زاد المسير في علم التفسير

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)

سورة النساء
مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
اختلفوا في نزولها على قولين «1» : أحدهما: أنها مكيَّة، رواه عطيّة عن ابن عباس، وهو قول الحسن، ومجاهد، وجابر بن زيد، وقتادة. والثاني: أنها مدنية، رواه عطاء عن ابن عباس، وهو قول مقاتل. وقيل: إنها مدنية، إِلا آية نزلت بمكة في عثمان بن طلحة حين أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة، فيسلِّمها إلى العبّاس، وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «2» ذكره الماوردي.
قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمُ فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى الطاعة، قاله ابن عباس. والثاني:
بمعنى الخشية. قاله مقاتل. والنفس الواحدة: آدم، وزوجها حواء، و «من» في قوله تعالى: وَخَلَقَ مِنْها للتبعيض في قول الجمهور. وقال ابن بحر: «منها» ، أي: من جنسها.
واختلفوا أي وقت خلقت له، على قولين: أحدهما: أنها خلقت بعد دخوله الجنة، قاله ابن مسعود، وابن عباس. والثاني: قبل دخوله الجنة، قاله كعب الأحبار، ووهب، وابن إسحاق. قال ابن عباس: لما خلق الله آدم، ألقى عليه النوم، فخلق حواء من ضِلَع من أضلاعه اليُسرى، فلم تؤذه بشيء، ولو وجد الأذى ما عطف عليها أبداً، فلما استيقظ قيل: يا آدم ما هذه؟ قال: حواء.
قوله تعالى: وَبَثَّ مِنْهُما قال الفراء: بثَّ: نشر، ومن العرب من يقول: أبث الله الخلق، ويقولون: بثثتك ما في نفسي، وأبثثتك.
قوله تعالى: الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ قرأ ابن كثير، وابن عامر، والبرجمي، عن أبي بكر، عن عاصم.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 5: هي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها. وهو الصحيح، فإن في صحيح البخاري- 4993- عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعني قد بنى بها. ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما بنى بعائشة بالمدينة. ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. والله أعلم.
(2) النساء: 58. وسيأتي الحديث أثناء تفسيرها.

(1/366)


وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)

واليزيدي، وشجاع، والجعفي، وعبد الوارث، عن أبي عمرو: «تسّاءلون» بالتشديد. وقرأ عاصم، وحمزة والكسائي، وكثير من أصحاب أبي عمرو عنه بالتخفيف. قال الزجاج: الأصل: تتساءلون، فمن قرأ بالتشديد. أدغم التاء في السين، لقرب مكان هذه من هذه، ومن قرأ بالتخفيف، حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين. وفي معنى «تساءلون به» ثلاثة أقوال: أحدها: تتعاطفون به، قاله ابن عباس. والثاني:
تتعاقدون، وتتعاهدون به. قاله الضحاك، والربيع. والثالث: تطلبون حقوقكم به، قاله الزجاج.
فأما قوله «والأرحام» فالجمهور على نصب الميم على معنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وفسّرها على هذا ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسُّدّي، وابن زيد. وقرأ الحسن، وقتادة، والأعمش، وحمزة بخفض الميم على معنى: تساءلون به وبالأرحام، وفسرها على هذا الحسن، وعطاء والنخعي. وقال الزجاج: الخفض في «الأرحام» خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر، وخطأ في الدين، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(255) «لا تحلفوا بآبائِكم» ، وذهب إلى نحو هذا الفرّاء، وقال ابن الأنباري: إِنما أراد، حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت عادتهم به، فالمعنى: الذي كنتم تساءلون به وبالأرحام في الجاهلية.
قال أبو علي: من جر، عطف على الضمير المجرور بالباء، وهو ضعيف في القياس، قليل في الاستعمال، فترك الأخذ به أحسن.
فأما الرقيب، فقال ابن عباس، ومجاهد: الرقيب: الحافظ. وقال الخطابي: هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، وهو في نعوت الآدميين الموكل بحفظ الشيء، المترصد له، المتحرز عن الغفلة فيه، يقال منه: رقبت الشيء أرقبه رقبة.

[سورة النساء (4) : آية 2]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)
قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ.
(256) سبب نزولها: أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ، طلب ماله فمنعه، فخاصمه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت، قاله سعيد بن جبير.
والخطاب بقوله تعالى: «وآتوا» للأولياء والأوصياء. قال الزجاج: وإِنما سموا يتامى بعد البلوغ، بالاسم الذي كان لهم، وقد كان يقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يتيم أبي طالب.
قوله تعالى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، قرأ ابن محيصن: «تبدلوا» بتاء واحدة. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنه إِبدال حقيقة، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه أخذ الجيّد، وإعطاء الرديء
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3836 و 6648 ومسلم 1646 وأحمد 2/ 20- 42- 76 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم» . وانظر «تفسير القرطبي» 1991 بتخريجنا.
عزاه السيوطي في «الدر» 2/ 207 لابن أبي حاتم عن ابن جبير، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 291 بدون إسناد عن مقاتل والكلبي وعزاه ابن حجر في «تخريج الكشاف» 1999 للثعلبي وقال: وسنده إليهما مذكور أول الكتاب- أي كتاب الثعلبي- وسكت الحافظ عليه. وهو معضل، والكلبي متروك متهم، ومقاتل إن كان ابن سليمان، فهو كذاب، وإن كان ابن حيان، فإنه صدوق فيه ضعف وقد روى مناكير كثيرة.

(1/367)


وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)

مكانه، قاله سعيد بن المسيب، والضحاك، والنخعي، والزهري، والسُّدّي. قال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدراهم الجياد، ويطرح مكانها الزيوف. والثاني: أنه الربح على اليتيم، واليتيم غرّ لا عِلْمَ له، قاله عطاء. والقول الثاني: أنه ليس بإبدال حقيقة، وإنما هو أخْذه مستهلكاً، ثم فيه قولان: أحدهما: أنهم كانوا لا يورثون النساء والصغار، وإنما يأخذ الميراث الأكابر من الرجال، فنصيب الرجل من الميراث طيب، وما أخذه من حق اليتيم خبيث، هذا قول ابن زيد. والثاني: أنه أكل مال اليتيم بدلاً من أكل أموالهم، قاله الزجاج.
و «إلى» بمعنى «مع» والحوب: الإِثم. وقرأ الحسن، وقتادة، والنخعي بفتح الحَاء. قال الفرّاء:
أهل الحجاز يقولون: حُوب بالضم، وتميم يقولونه بالفتح. قال ابن الأنباري: وقال الفراء: المضموم الاسم، والمفتوح المصدر. قال ابن قتيبة: وفيه ثلاث لغات: حوب، وحوب، وحاب.

[سورة النساء (4) : آية 3]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى اختلفوا في تنزيلها وتأويلها على ستة أقوال:
أحدها: أن القوم كانوا يتزوجون عدداً كثيراً من النساء في الجاهلية، ولا يتحرّجون من ترك العدل بينهن، وكانوا يتحرّجون في شأن اليتامى، فقيل لهم بهذه الآية: احذروا من ترك العدل بين النساء، كما تحذرون من تركه في اليتامى. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير والضحاك، وقتادة، والسدي ومقاتل. والثاني: أن أولياء اليتامى كانوا يتزوجون النساء بأموال اليتامى، فلما كثر النساء، مالوا على أموال اليتامى، فَقُصِروا على الأربع حفظاً لأموال اليتامى. وهذا المعنى مرويٌّ عن ابن عباس أيضاً، وعكرمة. والثالث: أن معناها: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا نكحتموهن، فانكحوا سواهن من الغرائب اللواتي أحلَّ الله لكم، وهذا المعنى مروي عن عائشة.
والرابع: أن معناها: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهن، وحذرتم سوء الصحبة لهن، وقلة الرغبة فيهن، فانكحوا غيرهن، وهذا المعنى مروي عن عائشة أيضا، والحسن. والخامس: أنهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى، فأمِروا بالتحرّج من الزنى أيضا، ونُدبوا إلى النكاح الحلال، وهذا المعنى مروي عن مجاهد. والسادس: أنهم تحرجوا من نكاح اليتامى، كما تحرجوا من أموالهم، فرخّص الله لهم بهذه الآية، وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه، فكأنه قال: وإِن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن، فانكحوهن، ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا، فإن خفتم أن لا تعدلوا فيهن، فواحدة، وهذا المعنى مروي عن الحسن «1» .
__________
(1) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسيره 3/ 577 (النساء: 3) : وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: تأويلها: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فكذلك خافوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن، من واحدة إلى الأربع. فإن خفتم الجور في الواحدة أيضا، فلا تنكحوها، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن» . وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حق وخلطها بغيرها من الأموال. ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرج في أمر النساء مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى.

(1/368)


قال ابن قتيبة: ومعنى قوله: وإن خفتم، أي: فإن علمتم أنكم لا تعدلون بين اليتامى. يقال:
أقسط الرجل: إذا عدل، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
(257) المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة.
ويقال قسط الرجل: إذا جار، ومنه قول الله أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً.
وفي معنى العدل في اليتامى قولان: أحدهما: في نكاح اليتامى. والثاني: في أموالهم.
قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ أي: ما حل لكم. قال ابن جرير: وأراد بقوله تعالى: ما طاب لكم، الفعل دون أعيان النساء، ولذلك قال: «ما» ولم يقل: «من» واختلفوا: هل النكاح من اليتامى، أو من غيرهن؟ على قولين قد سبقا.
قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. قال الزجاج: هو بدل من «ما طاب لكم» ومعناه: اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً. وإِنما خاطب الله العرب بأفصح اللغات، وليس من شأن البليغ أن يعبّر في العدد عن التسعة باثنتين، وثلاث، وأربع، لأن التسعة قد وضعت لهذا العدد، فيكون عِيَّاً في الكلام.
وقال ابن الأنباري: هذه الواو معناها التفرّق، وليست جامعة، فالمعنى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى، وانكحوا ثُلاث في غير الحال الأولى، وانكحوا رُباع في غير الحالين. وقال القاضي أبو يعلى:
الواو هاهنا لإِباحة أيِّ الأعداد شاء، لا للجمع، وهذا العدد إنما هو للأحرار، لا للعبيد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: هم كالأحرار. ويدل على قولنا: أنه قال: فانكحوا، فهذا منصرف إلى مَن يملك النكاح، والعبد لا يملك ذلك بنفسه، وقال في سياقها فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، والعبد لا ملك له، فلا يباح له الجمع إِلا بين اثنتين.
قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فيه قولان: أحدهما: علمتم. والثاني: خشيتم.
قوله تعالى: أَلَّا تَعْدِلُوا قال القاضي أبو يعلى: أراد العدل في القسم بينهن.
قوله تعالى: فَواحِدَةً أي: فانكحوا واحدة، وقرأ الحسن، والأعمش، وحميد: «فواحدةٌ» بالرفع، المعنى، فواحدة تقنع.
قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني: السراري. قال ابن قتيبة: معنى الآية: فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم، فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن، فَقَصَرَهم على أربع، ليقدروا على العدل، ثم قال: فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هؤلاء الأربع، فانكحوا واحدة، واقتصروا على ملك اليمين.
قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أي: أقرب. وفي معنى تَعُولُوا ثلاثة أقوال: أحدها: تميلوا، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، وإبراهيم، وقتادة، والسدي، ومقاتل، والفراء. وقال
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1827 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

(1/369)


وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)

أبو مالك، وأبو عبيدة، تجوروا. قال ابن قتيبة، والزجاج: تجوروا وتميلوا بمعنى واحد. واحتكم رجلان من العرب إلى رجل، فحكم لأحدهما، فقال المحكوم عليه: إنك والله تعول علي، أي تميل وتجور. والثاني: تضلوا، قاله مجاهد. والثالث: تكثر عيالكم، قال ابن زيد، ورواه أبو سليمان الدمشقي في «تفسيره» عن الشّافعيّ، وردّه الزجّاج، فقال: أهل اللغة يقولون: هذا القول خطأ، لأن الواحدة يعولها، وإِباحة ملك اليمين أزيد في العيال من أربع.

[سورة النساء (4) : آية 4]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
قوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين:
أحدهما: أنهم الأزواج، وهو قول الجمهور، واحتجوا بأن الخطاب للناكحين قد تقدم، وهذا معطوف عليه، وقال مقاتل: كان الرجل يتزوج بلا مهر، فيقول: أرثكِ وترثيني، فتقول المرأة: نعم، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أنه متوجّه إلى الأولياء ثم فيه قولان: أحدهما: أن الزّوج كان إذا زوج أيّمة حاز صداقها دونها، فنهوا بهذه الآية، هذا قول أبي صالح واختاره الفراء، وابن قتيبة. والثاني: أن الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر، فنهوا عن هذا بهذه الآية، رواه أبو سليمان التيمي عن بعض أشياخه.
قال ابن قتيبة: والصدقات: المهور، واحدها: صدقة.
وفي قوله تعالى: نِحْلَةً أربعة أقوال: أحدها: أنها بمعنى الفريضة، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد ومقاتل. والثاني: أنها الهبة والعطية، قاله الفراء. قال ابن الأنباري: كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئا من مهورهن، فلما فرض الله لهن المهر، كان نحلة من الله، أي: هبة للنساء، فرضا على الرجال. وقال الزجاج: هو هبة من الله للنساء. قال القاضي أبو يعلى: وقيل: إِنما سمي المهر: نحلة، لأن الزّوج لا يملك بدله شيئاً، لأن البضع بعد النكاح في ملك المرأة، ألا ترى أنها لو وُطئت بشبهة، كان المهر لها دون الزوج، وإِنما الذي يستحقه الزوج الاستباحة، لا الملك.
والثالث: أنها العطية بطيب نفس، فكأنه قال: لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون، قاله أبو عبيدة.
والرابع: أن معنى «النحلة» : الديانة، فتقديره: وآتوهن صدقاتهن ديانة، يقال: فلان ينتحل كذا، أي:
يدين به، ذكره الزجاج عن بعض العلماء.
قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ يعني: النساء المنكوحات. وفي لَكُمْ قولان: أحدهما: أنه يعني الأزواج. والثاني: الأولياء. و «الهاء» في مِنْهُ كناية عن الصّداق، قال الزّجّاج: ومِنْهُ هاهنا للجنس، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ معناه: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن، فكأنه قال: كلوا الشيء الذي هو مهر، فيجوز أن يسأل الرجل المهر كلّه. ونَفْساً: منصوب على التمييز.
فالمعنى: فان طابت أنفسهن لكم بذلك، فكلوه هنيئا مريئا. وفي الهنيء ثلاثة أَقوال: أحدها: أنه ما تؤمن عاقبته. والثاني: ما أعقب نفعا وشفاءً. والثالث: أنه الذي لا ينغِّصُه شيء. وأما «المريء» فيقال: مرئ الطّعام: إذا انهضم، وحمدت عاقبته.

(1/370)


وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)

[سورة النساء (4) : آية 5]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)
قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ، المراد بالسفهاء خمسة أقوال: أحدها: أنهم النساء، قاله ابن عمر. والثاني: النساء والصبيان، قاله سعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة. وعن الحسن ومجاهد كالقولين. والثالث: الأولاد، قاله أبو مالك، وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس، وروي عن الحسن، قال: هم الأولاد الصغار. والرابع: اليتامى، قاله عكرمة، وسعيد بن جبير في رواية. قال الزجاج: ومعنى الآية: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، بدليل قوله تعالى:
وَارْزُقُوهُمْ فِيها وإنما قال: «أموالكم» ذكراً للجنس الذي جعله الله أموالاً للناس. وقال غيره: أضافها إِلى الولاة، لأنهم قوّامها. والخامس: أن القول على إِطلاقه، والمراد به كل سفيه يستحق الحجر عليه، ذكره ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي، وغيرهما، وهو ظاهر الآية.
وفي قوله تعالى: أَمْوالَكُمُ قولان: أحدهما: أنه أموال اليتامى. والثاني: أموال السفهاء.
قوله تعالى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً قرأ الحسن: «اللاتي جعل الله لكم قِواماً» . وقرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائيّ، وأبو عمرو: «قياما» بالألف، وقرأ نافع، وابن عامر: «قَيِّماً» بغير ألف.
قال ابن قتيبة: قياماً وقواماً بمنزلة واحدة، تقول: هذا قوام أمرك وقيامه، أي: ما يقوم به أمرك. وذكر أبو علي الفارسي أن «قواماً» و «قياماً» و «قيماً» ، بمعنى القوام الذي يقيم الشأن، قال: وليس قول من قال «القيم» هاهنا: جمع «قيمة» بشيء.
قوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي: منها. وفي «القول المعروف» ثلاثة أقوال: أحدها: العدة الحسنة، قاله ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، ومقاتل. والثاني: الردّ الجميل، قاله الضحاك. والثالث:
الدعاء، كقولك: عافاك الله، قاله ابن زيد.

[سورة النساء (4) : آية 6]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى.
(258) سبب نزولها أن رجلاً، يقال له: رفاعة، مات وترك ولداً صغيراً، يقال له: ثابت، فوليه عمّه، فجاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله؟ ومتى أدفع إِليه ماله؟ فنزلت هذه الآية، ذكر نحوه مقاتل.
والابتلاء: الاختبار. وبماذا يختبرون؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يختبرون في عقولهم، قاله ابن عباس، والسدي، وسفيان، ومقاتل. والثاني: يختبرون في عقولهم ودينهم، قاله الحسن، وقتادة.
وعن مجاهد كالقولين. والثالث: في عقولهم ودينهم، وحفظهم أموالهم، ذكره الثعلبي. قال القاضي أبو يعلى: وهذا الابتلاء قبل البلوغ.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 8640 عن قتادة مرسلا، وذكره الواحدي في «أسبابه» 294 بدون إسناد.

(1/371)


قوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ قال ابن قتيبة: أي: بلغوا أن ينكحوا النساء فَإِنْ آنَسْتُمْ أي:
علمتم، وتبيّنتم. وأصل: أنست: أبصرت. وفي الرشد أربعة أقوال: أحدها: الصلاح في الدين، وحفظ المال، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: الصلاح في العقل، وحفظ المال، روي عن ابن عباس والسدي. والثالث: أنه العقل، قاله مجاهد، والنخعي. والرابع: العقل، والصلاح في الدين، روي عن السدي.
فصل: واعلم أن الله تعالى علَّق رفع الحجر عن اليتامى بأمرين: بالبلوغ والرشد، وأمر الأولياء باختبارهم، فإذا استبانوا رشدهم، وجب عليهم تسليم أموالهم إليهم.
والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء: الاحتلام، واستكمال خمس عشرة سنة، والإِنبات، وشيئان يختصان بالنساء: الحيض والحمل «1» .
قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً خطاب للأولياء، قال ابن عباس: لا تأكلوها بغير حقّ.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 38: واختلف العلماء في تأويل «رشدا» على أقوال- وذكرها- قال سعيد بن جبير والشعبي: إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده، فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده. وهكذا قال الضّحاك، وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم وإن شاخ لا يزول الحجر عنه، وهو مذهب مالك وغيره. وقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحرّ البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا. وبه قال زفر بن الهذيل، وهو مذهب النخعي. واحتجوا في ذلك بما رواه أنس أن حبّان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته ضعف، فقيل: يا رسول الله احجر عليه، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف. فاستدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا تبع» . فقال: لا أصبر. فقال له: «فإذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا» . قالوا: فلما سأله القوم الحجر عليه لما كان من تصرفه من الغبن ولم يفعل عليه السلام، ثبت أن الحجر لا يجوز. وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه مخصوص بذلك، فغيره بخلافه. وقال الشافعي: إن كان مفسدا لماله ودينه، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه، وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لماله فعلى وجهين: أحدهما يحجر عليه، وهو اختيار أبي العباس بن شريح.
والثاني: لا حجر عليه، وهو اختيار أبي إسحاق المروزيّ والأظهر من مذهب الشافعي. وإذا ثبت هذا فاعلم أن دفع المال يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال، كذلك نص الآية، وهو رواية ابن وهب عن مالك. وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة. قال أبو حنيفة: لكونه جدّا وهذا يدل على ضعف قوله حسب ما تقدم وماذا يعني كونه جدّا إذا كان غير جدّ، أي بخت. إلا أن علماءنا شرطوا في الجارية دخول الزوج بها مع البلوغ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد. ولم يره أبو حنيفة والشافعي. وفرّق علماؤنا بينهما بأن قالوا: الأنثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح، فيه تفهم المقاصد كلها. والذكر بخلافها، فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحصل له الاختبار، ويكمل عقله بالبلوغ، فيحصل له الغرض. وما قاله الشافعي أصوب. ثم زاد علماؤنا فقالوا: لا بد بعد الدخول من مضي مدة من الزمان تمارس فيها الأحوال. قال ابن عربي: وذكر علماؤنا في تحديدها أقوالا عديدة: منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب، وجعلوا في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاما واحدا بعد الدخول وليس في هذا كله دليل، وتحديد الأعوام عسير. والمقصود من هذا كله داخل تحت قوله تعالى:
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فتعين اعتبار الرشد ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد. فاعرفه وركّب عليه واجتنب التحكّم الذي لا دليل عليه.

(1/372)


وَبِداراً تُبادِرون أكل المال قبل بلوغ الصبِيّ وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ بماله عن مال اليتيم.
وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال: أحدها: أنه الأخذ على وجه القرض، وهذا مروي عن عمر، وابن عباس، وابن جبير، وأبي العالية، وعبيدة، وأبي وائل، ومجاهد، ومقاتل. والثاني: الأكل بمقدار الحاجة من غير إِسراف، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وعطاء، والنخعي، وقتادة، والسدي. والثالث: أنه الأخذ بقدر الأجرة إِذا عمل لليتيم عملاً، روي عن ابن عباس، وعائشة، وهي رواية أبي طالب، وابن منصور، عن أحمد رضي الله عنه. والرابع: أنه الأخذ عند الضرورة، فان أيسر قضاه، وإن لم يوسر، فهو في حل، وهذا قول الشعبي «1» .
فصل: واختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أو منسوخة؟ على قولين:
أحدهما: محكمة، وهو قول عمر، وابن عباس، والحسن، والشعبي، وأبي العالية، ومجاهد، وابن جبير، والنخعي، وقتادة في آخرين. وحكمها عندهم أن الغني ليس له أن يأكل من مال اليتيم شيئاً، فأما الفقير الذي لا يجد ما يكفيه، وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية، فله أن يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إِسراف. وهل عليه الضمان إذا أيسر؟ فيه قولان لهم: أحدهما: أنه لا ضمان عليه، بل يكون كالأجرة له على عمله، وهو قول الحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وأحمد بن حنبل. والثاني: إذا أيسر وجب عليه القضاء، روي عن عمر وغيره، وعن ابن عباس أيضا كالقولين.
والقول الثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «2» وهذا مروي عن ابن عباس ولا يصح.
قوله تعالى: فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ قال القاضي أبو يعلى: هذا على طريق الاحتياط لليتيم، والولي، وليس بواجب، فأما اليتيم، فإنه إذا كانت عليه بيِّنة، كان أبعد من أن يدّعي عدم القبض، وأما الوليّ، فإنه تظهر أمانته، ويسقط عنه اليمين عند إِنكار اليتيم للدَّفع.
وفي «الحسيب» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس، والسدّي، ومقاتل. والثاني:
أنه الكافي، من قولك: أحسبَني هذا الشيءُ، أي كفاني، والله حسيبي وحسيبك، أي: وكافينا، أي يكون حكماً بيننا كافيا، قال الشاعر «3» :
ونُقْفي وليد الحي إن كان جائعاً ... ونُحسِبُه إن كان ليس بجائع
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 464: قال الفقهاء: له أن يأكل من أقل الأمرين أجرة مثله أو قدر حاجته. واختلفوا هل يردّ إذا أيسر؟ على قولين: أحدهما: لا لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي. لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل. قال أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس لي مال ولي يتيم؟ فقال: «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك- أو قال- تفدي مالك. والثاني: نعم لأن مال اليتيم على الحظر وإنما أبيح للحاجة فيردّ بدله كأكل مال الغير للمضطر لا عند الحاجة.
(2) النساء: 29.
(3) في «اللسان» : قفي نسب البيت لامرأة من بني قشير. ونقفيه أي نؤثره بالقفية وهي ما يؤثر به الصبي والضيف.

(1/373)


لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)

أي: نعطيه ما يكفيه حتى يقول: حسبي. قاله ابن قتيبة والخطابي. والثالث: أنه المحاسب، فيكون في مذهب جليس، وأكيل، وشريب، حكاه ابن قتيبة والخطّابيّ.

[سورة النساء (4) : آية 7]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)
قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
(259) سبب نزولها أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك ثلاث بنات وامرأة، فقام رجلان من بني عمّه، يقال لهما: قتادة، وعرفطة «1» فأخذوا ماله، ولم يعطيا امرأته، ولا بناته شيئاً، فجاءت امرأته إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكرت له ذلك، وشكت الفقر، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كانوا لا يورِّثون النساء، فنزلت هذه الآية.
والمراد بالرجال: الذكور، وبالنساء: الإِناث، صغاراً كانوا أو كبارا. و «النصيب» : الحظ من الشيء، وهو مجمل في هذه الآية، ومقداره معلوم من موضع آخر، وذلك مثل قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ «2» وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً «3» . والمفروض: الذي فرضه الله، وهو آكدُ من الواجب.

