.
قوله تعالى: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ، قال ابن عباس: أي: كظن الجاهلية.
قوله تعالى: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه: الجحد، تقديره: ما لنا من الأمر من شيء. قال الحسن: قالوا: لو كان الأمر إلينا ما خرجنا، وإنما أُخرجنا كرهاً. وقال غيره: المراد بالأمر: النصر والظفر، قالوا: إنما النصر للمشركين، قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ، أي: النصر والظفر، والقضاء والقدر لِلَّهِ. والأكثرون قرءوا إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ بنصب اللام، وقرأ أبو عمرو برفعها، قال أبو علي: حجة من نصب، أن «كله» بمنزلة «أجمعين» في الإحاطة والعموم، فلو قال: إن الأمر أجمع، لم يكن إلا النَّصب، و «كله» بمنزلة «أجمعين» ، ومن رفع، فلأنه قد ابتدأ به، كما ابتدأ بقوله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ.
قوله تعالى: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ في الذي أخفوه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قولهم: «لو كنا في
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4068 والترمذي 3007 والنسائي في «الكبرى» 11198 وابن سعد 3/ 505 وابن أبي شيبة 14/ 406 والطبري 8075 والحاكم 2/ 297 والطبراني 4700 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 272 وأبو نعيم في «الدلائل» 421 من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت به. وإسناده على شرط مسلم.
أخرجه البيهقي في «الدلائل» 3/ 273 عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير به.
وفي الإسناد أحمد بن عبد الجبار العطاردي، وهو ضعيف، ومن فوقه ثقات، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، فانحصرت العلة في أحمد هذا.
__________
(1) الحجف: ضرب من الترسة، واحدتها حجفة، وقيل: هي من الجلود خاصة. وميد: تحرك ومال. [.....]

(1/337)


إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

بيوتنا ما قتلنا هاهنا» . والثاني: أنه إسرارهم الكفر، والشك في أمر الله. والثالث: الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد.
قال أبو سليمان الدمشقي: والذي قال: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ عبد الله بن أُبي. والذي قال: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ معتب بن قشير.
قوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ أي: لو تخلفتم، لخرج منكم من كُتب عليه القتل، ولم ينجه القعود. والمضاجع: المصارع بالقتل.
قال الزجاج: ومعنى لَبَرَزَ: صاروا إلى براز، وهو المكان المنكشف. ومعنى وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي: ليختبره بأعمالكم، لأنه قد علمه غيباً، فيعلمه شهادة.
قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ قال قتادة: أراد ليظهرها من الشك والارتياب، بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة، وإظهار سرائر المنافقين. وهذا التمحيص خاص للمؤمنين. وقال غيره:
أراد بالتمحيص: إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله، ولرسوله، وللمؤمنين، فهو خطاب للمنافقين.
قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما فيها. وقال ابن الأنباري: معناه: عليم بحقيقة ما في الصدور من المضمرات، فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة، كما تقول العرب: لقيته ذات يوم. فيؤنثون لأن مقصدهم: لقيته مرة في يوم.

[سورة آل عمران (3) : آية 155]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ الخطاب للمؤمنين، وتوليهم: فرارهم من العدو. والجمعان: جمع المؤمنين، وجمع المشركين، وذلك يوم أُحد. واستزلهم: طلب زللهم، قال ابن قتيبة: هو كما تقول: استعجلت فلاناً، أي: طلبت عجلته، واستعملته: طلبت عمله. والذي كسبوا: يريد به الذّنوب. وفي سبب فرارهم يومئذ قولان: أحدهما: أنهم سمعوا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، فترخصوا في الفرار «1» ، قاله ابن عباس في آخرين. والثاني: أن الشيطان أذكرهم خطاياهم، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها، قاله الزجّاج.

[سورة آل عمران (3) : آية 156]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا أي كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق، وقيل: إخوانهم في النسب. قال الزجاج: وإنما قال: إِذا ضَرَبُوا ولم يقل: إذ ضربوا، لأنه يريد: شأنُهم هذا أبداً، تقول: فلان إذا حدث صدق، وإذا ضُرِب صبر. و «إذا» لما يستقبل، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى. قال المفسرون: ومعنى ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ:
__________
(1) تقدم، تخريجه، وهو ضعيف جدا.

(1/338)


وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

ساروا وسافروا. و «غزىً» جمع غازي. وفي الكلام محذوف تقديره: إذا ضربوا في الأرض فماتوا، أو غزوا، فقتلوا.
قوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ قال ابن عباس: ليجعل الله ما ظنوا من أنهم لو كانوا عندهم، سلموا، حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: حزناً. قال ابن فارس: الحسرة: التلهف على الشيء الفائت. قوله تعالى: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: ليس تحرُّز الإنسان يمنعه من أجله.
قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: «يعملون» بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. قال أبو علي: حجة من قرأ بالياء أنّ قبلها غيبة، وهو قوله عزّ وجلّ: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ، ومن قرأ بالتاء، فحجته لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا.

[سورة آل عمران (3) : آية 157]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
قوله تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ اللام في «لئن» لام القسم، تقديره: والله لئن قتلتم في الجهاد أَوْ مُتُّمْ في إقامتكم. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «مُتَّ» و «مُتُّم» و «مُتنا» برفع الميم في جميع القرآن، وروى حفص عن عاصم: أَوْ مُتُّمْ وَلَئِنْ مُتُّمْ برفع الميم في هذين دون باقي القرآن. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي كل ما في القرآن بالكسر.
قوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي: من أعراض الدنيا التي تتركون الجهاد لجمعها. وقرأ حفص عن عاصم: يجمعون بالياء، ومعناه: خير مما يجمع غيركم مما تركوا الجهاد لجمعه. قال ابن عباس: خير مما يجمع المنافقون في الدنيا.

[سورة آل عمران (3) : آية 158]
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
قوله تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أي: في إقامتكم. أَوْ قُتِلْتُمْ في جهادكم. لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ.
وهذا تخويف من القيامة. والحشر: الجمع من سوق.

[سورة آل عمران (3) : آية 159]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ قال الفراء وابن قتيبة والزجاج: «ما» هاهنا صلة، ومثله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ. قال ابن الأنباري: دخول «ما» هاهنا يحدث توكيداً. قال النّابغة:
المرء يهوى أن يعيش ... وطولُ عيش ما يضرُّه
فأكد بذكر «ما» . وفيمن تتعلق به هذه الرحمة قولان: أحدهما: أنها تتعلّق بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثاني:
بالمؤمنين.
قال قتادة: ومعنى لِنْتَ لَهُمْ لان جانبك، وحَسُن خُلُقُك، وكثر احتمالك. قال الزجّاج:
والفظّ: الغليظ الجانب، السّيئ الخلق، يقال: فظظت تفظ فظاظة وفظظاً، والفظ: ماء الكرش والفرث، وإنما سمي فظاً لغلظ مشربه. فأما الغليظ القلب، فقيل: هو القاسي القلب، فيكون ذكر

(1/339)


الفظاظة والغلظ- وإن كانا بمعنى واحد- توكيداً. وقال ابن عباس: الفظ: في القول، والغليظ القلب:
في الفعل.
قوله تعالى: لَانْفَضُّوا أي: تفرقوا. وتقول: فضضت عن الكتاب ختمه: إذا فرقته عنه.
فَاعْفُ عَنْهُمْ أي: تجاوز عن هفواتهم، وسل الله المغفرة لذنوبهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ معناه:
استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم. ويقال: إنه من: شرت العسل. وأنشدوا «1» :
وقاسمها بالله حقاً لأنتم ... ألذُّ من السَّلوى إذا ما نشورُها
قال الزجاج: يقال: شاورت الرجل مشاورة وشوراً، وما يكون عن ذلك اسمه المشورة وبعضهم يقول: المشوْرَة. ويقال: فلان حسن الصورة والشورة، أي: حسن الهيئة واللباس. ومعنى قولهم:
شاورت فلاناً، أظهرت ما عنده وما عندي. وشرت الدابة: إذا امتحنتها. فعرفت هيئتها في سيرها.
وشرت العسل: إذا أخذته من مواضع النحل. وعسل مشار. قال الأعشى:
كأنّ القرنفل والزّنجبيل ... باتا بفيها وأرياً مشاراً
والأري: العسل. واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي، تام التدبير، على ثلاثة أقوال: أحدها: ليستن به من بعده، وهذا قول الحسن، وسفيان بن عيينة.
والثاني: لتطيب قلوبهم، وهو قول قتادة، والربيع، وابن إسحاق، ومقاتل. قال الشّافعيّ رضي الله عنه:
نظير هذا قوله عليه السلام:
(227) «البكر تُستأمر في نفسها» ، إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت، كان للأب أن يزوجها، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أُمر بذبحه.
والثالث: للإعلام ببركة المشاورة، وهو قول الضحاك.
ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره، علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ومنها أنه قد يعزم على أمر، فيبين له الصواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح. قال علي عليه السلام: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم. وقال بعض الحكماء: ما استُنْبِطَ الصواب بمثل المشاورة، ولا حُصِّنتِ النعم بمثل المواساة، ولا اكتسب البغضاء بمثل الكبر. واعلم أنه إنما أُمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي، وعمهم بالذكر، والمقصود أرباب الفضل والتجارِب منهم.
وفي الذي أُمر بمشاورتهم فيه قولان، حكاهما القاضي أبو يعلى: أحدهما: أنه أمر الدنيا خاصة.
والثاني: أمر الدين والدنيا، وهو أصح.
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1421 وأبو داود 2099 والنسائي 6/ 85 والدارقطني 3/ 240 و 240- 241 والطبراني 10/ 10745 و 4084 و 4087 و 4089 وابن حبان 4088 عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها» .
__________
(1) البيت لخالد بن زهير «ديوان الهذليين» 1/ 158.

