زاد المسير في
علم التفسير أَيْنَمَا تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ
مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
التي جوابها اللام، تقول: لولا عبد الله
لضربتك. وقال ابن قتيبة: إِذا رأيتها بغير جواب، فهي بمعنى
«هلاّ» ، تقول: لولا فعلت كذا، ومثلها «لوما» ، فاذا رأيت ل
«لولا» جواباً، فليست بمعنى «هلاّ» ، إِنما هي التي تكون لأمر
يقع بوقوع غيره، كقوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ «1» . قلت: فأما «لولا» التي لها جوابٌ فكثيرة في
الكلام، وأنشدوا في ذلك:
لولا الحياءُ وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت امَّ القاسم
«2»
وأما التي بمعنى «هلاّ» فأنشدوا منها:
تعدّون عقر النّيب أفضَلَ مجدِكُم ... بني ضَوْطَرى لولا
الكَميَّ المقنَّعا «3»
أراد: فهلاّ تعدون الكمي، والكمي: الداخل في السّلاح.
وفي الأجل القريب قولان: أحدهما: أنه الموت، فكأنهم قالوا:
هلاّ تركتنا نموت موتاً، وعافيتنا من القتل، هذا قول السدي،
ومقاتل. والثاني: أنه إِمهال زمان، فكأنهم قالوا: هلاّ أخرت
فرض الجهاد عنّا قليلاً حتى نكثر ونقوى، قاله أبو سليمان
الدمشقي في آخرين.
قوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ أي: مدّة الحياة
فيها قليلة.
قوله تعالى: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا قرأ ابن كثير، وابن
عامر، وحمزة، والكسائي: ولا يظلمون بالياء. وقرأ نافع، وأبو
عمرو، وعاصم: بالتاء، وقد سبق ذكر المتاع والفتيل.
[سورة النساء (4) : آية 78]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ
فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا
هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً
(78)
قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. سبب
نزولها أن المنافقين قالوا في حقّ شهداء أُحُد:
لو كانوا عندنا ما ماتوا، وما قتلوا، فنزلت هذه الآية، هذا قول
ابن عباس «4» ، ومقاتل. والبروج:
الحصون، قاله ابن عباس وابن قتيبة. وفي «المشيّدة» خمسة أقوال
«5» : أحدها: أنها الحصينة، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني:
المطولة، قاله أبو مالك، ومقاتل، وابن قتيبة. والثالث:
المجصّصة، قاله
__________
(1) سورة الصافات: 143- 144. [.....]
(2) البيت لعدي بن الرقاع وفي «اللسان» عثا فيه المشيب: أفسده
أشد الإفساد.
(3) البيت لجرير بن عطية كما في «الخزانة» 1/ 461 وقوله: عقر
النبيب، عقر الناقة المسنّة: ضرب قوائمها فقطعها. وفي حديث ابن
عباس: «لا تأكلوا من تعاقر الأعراب فإني لا آمن أن يكون مما
أهل به لغير الله» . هو عقرهم الإبل كان يتبارى الرجلان في
الجود والسخاء، فيعقر هذا إبلا ويعقر هذا إبلا حتى يعجز أحدهما
الآخر. وقوله: «بني ضوطرى» يعني: يا بني الحمقى، ويقال للقوم
إذا كانوا لا يغنون غناء: بنو ضوطرى.
والكمي: الشجاع الذي لا يرهب، والمقنع: على رأسه البيضة
والمغفر.
(4) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 340 برواية أبي صالح عن
ابن عباس، وأبو صالح وعنه الكلبي رويا تفسيرا مصنوعا عن ابن
عباس. فالإسناد ساقط، وإن كان ظاهر الآية يدل على أن المراد
بذلك المنافقون.
(5) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 271: واختلف العلماء
وأهل التأويل في المراد بهذه البروج، فقال الأكثر وهو الأصح:
إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية
البشر في التحصّن والمنعة، فمثّل الله لهم بها.
(1/434)
مَا أَصَابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ
فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
هلال بن خبّاب، واليزيدي. والرابع: أنها
المبنيّة بالشيِّد، وهو الجص، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والخامس: أنها بروج في السماء، قاله الربيع بن أنس، والثوري.
وقال السدّي: هي قصور بيض في السماء مبنيّة.
قوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم المنافقون واليهود، قاله ابن عباس. والثاني:
المنافقون، قاله الحسن. والثالث: اليهود، قاله ابن السري. وفي
الحسنة والسيئة قولان: أحدهما: أن الحسنة: الخصب، والمطر.
والسيئة: الجدب، والغلاء، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: أن الحسنة: الفتح والغنيمة، والسيئة: الهزيمة
والجراح، ونحو ذلك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي قوله
تعالى: مِنْ عِنْدِكَ قولان: أحدهما: بشؤمك، قال ابن عباس.
والثاني: بسوء تدبيرك، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قال ابن عباس:
الحسنة والسيئة، أما الحسنة، فأنعم بها عليك، وأما السيئة،
فابتلاك بها. قوله تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ وقف أبو
عمرو، والكسائي على الألف من «فما» في قوله تعالى: فَمالِ
هؤُلاءِ الْقَوْمِ ومالِ هذَا الْكِتابِ ومالِ هذَا الرَّسُولِ
وفَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا، والباقون وقفوا على اللام. فأما
«الحديث» ، فقيل: هو القرآن، فكأنّه قال: لا يفقهون القرآن،
فيؤمنون به، ويعلمون أن الكل من عند الله.
[سورة النساء (4) : آية 79]
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً
وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)
قوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ في
المخاطب بهذا الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه عامٌ، فتقديره: ما أصابك أيها الإِنسان، قاله
قتادة.
والثاني: أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به
غيره، ذكره الماوردي. وقال ابن الأنباري: ما أصابك الله من
حسنة، وما أصابك الله به من سيئة، فالفعلان يرجعان إلى الله
عزّ وجلّ.
وفي «الحسنة» و «السيئة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحسنة: ما
فُتح عليه يوم بدر، والسيئة: ما أصابه يوم أُحد، رواه ابن أبي
طلحة، عن ابن عباس. والثاني: الحسنة: الطاعة، والسيئة:
المعصية، قاله أبو العالية. والثالث: الحسنة: النعمة، والسيئة:
البليّة، قاله ابن قتيبة، وعن أبي العالية نحوه، وهو أصح، لأن
الآية عامة. وروى كرداب، عن يعقوب: «ما أصابك من حسنة فمن
الله» بتشديد النون ورفعها ونصب الميم وخفض اسم الله، «وما
أصابك من سيئة فمن نَفسُك» بنصب الميم ورفع السين.
وقرأ ابن عباس: «وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك»
. وقرأ ابن مسعود: «وأنا عددتها عليك» . قوله تعالى: فَمِنْ
نَفْسِكَ أي: فبذنبك، قاله الحسن، وقتادة، والجماعة، وذكر فيه
ابن الأنباري وجهاً آخر، فقال: المعنى: أفمن نفسك، فأضمرت ألف
الاستفهام كما أضمرت في قوله وَتِلْكَ نِعْمَةٌ أي: أوَ تلك
نعمة.
قوله تعالى: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا قال الزجاج:
ذكر الرسول مؤكّد لقوله تعالى: وَأَرْسَلْناكَ، والباء في
«بالله» مؤكّدة. والمعنى: وكفى بالله شهيدا. و «شهيدا» : منصوب
على التمييز، لأنك إذا قلت: كفى بالله، ولم تبيّن في أي شيء
الكفاية كنت مبهماً. وفي المراد بشهادة الله هاهنا ثلاثة
أقوال:
(1/435)
مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
أحدها: شهيداً لك بأنك رسوله، قاله مقاتل.
والثاني: على مقالتهم، قاله ابن السائب. والثالث: لك بالبلاغ،
وعليهم بالتكذيب والنفاق، قاله أبو سليمان الدمشقي.
فان قيل: كيف عاب الله هؤلاء حين قالوا: إِن الحسنة من عند
الله، والسيئة من عند النبي عليه السلام، وردّ عليهم بقوله
تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثم عاد فقال: ما أَصابَكَ
مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ
فَمِنْ نَفْسِكَ فهل قال القوم إِلا هكذا؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنهم أضافوا السّيئة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
تشاؤماً به، فردّ عليهم، فقال: كلٌ بتقدير الله. ثم قال: ما
أصابك من حسنة، فمن الله، أي: من فضله، وما أصابك من سيئة،
فبذنبك، وإِن كان الكل من الله تقديراً. والثاني: أن جماعة من
أرباب المعاني قالوا: في الكلام محذوف مقدّر، تقديره: فما
لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً، يقولون: ما أصابك من
حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك. فيكون هذا من
قولهم. والمحذوف المقدّر في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى:
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «1» أي: يقولان: ربنا. ومثله أَوْ
بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ «2» أي: فحلق، ففدية.
ومثله فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ
«3» أي: فيقال لهم. ومثله وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ
عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ «4» أي: يقولون
سلام. ومثله أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ
الْأَمْرُ «5» أراد: لكان هذا القرآنَ. ومثله وَلَوْلا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ
رَحِيمٌ «6» أراد: لعذّبكم. ومثله رَبَّنا أَبْصَرْنا
وَسَمِعْنا أي: يقولون. وقال النَّمِرُ بنُ تولب:
فإنَّ المنيَّة من يخشَها ... فَسَوْفَ تُصَادِفُه أينما
أراد: أينما ذهب. وقال غيره:
فأُقْسِمُ لَوْ شيءٌ أتانا رسولُه ... سواكَ وَلكِن لم نجد لَك
مدفعا «7»
أراد: لرددناه.
[سورة النساء (4) : آية 80]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى
فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)
قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ سبب
نزولها:
(317) أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أطاعني، فقد
أطاع الله، ومن أحبني، فقد أحب الله» فقال المنافقون: لقد قارب
هذا الرجل الشرك، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
__________
لا أصل له بهذا اللفظ، عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالوضع.
وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 539: لم أجده. وبعض الحديث
المرفوع صحيح، ورد في خبر مسند عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
«من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن يطع
الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني. وإنما الإمام
جنّة يقاتل من ورائه، ويتقى به. فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن
له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه» .
وهذا صحيح. أخرجه البخاري 2957 و 7137 ومسلم 1835 والنسائي 7/
154 وابن ماجة 3 وابن حبان 3556 وعبد الرزاق 20679 وأحمد 2/
342 و 416 من حديث أبي هريرة، وليس فيه سبب نزول ولا قول
المنافقين وقال الحافظ في «الفتح» 2957: قوله: «من أطاعني فقد
أطاع الله» : هذه الجملة منتزعة من قوله تعالى: (ومن يطع
الرسول فقد أطاع الله) .
__________
(1) سورة البقرة: 127.
(2) سورة البقرة: 196.
(3) سورة آل عمران: 106.
(4) سورة الرعد: 23- 24.
(5) سورة الرعد: 34.
(6) سورة النور: 20.
(7) البيت لامرئ القيس وهو في ديوانه 242.
(1/436)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ
فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
ومعنى الكلام: من قَبِلَ ما أتى به الرسول،
فانما قبل: ما أمر الله به، ومن تولّى، أي: أعرض عن طاعته. وفي
«الحفيظ» قولان: أحدهما: أنه الرّقيب، قاله ابن عباس. والثاني:
المحاسب، قاله السدي، وابن قتيبة.
فصل: قال المفسّرون: وهذا كان قبل الأمر بالقتال، ثم نسخ بآية
السيف.
[سورة النساء (4) : آية 81]
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ
ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ.
(318) نزلت في المنافقين، كانوا يؤمنون عند رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم ليأمنوا، فاذا خرجوا، خالفوا، هذا قول ابن
عباس. قال الفرّاء: والرّفع في «طاعة» على معنى: أمرُك طاعة.
قوله تعالى: بَيَّتَ طائِفَةٌ قرأ أبو عمرو، وحمزة: بيت، بسكون
«التاء» وإدغامها في «الطاء» ، ونصب الباقون «التاء» ، قال أبو
علي: التاء والطاء والدال من حيز واحد، فحسن الإِدغام، ومَن
بيّن، فلانفصال الحرفين، واختلاف المخرجين. قال ابن قتيبة:
والمعنى (فاذا برزوا من عندك) أي خرجوا، (بيت طائفة منهم غير
الذي تقول) ، أي «1» قالوا، وقدّروا ليلاً غير ما أعطوك
نهاراً. قال الشاعر:
أتوني فلم أرض ما بيَّتوا ... وكانوا أتَوْني بشيء نُكُرْ «2»
والعرب تقول: هذا أمر قد قُدِّر بليل، [وفرغ منه بليل، ومنه
قول الحارث بن حِلِّزة:
أجمعوا أمرهم عشاءً فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء] «3»
وقال بعضهم: بيّت، بمعنى: بدّل، وأنشد:
وبيَّتَ قولِيَ عند المليك ... قاتلك الله عبدا كفورا «4»
وفي قوله تعالى: غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ قولان: أحدهما: غير
الذي تقول الطائفة عندك، وهو قول ابن عباس، وابن قتيبة.
والثاني: غير الذي تقول أنت يا محمّد، وهو قول قتادة،
والسّدّيّ.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 9991 عن العوفي عن ابن عباس وإسناده واه
لأجل عطية بن سعد العوفي.
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من «غريب القرآن» : 131.