[سورة النساء (4) : آية 8]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 295 بدون إسناد، وأخرجه الطبري 8658 عن عكرمة مرسلا لكن باختصار. ونسبه السيوطي في «الدر» 2/ 217 لأبي الشيخ عن ابن عباس، وكذا ذكره الواحدي في «الوسيط» 2/ 14 عن ابن عباس في رواية الكلبي باختصار، وبدون إسناد.
- وورد مختصرا من حديث جابر وسيأتي أخرجه أبو نعيم وأبو موسى كما في «الإصابة» 4/ 487 قال أبو موسى: كذا قال: ليس لهما شيء، وأراد ليس يعطيان شيئا من ميراث أبيهما.
قال ابن حجر: قلت: راويه عن سفيان هو إبراهيم بن هراسة ضعيف، وقد خالفه بشر بن المفضل عن عبد الله بن محمد عن جابر أخرجه أبو داود من طريقه قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواق، فجاءت المرأة بابنتين لها فقالت: يا رسول الله، هاتان بنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أحد، وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما كله فلم يدع لهما مالا إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله؟ فو الله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يقضي الله في ذلك» ونزلت سورة النساء يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادعوا لي المرأة وصاحبها» فقال لعمهما «أعطهما الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فلك» قال أبو داود: أخطأ بشر فيه إنما هما ابنتا سعد بن الربيع، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. وانظر «الإصابة في تمييز الصحابة» 4/ 487- 488 ترجمة أم كجّة، وهو عند أبي داود 2891 و 2892 والترمذي 2092 وابن ماجة 2720 وأحمد 3/ 352 والحاكم 4/ 334 والواحدي 298 والبيهقي 6/ 229 من حديث جابر بنحو سياق المصنف، وليس فيه تسمية المرأة بل فيه أن امرأة سعد بن الربيع، والحديث حسن الإسناد.
__________
(1) في «أسباب النزول للواحدي» 295 سويد وعرفجة، وفي «الدرّ المنثور» 2/ 217. [.....]
(2) الأنعام: 141.
(3) التوبة: 103.

(1/374)


قوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى في هذه القسمة قولان: أحدهما: قسمة الميراث بعد موت الموروث، فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين، وبهذا قال الأكثرون، منهم ابن عباس، والحسن، والزهري. والثاني: أنها وصيّة الميّت قبل موته، فيكون مأموراً. بأن يعيّن لمن لا يرثه شيئاً، روي عن ابن عباس، وابن زيد. قال المفسّرون: والمراد بأولي القربى: الذين لا يرثون، فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي: أعطوهم منه، وقيل: أطعموهم، وهذا على الاستحباب عند الأكثرين، وذهب قوم إِلى أنه واجب في المال، فان كان الورثة كباراً، تولوا إِعطاءهم، وإِن كانوا صغاراً تولّى ذلك عنهم وليّ مالهم، فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام، فأمر بشاة، فاشتريت من مالهم، وبطعام فصنع، وقال: لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي، وكذلك فعل محمّد بن سيرين في أيتامِ ولِيَهم، وكذلك روي عن مجاهد: أن ما تضمّنتْه هذه الآية واجب.
وفي «القول المعروف» أربعة أقوال: أحدها: أن يقول لهم الولي حين يعطيهم: خذ بارك الله فيك، رواه سالم الأفطس، عن ابن جبير. والثاني: أن يقول الولي: إِنه مال يتامى، وما لي فيه شيء، رواه أبو بشر عن ابن جبير، وفي رواية أخرى عن ابن جبير، قال: إِن كان الميت أوصى لهم بشيء أُنفذت لهم وصيَّتهم، وإِن كان الورثة كباراً رضخوا لهم، وإن كانوا صغاراً، قال وليُّهم: إِني لست أملك هذا المال، إِنما هو للصغار، فذلك القول المعروف. والثالث: أنه العِدَة الحسنة، وهو أن يقول لهم أولياء الورثة: إِن هؤلاء الورثة صغار، فاذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم. رواه عطاء بن دينار، عن ابن جبير. والرابع: أنهم يُعْطَوْنَ من المال، ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرقيق: بورك فيكم، وهذا القول المعروف. قال الحسن والنخعي: أدركنا الناس يفعلون هذا.
فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها محكمة، وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عباس، والحسن، وأبي العالية، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وقد ذكرنا أن ما تضمنته من الأمر مستحب عند الأكثرين، وواجب عند بعضهم.
والقول الثاني: أنها منسوخة، نسخها قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ رواه مجاهد عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيّب، وعكرمة، والضّحّاك، وقتادة في آخرين «1» .
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 48: بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا، إن كان المال كثيرا، والاعتذار إليهم إذا كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ. وإن كان عطاء من قليل ففيه أجر عظيم، درهم يسبق مائة ألف فالآية على هذا القول محكمة قاله ابن عباس وامتثل ذلك جماعة من التابعين: عروة بن الزبير وغيره، وأمر به أبو موسى الأشعري. وروي عن ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ والأول أصح. فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. قال ابن جبير: ضيّع الناس هذه الآية. قال الحسن: هي ثابتة- محكمة- ولكن الناس شحّوا. وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. وفي رواية قال: إن ناسا زعموا أن هذه الآية نسخت، لا والله ما نسخت! لكنها مما تهاون بها، هما واليان: وال يرث، وذلك الذي يرزق، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف، ويقول: لا أمل.
لك أن أعطيك. قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية، فإن لم تكن وصية وصى لهم من الميراث. قال النحاس: فهذا أحسن ما قيل في الآية، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير والشكر لله عز وجل. وقالت طائفة: هذا الرضخ- العطاء القليل- واجب على جهة الفرض، تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم، كالماعون والثوب الخلق وما خف. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب، لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث، لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول. وذلك مناقض للحكمة، وسبب للتنازع والتقاطع.

(1/375)


وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)

[سورة النساء (4) : آية 9]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)
قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً اختلفوا في المخاطب بهذه الآية على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه خطاب للحاضرين عند الموصي. وفي معنى الآية على هذا القول قولان:
أحدهما: وليخش الذين يحضرون موصياً في ماله أن يأمروه بتفريقه فيمن لا يرثه، فيفرّقه ويترك ورثته، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل.
والثاني: على الضدّ من هذا القول، وهو أنه نهي لحاضري الموصي أن يمنعوه من الوصية لأقاربه، وأن يأمروه بالاقتصار على ولده، وهذا قول مقسم، وسليمان التيمي في آخرين.
والقول الثاني: أنه خطاب لأولياء اليتامى، متعلّق بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً فمعنى الكلام: أحسنوا فيمن وليتم من اليتامى، كما تحبّون أن يحسن ولاة أولادكم بعدكم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وابن السائب.
والثالث: أنه خطاب للأوصياء أمروا بأداء الوصيّة على ما رسم الموصي، وأن تكون الوجوه التي عينها مرعيّة بالمحافظة كرعي الذرّية الضعاف من غير تبديل، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «1» فأمر الوصي، بهذه الآية إِذا وجد ميلاً عن الحق أن يستعمل قضيّة الشرع، ويصلح بين الورثة، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله، وغيره في «الناسخ والمنسوخ» ، فعلى هذا تكون الآية منسوخة، وعلى ما قبله تكون محكمة.
و «الضعاف» : جمع ضعيف، وهم الأولاد الصغار، وقرأ حمزة: ضعافاً، بإمالة العين.
قال أبو علي: ووجهها: أن ما كان على «فعال» وكان أوله حرفاً مستعلياً مكسوراً، نحو ضعاف، وقفاف، وخفاف حسنت فيه الإِمالة، لأنه قد يُصَعَّدُ بالحرف المستعلي، ثم يُحْدرُ بالكسر، فيستحب أن لا يُصَعَّد بالتفخيم بعد التصوُّب بالكسر، فيجعل الصوت على طريقة واحدة، وكذلك قرأ حمزة:
خافُوا عَلَيْهِمْ بامالة الخاء، والإِمالة هاهنا حسنة، وإِن كانت «الخاء» حرفاً مستعلياً، لأنه يطلب
__________
(1) البقرة: 182.

(1/376)


إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)

الكسرة التي في «خِفت» فينحو نحوها بالإِمالة. والقول السّديد: الصّواب.

[سورة النساء (4) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن رجلاً من غطفان، يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه، فأكله، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن حيان «1» . والثاني: أن حنظلة بن الشمردل ولي يتيما، فأكل ماله، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسرين. وإنما خصّ الأكل بالذكْر، لأنه معظم المقصود، وقيل: عبّر به عن الأخذ.
قال سعيد بن جبير: ومعنى الظلم: أن يأخذه بغير حق. وأما ذكر «البطون» فللتوكيد، كما تقول:
نظرت بعيني، وسمعت بأذني. وفي المراد بأكلهم النار قولان:
أحدهما: أنهم سيأكلون يوم القيامة ناراً، فسمي الأكل بما يؤول إليه أمرهم، كقوله تعالى:
أَعْصِرُ خَمْراً «2» قال السدي: يبعث آكل مال اليتيم ظلماً، ولهب النار يخرج مِن فيه، ومن مسامعه، وأذنيه، وأنفه، وعينيه، يعرفه مَن رآه يأكل مال اليتيم.
والثاني: أنه مَثَل. معناه: يأكلون ما يصيرون به إلى النّار، كقوله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ «3» أي: رأيتم أسبابه.
قوله تعالى: وَسَيَصْلَوْنَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، «وسيصلون» بفتح الياء، وقرأ الحسن، وابن عامر، بضم الياء، ووافقهما ابن مقسم، إِلاَّ أنه شدّد. والمعنى:
سيُحرَّقون بالنار، ويُشْوَوْن. والسعير: النار المستعرة، واستِعار النارِ: توقُّدها.
فصل: وقد توهم قومٌ لا علم لهم بالتفسير وفقهه، أن هذه الآية منسوخة، لأنهم سمعوا أنها لما نزلت، تحرج القوم عن مخالطة اليتامى، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «4» وهذا غلط، وإِنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإصلاح، لا على إباحة الظّلم.

[سورة النساء (4) : آية 11]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)
قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
__________
(1) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 296 عن مقاتل بن حيان بدون إسناد، فهذه علة، ومقاتل ذو مناكير، وخبره معضل، فهو لا شيء.
(2) يوسف: 36.
(3) آل عمران: 143.
(4) البقرة: 220.

(1/377)


(260) أحدها: أن جابر بن عبد الله مرض، فعاده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: كيف أصنع في مالي يا رسول الله، فنزلت هذه الآية، رواه البخاري ومسلم.
(261) والثاني: أنّ امرأة جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بابنتين لها، فقالت: يا رسول الله قُتِل أبو هاتين معك يوم أحد، وقد استفاء «1» عمهما مالهما، فنزلت، روي عن جابر بن عبد الله أيضاً.
(262) والثالث: أن عبد الرحمن أخا حسان بن ثابت مات، وترك امرأة، وخمس بنات، فأخذ ورثته ماله، ولم يعطوا امرأته، ولا بناته شيئاً، فجاءت امرأته تشكو إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي.
قال الزجاج: ومعنى يوصيكم: يفرض عليكم، لأن الوصيّة منه فرض «2» . وقال غيره: إنما ذكره بلفظ الوصية لأمرين: أحدهما: أن الوصية تزيد على الأمر، فكانت آكد. والثاني: أن في الوصية حقاً للموصي، فدل على تأكيد الحال بإضافته إلى حقه. وقرأ الحسن. وابن أبي عبلة: «يوصِّيكم» بالتشديد.
قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعني، للابن من الميراث مثل حظ الأنثيين. ثم ذكر نصيب الإِناث من الأول فقال فَإِنْ كُنَّ يعني: البنات نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وفي قوله تعالى: فَوْقَ قولان: أحدهما: أنها زائدة، كقوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ. والثاني: أنها بمعنى الزيادة. قال القاضي أبو يعلى: إنما نص على ما فوق الاثنتين، والواحدة، ولم ينص على الاثنتين، لأنه لما جعل لكل واحدة مع الذكر الثلث، كان لها مع الأنثى الثلث أولى.
قوله تعالى: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ نافع بالرفع، على معنى: وإِن وقعت، أو وجدت واحدة.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4577 ومسلم 1616 وأبو داود 2886 والترمذي 3015 وابن ماجة 1436 و 2728 واستدركه الحاكم 2/ 303 من حديث جابر.
حسن. أخرجه أبو داود 2891 و 2892 والترمذي 2092 وابن ماجة 2720 وأحمد 3/ 352 والحاكم 4/ 334 والواحدي 298 والبيهقي 6/ 229 من حديث جابر، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حسن لأن مداره على عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو حسن الحديث. وانظر الحديث المتقدم برقم 259 وانظر «تفسير الشوكاني» 607 بتخريجنا.
ضعيف. أخرجه الطبري 8727 عن أسباط عن السدي مرسلا فهو ضعيف.
__________
(1) في «اللسان» : الاستيفاء: استرجع حقهما من الميراث وجعله فيئا له.
(2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 59- 60: اعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب:
منها الحلف، والهجرة والمعاقدة. ثم نسخ على ما يأتي بيانه في هذه السورة. وأجمع العلماء على أن الأولاد إذا كان معهم من له فرض مسمّى أعطيه، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين لقوله عليه السلام:
«ألحقوا الفرائض بأهلها» رواه الأئمة. يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى وهي ستة ... والأسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء: نسب ثابت ونكاح منعقد، وولاء عتاقة ... ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره، ثم الديون على مراتبها ثم يخرج من الثلث الوصايا، وما كان في معناها على مراتبها أيضا، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة.

(1/378)


قوله تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ قال الزجاج: أبواه تثنية أَبٍ وأبة، والأصل في الأم أن يقال لها: أبة، ولكن استغنى عنها بأم، والكناية في قوله «لأبويه» عن الميت وإن لم يجرِ له ذكر.
وقوله تعالى: فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ أي: إِذا لم يخلف غير أبوين، فثلث ماله لأمه، والباقي للأب، وإِنما خص الأم بالذّكر، لأنه لو اقتصر على قوله تعالى: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ظنّ الظان أن المال يكون بينهما نصفين، فلما خصّها بالثلث، دل على التفضيل.
وقرأ ابن كثير، ونافع وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: فَلِأُمِّهِ وفِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ «1» وفِي أُمِّها «2» وفِي أُمِّ الْكِتابِ بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي كل ذلك بالكسر إذا وصلا، وحجتهما: أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها، من ياء أو كسرة.
قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ أي: مع الأبوين، فإنهم يحجبون الأم عن الثلث، فيردونها إلى السدس، واتفقوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة إخوة حجبوا، فإن كانا أخوين، فهل يحجبانها؟ فيه قولان:
أحدهما: يحجبانها عن الثلث، قاله عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، والجمهور. والثاني: لا يحجبها إِلا ثلاثة، قاله ابن عباس، واحتج بقوله: إِخوة. والأخوة: اسم جمع، واختلفوا في أقل الجمع، فقال الجمهور: أقله ثلاثة، وقال قوم: اثنان، والأول: أصح. وإِنما حجب العلماء الأم بأخوين لدليل اتفقوا عليه، وقد يُسمّى الاثنان بالجمع، قال الزجاج: جميع أهل اللغة يقولون: إن الأخوين جماعة، وحكى سيبويه أن العرب تقول: وضعا رحالهما، يريدون: رَحْلَي راحلتيهما.
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أي: هذه السهام إِنما تقسم بعد الوصيّة والدّين. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم «يوصَى بها» بفتح الصاد في الحرفين. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «يوصي» فيهما بالكسر، وقرأ حفص، عن عاصم الأولى بالكسر، والثانية بالفتح.
واعلم أن الدَّين مؤخّر في اللفظ، مقدم في المعنى، لأن الدين حق عليه، والوصيّة حق له، وهما جميعا مقدمان على حق الورثة إِذا كانت الوصيّة في ثلث المال، و «أو» لا توجب الترتيب، إِنما تدل على أن أحدهما إِن كان، فالميراث بعده، وكذلك إن كانا.
قوله تعالى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فيه قولان: أحدهما: أنه النفع في الآخرة، ثم فيه قولان: أحدهما: أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده، رفع إليه ولده، وكذلك الولد، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: أنه شفاعة بعضهم في بعض، رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. والقول الثاني: أنه النفع في الدنيا، قاله مجاهد. ثم في معناه قولان: أحدهما: أن المعنى:
لا تدرون هل موت الآباء أقرب، فينتفع الأبناء بأموالهم، أو موت الأبناء، فينتفع الآباء بأموالهم؟ قاله ابن بحر. والثاني: أن المعنى: أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعاً، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء، ذكره القاضي أبو يعلى.
وقال الزجاج: معنى الكلام: أن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إِليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فتضعون الأموال على غير حكمة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بما يصلح
__________
(1) الزمر: 6.
(2) القصص: 59.

(1/379)


وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

خلقه، حَكِيماً فيما فرض. وفي معنى «كان» ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناها: كان عليماً بالأشياء قبل خلقها، حكيماً فيما يقدِّر تدبيره منها، قاله الحسن. والثاني: أن معناها: لم يزل. قال سيبويه: كأنّ القوم شاهدوا علما وحكمة، فقيل له: إن الله كان كذلك، أي: لم يزل على ما شاهدتم، ليس ذلك بحادث. والثالث: أن لفظة «كان» في الخبر عن الله عزّ وجلّ يتساوى ماضيها ومستقبلها، لأن الأشياء عنده على حال واحدة، ذكر هذه الأقوال الزجّاج.

[سورة النساء (4) : آية 12]
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
قوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً قرأ الحسن: «يُوَرِّثُ» بفتح الواو، وكسر الراء مع التشديد. وفي الكلالة أربعة أقوال: أحدها: أنها ما دون الوالد والولد، قاله أبو بكر الصّدّيق. وقال عمر بن الخطاب: أتى عليّ حين وأنا لا أعرف ما الكلالة، فإذا هو: من لم يكن له والد ولا ولد، وهذا قول علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، والزهري، وقتادة، والفراء، وذكر الزجاج عن أهل اللغة، أن «الكلالة» : من قولهم: تكلله النسب، أي: لم يكن الذي يرثه ابنه، ولا أباه. قال: والكلالة سوى الوالد والولد، وإنما هو كالاكليل على الرأس. وذكر ابن قتيبة عن أبي عبيدة أنه مصدر تكلله النسب: إذا أحاط به. والابن والأب: طرفان للرجل. فاذا مات، ولم يخلفهما، فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمّي ذهاب الطّرفين: كلالة. والثاني: أن الكلالة: من لا ولد له، رواه ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، وهو قول طاوس. والثالث: أن الكلالة: ما عدا الوالد، قاله الحكم. والرابع: أن الكلالة: بنو العم الأباعد، ذكره ابن فارس، عن ابن الأعرابي «1» .
واختلفوا على ما يقع اسم الكلالة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم للحي الوارث، وهذا مذهب أبي بكر الصديق، وعامة العلماء الذين قالوا: إن الكلالة مِن دون الوالد والولد، فانهم قالوا: الكلالة:
اسم للورثة إِذا لم يكن فيهم ولد ولا والد، قال بعض الأعراب: مالي كثير، ويرثني كلالة متراخ
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 470: الكلالة مشتقة من الإكليل وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه كما روي عن أبي بكر أنه سئل عن الكلالة فقال: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه: الكلالة من لا ولد له ولا والد. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد وورد فيه حديث مرفوع. قال أبو الحسين بن اللبان:
وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك وهو أنه من لا ولد له والصحيح عنه الأول ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد.

(1/380)


تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)

نسبهم. والثاني: أنه اسم للميت، قاله ابن عباس: والسدي، وأبو عبيدة في جماعة. قال القاضي أبو يعلى: الكلالة: اسم للميت، ولحاله، وصفته، ولذلك انتصب. والثالث: أنه اسم للميت والحي، قاله ابن زيد.
وفيما أخذت منه الكلالة قولان: أحدهما: أنه اسم مأخوذ من الإِحاطة، ومنه الاكليل، لإحاطته بالرأس. والثاني: أنه مأخوذ من الكلال، وهو التعب، كأنه يصل إلى الميراث من بُعد وإِعياء. قال الأعشى:
فآليتُ لا أرثي لها من كلالةٍ ... ولا من حفى حتّى تزور محمّدا
قوله تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يعني: من الأم بإجماعهم.
قوله تعالى: فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ قال قتادة: ذكرهم وأنثاهم فيه سواء.
قوله تعالى: غَيْرَ مُضَارٍّ قال الزجاج: «غير» منصوب على الحال، والمعنى: يوصي بها غير مضار، يعني: للورثة.

[سورة النساء (4) : آية 13]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ قال ابن عباس: يريد ما حدَّ الله من فرائضه في الميراث وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في شأن المواريث يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ قرأ ابن عامر، ونافع: «ندخله» بالنون في الحرفين جميعاً، والباقون بالياء فيهما.

[سورة النساء (4) : آية 14]
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ فلم يرض بقسمه يُدْخِلْهُ ناراً، فان قيل: كيف قطع للعاصي بالخلود؟ فالجواب: أنه إِذا ردَّ حكم الله، وكفر به، كان كافرا مخلدا في النار.

[سورة النساء (4) : آية 15]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)
قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ قال الزجاج: «التي» تجمع اللاتي واللواتي. قال الشاعر:
من اللواتي والتي واللاتي ... زعمن أني كَبِرتْ لِدَاتي «1»
وتجمع اللاتي بإثبات التاء وحذفها. قال الشاعر:
من اللاتي لم يحججن يبغين حِسبة ... ولكن لِيَقْتُلْنَ البريء المغفَّلا
والفاحشة: الزنى في قول الجماعة.
__________
(1) قال البغدادي في «خزانة الأدب» 2/ 560 لا أعرف ما قبله ولا قائله مع كثرة وجوده في كتب النحو، وهو في «القرطبي» قال الجوهري: أنشد أبو عبيدة. وفي «اللسان» : أنشده أبو عمرو- مادة لتا [.....]

(1/381)


وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)

وفي قوله تعالى: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ قولان: أحدهما: أنه خطاب للأزواج. والثاني: خطاب للحكام، فالمعنى: اسمعوا شهادة أربعة منكم، ذكرهما الماوردي. قال عمر بن الخطاب: إنما جعل الله عزّ وجلّ الشهود أربعة ستراً ستركم به دون فواحشكم. ومعنى «منكم» : من المسلمين. قوله تعالى:
فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ قال ابن عباس: كانت المرأة إِذا زنت، حبست في البيت حتى تموت، فجعل الله لهن سبيلا، وهو الجلد أو الرجم.

[سورة النساء (4) : آية 16]
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
قوله تعالى: وَالَّذانِ قرأ ابن كثير: «واللذانّ» بتشديد النون، و «هذانّ» في طه والحج و «هاتين» في القصص: «إحدى ابنتيّ هاتينّ» و «فذانّك» كله بتشديد النون. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بتخفيف ذلك كله، وشدد أبو عمرو «فذانِّك» وحدها.
وقوله: واللذان: يعني: الزانيين. وهل هو عام، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه عامٌّ في الأبكار والثُّيَّب من الرجال والنساء، قاله الحسن، وعطاء.
والثاني: أنه خاص في البكرين إِذا زنيا، قاله أبو صالح، والسدّي، وابن زيد، وسفيان. قال القاضي أبو يعلى: والأول أصح، لأن هذا تخصيص بغير دلالة.
قوله تعالى: يَأْتِيانِها يعني الفاحشة. قوله تعالى فَآذُوهُما فيه قولان: أحدهما: أنه الأذى بالكلام، والتعيير، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والسدي، والضحاك، ومقاتل.
والثاني: أنه التعيير، والضرب بالنعال، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. فَإِنْ تابا من الفاحشة وَأَصْلَحا العمل فَأَعْرِضُوا عن أذاهما. وهذا كله كان قبل الحد.
فصل: كان حد الزانيين، فيما تقدم، الأذى لهما، والحبس للمرأة خاصة، فنسخ الحكمان جميعا، واختلفوا بماذا وقع نسخهما:
(263) فقال قوم بحديث عبادة بن الصامت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، الثَّيِّب بالثَّيب جلد مائة، ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة» وهذا على قول من يرى نسخ القرآن بالسنة.
وقال قوم: نسخ بقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ «1» قالوا: وكان قوله
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1690 وأبو داود 4415 و 4416 والترمذي 1434 والنسائي في «التفسير» 113 وابن ماجة 2550 والشافعي في «الرسالة» 686 وعبد الرزاق 13359 وابن أبي شيبة 10/ 80 والطيالسي 584 والدارمي 2/ 181 وابن الجارود 810 وأحمد 5/ 313- 317 وابن حبان 4408 و 4409 و 4410 والطحاوي في «المعاني» 3/ 134 من طرق كلهم من حديث عبادة بن الصامت.
__________
(1) النور: 2.

(1/382)


إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)

تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها للبكرين، فنسخ حكمها بالجلد، ونسخ حكم الثيّب من النساء بالرجم «1» .
وقال قوم: يحتمل أن يكون النسخ وقع بقرآن، ثم رفع رسمه، وبقي حكمه. لأن في حديث عبادة «قد جعل الله لهن سبيلا» والظاهر: أنه جعل بوحي لم تستقر تلاوته. قال القاضي أبو يعلى: وهذا وجه صحيح، يخرج على قول من لم ينسخ القرآن بالسنة. قال: ويمتنع أن يقع النسخ بحديث عبادة، لأنه من أخبار الآحاد، والنسخ لا يجوز بذلك.