(1/340)


إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)

وقد قرأ ابن مسعود، وابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر» .
قوله تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ قال ابن فارس: العزم: عقد القلب على الشيء ويريد أن يفعله. وقد قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وعكرمة، والجحدري: (فإذا عزمتُ) بضم التاء. فأما التوكل، فقد سبق شرحه.
ومعنى الكلام: فإذا عزمت على فعل شيء، فتوكل على الله، لا على المشاورة.

[سورة آل عمران (3) : آية 160]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
قوله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ قال ابن فارس: النصر: العون، والخذلان: ترك العون. وقيل الكناية في قوله تعالى مِنْ بَعْدِهِ تعود إلى خذلانه.

[سورة آل عمران (3) : آية 161]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)
قوله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، في سبب نزولها سبعة أقوال:
(228) أحدها: أن قطيفة من المغنم فقدت يوم بدر، فقال ناس: لعلّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذها، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(229) والثاني: أن رجلاً غلَّ من غنائم هوازن يوم حنين، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس.
(230) والثالث: أن قوماً من أشراف الناس طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخصهم بشيء من الغنائم، فنزلت هذه الآية، نقل عن ابن عباس أيضاً.
(231) والرابع: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث طلائعا، فغنم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غنيمة، ولم يقسم للطلائع، فقالوا قسم الفيء ولم يقسم لنا، فنزلت هذه الآية، قاله الضّحّاك.
__________
غير قوي. أخرجه أبو داود 3971 والترمذي 3009 وأبو يعلى 2438 والطبري 8138 والواحدي 255 من طريق خصيف عن عكرمة عن ابن عباس. وفي إسناده ضعف من أجل خصيف بن عبد الرحمن الجزري فإنه صدوق لكنه سيء الحفظ، وقد رواه بعضهم مرسلا.
- وأخرجه الطبري 8137 عن خصيف عن مقسم عن ابن عباس وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وروى بعضهم هذا الحديث عن خصيف عن مقسم، ولم يذكر فيه ابن عباس اه.
وورد من وجه آخر عن ابن عباس، أخرجه الطبراني 11/ 101 والواحدي في «أسباب النزول» 256 وإسناده ضعيف لضعف محمد بن أحمد النرسي شيخ الطبراني. والله أعلم.
باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 257 م عن الضحاك عن ابن عباس والضحاك لم يسمع ابن عباس، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد، وهو متروك الحديث والسورة نزلت قبل حنين بزمن، فهذا خبر باطل.
لم أقف على إسناده. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بدون إسناد، فهذا لا شيء، لخلوه عن الإسناد.
ضعيف. أخرجه الطبري 8144 والواحدي في «أسباب النزول» 257 عن الضحاك مرسلا، فهو ضعيف.

(1/341)


(232) والخامس: أن قوماً غلُّوا يوم بدر، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
__________
والسادس: أنها نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أُحد طلباً للغنيمة، وقالوا: نخاف أن يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من أخذ شيئا، فهو له» فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ألم أعهد إليكم ألّا تبرحوا؟! أظننتم أنّا نغلّ؟!» فنزلت هذه الآية، قاله ابن السّائب، ومقاتل.
والسابع: أنها نزلت في غلول الوحي، قاله القرظيّ، وابن إسحاق «1» .
وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وآلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فنزلت هذه الآية.
واختلف القرّاء في «يغل» فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: بفتح الياء وضمّ الغين، ومعناها:
يخون، وفي هذه الخيانة قولان: أحدهما: خيانة المال على قول الأكثرين. والثاني: خيانة الوحي على قول القرظيّ، وابن إسحاق. وقرأ الباقون: بضمّ الياء وفتح الغين، ولها وجهان: أحدهما: أن يكون المعنى يخان، ويجوز أن يكون: يلفى خائنا، يقال: أغللت فلانا، أي: وجدته غالا، كما يقال:
أحمقته: وجدته أحمق، وأحمدته: وجدته محمودا، قاله الحسن، وابن قتيبة. والثاني: يخوّن، قاله الفرّاء، وأجازه الزجّاج، وردّه ابن قتيبة، فقال: لو أراد: يخون، لقال: يغلل، كما يقال: يفسق ويخون، ويفجر.
وقيل: «اللام» في قوله «لنبيّ» منقولة، ومعنى الآية: وما كان النبيّ ليغلّ، ومثله: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ «2» أي: ما كان الله ليتّخذ ولدا. وهذه الآية من ألطف التّعريض، إذ قد ثبتت براءة ساحة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الغلول، فدلّ على أنّ الغلول في غيره. ومثله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «3» وقد ذكر عن السّدّيّ نحو هذا.
قوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ الغلول: أخذ شيء من المغنم خفية، ومنه الغلالة، وهي ثوب يلبس تحت الثياب، والغلل: وهو الماء الذي يجري تحت الشّجر، والغلّ: وهو الحقد الكامن في الصّدر، وأصل الباب الاختفاء. وفي إتيانه بما غلّ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يأتي بما غلّه، يحمله، ويدلّ عليه ما روى البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث أبي هريرة قال:
(232) ضعيف. أخرجه الطبري 8152 وعبد بن حميد كما في «الدر» 2/ 162 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف.
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 258 م عن الكلبي ومقاتل بدون إسناد. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 434: ذكره الثعلبي والواحدي في «أسبابه» عن الكلبي ومقاتل ... اه.
وهو معضل، مقاتل إن كان ابن سليمان فهو متروك متهم، وإن كان ابن حيان فقد روى مناكير كثيرة، وأما الكلبي فمتروك متهم ولم أر من أسنده، ولا روي عن غيرهما.
__________
(1) ضعيف جدا. أخرجه الطبري 8147 عن ابن إسحاق، وهذا معضل فهو ضعيف جدا.
(2) سورة مريم: 36.
(3) سورة سبأ: 25.

(1/342)


أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)

(234) قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً فذكر الغلول، فعظمه، وعظم أمره، ثم قال: «لا أُلفينَّ أحدَكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك» . الرغاء: صوت البعير، والثغاء: صوت الشاة، والنفس: ما يُغل من السَّبي، والرقاع: الثياب، والصامت: المال.
والقول الثاني: أنه يأتي حاملاً إثم ما غل. والثالث: أنه يردُّ عوض ما غل من حسناته. والقول الأوّل أصحّ لمكان الأثر الصّحيح.

[سورة آل عمران (3) : آية 162]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
قوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين:
أحدهما: أن معناها: أفمن اتبع رضوان الله، فلم يغل، كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ حين غل؟! هذا قول سعيد بن جبير، والضحاك، والجمهور.
والثاني: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما أمر المسلمين باتباعه يوم أُحد، اتبعه المؤمنون، وتخلف جماعة من المنافقين، فأخبر الله بحال من تبعه، ومن تخلف عنه، هذا قول الزجّاج.

[سورة آل عمران (3) : آية 163]
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)
قوله تعالى: هُمْ دَرَجاتٌ، قال الزجاج: معناه: هم ذوو درجات. وفي معنى درجات قولان:
أحدهما: أنها درجات الجنة، قاله الحسن. والثاني: أنها فضائلهم، فبعضهم أفضل من بعض، قاله الفراء، وابن قتيبة. وفيمن عنى بهذا الكلام قولان: أحدهما: أنهم الذين اتبعوا رضوان الله، والذين باؤوا بسخط من الله، فلمن اتبع رضوانه الثواب، ولمن باء بسخطه العذاب، هذا قول ابن عباس.
والثاني: أنهم الذين اتبعوا رضوان الله فقط، فإنهم يتفاوتون في المنازل، هذا قول سعيد بن جبير، وأبي صالح، ومقاتل.

[سورة آل عمران (3) : آية 164]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3073 ومسلم 1831 وابن حبان 4847 و 4848 والطبري 8155 و 8156 وأحمد 2/ 426 من حديث أبي هريرة بألفاظ متقاربة.

(1/343)


أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)

قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي: أنعم عليهم. و «أنفسهم» : جماعتهم، وقيل:
نسبَهم. وقرأ الضحاك، وأبو الجوزاء: (من أنفَسهم) بفتح الفاء. وفي وجه الامتنان عليهم بكونه من أنفسهم أربعة أقوال: أحدها: لكونه معروف النسب فيهم، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: لكونهم قد خبروا أمره، وعلموا صدقه، قاله الزجاج. والثالث: ليسهل عليهم التعلم منه، لموافقة لسانه للسانهم، قاله أبو سليمان الدمشقي. والرابع: لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم، قاله الماوردي. وهل هذه الآية خاصة أم عامة؟ فيه قولان: أحدهما: أنها خاصة للعرب. روي عن عائشة والجمهور. والثاني: أنها عامة لسائر المؤمنين، فيكون المعنى أنه ليس بملكٍ، ولا من غير بني آدم، وهذا اختيار الزجاج. وقد سبق في (البقرة) بيان باقي الآية.