(2) البيت لعبيدة بن همام كما في «تفسير الطبري» 4/ 180 والبيت
الذي بعده يتممه:
لأنكح أيمهم منذرا ... وهل ينكح العبد حرّ لحر؟!
وفي «اللسان» : النكر: الأمر المنكر الذي تنكره.
(3) ما بين المعقوفتين زيادة من غريب القرآن. [.....]
(4) البيت للأسود بن عامر بن جوين الطائي كما في «تفسير
القرطبي» 5/ 276 وفيه عبد المليك.
(1/437)
أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا
بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي
الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما
يُبَيِّتُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يكتبه في الأعمال التي
تثبتها الملائكة، قاله مقاتل في آخرين. والثاني: ينزله إِليك
في كتابه. والثالث: يحفظه عليهم ليجازوا به، ذكر القولين
الزجاج. قال ابن عباس: فأعرض عنهم: فلا تعاقبهم، وثق بالله عز
وجل، وكفى بالله ثقة لك. قال: ثم نسخ هذا الإِعراض، وأُمِر
بقتالهم.
فإن قيل: ما الحكمة في أنه ابتدأ بذكرهم جملة، ثم قال: بَيَّتَ
طائِفَةٌ، والكل منافقون؟
فالجواب من وجهين، ذكرهما أهل التفسير: أحدهما: أنه أخبر عمن
سهر ليله، ودبَّر أمرهُ منهم دون غيره منهم. والثاني: أنه ذكر
من علم أنه يبقى على نفاقه دون من علم أنّه يرجع.
[سورة النساء (4) : آية 82]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ
غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)
قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ قال الزجاج:
«التدبّر» : النظر في عاقبة الشيء. و «الدّبْر» النحل، سُمي
دبراً، لأنه يُعْقِبُ ما يُنتفع به، و «الدّبْر» : المال
الكثير، سُمي دبراً لكثرته، لأنه يبقى للأعقاب، والأدبار. وقال
ابن عباس: أفلا يتدبّرون القرآن، فيتفكّرون فيه، فيرون تصديق
بعضه لبعض، وأن أحداً من الخلائق لا يقدر عليه. قال ابن قتيبة:
والقرآن من قولك: ما قرأت الناقة سلى «1» قط، أي: ما ضمّت في
رحمها ولداً، وأنشد أبو عبيدة:
هِجانُ اللّون لم تقرأ جنينا «2» وإنما سُمي قرآنا، لأنه جمع
السور، وضمها.
قوله تعالى: لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً فيه ثلاثة
أقوال: أحدها: أنه التناقض، قاله ابن عباس، وابن زيد،
والجمهور. والثاني: الكذب، قاله مقاتل، والزجاج. والثالث: أنه
اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام، ومرذول، إِذ لا بدّ
للكلام إِذا طال من مرذول، وليس في القرآن إِلا بليغ، ذكره
الماورديّ في جماعة.
[سورة النساء (4) : آية 83]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي
الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
قوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ
الْخَوْفِ في سبب نزولها قولان:
(319) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما اعتزل
نساءه، دخل عمر المسجد، فسمع الناس يقولون: طلّق
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1479 عن ابن عباس عن عمر في أثناء خبر مطول،
وكرره لكن دون ذكر الآية.
- وسيأتي باستيفاء في سورة الأحزاب.
__________
(1) في «اللسان» السلى: لفاقة الولد من الدواب والإبل.
(2) هو عجز بيت لعمرو بن كلثوم كما في اللسان: (قرأ) ، وصدره:
ذراعي عيطل أدماء بكر.
والعيطل: الناقة الطويلة العنق، في حسن منظر وسمن. الأدماء:
البيضاء مع سواد المقلتين. وهجان اللون:
بيضاء كريمة.
(1/438)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه،
فدخل على النبي عليه السلام فسأله: أطّلقت نساءك؟ قال: «لا» .
فخرج فنادى:
ألا إِن رسول الله لم يطلّق نساءه. فنزلت هذه الآية. فكان هو
الذي استنبط الأمر. انفرد بإخراجه مسلم، من حديث ابن عباس، عن
عمر.
(320) والثاني: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إِذا
بعث سريّة من السرايا فَغَلَبَتْ أو غُلِبَت، تحدثوا بذلك،
وأفشوه، ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدِّث به. فنزلت هذه
الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
وفي المشار إِليهم بهذه الآية قولان: أحدهما: أنهم المنافقون.
قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: أهل النفاق، وضعفة المسلمين، ذكره الزجاج. وفي المراد
بالأمن أربعة أقوال: أحدها: فوز السريّة بالظفر والغنيمة، وهو
قول الأكثرين. والثاني: أنه الخبر يأتي إلى النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم أنه ظاهر على قوم، فيأمن منهم، قاله الزجاج.
والثالث: أنه ما يعزم عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من
الموادعة والأمان لقومٍ، ذكره الماوردي. والرابع: أنه الأمن
يأتي من المأمَن وهو المدينة، ذكره أبو سليمان الدمشقي مُخرجاً
من حديث عمر. وفي الْخَوْفِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النكبة
التي تُصيب السريّة، ذكره جماعة من المفسّرين. والثاني: أنه
الخبر يأتي أن قوماً يجمعون للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
فيخاف منهم، قاله الزجاج. والثالث:
ما يعزم عليه النبي من الحرب والقتال، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: أَذاعُوا بِهِ قال ابن قتيبة: أشاعوه. وقال ابن
جرير: والهاء عائدة على الأمر. قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ
يعني: الأمر إِلَى الرَّسُولِ حتى يكون هو المخبر به وَإِلى
أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ
وفيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان،
وعلي، قاله ابن عباس. والثاني:
أنهم أبو بكر، وعمر، قاله عكرمة. والثالث: العلماء، قاله
الحسن، وقتادة، وابن جريج. والرابع:
أمراء السرايا، قاله ابن زيد، ومقاتل. وفي الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ قولان: أحدهما: أنهم الذين يتتبعونه من
المذيعين له، قاله مجاهد. والثاني: أنهم أُولو الأمر، قاله ابن
زيد. و «الاستنباط» في اللغة:
الاستخراج. قال الزجاج: أصله من النبط، وهو الماء الذي يخرج من
البئر أول ما تحفر، يقال من ذلك: قد أنبط فلان في غضراء، أي:
استنبط الماء من طين حُرّ. والنبط: سُموا نبطاً، لاستنباطهم ما
يخرج من الأرض.
قال ابن جرير: ومعنى الآية: وإِذا جاءهم خبر عن سريّة للمسلمين
بخير أو بشر أفشوه، ولو سكتوا حتى يكون الرسول وذوو الأمر
يتولون الخبر عن ذلك، فيصححوه إِن كان صحيحاً، أو يبطلوه إِن
كان باطلاً، لعلم حقيقة ذلك من يبحث عنه من أُولى الأمر.
قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. في المراد
بالفضل أربعة أقوال: أحدها: أنه رسول الله.
والثاني: الإِسلام. والثالث: القرآن. والرابع: أُولو الأمر.
وفي الرحمة أربعة أقوال: أحدها: أنها الوحي. والثاني: اللّطف.
والثالث: النعمة. والرابع: التّوفيق.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو
الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.
(1/439)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا
وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ
مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
قوله تعالى: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ
إِلَّا قَلِيلًا في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه راجع إِلى الإِذاعة، فتقديره: أذاعوا به إِلا قليلاً. وهذا
قول ابن عباس وابن زيد، واختاره القرّاء وابن جرير.
والثاني: أنه راجع إِلى المستنبطين، فتقديره: لَعلمه الذين
يستنبطونه منهم إِلا قليلاً، وهذا قول الحسن وقتادة، واختاره
ابن قتيبة. فعلى هذين القولين في الآية تقديم وتأخير. والثالث:
أنه راجع إلى اتِّباع الشيطان، فتقديره: لاتبعتم الشيطان إِلا
قليلاً منكم، وهذا قول الضحاك، واختاره الزجاج. وقال بعض
العلماء: المعنى: لولا فضل الله بإرسال النبي إِليكم، لضللتم
إلا قليلاً منكم كانوا يستدركون بعقولهم معرفة الله، ويعرفون
ضلال من يَعبُد غيره، كقس بن ساعدة.
[سورة النساء (4) : آية 84]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ
وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ
تَنْكِيلاً (84)
قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سبب نزولها:
(321) أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما ندب الناس لموعد أبي
سفيان ببدر الصُغرى بعد أُحُد، كره بعضهم ذلك، فنزلت هذه
الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
وفي «فاء» فَقاتِلْ قولان: أحدهما: أنه جوابُ قوله وَمَنْ
يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ.
والثاني: أنها متصلة بقوله وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ذكرهما ابن السريّ. والمرادُ بسبيل الله:
الجهاد.
قوله تعالى: لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي: إِلا المجاهدة
بنفسك. و «حرّض» : بمعنى حضّض.
قال الزجاج: ومعنى عَسَى في اللغة: معنى الطمع والإِشفاق.
والإِطماع من الله واجب. و «البأس» :
الشدّة. وقال ابن عباس: والله أشدّ عذابا. قال قتادة: و
«التّنكيل» : العقوبة.
[سورة النساء (4) : آية 85]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها
وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85)
قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً، في المراد
بالشفاعة أربعة أقوال: أحدها: أنها شفاعة الإِنسان للانسان،
ليجتلب له نفعاً، أو يُخلصه من بلاء، وهذا قول الحسن ومجاهد
وقتادة، وابن زيد.
والثاني: أنها الإِصلاح بين اثنين، قاله ابن السائب. والثالث:
أنه الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، ذكره الماوردي. والرابع: أن
المعنى: مَن يَصرْ شفعاً لوِترِ أصحابك يا محمد، فيشفعهم في
جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله، قاله ابن جرير وأبو سليمان
الدمشقي.
وفي الشفاعة السيئة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها السعي بالنميمة،
قاله ابن السائب، ومقاتل.
والثاني: أنها الدّعاء على المؤمنين والمؤمنات، وكانت اليهود
تفعله، ذكره الماوردي. والثالث: أن المعنى: من يشفع وتر أهل
الكفر، فيقاتل المؤمنين قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو من رواية الكلبي، وهو
ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.
(1/440)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
قال الزجاج: و «الكفل» في اللغة: النصيب،
وأخذ من قولهم: اكتفلت البعير: إذا أدرت على سنامه، أو على
موضع من ظهره كِساء، وركبتَ عليه. وإِنما قيل له: كِفل، لأنه
لم يستعمل الظهر كله، وإِنما استعمل نصيباً منه.
وفي المقيت» سبعة أقوال: أحدها: أنه المقتدر، قال أحيحة بن
الجلاّح:
وذي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفس عنه ... وكنتُ على مساءته مُقيتاً
«1»
وإِلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، وابن جرير، والسدي، وابن زيد،
والفراء، وأبو عبيد، وابن قتيبة، والخطّابي. والثاني: أنه
الحفيظ، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال قتادة،
والزجاج.
وقال: هو بالحفيظ أشبه، لأنه مشتقّ من القوت، يقال: قُتُّ
الرجل أقوته قوتاً: إِذا حفظت عليه نفسه بما يقوته. والقوت:
اسم الشيء الذي يحفظ نفسه، ولا فضل فيه على قدر الحفظ، فمعنى
المقيت:
الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ. قال الشاعر:
أليَ الفَضْلُ أمْ عليّ إِذا حُو ... سبْتُ إِنّي على الحساب
مُقيتُ
والثالث: أنه الشهيد، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد، واختاره
أبو سليمان الدمشقي. والرابع:
أنه الحسيب، رواه خصيف عن مجاهد. والخامس: الرقيب، رواه أبو
شيبة عن عطاء. والسادس:
الدائم، رواه ابن جريج عن عبد الله بن كثير. والسابع: أنه معطي
القوت، قاله مقاتل بن سليمان. وقال الخطّابي: المقيت يكون
بمعنى معطي القوت، قال الفرّاء: يقال: قاته وأقاته.
[سورة النساء (4) : آية 86]
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها
أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً
(86)
قوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ في التحيّة قولان:
أحدهما: أنها السلام، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني:
الدّعاء، ذكره ابن جرير والماوردي. فأما «أحسن منها» فهو
الزيادة عليها، وردها:
قول مثلها. قال الحسن: إِذا قال أخوك المسلم: السلام عليكم،
فردَّ السلام، وزد: ورحمة الله. أو رُد ما قال ولا تزد. وقال
الضحاك: إِذا قال: السلام عليك، قلت: وعليكم السلام ورحمة
الله، وإِذا قال:
السلام عليك ورحمة الله، قلتَ: وعليكم السلام ورحمة الله
وبركاته، وهذا منتهى السلام. وقال قتادة:
بأحسن منها للمسلم، أو ردّوها على أهل الكتاب «2» .
__________
(1) في «اللسان» الضغن: الحقد والعداوة.
(2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 283: واختلف العلماء
في معنى الآية وتأويلها، فروى ابن وهب عن مالك أن هذه الآية
بتشميت العاطس والردّ على المشمّت. وهذا ضعيف. والرد على
المشمّت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية وهذا هو منحى
مالك إن صح ذلك عنه. وقال أصحاب أبي حنيفة: التحية هنا الهدية،
لقوله تعالى: أَوْ رُدُّوها والصحيح أن التحية هاهنا السلام
وعلى هذا جماعة المفسرين. وأجمع العلماء على أن الابتداء
بالسلام سنّة مرغب فيها، وردّه فريضة لقوله تعالى: فَحَيُّوا
بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها.
واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزئ أو لا. فمذهب الشافعي
ومالك إلى الإجزاء. واحتجوا بما رواه داود عن علي رضي الله عنه
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجزئ من الجماعة إذا
مرّوا أن يسلّم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم» قال أبو
عمر: حديث حسن لا معارض له. وقد ضعفه بعضهم وجعلوه حديثا
منكرا.
واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام: «يسلّم القليل على الكثير» .
وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قال: «يسلّم الراكب على الماشي وإذا سلّم واحد من القوم أجزأ
عنهم» . قلت: هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز
رد الواحد، وفيه قلق. وقوله تعالى: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ
مِنْها أَوْ رُدُّوها رد الأحسن أن يزيد فيقول: عليك السلام
ورحمة الله، لمن قال: سلام عليك. فإن قال: سلام عليك ورحمة
الله زدت في ردّك: وبركاته. وهذا هو النهاية فلا مزيد. فإن
انتهى بالسلام غايته، زدت في ردك الواو في أول كلامك فقلت
وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وينبغي أن يكون السلام. وروى
الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: إذا سلّمت على الواحد فقل:
السلام عليكم، فإن معه الملائكة، وكذلك الجواب يكون بلفظ
الجمع. والاختيار في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى
على اسم المخلوق قال تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.
فإن ردّ فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرّما ولا مكروها. ومن
السنة تسليم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والقليل
على الكثير. هكذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة. قال قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويسلّم الصغير على الكبير» .
وأما تسليم الكبير على الصغير قال أكثر العلماء: التسليم عليهم
أفضل من تركه، وفيه تدريب للصغير وحضّ على تعليم السّنن ورياضة
لهم على آداب الشريعة فيه، وقد جاء في الصحيحين عن سيار قال:
كنت أمشي مع ثابت فمرّ بصبيان فسلم عليهم، وذكر أنه كان يمشي
مع أنس فمرّ بصبيان فسلّم عليهم، وحدّث أنه كان يمشي مع رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم فمرّ بصبيان فسلّم عليهم. وأما
التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من
مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين. وأما المتجالات- المتجالة
الهرمة المسنة- والعجز فحسن للأمن فيما ذكرناه وإليه ذهب مالك
وطائفة من العلماء.
ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم وقالوا: لما سقط عن
النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن
ردّ السّلام فلم يسلّم عليهن. والصحيح الأول لما خرجه البخاري
عن سهل بن سعد قال:
كنا نفرح بيوم الجمعة. قلت ولم؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلى
بضاعة- قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة- فتأخذ من أصول السّلق
فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة
انصرفنا فنسلّم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله، ولا كنا
نقيل ولا نتغذى إلا بعد الجمعة. تكركر أي تطحن. ولا تكفي
الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي، وعندنا تكفي إذا كان على
بعد وأما الكافر فحكم الردّ عليه أن يقال له:
وعليكم. وقال عطاء: الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلّم من غيرهم
قيل له: عليك، كما جاء في الحديث في صحيح مسلم: «عليك» بغير
واو وهي الرواية الواضحة، ورواية حذف الواو أحسن معنى وإثباتها
أصح رواية وأشهر، وعليها من العلماء أكثر. ولا يسلّم على
المصلي فإن سلّم عليه فهو بالخيار، إن شاء رد بالإشارة بإصبعه
وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يردّ. ولا ينبغي أن يسلّم
على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه.
(1/441)
اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا
رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ
أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ
أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
سَبِيلًا (88)
[سورة النساء (4) : آية 87]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
حَدِيثاً (87)
قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قال مقاتل: نزلت في
الذين شكّوا في البعث. قال الزجاج:
واللام في «لَيجمعنكم» لام القسم، كقولك: واللهِ ليجمعنّكم،
قال: وجائِز أن تكون سُميت القيامة، لقيام الناس من قبورهم،
وجائِز أن تكون، لقيامهم للحساب.
قوله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً إِنما وصف
نفسه بهذا، لأن جميع الخلق يجوز عليهم الكذب، ويستحيل في حقّه.
[سورة النساء (4) : آية 88]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ
أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ
أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
سَبِيلاً (88)
(1/442)
قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي
الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ في سبب نزولها سبعة أقوال «1» :
(322) أحدها: أن قوماً أسلموا، فأصابهم وَبَاء بالمدينة
وحِماها، فخرجوا فاستقبلهم نفرٌ من المسلمين، فقالوا: ما لكم
خرجتم؟ قالوا: أصابنا وباء بالمدينة، واجتويناها «2» ، فقالوا:
أما لكم في رسول الله أسوةٌ؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم:
لم ينافقوا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن
أبيه.
(323) والثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خرج
إِلى أُحد، رجع ناسٌ ممن خرج معه، فافترق فيهم أصحاب رسول
الله، ففرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا نقتلهم، فنزلت هذه
الآية، هذا في «الصحيحين» من قول زيد بن ثابت.
(324) والثالث: أن قوماً كانوا بمكة تكلموا بالإِسلام وكانوا
يعاونون المشركين، فخرجوا من مكة لحاجة لهم، فقال قوم من
المسلمين: اخرجوا إِليهم فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عدوّكم. وقال
قوم:
كيف نقتلهم وقد تكلموا بمثل ما تكلمنا به؟ فنزلت هذه الآية،
رواه عطية عن ابن عباس.
(325) والرابع: أن قوماً قدموا المدينة، فأظهروا الإِسلام، ثم
رجعوا إلى مكة، فأظهروا الشرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول
الحسن، ومجاهد.
(326) والخامس: أن قوماً أعلنوا الإِيمان بمكة وامتنعوا من
الهجرة، فاختلف المؤمنون فيهم، فنزلت هذه الآية، وهذا قول
الضّحّاك.
__________
ضعيف. أخرجه أحمد 1/ 192 والواحدي في «أسباب النزول» 342 عن
أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه بنحوه، وإسناده منقطع،
أبو سلمة لم يسمع من أبيه شيئا. وله علة ثانية ابن إسحاق مدلس،
وقد عنعن. وورد بنحوه عن السدي مرسلا أخرجه الطبري 10064، وهو
ضعيف. والصواب في ذلك ما رواه الشيخان، وهو الآتي.
صحيح. أخرجه البخاري 1884 و 4050 و 4589 ومسلم 1384 و 2776
والترمذي 3028 والنسائي في «التفسير» 133 وأحمد 5/ 184 و 187 و
188 والطبري 10055 والواحدي 341 عن زيد بن ثابت.
ضعيف. أخرجه الطبري 10060 عن عطية، عن ابن عباس، وإسناده واه
لأجل عطية العوفي.
ضعيف. أخرجه الطبري 10058 عن مجاهد مرسلا، وذكره الواحدي في
«أسباب النزول» 342 م عن مجاهد بدون إسناد، وهو ضعيف لكونه
مرسلا، والصحيح ما رواه الشيخان.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» 2/ 190 وزاد نسبته لعبد بن
حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ضعيف. أخرجه الطبري 10063 عن الضحاك، مرسلا.
__________
(1) قال أبو جعفر رحمه الله في «تفسيره» 4/ 196: وأولى هذه
الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف
أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوم كانوا ارتدوا عن
الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة.
وفي قول الله تعالى ذكره: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ
أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا أوضح دليل على أنهم كانوا من غير
أهل المدينة. لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر، فأما من كان
بالمدينة في دار الهجرة مقيما فلم يكن عليه فرض هجرة.
(2) في «اللسان» اجتويت البلد: أي استوخموها. ولم توافقهم
وكرهوها لسقم أصابهم قالوا: وهو مشتق من الجوى، وهو داء في
الجوف.
(1/443)
وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا
تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا
وَلَا نَصِيرًا (89)
(327) والسادس: أن قوماً من المنافقين
أرادوا الخروج من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إِنه قد أصابتنا
أوجاع في المدينة، فلعلنا نخرج فنتماثل، فإنا كنا أصحاب بادية،
فانطلقوا، واختلف فيهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي.
(328) والسابع: أنها نزلت في شأن ابن أُبيّ حين تكلّم في عائشة
بما تكلّم، وهذا قول ابن زيد.
وقوله تعالى: فَما لَكُمْ خطاب للمؤمنين. والمعنى: أي شيء لكم
في الاختلاف في أمرهم؟
و «الفئة» : الفرقة. وفي معنى «أركسهم» أربعة أقوال: أحدها:
ردّهم، رواه عطاء، عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: ركست الشيء،
وأركسته: لغتان، أي: نكسهم وردهم في كفرهم، وهذا قول الفراء،
والزجاج. والثاني: أوقعهم، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.
والثالث: أهلكهم، قاله قتادة.
والرابع: أضلّهم، قاله السدّي.
فأما الذي كسبوا، فهو كفرهم، وارتدادهم. قال أبو سليمان. إِنما
قال: أتريدون أن تهدوا مَن أضل الله، لأن قوماً من المؤمنين
قالوا: إِخواننا، وتكلموا بكلمتنا.
قوله تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا فيه قولان: أحدهما:
إِلى الحجة، قاله الزجاج. والثاني: إِلى الهدى، قاله أبو
سليمان الدّمشقيّ.
[سورة النساء (4) : آية 89]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً
فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا
وَلا نَصِيراً (89)
قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا أخبر الله
عزّ وجلّ المؤمنين بما في ضمائِر تلك الطائِفة، لئلا يحسنوا
الظنّ بهم، ولا يجادلوا عنهم، وليعتقدوا عداوتهم.
قوله تعالى: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ أي: لا
توالوهم فإنهم أعداء لكم حَتَّى يُهاجِرُوا أي:
يرجعوا إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن عباس: فإن
تولوا عن الهجرة والتوحيد، فَخُذُوهُمْ أي: ائسروهم، واقتلوهم
حيث وجدتموهم في الحِل والحرم.
فصل: قال القاضي أبو يعلى: كانت الهجرة فرضاً إِلى أن فتحت
مكّة «1» . وقال الحسن: فرض
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 10064 عن السدي مرسلا.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 10065 عن ابن زيد مرسلا، وابن زيد
متروك، ليس بشيء.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 149- 152:
الهجرة: هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام. قال الله
تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها الآيات. وروي عن النبي
صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أنا بريء من مسلم بين مشركين،
لا تراءى ناراهما» . وحكم الهجرة باق، لا ينقطع إلى يوم
القيامة. في قول عامة أهل العلم. وقال قوم: قد انقطعت الهجرة،
لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا هجرة بعد الفتح» وروي
أن صفوان بن أمية لما أسلم، قيل له: لا دين لمن لم يهاجر. فقال
له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما جاء بك أبا وهب؟» قال:
قيل: إنه لا دين لمن لم يهاجر. قال «ارجع أبا وهب إلى أباطح
مكة، أقرّوا على مساكنكم، قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية» .
روى ذلك كله سعيد. ولنا، ما روى معاوية، قال سمعت رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع
التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» . رواه
أبو داود. وأما الأحاديث الأول، فأراد بها، لا هجرة بعد الفتح
من بلد قد فتح. وقوله لصفوان: «إن الهجرة قد انقطعت» . يعني من
مكة، لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار، فإذا فتح لم يبق بلدا
لكفار، فلا تبقى منه هجرة. وإذا ثبت هذا فالناس في الهجرة على
ثلاثة أضرب- وذكر الأوجه الثلاثة.
(1/444)
إِلَّا الَّذِينَ
يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ
جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ
يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ
عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ
اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
الهجرة باق، واعلم أن الناس في الهجرة على
ثلاثة أضرب: أحدها: من تجب عليه، وهو الذي لا يقدر على إِظهار
الإِسلام في دار الحرب، خوفاً على نفسه، وهو قادرٌ على الهجرة،
فتجب عليه لقوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً
فَتُهاجِرُوا فِيها «1» . والثاني: من لا تجب عليه بل تستحب
له، وهو من كان قادراً على إِظهار دينه في دار الحرب. والثالث:
من لا تستحب له وهو الضعيف الذي لا يقدر على إِظهار دينه، ولا
على الحركة كالشيخ الفاني، والزّمِن، فلم تستحب له للحوق
المشقّة.
[سورة النساء (4) : آية 90]
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ
يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ
السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً
(90)
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ هذا الاستثناء راجع
إِلى القتل، لا إِلى الموالاة وفي «يصلون» قولان: أحدهما: أنه
بمعنى يتّصلون ويلجئون.
(329) قال ابن عباس: كان هلال بن عويمر الأسلمي وادع رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم على أن لا يعينه ولا يعين عليه. فكان من
وصل إِلى هلال من قومه وغيرهم، فلهم من الجوار مثل ما لهلال.
والثاني: أنه بمعنى ينتسبون، قاله ابن قتيبة، وأنشد.
إِذا اتَّصلَتْ قالتْ أبكرَ بنَ وائلٍ ... وبكرٌ سَبَتْها
والأنوفُ رواغمُ
يريد: إِذا انتسبت، قالت: أبكراً، أي: يا آل بكر.
وفي القوم المذكورين أربعة أقوال: أحدها: أنهم بنو بكر بن زيد
مناة، قاله ابن عباس. والثاني:
أنهم هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك، وخزيمة بن عامر
بن عبد مناف، قاله عكرمة.