[سورة النساء (4) : آية 17]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)
قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ قال الحسن: إِنما التوبة التي يقبلها الله. فأما «السوء» ، فهو المعاصي، سمي سوءاً لسوء عاقبته.
قوله تعالى: بِجَهالَةٍ قال مجاهد: كل عاصٍ فهو جاهل حين معصيته. وقال الحسن، وعطاء، وقتادة، والسدي في آخرين: إنما سُمّوا جهالاً لمعاصيهم، لا أنهم غير مُميّزين.
وقال الزجاج: ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء، لأن المسلم لو أتى ما يجهله، كان كمن لم يوقع سوءاً، وإنما يحتمل أمرين: أحدهما: أنهم عملوه، وهم يجهلون المكروه فيه. والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل، فسموا جُهَّالاً، لإِيثارهم القليل على الرّاحة الكثيرة، والعاقبة الدّائمة.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 472: كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج إلى أن تموت والسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك. قال ابن عباس رضي الله عنه: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم.
وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 83- 84: قوله تعالى (فآذوهما) قال قتادة والسدي معناه التوبيخ والتعبير وقالت فرقة: هو السب والجفاء دون تعيير. ابن عباس: النيل باللسان والضرب بالنعال قال النحاس:
وزعم قوم أنه منسوخ. قلت: رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (واللاتي يأتين الفاحشة) و (اللذان يأتيانها) كان في أول الأمر فنسختهما الآية التي في النور وقيل وهو أولى: إنه ليس بمنسوخ، وأنه واجب أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما: فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عز وجل.
واختلف العلماء أيضا في القول بمقتضى حديث عبادة الذي هو بيان لأحكام الزناة فقال بمقتضاه علي بن أبي طالب لا اختلاف عنه في ذلك، وأنه جلد شراحة الهمدانية مائة ورجمها بعد ذلك، وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال بهذا القول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي وإسحاق وقال جماعة من العلماء: بل على الثيب الرجم بلا جلد وهذا يروى عن عمر وهو قول الزهري والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور، متماسكين بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما وبقوله عليه السّلام لأنيس: «اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» ولم يذكر الجلد، فهو لو كان مشروعا لما سكت عنه. قيل لهم: إنما سكت عنه، لأنه ثابت بكتاب الله تعالى، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص عليه في القرآن، لأن قوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ يعم جميع الزناة والله أعلم. ويبين هذا فعل علي بأخذه عن الخلفاء رضي الله عنهم ولم ينكر عليه فقيل له:
عملت بالمنسوخ وتركت الناسخ. وهذا واضح.

(1/383)


وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)

وفي «القريب» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التوبة في الصحة، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السدي، وابن السائب. والثاني: أنه التوبة قبل معاينة ملك الموت. رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال أبو مجلز. والثالث: أنه التوبة قبل الموت، وبه قال ابن زيد في آخرين.

[سورة النساء (4) : آية 18]
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)
قوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ في السيئات ثلاثة أقوال: أحدها:
الشرك، قاله ابن عباس، وعكرمة. والثاني: أنها النفاق، قاله أبو العالية، وسعيد بن جبير. والثالث:
أنها سيئات المسلمين، قاله سفيان الثوري، واحتجّ بقوله تعالى: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ في الحضور قولان: أحدهما: أنه السَّوْق «1» ، قاله ابن عمر. والثاني: أنه معاينة الملائكة لقبض الروح، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقد روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: أنزل الله تعالى بعد هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «2» الآية.
فحرّم المغفرة على مَن مات مشركاً، وأرجأ أهل التّوحيد إلى مشيئته، فعلى هذا تكون منسوخة في حق المؤمنين.

[سورة النساء (4) : آية 19]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً.
(264) سبب نزولها: أن الرجل كان إِذا مات، كان أولياؤه أحق بامرأته، إِن شاؤوا زوجوها، وإِن شاؤوا لم يزوّجوها، فنزلت هذه الآية. قاله ابن عباس. وقال في رواية أخرى: كانوا في أول الإِسلام إِذا مات الرجل، قام أقرب الناس منه، فيُلقي على امرأته ثوباً، فيرث نكاحها. وقال مجاهد: كان إِذا توفي الرجل، فابنه الأكبر أحق بامرأته، فينكحها إِن شاء، أو يُنكحها من شاء.
(265) وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته من بعده، وكان ذلك لهم في الجاهلية، فنزلت هذه الآية.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4579 و 6948 وأبو داود 2089 والنسائي في «التفسير» 114 والطبري 8870 والبيهقي 7/ 138 والواحدي في «الأسباب» 299 عن ابن عباس.
حسن، أخرجه النسائي في تفسيره 115 والطبري 8871 عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وحسّن إسناده الحافظ في «الفتح» 8/ 247، وهو كما قال. وله شاهد من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري 8874.
__________
(1) في «اللسان» : السّوق أي الموت والسّياق: نزع الروح كأن روحه تساق لتخرج من بدنه.
(2) النساء: 116.

(1/384)


قال عكرمة، واسم هذه المرأة: كبيشة بنت معن بن عاصم «1» ، وكان هذا في العرب. وقال أبو مجلز: كانت الأنصار تفعله. وقال ابن زيد: كان هذا في أهل المدينة. وقال السّدي: إنما كان ذلك للأولياء ما لم تسبق المرأة، فتذهب إِلى أهلها، فإن ذهبت، فهي أحق بنفسها.
وفي معنى قوله تعالى: أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً قولان: أحدهما: أن ترثوا نكاح النساء، وهذا قول الجمهور. والثاني: أَن ترثوا أموالهن كرهاً. روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: كان يُلقي حميم «2» الميت على الجارية ثوباً، فان كانت جميلة تزوجها، وإِن كانت دَميمة حبسها حتى تموت، فيرثها.
واختلف القراء في فتح كاف «الكره» وضمّها في أربعة مواضع: هاهنا، وفي التوبة، وفي الأحقاف في موضعين، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو بفتح الكاف فيهن، وضمهن حمزة. وقرأ عاصم، وابن عامر بالفتح في النّساء والتّوبة، وبالضم في الأحقاف. وهما لغتان، قد ذكرناهما في البقرة. وفيمن خوطب بقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه خطاب للأزواج، ثم في العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرجل كان يكره صحبة امرأته، ولها عليه مهر، فيحبسها، ويضربها لتفتدي، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي. والثاني: أن الرجل كان ينكح المرأة الشريفة، فلعلها لا توافقه، فيفارقها على أن لا تتزّوج إِلاّ بإذنه، ويشهد على ذلك، فاذا خطبت، فأرضته، أذن لها، وإِلا عضلها، قاله ابن زيد. والثالث: أنهم كانوا بعد الطلاق يعضلون، كما كانت الجاهلية تفعل، فنهوا عن ذلك، روي عن ابن زيد أيضا. وقد ذكرنا في البقرة أن الرجل كان يطلق المرأة، ثم يراجعها، ثم يطلقها كذلك أبداً إِلى غير غاية، يقصد إِضرارها، حتى نزلت الطَّلاقُ مَرَّتانِ «3» .
والقول الثاني: أنه خطاب للأولياء، ثم في ما نهوا عنه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرجل كان في الجاهلية إذا كانت له قرابة قريبة، ألقى عليها ثوبه، فلم تتزّوج أبداً غيره إِلا بإذنه، قاله ابن عباس.
والثاني: أن اليتيمة كانت تكون عند الرجل، فيحبسها حتى تموت، أو تتزوّج بابنه، قاله مجاهد.
والثالث: أن الأولياء كانوا يمنعون النساء من التزويج، ليرثوهن، روي عن مجاهد أيضا.
والقول الثالث: انه خطاب لورثة أزواج النساء الذين قيل لهم: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً.
كان الرجل يرث امرأة قريبة، فيعضلها حتى تموت، أو تردّ عليه صداقها. هذا قول ابن عباس في آخرين «4» وعلى هذا يكون الكلام متّصلاً بالأول، وعلى الأقوال التي قبله يكون ذكر العضل منفصلاً عن
__________
(1) ورد عن عكرمة في أثناء خبر، أخرجه الطبري 8874 وانظر ما قبله.
(2) في «اللسان» الحميم: القرابة، وهو القريب الذي تودّه ويودّك.
(3) البقرة: 229.
(4) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 3/ 651 بعد أن ذكر أقوال السلف: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله تعالى وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ
قول من قال: نهى الله عز وجل زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق. وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد الرجلين: إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها على نفسه وهو لها كاره، مضارة منه لها بذلك ليأخذ ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك، أو لوليها الذي إليه نكاحها. والولي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا فيقال إن عضلها عن النكاح: «عضلها ليذهب ببعض ما آتاها» .

(1/385)


وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)

قوله تعالى: أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ.
وفي الفاحشة قولان: أحدهما: أنها النشوز على الزوج، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة في جماعة. والثاني: الزنى، قاله الحسن، وعطاء، وعكرمة في جماعة.
قد روى معمر، عن عطاء الخراساني، قال: كانت المرأة إذا أصابت فاحشة، أخذ زوجها ما ساق إليها، وأخرجها، فنسخ ذلك بالحد. قال ابن جرير: وهذا القول ليس بصحيح، لأن الحد حق الله، والافتداء حق للزوج، وليس أحدهما مبطلاً للآخر، والصحيح: أنها إِذا أتت بأي فاحشةٍ كانت، من زنى الفرج، أو بذاءة اللسان، جاز له أن يعضلها، ويُضيِّق عليها حتى تفتدي. فأما قوله تعالى: مُبَيِّنَةٍ فقرأ ابن كثير، وأبو بكر، عن عاصم: «مُبيَّنة» ، و «آيات مبيَّنات» «1» بفتح الياء فيهما جميعاً. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم: بكسر الياء فيهما، وقرأ نافع، وأبو عمرو «مبينة» كسراً و «آيات مبينات» فتحا. وقد سبق ذكر «العِشرة» .
قوله تعالى: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً قال ابن عباس: ربما رزق الله منهما ولداً، فجعل الله في ولدها خيراً كثيراً. وقد نَدَبت الآية إِلى إِمساكِ المرأة مع الكراهة لها، ونبَّهت على معنيين:
أحدهما: أن الإِنسان لا يعلم وُجوهَ الصلاح، فرب مكروهٍ عاد محموداً، ومحمودٍ عاد مذموماً.
والثاني: أن الإِنسان لا يكاد يجد محبوباً ليس فيه ما يكره، فليصبِر على ما يكره لما يُحِبُ. وأنشدوا في هذا المعنى:
وَمَن لم يُغَمِّضْ عيْنَه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يَمُتْ وهو عاتِبُ
ومن يتَتَبَّع جاهداً كل عَثْرَةٍ ... يجدها ولا يسلم له الدّهر صاحب

[سورة النساء (4) : آية 20]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20)
قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ هذا الخطاب للرجال. والزوج: المرأة. وقد سبق ذكر «القنطار» في (آل عمران) .
قوله تعالى: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً إنما ذلك في حق من وطئها، أو خلا بها، وقد بيّنَتْ ذلك الآية التي بعدها. قال القاضي أبو يعلى: وإنما خصّ النهي عن أخذ شيء مما أعطى بحال الاستبدال، وإن كان المنع عامّا، لئلّا يظنّ أنه لما عاد البضع إلى ملكها، وجب أن يسقط حقها من المهر، أو يظن ظان أن الثانية أولى بالمهر منها، لقيامها مقامها.
وفي البهتان قولان: أحدهما: أنه الظلم، قاله ابن عباس، وابن قتيبة. والثاني: الباطل، قاله الزجاج. ومعنى الكلام: أتأخذونه مباهتين آثمين.
__________
(1) النور: 34.

(1/386)


وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)

[سورة النساء (4) : آية 21]
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
قوله تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ أي: كيف تستجيزون أخذه. وفي «الإِفضاء» قولان:
أحدهما: أنه الجماع، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: الخلوة بها، وإن لم يغشها، قاله الفراء.
وفي المراد بالميثاق هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذي أخذه الله للنساء على الرجال الإِمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان. هذا قول ابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنه عقد النكاح، قاله مجاهد، وابن زيد. والثالث: أنه أمانة الله، قاله الرّبيع.

[سورة النساء (4) : آية 22]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22)
قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرّم الله إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، فنزلت هذه الآية.
(266) وقال بعض الأنصار: توفي أبو قيس بن الأسلت، فخطب ابنه قيس امرأته، فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تستأذنه، وقالت: إنما كنت أعده ولداً، فنزلت هذه الآية.
قال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصلناه عن ثعلب، عن الكوفيين، والمبرّد عن البصريين، أن «النكاح» في أصل اللغة: اسم للجمع بين الشيئين. وقد سموا الوطء نفسه نكاحاً من غير عقد. قال الأعشى:
ومنكوحة غير ممهورة «1»
يعني المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد. قال القاضي أبو يعلى: قد يطلق النكاح على العقد، قال الله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ «2» وهو حقيقة في الوطء، مجازا في العقد، لأنه اسم للجمع، والجمع: إنما يكون بالوطء، فسمّي العقد نكاحاً، لأنه سبّب إليه.
قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فيه ستة أقوال: أحدها: أنها بمعنى: بعد ما قد سلف، فإن الله يغفره، قاله الضحاك، والمفضّل. وقال الأخفش: المعنى: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم، فإنكم تعذّبون به، إِلا ما قد سلف، فقد وضعه الله عنكم. والثاني: أنها بمعنى: سوى ما قد سلف، قاله الفرّاء.
__________
أخرجه البيهقي 7/ 161 من طريق أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت الأنصاري، وقال البيهقي: هذا مرسل.
والمرسل من قسم الضعيف، ومع ذلك، أشعث بن سوار ضعيف كما في «التقريب» . و «المجروحين 1/ 171» ، وانظر ما تقدم آنفا.
__________
(1) هو صدر بيت وعجزه: وأخرى يقال له: فادها.
(2) الأحزاب: 49.

(1/387)


حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)

والثالث: أنها بمعنى: لكن ما قد سلف فدعوه، قاله قطرب. وقال ابن الأنباري: لكن ما قد سلف، فإنه كان فاحشة. والرابع: أن المعنى: ولا تنكحوا كنكاح آبائِكم النساء، أي: كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام إِلا ما قد سلف في جاهليّتكم، من نكاح لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام، فإنه معفو لكم عنه، وهذا كقول القائل: لا تفعل ما فعلت، أي: لا تفعل مثل ما فعلت، ذكره ابن جرير «1» . والخامس: أنها بمعنى «الواو» فتقديرها: ولا ما قد سلف، فيكون المعنى: إِقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء، ولا تبتدئوا، قاله بعض أهل المعاني. والسادس: أنها للاستثناء، فتقدير الكلام:
لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز الذي كان عقده بينهم إِلا ما قد سلف منهم بالزنى، والسفاح، فإنهن حلال لكم، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: إِنَّهُ يعني النكاح، و «الفاحشة» : ما يفحش ويقبح. و «المقت» : أشد البغض.
وفي المراد بهذا «المقت» قولان: أحدهما: أنه اسم لهذا النكاح، وكانوا يسمّون نكاح امرأة الأب في الجاهلية: مقتاً، ويُسمّون الولد منه: المقتي. فاعلموا أن هذا الذي حرِّم عليهم من نكاح امرأة الأب لم يزل منكراً في قلوبهم ممقوتاً عندهم. هذا قول الزجاج. والثاني: أنه يوجب مقت الله لفاعله، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
قوله تعالى: وَساءَ سَبِيلًا قال ابن قتيبة: أي: قبُح هذا الفعل طريقا.

[سورة النساء (4) : آية 23]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)
قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ قال الزجاج: الأصل في أمّهات: أمّات، ولكن الهاء زيدت مؤكّدة، كما زادوها في: أهرقت الماء، وإِنما أصله: أرقت.
قوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ إنما سُمّين أمهات، لموضع الحرمة. واختلفوا: هل يعتبر في الرضاع العدد، أم لا؟ فنقل حنبل، عن أحمد: أنه يتعلق التحريم بالرضعة الواحدة، وهو قول عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، والحسن، وطاوس، والشعبي، والنخعي، والزهري، والأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وأصحابه. ونقل محمد بن العباس، عن أحمد: أنه يتعلق التحريم بثلاث رضعات. ونقل أبو الحارث، عن أحمد: لا يتعلق بأقل من خمس رضعات متفرقات، وهو قول الشافعي «2» .
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 1/ 661: وهو أولى الأقوال في ذلك بالصواب.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 11/ 309- 310: الأصل في التحريم بالرّضاع الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وأما السنة: ما روت عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة» . وفي لفظ «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . والرضاع الذي لا يشك في تحريمه، أن يكون خمس رضعات فصاعدا. هذا الصحيح في المذهب وروي عن عائشة، وابن مسعود، وابن الزبير، وعطاء، وطاوس. وهو قول الشافعي.
وعن أحمد رواية ثانية، أن قليل الرضاع وكثيره يحرّم وروي ذلك عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب، والحسن ومكحول والزهري وأصحاب الرأي، وزعم الليث أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيرة يحرّم في المهد ما يفطر به الصائم واحتجوا بالكتاب والسنة. وعن عقبة بن الحارث، أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء، فقالت: قد أرضعتكما. فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «كيف، وقد زعمت أن قد أرضعتكما» . ولأن ذلك فعل يتعلق به تحريم مؤبد. فلم يعتبر فيه العدد. والرواية الثالثة، لا يثبت التحريم إلا بثلاث رضعات، وبه قال أبو ثور وداود وابن المنذر. لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحرّم المصّة ولا المصتان» لأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار، يعتبر فيه الثلاث. وإذا وقع الشك في وجود الرضاع، أو في عدد الرضاع المحرّم هل كملا أو لا؟ لم يثبت التحريم لأن الأصل عدمه، فلا تزول عن اليقين بالشك. والسّعوط:
بأن يصب اللبن في أنفه من إناء، والوجور: أن يصبّ في حلقه صبا من غير الثدي. فأصح الروايتين أن التحريم يثبت بذلك كما يثبت بالرضاع. وإن عمل اللبن جبنا ثم أطعمه الصبي، ثبت به التحريم، بهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يحرّم به، لزوال الاسم.

(1/388)


قوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أمهات النساء: يحرَّمن بنفس العقد على البنت، سواء دخل بالبنت، أو لم يدخل، وهذا قول عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وعمران بن حصين ومسروق، وعطاء، وطاوس، والحسن، والجمهور. وقال عليّ رضي الله عنه في رجل طلق امرأته قبل الدخول:
له أن يتزوج أمها، وهذا قول مجاهد، وعكرمة «1» .
قوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ الرّبيبة: بنت امرأة الرّجل من غيره. ومعنى الربيبة: مربوبة، لأن الرجل يربّيها، وخرج الكلام على الأعم من كون التربية في حجر الرجل، لا على الشرط «2» .
قوله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ قال الزجاج: الحلائل: الأزواج. وحليلة بمعنى محلّة، وهي
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 9/ 515- 516: من تزوج امرأة حرّم عليه كل أمّ لها، من نسب أو رضاع، قريبة أو بعيدة بمجرد العقد. نص عليه أحمد. وهو قول أكثر أهل العلم، منهم، ابن مسعود، وابن عمر، وجابر، وعمران بن حصين وكثير من التابعين. وبه يقول مالك والشافعي، وأصحاب الرأي، وحكي عن علي رضي الله عنه أنها لا تحرم إلا بالدخول بابنتها، كما لا تحرم ابنتها إلا بالدخول. ولنا، قول الله تعالى وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ والمعقود عليها من نسائه فتدخل أمها في عموم الآية. قال ابن عباس: أبهموا ما أبهم القرآن، يعني غمّموا حكمها في كل حال، ولا تفصلوا بين المدخول بها وبين غيرها. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تزوج امرأة، فطلقها قبل أن يدخل بها، فلا بأس أن يتزوج ربيبته، ولا يحلّ له أن يتزوج أمها» . رواه أبو حفص بإسناده. وقال زيد: تحرّم بالدخول أو بالموت، لأنه يقوم مقام الدخول. وقد ذكرنا ما يوجب التحريم مطلقا. وحديث علي رضي الله عنه، أخرجه الطبري 8952 عن خلاس بن عمرو عن علي مرسلا. [.....]
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 516- 517 روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما، أنهما رخصا فيها إذا لم تكن في حجره وهو قول داود. قال ابن المنذر: وقد أجمع علماء الأمصار على خلاف هذا القول.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأم حبيبة: «لا تعرضن علي بناتكن، ولا أخواتكن» . لأن التربية لا تأثير لها في التحريم كسائر المحرمات. وأما الآية فلم تخرج مخرج الشرط، وإنما وصفها بذلك تعريفا لها بغالب حالها، وما خرج مخرج الغالب لا يصح التمسّك بمفهومه. وإن لم يدخل بالمرأة لم تحرّم عليه بناتها.

(1/389)


وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)

مشتقة من الحلال. وقال غيره: سُميت بذلك، لأنها تحل معه أينما كان. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: الحليل: الزوج، والحليلة: المرأة، وسُمّيا بذلك، إِما لأنهما يحلان في موضع واحد، أو لأن كل واحد منهما يحال صاحبه، أي: ينازله، أو لأن كل واحد منهما يحل إِزار صاحبه.
قوله تعالى: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ قال عطاء: إِنما ذكر الأصلاب، لأجل الأدعياء. والكلام في قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ على نحو ما تقدم في الآية التي قبلها. وقد زادوا في هذا قولين آخرين:
أحدهما: إِلا ما قد سلف من أمر يعقوب عليه السلام، لأنه جمع بين أم يوسف وأختها، وهذا مروي عن عطاء، والسدي، وفيه ضعف لوجهين: أحدهما: أن هذا التحريم يتعلق بشريعتنا، وليس كل الشرائع تتفق، ولا وجه للعفو عنا فيما فعله غيرنا. والثاني: أنه لو طولب قائل هذا بتصحيح نقله، لعَسُر عليه. والقول الثاني: أن تكون فائدة هذا الاستثناء أن العقود المتقدّمة على الأختين لا تنفسخ، ويكون للانسان أن يختار إِحداهما.
(267) ومنه حديث فيروز الديلمي قال: أسلمت وعندي أُختان، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «طلق إِحداهما» ، ذكره القاضي أبو يعلى.

[سورة النساء (4) : آية 24]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ. أما سبب نزولها:
(268) فروى أبو سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهنّ، فسألنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، فاستحللناهن.
وأما خلاف القُرّاء، فقرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة بفتح الصاد في كل القرآن، وفتح الكسائي الصاد في هذه وحدها، وقرأ سائر القرآن «والمحصِنات» و «محصِنات» .
قال ابن قتيبة: والإِحصان: أن يحمي الشيء، ويمنع منه، فالمحصنات من النساء: ذوات الأزواج، لأن الأزواج أحصنوهن، ومنعوا منهن. قال الله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، والمحصنات: الحرائر وإن لم يكنَّ متزوجات، لأن الحرّة تُحصَن وتَحصِن، وليست كالأمة، قال الله
__________
حسن. أخرجه أبو داود 2243 والترمذي 1129 و 1130 وابن ماجة 1950 و 1951 وعبد الرزاق 12627 وابن أبي شيبة 4/ 317 وأحمد 2/ 232 وابن حبان 4155 والدارقطني 3/ 273- 274 والطبراني 18/ 843 والبيهقي 7/ 184- 185 من طرق عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه به. وإسناده حسن، رجاله ثقات. وأخرجه الدارقطني 3/ 273 من وجه آخر، وفيه محمد بن يحيى الأسلمي شيخ الشافعي، وهو متروك، والحجة في الرواية المتقدمة.
صحيح. أخرجه مسلم 1456 وأبو داود 2155 والترمذي 1132 والنسائي 6/ 110 وفي «التفسير» 116 و 117 وعبد الرزاق في «تفسيره» 549 وأحمد 3/ 84 والطيالسي 2239 وأبو يعلى 1318 والبيهقي 7/ 167 من طرق من حديث أبي سعيد. وله شاهد حسن من حديث ابن عباس أخرجه النسائي في «التفسير» 118 وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 441 بتخريجنا والله الموفق.

(1/390)


تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ وقال: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ يعني: الحرائر. والمحصنات: العفائف. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يعني العفائف وقال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي: عفّت. وفي المراد بالمحصنات هنا ثلاثة أقوال: أحدها: ذوات الأزواج. وهذا قول ابن عباس. وسعيد بن المسيب والحسن، وابن جبير، والنخعي، وابن زيد، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: العفائف: فإنهن حرام على الرجال إلا بعقد نكاح، أو ملك يمين. وهذا قول عمر بن الخطاب، وأبي العالية، وعطاء، وعبيدة، والسدي. والثالث: الحرائر، فالمعنى: أنهن حرام بعد الأربع اللواتي ذُكِرْنَ في أول السورة، روي عن ابن عباس، وعبيدة.
فعلى القول الأول في معنى قوله تعالى: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قولان: أحدهما: أن معناه:
إِلاَّ ما ملكت أيمانكم من السبايا في الحروب، وعلى هذا تأوَّلَ الآية عليٌ، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عمر، وابن عباس، وكان هؤلاء لا يرون بيع الأمة طلاقاً. والثاني: إِلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء ذوات الأزواج، بسبي أو غير سبي، وعلى هذا تأوَّلَ الآية ابنُ مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وجابر، وأنس.
وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقاً. وقد ذكر ابن جرير، عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن:
أنهم قالوا: بيع الأمة طلاقها، والأول أصح.
(269) لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم خيّر بريرة إِذ أعتقتها عائشة، بين المقام مع زوجها الذي زوَّجها منه سادتُها في حال رقّها، وبين فراقه، ولم يجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم عتق عائشة إِيّاها طلاقاً، ولو كان طلاقاً لم يكن لتخييره إِياها معنى. ويدل على صحة القول الأول ما ذكرناه من سبب نزول الآية.
وعلى القول الثاني: العفائف حرام إِلا بملك، والملك يكون عقداً، ويكون ملك يمين.
وعلى القول الثالث: الحرائِر حرام بعد الأربع إِلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء، فانهن لم يُحصَرن بعدد.
قوله تعالى: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: هو منصوب على التوكيد، محمول على المعنى، لأن معنى «حرمت عليكم أمهاتكم» : كتب الله عليكم هذا كتاباً، قال: ويجوز أن ينتصبَ على جهة الأمر، ويكون «عليكم» مفسراً له، فيكون المعنى: إلزموا كتاب الله. قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أي: ما بعد هذه الأشياء، إِلا أن السُّنة قد حرَّمت تزويج المرأة على عمتها، وتزويجها على خالتها «1» .
وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران: «كتب الله عليكم» بفتح الكاف، والتاء، والباء، من غير ألف، ورفع
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2578 ومسلم 1504 وأبو داود 2916 والنسائي 6/ 162 وأحمد 6/ 45- 46 والبيهقي 6/ 161 والبغوي 1611 وابن حبان 4269 من طرق كلهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «اشتريت بريرة، فاشترط أهلها ولاءها، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أعتقيها، فإن الولاء لمن أعطى الورق، فأعتقتها، فدعاها النبي صلّى الله عليه وسلّم فخيرها من زوجها فقالت لو أعطاني كذا وكذا ما ثبت عنده. فاختارت نفسها» . وله شاهد من حديث ابن عباس. أخرجه البخاري 2581 و 2582 والترمذي 1156.
__________
(1) هو الآتي.