[سورة آل عمران (3) : آية 165]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
قوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ، قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: لما كان يوم أُحد، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر، من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفرّ أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ قال: بأخذكم الفداء.
قوله تعالى أَوَلَمَّا قال الزجاج: هذه واو النسق، دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت مفتوحة على هيئتها قبل دخولها، ومثل ذلك قول القائل: تكلم فلان بكذا وكذا فيقول المجيب له: أو هو ممن يقول ذلك؟ فأما «المصيبة» فما أصابهم يوم أُحد، وكانوا قد أصابوا مثليها من المشركين يوم بدر، لأنهم قتل منهم سبعون، فقتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، وهذا قول ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والجماعة، إلا أن الزجاج قال: قد أصبتم يوم أُحد مثلها، ويوم بدر مثلها، فجعل المثلين في اليومين.
قوله تعالى: أَنَّى هذا، قال ابن عباس: من أين أصابنا هذا ونحن مسلمون؟
قوله تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناه: بأخذكم الفداء يوم بدر، قاله عمر بن الخطاب.
(235) وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: جاء جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء، وقد أمرك أن تخيِّرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يُقتل منهم عدَّتهم، فذكر ذلك للناس، فقالوا: عشائرنا وإخواننا، بل نأخذ منهم الفداء، ويستشهد منا عدّتهم، فقتل منهم يوم أُحد سبعون، عدد أسارى بدر، فعلى هذا يكون المعنى: قل هو بأخذكم الفداءَ، واختياركم القتل لأنفسكم.
والثاني: أنه جرى ذلك بمعصية الرماة يوم أُحد، وتركهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس،
__________
ضعيف. أخرجه الترمذي 1567 والنسائي في «الكبرى» 8662 من حديث علي، وهو حديث ضعيف، ويأتي في سورة الأنفال باستيفاء، وقال الترمذي: حسن غريب.

(1/344)


وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)

ومقاتل في آخرين. والثالث: أنه بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة يوم أُحد، فإنه أمرهم بالتحصُّن فيها، فقالوا: بل نخرج، قاله قتادة، والربيع.
قال مقاتل: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من النّصر والهزيمة قَدِيرٌ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 166 الى 167]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)
قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ الجمعان: النبي وأصحابه، وأبو سفيان وأصحابه، وذلك في يوم أحد، وقد سبق ذكر ما أصابهم.
قوله تعالى: فَبِإِذْنِ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أمره. والثاني: قضاؤه، رويا عن ابن عباس.
والثالث: علمه، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أي: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم، ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم وقلة صبرهم.
قال ابن قتيبة: والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو جحر من جِِحَرتِه، يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه. قال ابن قتيبة: قال الزيادي عن الأصمعي: ولليربوع أربعة أجحرة: النافقاء:
وهو الذي يخرج منه كثيراً، ويدخل منه كثيراً. والقاصعاء، سمي بذلك لأنه يخرج تراب الجحر، ثم يقصِّع ببعضه كأنه يسد به فم الجحر، ومنه يقال: جرح فلان قد قصع بالدم: إذا امتلأ ولم يسل.
والدّامّاء، سمي بذلك، لأنه يخرج التراب من فم الجحر، ثم يدمُّ به فم الجحر، كأنه يطليه، ومنه يقال: ادمم قدرك بشحم، أي اطلها به. والرّاهطاء، ولم يذكر اشتقاقه، وإنما يتخذ هذه الجحر عدداً، فاذا أخذ عليه بعضها، خرج من بعض.
قال أبو زيد: فشبه المنافق به، لأنه يدخل في الإسلام بلفظه، ويخرج منه بعقده، كما يدخل اليربوع من باب ويخرج من باب. قال ابن قتيبة: والنفاق: لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام. قال ابن عباس: والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أُبي، وأصحابه.
(236) قال موسى بن عقبة: خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم أُحد، ومعه المسلمون، وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فرجع عنه ابن أُبي في ثلاثمائة.
فأما القتال، فمباشرة الحرب. وفي المراد بالدفع ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التكثير بالعدد. رواه مجاهد عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعكرمة، والضحاك، والسدي، وابن جريج في آخرين.
والثاني: أن معناه: ادفعوا عن أنفسكم وحريمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول مقاتل.
والثالث: أنه بمعنى القتال أيضاً. قاله ابن زيد.
قوله تعالى: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: لو نعلم أن اليوم يجري قتال ما
__________
هذا معضل. وأخرجه الطبري 8194 عن السدي، وهذا مرسل، فهو ضعيف.

(1/345)


الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)

أسلمناكم، ذكره ابن اسحاق. والثاني: لو كنا نحسن القتال لاتّبعناكم. والثالث: إن معناه: أن هناك قتلاً وليس بقتال، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ أي: إلى الكفر أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أي: إلى الإيمان، وإنما قال:
يومئذ، لأنهم فيما قبل لم يظهروا مثل ما أظهروا، فكانوا بظاهر حالهم فيما قبل أقرب إلى الإيمان. قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فيه وجهان ذكرهما الماورديّ: أحدهما: ينطقون بالإيمان، وليس في قلوبهم إلا الكفر. والثاني: يقولون: نحن أنصار، وهم أعداء. وذكر في الذي يكتمون وجهين: أحدهما: أنه النّفاق. والثاني: العداوة.

[سورة آل عمران (3) : آية 168]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أُبي. وفي إخوانهم قولان: أحدهما: أنهم إخوانهم في النفاق، قاله ابن عباس. والثاني: إخوانهم في النسب، قاله مقاتل.
فعلى الأول يكون المعنى: قالوا لإخوانهم المنافقين: لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمد ما قتلوا، وعلى الثاني يكون المعنى: قالوا عن إخوانهم الذين استشهدوا بأحد: لو أطاعونا ما قتلوا.
قوله تعالى: وَقَعَدُوا يعني القائلين قعدوا عن الجهاد. قوله تعالى: فَادْرَؤُا أي: فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّ الحذر ينفع مع القدر.

[سورة آل عمران (3) : آية 169]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً قرأ ابن عامر: قتّلوا بالتشديد. واختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في شهداء أُحد.
(237) روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية» وهذا قول سعيد بن جبير، وأبي الضحى.
والثاني: أنها نزلت في شهداء بدر لما أفضوا إلى كرامة الله عزّ وجلّ وقالوا: ربّنا أعلم إخواننا،
__________
حديث حسن بطرقه وشواهده. أخرجه أبو داود 2520 والحاكم 2/ 88 وأبو يعلى 2331 وأحمد 1/ 266 والبيهقي 9/ 163 والواحدي في «أسباب النزول» 261 عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير عن سعيد بن جابر عن ابن عباس، ورجاله ثقات. وقد صرّح ابن إسحاق بالتحديث في رواية أحمد، وحديثه حسن. وأخرجه أحمد 1/ 265- 266 والطبري 8205 عن أبي الزبير عن ابن عباس وإسناده منقطع أبو الزبير لم يسمع من ابن عباس كما في مراسيل ابن أبي حاتم ص 193. ويشهد له حديث ابن مسعود. أخرجه مسلم 1887 والطيالسي 1143 والبيهقي 9/ 163 والطبري 8208، والله أعلم.

(1/346)


فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)

فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس «1» ، وهو قول مقاتل.
(238) والثالث: أنها نزلت في شهداء بئر معونة. روى محمد بن إسحاق عن أشياخ له، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلاً من خيار المسلمين إلى أهل نجد، فلما نزلوا بئر معونة، خرّع حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم ينظر فيه عامر، وخرج رجل من كسر «2» البيت برمح، فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم، قال أنس بن مالك: فأنزل الله تعالى فيهم:
«بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه» ثم رفعت، فنزلت هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً.
فهذا اختلاف الناس فيمن نزلت، واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الشهداء بعد استشهادهم سألوا الله أن يخبر إخوانهم بمصيرهم، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني: أن رجلاً قال: يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا، فنزلت، قاله مقاتل. والثالث: أن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور، تحسروا، وقالوا نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا، وأبناؤنا، وإخواننا، في القبور، فنزلت هذه الآية، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
فأما التفسير، فمعنى الآية: لا تحسبنهم أمواتاً كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل الله، وقد بينا هذا المعنى في (البقرة) وذكرنا أن معنى حياتهم: أن أرواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها. قال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة.

[سورة آل عمران (3) : آية 170]
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
قوله تعالى: فَرِحِينَ قال ابن قتيبة: الفرح: المسرة، فأما الذي آتاهم الله، فما نالوا من كرامة الله ورزقه، والاستبشار: السرور بالبشارة، بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ إخوانهم من المسلمين. وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ الله تعالى لمّا أخبر بكرامة الشهداء، أخبر الشهداء بأني قد أنزلت على نبيكم، وأخبرته بأمركم فاستبشروا، وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة، قاله سعيد بن جبير. والثاني: يستبشرون بإخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة، يقولون: إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل، قاله قتادة. والثالث: أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه وأهله، وفيه يقدم عليه فلان يوم كذا وكذا، فيستبشر بقدومه، كما يستبشر أهل الغائب به، هذا قول السدي.
__________
ذكره ابن هشام في «السيرة» 3/ 147 في أثناء خبر مطول. وأخرج بعضه الطبري 8224 من حديث أنس.
وانظر «الدر المنثور» 2/ 169 و «دلائل النبوة» للبيهقي 3/ 338- 341 وأصله في «صحيح البخاري» 2801 من حديث أنس.
__________
(1) لم أقف على إسناده إلى سعيد، ولا يصح، والصواب أنها نزلت في شهداء أحد.
(2) في «اللسان» : كسر البيت: جانبه.