والثالث: أنهم بنو مدلج، قاله الحسن. والرابع: خزاعة وبنو
مدلج، قاله مقاتل. قال ابن عباس:
«والميثاق» : العهد.
قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: أو
يصلون إلى قوم جاءوكم، قاله الزجاج في جماعة. والثاني: أنه
يعود إِلى المطلوبين للقتل. فتقديره: أو رجعوا فدخلوا فيكم،
وهو بمعنى قول السدي. قوله تعالى: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ فيه
قولان: أحدهما: أن فيه إِضمار «قد» .
والثاني: أنه خبرٌ بعد خبر، فقوله جاؤُكُمْ: خبرٌ قد تم،
وحصِرت: خبرٌ مستأنف، حكاهما
__________
عزاه السيوطي في «أسباب النزول» 328 لابن أبي حاتم عن ابن
عباس.
__________
(1) سورة النساء: 97.
(1/445)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ
مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا
أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
الزجاج. وقرأ الحسن ويعقوب والمفضل، عن
عاصم: «حَصِرةً صدورُهم» على الحال. و «حصرت» :
ضاقت، ومعنى الكلام: ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم
وبينهم، أو يقاتلوا قومَهم، يعني قريشاً. قال مجاهد: هلال بن
عويمر هو الذي حصِر صَدرُه أن يقاتلكم، أو يقاتل قومه. قوله
تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ قال
الزجاج: أخبر أنه إِنما كفّهم بالرعب الذي قذف في قلوبهم.
وفي السَّلَمَ قولان: أحدهما: أنه الإِسلام، قاله الحسن.
والثاني: الصُلح، قاله الربيع، ومقاتل.
فصل: قال جماعة من المفسّرين: معاهدة المشركين وموادعتهم
المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية السيف. قال القاضي أبو
يعلى: لما أعزّ الله الإِسلام أُمروا أن لا يقبلوا من مشركي
العرب إِلاَّ الإسلام أو السّيف «1» .
[سورة النساء (4) : آية 91]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ
وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ
أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة
أقوال:
(330) أحدها: أنها نزلت في أسد وغطفان، كانوا قد تكلموا
بالإِسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم، ويأمنوا قومهم بكفرهم،
رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في بني عبد الدار، رواه الضحاك، عن ابن
عباس.
(331) والثالث: أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا،
قاله قتادة.
(332) والرابع: أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، كان يأمن
في المسلمين والمشركين،
__________
ضعيف جدا، فهو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس،
والكلبي متروك متهم، وأبو صالح روى عن ابن عباس مناكير.
ضعيف. أخرجه الطبري 10087 عن قتادة مرسلا.
وذكره السيوطي في «الدر» 2/ 343 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن
المنذر وابن أبي حاتم.
ضعيف. أخرجه الطبري 10088 عن السدي مرسلا.
وذكره السيوطي في «الدر» 2/ 343 وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
__________
(1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 203- 208: ولا تقبل
الجزية إلا من يهودي أو نصراني، أو مجوسي، إذا كانوا مقيمين
على ما عوهدوا عليه. لأن الله تعالى أمر بقتالهم لهم حتى يعطوا
الجزية، أي يلتزموا أداءها، فما لم يوجد ذلك، يبقوا على إباحة
دمائهم وأموالهم، ومن سواهم، فالإسلام أو القتل. هذا ظاهر مذهب
أحمد. وروى عنه الحسن بن ثواب، أنها تقبل من جميع الكفار إلا
عبدة الأوثان من العرب. لتغلظ كفرهم من وجهين دينهم وكونهم من
رهط النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو حنيفة: تقبل من جميع
الكفار إلا العرب لأنهم رهط النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلا
يقرّون على غير دينه. وقال الشافعي: لا تقبل إلا من أهل الكتاب
والمجوس، وعن مالك:
تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش، لأنهم ارتدّوا.
(1/446)
وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
فينقل الحديث بين النبي عليه السلام
وبينهم، ثم أسلم نُعيم، هذا قول السدي.
ومعنى الآية: ستجدون قوماً يظهرون الموافقة لكم ولقومهم،
ليأمنوا الفريقين، كلما دعوا إلى الشرك، عادوا فيه، فان لم
يعتزلوكم في القتال، ويلقوا إليكم الصّلح، ويكفوا أيديهم عن
قتالكم، فخذوهم، أي: ائسروهم، واقتلوهم حيث أدركتموهم،
وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجة بيّنة في قتلهم.
فصل: قال أهل التفسير: والكف عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية
منسوخ بآية السّيف.
[سورة النساء (4) : آية 92]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ
يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ
اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)
قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً
إِلَّا خَطَأً في سبب نزولها قولان:
(333) أحدهما: أن عياش بن أبي ربيعة أسلم بمكّة قبل هجرة رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم خاف أن يظهر إِسلامه لقومه،
فخرج إِلى المدينة فقالت أُمُّه لابنيها أبي جهل، والحارث ابني
هشام، وهما أخواه لأمّه:
والله لا يُظلّني سقف، ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتياني
به. فخرجا في طلبه، ومعهما الحارث بن زيد، حتى أتوا عيّاشاً
وهو مُتحَصّنٌ في أُطُم «1» ، فقالوا له: انزل فإن أُمّك لم
يُؤوها سقفٌ، ولم تذق طعاماً، ولا شراباً، ولك علينا أن لا
نحول بينكَ وبين دينك، فنزل، فأوثقوه، وجلده كلُّ واحد منهم
مائة جلدة، فقدموا به على أُمّه، فقالت: والله لا أحُلُّك من
وَثاقك حتى تكفُر، فطُرِحَ موثقاً في الشمس حتى أعطاهم ما
أرادوا، فقال له الحارث بن زيد: يا عياش لئن كان ما كنت عليه
هدى لقد تركته، وإِن كان ضلالاً لقد ركبته فغضب، وقال: والله
لا ألقاك خالياً إلا قتلتك، ثم أفلت عياش بعد ذلك وهاجر إلى
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، ثم أسلم الحارث بعده
وهاجر، ولم يعلم عياش، فلقيه يوماً فقتله، فقيل له: إنه قد
أسلم، فجاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بما كان،
وقال: لم أشعر باسلامه، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن
ابن عباس. وهو قول سعيد بن جبير، والسدّي، والجمهور.
(334) والثاني: أن أبا الدرداء قتل رجلاً قال لا إِله إِلا
الله في بعض السّرايا، ثم أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بإثر 343 عن الكلبي بدون
إسناد، وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا،
وورد بمعناه، أخرجه الطبري 10098 عن السدي مرسلا و 10097 عن
عكرمة مرسلا و 10095 و 10096 عن مجاهد مرسلا. وورد مختصرا عند
الواحدي في «أسباب النزول» 343 والبيهقي 8/ 72 عن عبد الرحمن
بن القاسم عن أبيه، وهذا مرسل، ولعل هذه الروايات تتأيد
بمجموعها، والله أعلم.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 10099 عن ابن زيد وهو معضل ومع ذلك عبد
الرحمن بن زيد ضعيف الحديث ليس بشيء إن وصل الحديث فكيف إذا
أرسله؟! وقد صح ذلك في أسامة بن زيد. انظر «تفسير ابن كثير» 1/
547 بتخريجنا.
__________
(1) الأطم: الحصن، كما في الصحاح.
(1/447)
فذكر له ما صنع، فنزلت هذه الآية، هذا قول
ابن زيد.
قال الزجاج: معنى الآية: وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمنا البتّة.
والاستثناء ليس من الأوّل، وإنما المعنى: إلا أن يخطئ المؤمن.
روى أبو عبيدة، عن يونس: أنه سأل رؤبة عن هذه الآية، فقال: ليس
له أن يقتله عمداً ولا خطأ «1» ، ولكنّه أقام «إِلا» مقام
«الواو» قال الشاعر:
وكلُّ أخٍ مُفَارقُه أخوهُ ... لَعَمْرُ أبيكَ إِلاَّ
الفَرقَدَانِ «2»
أرَادَ: والفَرْقَدَانِ. وقال بعضُ أهل المعاني: تقديرُ الآية:
لكن قد يقتله خطأ، وليس ذلك فيما جعل الله له، لأن الخطأ لا
تصح فيه الإِباحة، ولا النهي. وقيل: إِنما وقع الاستثناء على
ما تضمنته الآية من استحقاق الإثم، وإِيجاب القتل.
قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ قال سعيدُ بنُ
جبير: عتق الرقبة واجبٌ على القاتِل في ماله، واختلفوا في عتق
الغلام الذي لا يصح منه فعل الصلاة والصيام، فروي عن أحمد
جوازه، وكذلك روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهذا قول عطاء،
ومجاهد. وروي عن أحمد: لا يجزئ إِلا من صام وصلى، وهو قول ابن
عباس في رواية، والحسن، والشعبي، وإِبراهيم، وقتادة. قوله
تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ قال القاضي أبو
يعلى: ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدية، واتفق
الفقهاء على أنها عاقلة القاتل، تحملها عنه على طريق المواساة،
وتلزم العاقلة في ثلاث سنين، كل سنة ثلثها، والعاقلة: العصبات
من ذوي الأنساب. ولا يلزم الجاني منها شيء. وقال أبو حنيفة: هو
كواحد من العاقلة «3» . وللنفس ستة أبدال: من الذهب ألف دينار،
ومن الوَرِق اثنا عشر ألف درهم، ومن الإبل مائة، ومن البقرة
مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، وفي الحلل روايتان عن أحمد.
إِحداهما: أنها أصل، فتكون مائتا حلة. فهذه دية الذكر الحرّ
المسلم، ودية الحُرّة المسلمة على النصف من ذلك «4» . قوله
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 206: والصواب
في ذلك أن يقال: إن الله عرّف عباده بهذه الآية على من قتل
مؤمنا خطأ من كفارة ودية. وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن
أبي ربيعة وقتيله، وفي أبي الدرداء وصاحبه. وأي ذلك كان، فالذي
عنى الله تعالى بالآية: تعريف عباده ما ذكرناه، وقد عرف من عقل
عنه من عباده تنزيله، وغير ضائرهم جهلهم بما نزلت فيه.
(2) البيت لعمرو بن معديكرب كما في «الكامل» 3/ 1240، وفي
«اللسان» الفرقدان: نجمان في السماء لا يغربان، ولكنهما يطوفان
بالجدي.
(3) قال الإمام الموفق رحمه الله في المغني 12/ 21: ولا نعلم
بين أهل العلم خلافا في أن دية الخطأ على العاقلة. قال ابن
المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم وقد ثبتت
الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه قضى بدية
الخطأ على العاقلة. وفي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن عمر رضي
الله عنه، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن
الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن
يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتلهم،
فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرفع يديه وقال:
«اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» ، قال ابن إسحاق: وبعث
عليا، فودى قتلاهم، وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة الكلب. وهذا
يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال. [.....]
(4) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 6- 12: أجمع
أهل العلم على أن الإبل أصل في الدية، وأن دية الحر المسلم
مائة من الإبل. وهنا إحدى الروايتين عن أحمد، رحمه الله. وقال
القاضي: لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل، والذهب، والورق،
والبقر، والغنم، فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها.
ولنا، قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن في قتيل عمد
الخطأ، قتيل السوط والعصا، مائة من الإبل» ولأن النبي صلّى
الله عليه وسلّم فرّق بين دية العمد والخطأ فغلّظ بعضها، وخفف
بعضها، ولا يتحقق هذا في غير الإبل، ولأنه بدل متلف حقا لآدمي،
فكان متعينا، كعوض الأموال. فإن قلنا: هي خمسة أصول، فإن قدرها
من الذهب ألف مثقال، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم، ومن البقر
والحلل مائتان، ومن الشاة ألفان، ولم يختلف القائلون بهذه
الأصول في قدرها من الذهب، ولا من سائرها، إلا الورق. فإن
الثوري وأبا حنيفة وصاحبيه قالوا: قدرها عشرة آلاف من الورق.
وعلى هذا، أي شيء أحضره من عليه الدية من القاتل أو العاقلة من
هذه الأصول، لزم الولي أخذه، ولم يكن له المطالبة بغيره، لأنها
أصول في قضاء الواجب، يجزئ واحد منها.
(1/448)
تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا قال سعيد
بن جبير: إِلا أن يتصدّق أولياء المقتول بالدية على القاتل.
قوله تعالى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: وإِن كان المقتول خطأ
من قوم كفار، ففيه تحرير رقبة من غير دية، لأن أهل ميراثه
كفار. والثاني: وإِن كان مقيماً بين قومه، فقتله من لا يعلم
بإيمانه، فعليه تحرير رقبة ولا دية، لأنه ضيّع نفسه بإقامته مع
الكفار، والقولان مرويّان عن ابن عباس، وبالأول قال النخعي،
وبالثاني سعيد بن جبير. وعلى الأول تكون «مِن» للتبعيض، وعلى
الثاني تكون بمعنى في.
قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثاقٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الرجل من أهل الذّمة يُقتل
خطأ، فيجب على قاتله الدية، والكفارة، هذا قول ابن عباس،
والشّعبيّ، وقتادة، والزّهريّ. ولأبي حنيفة، والشافعي،
ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما يجب من الدية «1» . والثاني: أنه
المؤمن يقتل، وقومه مشركون، ولهم عقد، فديته لقومه، وميراثه
للمسلمين، هذا قول النخعي.
قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ اختلفوا هل هذا الصيام بدل من الرقبة وحدها
إِذا عدِمها، أو بدل من الرقبة والدية؟ فقال الجمهور: عن
الرقبة وحدها، وقال مسروق، ومجاهد، وابن سيرين: عنهما. واتفق
العلماء على أنه إِذا تخلّل صوم الشهرين إِفطار لغير عذر،
فعليه الابتداء، فأما إِذا تخللها المرض، أو الحيض، فعندنا لا
ينقطع التتابع. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة:
المرض يقطع! والحيض لا يقطع، وفرق بينهما بأنه يمكن في العادة
صوم شهرين بلا مرض، ولا يمكن ذلك في الحيض، وعندنا أنها معذورة
في الموضعين «2» .
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 51- 54: ودية
الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم، ونساؤهم، على النصف من
دياتهم. هذا ظاهر المذهب، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك.
وعن أحمد، أنها ثلث دية المسلم. إلا أنه رجع عنها، فإن صالحا
روى عنه أنه قال: كنت أقول: إن دية اليهودي والنصراني أربعة
آلاف، وأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم، وهذا صريح في
الرجوع عنه.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 11/ 88- 90: فإن
أفطر فيهما من عذر بنى، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ. أجمع أهل
العلم على وجوب التتابع في الصيام في الكفّارة، وأجمعوا على أن
من صام بعض الشهر، ثم قطعه لغير عذر، وأفطر، أن عليه استئناف
الشهرين، وإنما كان ذلك لورود لفظ الكتاب والسنة به، ومعنى
التتابع الموالاة بين صيام أيامها، فلا يفطر فيهما. ولم يفتقر
التتابع إلى نية كالمتابعة بين الركعات، وأجمع أهل العلم على
أن الصائمة متتابعا، إذا حاضت قبل إتمامه، تقضي إذا طهرت،
وتبني، وذلك لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا
بتأخيره إلى الإياس، وفيه تغرير بالصوم، والنفاس كالحيض، في
أنه لا يقطع التتابع، في أحد الوجهين، لأنه بمنزلة في أحكامه،
ولأن الفطر لا يحصل فيهما بفعلهما، والوجه الثاني: أن النفاس
يقطع التتابع، لأنه فطر أمكن التحرز منه، لا يتكرر كل عام، ولا
يصح قياسه على الحيض، لأنه أندر منه، ويمكن التحرز عنه. وإن
أفطر لمرض مخوّف، لم ينقطع التتابع أيضا. وبه قال مالك،
والشافعي في القديم وقال في الجديد: ينقطع التتابع، لأنه أفطر
اختيارا، فانقطع التتابع. وإن أفطر في أثناء الشهرين لغير عذر،
أو قطع التتابع بصوم نذر، أو قضاء، أو تطوّع لزمه استئناف
الشهرين، لأنه أخلّ بالتتابع المشترط، ويقع صومه عمّا نواه.
(1/449)
وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا (93)
قوله تعالى: تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ قال
الزجاج: معناه: فعل الله ذلك توبة منه. قوله: وَكانَ اللَّهُ
عَلِيماً أي: لم يزل عليماً بما يُصلح خلقه من التكليف
حَكِيماً فيما يقضي بينهم، ويدبّره في أمورهم.
[سورة النساء (4) : آية 93]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ
خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ
لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً.
(335) سبب نزولها: أن مقيس بن صُبابة وجد أخاه هشام بنُ صبابة
قتيلاً في بني النّجار، وكان مسلما، فأتى رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم فذكر ذلك له، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
رسولاً من بني فهر، فقال له: إِيت بني النجّار، فأقرئهم مني
السلام، وقل لهم: إِن رسول الله يأمركم إِن علمتم قاتل هشام،
فادفعوه إلى مقيس، وإِن لم تعلموا له قاتلاً، فادفعوا إِليه
ديته، فأبلغهم الفهري ذلك، فقالوا: والله ما نعلم له قاتلاً،
ولكنّا نعطي ديته، فأعطوه مائة من الإِبل، ثم انصرفا راجعين
إِلى المدينة، فأتى الشيطان مقيس بن صُبابة، فقال: تقبل دية
أخيك، فيكون عليك سبّة ما بقيت. اقتل الذي معك مكان أخيك،
وافضل بالدّية، فرمى الفهري بصخرةٍ، فشدخ رأسه، ثم ركب بعيراً
منها، وساق بقيّتها راجعاً إلى مكة، وهو يقول:
قتلت به فهراً وحمَّلْتُ عقلهُ ... سُراةَ بني النّجار أرباب
فارِع
وأدركت ثأري واضَّطجعْتُ موسداً ... وكنت إِلى الأصنام أول
راجع «1»
فنزلت هذه الآية، ثم أهدر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دمه يوم
الفتح، فقتل، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وفي قوله تعالى: مُتَعَمِّداً قولان: أحدهما: متعمداً لأجل أنه
مؤمن، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: متعمداً لقتله، ذكره بعض المفسرين. وفي قوله تعالى:
فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ قولان:
أحدهما: أنها جزاؤه قطعاً. والثاني: أنها جزاؤه إِن جازاه.
واختلف العلماء هل للمؤمن إِذا قتل مؤمناً متعمداً توبة أم لا؟
فذهب الأكثرون إِلى أن له توبة، وذهب ابن عباس إِلى أنه لا
توبة له.
فصل: اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فقال
قوم: هي محكمة،
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 344 عن الكلبي عن أبي صالح عن
ابن عباس بدون إسناد. وهذا إسناد ساقط مع كونه معلقا، الكلبي
متروك متهم. وأخرجه الطبري 1091 مختصرا عن عكرمة مرسلا.
__________
(1) في «اللسان» العقل في كلام العرب: الدية. سراة: اسم للجمع،
والسّري: الرفيع في كلام العرب من سرا:
السّرو: المروءة والشرف. الفارع: يقال فلان فارع: مرتفع طويل.
(1/450)
واحتجّوا بأنها خبرٌ، والأخبار لا تحتمل
النسخ، ثم افترق هؤلاء فرقتين، إِحداهما قالت: هي على ظاهرها،
وقاتل المؤمن مخلد في النار، والفرقة الثانية قالت: هي عامة قد
دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله كافر، ثم أسلم الكافر، انهدرت
عنه العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا ثبت كونها من العامّ
المخصّص، فأي دليل صلح للتخصيص وجب العمل به. ومن أسباب
التخصيص أن يكون قَتله مستحلاً، فيستحق الخلود لاستحلاله. وقال
قومٌ: هي مخصوصة في حقّ من لم يَتُب، واستدلوا بقوله تعالى في
«الفرقان» : إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا
صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «1» . وقال آخرون: هي منسوخة
بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» .
__________
(1) سورة الفرقان: 70.
(2) سورة النساء: 48. قال الشوكاني رحمه الله في «تفسيره» 1/
576: وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟
فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف فيه علماء أهل
الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه
الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً وهي آخر ما نزل
وما نسخها شيء، وقد روى النسائي نحو هذا وروى النسائي عن زيد
بن ثابت نحوه، وممن ذهب: إلى أنه لا توبة له من السلف أبو
هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبو سلمة، وعبيد بن عمير، والحسن،
وقتادة، والضحاك بن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم عنهم. وذهب
الجمهور: إلى أن التوبة منه مقبولة، واستدلوا بمثل قوله تعالى:
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقوله: وَهُوَ
الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وقوله: وَيَغْفِرُ
ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قالوا أيضا:
والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان، فيكون معناهما:
جزاؤه جهنم إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد السبب- وهو القتل-
والموجب، وهو التوعد بالعقاب. واستدلوا أيضا: بالحديث المذكور
في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلّى الله عليه وسلّم قال:
«بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا
النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ثم قال: فمن أصاب من ذلك شيئا
فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، وبحديث
أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره: في الذي قتل مائة
نفس، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: إلى أن
القاتل عمدا دخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب. والحق: أن باب
التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام
الدخول منه، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه
التوبة إلى الله، ويقبل من صاحبه الخروج منه، والدخول في باب
التوبة، فكيف ما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمدا؟
لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل، وتسليم نفسه
للقصاص إن كان واجبا، أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجبا،
وكان القاتل غنيا متمكنا من تسليمها أو بعضها، وأما مجرد
التوبة من القاتل عمدا، وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد، من
دون اعتراف، ولا تسليم نفس، فنحن لا نقطع بقبولها، والله أرحم
الراحمين، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 550: وأما مطالبة
المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا
تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردّها إليهم ولا فرق بين المقتول
والمسروق منه، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن
الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها
إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم
القيامة، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد
يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يفضل
له أجر يدخل به الجنة، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله
من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك والله أعلم.
واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة، أو صيام شهرين
متتابعين، أو إطعام على قولين فالشافعي وأصحابه وطائفة من
العلماء يقولون: نعم يجب عليه لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في
الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى وأصحاب الإمام أحمد وآخرون:
قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه وكذا اليمين الغموس.
وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه
الإمام أحمد حيث قال: عن واثلة بن الأسقع قال: أتى النبي صلّى
الله عليه وسلّم نفر من بني سليم فقالوا إن صاحبا لنا قد أوجب
قال: «فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضوا من النار» .
والله أعلم.
(1/451)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
(94)
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى
إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ
الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ
كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً
(94)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا في سبب نزولها أربعة أقوال:
(336) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث سريّة فيها
المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم، وجدوهم قد تفرقوا، وبقي
رجل له مالٌ كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إِله إِلا الله،
فأهوى إِليه المقداد بن الأسود فقتله. فقال له رجل من أصحابه:
أقتلت رجلاً يشهد أن لا إِله إِلا الله؟! لأذكرن ذلك للنبي.
فلما قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا له: يا رسول
الله إِن رجلاً شهد أن لا إِله إِلا الله، فقتله المقداد،
فقال: ادعوا لي المقداد، فقال: يا مقداد أقتلت رجلاً قال: لا
إِله إِلا الله، فكيف لك ب «لا إِله إِلا الله غداً» ! فنزلت
هذه الآية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمقداد: كان
رجل مؤمن يخفي إِيمانه مع قوم كفار فأظهر إِيمانه فقتلته؟
وكذلك كنت تخفي إِيمانك بمكة قبل. رواه سعيد بن جبير عن ابن
عباس.
(337) والثاني: أن رجلاً من بني سليم مرَّ على نفرٍ من أصحاب
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه غنم، فسلّم عليهم،
فقالوا: ما سلّم عليكم إِلا ليتعوّذ منا، فعمدوا إِليه فقتلوه
وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت
هذه الآية. رواه عكرمة، عن ابن عباس.
(338) والثالث: أن قوماً من أهل مكة سمعوا بسريّة لرسول الله
صلّى الله عليه وسلّم أنها تريدهم فهربوا، وأقام
__________
حسن، أخرجه البزار 2202 والطبراني في «الكبير» 12379 وإسناده
حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 8: رواه البزار، وإسناده
جيد. ويمكن الجمع بين هذا وما بعده بتعدد الحادثة، والله أعلم.
صحيح. أخرجه الترمذي 3030 وأحمد 1/ 229 و 272 و 324 والطبري
10222 والطبراني 11731 والحاكم 2/ 235 والبيهقي 9/ 115
والواحدي في «أسباب النزول» 346 من طرق عن عكرمة به. وصححه
الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث حسن اه. وأخرجه
البخاري 4591 ومسلم 3025 وأبو داود 3974، والطبري 10219 و
10220 و 10221 والواحدي 345 والبيهقي 9/ 115 من طرق عن سفيان
بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس بنحوه.
ضعيف جدا بهذا اللفظ، قال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 552:
أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس اه.
والكلبي متهم بالكذب، وخصوصا في روايته عن أبي صالح. وأخرجه
الطبري 10226 من رواية أسباط عن السدي مرسلا وليس فيه استغفار
النبي صلّى الله عليه وسلّم لأسامة، وقوله: «أعتق رقبة» .
- وأصل الخبر في الصحيحين البخاري 4269 ومسلم 96 من حديث أسامة
بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم إلى الحرقة فصبّحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من
الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكفّ
الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلّى
الله عليه وسلّم فقال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله
إلا الله؟ قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم
أكن أسلمت قبل ذلك اليوم» فهذا الذي صح في ذلك، فعليك به،
والله الموفق.
(1/452)
رجل منهم كان قد أسلم، يقال له: مرداس،
وكان على السريّة رجل، يقال له: غالب بن فضالة، فلما رأى مرداس
الخيل، كبر، ونزل إِليهم، فسلم عليهم، فقتله أسامة بن زيد،
واستاق غنمه، ورجعوا إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه،
فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وجدا شديدا،
وأنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السدي: كان
أسامة أمير السريّة.
(339) والرابع: أن رسول الله بعث أبا حدرد الأسلمي، وأبا
قتادة، ومحلِّم بن جثامة في سريّة إِلى إِضم «1» ، فلقوا عامر
بن الأضبط الأشجعي، فحيّاهم بتحية الإِسلام، فحمل عليه محلم بن
جثامة، فقتله، وسلبه بعيراً وسقاء. فلما قدموا على النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم، أخبروه، فقال: أقتلته بعد ما قال آمنت؟!
ونزلت هذه الآية. رواه ابن أبي حدرد، عن أبيه.