(1/391)


الهاء. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: وأحَلَّ بفتح الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي:
بضم الألف.
فصل: قال شيخنا علي بن عبيد الله: وعامة العلماء ذهبوا إِلى أن قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ تحليل ورد بلفظ العموم، وأنه عموم دخله التخصيص، والمخصص له:
(270) نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها، أو على خالتها. وليس هذا على سبيل النسخ.
وذهب طائفة إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث.
قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ أي: تطلبوا إِمَّا بصداق في نكاح، أو ثمن في ملك مُحْصِنِينَ قال ابن قتيبة: متزوّجين، وقال الزجاج: عاقدين التزويج، وقال غيرهما: متعفّفين غير زانين.
والسفاح: الزنى، قال ابن قتيبة.. أصله من سفحت القربة: إِذا صببتها، فسمّي الزّنى سفاحا، لأنه حين يسافح يصب النطفة، وتصب المرأة النطفة. وقال ابن فارس: السفاح: صب الماء بلا عقد، ولا نكاح، فهو كالشيء يسفح ضياعاً.
قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فيه قولان:
أحدهما: أنه الاستمتاع في النكاح بالمهور، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور.
والثاني: أنه الاستمتاع إلى أجل مُسمىً من غير عقد نكاح. وقد روي عن ابن عباس أنه كان يفتي بجواز المتعة، ثم رجع عن ذلك. وقد تكلف قوم من مفسّري القُرّاء، فقالوا: المراد بهذه الآية نكاح المتعة، ثم نسخت بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه:
(271) نهى عن متعة النساء، وهذا تكلُّف لا يحتاج إليه، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجاز المتعة، ثم منع منها، فكان قوله منسوخاً بقوله. وأما الآية، فإنها لم تتضمّن جواز المتعة، لأنه تعالى قال فيها: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فدل ذلك على النّكاح الصحيح.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 5109 و 5110 ومسلم 1408 ح 35 و 36 وأبو داود 2066 والنسائي 6/ 96- 97- 98 وابن ماجة 1929 والشافعي 2/ 18 وعبد الرزاق 10753 وأحمد 2/ 432- 462 و 474 و 489 و 508 و 516 وابن حبان 4068 والبيهقي 5/ 345 و 7/ 165 من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها» . لفظ البخاري.
صحيح. أخرج البخاري 4216 و 5523 ومسلم 1407 والنسائي 6/ 126 و 7/ 202 والترمذي 1121 و 1794 وابن ماجة 1961 وأحمد 1/ 79 وسعيد بن منصور 848 والحميدي 37 والدارمي 2/ 140 وابن حبان 4140 و 4143 وأبو يعلى 576 وابن أبي شيبة 4/ 292 والبيهقي 7/ 201 و 202 من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الإنسية.
- وله شاهد من حديث الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «يا أيها الناس! إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء. وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله. ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» . أخرجه مسلم 1406 وأحمد 2/ 404 والدارمي 2/ 140 والنسائي 6/ 126 وابن ماجة 1962 وسعيد بن منصور 847 وأبو يعلى 938 وعبد الرزاق 14041 والحميدي 847 والدارمي 2/ 140 وابن الجارود 699 وابن أبي شيبة 4/ 292 وابن حبان 4144 و 4146 و 4148 والطحاوي 3/ 25 من حديث الربيع بن سبرة. وانظر «تفسير الشوكاني» 629.

(1/392)


وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

قال الزجّاج: ومعنى قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فما نكحتموهن على الشريطة التي جرت، وهو قوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ أي: عاقدين التزويج فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهن.
ومن ذهب في الآية إلى غير هذا، فقد أخطأ، وجهل اللغة.
قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ فيه ستة أقوال:
أحدها: أن معناه: لا جناح عليكم فيما تركته المرأة من صداقها، ووهبته لزوجها، هذا مروي عن ابن عباس، وابن زيد. والثاني: ولا جناح عليكم فما تراضيتم به من مقام، أو فرقة بعد أداء الفريضة، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث: ولا جناح عليكم أيها الأزواج إذا أعسرتم بعد الفرض لنسائكم فيما تراضيتم به من أن ينقصنكم، أو يُبرِئنكم، قاله أبو سليمان التيمي. والرابع: لا جناح عليكم إذا انقضى أجل المتعة أن يزدنكم في الأجل، وتزيدونهن في الأجر من غير استبراء، قاله السدي، وهو يعود إلى قصّة المتعة. والخامس: لا جناح عليكم أن تهب المرأة للرجل مهرها، أو يهب هو للتي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه. قاله الزجاج. والسادس: أنه عام في الزيادة، والنقصان، والتأخير، والإِبراء، قاله القاضي أبو يعلى «1» .

[سورة النساء (4) : آية 25]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا «الطول» : الغنى والسعة في قول الجماعة.
و «المحصنات» : الحرائِر، قال الزجاج: والمعنى: من لم يقدر على مهر الحرّة، يقال: قد طال فلان طَولاً على فلان، أي: كان له فضل عليه في القدرة. والمراد بالفتيات هاهنا: المملوكات، يقال:
للأمة: فتاة، وللعبد: فتى، وقد سُمّي بهذا الاسم من ليس بمملوك. قرأت على شيخنا الإِمام أبي منصور اللغوي قال: المتفتية: الفتاة والمراهقة، ويقال للجارية الحدثة: فتاة، وللغلام: فتى. قال القتيبي: وليس الفتى بمعنى الشاب والحدث، إِنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال.
فأما ذكر الايمان، فشرط في إِباحتهن، ولا يجوز نكاح الأمة الكتابية، هذا قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجوز.
__________
(1) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 16: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ولا حرج عليكم، أيها الناس، فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم من بعد إعطائهن أجورهن على النكاح الذي جرى بينكم وبينهن من حط ما وجب لهن عليكم، أو إبراء، أو تأخير ووضع. وذلك نظير قوله جل ثناؤه وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً النساء: 4.
فأما الذي قاله السدي، فقول لا معنى له، لفساد القول بإحلال جماع امرأة بغير نكاح ولا ملك يمين.

(1/393)


قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ قال الزجاج: معناه: اعملوا على ظاهركم في الإِيمان، فإنكم متعبدون بما ظهر من بعضكم لبعض. قال: وفي قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ وجهان: أحدهما:
أنه أراد النسب، أي كلكم ولد آدم. ويجوز أن يكون معناه: دينكم واحد، لأنه ذكر هاهنا المؤمنات.
وإِنما قيل لهم ذلك، لأن العرب كانت تطعن في الأنساب، وتفخر بالأحساب، وتُسمّي ابن الأمة:
الهجين، فأعلم الله عزّ وجلّ أن أمر العبيد وغيرهم مستوٍ في باب الإِيمان، وإِنما كُره التزويج بالأمة، وَحَرُمَ إذا وجَدَ إلى الحُرّة سبيلاً، لأن وُلْدَ الأمة من الحُرّ يصيرون رقيقاً، ولأن الأمة ممتهنة في عشرة الرجال، وذلك يشق على الزوج.
قال ابن الأنباري: ومعنى الآية: كلكم بنو آدم، فلا يتداخلْكم شُموخ وأنفة من تزوج الإِماء عند الضرورة. وقال ابن جرير: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض، لينكح هذا فتاة هذا.
قوله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ يعني: الإِماء بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، أي: سادتهن. و «الأجور» : المهور.
وفي قوله: بِالْمَعْرُوفِ قولان: أحدهما: أنه مقدم في المعنى، فتقديره: انكحوهن بإذن أهلهن بالمعروف، أي: بالنكاح الصحيح وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. والثاني: أن المعنى: وآتوهن أجورهن بالمعروف، كمهور أمثالهن. قال ابن عباس: مُحْصَناتٍ: عفائف غير زوانٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ يعني: أخلاَّء، كان الجاهلية يحرّمون ما ظهر من الزنى، ويستحلّون ما خفي. وقال في رواية أخرى:
«المسافحات» : المعلنات بالزّنى. و «المتّخذات أخدَان» : ذات الخليل الواحد. وقال غيره: كانت المرأة تتخذ صديقاً تزني معه، ولا تزني مع غيره.
قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «أحصن» مضمومة الألف. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم: بفتح الألف، والصاد. قال ابن جرير: من قرأ بالفتح، أراد: أسلمن، فصرن ممنوعات الفروج عن الحرام بالاسلام، ومن قرأ بالضم، أراد: فاذا تزوّجن، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج. فأما «الفاحشة» ، فهي الزّنى، والْمُحْصَناتُ: الحرائر، و «العذاب» : الحد. قال القاضي أبو يعلى: وليس الإسلام والتزويج شرطاً في إِيجاب الحدّ على الأمة، بل يجب وإِن عُدِما، وإِنما شرط الإِحصان في الحدّ، لئلا يتوهم متوهّم أن عليها نصف ما على الحرة إِذا لم تكن محصنة، وعليها مثل ما على الحرّة إِذا كانت محصنة.
قوله تعالى: ذلِكَ الإِشارة إلى إِباحة تزويج الإِماء. وفي الْعَنَتَ خمسة أقوال:
أحدها: أنه الزنى، قاله ابن عباس، والشعبي، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: أنه الهلاك، ذكره أبو عبيدة، والزجاج. والثالث: لقاء المشقة في محبة الأمة، حكاه الزجاج. والرابع: أن العنت هاهنا: الإِثم. والخامس: أنه العقوبة التي تعنته، وهي الحد، ذكرهما ابن جرير الطبري.
قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على إِباحة نكاح الإِماء المؤمنات بشرطين: أحدهما: عدم طَول الحرّة. والثاني: خوف الزنى، وهذا قول ابن عباس، والشعبي، وابن جبير، ومسروق، ومكحول، وأحمد، ومالك، والشافعي. وقد روي عن علي، والحسن، وابن المسيّب، ومجاهد،

(1/394)


يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)

والزهري، قالوا: ينكح الأمة، وإِن كان موسراً، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
قوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ، قال ابن عباس والجماعة: عن نكاح الإِماء، وإِنما ندب إِلى الصّبر عنه، لاسترقاق الأولاد.

[سورة النساء (4) : آية 26]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ. اللام بمعنى «أن» ، وهذا مذهب جماعة من أهل العربيّة، واختاره ابن جرير، ومثله: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ «1» ، وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ «2» ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا «3» .
والبيان من الله تعالى بالنص تارةً، وبدلالة النّص أخرى. قال الزجّاج: و «السّنن» : الطُرُق، فالمعنى يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء وتابعيهم. وقال غيره: معنى الكلام: يريد الله ليُبيّن لكم سنن من قبلكم من أهل الحق والباطل، لتجتنبوا الباطل وتجيبوا الحق، ويهديكم إلى الحق.

[سورة النساء (4) : آية 27]
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)
قوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: يريد أن يدلكم على ما يكون سبباً لتوبتكم. وفي الذين اتبعوا الشهوات أربعة أقوال: أحدها: أنهم الزناة، قاله مجاهد، ومقاتل. والثاني:
اليهود والنصارى، قاله السدي. والثالث: أنهم اليهود خاصّة، ذكره ابن جرير. والرابع: أهل الباطل، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً أي: عن الحق بالمعصية.

[سورة النساء (4) : آية 28]
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ التخفيف: تسهيل التكليف، أو إِزالة بعضه. قال ابن جرير: والمعنى: يريد أن يُيَسِّر لكم بإذنه في نكاح الفتيات المؤمنات لمن لم يستطع طولاً لحرّة. وفي المراد بضعْف الإنسان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الضعف في أصل الخلقة. قال الحسن: هو أنه خُلق من ماءٍ مهين. والثاني: أنه قلة الصبر عن النساء، قاله طاوس، ومقاتل. والثالث: أنه ضعف العزم عن قهر الهوى، وهذا قول الزجّاج، وابن كيسان.

[سورة النساء (4) : آية 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)
قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ، الباطل: ما لا يحل في الشرع.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «تجارة» بالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم بالنصب، وقد بينّا العلة في آخر (البقرة) .
قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه على ظاهره، وأن الله حرم على
__________
(1) سورة الشورى: 15.
(2) سورة الأنعام: 71.
(3) سورة الصف: 8.

(1/395)


وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)

العبد قتل نفسه، وهذا الظاهر. والثاني: أن معناه: لا يقتل بعضكم بعضاً، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة. والثالث: أن المعنى: لا تكلفوا أنفسكم عملاً ربّما أدى إلى قتلها وإِن كان فرضاً.
(272) وعلى هذا تأولها عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جُنباً في ليلة باردة، فلمّا ذكر ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال له: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال: يا رسول الله إِني احتلمتُ في ليلة باردة، وأشفقت إِن اغتسلت أن أهلِك، فذكرت قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
والرابع: أن المعنى: لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظها، فكأنما قتلها، هذا قول الفضيل بن عياض. والخامس: لا تقتلوها بارتكاب المعاصي.

[سورة النساء (4) : آية 30]
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً في المشار إِليه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قتل النفس، قاله ابن عباس، وعطاء. والثاني: أنه عائد إِلى كل ما نهى الله عنه من أوّل السورة إلى هاهنا، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث: قتل النفس، وأكل الأموال بالباطل، قاله مقاتل.

[سورة النساء (4) : آية 31]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)
قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ، اجتناب الشيء: تركه جانباً.
وفي الكبائر أحد عشر قولاً:
(273) أحدها: أنها سبع. فروى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إِلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» .
(274) وقد روي هذا الحديث من طريق آخر عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الكبائر سبع، الإِشراك بالله أولهن، وقتل النفس بغير حقها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبروا، والفرار من الزحف، ورمي المحصنات، وانقلاب إلى أعرابية بعد هجرة» .
__________
جيد. أخرجه أبو داود 334 وأحمد 4/ 203- 204 والحاكم 1/ 177 والبيهقي 1/ 225 من حديث عمرو بن العاص. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في الفتح 1/ 454: إسناده قوي. ونقل الزيلعي في نصب الراية 1/ 157 عن النوري قوله: حسن أو صحيح.
صحيح. أخرجه البخاري 2766 و 5764 و 6857 ومسلم 89 وأبو داود 6874 والنسائي 6/ 257 وأبو عوانة 1/ 54- 55 والطحاوي في «المشكل» 894 وابن حبان 5561 والبيهقي 8/ 249 من طرق وكلهم عن أبي هريرة مرفوعا.
أخرجه البزار 109 «كشف» وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 1/ 103: رواه البزار، وفيه عمرو بن أبي سلمة، ضعفه شعبة وغيره، ووثقه أبو حاتم وابن حبان وغيره.

(1/396)


وروي عن عليّ عليه السلام قال: هي سبع، فعدّ هذه. وروي عن عطاء أنه قال: هي سبع، وعدّ هذه، إِلا أنه ذكر مكان الإِشراك والتعرّب شهادة الزور وعقوق الوالدين.
(275) والثاني: أنها تسع. روى عبيد بن عمير، عن أبيه، وكان من الصّحابة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل ما الكبائر؟ فقال: «تسع، أعظمهن الإِشراك بالله، وقتل نفس المؤمن بغير حق، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والسحر، وأكل الرّبا، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً» .
(276) والثالث: أنها أربع. روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الكبائِر: الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» «1» .
(277) وروى أنس بن مالك قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكبائر، أو سئل عنها، فقال: «الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين» وقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور، أو شهادة الزور» .
وروي عن ابن مسعود أنه قال: الكبائِر أربع: الإِشراك بالله، والأمن لمكر الله، والقنوط من رحمة الله، والإِياس من روح الله، وعن عكرمة نحوه.
(278) والرابع: أنها ثلاث. فروى عمران بن حصين، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الشرك بالله، وعقوق الوالدين- وكان متكئا فاحتفز «2» - قال: والزّور» .
__________
أخرجه أبو داود 2875 والنسائي 7/ 89 والحاكم 1/ 59 ح 197 و 4/ 259 ح 7666 من حديث عبيد بن عمير بن قتادة عن أبيه. قال الحاكم عقب الرواية الأولى: قد احتجا برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سنان، وتعقبه الذهبي بقوله: لم يحتجا به لجهالته. ووثقه ابن حبان وصححه الحاكم عقب الرواية الثانية! وسكت الذهبي! مع أن الإسناد واحد. وقال الحافظ في «التقريب» عن عبد الحميد بن سنان: مقبول اه. أي حيث يتابع وقال الذهبي في «الميزان» 4778: لا يعرف وقد وثقه بعضهم، وقال البخاري: روى عن عبيد بن عمير وفي حديثه نظر. وله شاهد عن ابن عمر لكن الجمهور رووه موقوفا.
صحيح. أخرجه البخاري 687- 6920 والترمذي 3021 والنسائي 7/ 89 و 8/ 63 وأحمد 2/ 201 والدارمي 2/ 191 وأبو نعيم في «الحلية» 7/ 202 وابن حبان 5562 والبيهقي 10/ 35 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وورد من حديث عبد الله بن أنيس أخرجه الترمذي 3020 وأحمد 3/ 495 والحاكم 4/ 296 والطحاوي في «المشكل» 893 من طريق الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن محمد بن زيد عن أبي أمامة عنه. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الترمذي: حسن غريب اه.
صحيح. أخرجه البخاري 2653 ومسلم 88 والترمذي 1207 و 3018 والطحاوي في «المشكل» 897.
حسن. أخرجه الطبراني 2633 و 18/ 140 من حديث عمران. وقال الهيثمي في «المجمع» 1/ 103: رجاله ثقات، إلا أن الحسن مدلس، وعنعنه. قلت: وقال أبو حاتم: لم يسمع الحسن من عمران. لكن للحديث شواهد، فهو حسن إن شاء الله.
__________
(1) قال ابن الأثير رحمه الله في «النهاية» 3/ 386: اليمين الغموس هي اليمين الكاذبة الفاجرة، كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره، سميت غموسا، لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار.
(2) أي استوى جالسا على وركيه.

(1/397)


وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)

(279) وروى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين- وكان متكئا فجلس- فقال: وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
(280) وأخرجا في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود قال: سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أي الذنب أكبر؟
قال: «أن تجعل لله تعالى نِدّاً وهو خَلَقَكَ» . قلتُ: ثم أيّ؟ قال: «ثم أن تَقْتُلَ وَلَدَكَ مخافة أن يَطْعَمَ معك» . قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تُزانيَ حليلة جارك» .
والخامس: أنها مذكورة من أوّل السورة إِلى هذه الآية، قاله ابن مسعود وابن عباس.
والسادس: أنها إِحدى عشرة: الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وقتل النفس.
وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، والسحر، والخيانة. روي عن ابن مسعود أيضا. والسابع: أنها كل ذنب يختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. والثامن: أنها كل ما أوجب الله عليه النار في الآخرة، والحدّ في الدنيا، روى هذا المعنى أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والتاسع: أنها كلُّ ما عُصي الله به، روي عن ابن عباس، وعبيدة «1» ، وهو قول ضعيف. والعاشر: أنها كل ذنب أوعَدَ الله عليه النار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك في رواية، والزجاج. والحادي عشر:
أنها ثمان، الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل المؤمن، وقذف المحصنة، والزنا، وأكل مال اليتيم، وقول الزور، واقتطاع الرجل بيمينه وعهدِه ثمناً قليلاً. رواه مُحْرزِ، عن الحسن البصري.
قوله تعالى: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ روى المفضّل، عن عاصم: «يكفر» «ويدخلكم» بالياء فيهما، وقرأ الباقون بالنون فيهما، وقرأ نافع، وأبان، عن عاصم، والكسائي، عن أبي بكر، عن عاصم: «مَدخلاً» بفتح الميم هاهنا، وفي «الحج» وضم الباقون «الميم» ، ولم يختلفوا في ضم «ميم» مُدْخَلَ صِدْقٍ ومُخْرَجَ صِدْقٍ «2» . قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون «المدخل» مصدراً ويجوز أن يكون مكاناً، سواءً فتح، أو ضمّ: قال السدي: السيئات هاهنا: هي الصغائِر. والمدخل الكريم:
الجنّة. قال ابن قتيبة: والكريم: بمعنى: الشّريف.

[سورة النساء (4) : آية 32]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2654 و 5976 و 6273 و 6274 و 6919 ومسلم 87 والترمذي 1901 و 3019 وأبو عوانة 1/ 54 والطحاوي في المشكل 892 والبيهقي 10/ 121. عن أبي بكرة.
صحيح. أخرجه البخاري 4761 و 6001 و 6811 و 6861 و 7532 ومسلم 86 من وجوه، وأبو داود 2310 والترمذي 3182 والنسائي 7/ 89- 90 وأحمد 1/ 434- 462 والطحاوي في «المشكل» 1/ 379 وابن حبان 4414 و 4415 و 4416 والبغوي 42 والبيهقي 8/ 18 من طرق كثيرة كلهم عن ابن مسعود.
__________
(1) هو السّلماني صاحب علي، ثقة ثبت من كبار التابعين.
(2) سورة الإسراء: 80.

(1/398)


قوله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(281) أحدها: أن أم سلمة قالت: يا رسول الله: يغزو الرجال، ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
(282) والثاني: أن النساء قلن: وددن أن الله جعل لنا الغزو، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة.
(283) والثالث: أنه لما نزل لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قال الرجال: إِنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا، كما فضّلنا عليهن في الميراث، وقال النساء: إِنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة، والسدي.
وفي معنى هذا التمني قولان: أحدهما: أن يتمنّى الرجل مال غيره، قاله ابن عباس، وعطاء.
والثاني: أن يتمنى النساء أن يكن رجالاً. وقد روي عن أم سلمة أنها قالت: يا ليتنا كنا رجالاً، فنزلت هذه الآية «1» . وللتّمني وجوه: أحدها: أن يتمنّى الإِنسان أن يحصل له مال غيره، ويزول عن الغير، فهذا الحسد. والثاني: أن يتمنّى مثل ما لغيره، ولا يحب زواله عن الغير، فهذا هو الغبطة وربما لم يكن نيل ذلك مصلحة في حق المتمنّي. قال الحسن: لا تمنَّ مال فلان، ولا مال فلان، وما يدريك لعل هلاكه في ذلك المال؟ والثالث: أن تتمنى المرأة أن تكون رجلاً، ونحو هذا مما لا يقع، فليعلم العبد أن الله أعلم بالمصالح، فليرض بقضاء الله، ولتكن أمانيه الزيادة من عمل الآخرة.
قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ فيه قولان:
أحدهما: أن المراد بهذا الاكتساب: الميراث، وهو قول ابن عباس، وعكرمة.
والثاني: أنه الثواب والعقاب. فالمعنى: أن المرأة تثاب كثواب الرجل، وتأثم كإثمه، هذا قول قتادة، وابن السائب، ومقاتل، واحتجّ على صحته أبو سليمان الدمشقي بأن الميراث لا يحصل بالاكتساب، وبأن الآية نزلت لأجل التمني والفضل.
قوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ قرأ ابن كثير، والكسائي، وأبان، وخلف في اختياره «وسلوا الله» «فسل الذين» «فسل بني إِسرائيل» «وسل من أرسلنا» وما كان مثله من الأمر المواجه به، وقبله «واو» أو «فاء» فهو غير مهموز عندهم. وكذلك نقل عن أبي جعفر، وشيبة «2» . وقرأ الباقون
__________
حسن بشواهده. أخرجه الترمذي 3022 والحاكم 2/ 305 والواحدي 306 من طريق مجاهد عن أم سلمة.
قال الترمذي: هذا حديث مرسل اه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، إن كان سمع مجاهد من أم سلمة ووافقه الذهبي، وللحديث شواهد مرسلة، وهي الآتية.
أخرجه الطبري 9245 عن مجاهد وعكرمة، قالا: نزلت في أم سلمة.
مرسل. أخرجه الطبري 9247 عن السدي مرسلا، وهو شاهد لما قبله.
__________
(1) أخرجه الطبري 9241 عن مجاهد: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قول النساء يتمنين: «ليتنا رجال فنغزو» ! وليس فيه ذكر أم سلمة وانظر الحديث المتقدم برقم 281.
(2) هو شيبة بن نصاح، إمام ثقة، راجع «طبقات القرّاء» 1/ 329.

(1/399)


وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)

بالهمز في ذلك كله، ولم يختلفوا في قوله تعالى: وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا «1» أنه مهموز. وفي المراد بالفضل قولان: أحدهما: أن الفضل: الطّاعة، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنه الرزق، قاله ابن السائِب، فيكون المعنى: سلوا الله ما تتمنونه من النعم، ولا تتمنوا مال غيركم.