(1/347)


يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)

و «الهاء» و «الميم» في قوله تعالى: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ تعود إلى الذين لم يلحقوا بهم. قال الفراء:
معناه: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم، ولا حزن. وفي ماذا يرتفع «الخوف» و «الحزن» عنهم؟
فيه قولان:
أحدهما: لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم، ولا يحزنون على ما خلفوا من أموالهم.
والثاني: لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه، ولا يحزنون على مفارقة الدنيا فرحاً بالآخرة.

[سورة آل عمران (3) : آية 171]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
قوله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قال مقاتل: برحمة ورزق.
قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ قرأ الجمهور بالفتح على معنى: ويستبشرون بأن الله، وقرأ الكسائي بالكسر على الاستئناف.

[سورة آل عمران (3) : آية 172]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ في سبب نزولها قولان:
(239) أحدهما: أن المشركين لما انصرفوا يوم أحد، ندب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه لاتباعهم، ثم خرج بمن انتدب معه، فلقي أبو سفيان قوماً، فقال: إن لقيتم محمداً، فأخبروه أني في جمع كثير، فلقيهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسألهم عنه؟ فقالوا: لقيناه في جمع كثير، ونراك في قلةٍ، فأبى إلا أن يطلبه، فسبقه أبو سفيان، فدخل مكة، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، والجمهور.
(240) والثاني: أن أبا سفيان لما أراد الانصراف عن أُحد، قال: يا محمد، موعد بيننا وبينك موسم بدر، فلما كان العام المقبل، خرج أبو سفيان، ثم ألقى الله في قلبه الرعب، فبدا له الرجوع، فلقي نُعيم بن مسعود، فقال: إني قد واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى، وهذا عام جدب، لا يصلح لنا، فثبطهم عنا، وأعلمهم أنَّا في جمع كثير، فلقيهم فخوفهم، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه، حتى أقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان، فنزل قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآيات. وهذا المعنى مروي عن مجاهد، وعكرمة. والاستجابة: الإجابة.
وأنشدوا:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب «1»
__________
لم أره عن ابن عباس بهذا اللفظ، وإنما أخرجه الطبري 8238 بنحوه عن ابن عباس، وفي الإسناد مجاهيل.
وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 268 عن عمرو بن دينار مرسلا بهذا السياق. وأخرجه الطبري 8236 عن قتادة بنحوه.
أخرجه الطبري 4246 عن ابن عباس بنحوه، وإسناده ضعيف لضعف عطية العوفي. وأخرج الطبري 8248 بعضه عن مجاهد وكرره برقم 8249 عن مجاهد وعن ابن جريج، وأخرجه 8250 عن عكرمة مختصرا أيضا وليس فيه ذكر نعيم بن مسعود.
__________
(1) هو عجز بيت لكعب بن سعد الغنوي وصدره: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى

(1/348)


الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

أي: فلم يجبه. وفي مراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وخروجه وندب الناس إلى الخروج ثلاثة أقوال:
أحدها: ليرهب العدو باتباعهم. والثاني: لموعد أبي سفيان. والثالث: لأنه بلغه عن القوم أنهم قالوا: أصبتم شوكتهم، ثم تركتموهم. وقد سبق الكلام في القرح.
قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ أي: أحسنوا بطاعة الرسول، واتقوا مخالفته.

[سورة آل عمران (3) : آية 173]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ في المراد بالناس ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ركب لقيهم أبو سفيان، فضمن لهم ضماناً لتخويف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، قاله ابن عباس، وابن إسحاق. والثاني: أنه نعيم بن مسعود الأشجعي، قاله مجاهد، وعكرمة، ومقاتل في آخرين. والثالث: أنهم المنافقون، لمّا رأوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتجهز، نهوا المسلمين عن الخروج، وقالوا: إن أتيتموهم في ديارهم، لم يرجع منكم أحد، هذا قول السدي.
قوله تعالى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يعني أبا سفيان وأصحابه.
قوله تعالى: فَزادَهُمْ إِيماناً قال الزجاج: زادهم ذلك التخويف ثبوتاً في دينهم، وإِقامة على نصرة نبيهم، وقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ أي: هو الذي يكفينا أمرهم. فأما «الوكيل» ، فقال الفراء: الوكيل:
الكافي، واختاره ابن القاسم. وقال ابن قتيبة: هو الكفيل، قال: ووكيل الرجل في ماله: هو الذي كفله له، وقام به. وقال الخطابي: الوكيل: الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم، وحقيقته: أنه الذي يستقل بالأمر الموكول إليه. وحكى ابن الأنباري أن قوماً قالوا: الوكيل: الرّبّ.

[سورة آل عمران (3) : آية 174]
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ الانقلاب: الرجوع. وفي النعمة، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الأجر، قاله مجاهد. والثاني: العافية، قاله السدي. والثالث: الإيمان والنصر، قاله الزجاج. وفي الفضل، ثلاثة أقوال: أحدها: ربح التجارة، قاله مجاهد، والسدي، وهذا قول من يرى أنهم خرجوا لموعد أبي سفيان. قال الزهري: لما استنفر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المسلمين لموعد أبي سفيان ببدر، خرجوا ببضائع لهم، وقالوا: إن لقينا أبا سفيان، فهو الذي خرجنا إليه، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا، وكانت بدر متجراً يوافى كل عام، فانطلقوا فقضوا حوائجهم، وأخلف أبو سفيان الموعد. والثاني: أنهم أصابوا سرية بالصفراء، فرزقوا منها، قاله مقاتل. والثالث: أنه الثواب، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ قال ابن عباس: لم يؤذهم أحد. وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في طلب القوم. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ أي: ذو منّ بدفع المشركين عن المؤمنين.

[سورة آل عمران (3) : آية 175]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
قوله تعالى: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ قال الزجاج: معناه: ذلك التخويف كان فعل الشيطان، سوّله للمخوِّفين. وفي قوله تعالى: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ قولان:

(1/349)


وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)

أحدهما: أن معناه: يخوّفكم بأوليائه، قاله الفراء، واستدلّ بقوله تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً «1» أي: ببأس، وبقوله تعالى: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ «2» أي: بيوم التلاق. وقال الزجاج: معناه: يخوفكم من أوليائه، بدليل قوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ. وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وإبراهيم، وابن قتيبة. وأنشد ابن الأنباري في ذلك «3» :
وأيقنتُ التفرُّقَ يوم قالوا ... تُقُسِّمَ مال أربد بالسهام
أراد: أيقنت بالتفرق. قال: فلما أسقط الباء أعمل الفعل فيما بعدها ونصبه. قال: والذي نختاره في الآية: أن المعنى: يخوفكم أولياءه. تقول العرب: قد أعطيت الأموال، يريدون: أعطيت القوم الأموال، فيحذفون القوم، ويقتصرون على ذكر المفعول الثاني. فهذا أشبه من ادعاء «باء» ما عليها دليل، ولا تدعو إليها ضرورة.
والثاني: أن معناه: يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين، قاله الحسن والسدي، وذكره الزجاج.
قوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ يعني: أولياء الشيطان وَخافُونِ في ترك أمري. وفي «إنْ» قولان:
أحدهما: أنها بمعنى: «إذ» ، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها للشرط، وهو قول الزجّاج في آخرين.

[سورة آل عمران (3) : آية 176]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176)
قوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، قرأ نافع «يحزنك» «ليحزنني» «ليحزن» بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن، إلا في (الأنبياء) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ «4» ، فإنه فتح الياء، وضم الزاي. وقرأ الباقون كل ما في القرآن بفتح الياء وضم الزاي. قال أبو علي: يشبه أن يكون نافع تبع في سورة (الأنبياء) أثراً، أو أحب أن يأخذ بالوجهين. وفي الذين يسارعون في الكفر أربعة أقوال: أحدها:
أنهم المنافقون، ورؤساء اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: المنافقون، قاله مجاهد. والثالث: كفار قريش، قاله الضحاك. والرابع: قوم ارتدوا عن الإسلام، ذكره الماوردي.
وقيل: معنى مسارعتهم في الكفر: مظاهرتهم للكفار، ونصرهم إياهم. فإن قيل: كيف لا يحزنه المسارعة في الكفر؟ فالجواب: لا يحزنك فعلهم، فإنك منصور عليهم.
قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً فيه قولان: أحدهما: لن ينقصوا الله شيئاً بكفرهم، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: لن يضروا أولياء الله شيئاً، قاله عطاء.
قال ابن عباس: والحظ: النصيب، والآخرة: الجنة. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في النار.

[سورة آل عمران (3) : آية 177]
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)
__________
(1) سورة الكهف: 4.
(2) سورة غافر: 15.
(3) البيت للبيد بن ربيعة «الأغاني» 15/ 133.
(4) سورة الأنبياء: 103.

(1/350)


وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ، قال مجاهد: المنافقون آمنوا ثم كفروا، وقد سبق في (البقرة) معنى الاشتراء.