فأما التفسير، فقوله تعالى: إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أي: سرتم وغزوتم. وقوله تعالى:
فَتَبَيَّنُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن
عامر: فَتَبَيَّنُوا بالنون من التبيين للأمر قبل الإِقدام
عليه. وقرأ حمزة والكسائي وخلف «فتثبّتوا» بالثاء من الثبات
وترك الاستعجال، وكذلك قرءوا في «الحجرات» .
قوله تعالى: لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ قرأ ابن كثير،
وأبو عمرو، وأبو بكر، وحفص، عن عاصم، والكسائي: «السلام»
بالألف مع فتح السين. قال الزجاج: يجوز أن يكون بمعنى التسليم،
ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام. وقرأ نافع. وابن عامر، وحمزة،
وخلف، وجبَلة عن المفضل عن عاصم: «السلم» بفتح السين واللام من
غير ألف وهو من الاستسلام. وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم بكسر
السّين وإِسكان اللام من غير ألف. و «السلم» : الصُلح. وقرأ
الجمهور: لست مؤمناً، بكسر الميم، وقرأ علي، وابن عباس،
وعكرمة، وأبو العالية، ويحيى بن يعمر وأبو جعفر: بفتح الميم من
الأمان.
قوله تعالى: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا و «عرضها»
: ما فيها من مال، قلَّ أو كثر. قال المفسّرون: والمراد به: ما
غنموه من الرجل الذي قتلوه.
قوله تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ فيه قولان:
أحدهما: أنه ثواب الجنة، قاله مقاتل.
والثاني: أنها أبواب الرّزق في الدنيا، قاله أبو سليمان
الدمشقي.
قوله تعالى: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناه: كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه
الكلمة، فلا تُخيفوا من قالها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني:
__________
حسن، أخرجه أحمد 6/ 11 والطبري 5/ 140 والبيهقي في «الدلائل»
4/ 305 والواحدي 349 من حديث أبي حدرد عن أبيه، وإسناده حسن.
وانظر «تفسير الشوكاني» 692 بتخريجنا.
__________
(1) إضم: ماء بين مكة واليمامة عند السمينة، وقيل: واد بجبال
تهامة. وقال ابن السكيت: إضم واد يشق الحجاز حتى يفرع في
البحر- انظر معجم البلدان 1/ 215.
(1/453)
لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
كذلك كنتم تُخفون إِيمانكم بمكة كما كان
هذا يخفي إِيمانه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: كذلك كنتم من قبل مشركين، قاله مسروق وقتادة وابن
زيد.
قوله تعالى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ في الذي مَنّ به أربعة
أقوال: أحدها: الهجرة، قاله ابن عباس. والثاني: إِعلان
الإِيمان، قاله سعيد بن جبير. والثالث: الإِسلام، قاله قتادة،
ومسروق.
والرابع: التوبة على الذي قتل ذلك الرجل، قاله السدي.
قوله تعالى: فَتَبَيَّنُوا تأكيد للأول.
[سورة النساء (4) : آية 95]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)
قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ قال أبو سليمان
الدمشقي: نزلت هذه الآية من أجل قوم كانوا إِذا حضرت غزاة
يستأذنون في القعود.
(340) وقال زيد بن ثابت: إني لقاعد إلى جنب رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم، إِذ غشيَته السكينة، ثم سرِّي عنه، فقال:
«اكتب» (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ... )
الآية، فقام ابن أمِّ مكتوم، فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا
يستطيع الجهاد؟ فو الله ما قضى كلامَه حتى غشيت رسول الله
السكينة، ثم سرِّي عنه، فقال: اقرأ، فقرأت (لا يستوي القاعدون
من المؤمنين والمجاهدون) ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ فألحقتها.
قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ يعني عن الجهاد،
والمعنى: أن المجاهدين أفضل. قال ابن عباس: وأُريد بهذا الجهاد
غزوة بدر. وقال مقاتل: غزاة تبوك.
قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو،
وحمزة: «غيرُ» برفع الرّاء، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي،
وخلف، والمفضل: بنصبها. قال أبو علي: من رفع الراء، جعل «غير»
صفة للقاعدين، ومن نصبها، جعلها استثناءً من القاعدين «1» .
وفي «الضّرر» قولان:
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2832 و 4592 والترمذي 3033 والنسائي 6/ 9
و 10 وأحمد 5/ 184 وابن حبان 4713 والطبري 10244 وابن الجارود
1034 والطبراني 4814 و 4815 و 4899 وأبو نعيم في «الدلائل» 175
كلهم عن سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد،
فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره ...
- وورد بنحوه من حديث الفلتان بن عاصم أخرجه ابن حبان 4712
والطبراني 18/ 856 والبزار 2203 وأبو يعلى 1583. وقال الهيثمي
في «المجمع» 9444: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
ويشهد له أيضا حديث البراء بن عازب أخرجه البخاري 4593 و 4594
ومسلم 1898 والترمذي 1670 والنسائي 6/ 10 والطبري 10238- 10242
والبيهقي 9/ 23. وحديث زيد بن أرقم أخرجه الطبري 10243
والطبراني 5053 وفي الباب أحاديث، فهو حديث مشهور.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 6- 10:
والجهاد فرض على الكفاية، إذا قام به قوم سقط عن الباقين، في
قول عامة أهل العلم. وحكي عن سعيد بن المسيب، أنه من فروض
الأعيان، لقول الله تعالى:
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ التوبة: 41- ثم قال:
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً. وروى أبو
هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من
مات ولم يغز، ولم يحدّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق»
. رواه أبو داود. ولنا، قول الله تعالى: لا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ ... الآية. وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين
مع جهاد غيرهم، وقال الله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا، ولأن رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم كان يبعث السرايا، ويقيم هو وسائر أصحابه. وأما
الآية التي احتجوا بها، فقد قال ابن عباس: نسخها قوله تعالى:
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً رواه الأثرم
وأبو داود. ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم النبي صلّى الله عليه
وسلّم إلى غزوة تبوك، وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبة عليهم،
ولذلك هجر النبي صلّى الله عليه وسلّم كعب بن مالك وأصحابه
الذين خلّفوا حتى تاب الله عليهم بعد ذلك، وكذلك يجب على من
استنفره الإمام لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا
استنفرتم فانفروا» متفق عليه. ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض
للجهاد قوم يكفون في قتالهم، إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من
أجل ذلك، أو يكونوا قد أعدّوا أنفسهم له تبرعا بحيث إذا قصدهم
العدو حصلت المنعة بهم، ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها،
ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو في بلادهم.
(1/454)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ
وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
(96)
أحدهما: أنه العجز بالزّمانة والمرض،
ونحوهما. قال ابن عباس: هم قوم كانت تحسبهم عن الغزاة أمراض
وأوجاع. وقال ابن جبير، وابن قتيبة: هم أولو الزّمانة. وقال
الزجاج: الضرر: أن يكون ضريراً أو أعمى أو زمناً. والثاني: أنه
العذر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
قوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً في هؤلاء القاعدين
قولان:
أحدهما: أنهم القاعدون بالضرر، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: القاعدون من غير ضرر، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال
ابن جرير: والدرجة: الفضيلة. فأما الحسنى فهي الجنة في قول
الجماعة. قوله تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى
الْقاعِدِينَ قال ابن عباس: القاعدون هاهنا: غير أولي الضرر،
وقال سعيد بن جبير: هم الذين لا عذر لهم.
[سورة النساء (4) : آية 96]
دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ
غَفُوراً رَحِيماً (96)
قوله تعالى: دَرَجاتٍ مِنْهُ قال الزجاج: درجات، في موضع نصب
بدلا من قوله تعالى: أَجْراً عَظِيماً، وهو مفسر للأجر. وفي
المراد بالدرجات قولان «1» : أحدهما: أنها درجات الجنة، قال
ابن مُحيريز: الدرجات: سبعون درجة ما بين كل درجتين حُضْرُ
الفرس الجواد المضَّمرِ «2» سبعين سنة، وإِلى نحوه ذهب مقاتل.
والثاني: أن معنى الدرجات: الفضائل، قاله سعيد بن جبير. قال
قتادة: كان
__________
(1) قال الإمام القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 327: قوله
تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وقد قال بعد هذا:
دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً فقال قوم: التفضيل
بالدرجة ثم بالدرجات مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل: إن معنى درجة
علوّ، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ. وقيل:
فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة،
وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات.
(2) في «اللسان» الحضر: ارتفاع الفرس في عدوه. وضمّرت الخيل:
علفتها القوت بعد السمن. وتضمير الفرس أيضا أن تعلفه حتى يسمن
ثم تردّه إلى القوت، وذلك في أربعين يوما. وهذه المدة تسمى
المضمار.
(1/455)
إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا
فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا
فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
(97)
يقال: الإِسلام درجة، والهجرة في الإِسلام
درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة. وقال
ابن زيد: الدرجات: هي السبع التي ذكرها الله تعالى في براءة
حين قال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ... إِلى
قوله: وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ... «1»
. فان قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى ذكر في أول الكلام
درجة، وفي آخره درجات؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الدرجة الأولى
تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر منزلة، والدرجات:
تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر منازل كثيرة،
وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني: أن الدرجة الأولى درجة المدح
والتعظيم، والدرجات: منازل الجنة، ذكره القاضي أبو يعلى.
[سورة النساء (4) : آية 97]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(341) أحدها: أن أناساً كانوا بمكة قد أقروا بالإِسلام، فلمّا
خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إِلى بدر لم تدع قريش أحداً
إِلا أخرجوه معهم، فقتل أولئك الذين أقروا بالإِسلام، فنزلت
فيهم هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(342) وقال قتادة: نزلت في أناس تكلموا بالإِسلام، فخرجوا مع
أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، واعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن
يقبل منهم.
(343) والثاني: أن قوماً نافقوا يوم بدر، وارتابوا، وقالوا:
غرّ هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين حتى قتلوا، فنزلت فيهم
هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(344) والثالث: أنها نزلت في قوم تخلفوا عن النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم، ولم يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي،
ضربت الملائكة وجهه ودبره، رواه العوفي عن ابن عباس.
وفي «التوّفي» قولان: أحدهما: أنه قبض الأرواح بالموت، قاله
ابن عباس، ومقاتل. والثاني:
الحشر إِلى النار، قاله الحسن. قال مقاتل: والمراد بالملائكة
ملك الموت وحده. وقال في موضع
__________
صحيح. أخرجه الطبري 10265 من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن
ابن عباس بأتم منه. وورد من وجه آخر عن أبي الأسود عن عكرمة عن
ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا يكثرون سواد المشركين على
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتي السهم فيرمى به فيصيب
أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية. لفظ
البخاري. أخرجه البخاري 4596 والنسائي في «الكبرى» 1119
والطبري 10266 و 10267 والواحدي 356 وانظر تفسير القرطبي
بتخريجنا.
مرسل. أخرجه الطبري 10272 عن قتادة مرسلا، وهو شاهد لما قبله.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في
روايته عن ابن عباس.
ضعيف. أخرجه الطبري 10268 برواية العوفي عن ابن عباس، والعوفي
وهو محمد بن سعد واه، والصواب ما تقدم عن ابن عباس برواية
البخاري.
__________
(1) سورة التوبة: 120- 121.
(1/456)
إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ
سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ
عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ
يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ
مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ
الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
آخر: ملك الموت وأعوانه، وهم ستة، ثلاثة
يَلون أرواح المؤمنين، وثلاثة يَلون أرواح الكفّار. قال
الزجاج: «ظالمي أنفسهم» نصب على الحال، والمعنى: تتوفّاهم في
حال ظلمهم أنفسهم، والأصل.
ظالمين، لأن النون حذفت استخفافاً. فأما ظلمهم لأنفسهم، فيحتمل
على ما ذكر في قصّتهم أربعة أقوال: أحدها: أنه ترك الهجرة.
والثاني: رجوعهم إلى الكفر. والثالث: الشك بعد اليقين.
والرابع:
إِعانة المشركين.
قوله تعالى: فِيمَ كُنْتُمْ قال الزجاج: هو سؤال توبيخ،
والمعنى: كنتم في المشركين أو في المسلمين. قوله تعالى: قالُوا
كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قال مقاتل: كنا مقهورين
في أرض مكة، لا نستطيع أن نذكر الإِيمان، قالت الملائكة:
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً يعني المدينة
فَتُهاجِرُوا فِيها يعني:
إليها. وقول الملائكة لهم يدل على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة.
[سورة النساء (4) : الآيات 98 الى 99]
إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ
وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ
سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ
عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)
قوله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ.
(345) سبب نزولها: أن المسلمين قالوا في حق المستضعفين من
المسلمين بمكة: هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر، فنزلت هذه
الآية. قاله مجاهد.
قال الزجاج: «المستضعفين» نصب على الاستثناء من قوله تعالى:
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ. قال أبو سليمان: «المستضعفون» : ذوو
الأسنان، والنساء، والصبيان.
قوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً أي: لا يقدرون على حيلة
في الخروج من مكة، ولا على نفقةٍ، ولا قوّةٍ. وفي قوله تعالى:
وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا قولان: أحدهما: أنهم لا يعرفون
الطريق إِلى المدينة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد. والثاني:
أنهم لا يعرفون طريقاً يتوجّهون إِليه، فإن خرجوا هلكوا، قاله
ابن زيد. وفي عَسَى قولان: أحدهما: أنها بمعنى الإِيجاب، قاله
الحسن.