[سورة النساء (4) : آية 33]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
قوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ الموالي: الأولياء، وهم الورثة من العصبة وغيرهم.
ومعنى الآية: لكل إِِنسان موالي يرثون ما ترك. وارتفاع الوالدين والأقربين على معنيين من الإِعراب:
أحدهما: أن يكون الرفع على خبر الابتداء، والتقدير: وهم الوالدان والأقربون، ويكون تمام الكلام قوله: مِمَّا تَرَكَ. والثاني: أن يكون رفعا على أن الفاعل التّارك للمال، فيكون الوالدان، هم المولى.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «عاقدت» بالألف، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «عقدت» بلا ألف. قال أبو علي: من قرأ بالألف، فالتقدير: والذين عاقَدَتهم أيمانكم، ومن حذف الألف، فالمعنى: عقدت حِلْفهم أيمانكم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إِليه مقامه. وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أهل الحلف، كان الرجل يحالف الرجل، فأيّهما مات ورثه الآخر، فنسخ ذلك بقوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «2» ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وروى عنه عطيّة قال: كان الرجل يلحق الرجل في الجاهلية، فيكون تابعه، فإذا مات الرجل، صار لأهله الميراث، وبقي تابعه بغير شيء، فأنزل الله «والذين عاقدت أيمانكم» فأعطي من ميراثه، ثم نزل من بعد ذلك وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ، وممن قال هم الحُلفاء: سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة.
(284) والثاني: أنهم الذين آخى بينهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم المهاجرون والأنصار، كان المهاجرون يورّثون الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوة التي عقدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم. رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وبه قال ابن زيد.
والثالث: أنهم الذين كانوا يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهلية، هذا قول سعيد بن المسيّب.
فأمّا أرباب القول الأول، فقالوا: نسخ حكم الحلفاء الذين كانوا يتعاقدون على النصرة والميراث بآخِرِ (الأنفال) ، وإِليه ذهب ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وأحمد، والشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا الحكم باقٍ غير أنه جعل ذوي الأرحام أولى من
__________
صحيح. أخرجه البخاري 6747 عن ابن عباس: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ.... وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ النساء:
33 قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهم، فلما نزلت: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ قال: نسختها وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ، لفظ البخاري.
وانظر «تفسير القرطبي» 2155 بتخريجنا.
__________
(1) سورة الممتحنة: 10.
(2) سورة الأنفال: 75. [.....]

(1/400)


الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)

موالي المعاقدة. وذهب قوم إِلى أن المراد: فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة من غير ميراث، وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد. وذهب قوم آخرون إلى أن المعاقدة: إِنما كانت في الجاهلية على النصرة لا غير، والإسلام لم يُغيّر ذلك، وإنما قرّره.
(285) فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما حلف كان في الجاهلية، فإن الإِسلام لم يزده إِلاّ شدّة» أراد: النصر والعون. وهذا قول سعيد بن جبير، وهو يدل على أن الآية محكمة.

[سورة النساء (4) : آية 34]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)
قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ.
(286) سبب نزولها: أن رجلاً لطم زوجته لطمةً فاستعدت عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذكر المفسّرون أنه سعد بن الربيع الأنصاري «1» .
قال ابن عباس: «قوّامون» أي: مسلّطون على تأديب النساء في الحق. وروى هشام بن محمّد عن أبيه «2» في قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ قال: إِذا كانوا رجالا، وأنشد:
أكلّ امرئ تحسبين امرأ ... وناراً توقّدُّ باللَّيل نارا «3»
قوله تعالى: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني: الرجال على النساء، وفضل الرجل على المرأة بزيادة العقل، وتوفير الحظ في الميراث، والغنيمة، والجمعة، والجماعات، والخلافة، والإمارة، والجهاد، وجعل الطلاق إليه، إلى غير ذلك.
قوله تعالى: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ قال ابن عباس يعني: المهر والنفقة عليهن. وفي «الصالحات» قولان: أحدهما: المحسنات إِلى أزواجهن، قاله ابن عباس. والثاني: العاملات بالخير، قاله ابن المبارك. قال ابن عباس: و «القانتات» : المطيعات لله في أزواجهنّ، والحافظات للغيب، أي:
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2530 وأبو داود 2925 وأحمد 4/ 83 وابن حبان 4371 والطبري 9295 والطبراني 1597 والبيهقي 6/ 262 من حديث جبير بن مطعم، وصدره «لا حلف في الإسلام، وأيما ... » .
- وله شاهد أخرجه الطبري 9292 وأحمد 5/ 61 والطبراني 18/ 865 عن قيس بن عاصم أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الحلف فقال: «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به ولا حلف في الإسلام» .
- وله شاهد أخرجه الطبري 9295 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته يوم فتح مكة: فوا بالحلف، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام» .
ضعيف. أخرجه الطبري 9503 عن ابن عباس به، وفيه محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق، وهو مجهول.
__________
(1) عزاه الواحدي 310 لمقاتل، وهو متروك متهم، فلا يحتج بمثل هذا الخبر.
(2) هو محمد بن السائب الكلبي، وهو متروك، وكذبه غير واحد.
(3) البيت لأبي داود الإيادي كما في «الخزانة» 4/ 191.

(1/401)


لغيب أزواجهن. وقال عطاء، وقتادة: يحفظن ما غاب عنه الأزواج من الأموال، وما يجب عليهن من صيانة أنفسهن لهم.
قوله تعالى: بِما حَفِظَ اللَّهُ قرأ الجمهور برفع اسم «الله» . وفي معنى الكلام على قراءتهم ثلاثة أقوال: أحدها: بحفظ الله إِياهن، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل، وروى ابن المبارك، عن سفيان، قال: بحفظ الله إِياها أن جعلها كذلك. والثاني: بما حفظ الله لهن مهورهن، وإيجاب نفقتهن، قاله الزجاج. والثالث: أن معناه: حافظات للغيب بالشيء الذي يحفظ به أمر الله، حكاه الزجاج. وقرأ أبو جعفر بنصب اسم الله. والمعنى: بحفظهن الله في طاعته.
قوله تعالى: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ في الخوف قولان: أحدهما: أنه بمعنى العلم، قاله ابن عباس. والثاني: بمعنى الظن لما يبدو من دلائِل النشوز، قاله الفراء، وأنشد:
وما خِفْتُ يا سلاَّم أنّك عائِبي «1»
قال ابن قتيبة: والنشوز: بغض المرأة للزوج، يقال: نَشَزَت المرأة على زوجها، ونشصت: إِذا فركته «2» ، ولم تطمئن عنده، وأصل النشوز: الانزعاج. وقال الزجاج: أصله من النشز، وهو المكان المرتفع من الأرض.
قوله تعالى: فَعِظُوهُنَّ قال الخليل: الوعظ: التذكير بالخير فيما يرق له القلب. قال الحسن:
يعظها بلسانه، فان أبت، وإِلا هجرها. واختلفوا في المراد بالهجر في المضجع على أربعة أقوال:
أحدها: أنه ترك الجماع، رواه سعيد بن جبير، وابن أبي طلحة، والعوفيُّ، عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير، ومقاتل. والثاني: أنه ترك الكلام، لا ترك الجماع، رواه أبو الضحى، عن ابن عباس، وخصيف، عن عكرمة، وبه قال السدي، والثوري. والثالث: أنه قول الهُجْرِ من الكلام في المضاجع، روي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة. فيكون المعنى: قولوا لهنَّ في المضاجع هُجْراً من القول.
والرابع: أنه هجر فراشها، ومضاجعتها. روي عن الحسن، والشعبي، ومجاهد، والنخعي، ومقسم، وقتادة. قال ابن عباس: اهجرها في المضجع، فان أقبلت وإِلاَّ فقد أذن الله لك أن تضرِبَها ضرباً غير مبرّح. وقال جماعة من أهل العلم: الآية على الترتيب، فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، والضرب عند تكرّره، واللجاج فيه. ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز. قال القاضي أبو يعلى: وعلى هذا مذهب أحمد. وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز.
قوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ قال ابن عباس: يعني في المضجع فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي:
فلا تتجنّ عليها العلل. وقال سفيان بن عيينة: لا تكلّفها الحُبَّ، لأن قلبها ليس في يدها. وقال ابن جرير: المعنى: فلا تلتمسوا سبيلاً إِلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل، وذلك أن تقول لها وهي مطيعة لك: لست لي مُحبّة، فتضربها، أو تؤذيها.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً قال أبو سليمان الدمشقي: لا تبغوا على أزواجكم،
__________
(1) هو عجز بيت لأبي الغول الطهوي كما في «الخزانة» 3/ 109. وصدره: أتاني زمان عن نصيب بقوله
(2) في «اللسان» فركته: أبغضته.

(1/402)


وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)

فهو ينتصر لهن منكم. وقال الخطابي: الكبير: الموصوف بالجلال، وكبر الشأن، يصغر دون جلاله كل كبير. ويقال: هو الذي كبر عن شبه المخلوقين.

[سورة النساء (4) : آية 35]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما، في الخوف قولان: أحدهما: أنه الحذر مِن وجود ما لا يتيقّن وُجوده، قاله الزجاج. والثاني: أنه العلم، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال الزجاج: والشقاق:
العداوة، واشتقاقه من المتشاقين، كل صنف منهم في شقّ. و «الحكم» : هو القيّم بما يسند إِليه. وفي المأمور بانفاذ الحكمين قولان: أحدهما: أنه السلطان إذا ترافعا إليه، قاله سعيد بن جبير، والضحاك.
والثاني: الزوجان، قاله السدي.
قوله تعالى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً قال ابن عباس: يعني الحكمين. وفي قوله تعالى: يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما قولان: أحدهما: أنه راجع إلى الحكمين، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وعطاء، والسدي، والجمهور. والثاني: أنه راجع إلى الزوجين، ذكره بعض المفسّرين.
فصل: والحكمان وكيلان للزوجين، ويُعتبرُ رضى الزوجين فيما يحكمان به، هذا قول أحمد وأبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك والشافعي: لا يفتقرُ حكمُ الحكمين إلى رضى الزّوجين «1» .
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 10/ 263: والزوجان إذا وقعت بينهما العداوة وخشي عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان، بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، مأمونين، برضى الزوجين، وتوكيليهما، بأن يجمعا إذا رأيا أو يفرّقا، فما فعلا من ذلك لزمهما، وجملة ذلك أن الزوجين إذا وقع بينهما شقاق، نظر الحاكم، فإن بان له أنه من المرأة، فهو نشوز- وسيأتي عند الآية 128- وإن بان أنه من الرجل أسكنهما إلى جانب ثقة، يمنعه من الإضرار بها، والتعدي عليها. وكذلك إن بان من كل واحد منهما تعدّ أو ادّعى كلّ واحد منهما أن الآخر ظلمه، أسكنهما إلى جانب من يشرف عليهما ويلزمهما الإنصاف، فإن لم يتهيأ ذلك، وتمادى الشرّ بينهما، وخيف الشقاق عليهما والعصيان، بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، فنظرا بينهما، وفعلا ما يريان المصلحة فيه، من جمع أو تفريق، لقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما.
واختلفت الرواية عن أحمد، رحمه الله، في الحكمين، ففي إحدى الروايتين عنه، أنهما وكيلان لهما، لا يملكان التفريق إلا بإذنهما. وهذا مذهب عطاء وأحد قولي الشافعي. وحكي ذلك عن الحسن، وأبي حنيفة، لأنّ البضع حقه، والمال حقّها وهما رشيدان، فلا يجوز لغيرهما التصرف فيه إلا بوكالة منهما، أو ولاية عليهما. والثانية أنهما حاكمان، ولهما أن يفعلا ما يريان من جمع وتفريق، بعوض وغير عوض، ولا يحتاجان إلى توكيل الزوجين ولا رضاهما. وروي ذلك عن علي، وابن عباس، والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومالك والأوزاعي، وابن المنذر، لقول الله تعالى، فسمّاهما حكمين ولم يعتبر رضى الزوجين ثم قال تعالى:
إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً. فخاطب الحكمين بذلك. وروي أبو بكر، بإسناده عن عبيدة السلماني، أن رجلا وامرأة أتيا عليا، مع كل واحد منهما فئام من الناس، فقال علي رضي الله عنه: ابعثوا حكما من أهله، وحكما من أهلها، فبعثوا حكمين، ثم قال عليّ للحكمين: هل تدريان ما عليكما من الحقّ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله عليّ ولي، فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال عليّ: كذبت حتى ترضى بما رضيت به. وهذا يدل على أنه أجبره على ذلك. ولا يمتنع أن تثبت الولاية على الرّشيد عند امتناعه من أداء الحق، كما يقضى الدين عنه من ماله إذا امتنع، إذا ثبت هذا، فإن الحكمين لا يكونان إلا عاقلين بالغين عدلين مسلمين، لأن هذه من شروط العدالة، سواء قلنا: هما حاكمان أو وكيلان.

(1/403)


وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)

[سورة النساء (4) : آية 36]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)
قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ قال ابن عباس: وحِّدوه.
قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً قال الفرّاء: أغراهم بالإِحسان إِلى الوالدين.
قوله تعالى: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى فيه قولان: أحدهما: أنه الجار الذي بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه الجار المسلم، قاله نوف الشامي. فيكون المعنى: ذي القربى منكم بالإِسلام.
قوله تعالى: وَالْجارِ الْجُنُبِ روى المفضّل، عن عاصم: «والجار الجنب» بفتح الجيم، وإِسكان النون. قال أبو علي: المعنى: والجار ذي الجنب، فحذف المضاف. وفي الجار الجنب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الغريب الذي ليس بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه جارك عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخلفك، رواه الضحاك، عن ابن عباس. والثالث: أنه اليهودي والنصراني، قاله نوف الشامي. وفي الصاحب بالجنب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الزوجة، قاله علي، وابن مسعود، والحسن، وإبراهيم النخعي، وابن أبي ليلى. والثاني: أنه الرفيق في السفر، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن قتيبة. وعن سعيد بن جبير كالقولين. والثالث: أنه الرفيق، رواه ابن جريج، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. قال ابن زيد: هو الذي يلصق بك رجاء خيرك. وقال مقاتل: هو رفيقك حضراً وسفراً. وفي ابن السبيل أقوال قد ذكرناها في (البقرة) .
قوله تعالى: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني: المملوكين. وقال بعضهم: يدخل فيه الحيوان البهيم. قال ابن عباس: والمختال: البطرُ في مشيته، والفخور: المفتخر على الناس بكبره. وقال مجاهد: هو الذي يعد ما أعطى، ولا يشكر الله، وقال ابن قتيبة: المختال: ذو الخيلاء والكبر. وقال الزجاج: المختال: الصَّلِف التيّاه الجهول. وإِنما ذكر الاختيال هاهنا، لأن المختال يأنف من ذوي قراباته، ومن جيرانه إذا كانوا فقراء.

[سورة النساء (4) : آية 37]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود. فأما سبب نزولها، فقال ابن عباس: كان كَرْدَم بن زيد حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالاً من الأنصار من أصحاب رسول

(1/404)


وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)

الله صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يخالطونهم، وينتصحون لهم، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم، فإنّا نخشى عليكم الفقر، ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فنزلت هذه الآية.
وفي الذي بخلوا به وأمروا الناس بالبخل به قولان: أحدهما: أنه المال، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: أنه إظهار صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ونبوّته، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي.
قوله تعالى: وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «بالبخْل» خفيفاً. وقرأ حمزة والكسائي: «بالبَخَل» محركاً، وكذلك في سورة الحديد.
وفي الذين آتاهم الله من فضله قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، أوتوا علم نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكتموه، هذا قول الجمهور. والثاني: أنهم أرباب الأموال بخلوا بها، وكتموا الغنى، ذكره الماوردي في آخرين «1» .
قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا قال الزجاج: معناه: جعلنا ذلك عتاداً لهم، أي: مثبتاً لهم.

[سورة النساء (4) : آية 38]
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم اليهود، قاله ابن عباس ومجاهد ومقاتل. والثاني: أنهم المنافقون، قاله السدي، والزجاج وأبو سليمان الدمشقي. والثالث: مشركو مكة أنفقوا على عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ذكره الثعلبي.
والقرين: الصاحب المؤالف، وهو فعيل من الاقتران بين الشيئين. وفي معنى مقارنة الشّيطان قولان: أحدهما: مصاحبته في الفعل. والثاني: مصاحبته في النار.

[سورة النساء (4) : آية 39]
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)
قوله تعالى: وَماذا عَلَيْهِمْ المعنى: وأي شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله، لو آمنوا!. وفي الإنفاق المذكور هاهنا قولان: أحدهما: أنه الصدقة، قاله ابن عباس.
والثاني: الزكاة، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
وفي قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً تهديد لهم على سوء مقاصدهم.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 508: وقد حمل السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وكتمانهم ذلك ولهذا قال تعالى: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. ولا شك أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء وكذلك الآية التي بعدها.
ووافقه الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 89 وزاد: وإنما قلنا: هذا القول أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمر الناس بالبخل ديانة ولا تخلّقا، بل ترى ذلك قبيحا وتذمّ فاعله، وتمتدح- وإن هي تخلّقت بالبخل واستعملته في أنفسها- بالسخاء والجود، وتعدّه من مكارم الأفعال وتحثّ عليه. ولذلك قلنا: إن بخلهم الذي وصفهم الله به، إنما كان بخلا بالعلم الذي كان الله آتاهموه فبخلوا بتبيينه للناس وكتموه.

(1/405)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)

[سورة النساء (4) : آية 40]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ قد شرحنا الظلم فيما سَلف، وهو مستحيل على الله عزّ وجلّ، لأن قوماً قالوا: الظلم: تصرّف فيما لا يملك، والكل ملكه، وقال آخرون: هو وضع الشيء في غير موضعه، وحكمته لا تقتضي فعلاً لا فائدة تحته. ومثقال الشيء: زنة الشيء. قال ابن قتيبة: يقال:
هذا على مثقال هذا، أي: على وزنه. قال الزجاج: وهو مفعال من الثقل.
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: يظن الناس أن المثقال وزن دينار لا غير، وليس كما يظنون. مثقال كل شيء: وزنه، وكل وزن يسمى مثقالاً، وإن كان وزن ألف. قال الله تعالى: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ قال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن صنجة مثقال الميزان، فقال:
فارسي، ولا أدري كيف أقول، ولكني أقول: مثقال، فإذا قلت للرجل: ناولني مثقالاً، فأعطاك صنجة ألف، أو صنجة حبّة، كان ممتثلاً.
وفي المراد بالذرّة خمسة أقوال: أحدها: أنه رأس نملة حمراء، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: ذرّة يسيرة من التراب، رواه يزيد بن الأصم، عن ابن عباس. والثالث: أصغر النمل، قاله ابن قتيبة، وابن فارس. والرابع: الخردلة. والخامس: الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب، ذكرهما الثعلبي. واعلم أن ذكر الذرّة ضرب مثل بما يعقل، والمقصود أنه لا يظلم قليلاً ولا كثيراً.
قوله تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً قرأ ابن كثير، ونافع: «حسنة» بالرفع. وقرأ الباقون بالنصب. قال الزجاج: من رفع، فالمعنى: وإِن تحدثْ حسنة، ومن نصب، فالمعنى: وإن تك فعلته حسنة. قوله تعالى: يُضاعِفْها قرأ ابن عامر، وابن كثير: «يُضعِّفها» بالتشديد من غير ألف. وقرأ الباقون:
«يضاعفها» بألف مع كسر العين. قال ابن قتيبة: يضاعفها بالألف: يعطي مثلها مرات، ويضعفها بغير ألف: يعطي مثلها مرّة.
قوله تعالى: مِنْ لَدُنْهُ أي: من قبله. والأجر العظيم: الجنّة «1» .

[سورة النساء (4) : آية 41]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41)
قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ قال الزجاج: معنى الآية فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة، فحذف الحال، لأن في الكلام دليلاً عليه. ولفظ «كيف» لفظ الاستفهام، ومعناها:
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 509: يقول الله تعالى مخبرا أنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ الآية وقال تعالى: مخبرا عن سليمان أنه قال: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة الطويل، وفيه «يقول الله عز وجل: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه ذرة من إيمان فأخرجوه من النار» ، وفي لفظ «أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار» ، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقول أبو سعيد: اقرءوا إن شئتم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية.

(1/406)


يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)

التوبيخ. والشهيد: نبي الأمة. وبماذا يشهد فيه أربعة أقوال: أحدها: بأنه قد بلغ أمّته. قاله ابن مسعود، وابن جريج، والسدي، ومقاتل. والثاني: بإيمانهم، قاله أبو العالية. والثالث: بأعمالهم، قاله مجاهد، وقتادة. والرابع: يشهد لهم وعليهم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَجِئْنا بِكَ يعني: نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم. وفي «هؤلاء» ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم جميع أمته، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه يشهد عليهم. والثاني: يشهد لهم فتكون «على» بمعنى: اللام. والقول الثاني: أنهم الكفار يشهد عليهم بتبليغ الرسالة، قاله مقاتل. والثالث: اليهود والنصارى، ذكره الماورديّ.

[سورة النساء (4) : آية 42]
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
قوله تعالى: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: «لو تُسْوى» ، بضم التاء، وتخفيف السين. والمعنى: ودُّوا لو جُعِلُوا تراباً، فكانوا هم والأرض سواء، هذا قول الفرّاء في آخرين.
قال أبو هريرة: إِذا حشر الله الخلائق، قال للبهائم، والدّواب، والطير: كوني تراباً. فعندها يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً.
وقرأ نافع، وابن عامر: «لو تَسَّوّى» ، بفتح التاء، وتشديد السين، والمعنى: لو تتسوى، فأدغمت التاء في السين، لقربها منها. قال أبو علي: وفي هذه القراءة اتّساع، لأن الفعل مسند إِلى الأرض، وليس المراد: ودّوا لو صارت الأرض مثلهم، وإنما المعنى: ودّوا لو يتسوّون بها.
ثم في المعنى للمفسرين قولان: أحدهما: أن معناه: ودّوا لو تخرقت بهم الأرض، فساخوا فيها، قاله قتادة، وأبو عبيدة، ومقاتل. والثاني: أن معناه: ودّوا أنهم لم يبعثوا، لأن الأرض كانت مستوية بهم قبل خروجهم منها، قاله ابن كيسان، وذكر نحوه الزجاج.
وقرأ حمزة، والكسائي: «لو تسوّى» ، بفتح التاء، وتخفيف السين والواو مشدّدة ممالة، وهي بمعنى: تتسوّى، فحذف التاء التي أدغمها نافع، وابن عامر. فأما معنى القراءتين، فواحد.
قوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً في الحديث قولان: أحدهما: أنه قولهم: ما كنا مشركين، هذا قول الجمهور. والثاني: أنه أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصفته ونعته، قاله عطاء. فعلى الأول يتعلق الكتمان بالآخرة، وعلى الثاني يتعلق بما كان في الدنيا، فيكون المعنى: ودوا أنهم لم يكتموا ذلك.
وفي معنى الآية ستة أقوال: أحدها: ودّوا إِذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس. والثاني: أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله حديثا بعد ذلك، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا، وفي موطن يكتمون، ويقولون: ما كنا مشركين، قاله الحسن. والرابع: أن قوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً كلام مستأنف لا يتعلق بقوله: «لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ» ، هذا قول الفرّاء، والزجاج. ومعنى: لا يكتمون الله حديثاً:
لا يقدرون على كتمانه، لأنه ظاهر عند الله. والخامس: أن المعنى: ودّوا لو سوّيت بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثا. والسادس: أنهم لم يعتقدوا قولهم: ما كنا مشركين كذباً، وإِنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة، ذكر القولين ابن الأنباري. وقال القاضي أبو يعلى: أخبروا بما توهّموا، إِذ كانوا

(1/407)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

يظنون أنهم ليسوا بمشركين، وذلك لا يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا.

[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى.
(287) روى أبو عبد الرحمن السلمي، عن عليّ بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا، وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منّا، وحضرت الصلاة، فقدّموني، فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون، فنزلت هذه الآية. وفي رواية أخرى، عن أبي عبد الرحمن، عن عليّ رضي الله عنه أن الذي قدموه، وخلط في هذه السورة، عبد الرحمن بن عوف.
وفي معنى قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ قولان: أحدهما: لا تتعرّضوا بالسكر في أوقات الصلاة. والثاني: لا تدخلوا في الصلاة في حال السكر، والأول أصح، لأن السكران لا يعقل ما يخاطب به. وفي معنى: وَأَنْتُمْ سُكارى قولان: أحدهما: من الخمر، قاله الجمهور. والثاني: من النوم، قاله الضحاك، وفيه بعد. وهذه الآية اقتضت إِباحة السكر في غير أوقات الصلاة، ثم نسخت بتحريم الخمر. قوله تعالى: وَلا جُنُباً قال ابن قتيبة: الجنابة: البعد، قال الزجاج: يقال: رجل جنب، ورجلان جُنب، ورجال جُنب، كما يقال: رجل رضى، وقوم رضى. وفي تسمية الجنب بهذا الاسم قولان: أحدهما: لمجانبة مَائهِ محله. والثاني: لما يلزمه من اجتناب الصلاة، وقراءة القرآن، ومسّ المصحف، ودخول المسجد «1» .
__________
حديث حسن. أخرجه أبو داود 3671 والترمذي 3026 والحاكم 2/ 307 والطبري 9526 وإسناده حسن، وفيه أن الذي قدّم للصلاة هو علي رضي الله عنه، وفيه عطاء بن السائب لكن الثوري الراوي عنه سمع منه قبل الاختلاط، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الترمذي، والله أعلم.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 197: والجمهور من الأمة على أن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان. وروي عن بعض الصحابة أن لا غسل إلا من إنزال، لقوله عليه السلام: «إنما الماء من الماء» .
أخرجه مسلم. وفي البخاري عن أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال «يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي» . قال أبو عبد الله: الغسل أحوط، وذلك الآخر إنما بيناه لاختلافهم. وأخرجه مسلم في صحيحه بمعناه وقال في آخر: قال أبو العلاء بن الشّخّير كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا. قال أبو إسحاق هذا منسوخ. وقال الترمذي: كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ. قلت: على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وأن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين. وقد كان فيه خلاف بين الصحابة. قال ابن القصار: وأجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف ما قبلهم على الأخذ بحديث «إذا التقى الختانان» وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف. قال القاضي عياض: لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش ثم بعده داود الأصبهاني. وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على ترك الأخذ بحديث: «الماء من الماء» لما اختلفوا، وتأوله ابن عباس على الاحتلام، أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال الماء في الاحتلام.
ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل. وهذا ما لا خلاف فيه بين كافة العلماء. وانظر «المغني» 1/ 265 باب ما يوجب الغسل ففيه تفصيل وزيادة بيان.