[سورة آل عمران (3) : آية 178]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: في اليهود والنصارى والمنافقين، قاله ابن عباس. والثاني: في قريظة والنضير، قاله عطاء. والثالث: في مشركي مكة، قاله مقاتل. والرابع: في كل كافر، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع: «ولا يحسبن الذين كفروا» «ولا يحسبن الذين يبخلون» «ولا يحسبنّ الذين يفرحون» بالياء وكسر السين، ووافقهم ابن عامر غير أنّه فتح السين، وقرأ حمزة بالتاء، وقرأ عاصم والكسائي كل ما في هذه السورة بالتاء غير حرفين وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ فإنهما بالياء، إلا أن عاصماً فتح السين، وكسرها الكسائي، ولم يختلفوا في وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا أنها بالتاء. نُمْلِي لَهُمْ: أي: نطيل لهم في العمر، ومثله: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قال ابن الأنباري:
واشتقاق «نملي لهم» من الملوة، وهي المدة من الزمان، يقال: مَلوة من الدهر، ومِلوة، ومُلوة، ومَلاوة، وملاوة، وملاوة، بمعنى واحد، ومنه قولهم: وتملّ حبيباً، أي: لتطل أيامك معه. قال متمم بن نويرة:
بودِّيَ لو أني تملَّيت عمره ... بما لي من مال طريف وتالد «1»

[سورة آل عمران (3) : آية 179]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
قوله تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أن قريشا قالت: تزعم يا محمد أن من اتبعك فهو في الجنة، ومن خالفك فهو في النار؟! فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس «2» .
والثاني: أن المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق، فنزلت هذه الآية، هذا قول أبي العالية.
(241) والثالث: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: عُرضتْ عليَّ أُمتي، وأُعلمت من يؤمن بي ومن يكفر، فبلغ ذلك المنافقين فاستهزءوا وقالوا: فنحن معه ولا يعرفنا، فنزلت هذه الآية، هذا قول السّدّيّ.
__________
لم أره مسندا. وذكره الواحدي في «أسبابه» 271 عن السدي بدون إسناد فهو لا شيء. وأخرج الطبري 8273 نحوه عن السدي.
__________
(1) في «اللسان» التالد: المال القديم الأصلي الذي ولد عندك. وهو نقيض الطارف والطريف: ما استحدثت من المال واستطرفته.
(2) ذكره الواحدي في «أسبابه» 272 عن الكلبي بدون سند، والكلبي متهم وانظر الحديث الآتي. [.....]

(1/351)


وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

والرابع: أن اليهود، قالت: يا محمد قد كنتم راضين بديننا، فكيف بكم لو مات بعضكم قبل نزول كتابكم؟! فنزلت هذه الآية. هذا قول عمر مولى غفرة.
والخامس: أن قوماً من المنافقين ادَّعوْا أنهم في إيمانهم مثل المؤمنين، فأظهر الله نفاقهم يوم أُحد، وأنزل هذه الآية، هذا قول أبي سليمان الدمشقي.
وفي المخاطب بهذه الآية قولان: أحدهما: أنهم الكفار والمنافقون، وهو قول ابن عباس، والضحاك. والثاني: أنهم المؤمنون، فيكون المعنى: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق. قال الثعلبي: وهذا قول أكثر أهل المعاني.
قوله تعالى: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، وابن عامر حَتَّى يَمِيزَ ولِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ بفتح الياء والتخفيف. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب:
«يميز» بالتشديد، وكذلك في الأنفال: «ليميّز الله الخبيث» . قال أبو علي: مزت وميَّزت لغتان. قال ابن قتيبة: ومعنى يميز: يخلص. فأما الطيب، فهو المؤمن. وفي الخبيث قولان: أحدهما: أنه المنافق، قاله مجاهد، وابن جريج. والثاني: الكافر، قاله قتادة، والسدي.
وفي الذي وقع به التمييز بينهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الهجرة والقتال، قاله قتادة، وهو قول من قال: الخبيث: الكافر. والثاني: أنه الجهاد، وهو قول من قال: هو المنافق. قال مجاهد: فميّز الله يوم أُحد بين المؤمنين والمنافقين، حيث أظهروا النفاق وتخلّفوا. والثالث: أنه جميع الفرائض والتكاليف.
فإن المؤمن مستور الحال بالإقرار، فإذا جاءت التكاليف بانَ أمرُه، هذا قول ابن كيسان. وفي المخاطب بقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ قولان: أحدهما: أنهم كفار قريش، فمعناه: ما كان الله ليبين لكم المؤمن من الكافر، لأنهم طلبوا ذلك، فقالوا: أخبرنا بمن يؤمن ومن لا يؤمن، هذا قول ابن عباس. والثاني: أنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فمعناه: وما كان الله ليطلع محمداً على الغيب، قاله السّدّيّ. و «يجتبي» بمعنى يختار، قاله الزجاج وغيره. فمعنى الكلام على القول الأول: أن الله لا يطلع على الغيب أحداً إلا الأنبياء الذين اجتباهم، وعلى القول الثاني: أن الله لا يطلع على الغيب أحداً إلا أنه يجتبي من يشاء فيطلعه على ما يشاء.

[سورة آل عمران (3) : آية 180]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم، وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة، وابن عباس في رواية أبي صالح، والشعبي، ومجاهد، وفي رواية السدي في آخرين.
والثاني: أنها في الأحبار الذين كتموا صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ونبوته، رواه عطية عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد، واختاره الزجاج.
قال الفراء: ومعنى الكلام: لا يحسبن الباخلون البخل هو خيراً لهم، فاكتفى بذكر «يبخلون» من البخل، كما تقول: قدم فلان، فسررت به، أي: سررت بقدومه. قال الشاعر:

(1/352)


لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)

إِذا نُهي السفيهُ جرى إِليه ... وخالف والسفيه إِلى خلاف «1»
يريد جرى إلى السفه. والذي آتاهم الله على قول من قال: البخل بالزكاة: هو المال، وعلى قول من قال: البخل بذكر صفة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو العلم.
قوله تعالى: هُوَ إشارة إلى البخل وليس مذكوراً، ولكنه مدلول عليه ب «يبخلون» .
وفي معنى تطويقهم به أربعة أقوال: أحدها: أنه يجعل كالحية يطوق بها الإنسان.
(242) روى ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مُثِّل له يوم القيامة شجاع «2» أقرع يفر منه، وهو يتبعه حتى يطوق في عنقه» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وهذا مذهب ابن مسعود، ومقاتل.
والثاني: أنه يجعل طوقاً من نار، رواه منصور عن مجاهد، وإبراهيم.
والثالث: أن معنى تطويقهم به: تكليفهم أن يأتوا به، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
والرابع: أن معناه: يلزم أعناقهم إثمه، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس: يموت أهل السّماوات وأهل الأرض، ويبقى رب العالمين، قال الزجاج: خوطب القوم بما يعقلون، لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثاً إذا كان ملكاً له، وقال ابن الأنباري: معنى الميراث: انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به، فلما مات الخلق، وانفرد عزّ وجل صار ذلك له وراثة.
قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يعملون» بالياء إتباعاً لقوله تعالى سَيُطَوَّقُونَ وقرأ الباقون بالتاء، لأنّ قبله وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا.

[سورة آل عمران (3) : آية 181]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181)
قوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ في سبب نزولها قولان:
(243) أحدهما: أن أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه دخل بيت مدراس اليهود، فوجدهم قد
__________
صحيح. أخرجه الترمذي 3012 والنسائي في «الكبرى» 2221 و 11084 وابن ماجة 1784 من حديث ابن مسعود. وقال الترمذي: حسن صحيح. وهو في صحيح البخاري 1403 و 4565 ومالك 1/ 256- 257 وأحمد 2/ 279 والنسائي 5/ 39 وأبو يعلى 6319 وابن حبان 3258 من حديث أبي هريرة. وورد من حديث جابر أخرجه مسلم 988 والدارمي 1/ 380 وابن حبان 3244 وله شواهد تبلغ به حد الشهرة. وانظر «تفسير القرطبي» 1928 و «تفسير الشوكاني» 571 بتخريجنا.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 275 عن عكرمة والسدي ومقاتل وابن إسحاق. وأخرجه الطبري 8300
__________
(1) أنشده الفرّاء في «معاني القرآن» 1/ 248 وثعلب في «مجالسه» 1/ 60 و «أمالي الشجري» 1/ 68 والبغدادي في «الخزانة» 2/ 383 ولم ينسبوه لقائل.
(2) وفي «اللسان» : الشجاع: الحية الذكر، وقيل: هو الخبيث المارد منها.

(1/353)


ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)

اجتمعوا على رجل منهم، اسمه فنحاص، فقال له أبو بكر: اتّق الله وأسلم، فو الله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله. فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر. وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنيّا عنّا ما استقرضنا.
فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والله لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك.
فذهب فنحاص يشكو إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره أبو بكر بما قال، فجحد فنحاص، فنزلت هذه الآية، ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً «1» ، هذا قول ابن عباس، وإلى نحوه ذهب مجاهد، وعكرمة والسدي، ومقاتل.
والثاني: أنه لما نزل قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً «2» قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، وقتادة.
وفي الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، أربعة أقوال: أحدها: أنه فنحاص بن عازوراء اليهودي، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: حيي بن أخطب، قاله الحسن وقتادة. والثالث: أن جماعة من اليهود قالوه. قال مجاهد: صكَّ أبو بكر رجلاً من الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ لم يستقرضنا وهو غني؟! والرابع: أنه النَّباش بن عمرو اليهودي، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: سَنَكْتُبُ ما قالُوا قرأ حمزة وحده: «سيُكتب» بياء مضمومة و «قتلُهم» بالرفع و «يقول» بالياء، وقرأ الباقون: سَنَكْتُبُ ما قالُوا بالنّون، ووَ قَتْلَهُمُ بالنصب و «نقول» بالنون، وقرأ ابن مسعود «ويقال» وقرأ الأعمش وطلحة: «ويقول» .
وفي معنى سَنَكْتُبُ ما قالُوا قولان: أحدهما: سنحفظ عليهم ما قالوا، قاله ابن عباس.
والثاني: سنأمر الحفظة بكتابته، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ أي: ونكتب ذلك. فإن قيل: هذا القائل لم يقتل نبياً قط! فالجواب: أنه رضي بفعل متقدميه لذلك، كما بينا في قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. قال الزجاج: ومعنى عَذابَ الْحَرِيقِ: عذاب محرق، أي: عذاب بالنار، لأن العذاب قد يكون بغير النّار.