والثاني: أنها بمعنى الترجّي، فالمعنى: أنهم يرجون العفو، قاله
الزجّاج.
[سورة النساء (4) : آية 100]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ
مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ
الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ
اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
قوله تعالى: يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً قال سعيد بنُ
جبير، ومجاهد: متزحزحاً عما يكره. وقال ابن قتيبة: المراغم
والمهاجر: واحد، يقال: راغمت وهاجرت، وأصله: أن الرجل كان إِذا
أسلم، خرج عن قومه، مُراغِماً، أي: مغاضِباً لهم، ومهاجِراً،
أي: مقاطِعاً من الهجران، فقيل للمذهب: مراغم، وللمصير إلى
النبي عليه السلام هجرة، لأنها كانت بهجرة الرجل قومه.
وفي السّعة قولان: أحدهما: أنها السّعة في الرّزق، قاله ابن
عباس، والجمهور. والثاني: التمكّن
__________
مرسل، أخرجه الطبري 10281 عن مجاهد مرسلا، وهو يتأيد بما تقدم
عن ابن عباس.
(1/457)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا
مُبِينًا (101)
من إِظهار الدين، قاله قتادة.
قوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ اتفقوا على أنه نزل في رجل خرج مهاجراً،
فمات في الطريق، واختلفوا فيه على ستة أقوال:
(346) أحدها: أنه ضمرة بن العيص، وكان ضريراً موسِراً، فقال:
احملوني فحمل، وهو مريض، فمات عند التنعيم، فنزل فيه هذا
الكلام، رواه سعيد بن جبير.
(347) والثاني: أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعي، أمر أهله
أن يحملوه على سريره، فلما بلغ التنعيم، مات، فنزلت فيه هذه
الآية، رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير.
(348) والثالث: أنه ابن ضمرة الجندعي، مرض فقال لبنيه: أخرجوني
من مكة، فقد قتلني غمّها، فقالوا: أين؟ فأومأ بيده نحو
المدينة، يريد الهجرة، فخرجوا به، فمات في الطريق، فنزل فيه
هذا، ذكره ابن إِسحاق. وقال مقاتل: هو جُندب بن ضمرة.
(349) والرابع: أن اسمه سبرة، فلما نزل قوله تعالى: إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ
إِلى قوله: مُراغَماً كَثِيراً قال لأهله وهو مريض: احملوني،
فإني موسِر، ولي من المال ما يُبلغني إِلى المدينة، فلما جاوز
الحرم، مات فنزل فيه هذا، قاله قتادة.
(350) والخامس: أنه رجل من بني كنانة هاجر فمات في الطريق،
فسخر منه قومُه، فقالوا: لا هو بلغ ما يريد، ولا أقام في أهله
حتى يدفن، فنزل فيه هذا، قاله ابن زيد.
(351) والسادس: أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام، خرج
مهاجراً، فمات في الطريق، ذكره الزبير بن بكّار. وقوله تعالى:
وَقَعَ معناه وجب.
[سورة النساء (4) : آية 101]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا
لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
قوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ.
__________
مرسل. أخرجه الطبري 10287 عن سعيد بن جبير، مرسلا.
هو مرسل كسابقه.
علقه الواحدي في «أسباب النزول» 357 عن ابن عباس من رواية
عطاء. وورد مختصرا من حديث ابن عباس، أخرجه أبو يعلى 2679
والطبراني في «الكبير» 11709 وفي إسناده عبد الرحمن بن محمد بن
زياد المحاربي، وأشعث بن سوّار وكلاهما ضعيف. وانظر «الإصابة
في تمييز الصحابة» 1/ 251.
مرسل. أخرجه الطبري 10291 عن قتادة مرسلا دون ذكر اسم الصحابي
وإنما ذكر رجلا من المسلمين.
- الخلاصة: هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والاضطراب فقط في
تعيين الرجل وأما أصل الخبر فصحيح.
ضعيف. أخرجه الطبري عن ابن زيد، وهذا معضل.
ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 556 من
حديث الزبير بن العوام، وله قصة.
- وقال الحافظ ابن كثير: وهذا الأثر غريب جدا، فإن القصّة
مكية، ونزول هذه الآية مدني.
- قلت: فيه عبد الرحمن بن عبد الملك، وهو لين الحديث، وفيه
المنذر بن عبد الله الحزامي، وهو مجهول.
(1/458)
(352) روى مجاهد عن أبي عياش الزَّرقي قال:
كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعُسفان «1» ، وعلى
المشركين خالد بن الوليد، قال: فصلينا الظهر، فقال المشركون:
لقد أصبنا غِرّة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية
القصر فيما بين الظهر والعصر.
والضرب في الأرض: السفر، والجُناح: الإِثم، والقصر: النقص،
والفتنة: القتل.
وفي القصر قولان: أحدهما: أنه القصر مِن عدد الركعات. والثاني:
أنه القصرُ من حدودها.
وظاهر الآية يدل على أن القصر لا يجوز إِلا عند الخوف، وليس
الأمر كذلك، وإِنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو. وقيل: إِن
قوله: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ كلام تام. وقوله تعالى:
إِنْ خِفْتُمْ كلامٌ مبتدأ، ومعناه: وإِن خفتم.
واختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا؟ فقال
قوم: ليست مقصورة، وإِنما فرض المسافر ذلك، وهو قول ابن عمر،
وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، والسدي، وأبي حنيفة، فعلى
هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة، ولا يجوز ذلك إِلا بوجود
السفر والخوف، لأن عند هؤلاء أن الركعتين في السفر إِذا لم يكن
فيه خوفٌ تمام غير قصر.
(353) واحتجوا بما روى ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم صلى بذي قرد «2» ، فصف الناس خلفه صفّين، صفاً خلفه،
وصفاً موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء،
إِلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ولم يقضوا.
(354) وعن ابن عباس أنه قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم
في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.
والثاني: أنها مقصورةٌ، وليست بأصل، وهو قول مجاهد وطاوس،
وأحمد، والشافعي.
(355) قال يعلى بن أميّة: قلت لعمر بن الخطاب: عجبت من قصر
الناس اليوم، وقد أمنوا وإنما
__________
جيد. أخرجه أبو داود 1236 والنسائي 3/ 176 و 177 و 178 وابن
أبي شيبة 2/ 465 والطيالسي 1347 وأحمد 4/ 59 و 60 والدارقطني
2/ 59 و 60 وابن حبان 2875 و 2876 والطبري 10383 والحاكم 1/
337- 338 والواحدي في «أسباب النزول» 359 والبيهقي 3/ 254- 255
والبغوي في «شرح السنة» 1091 من طرق عن منصور عن مجاهد عن أبي
عياش مطولا. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الدارقطني:
صحيح. وكذا قال البيهقي، وجوده الحافظ في الإصابة 4/ 143.
صحيح. أخرجه النسائي 3/ 169 وأحمد 1/ 232 والحاكم 1/ 335 وابن
حبان 2871 والطبري 10339 و 10340 والطحاوي 1/ 309 والبيهقي 3/
262. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي!
وإنما هو على شرط مسلم فقط، لأن أبا بكر بن أبي الجهم لم يخرج
له البخاري.
صحيح. أخرجه مسلم 687 وأبو داود 1247 والنسائي 3/ 168- 169
وابن ماجة 1068 وابن خزيمة 943 وأبو يعلى 2346 وأحمد 1/ 237 و
254 من حديث ابن عباس.
صحيح. أخرجه مسلم 686 وأبو داود 1199 و 1200 والترمذي 3034
وابن ماجة 945 وأحمد 1/ 25 و 36 والدارمي 1/ 354 والطحاوي 1/
415 والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص 116 وابن خزيمة 945 وابن
حبان 2739 و 2740 و 2741 والطبري 10315 و 10316 و 10317
والطحاوي في «المعاني» 1/ 415 والبيهقي 3/ 134 و 140 و 141 من
طرق عن يعلى بن أمية.
__________
(1) عسفان: على مرحلتين من مكة على طريق المدينة. انظر «معجم
البلدان» 4/ 122.
(2) ذو قرد: ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر. انظر
«معجم البلدان» 4/ 321.
(1/459)
قال الله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ فقال عمر:
عجبتُ مما عجبتَ منه، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، فقال:
صدقةٌ تصدق الله بها عليكم. فاقبلوا صدقته.
فصل: وإِنما يجوز للمسافر القصر إِذا كان سفرُهُ مُباحاً،
وبهذا قال مالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز له القصر في
سفر المعصية. فأما مدة الإِقامة التي إِذا نواها أتم الصلاة،
وإِن نوى أقلَّ منها، قصر، فقال أصحابنا: إِقامة اثنين وعشرين
صلاة، وقال أبو حنيفة: خمسة عشر يوماً. وقال مالك، والشّافعيّ:
أربعة أيام «1» .
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 3/ 104: وأجمع
أهل العلم على أن من سافر سفرا تقصر في مثله الصلاة في حج، أو
عمرة، أو جهاد، أن له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين. قال
الأثرم: قيل لأبي عبد الله:
في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة برد قيل له: مسيرة يوم تام؟
قال: لا، أربعة برد، ستة عشر فرسخا، ومسيرة يومين. فمذهب أبي
عبد الله أن القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخا. وقد قدّره
ابن عباس، فقال: من عسفان إلى مكة، ومن الطائف إلى مكة، ومن
جدة إلى مكة. فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين قاصدين. وهذا
قول ابن عباس، وابن عمر، وإليه ذهب مالك، والليث، والشافعي.
وروي عن ابن عمر أنه كان يقصر إلى مسيرة عشرة فراسخ وروي نحو
ذلك عن ابن عباس، فإنه يقصر في اليوم ولا يقصر فيما دونه.
ويروى عن ابن مسعود، أنه يقصر في مسيرة ثلاثة أيام وبه قال أبو
حنيفة. لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «يمسح المسافر في
ثلاثة أيام ولياليهن» . وهذا يقتضي أن كل مسافر له ذلك، ولأن
الثلاثة متفق عليها وليس في أقل من ذلك توقيف ولا اتفاق. وقال
الأوزاعي: كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ. وروي عن
علي، أنه خرج من قصره بالكوفة حتى أتى النخيلة، فصلى بها الظهر
والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه، فقال: أردت أن أعلمكم سنتكم.
وعن جبير بن نفير عن شرحبيل بن السمط. قال رأيت عمر بن الخطاب
يصلي بالحليفة ركعتين وقال: إنما فعلت كما رأيت النبي صلّى
الله عليه وسلّم يفعل. رواه مسلم. واحتج أصحابنا بقول ابن عباس
وابن عمر، قال ابن عباس: يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من
أربعة برد من عسفان إلى مكة. وقال الخطابي: وهو أصح الروايتين
عن ابن عمر. ولم يجز فيما دونها، لأنه لم يثبت دليل يوجب القصر
فيه. وإذا كان في سفينة في البحر، فهو كالبر، إن كانت مسافة
سفره تبلغ مسافة القصر، أبيح له، وإلا فلا، سواء قطعها في زمن
طويل أو قصير، اعتبارا بالمسافة. وإن شك هل السفر مبيح للقصر
أو لا؟ لم يبح له، لأن الأصل وجوب الإتمام، فلا يزول بالشك.
وليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت قريته، ولنا قول
الله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ولا يكون
ضاربا في الأرض حتى يخرج. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
أنه كان يبتدئ القصر إذا خرج من المدينة. وإن الرخص المختصة
بالسفر، من القصر، والجمع، والفطر، والمسح ثلاثا، والصلاة على
الراحلة تطوعا، يباح في السفر الواجب- حج أو جهاد والمندوب
والمباح كالتجارة. وبه قال الأوزاعي، والشافعي، وإسحاق وأهل
المدينة وعن ابن مسعود: لا يقصر إلا في حج أو جهاد، لأن الواجب
لا يترك إلا لواجب. ولا تباح هذه الرّخص في سفر المعصية
كالإباق، وقطع الطّريق، والتجارة في الخمر والمحرمات. نصّ عليه
أحمد. وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة: له ذلك، لأنه مسافر،
فأبيح له التّرخص كالمطيع. ولنا، قول الله تعالى فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. وفي سفر
التنزه والتفرّج روايتان: إحداهما تبيح الرخص. وهذا ظاهر كلام
الخرقي، لأنه سفر مباح، والثانية: لا يترخص فيه. قال أحمد: إذا
خرج الرجل إلى بعض البلدان تنزها وتلذذا، وليس في طلب حديث ولا
حج ولا عمرة ولا تجارة فإنه لا يقصر الصلاة والأول أولى.
والمشهور عن أحمد، أن المسافر إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء أتم.
وروي عنه أنه توقف، وقال: أنا أحب العافية في هذه المسألة.
وممن روي عنهم الإتمام في السفر: عثمان، وابن مسعود، وابن عمر،
وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الشافعي والمشهور عن مالك. وقال
حمّاد: ليس له الإتمام في السفر وهو قول الثوري، وأبو حنيفة
وروي عن ابن عباس أنه قال: من صلى في السفر أربعا فهو كمن صلى
في الحضر ركعتين ولنا، قول الله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهذا يدل على أن القصر رخصة
مخيّر بين فعله وتركه، كسائر الرّخص وقال يعلى بن أمية: قلت
لعمر بن الخطاب: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ.. الآية، فقال: عجبت مما عجبت
منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «صدقة تصدّق
الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» رواه مسلم. وهذا يدل على أنها
رخصة وليست بعزيمة، وأنها مقصورة. [.....]