(1/408)


قوله تعالى: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إِلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتيمّموا، وتصلّوا. وهذا المعنى مروي عن عليّ رضي الله عنه.
ومجاهد، والحكم، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، والزجاج.
والثاني: لا تقربوا مواضع الصلاة- وهي المساجد- وأنتم جنب إِلا مجتازين، ولا تقعدوا. وهذا المعنى مروي عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، والحسن، وسعيد بن المسيّب، وعكرمة، وعطاء الخراساني، والزهري، وعمرو بن دينار، وأبي الضحى، وأحمد، والشافعي، وابن قتيبة «1» . وعن ابن عباس، وسعيد بن جبير، كالقولين، فعلى القول الأول: «عابر السبيل» : المسافر، وقربان الصّلاة:
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 199- 201: ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء وليس لهم اللبث في المسجد لقوله تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا
. وروت عائشة، قالت: جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: «وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنب» رواه أبو داود. ويباح العبور للحاجة من أخذ شيء أو تركه، أو كون الطريق فيه، فأما لغير ذلك فلا يجوز بحال. وممن نقلت عنه الرخصة في العبور: ابن مسعود، وابن عباس، وابن المسيب، وابن جبير، والحسن، ومالك والشافعي. وقال الثوري وإسحاق: لا يمر في المسجد إلا أن لا يجد بدّا، فيتيمم. وهو قول أصحاب الرأي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» ، ولنا قول الله تعالى: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ والاستثناء من المنهي عنه إباحة، وعن عائشة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «ناوليني الخمرة من المسجد» . قالت: إني حائض، قال: «إن حيضتك ليست في يدك» رواه مسلم. وعن جابر قال:
كنا نمرّ في المسجد ونحن جنب. رواه ابن المنذر. وعن زيد بن أسلم، قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشون في المسجد وهم جنب. رواه ابن المنذر أيضا. وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا. وإن خاف الجنب على نفسه أو ماله، أو لم يمكنه الخروج من المسجد، أو لم يجد مكانا غيره، أو لم يمكنه الغسل ولا الوضوء، تيمم، ثم أقام في المسجد، وقال بعض أصحابنا: يلبث بغير تيمم، لأن التيمم لا يرفع الحدث.
وهذا غير صحيح، لأنه يخالف قول من سمينا من الصحابة، ولأن هذا أمر يشترط له الطهارة فوجب التيمم له عند العجز عنها، كالصلاة وسائر ما يشترط له الطهارة. وقولهم: لا يرفع الحدث. قلنا: إلا أنه يقوم مقام ما يرفع الحدث، في إباحة ما يستباح به. إذا توضأ الجنب فله اللبث في المسجد في قول أصحابنا وإسحاق.
وقال أكثر أهل العلم: لا يجوز، للآية والخبر. واحتج أصحابنا بما روي عن زيد بن أسلم، قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يتحدثون في المسجد على غير وضوء وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ، ثم يدخل، فيتحدّث. وهذا إشارة إلى جميعهم، فيكون إجماعا يخصّ به العموم، ولأنه إذا توضأ خفّ حكم الحدث فأشبه التيمم عند عدم الماء، ودليل خفته أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم الجنب به إذا أراد النوم، واستحبابه لمن أراد الأكل ومعاوده الوطء. أما الحائض فلا يباح لها اللبث، لأن وضوءها لا يصح. وأما المستحاضة ومن به سلس البول، فلهم اللبث في المسجد والعبور إذا أمنوا تلويث المسجد، لما روي عن عائشة، أن امرأة من أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتكفت معه وهي مستحاضة، فكانت ترى الخمرة والصفرة، وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي. رواه البخاري. ولأنه حدث لا يمنع الصلاة فلم يمنع اللبث، كخروج الدم اليسير من أنفه. فإن خاف تلويث المسجد فليس له العبور، فإن المسجد يصان عن هذا، كما يصان عن البول فيه. ولو خشيت الحائض تلويث المسجد بالعبور فيه لم يكن لها ذلك.

(1/409)


فعلها، وعلى الثاني: «عابر السبيل» : المجتاز في المسجد، وقربان الصلاة: دخول المسجد الذي تفعل فيه الصلاة.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى، في سبب نزول هذا الكلام قولان:
(288) أحدهما: أن رجلاً من الأنصار كان مريضاً فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر له ذلك، فنزلت: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ قاله مجاهد.
(289) والثاني: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصابتهم جراحات، ففشت فيهم وابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الآية كلها، قاله إبراهيم النخعي.
قال القاضي أبو يعلى: وظاهر الآية يقتضي جواز التيمم مع حصول المرض الذي يستضرّ معه باستعمال الماء، سواء كان يخاف التلف، أو لا يخاف، وكذلك السفر يجوز فيه التيمم عند عدم الماء، سواء كان قصيراً، أو طويلاً، وعدم الماء ليس بشرط في جواز التيمم للمريض، وإنما الشرط: حصول الضرر، وأما السفر، فعدم الماء شرط في إِباحة التيمم، وليس السفر بشرط، وإنما ذكر السفر، لأن الماء يُعدم فيه غالبا «1» .
__________
ضعيف. أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» 2/ 296 عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف.
ضعيف. أخرجه الطبري 9639 عن إبراهيم النّخعي مرسلا.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 316 و 334- 336 (وإذا كان به قرح أو مرض مخوف، وأجنب، فخشي على نفسه إن أصابه الماء، غسل الصحيح من جسده، وتيمم لما لم يصبه الماء) فالجريح والمريض إذا خاف على نفسه من استعمال الماء جاز له التيمم، هذا قول أكثر أهل العلم، منهم ابن عباس ومجاهد، وعكرمة، وطاوس، والنخعي، وقتادة ومالك، والشافعي. ولم يرخّص له عطاء في التيمم إلا عند عدم الماء، لظاهر الآية، ونحوه عن الحسن في المجدور الجنب، قال لا بد من الغسل. ولنا، قول الله تعالى:
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. وحديث عمرو بن العاص حين تيمم من خوف البرد، وحديث ابن عباس، وجابر في الذي أصابته الشجّة ولأنه يباح له التيمم إذا خاف العطش، أو خاف من سبع، فكذلك هاهنا، فإن الخوف لا يختلف، وإنما اختلفت جهاته. واختلف في الخوف المبيح للتيمم، فروي عن أحمد: لا يبيحه إلا خوف التّلف. وهذا أحد قولي الشافعي. وظاهر المذهب: أنه يباح له التيمم إذا خاف زيادة المرض أو تباطؤ البرء، أو خاف شيئا فاحشا، أو ألما غير محتمل. وهذا مذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي. وهو الصحيح، لعموم قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ لأنه يجوز له التيمم إذا خاف ذهاب شيء من ماله، أو ضررا في نفسه من لص، أو سبع أو لم يجد الماء إلا بزيادة على ثمن مثله كثيرة، فلأن يجوز هاهنا أولى والمرض والجريح الذي لا يخاف الضرر باستعمال الماء، مثل من به الصداع والحمّى الحارة، أو أمكنه استعمال الماء الحار، ولا ضرر عليه فيه، لزمه ذلك. وحكي عن داود ومالك، إباحة التيمم للمريض مطلقا، لظاهر الآية. ولنا، أنه واجد للماء، لا يستضرّ باستعماله فلم يجز له التيمم، كالصحيح، والآية اشترط فيها عدم الماء، فلم يتناول محل النزاع، على أنه لا بد فيها من إضمار الضرورة، والضرورة إنما تكون عند الضرر. ومن كان مريضا لا يقدر على الحركة، ولا يجد من يناوله الماء، فهو كالعادم. قاله ابن أبي موسى.
وهو قول الحسن، لأنه لا سبيل له إلى الماء فأشبه من وجد بئرا ليس له ما يستقي به منها. وإن كان له من يناوله الماء قبل خروج الوقت، فهو كالواجد، لأنه بمنزلة ما يستقى به في الوقت. وإن خاف خروج الوقت قبل مجيئه. قال ابن أبي موسى: له التيمم ولا إعادة عليه. وهو قول الحسن، لأنه عادم في الوقت، فأشبه العادم مطلقا، ويحتمل أن ينتظر مجيء من يناوله، لأنه جاهز ينتظر حصول الماء قريبا، فأشبه المشتغل باستقاء الماء وتحصيله.

(1/410)


قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ «أو» بمعنى الواو، لأنها لو لم تكن كذلك، لكان وجوب الطّهارة على المريض والمسافر غير متعلق بالحدث. والغائِط: المكان المطمئن من الأرض، فكني عن الحدث بمكانه، قاله ابن قتيبة. وكذلك قالوا للمزادة: راوية، وإنما الرَّاوية للبعير الذي يُسقى عليه، وقالوا للنساء: ظعائن، وإِنما الظعائن: الهوادج، وكنَّ يكن فيها، وسموا الحدث عذرة، لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدّور.
قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «أو لامستم» بألف هاهنا، وفي (المائدة) وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف في اختياره، والمفضّل عن عاصم، والوليد بن عتبة، عن ابن عامر «أو لمستم» بغير ألف هاهنا، وفي «المائدة» .
وفي المراد بالملامسة قولان: أحدهما: أنها الجماع، قاله علي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنها الملامسة باليد، قاله ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي، وعبيدة، وعطاء، وابن سيرين، والنخعي، والنهدي، والحكم، وحماد. قال أبو علي: اللّمس يكون باليد، وقد اتسع فيه، فأوقع على غيره، فمن ذلك وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ «1» أي: عالجنا غيب السماء، ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة، ويخبرهم به. فلما كان اللّمس يقع على غير المباشرة باليد، قال: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ «2» فخصّ اليد، لئلا يلتبس بالوجه الآخر، كما قال: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ «3» لأنّ الابن قد يتبنّى وليس من الصّلب «4» .
__________
(1) سورة الجن: 8.
(2) سورة الأنعام: 7.
(3) سورة النساء: 33. [.....]
(4) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 256: المشهور من مذهب أحمد، رحمه الله، أن لمس النساء لشهوة ينقض الوضوء ولا ينقضه لغير شهوة وهذا قول علقمة، وأبي عبيدة، والنخعيّ، والحكم، وحمّاد، ومالك، والثوري، وإسحاق، والشعبي، فإنهم قالوا: يجب الوضوء على من قبل لشهوة، ولا يجب على من قبل لرحمة. وممن أوجب الوضوء ابن مسعود وابن عمر، والزهري والشافعي. قال أحمد: المدنيون والكوفيون ما زالوا يرون أن القبلة من اللمس تنقض الوضوء، حتى كان بأخرة وصار فيهم أبو حنيفة، فقالوا:
لا تنقض الوضوء. ويأخذون بحديث عروة ونرى أنه غلط. وعن أحمد، رواية ثانية، لا ينقض اللمس بحال.
وروي ذلك عن علي، وابن عباس وبه قال أبو حنيفة، إلا أن يطأها دون الفرج فينتشر فيها، لما روى حبيب عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل امرأة من نسائه، وخرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ. وهو حديث مشهور. ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد بهذا شرع ولا هو في معنى ما ورد الشرع به، وقوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أراد به الجماع، بدليل أن المس أريد به الجماع فكذلك اللمس، ولأنه ذكره بلفظ المفاعلة، والمفاعلة لا تكون من أقل من اثنين. وعن أحمد رواية ثالثة، أن اللمس ينقض بكل حال. وهو مذهب الشافعي، لعموم قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ وحقيقة اللمس ملاقاة البشرتين. وأما حديث القبلة فكل طرقه معلولة، قال يحيى بن سعيد: احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء. واللمس لغير شهوة لا ينقض، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمس زوجته في الصلاة وتمسّه. ولو كان ناقضا للوضوء لم يفعله، قالت عائشة: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصلّي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي. متفق عليه.
وفي حديث آخر: فإذا أراد أن يوتر مسني برجله. يحققه أن اللمس ليس بحدث في نفسه، وإنما نقض لأنه يفضي إلى خروج المذي أو المني فاعتبرت الحالة التي تقضي إلى الحدث فيها، وهي حالة الشهوة. ولا فرق بين الأجنبية وذات المحرم، والكبيرة والصغيرة. وقال الشافعي: لا ينقض لمس ذوات المحارم، ولا الصغيرة في أحد القولين، لأن لمسهما لا يفضي إلى خروج خارج، أشبه لمس الرجل الرجل. ولنا عموم النص، واللمس الناقض تعتبر فيه الشهوة، ومتى وجدت الشهوة فلا فرق بين الجميع. وسئل أحمد عن المرأة إذا مست زوجها؟ قال: ما سمعت فيه شيئا، ولكن هي شقيقة الرجل. يعجبني أن تتوضأ لأن المرأة أحد المشتركين في اللمس، فهي كالرجل. وينتقض وضوء الملموس إذا وجدت منه الشهوة، لأن ما ينتقض بالتقاء البشرتين لا فرق فيه بين اللامس والملموس. وفيه رواية أخرى: لا ينتقض وضوء المرأة ولا وضوء الملموس، وللشافعي قولان كالروايتين. ووجه عدم النقض أن النص إنما ورد بالنقض بملامسة النساء، فيتناول اللامس من الرجال، فيختص به النقض، كلمس الفرج. ولأن المرأة والملموس لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص، وإذا امتنع النص والقياس لم يثبت الدليل.

(1/411)


قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماء فَتَيَمَّمُوا.
(290) سبب نزولها: أن عائشة رضي الله عنها كانت مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره، فانقطع عقد لها، فأقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على التماسه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فنزلت هذه الآية، فقال أسيد بن حُضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. أخرجه البخاري، ومسلم.
(291) وفي رواية أخرى أخرجها البخاري، ومسلم أيضاً: أن عائشة استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجالاً في طلبها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء، وشكوا ذلك إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت آية التيمم.
والتيمم في اللغة: القصد، وقد ذكرناه في قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ. وأمّا الصعيد: فهو التراب، قاله علي، وابن مسعود، والفراء، وأبو عبيد، والزجاج، وابن قتيبة. وقال الشافعي: لا يقع اسم الصعيد إِلا على تراب ذي غبار. وفي الطيّب قولان: أحدهما: أنه الطاهر. والثاني: الحلال.
قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ الوجه الممسوح في التيمم هو المحدود في الوضوء.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 334 و 3672 و 4607 و 5250 و 6844 ومسلم 367 والنسائي 1/ 163- 164 وعبد الرزاق 880 والشافعي 1/ 43- 44 وأبو عوانة 1/ 302 وابن خزيمة 262 وابن حبان 1300 والبيهقي 1/ 223- 224. وأخرجه البخاري 4608 و 6845 والطبري 9641 والبيهقي 1/ 223 من طريق آخر. كلهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء- أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذي، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فَتَيَمَّمُوا. فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته. لفظ البخاري.
صحيح. أخرجه البخاري 336 و 4583 و 5164 و 5882 ومسلم 367 ح 109، وأبو داود 317 والنسائي 1/ 172 وابن ماجة 568 والحميدي 165 وابن حبان 1709 وأبو عوانة 1/ 303 والطبري 9640 والبيهقي 1/ 214 من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وانظر الحديث المتقدم.

(1/412)


وفيما يجب مسحه من الأيدي ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه إلى الكوعين حيث يقطع السارق.
(292) روى عمّار عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «التيمم ضربة للوجه والكفين» ، وبهذا قال سعيد بن المسيّب، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة، والأوزاعي، ومكحول، ومالك، وأحمد، وإِسحاق، وداود.
والثاني: أنه إِلى المرفقين.
(293) روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنه تيمم، فمسح ذراعيه. وبهذا قال ابن عمر، وابنه سالم، والحسن، وأبو حنيفة، والشافعي، وعن الشعبي كالقولين.
والثالث: أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إِلى الآباط.
(294) روى عمار بن ياسر قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر، فنزلت الرّخصة في المسح،
__________
صحيح. أخرجه أحمد 4/ 263 من طريق يونس وعفان قال: حدثنا أبان حدثنا قتادة عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار بن ياسر: «أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم- قال يونس: إنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن التيمم؟ - فقال: ضربة للكفين والوجه- قال عفان: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في التيمم: ضربة للوجه والكفين» .
وأخرجه البخاري 339- 343 ومسلم 368 ح 112 و 113 وأبو داود 326 والنسائي 1/ 169 و 170 وابن ماجة 569 والطيالسي 1/ 63 وأحمد 4/ 265 و 320 وأبو عوانة 1/ 306 والطحاوي في «المعاني» 1/ 112 والدارقطني 1/ 183 وابن الجارود 125 والبيهقي 1/ 209 و 214 و 216 من طرق عن شعبه به، وبعضهم رواه مختصرا. وأخرجه أبو داود 322 والنسائي 1/ 168 والطحاوي 1/ 113 والبيهقي 1/ 210 من طريق أبي مالك عن عبد الرحمن بن أبزى به. وأخرجه أبو داود 323 وابن أبي شيبة 1/ 159 وأبو عوانة 1/ 305 وابن خزيمة 269 والطحاوي 1/ 112 والدارقطني من طرق عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه به. قال عمار: «فضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه» لفظ البخاري.
وحديث عمار ورد من طرق كثيرة.
وقد أخرج البخاري 347 ومسلم 368 ح 110 وأبو داود 321 والنسائي 1/ 170 وابن أبي شيبة 1/ 158 و 159 وأحمد 4/ 396 و 264 وابن حبان 1304 و 1305 والدارقطني 1/ 179 و 180 من طريق الأعمش عن شقيق بن سلمة قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن الرجل يجنب فلا يجد الماء أيصلي؟ فقال: لا، فقال: أما تذكر قول عمار لعمر: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرّغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا» فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بها وجهه؟. فقال عبد الله: ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار.
أخرجه الدارقطني 1/ 177 وإسناده لين لأجل محمد بن ثابت العبدي. وورد من حديث أبي الجهيم، أخرجه الدارقطني 1/ 176، وإسناده ضعيف لضعف أبي صالح كاتب الليث، والصحيح في حديث أبي الجهيم ذكر «ويديه» بدل «ذراعيه» كذا رواه البخاري 337 ومسلم 369 وغيرهما.
أخرجه أبو داود 318 و 319 والنسائي 1/ 168 وابن ماجة 571 والشافعي 1/ 44 وعبد الرزاق 827 وأحمد 4/ 320 و 321 وابن حبان 1310 والبيهقي في «السنن» 1/ 208 والطحاوي في «شرح معاني الآثار» 1/ 110 من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن عمار بن ياسر. قال الزيلعي في «نصب الراية» 1/ 155: وهو منقطع، فإن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لم يدرك عمار بن ياسر. وأخرجه أبو داود 320 والطحاوي 1/ 111 والبيهقي 1/ 208 عن ابن عباس عن عمار، وذكره الطيالسي 1/ 63 من طريق الزهري به.
وقال البغوي في «شرح السنة» 2/ 114: وما روي عن عمار أنه قال: تيممنا إلى المناكب، فهو حكاية فعله ولم ينقله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما حكى عن نفسه التمعك في حال الجنابة، فلما سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمره بالوجه والكفين، انتهى إليه، وأعرض عن فعله. وفي «نصب الراية» 1/ 156 نقلا عن الأثرم في هذا الحديث: إنما حكى فيه فعلهم دون النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما حكى في الآخر أنه أجنب، فعلمه عليه السلام. قال ابن حجر: إن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار «الفتح» 1/ 444.

(1/413)


فضربنا بأيدينا ضربةً لوجوهنا، وضربةً لأيدينا إِلى المناكب والآباط. وهذا قول الزهري «1» .
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قال الخطابي: «العفو» : بناء للمبالغة. و «العفو» : الصفح عن الذنوب، وترك مجازاة المسيء. وقيل: إِنه مأخوذ من عفت الريح الأثر: إِذا درسته، وكأن العافي عن الذنوب يمحوه بصفحه عنه.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 328: ولا خلاف في وجوب مسح الوجه والكفين لقول الله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ويجب مسح جميعها، واستيعاب ما يأتي عليه الماء منها، لا يسقط إلا المضمضة والاستنشاق، وما تحت الشعور الخفيفة وبهذا قال الشافعي ولنا قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ الباء زائدة فيجب تعميمها فيضرب ضربة واحدة، فيمسح وجهه بباطن أصابع يديه، وظاهر كفيه إلى الكوعين بباطن راحتيه ويستحب أن يمسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل بين الأصابع، وليس بفرض وإن تيمم بضربتين للوجه واليدين إلى المرفقين فإنه يمسح بالأولى وجهه ويمسح بالثانية يديه فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى، ويمرّها على ظهر الكفّ، فإذا بلغ الكوع قبض أصابعه على حرف الذراع ويمرّها إلى مرفقه، ثم يدير بطن الكف إلى بطن الذراع ويمرها عليه، ويرفع إبهامه، فإذا بلغ الكوع أمر الإبهام على ظهر إبهام يده اليمنى ويمسح بيده اليمنى يده اليسرى كذلك. ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى. ويجب مسح اليدين إلى الموضع الذي يقطع منه السارق، أومأ أحمد إلى هذا لما سئل عن التيمم، فأومأ إلى كفه ولم يجاوزه. وقال: قال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما من أين تقطع يد السارق؟ أليس من هاهنا؟ وأشار إلى الرسغ. والجريح والمريض إذا أمكنه غسل بعض جسده دون بعض لزمه ما غسل ما أمكنه وتيمم للباقي وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة، ومالك: إن كان أكثر بدنه صحيحا غسله، ولا يتيمم. وإن كان أكثره جريحا تيمم ولا غسل عليه، لأن الجمع بين المبدل والبدل لا يجب ولنا ما روى جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا شجة في وجهه، ثم احتلم فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر بذلك، فقال: «قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا، إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ثم يغسل سائر جسده» . ولأن كل جزء من الجسد يجب تطهيره بشيء إذا استوى الجسم كله في المرض أو الصحة. فيجب ذلك فيه وإن خالفه غيره. وما لا يمكن غسله في الصحيح إلا بانتشار الماء إلى الجريح، حكمه حكم الجريح فإن لم يمكنه ضبطه، وقدر أن يستنيب من يضبطه، لزمه ذلك، فإن عجز عن ذلك تيمم وصلى وأجزأه. وإذا كان الجريح جنبا، فهو مخير، إن شاء قدّم التيمم على الغسل، وإن شاء أخره، بخلاف ما إذا كان التيمم لعدم ما يكفيه لجميع أعضائه، فإنه يلزمه استعمال الماء أولا، لأن التيمم للعدم، لا يتحقق إلا بعد فراغ الماء. وإن كان الجريح يتطهر للحدث الأصغر، فذكر القاضي أنه يلزمه الترتيب فيجعل التيمم في مكان الغسل الذي يتيمم بدلا عنه. فإن كان الجرح في بعض وجهه خيّر بين غسل صحيح وجهه ثم تيمم- أو العكس- وإن كان الجرح في عضو آخر، لزمه غسل ما قبله، واحتاج كل عضو إلى تيمم في محل غسله، ليحصل الترتيب.

(1/414)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)

[سورة النساء (4) : آية 44]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت.
(295) والثاني: أنها نزلت في رجلين كانا إذا تكلّم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لويا ألسنتهما وعاباه، روي القولان عن ابن عباس. والثالث: أنها نزلت في اليهود، قاله قتادة.
وفي النصيب الذي أوتوه قولان: أحدهما: أنه علم نبوّة محمّد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: العلم بما في كتابهم دون العمل.
قوله تعالى: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ قال ابن قتيبة: هذا من الاختصار، والمعنى: يشترون الضلالة بالهدى، ومثله وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ «1» أي: تركنا عليه ثناءً حسناً، فحذف الثناء لعلم المخاطب. وفي معنى اشترائِهم الضلالة أربعة أقوال: أحدها: أنه استبدالهم الضلالة بالايمان، قاله أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: أنه استبدالهم التكذيب بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره، قاله مقاتل.
والثالث: أنه إِيثارهم التكذيب بالنبي لأخذ الرشوة، وثبوت الرئاسة لهم، قاله الزجاج. والرابع: أنه إِعطاؤهم أحبارهم أموالهم على ما يصنعونه من التكذيب بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا خطاب للمؤمنين. والمراد بالسّبيل: طريق الهدى.

[سورة النساء (4) : آية 45]
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45)
قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ فهو يعلمكم ما هم عليه، فلا تستنصحوهم، وهم اليهود، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا لكم، فمن كان وليه، لم يضره عدوه. قال الخطابي: «الولي» : الناصر، و «الولي» :
المتولي للأمر، والقائم به، وأصله من الولي، وهو القرب، و «النصير» : فعيل بمعنى فاعل.