[سورة آل عمران (3) : آية 182]
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)
قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى العذاب، والذي قدّمت أيديهم: الكفر والخطايا.

[سورة آل عمران (3) : آية 183]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)
__________
من حديث ابن عباس، وفي إسناده محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، وهو مجهول. وأخرجه الطبري 8302 عن السدي مرسلا، باختصار، و 8316 عن عكرمة، مرسلا فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، ويعلم أن له أصلا، والله أعلم.
__________
(1) آل عمران: 186.
(2) البقرة: 245.

(1/354)


فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)

قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا. قال ابن عباس:
(244) نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وجماعة من اليهود، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إن الله عهد إلينا، أي: أمرنا في التوراة: أن لا نؤمن لرسول، أي: لا نصدق رسولاً يزعم أنه رسول، حتى يأتينا بقربان تأكله النار.
قال ابن قتيبة: والقربان: ما تُقرب به إلى الله تعالى من ذبح وغيره. وإنما طلبوا القربان، لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدمين، وكان نزول النار علامة القبول. قال ابن عباس: كان الرجل يتصدق، فإذا قبلت منه، نزلت نار من السماء فأكلته، وكانت ناراً لها دويُّ، وحفيف. وقال عطاء: كان بنو إسرائيل يذبحون لله، فيأخذون أطايب اللحم، فيضعونها في وسط البيت تحت السماء، فيقوم النبي في البيت، ويناجي ربه، فتنزل نار، فتأخذ ذلك القربان، فيخر النبي ساجداً، فيوحي الله إليه ما يشاء. قال ابن عباس: قل يا محمد لليهود قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ أي: بالآيات، وَبِالَّذِي سألتم من القربان.

[سورة آل عمران (3) : آية 184]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ معناه: لست بأول رسول كذب.
قال أبو علي: وقرأ ابن عامر وحده «بالبينات وبالزبر» بزيادة باءٍ، وكذلك في مصاحف أهل الشام، ووجهه أن إعادة الباء ضرب من التأكيد، ووجه قراءة الجمهور أن الواو قد أغنت عن تكرير العامل، تقول: مررت بزيد وعمرو، فتستغني عن تكرير الباء.
قوله تعالى: وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ قال أبو سليمان: يعني به الكتاب النّيّرة بالبراهين والحجج.

[سورة آل عمران (3) : آية 185]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ. قال ابن عباس:
(245) لما نزل قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «1» قالوا: يا رسول الله إنما نزل في بني آدم، فأين ذكر الموت في الجن، والطير، والأنعام، فنزلت هذه الآية.
وفي ذكر الموت تهديد للمكذبين بالمصير، وتزهيد في الدنيا وتنبيه على اغتنام الأجل. وفي قوله تعالى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بشارة للمحسنين، وتهديد للمسيئين.
__________
لم أره عن ابن عباس، ولعله من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فقد روى الكلبي عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 277 عن الكلبي بلا سند، والكلبي متروك متهم بالكذب، والصواب الخبر المتقدم، وأن المراد بذلك فنحاص.
يأتي في سورة السجدة.
__________
(1) السجدة: 11.

(1/355)


لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ قال ابن قتيبة: نُجِّي وأُبعد. فَقَدْ فازَ قال الزجاج: تأويل فاز.
تباعد عن المكروه ولقي ما يحب، يقال لمن نجا من هلكة ولمن لقي ما يغتبط به: قد فاز.
قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يريد أن العيش فيها يغر الإنسان بما يمنِّيه من طول البقاء، وسيقطع عن قريب. قال سعيد بن جبير: هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، فأما من يشتغل بطلب الآخرة، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها.

[سورة آل عمران (3) : آية 186]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سبب نزولها خمسة أقوال:
(246) أحدها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبيّ، وعبد الله بن رواحة، فغشي المجلس عجاجة الدابة، فخمر ابن أُبيّ أنفه بردائه، وقال: لا تغبّروا علينا، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال ابن أُبي: إنه لا أحْسَنَ مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا في مجالسنا. وقال ابن رواحة: اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله، فإنَّا نحب ذلك، فاستبَّ المسلمون، والمشركون، واليهود، فنزلت هذه الآية، رواه عروة عن أسامة بن زيد.
والثاني: أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أشدّ الأذى، فنزلت هذه الآية، قال كعب بن مالك الأنصاري. والثالث: أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصديق، وبين فنحاص اليهودي «1» ، وقد سبق ذكره عن ابن عباس. والرابع: أنها نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر الصديق، قاله أبو صالح عن ابن عباس. واختاره مقاتل. وقال عكرمة: نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر الصديق، وفنحاص اليهودي «2» .
(247) والخامس: أنها نزلت في كعب بن الأشرف، كان يحرِّض المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2987 ومسلم 1798 والطبراني في الكبير 1/ 389 من حديث أسامة بن زيد.
تنبيه: لفظ الحديث عند البخاري والطبراني.... قال الله عز وجل وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ ... وليس لها ذكر عند مسلم. ولفظ فأنزل الله عند الواحدي والله أعلم بالصواب.
أخرجه الطبري 8317 عن الزهري مرسلا. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 3/ 196- 198 عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك مرسلا. وخبر كعب بن الأشرف صحيح، لكن ليس فيه نزول الآية، فقد أخرج البخاري 2510 و 3031 و 3032 و 4037 ومسلم 1801 وأبي داود 2768 من حديث جابر رضي الله عنه. يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم» : فقال محمد بن مسلمة: أنا، فأتاه فقال: أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين. فقال: ارهنوني نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال فارهنوني أبناءكم. قالوا كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللأمة- قال سفيان: يعني السلاح- فوعده أن يأتيه، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه» . وورد بألفاظ أخرى.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.

(1/356)


وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)

وأصحابه في شعره، وهذا مذهب الزهري.
قال الزجّاج: ومعنى لَتُبْلَوُنَّ: لتخبرنّ، أي: توقع عليكم المحن، فيعلم المؤمن حقاً من غيره. و «النون» دخلت مؤكدة مع لام القسم، وضمت الواو لسكونها وسكون النون.
وفي البلوى في الأموال قولان: أحدهما: ذهابها ونقصانها. والثاني: ما فرض فيها من الحقوق.
وفي البلوى في الأنفس أربعة أقوال: أحدها: المصائب، والقتل. والثاني: ما فرض من العبادات.
والثالث: الأمراض. والرابع: المصيبة بالأقارب، والعشائر.
وقال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم، وباعوا رباعهم، وعذبوهم.
قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى، والَّذِينَ أَشْرَكُوا: مشركو العرب وَإِنْ تَصْبِرُوا على الأذى وَتَتَّقُوا الله بمجانبة معاصيه. قوله تعالى: فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي: ما يعزم عليه، لظهور رشده.
فصل: والجمهور على إحكام هذه الآية، وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور منسوخ بآية السّيف.

[سورة آل عمران (3) : آية 187]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسدي، ومقاتل. فعلى هذا، الكتاب: التوراة. والثاني: أنهم اليهود والنصارى، والكتاب: التوراة والإنجيل. والثالث: أنهم جميع العلماء فيكون الكتاب اسم جنس.
قوله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم، وزيد عن يعقوب (ليبيننه للناس ولا يكتمونه) بالياء فيهما، وقرأ الباقون، وحفص عن عاصم بالتاء فيهما. وفي هاء الكناية في «لتبيننه» و «تكتمونه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول من قال:
هم اليهود. والثاني: أنها ترجع إلى الكتاب، قاله الحسن، وقتادة، وهو أصح، لأن الكتاب أقرب المذكورين، ولأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول من ذهب إلى أنه عام في كل كتاب. وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا «1» .
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 436 (آل عمران: 187) : هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا فقد ورد في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» .

(1/357)


لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)

قوله تعالى: فَنَبَذُوهُ قال الزجاج: أي: رمَوْا به، يقال للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به: قد جعلت هذا الأمر بظهر. قال الفرزدق:
تميمَ بنَ قيس لا تكوننَّ حَاجَتي ... بظَهْرٍ ولا يعيا عليَّ جوابها «1»
معناه: لا تكونن حاجتي مُهمَلة عندك، مطرحة.
وفي هاء «فنبذوه» قولان: أحدهما: أنها تعود إلى الميثاق. والثاني: إلى الكتاب.
قوله تعالى: وَاشْتَرَوْا بِهِ يعني: استبدلوا بما أخذ الله عليهم القيام به، ووعدهم عليه الجنة ثَمَناً قَلِيلًا أي: عرضا يسيرا من الدنيا.