[سورة النساء (4) : آية 46]
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا قال مقاتل: نزلت في رفاعة بن زيد، ومالك ابن الضَّيف، وكعب بن أسيد، وكلهم يهود. وفي «من» قولان، ذكرهما الزجاج:
أحدهما: أنها من صلة الذين أوتوا الكتاب، فيكون المعنى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا. والثاني: أنها مستأنفة، فالمعنى: من الذين هادوا قوم يحرّفون، فيكون قوله:
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 9694 عن ابن عباس بإسناد ضعيف، فيه محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق، وهو مجهول.
__________
(1) سورة الصافات: 78.

(1/415)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)

يحرّفون، صفة، ويكون الموصوف محذوفاً، وأنشد سيبويه:
وَمَا الدَّهر إِلاَّ تَارَتانِ فمِنْهما ... أموتُ وأُخرى أبتغي العيشَ أكْدَحُ «1»
والمعنى: فمنهما تارة أموت فيها. قال أبو علي الفارسي: والمعنى: وكفى بالله نصيراً من الذين هادوا، أي: إن الله ينصر عليهم.
فأما «التحريف» ، فهو التغيير. والْكَلِمَ: جمع كلمة. وقيل: إِن «الكلام» مأخوذ من «الكلْم» ، وهو الجرحُ الذي يشق الجلد واللحم، فسمي الكلام كلاماً، لأنه يشق الأسماع بوصوله إِليها، وقيل: بل لتشقيقه المعاني المطلوبة في أنواع الخطاب.
وفي معنى تحريفهم الكلم قولان: أحدهما: أنهم كانوا يسألون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الشيء، فإذا خرجوا، حرفوا كلامه، قاله ابن عباس. والثاني: أنه تبديلهم التوراة، قاله مجاهد.
قوله تعالى: عَنْ مَواضِعِهِ، أي: عن أماكنه ووجوهه.
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا قال مجاهد: سمعنا قولك، وعصينا أمرك.
قوله تعالى: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: اسمع لا سمعت، قاله ابن عباس، وابن زيد، وابن قتيبة. والثاني: أن معناه: اسمع غير مقبول ما تقول، قاله الحسن، ومجاهد.
وقد تقدم في (البقرة) معنى: وراعنا.
قوله تعالى: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ قال قتادة: «اللي» : تحريك ألسنتهم بذلك. وقال ابن قتيبة معنى «لياً بألسنتهم» : أنهم يحرفون «راعنا» عن طريق المراعاة، والانتظار إلى السّبّ والرّعونة. قال ابن عباس:
لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مما بدّلوا وَأَقْوَمَ أي أعدل وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ بمحمد.
قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا فيه قولان: أحدهما: فلا يؤمن منهم إِلا قليل، وهم عبد الله بن سلام، ومن تبعه، قاله ابن عباس. والثاني: فلا يؤمنون إِلا إيماناً قليلاً، قاله قتادة، والزجاج. قال مقاتل: وهو اعتقادهم أن الله خلقهم ورزقهم.

[سورة النساء (4) : آية 47]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا سبب نزولها:
(296) أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا قوماً من أحبار اليهود، منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد إلى الإِسلام، وقال لهم: إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق، فقالوا: ما نعرف ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 9729 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 534 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد. وانظر «تفسير القرطبي» 2270 بتخريجنا.
__________
(1) البيت لتميم بن مقبل كما في «الكامل» 3/ 908 و «اللسان» مادة- كدح- والكدح: الاكتساب بمشقة.

(1/416)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)

وفي الذين أوتوا الكتاب قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله الجمهور. والثاني: اليهود والنصارى، ذكره الماوردي. وعلى الأول يكون الكتاب: التوراة، وعلى الثاني: التوراة والإنجيل.
والمراد بما نزلنا: القرآن، وقد سبق في (البقرة) بيان تصديقه لما معهم.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً في طمس الوجوه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إِعماء العيون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. والثاني: أنه طمس ما فيها من عين، وأنف، وحاجب، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، واختيار ابن قتيبة. والثالث: أنه ردّها عن طريق الهدى، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، ومجاهد، والضحاك، والسدي. وقال مقاتل: من قبل أن نطمس وجوهاً، أي:
نحوّل الملّة عن الهدى والبصيرة. فعلى هذا القول يكون ذكر الوجه مجازاً. والمراد: البصيرة والقلوب. وعلى القولين قبله يكون المراد بالوجه: العضو المعروف.
قوله تعالى: فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها خمسة أقوال: أحدها: نُصيِّرُها في الأقفاء، ونجعل عيونها في الأقفاء، هذا قول ابن عباس، وعطيّة. والثاني: نُصيِّرُها كالأقفاء، ليس فيها فم، ولا حاجب، ولا عين، وهذا قول قوم، منهم ابن قتيبة. والثالث: نجعل الوجه منبتاً للشعر، كالقرود، هذا قول الفراء.
والرابع: نَنفيها مدبرة عن ديارها ومواضعها. وإِلى نحوه ذهب ابن زيد. قال ابن جرير: فيكون المعنى:
من قبل أن نطمسَ وجوهَهم التي هم فيها. وناحيتهم التي هم بها نزول، (فنردها على أدبارها) من حيث جاءوا بديّاً «1» من الشام. والخامس: نردها في الضلالة، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل.
قوله تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ يعود إلى أصحاب الوجوه. وفي معنى لعن أصحاب السّبت قولان:
أحدهما: مسخهم قردة، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل. والثاني: طردهم في التيه حتى هلك فيه أكثرهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا قال ابن جرير: الأمر هاهنا بمعنى المأمور، سُمِّي باسم الأمر لحدوثه عنه.

[سورة النساء (4) : آية 48]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (297) قال ابن عمر: لما نزلت
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 9735 و 9736 من طريقين عن ابن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع قال:
أخبرني مخبر عن ابن عمر.... فذكره، وإسناده ضعيف، وله علتان: جهالة المخبر للربيع بن أنس، فهذه علة، والثانية: ضعف أبي جعفر الرازي واسمه عيسى ابن أبي عيسى. وسيأتي في سورة الزمر تمام البحث.
__________
(1) في «اللسان» ومن كلام العرب بادي بدي بهذا المعنى إلا أنه لم يهمز الجوهري: افعل ذلك بادي بد وبادي بديّ أي أولا، قال وأصله الهمز وإنما ترك لكثرة الاستعمال.

(1/417)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)

يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً «1» قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والشّرك؟ فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، فنزلت هذه. وقد سبق معنى الإِشراك.
والمراد من الآية: لا يغفر لمشرك مات على شركه. وفي قوله تعالى: لِمَنْ يَشاءُ نعمة عظيمة من وجهين: أحدهما: أنها تقتضي أن كل ميّت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب، وإِن مات مصراً. والثاني: أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين، وهو أن يكونوا على خوف وطمع.

[سورة النساء (4) : آية 49]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ.
(298) سبب نزولها: أن مرحب بن زيد، وبحري بن عون- وهما من اليهود، أتيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأطفالهما، ومعهما طائفة من اليهود فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ قال: لا، قالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إِلا كُفِّر عنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنا بالنهار، فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس.
وفي قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ قولان: أحدهما: ألم تُخبر، قاله ابن قتيبة. والثاني: ألم تعلم، قاله الزجاج. وفي الذين يزكون أنفسهم قولان: أحدهما: اليهود على ما ذكرنا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أنهم اليهود، والنصارى، وبه قال الحسن، وابن زيد. ومعنى «يزكون أنفسهم» : يزعمون أنهم أزكياء، يقال: زكى الشيء: إِذا نما في الصلاح. وفي الذي زكّوا به أنفسهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم برَّؤوا أنفسهم من الذنوب، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: أن اليهود قالوا: إِن أبناءنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله، ويشفعون لنا، رواه عطية، عن ابن عباس. والثالث: أن اليهود كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم، هذا قول عكرمة، ومجاهد، وأبي مالك. والرابع: أن اليهود والنصارى قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «2» وقالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «3» ، هذا قول الحسن، وقتادة.
قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي: يجعله زاكياً، ولا يظلم الله أحداً مقدار فتيل قال ابن جرير: وأصل «الفتيل» : المفتول، صُرف عن مفعول إلى فعيل، كصريع، ودهين.
وفي الفتيل قولان: أحدهما: أنه ما يكون في شقّ النواة، رواه عكرمة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك، وقتادة، وعطية، وابن زيد، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه ما يخرج بين الأصابع من الوسخ إِذا دلكن، رواه العوفي، عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو مالك، والسّدّيّ، والفرّاء.
__________
هذا الخبر ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 319 عن الكلبي بلا سند، والكلبي متهم بالكذب.
وعزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 520 للثعلبي عن الكلبي فالخبر واه بمرة، ليس بشيء.
__________
(1) سورة الزمر: 53.
(2) سورة المائدة: 18.
(3) سورة البقرة: 111.

(1/418)


انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)

[سورة النساء (4) : آية 50]
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)
قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهو قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقولهم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وقولهم: لا ذنب لنا ونحو ذلك مما كذّبوا فيه، وَكَفى بِهِ أي: وحسبُهم بقيلهم الكذب إِثْماً مُبِيناً يتبيّن كذبهم لسامعيه.

[سورة النساء (4) : آية 51]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدُها: أن جماعة من اليهود قدموا على قريش، فسألوهم: أديننا خيرٌ، أم دين محمد؟ فقال اليهود: بل دينكم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
(299) والثاني: أن كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، قدما مكة، فقالت لهما قريش: أنحن خيرٌ، أم محمدٌ؟ فقالا: أنتم، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة في روايةٍ. وقال قتادة: نزلت في كعب، وحيي، ورجلين آخرين من بني النضير قالوا لقريش: أنتم أهدى من محمد.
والثالث: أن كعب بن الأشرف وهو الذي قال لكفار قريش: أنتم أهدى من محمد، فنزلت هذه الآية. وهذا قول مجاهد، والسدي، وعكرمة في رواية.
والرابع: أن حيي بن أخطب قال للمشركين: نحن وإِياكم خيرٌ من محمد، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن زيد. والمراد بالمذكورين في هذه الآية اليهود.
وفي «الجبت» سبعة أقوال: أحدها: أنه السّحر، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد، والشعبي.
والثاني: الأصنام، رواه عطية، عن ابن عباس. وقال عكرمة: الجبت: صنم. والثالث: حيي بن أخطب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء. والرابع: كعب بن الأشرف، رواه الضحاك، عن ابن عباس، وليث عن مجاهد. والخامس: الكاهن، روي عن ابن عباس، وبه قال ابن سيرين، ومكحول. والسادس: الشيطان، قاله سعيد بن جبير في رواية، وقتادة، والسدي.
والسابع: الساحر، قاله أبو العالية، وابن زيد. وروى أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: الجبت:
الساحرُ بلسان الحبشة.
وفي المراد بالطاغوت ها هنا ستة أقوال: أحدها: الشيطان، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد في رواية، والشعبي، وابن زيد. والثاني: أنه اسم للذين يكونون بين يدي الأصنام يعبّرون عنها ليضلوا الناس، رواه العوفي، عن ابن عباس. والثالث: كعب بن الأشرف، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء. والرابع: الكاهن، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو العالية، وقتادة، والسدي. والخامس: أنه الصنم، قاله عكرمة. وقال: الجبت والطاغوت صنمان. والسادس: السّاحر،
__________
أخرجه الطبري 9794 عن عكرمة مرسلا. وأخرج الطبري 9791 عن ابن عباس مختصرا، وعن السدي مرسلا أخرجه الطبري 9795 بنحوه، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم.

(1/419)


أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)

روي عن ابن عباس، وابن سيرين، ومكحول. فهذه الأقوال تدل على أنهما اسمان لمسميين. وقال اللغويون منهم ابن قتيبة، والزجاج: كل معبود من دون الله، من حجر، أو صورة، أو شيطان، فهو جبت وطاغوت «1» .
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني لمشركي قريش: أنتم أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، يعنون النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه سَبِيلًا في الدّيانة والاعتقاد.

[سورة النساء (4) : الآيات 52 الى 53]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ هذا استفهام معناه الإِنكار، فالتقدير: ليس لهم. وقال الفراء: قوله فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً جوابٌ لجزاء مضمرٍ، تقديره: ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس نقيراً. وفي «النقير» أربعة أقوال: أحدها: أنه النقطة التي في ظهر النواة، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن زيد، ومقاتل، والفرّاء، وابن قتيبة في آخرين. والثاني: أنه القشر الذي يكون في وسط النواة، رواه التيمي، عن ابن عباس. وروي عن مجاهد: أنه الخيط الذي يكون في وسط النواة. والثالث: أنه نقر الرجل الشيء بطرف إِبهامه، رواه أبو العالية، عن ابن عباس. والرابع: أنه حبّة النواة التي في وسطها، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد. قال الأزهري: و «الفتيل» و «النقير» و «القطمير» : تضرب أمثالا للشيء التّافه الحقير.

[سورة النساء (4) : آية 54]
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54)
قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ.
(300) سبب نزولها: أن أهل الكتاب قالوا: يزعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، فأيُّ ملك أفضل من هذا، فنزلت، رواه العوفي، عن ابن عباس.
وفي «أم» قولان: أحدهما: أنها بمعنى ألف الاستفهام، قاله ابن قتيبة. والثاني: بمعنى «بل» قاله
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 9828 عن ابن عباس وإسناده واه، فيه عطية العوفي ضعيف، وعنه مجاهيل.
وورد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 9830.
__________
(1) قال الإمام القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 239: وقول مالك في هذا الباب حسن. وروى ابن وهب عن مالك بن أنس: الطاغوت ما عبد من دون الله. وقيل: هما كل معبود من دون الله، أو مطاع في معصية وهذا حسن. يدل عليه قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] وقال تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر: 17] وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطرق والطيرة والعيافة من الجبت» الطّرق: الزجر، والعيافة: الخط، خرجه أبو داود في سننه، وقيل: الجبت كل ما حرّم الله والطاغوت كل ما يطغى الإنسان. والله أعلم.

(1/420)


فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)

الزجاج. وقد سبق ذكر «الحسد» في (سورة البقرة) والحاسدون هاهنا: اليهود. وفي المراد بالناس ها هنا أربعة أقوال: أحدها: النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي ومقاتل. والثاني: النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر، وعمر، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والثالث: العرب، قاله قتادة. والرابع: النبي والصحابة، ذكره الماوردي. وفي الذي آتاهم الله من فضله ثلاثة أقوال: أحدها: إِباحة الله تعالى نبيه أن ينكح ما شاء من النساء من غير عدد، روي عن ابن عباس، والضحاك، والسدي. والثاني: أنه النبوّة، قاله ابن جريج، والزجاج. والثالث: بعثة نبي منهم على قول من قال: هم العرب «1» .
قوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ يعني: التوراة، والإِنجيل، والزبور. كله كان في آل إِبراهيم، وهذا النبي من أولاد إِبراهيم. وفي الحكمة قولان: أحدهما: النبوة، قاله السدي، ومقاتل.
والثاني: الفقه في الدين، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي الملك العظيم خمسة أقوال «2» : أحدها: ملك سليمان، رواه عطيّة، عن ابن عباس. والثاني: ملك داود، وسليمان في النساء، كان لداود مائة امرأة، ولسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سريّة «3» ، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السدّي. والثالث:
النبوّة، قاله مجاهد. والرابع: التأييد بالملائكة، قاله ابن زيد في آخرين. الخامس: الجمع بين سياسة الدنيا، وشرع الدين، ذكره الماورديّ.

[سورة النساء (4) : آية 55]
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)
قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ فيمن تعود عليه الهاء والميم قولان:
أحدهما: اليهود الذين أنذرهم نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول مجاهد، ومقاتل، والفراء في آخرين.
فعلى هذا القول في هاء بِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: تعود على ما أنزل الله على نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد: قال أبو سليمان: فيكون الكلام مبنيا على قوله تعالى: عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو النبوة، والقرآن. والثاني: أنها تعود إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتكون متعلقة بقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعني بالناس: محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، ويكون المراد بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ عبد الله بن سلام، وأصحابه.
والثالث: أنها تعود إلى النَّبأِ عن آل إِبراهيم، قاله الفرّاء.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 142: وأولى القولين في ذلك بالصواب هو قول قتادة، وابن جريج الذي ذكر: أن معنى الفضل في هذا الموضع: النبوة التي فضل الله بها محمدا، وشرّف بها العرب، إذ آتاها رجلا منهم دون غيرهم. وليس النكاح وتزويج النساء، وإن كان من فضل الله عز وجل الذي آتاه عباده، بتقريظ لهم ومدح.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 144: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، القول الذي روي عن ابن عباس أنه قال: «يعني ملك سليمان» . لأن ذلك معروف من كلام العرب ولأن كلام الله الذي خوطب به العرب، غير جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه، إلا أن تأتي دلالة أو تقوم حجة على أن ذلك بخلاف ذلك، يجب التسليم بها.
(3) أبو صالح واه، روى عنه الكلبي عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، والذي صح في سليمان أن له مائة امرأة كذا أخرجه البخاري 3424 ومسلم 1654.

(1/421)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)

والقول الثاني: أن الهاء، والميم في قوله فَمِنْهُمْ تعود إِلى آل إِبراهيم، فعلى هذا في هاء بِهِ قولان: أحدهما: أنها عائدة إِلى إِبراهيم، قاله السدي. والثاني: إِلى الكتاب، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير، وعكرمة، وابن يعمر، والجحدري: «من صُدّ عنه» برفع الصاد. وقرأ أُبيُّ بنُ كعبٍ، وأبو الجوزاء وأبو رجاء والجوني:
بكسر الصاد.

[سورة النساء (4) : آية 56]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)
قوله تعالى: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً قال الزجاج: أي نشويهم في نارٍ.
(301) ويروى أن يهوديّة أهدت إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم شاة مصليّة، أي مشوية.
وفي قوله تعالى بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها قولان: أحدهما: أنها غيرها حقيقة، ولا يلزم على هذا أن يقال: كيف بُدلت جلود التذت بالمعاصي بجلود ما التذت، لأن الجلود آلة في إيصال العذاب إِليهم، كما كانت آلة في إيصال اللذّة، وهم المعاقبون لا الجلود. والثاني: أنها هي بعينها تعاد بعد احتراقها، كما تعاد بعد البلى في القبور. فتكون الغيرية عائدة إِلى الصفة، لا إِلى الذات، فالمعنى: بدلناهم جلوداً غير محترقة، كما تقول: صُغت من خاتمي خاتما آخر. وقال الحسن البصري: في هذه الآية: تأكلهم النارُ كل يوم سبعين ألف مرّة، كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا، فعادوا.

[سورة النساء (4) : آية 57]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
قوله تعالى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قال الزجاج: هو الذي يُظلُّ من الحرّ والريح، وليس كلُّ ظلٍّ كذلك، فأعلم الله تعالى أن ظل الجنة ظليل لا حرّ معه، ولا برد. فان قيل: أفي الجنة برد أو حر يحتاجون معه إلى ظل؟ فالجواب: أن لا، وإنما خاطبهم بما يعقلون مثله، كقوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «1» . وجواب آخر: وهو أنه إِشارة إِلى كمال وصفها، وتمكين بنائِها، فلو كان البرد أو الحرّ يتسلط عليها، لكان في أبنيتها وشجرها ظلّ ظليل.
__________
لم أره بهذا اللفظ. وحديث اليهودية، أخرجه البخاري 2617 عن أنس، أن يهودية أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم بشاة مسمومة فأكل منها ... وأخرجه البخاري 4229 من حديث أبي هريرة. وليس فيه اللفظ المذكور عند المصنف. وانظر «فتح الباري» 5/ 231 و 7/ 497. وورد في حديث موقوف، أخرجه الترمذي 686 وابن حبان 3585 عن صلة بن زفر قال: كنا عند عمار بن ياسر، فأتي بشاة مصلية، فقال كلوا، فتنحى بعض القوم، وقال: إني صائم، فقال عمار: من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم، إسناده صحيح.
__________
(1) سورة مريم: 62.

(1/422)


إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

[سورة النساء (4) : آية 58]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(302) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما فتح مكة، طلب مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة، فذهب ليعطيه إِياه، فقال العباس: بأبي أنت وأُمّي اجمعه لي مع السقاية، فكفّ عثمان يده مخافة أن يعطيه للعباس، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هات المفتاح» فأعاد العباس قوله، وكفّ عثمان، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله وباليوم الآخر» فقال: هاكَه يا رسول الله بأمانة الله، فأخذ المفتاح، ففتح البيت، فنزل جبريل بهذه الآية، فدعا عثمان، فدفعه إِليه. رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والزهري، وابن جريج، ومقاتل.
والثاني: أنها نزلت في الأمراء. رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال زيد بن أسلم، وابنه، ومكحول، واختاره أبو سليمان الدمشقي، وقال: أُمر الأمراء أن يؤدوا الأمانة في أموال المسلمين. والثالث: أنها نزلت عامة، وهو مروي عن أبي بن كعب، وابن عباس، والحسن، وقتادة، واختاره القاضي أبو يعلى. واعلم أن نزولها على سبب لا يمنع عموم حكمها، فإنها عامة في الودائع وغيرها من الأمانات. وقال ابن مسعود: الأمانة في الوضوء، وفي الصلاة، وفي الصوم، وفي الحديث، وأشد ذلك في الودائِع.
قوله تعالى: نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ يقول: نعم الشيء يعظكم به، وقد ذكرناه في (البقرة) .

[سورة النساء (4) : آية 59]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في سبب نزولها قولان:
(303) أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس السّهمي إِذ بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم في سريّة، أخرجه البخاري، ومسلم، من حديث ابن عباس.
__________
أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح وفيه الكلبي ضعيف جدا. ومثله لا يحتج به، وذكره الواحدي في «الوسيط» 2/ 69- 70 وفي «الأسباب» 323 بدون إسناد، ودون اللفظ المرفوع.
وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 523: ذكره الثعلبي، ثم البغوي بغير إسناد.
وخبر إعطاء المفتاح لعثمان ورد من وجوه، والوهن في هذا الخبر بذكر نزول الآية. وانظر «تفسير ابن كثير» 1/ 530 و «الدر» 2/ 312.
صحيح. أخرجه البخاري 4584 ومسلم 1834 والترمذي 1672 والنسائي في «التفسير» 129 وأحمد 1/ 337 وابن الجارود 1040 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 311 عن ابن عباس به. وانظر كلام الحافظ في «فتح الباري» 8/ 245 حول هذا الخبر.
- ولعبد الله بن حذافة قصة معروفة أخرجها أحمد 3/ 67 وابن ماجة 2863 وأبو يعلى 1349 وابن حبان 4558 من حديث أبي سعيد وإسناده حسن، لأجل محمد بن عمرو، وصححه البوصيري في الزوائد 183 أن أبا سعيد الخدري قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علقمة بن محرز على بعث أنا فيهم، حتى انتهينا إلى رأس غزاتنا أو كنا ببعض الطريق، أذن لطائفة من الجيش وأمر عليهم عبد الله بن حُذافة بن قيس السّهمي وكان من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة- يعني مزاحا- وكنت ممن رجع معه، فنزلنا ببعض الطريق قال: وأوقد القوم نارا ليصنعوا عليها صنيعا لهم أو يصطلون، قال: فقال لهم: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى، قال: فما أنا بآمركم بشيء إن صنعتموه؟ قالوا بلى، قال: أعزم عليكم بحقي وطاعتي لما تواثبتم في هذه النار، فقام ناس فتحجزوا حتى إذا ظن أنهم واثبون، قال: احبسوا أنفسكم، فإنما كنت أضحك معكم، فذكروا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن قدموا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أمركم بمعصية فلا تطيعوه» لفظ أحمد. وانظر «تفسير القرطبي» 2292 و «الشوكاني» 673 بتخريجنا.

(1/423)


(304) والثاني: أن عمّار بن ياسر كان مع خالد بن الوليد في سريّة، فهرب القوم، ودخل رجلٌ منهم على عمار، فقال: إِني قد أسلمتُ، هل ينفعني، أو أذهب كما ذهب قومي؟ قال عمار: أقم فأنت آمن، فرجع الرجل، وأقام فجاء خالد، فأخذ الرجل، فقال عمّار: إِني قد أمنته، وإِنه قد أسلم، قال: أتجير علي وأنا الأمير؟ فتنازعا، وقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ طاعة الرسول في حياته: امتثال أمره، واجتناب نهيه، وبعد مماته:
اتباع سُنّته. وفي أولي الأمر أربعة أقوال: أحدها: أنهم الأمراء، قاله أبو هريرة، وابن عباس في رواية، وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل. والثاني: أنهم العلماء، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول جابر بن عبد الله والحسن وأبي العالية وعطاء والنخعي والضحاك، ورواه خصيف عن مجاهد.
والثالث: أنهم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال بكر بن عبد الله المزني.
والرابع: أنهم أبو بكر وعمر، وهذا قول عكرمة «1» .
قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ قال الزجاج: معناه: اختلفتم. وقال كل فريق: القول قولي.
واشتقاق المنازعة: أن كل واحد ينتزع الحجة.
قوله تعالى: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ في كيفيّة هذا الرد قولان: أحدهما: أن ردّه إلى الله ردّه إلى كتابه، ورده إِلى النبي رده إلى سنّته، هذا قول مجاهد، وقتادة، والجمهور. قال القاضي أبو يعلى:
وهذا الرّد يكون من وجهين: أحدهما: إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه. والثاني: الرّد إِليهما من جهة الدلالة عليه، واعتباره من طريق القياس، والنظائر. والقول الثاني: أن ردّه إلى الله ورسوله أن يقول من لا يعلم الشيء: الله ورسوله أعلم، ذكره قومٌ، منهم الزجّاج.
__________
ضعيف. أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 530 من طريق الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس. والحكم بن ظهير متروك الحديث وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس. واسم أبي صالح باذام. وأخرجه الطبري 9866 عن السدي وهذا معضل، ومع ذلك فالسدي متكلم فيه إذا وصل الحديث فكيف إذا رواه معضلا. وخبر خالد وعمار في الصحيح بغير هذا السياق، وليس فيه ذكر نزول الآية.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 153: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة. [.....]