[سورة آل عمران (3) : آية 188]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)
قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وقرأ أهل الكوفة: لا تحسبنَّ بالتاء. وفي سبب نزولها ثمانية أقوال «2» :
(248) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، سأل اليهود عن شيء، فكتموه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم قد أخبروه به، واستحمدوا بذلك إِليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أنها نزلت في قوم من اليهود، فرحوا بما يصيبون من الدنيا، وأحبّوا أن يقول الناس:
إنهم علماء، وهذا القول والذي قبله عن ابن عباس. والثالث: أن اليهود قالوا: نحن على دين إبراهيم، وكتموا ذكر محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير «3» . والرابع: أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها، أن محمداً ليس بنبي، فاثبتوا على دينكم، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به، ففرحوا بذلك، وقالوا: نحن أهل الصوم والصّلاة، وأولياء
__________
حديث صحيح لكن ليس فيه ذكر نزول الآية، وإنما فيه أنهم المراد بهذه الآية، فقد أخرجه البخاري 4568 ومسلم 2778 ح 8 والترمذي 3014 والنسائي في «التفسير» 106 والطبري 8349 والحاكم 2/ 299 والواحدي 281 من طرق أن مروان بن الحكم قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبنّ أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كذلك حتى قوله يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا. واللفظ للبخاري.
__________
(1) في «اللسان» : رجل تكلّف عملا فيعيا به وعنه إذا لم يهتد لوجه عمله.
(2) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» 3/ 549 (آل عمران: 188) : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: «عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله عز وجل أنه أخذ ميثاقهم ليبينن للناس أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا يكتمونه» . لأن قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية، في سياق الخبر عنهم وهو شبيه بقصتهم، مع اتفاق أهل التأويل بأنهم معنيون بذلك.
(3) أخرجه الطبري 8343 عن سعيد مرسلا.

(1/358)


الله، فنزلت هذه الآية «1» ، هذا قول الضحاك، والسدي.
(249) والخامس: أن يهود خيبر أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقالوا: نحن على رأيكم، ونحن لكم ردء، وهم مستمسكون بضلالتهم، فأرادوا أن يحمدهم نبيّ الله بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والسادس: أن ناساً من اليهود جهزوا جيشا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واتفقوا عليهم، فنزلت هذه الآية، قاله إبراهيم النخعي»
. والسابع: أن قوماً من أهل الكتاب دخلوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها، فحمدوهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا، فنزلت هذه الآية، ذكره الزجاج «3» .
(250) والثامن: أن رجالاً من المنافقين كانوا يتخلّفون عن الغزو مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا قدم اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو سعيد الخدري، وهذا القول يدل على أنها نزلت في المنافقين، وما قبله من الأقوال يدل على أنها في اليهود.
وفي الذي أتوا ثمانية «4» أقوال: أحدها: أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق. والثاني: تبديلهم التوراة. والثالث: إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب. والرابع: إضلالهم الناس. والخامس:
اجتماعهم على تكذيب النبي. والسادس: نفاقهم بإظهار ما في قلوبهم ضده. والسابع: اتفاقهم على محاربة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذه أقوال من قال: هم اليهود. والثامن: تخلُّفهم في الغزوات، وهذا قول من قال: هم المنافقون.
وفي قوله تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ستة أقوال: أحدها: أحبّوا أن يحمدوا على إجابة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عن شيء سألهم عنه وما أجابوه. والثاني: أحبّوا أن يقول الناس: إنهم علماء، وليسوا كذلك. والثالث: أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصيام، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن
__________
أخرجه الطبري 8350 عن قتادة مرسلا بنحوه، و 8351 من طريق عبد الرزاق بن معمر عن قتادة مرسلا باختصار. وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 1/ 192 عن الحسن مرسلا مختصرا.
صحيح أخرجه البخاري 4567 ومسلم 2777 ح 7 ص 2142 والطبري 8335 والواحدي 280 من طرق عن أبي سعيد الخدري.
__________
(1) عزاه الواحدي في «أسباب النزول» 283 للضحاك بدون إسناد. وأخرجه الطبري 8340 عن جويبر عن الضحاك مع اختلاف يسير فيه، وجويبر هو ابن سعيد متروك، وكرره الطبري 8339 من وجه آخر عن الضحاك، وكرره 8342 عن السدي نحوه.
(2) لم أقف عليه.
(3) لم أره مسندا، وعزاه المصنف للزجاج. [.....]
(4) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» 3/ 549 عني بذلك أهل الكتاب وتأويل الآية: لا تحسبن يا محمد الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناس أمرك وأنك لي رسول مرسل بالحق، وهم يجدونك مكتوبا عندهم في كتبهم، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوتك، وبيان أمرك للناس، وأن لا يكتموهم ذلك، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك ومخالفتهم أمري.

(1/359)


وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)

عباس. والرابع: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: نحن على دين إبراهيم، وليسوا عليه، قاله سعيد بن جبير. والخامس: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: إنا راضون بما جاء به النبي، وليسوا كذلك، قاله قتادة. وهذه أقوال من قال: هم اليهود. والسادس: أنهم كانوا يحلفون للمسلمين، إذا نصروا: إنا قد سررنا بنصركم، وليسوا كذلك، قاله أبو سعيد الخدري، وهو قول من قال: هم المنافقون.
قوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «فلا يحسبُنهم» ، بالياء وضم الباء. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بالتاء، وفتح الباء. قال الزجاج: إنما كررت «تحسبنهم» لطول القصة، والعرب تعيد إذا طالت القصة «حسبت» وما أشبهها، إعلاماً أن الذي يجرى متصل بالأول، وتوكيداً له، فتقول: لا تظننَّ زيداً إذا جاء وكلمك بكذا وكذا، فلا تظننَّه صادقاً. قوله تعالى بِمَفازَةٍ قال ابن زيد، وابن قتيبة: بمنجاة.

[سورة آل عمران (3) : آية 189]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه تكذيب القائلين: بأنه فقير. وفي قوله تعالى:
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تهديد لهم، أي: لو شئت لعجلت عذابهم.

[سورة آل عمران (3) : آية 190]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190)
قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(251) أحدها: أن قريشاً قالوا لليهود: ما الذي جاءكم به موسى؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء.
وقالوا للنصارى: ما الذي جاءكم به عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: ادع ربك يجعل لنا الصفا ذهباً، فنزلت هذه الآية، رواه ابن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أن أهل مكة سألوه أن يأتيهم بآية، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث:
أنه لما نزل قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «1» قالت قريش: قد سوى بين آلهتنا، إئتنا بآية، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الضحى، واسمه: مُسلم بن صُبيح. فأما تفسير الآية فقد سبق.

[سورة آل عمران (3) : آية 191]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً في هذا الذكر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذّكر في
__________
ضعيف منكر، أخرجه الطبراني 12322 والواحدي في «الأسباب» 284 عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف لضعف يحيى بن عبد الحميد الحماني، وبه أعله الحافظ الهيثمي في «المجمع» 6/ 329، ثم المتن منكر.
وقال الحافظ في «الفتح» 8/ 235: فيه إشكال أن هذه السورة مدنية وقريش من أهل مكة ويحتمل أن يكون سؤالهم لذلك بعد أن هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ولا سيما في زمن الهدنة اه. وقال ابن كثير في «تفسيره» 1/ 438: وهذا مشكل فإن هذه الآية مدنية وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة، والله أعلم.
__________
(1) البقرة: 164.

(1/360)


رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)

الصّلاة، يصلي قائما، فإن لم يستطع، فعلى جنب، هذا قول علي، وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنه الذكر في الصلاة وغيرها، وهو قول طائفة من المفسرين. والثالث: أنه الخوف، فالمعنى:
يخافون الله قياماً في تصرفهم وقعوداً في دعتهم، وعلى جنوبهم في منامهم.
قوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن فارس: الفكرة: تردد القلب في الشيء. قال ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكرٍ خيرٌ من قيام ليلة، والقلب ساه.
قوله تعالى: رَبَّنا قال الزجاج: معناه: يقولون: ربنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا أي: خلقته دليلاً عليك، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك. ومعنى سُبْحانَكَ: براءةً لك من السوء، وتنزيهاً لك أن تكون خلقتهما باطلاً، فَقِنا عَذابَ النَّارِ فقد صدَّقْنا أنّ لك جنّة ونارا.

[سورة آل عمران (3) : آية 192]
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192)
قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قال الزجاج: المخزى في اللغة المذلّ المحقور بأمر لزمه وبحجة. يقال: أخزيته، أي: ألزمته حجةً أذللته معها. وفيمن يتعلق به هذا الخزي قولان: أحدهما: أنه يتعلق بمن يدخلها مخلَّداً، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب، وابن جبير، وقتادة، وابن جريج، ومقاتل. والثاني: أنه يتعلق بكل داخل إليها، وهذا المعنى مروي عن جابر بن عبد الله، واختاره ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ قال ابن عباس: وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب الله تعالى.

[سورة آل عمران (3) : آية 193]
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193)
قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً في المنادي قولان: أحدهما: أنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد، ومقاتل. والثاني: أنه القرآن، قاله محمد بن كعب القرظي، واختاره ابن جرير الطبري.
قوله تعالى: يُنادِي لِلْإِيمانِ فيه قولان: أحدهما: ينادي إلى الإيمان، ومثله: الَّذِي هَدانا لِهذا «1» ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «2» ، قاله الفراء. والثاني: بأنه مقدم ومؤخر، والمعنى: سمعنا منادياً للإيمان ينادي، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا قال مقاتل: امح عنا خطايانا. وقال غيره: غطها عنا، وقيل: إنما جمع بين غفران الذنوب، وتكفير السيئات، لأن الغفران بمجرد الفضل، والتكفير بفعل الخير. وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «الأبرار» و «الأشرار» و «ذات قرار» وما كان مثله بين الفتح والكسر، وقرأ ابن كثير، وعاصم بالفتح. ومعنى مَعَ الْأَبْرارِ: فيهم، قال ابن عباس: وهم الأنبياء والصّالحون.
__________
(1) الأعراف: 43.
(2) الزلزلة: 5.

(1/361)


رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)

[سورة آل عمران (3) : آية 194]
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
قوله تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا قال ابن عباس: يعنون: الجنة عَلى رُسُلِكَ أي: على ألسنتهم. فإن قيل: ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه خرج مخرج المسألة، ومعناه: الخبر، تقديره: فآمنا، فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا.
والثاني: أنه سؤال له، أن يجعلهم ممن آتاه ما وعده، لا أنهم استحقوا ذلك، إذ لو كانوا قد قطعوا أنهم من الأبرار لكانت تزكية لأنفسهم. والثالث: أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء، لأنه وعدهم نصراً غير مؤقت، فرغبوا في تعجيله، ذكر هذه الأجوبة ابن جرير، وقال: أولى الأقوال بالصواب، أن هذه صفة المهاجرين، رغبوا في تعجيل النصر على أعدائهم. فكأنهم قالوا: لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء فعجّل خزيهم، وظفرنا عليهم.

[سورة آل عمران (3) : آية 195]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
قوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ.
(252) روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء؟
فنزلت هذه الآية. واستجاب: بمعنى أجاب. والمعنى: أجابهم بأن قال لهم: إني لا أُضيع عمل عامل منكم ذكرا أو أُنثى.
وفي معنى قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ثلاثة أقوال: أحدها: بعضكم من بعض في الدين، والنُصرة والموالاة. والثاني: حكم جميعكم في الثواب واحد، لأن الذكور من الإناث والإناث من الذكور. والثالث: كلكم من آدم وحواء.
قوله تعالى: فَالَّذِينَ هاجَرُوا أي: تركوا الأوطان والأهل والعشائر وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني:
المؤمنين الذين أخرجوا من مكة بأذى المشركين، فهاجروا، وَقُتِلُوا المشركين وَقُتِلُوا. قرأ ابن كثير، وابن عامر: «وقاتلوا وقتّلوا» مشددة التاء. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم: «وقاتلوا وقتلوا» خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي: و «قتلوا وقاتلوا» . قال أبو علي: تقديم «قتلوا» جائز، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولاً في المعنى، مؤخراً في اللفظ.
__________
حديث حسن. أخرجه الطبري 8367 من طريق مجاهد عن أم سلمة. ورجال الإسناد ثقات رجال الشيخين، فهو صحيح إن كان مجاهد سمعه من أم سلمة وفيه نظر إذ قال فيه: قالت أم سلمة، وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 498 والترمذي 3023 عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة عن أم سلمة. وأخرجه الحاكم 2/ 300 والواحدي 285 عن عمرو بن دينار عن سلمة بن عمر بن أبي سلمة- رجل من ولد أم سلمة قال:
قالت أم سلمة. صححه الحاكم على شرط البخاري! وسكت الذهبي! مع أن في إسناده سلمة بن أبي سلمة، وهو مقبول كما في «التقريب» أي حديثه حسن في الشواهد، وقد توبع في ما تقدم، فهو حسن إن شاء الله تعالى. وسيأتي شيء من هذا في سورة الأحزاب.

(1/362)


لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)

قوله تعالى: ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قال الزجاج: هو مصدرٌ مؤكد لما قبله، لأن معنى وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ: لأثيبنّهم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197)
قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما:
أنها نزلت في اليهود، ثم في ذلك قولان: أحدهما: أن اليهود كانوا يضربون في الأرض. فيصيبون الأموال، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(253) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أراد أن يستسلف من بعضهم شعيراً، فأبى إلّا على رهن، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لو أعطاني لأوفيته، إني لأمينٌ في السماء أمينٌ في الأرض» فنزلت، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
والقول الثاني: أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاءٍ، فقال بعض المؤمنين: قد أهلكنا الجهد، وأعداء الله فيما ترون، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل. قال قتادة: والخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره. وقال غيره: إنما خاطبه تأديباً وتحذيراً، وإن كان لا يغتر.
وفي معنى «تقلبهم» ثلاثة أقوال: أحدها: تصرُّفهم في التجارات، قاله ابن عباس، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: تقلُّب ليلهم ونهارهم، وما يجري عليهم من النعم، قاله عكرمة ومقاتل.
والثالث: تقلُّبهم غير مأخوذين بذنوبهم، ذكره بعض المفسرين. قال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل، وقال ابن عباس: منفعة يسيرة في الدنيا. والمهاد: الفراش.

[سورة آل عمران (3) : آية 198]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)
قوله تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ قرأ أبو جعفر: «لكنَّ» بالتشديد هاهنا، وفي «الزُمر» قال مقاتل: وحدوا. قال ابن عباس: «النزل» الثواب. قال ابن فارس: النُّزُل: ما يهيأ للنّزيل، والنّزيل:
الضّيف.

[سورة آل عمران (3) : آية 199]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)
قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
__________
لم أقف عليه هكذا، والذي ورد في ذلك أن الآية التي نزلت هي قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ....- طه: 131- أخرجه الواحدي 615 والطبري 22455 من حديث أبي رافع، وفيه موسى بن عبيدة الربذي ضعيف، وكرره الطبري 24456 من طريق حسين بن داود عن أبي رافع وحسين واه والمتن منكر، لأن سورة طه مكية، وخبر رهن الدرع متأخر جدا كما قال القرطبي، وسيأتي.
وانظر «تفسير القرطبي» 4332 بتخريجنا.

(1/363)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

(254) أحدها: أنها نزلت في النجاشي، لأنه لما مات صلّى عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال قائل: يصلي على هذا العلج النصراني، وهو في أرضه؟! فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس. وقال الحسن، وقتادة: فيه وفي أصحابه.
والثاني: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثالث: في عبد الله بن سلام، وأصحابه، قاله ابن جريج، وابن زيد، ومقاتل. والرابع: في أربعين من أهل نجران، وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى، فآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، قاله عطاء «1» .
قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يعني: القرآن، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ يعني: كتابهم. والخاشع:
الذليل. لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي: عرضاً من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود. وقد سلف بيان سرعة الحساب.

[سورة آل عمران (3) : آية 200]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: نزلت في انتظار الصّلاة بعد الصّلاة، وليس يومئذ غزوٌ يرابَط.
وفي الذي أمروا بالصبر عليه خمسة أقوال: أحدها: البلاء والجهاد، قاله ابن عباس. والثاني:
الدين، قاله الحسن، والقرظي، والزجاج. والثالث: المصائب، روي عن الحسن أيضاً. والرابع:
الفرائض، قاله سعيد بن جبير. والخامس: طاعة الله، قاله قتادة.
وفي الذي أمروا بمصابرته قولان: أحدهما: العدو، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: الوعد الذي وعدهم الله: قاله عطاء، والقرظيّ.
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 287 بدون إسناد. عن جابر وابن عباس وأنس وقتادة، وعزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» 246 للثعلبي عن ابن عباس وقتادة.
- وخبر جابر، أخرجه الطبري 8376 وفيه رواد بن الجراح، وهو ضعيف. وورد بنحوه من حديث أنس أخرجه النسائي في «التفسير» 108 و 109 والبزار «كشف الأستار» 382 والطبراني في «الأوسط» 2688 والواحدي 288 ورجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع 3/ 38، وصلاة الرسول على النجاشي ثابتة في «الصحيحين» دون هذه القصة. انظر البخاري 1333 ومسلم 951.
__________
(1) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» 3/ 560 (آل عمران: 199) : فإن قال قائل: فما أنت قائل في الخبر الذي رويت عن جابر وغيره: أنها نزلت في النجاشي وأصحابه؟
قيل: ذلك خبر في إسناده نظر. ولو كان صحيحا لا شك فيه، لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف.
وقد تنزل الآية في الشيء، ثم يعم بها كل من كان في معناه. فالآية وإن كانت نزلت في النجاشي، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشي، حكما لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي في اتباعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتصديق بما جاءهم به من عند الله، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين، التوراة والإنجيل.

(1/364)


وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان: أحدهما: الجهاد للأعداء، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة: وأصل المرابطة والرباط: أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم في الثغر، كلٌ يُعدُّ لصاحبه. والثاني: أنه الصلاة، أُمروا بالمرابطة عليها، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن.
وقد ذكرنا في (البقرة) معنى «لعلّ» ، ومعنى «الفلاح» «1» .
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 313: قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا الآية ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة، فحضّ على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، والصبر الحبس. وأمر بالمصابرة، فقيل: معناه مصابرة الأعداء، وقيل: على الصلوات الخمس وقيل: إدامة مخالفة النفس عن الشهوات فهي تدعو وهو ينزع.
والأول قول الجمهور. ولذلك اختلفوا في معنى قوله (ورابطوا) فقال جمهور الأمة: رابطوا أعداءكم بالخيل أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم ومنه قوله تعالى وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ وفي الموطأ عن مالك بن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزّل شدة يجعل الله له بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله تعالى يقول في كتابه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ولم يكن في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزو يرابط فيه، واحتج بقوله عليه السلام: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاثا. قال ابن عطية: والقول الصحيح هو أن الرباط الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل، ثم كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا.
قلت: إن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال: الرباط ملازمة الثغور، ومواظبة الصلاة أيضا.
والمرابطة عند العرب: العقد على الشيء حتى لا ينحل، فيعود إلى ما كان صبر عنه، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة. والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما. وقال ابن خويز منداد: للرباط حالتان: حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد. وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسترق.

(1/365)