(1/424)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)

وفي المراد بالتأويل أربعة أقوال: أحدها: أنه الجزاء، والثواب، وهو قول مجاهد، وقتادة.
والثاني: أنه العاقبة، وهو قول السدي، وابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج. والثالث: أنه التصديق، مثل قوله تعالى: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ. قاله ابن زيد في رواية. والرابع: أن معناه: ردّكم إِياه إلى الله ورسوله أحسن من تأويلكم، ذكره الزجّاج «1» .

[سورة النساء (4) : آية 60]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا في سبب نزولها أربعة أقوال:
(305) أحدها: أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي:
انطلق بنا إِلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، فأتيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقضى لليهودي، فلمّا خرجا، قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إِلَيه، فقصّا عليه القصّة، فقال: رويداً حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، فاشتمل على السيف، ثم خرج، فضرب به المنافق حتى برد «2» ، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 331 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بدون إسناد، والكلبي متروك متهم. وكذا ذكره السيوطي في «الدر» 2/ 320 ونسبه للثعلبي من حديث ابن عباس.
- وأخرجه الطبري 9900 عن قتادة مرسلا بنحوه دون ذكر عجزه، أي دون ذكر عمر بن الخطاب وفعله.
- وورد بنحوه عن عتبة بن ضمرة مرسلا كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية. وكذا ذكره السيوطي في «الدر» 2/ 322 عن عتبة بن ضمرة ونسبه للحافظ دحيم في «تفسيره» . وأخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود مرسلا كما في «الدر» 2/ 322 وقال الحافظ ابن كثير 1/ 533: وهذا مرسل غريب. وكذا أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» عن مكحول مرسلا كما في «الدر» 2/ 323.
الخلاصة: أما قتل عمر للمنافق فهو ضعيف، وأما أصل التحاكم من غير ذكر عمر وما بعده، فله شواهد تعضده، راجع تفصيل ذلك في «أحكام القرآن» لابن العربي 515 بتخريجي. وانظر الآتي.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله 1/ 530- 531: وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال الله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10] ، فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ولهذا قال تعالى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فدل على أن من لا يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر. وقوله: ذلِكَ خَيْرٌ أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والرجوع في فصل النزاع إليهما خير وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي: وأحسن عاقبة ومآلا، كما قاله السدي وغير واحد، وقال مجاهد: وأحسن جزاء وهو قريب.
(2) حتى برد: أي حتى مات.

(1/425)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)

(306) والثاني: أنّ أبا برزة»
الأسلمي كان كاهناً يقضي بين اليهود، فتنافر إليه ناس من المسلمين فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة، عن ابن عباس.
(307) والثالث: أن يهودياً ومنافقاً كانت بينهما خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي، لأنه لا يأخذ الرشوة، ودعا المنافق إلى حكامهم، لأنهم يأخذُون الرشوة، فلما اختلفا، اجتمعا أن يحكما كاهناً، فنزلت هذه الآية، هذا قول الشعبي.
(308) والرابع: أن رجلاً من بني النضير قتل رجلاً من بني قريظة، فاختصموا، فقال المنافقون منهم: انطلقوا إلى أبي برزة الكاهن، فقال المسلمون من الفريقين: بل إِلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأبى المنافقون، فانطلقوا إِلى الكاهن، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي.
والزَّعم والزُّعم لغتان، وأكثر ما يستعمل في قول ما لا تتحقّق صحته، وفي الذين زعموا أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله قولان: أحدهما: أنه المنافق. والثاني: أن الذي زعم أنه آمن بما أنزل إِليه المنافق، والذي زعم أنه آمن بما أنزل من قبله اليهودي. والطاغوت: كعب بن الأشرف، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والربيع، ومقاتل. قوله تعالى: وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ قال مقاتل: أن يتبرؤوا من الكهنة، و «الضلال البعيد» : الطّويل.

[سورة النساء (4) : آية 61]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ قال مجاهد: هذه الآية والتي قبلها نزلتا في خصومة اليهودي، والمنافق، والهاء والميم في «لهم» : إِشارة إِلى الذين يزعمون، وما أَنْزَلَ اللَّهُ:
أحكام القرآن. وَإِلَى الرَّسُولِ أي: إلى حكمه «2» .
__________
حسن. أخرجه الطبراني 11/ 12045 والواحدي في «أسباب النزول» 328 عن ابن عباس وإسناده حسن، وقال الحافظ في «الإصابة 4/ 19: إسناده جيد. وأخرجه ابن أبي بسند صحيح كما في «الدر» 320.
مرسل. أخرجه الطبري 9898 عن الشعبي مرسلا، وهو شاهد لأصل الخبر المتقدم أولا.
مرسل. أخرجه الطبري 9901 عن السدي مرسلا، فهو ضعيف، لكن يشهد للحديث المتقدم أولا.
وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 332 عن السدي بدون إسناد.
__________
(1) وقع في المطبوع هنا وفي الحديث الآتي (308) : «أبو بردة» والتصويب من كتب التخريج.
(2) يفهم من سياق الآية عدم صحة إيمان من يتحاكم إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، لأن الله عز وجل سمّى من يدعي الإيمان بالقرآن وبالكتب السابقة ثم هو يتحاكم إلى ما ابتدعه البشر من تشريعات وقوانين وغير ذلك، فقد سمى الله عز وجل ذلك المدعي للإيمان بأنه يزعم ذلك، يعني ليس ذلك بصحيح ولا مقبول منه، ثم ذكر الله المنافقين. وهذا دليل على أن الله عز وجل قد أدرج هذا الزاعم في زمرة المنافقين. وإن كان يدّعي الإسلام ويتظاهر بالصلاة ونحوها، وقد قال الله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ نسأل الله السلامة.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 531: هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا ولهذا قال يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ إلى آخرها. وقوله:
يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً. أي يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك كما قال تعالى عن المشركين وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا الآية.

(1/426)


فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)

[سورة النساء (4) : آية 62]
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62)
قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أي: كيف يصنعون ويحتالون إذا أصابتهم عقوبة من الله؟ وفي المراد بالمصيبة قولان: أحدهما: أنه تهديد ووعيد. والثاني: أنه قتل المنافق الذي قتله عمر. وفي الذي قدمت أيديهم ثلاثة أقوال: أحدها: نفاقهم واستهزاؤهم. والثاني: ردّهم حكم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثالث: معاصيهم المتقدّمة.
قوله تعالى: إِنْ أَرَدْنا بمعنى. ما أردنا. قوله تعالى: إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لما قتل عمر صاحبهم، جاءوا يطلبون بدمه، ويحلفون ما أردنا في المطالبة بدمه إِلا إِحساناً إِلينا، وما يوافق الحق في أمرنا. والثاني: ما أردنا بالترافع إلى عمر إلا إحسانا وتوفيقا. والثالث: أنهم جاءوا يعتذرون إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من محاكمتهم إِلى غيره، ويقولون: ما أردنا في عدولنا عنك إِلا إحساناً بالتقريب في الحكم، وتوفيقاً بين الخصوم دون الحمل على مرّ الحقّ.

[سورة النساء (4) : آية 63]
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ أي: من النفاق والزيغ. وقال ابن عباس: إِضمارهم خلاف ما يقولون فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تعاقبهم وَعِظْهُمْ بلسانك وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً أي: تقدّم إِليهم: إِن فعلتم الثانية، عاقبتكم. وقال الزجاج: يقال: بَلُغ الرجل يبْلُغُ بلاغة فهو بليغ: إِذا كان يبلغ بعبارة لسانه كُنه ما في قلبه.
وقد تكلم العلماء في حدّ «البلاغة» فقال بعضهم: «البلاغة» : إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، وقيل: «البلاغة» : حسن العبارة مع صحة المعنى، وقيل: البلاغة: الإِيجاز مع الإِفهام، والتصرّف من غير إِضجار. قال خالد بن صفوان: أحسن الكلام ما قلت ألفاظه، وكثرت معانيه، وخيرُ الكلام ما شوّق أوّله إِلى سماع آخره، وقال غيره: إِِنما يستحق الكلام اسم البلاغة إِذا سابق لفظه معناه، ومعناه لفظه، ولم يكن لفظه إِلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك.
فصل: وقد ذهب قوم إلى أن «الإِعراض» المذكور في هذه الآية منسوخ بآية السيف.

[سورة النساء (4) : آية 64]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ قال الزجاج: «من» دخلت للتوكيد. والمعنى:

(1/427)


فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)

وما أرسلنا رسولاً إِلا ليطاع. وفي قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ قولان: أحدهما: أنه بمعنى: الأمر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الاذن نفسه، قاله مجاهد. وقال الزجاج: المعنى: إِلا ليطاع بأن الله أذن له في ذلك. وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما. قال ابن عباس: ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرّسول: جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من صنيعهم.

[سورة النساء (4) : آية 65]
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)
قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ في سبب نزولها قولان:
(309) أحدهما: أنها نزلت في خصومة كانت بين الزبير وبين رجل من الأنصار في شراج الحرّة «1» ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للزبير: «اسق ثم أرسل إِلى جارك» فغضب الأنصاري، قال: يا رسول الله، أن كان ابن عمّتك! فتلوّن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال للزبير: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ الجَدْر» قال الزبير: فو الله ما أحسب هذه الآية نزلت إِلاّ في ذلك. أخرجه البخاري ومسلم.
والثاني: أنها نزلت في المنافق، واليهودي اللذين تحاكما إِلى كعب بن الأشرف، وقد سبقت قصتهما، قاله مجاهد «2» .
قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ أي: لا يكونون مؤمنين حتى يحكموك، وقيل: «لا» ردٌ لزعمهم أنهم مؤمنون، والمعنى: فلا، أي: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا، وهم يخالفون حكمك.
ثم استأنف، فقال: وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، أي: فيما اختلفوا فيه. وفي «الحرج» قولان: أحدهما: أنه الشك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي في آخرين.
والثاني: الضيق، قاله أبو عبيدة، والزجاج. وفي قوله: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً قولان: أحدهما: يسلموا لما أمرتهم به، فلا يعارضونك، هذا قول ابن عباس، والزجاج، والجمهور. والثاني: يسلّموا ما تنازعوا فيه لحكمك، قاله الماورديّ «3» .
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2708 عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن عروة بن الزبير عن الزبير.
وأخرجه البخاري 2359 و 2361 و 2362 و 4585 ومسلم 2357 وأبو داود 3637 والترمذي 1363 والنسائي 8/ 245 وابن ماجة 15 و 2480 وأحمد 4/ 4- 5 و 165 وابن حبان 24 وابن الجارود 1021 والطبري 9917 و 9918 والبيهقي 6/ 153 و 154 و 10/ 106 من طرق عن الزهري به.
__________
(1) في «اللسان» الشراج: بكسر الشين جمع شرج، والشرج: مسيل الماء من الحرّة إلى السهل، والحرّة: موضع معروف في المدينة، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنما أحرقت بالنار كما في «معجم البلدان» 2/ 244.
(2) تقدم عند الآية 60 برقم 305.
(3) يقسم الله عز وجل بذاته جلّ وعلا بأن الذي يتحاكم إلى غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أي إلى غير الكتاب والسنة، بأنه ليس بمؤمن ولا يصح إيمانه، وأنه مردود عليه. وهذا ينطبق على أولئك الذين اختاروا القوانين الوضعية على القوانين الشرعية. فليحذر هؤلاء أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. وهذا في الدنيا. وأما في الآخرة، فإنهم إن ماتوا على ذلك، حشروا مع الكفرة، بل ربما كانوا أسفل منهم. فإن الله يقول: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وقال تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.

(1/428)


وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)

[سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (310) سبب نزولها: أن رجلاً من اليهود قال: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلناها. فقال ثابت بن قيس بن الشماس: والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي.
قال الزجاج: «لو» يمتنع به الشيء لامتناع غيره، تقول: لو جاءني زيد لجئته. والمعنى: أن مجيئك امتنع لامتناع مجيئه، وكَتَبْنا بمعنى: فرضنا. والمعنى: لو أنا فرضنا على المؤمنين بك أن اقتلوا أنفسكم. قرأ أبو عمرو: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، بكسر النون، «أو اخرجوا» بضم الواو. وقرأ ابن عامر، وابن كثير، ونافع، والكسائي: «أن اقتلوا» «أو اخرجوا» بضم النون والواو. وقرأ عاصم، وحمزة بكسرهما. والمعنى: لو فرضنا عليهم كما فرضنا على قوم موسى، لم يفعله إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر: «إِلا قليلاً» بالنصب. وَلَوْ أَنَّهُمْ يعني: المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أي: ما يذكرون به من طاعة الله، والوقوف مع أمره، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وأثبت لأمورهم. وقال السّدّيّ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أي: تصديقا.

[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(311) أحدها: أن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان شديد المحبّة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فرآه رسول الله يوما
__________
أخرجه الطبري 9925 وابن أبي حاتم كما في ابن كثير 1/ 534 عن السدي مرسلا، فهو ضعيف.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 334 م عن الكلبي بدون إسناد، والكلبي متروك متهم، لكن ورد بنحو هذا السياق من حديث عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ... الآية. أخرجه الطبراني في «الأوسط» 480 و «الصغير» 52 والضياء المقدسي في «صفة الجنة» كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 535. وقال ابن كثير: قال الحافظ الضياء المقدسي: لا أرى بإسناده بأسا ووافقه ابن كثير.
- وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 7: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة اه.
- وفي الباب أيضا من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في «الكبير» 12559 وفي إسناده عطاء بن السائب، وقد اختلط كذا قال الهيثمي. لكن يصلح شاهدا لما قبله. وفي الباب أحاديث أخرى، انظر «الدر المنثور» 2/ 324 فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم، راجع «أحكام القرآن» 518 بتخريجنا.

(1/429)


فعرف الحزن في وجهه، فقال: يا ثوبان ما غير وجهك؟ قال: ما بي من وجع غير أني إِذا لم أرك اشتقت إِليك، فأذكر الآخرة، فأخاف أن لا أراك هناك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(312) والثاني: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا له: ما ينبغي أن نفارقك في الدنيا، فانك إِذا فارقتنا رفعت فوقنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول مسروق.
(313) والثالث: أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو محزون، فقال: ما لي أراك محزوناً؟ فقال: يا رسول الله غداً ترفع مع الأنبياء، فلا نصل إِليك. فنزلت هذه الآية. هذا قول سعيد بن جبير.
قال ابن عباس: ومن يطع الله في الفرائض، والرسول في السُنن. قال ابن قتيبة: والصدّيق:
الكثير الصدق، كما يقال: فسّيق، وسكّير، وشرّيب، وخمّير، وسكيت، وفجّير، وعشّيق، وضلّيل، وظلّيم: إِذا كثر منه ذلك. ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرّة، أو مرتين حتى يكثر منه ذلك، أو يكون عادة. فأما الشهداء، فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل الله. وفي تسميته بالشهيد خمسة أقوال: أحدها:
لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنّة، قاله ثعلب. والثاني: لأن ملائكة الرحمة تشهده. والثالث:
لسقوطه بالأرض، والأرض: هي الشاهدة، ذكر القولين ابن فارس اللغوي. والرابع: لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل، قاله أبو سليمان الدمشقي. والخامس: لأنه يشهد ما أعدّ الله له من الكرامة بالقتل، قاله شيخنا على بن عبيد الله.
فأما الصالحون، فهو اسم لكل من صَلُحَتْ سريرتُه وعلانيتُه. والجمهور على أن النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين عام في جميع من هذه صفته. وقال عكرمة: المراد بالنبيين هاهنا محمد، والصديقين أبو بكر، وبالشهداء عمر وعثمان وعلي، وبالصالحين سائر الصحابة.
قوله تعالى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً قال الزجاج: «رفيقاً» منصوب على التمييز، وهو ينوب عن رفقاء، قال الشاعر:
بِها جِيَفُ الْحَسْرَى فأَمّا عظامُها ... فبيضٌ وأَمّا جلدُها فصليب «1»
وقال آخر:
في حلقكم عظم وقد شجينا «2» يريد: في حلوقكم عظام. ذلِكَ الْفَضْلُ الذي أعطى المذكورين مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بالمقاصد والنيات.
__________
مرسل. أخرجه الطبري 9930 والواحدي 335 عن مسروق مرسلا، وكرره 9931 من مرسل قتادة و 9932 من مرسل السدي، فهذه المراسيل تتقوى بمجموعها، وانظر ما قبله. و «تفسير القرطبي» 2310.
مرسل. أخرجه الطبري 9929 عن سعيد بن جبير مرسلا، وهو شاهد قوي لما تقدم.
__________
(1) البيت لعلقمة بن عبدة «الكتاب» 1/ 107 وقد تقدم.
(2) هو عجز بيت للمسيب بن زيد مناة الغنوي وصدره: لا تنكر القتل وقد سبينا.

(1/430)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)

[سورة النساء (4) : آية 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71)
قوله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ فيه قولان: أحدهما: احذروا عدوّكم. والثاني: خذوا سلاحكم.
قوله تعالى: فَانْفِرُوا ثُباتٍ قال ابن قتيبة: أي: جماعات، واحدتها: ثبة، يريد جماعة بعد جماعة.
وقال الزجاج: «الثباتُ» : الجماعات المتفرّقة. قال زهير:
وقد أغْدُوا على ثُبَةٍ كِرامٍ ... نَشَاوى واجدين لما نشاء
قال ابن عباس: فانفروا ثبات، أي: عصباً، سرايا متفرِّقين، أو انفروا جميعاً، يعنى كلكم.
فصل: وقد نقل عن ابن عباس أن هذه الآية وقوله انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «1» وقوله تعالى:
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً «2» منسوخات بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «3» قال أبو سليمان الدمشقي: والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإِمام، وليس في هذا من المنسوخ شيء.

[سورة النساء (4) : الآيات 72 الى 73]
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)
قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
(314) أحدهما: أنها في المنافقين، كعبد الله بن أُبيّ، وأصحابه كانوا يتثاقلون عن الجهاد، فان لقيت السريّة نكبة، قال من أبطأ منهم: لقد أنعم الله عليّ، وإِن لقوا غنيمةً، قال: يا ليتني كنت معهم.
هذا قول ابن عباس، وابن جريج.
والثاني: أنها نزلت في المسلمين الذين قلّت علومُهم بأحكام الدين، فتثبطوا لقلة العلم، لا لضعف الدين، ذكره الماوردي وغيره. فعلى الأول تكون إِضافتهم إِلى المؤمنين بقوله «منكم» لموضع نطقهم بالإِسلام، وجريان أحكامه عليهم، وعلى الثاني تكون الإِضافة حقيقة.
قال ابن جرير: اللام في لَمَنْ لام تأكيد. قال الزجاج: واللام في لَيُبَطِّئَنَّ لام القسم، كقولك: إِن منكم لمن أحلف بالله ليبطئن، يقال: «أبطأ الرجل» و «بطؤ» فمعنى «أبطأ» : تأخّر، ومعنى «بطؤ» : ثقُل. وقرأ أبو جعفر: «ليبطئن» بتخفيف الهمزة. وفي معنى «ليبطئن» قولان: أحدهما: ليبطئن هو نفسه، وهو قول ابن عباس. والثاني: ليبطئن غيره، قاله ابن جريج. قال ابن عباس: و «المصيبة» :
النكبة. و «الفضل من الله» : الفتح والغنيمة.
قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ قرأ ابن كثير، وحفص، والمفضّل، عن عاصم:
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 9943 عن ابن جريج، وهذا معضل.
- وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» 2/ 183 عن مقاتل بن حيان، وهذا معضل أيضا.
- وعزاه المصنف لابن عباس، والظاهر أنه من رواية الكلبي، وهو متروك عن أبي صالح عن ابن عباس.
__________
(1) سورة التوبة: 41.
(2) سورة التوبة: 39.
(3) سورة التوبة: 122.

(1/431)


فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)

(كأن لم تكن) بالتاء، لأن الفاعل المسند إِليه مؤنّث في اللفظ، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم: يكن بالياء، لأن التأنيث ليس بحقيقي. قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى: ليقولن يا ليتني كنت معهم، كأن لم يكن بينكم وبينه مودّة، أي: كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد معكم، ويجوز أن يكون هذا الكلام معترضا به، فيكون المعنى: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فان أصابتكم مصيبة، قال: قد أنعم الله علي، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة. فيكون معنى «المودّة» أي: كأنه لم يعاقدكم على الإيمان.

[سورة النساء (4) : آية 74]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يشرون هاهنا: بمعنى يبتغون في قول الجماعة.
وأنشدوا:
وشرَيْتُ ... بُرداً ليتني ... من بَعْدِ بُردٍ كُنْتُ هامة «1»
و «برد» غلام له باعه.
ومعنى الآية: ليكن قتال المقاتِلينَ على وجه الإِخلاص وطلب الآخرة.
قوله تعالى: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ خرج مخرج الغالب، وقد يثاب من لم يَغلِب ولَم يُقتل.

[سورة النساء (4) : آية 75]
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)
قوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ قال الفراء: تقديره: وفي المستضعفين. وكذلك روي عن ابن عباس. وقال الزجاجِ: المستضعفون في موضع خفض، والمعنى في سبيل الله، وسبيل المستضعفين، أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء؟ قال ابن عباس: وهم ناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا. و «القرية» : مكة في قول الجماعة. قال الفراء: وإِنما خفض الظَّالِمِ لأنه نعت للأهل، فلما عاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إِليها بمنزلة فعلها، تقول: مررت بالرجل الواسعة داره.
قوله تعالى: وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا قال أبو سليمان: سألوا الله ولياً من عنده يلي إِخراجهم منها، ونصيراً يمنعهم من المشركين. قال ابن عباس:
(315) فلما فتح رسول الله مكّة، جعل الله عزّ وجلّ النبيّ عليه السلام وليّهم، واستعمل عليهم
__________
سيأتي تخريجه إن شاء الله.
__________
(1) البيت لابن مفرغ، شاعر إسلامي، وهو من حمير «الخزانة» : 2/ 214. وفي «اللسان» : الهامة: فإن العرب كانت تقول إن عظام الموتى، وقيل أرواحهم تصير هامة فتطير، وقيل كانوا يسمون ذلك الطائر الذي يخرج من هامة الميت الصدى فنهاهم الإسلام عنه، ويقال أصبح فلان هامة إذا مات.

(1/432)


الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتاب بن أسيد، فكان نصيراً لهم، ينصف الضعيف من القوي.

[سورة النساء (4) : آية 76]
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)
قوله تعالى: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ الطاغوت هاهنا في معنى جماعة، كقوله وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ معناه: ولحم الخنازير. قوله تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ يعني: مكره وصنيعه كانَ ضَعِيفاً حيث خذل أصحابه يوم بدر.

[سورة النساء (4) : آية 77]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
(316) أحدهما: أنها نزلت في نفر من المهاجرين، كانوا يحبون أن يؤذن لهم في قتال المشركين وهم بمكّة قبل أن يُفرَضَ القتال، فنُهوا عن ذلك، فلما أُذِنَ لهم فيه، كَرِههُ بعضُهُم. روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول قتادة، والسدي، ومقاتل.
والثاني: أنها نزلت واصفةً أحوال قومٍ كانوا في الزمان المتقدّم، فحُذّرت هذه الأمّة من مثلِ حالهم، روى هذا المعنى عطية، عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدمشقي: كأنه يومئ إِلى قصة الذين قالوا: إِبعث لنا مَلِكاً. وقال مجاهد: هي في اليهود.
فأما كفُّ اليد، فالمراد به: الامتناع عن القتال، ذلك كان بمكة. و «كُتب» بمعنى: فُرض، وذلك بالمدينة، هذا على القول الأول.
قوله تعالى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ في هذا الفريق ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون. والثاني: أنهم كانوا مؤمنين، فلما فرض القتال، نافقوا جُبناً وخوفاً. والثالث: أنهم مؤمنون غير أن طبائعهم غلبتهم، فنفرت نفوسُهم عن القتال.
قوله: يَخْشَوْنَ النَّاسَ في المراد بالناس قولان: أحدهما: كفار مكة. والثاني: جميع الكفار.
قوله تعالى: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً قيل: إِن «أو» بمعنى الواو، و «كتبت» بمعنى: فرضت. و «لولا» بمعنى «هلاّ» ، قال الفراء: إِذا لم تر بعدها اسماً فهي استفهامٌ بمعنى هلاّ، وإِذا رأيت بعدها اسما مرفوعا، فهي
__________
خبر منكر. وورد بذكر ابن عوف وجماعة، لم يسم غير ابن عوف برواية عكرمة عن ابن عباس أخرجه النسائي 6/ 3 وفي «التفسير» 132 والحاكم 2/ 66 و 307 والبيهقي 9/ 11 والواحدي 339 ورجاله ثقات وصححه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، مع أن في إسناده حسين بن واقد وهو من رجال مسلم فقط، فهو على شرط مسلم، ومع ذلك حسين بن واقد فيه ضعف، وقد استنكر الإمام أحمد بعض ما ينفرد به، وهذا الخبر غريب، فإن ظاهر القرآن يدل على أن المخاطب بذلك فئة من المنافقين كابن سلول وأمثاله، ولا يصح هذا السياق في أحد من المهاجرين السابقين والله أعلم.

(1/433)