(1/460)
وَإِذَا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا
سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ
أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
[سورة النساء (4) : آية 102]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ
فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ
طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ
وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ
أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا
حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً
مُهِيناً (102)
قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ
الصَّلاةَ سبب نزولها:
(356) أن المشركين لما رأوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
وأصحابه قد صلّوا الظهر، ندموا إِذْ لم يكبوا عليهم، فقال
بعضهم لبعض: دعوهم فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم
وأبنائِهم، يعنون العصر، فإذا قاموا فشدوا عليهم، فلما قاموا
إِلى صلاة العصر، نزل جبريل بهذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن
عباس.
قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ خطابٌ للنبيّ عليه السلام،
ولا يدلُ على أن الحكم مقصورٌ عليه، فهول كقوله تعالى خُذْ
مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً «1» وقال أبو يوسف: لا تجوزُ صلاة
الخوف بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والهاء والميم مِن
«فيهم» تعودُ على الضاربين في الأرض «2» .
__________
ذكره البغوي برواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا
الإسناد مع كونه معلقا، الكلبي متروك متهم، وأبو صالح ليس بثقة
عن ابن عباس، وانظر الحديث المتقدم برقم 352.
__________
(1) سورة التوبة: 103.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 3/ 296: صلاة
الخوف ثابتة بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله تعالى:
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الآية وأما
السنة فثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي صلاة
الخوف، وجمهور العلماء متفقون على أن حكمها باق بعد النبي صلّى
الله عليه وسلّم. وقال أبو يوسف: إنما كانت تختص بالنبي صلّى
الله عليه وسلّم، لقوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ. وليس
بصحيح، فإن ما ثبت في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم ثبت في
حقنا، ما لم يقم دليل على اختصاصه به، فإن الله تعالى أمر
باتباعه بقوله: فَاتَّبِعُوهُ. وسئل عن القبلة للصائم، فأجاب:
«بأنني أفعل ذلك» فقال السائل: لست مثلنا، فغضب وقال: «إني
لأرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى، وأعلمكم بما أتقي» . وكان
أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يحتجّون بأفعال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، ويرونها معارضة لقوله وناسخة له، ولو لم
يكن فعله حجة لغيره لم يكن معارضا لقوله. وأيضا فإن الصحابة
أجمعوا على صلاة الخوف. فأما تخصيص النبي صلّى الله عليه وسلّم
بالخطاب، فلا يوجب تخصيصه بالحكم، لما ذكرناه. ولأن الصحابة،
رضي الله عنهم، أنكروا على مانعي الزكاة قولهم: إن الله تعالى
خصّ نبيه بأخذ الزكاة، بقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً
فإن قيل: فالنبي صلّى الله عليه وسلّم أخّر الصلاة يوم الخندق،
ولم يصل. قلنا: هذا كان قبل نزول صلاة الخوف، وإنما يؤخذ
بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويكون
ناسخا لما قبله، ثم إن هذا الاعتراض باطل في نفسه، إذ لا خلاف
في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان له أن يصلي صلاة الخوف،
وقد أمره الله تعالى بذلك في كتابه. ويحتمل أن النبي صلّى الله
عليه وسلّم أخّر الصلاة نسيانا وروي أن عمر قال ما صليت العصر.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «والله ما صليتها» ولم يكن
ثمّ قتال يمنعه من الصلاة.
(1/461)
قوله تعالى: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ
أي: ابتدأتها، فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ أي: لتقف،
ومثله وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا «1» . وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ فيهم قولان: أحدهما: أنهم الباقون، قاله ابن
عباس. والثاني: أنهم المصلون معه، ذكره ابن جرير، قال: وهذا
السّلاح كالسّيف، يتقلده الإِنسان، والخنجر يشده إِلى ذراعه.
قوله تعالى: فَإِذا سَجَدُوا يعني المصلين معه فَلْيَكُونُوا
في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم الطّائفة التي لم تصل، أُمرت أن تحرس الطائفة
المصلية، وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني: أنهم المصلون معه،
أُمروا إِذا سجدوا أن ينصرفوا إِلى الحَرَس.
واختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السجود، فقال قوم: إِذا أتموا
مع الإِمام ركعةً أتموا لأنفسهم ركعةً، ثم سلموا وانصرفوا، وقد
تمت صلاتهم، وقال آخرون: ينصرفون عن ركعةٍ، واختلف هؤلاء، فقال
بعضهم: إِذا صلوا مع الإِمام ركعة وسلموا، فهي تجزئهم. وقال
آخرون منهم أبو حنيفة: بل ينصرفون عن تلك الركعة إلى الحَرَس
وهم على صلاتهم، فيكونوا في وجه العدو مكان الطّائفة التي لم
تصل، وتأتي تلك الطائفة. واختلفوا في الطائفة الأخرى، فقال
قوم: إِذا صلى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة
الفائِتة، ثم يسلّم بهم، وقال آخرون: بل يسلم هو عند فراغه من
الصلاة بهم، فإذا سلم قضوا ما فاتهم. وقال آخرون: بلى يصلي
بالطائفة الثانية ركعة ويسلم هو، ولا تسلم هي، بل ترجع إلى وجه
العدو، ثم تجيء الأولى، فتقضي ما بقي من صلاتها وتسلم، وتمضي
وتجيء الأخرى، فتتم صلاتها، وهذا مذهب أبي حنيفة «2» .
__________
(1) البقرة: 20.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 3/ 298- 313:
وصلاة الخوف إذا كان بإزاء العدو وهو في سفر، صلى بطائفة ركعة،
وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة، ثم ذهبت تحرس، وجاءت
الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو، فصلت معه ركعة وأتمت لأنفسها
أخرى بالحمد لله وسورة، ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد، ويسلم
بهم. وجملة ذلك أن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات في حق الإمام
والمأموم جميعا، فإذا كان سفر يبيح القصر، صلى بهم ركعتين، بكل
طائفة ركعة وتتم لأنفسها أخرى على الصفة المذكورة. وإن صلى بهم
كمذهب أبي حنيفة جاز، نصّ عليه أحمد. ولكن يكون تاركا للأولى
والأحسن. ولا تجب التسوية بين الطائفتين، لأنه لم يرد بذلك نص
ولا قياس. ويجب أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو ممن تحصل
الثقة بكفايتها وحراستها، ومتى خشي اختلال حالهم واحتيج إلى
معونتهم بالطائفة الأخرى. فللإمام أن ينهد إليهم بمن معه،
ويبنوا على ما مضى من صلاتهم. وإن خاف وهو مقيم، صلى بكل طائفة
ركعتين وأتمت الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة
الأخرى تتم بالحمد لله وسورة. واختلفت الرواية فيما يقضيه
المسبوق، فروي أنه أول صلاته، وما يدركه مع الإمام آخرها وهذا
ظاهر المذهب وروي عن أحمد أن ما يقضيه آخر صلاته. ويستحب أن
يحمل السلاح في صلاة الخوف. ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل
صفة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال أحمد: كل حديث
يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز. وقال:
ستة أوجه أو سبعة يروى فيها، كلها جائز. وقال الأثرم: قلت لأبي
عبد الله: تقول بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه، أو تختار
واحدا منها، قال: أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث
سهل فأنا أختاره.
والحديث الذي اختاره الإمام أحمد رواه. ولفظه أن رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم صلى بأصحابه في الخوف، فصفهم خلفه صفين،
فصلى بالذين يلونه ركعة ثم قام فلم يزل قائما حتى صلى الذين
خلفهم ركعة، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم
ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم. ومتى صلى بهم
صلاة الخوف من غير خوف، فصلاته وصلاتهم فاسدة. وإذا كان الخوف
شديدا وهم في حال المسايفة، صلوا رجالا وركبانا، إلى القبلة
وإلى غيرها، يومئون إيماء، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة
إن قدروا، أو إلى غيرها. إن لم يمكنهم، يومئون بالركوع والسجود
على قدر الطاقة، ويجعلون السجود أخفض من الركوع، ولا يؤخرون
الصلاة عن وقتها. وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: لا
يصلي مع المسايفة، ولا مع المشي، لأن النبي صلّى الله عليه
وسلّم لم يصلّ يوم الخندق- قد ورد الرد على هذا القول قبل
قليل: انظر التعليق السابق- وأخّر صلاته. وقال الشافعي: يصلي،
ولكن إن تابع الطعن، أو الضرب، أو فعل ما يطول، بطلت صلاته.
ولنا قول الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ
رُكْباناً، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى بأصحابه من
غير شدة خوف، فأمرهم بالمشي إلى وجاه العدو، ثم يعودون لقضاء
ما بقي من صلاتهم، فمع الخوف الشديد أولى.
والله أعلم.
(1/462)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ
الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا (103)
قوله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ قال ابن عباس: يريد الذين صلوا أوّلاً. وقال
الزجاج: يجوز أن يريد به الذين وجاه العدو، لأن المصلي غير
مقاتل، ويجوز أن يكون الجماعة أمروا بحمل السلاح، لأنه أرهب
للعدو، وأحرى أن لا يقدموا عليهم. و «الجناح» الإِثم، وهو من:
جنحت: إِذا عدلت عن المكان، وأخذت جانبا عن القصد. فالمعنى:
أنكم إِذا وضعتم أسلحتكم، لم تعدلوا عن الحق.
قوله تعالى: إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ قال ابن عباس:
رخّص لهم في وضع الأسلِحة لثقلها على المريض وفي المطر، وقال:
وخذوا حذركم كي لا يتغفّلوكم.
[سورة النساء (4) : آية 103]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً
وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ يعني صلاة الخوف،
وقَضَيْتُمُ بمعنى: فرغتم.
قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ في هذا الذِّكر قولان:
أحدهما: أنه الذكر لله في غير الصلاة، وهذا قول ابن عباس،
والجمهور قالوا: وهو التسبيح، والتكبير، والدعاء، والشكر.
والثاني: أنه الصلاة، فيكون المعنى: فصلوا قياماً، فان لم
تستطيعوا فقعوداً، فان لم تستطيعوا فعلى جنوبكم، هذا قول ابن
مسعود. وفي المراد بالطمأنينة قولان: أحدهما: أنه الرجوع إلى
الوطن عن السفر، وهو قول الحسن، ومجاهد وقتادة. والثاني: أنه
الأمن بعد الخوف، وهو قول السدي، والزجاج، وأبي سليمان
الدمشقي.
وفي إِقامة الصلاة قولان: أحدهما: إِتمامها، قاله مجاهد وقتادة
والزجاج وابن قتيبة. والثاني: أنه إِقامة ركوعها وسجودها، وما
يجب فيها مما قد يترك في حالة الخوف، هذا قول السدي.
(1/463)
وَلَا تَهِنُوا فِي
ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ
يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا
لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
قوله تعالى: كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
كِتاباً مَوْقُوتاً أي: فرضا. وفي «الموقوتا» قولان:
أحدهما: أنه بمعنى المفروض، قاله ابن عباس. ومجاهد، والسدي،
وابن زيد. والثاني: أنه الموقت في أوقات معلومة، وهو قول ابن
مسعود، وقتادة، وزيد بن أسلم، وابن قتيبة.
[سورة النساء (4) : آية 104]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ
وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ
عَلِيماً حَكِيماً (104)
قوله تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ قال أهل
التفسير:
(357) سبب نزولها: أن النبي عليه السلام أمر أصحابه لما
انصرفوا من أُحد أن يسيروا في أثر أبي سفيان وأصحابه، فشكوا ما
بِهِم من الجراحات، فنزلت هذه الآية.
قال الزجاج: ومعنى «تهنوا» : تضعفوا، يقال: وَهَنَ يهِنُ: إذا
ضَعُفَ، وكلُّ ضَعْفٍ فهو وَهْنٌ.
وابتغى القوم: طلبهم بالحرب. و «القوم» هاهنا: الكفار إِنْ
تَكُونُوا تَأْلَمُونَ أي: توجَعون، فانهم يجدون من الوجع بما
ينالهم من الجراح والتعب، كما تجدون، وأنتم مع ذلك ترجون ما لا
يرجون.
وفي هذا الرجاء قولان: أحدهما: أنه الأمل، قاله مقاتل. قال
الزجاج: وهو إِجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم. والثاني: أنه
الخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الفرّاء: ولم نجد الخوف
بمعنى الرجاء إِلا ومعه جحد، فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة
الرجاء والخوف، وكان الرجاء كذلك، كقوله تعالى: ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «1» وقوله: لا يَرْجُونَ أَيَّامَ
اللَّهِ «2» قال الشاعر:
لا ترتجي حين تلاقي الذّائدا ... أسبعةً لاقَتْ معاً أم واحداً
«3»
وقال الهذلي:
إِذا لَسَعَتْه النَّحل لم يَرْجُ لَسْعَها ... وخالفها في بيت
نُوْبٍ عَوامِلِ «4»
ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك. قال
الزجاج: وإِنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف، لأنه أمل قد يخاف
أن لا يتم، فعلى القول الأول يكون المعنى: ترجون
__________
ذكره البغوي في تفسيره 1/ 476 بدون إسناد. وأخرجه الطبري 10412
عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما كان قتال أحد، وأصاب المسلمين
ما أصاب، صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم الجبل، فجاء أبو
سفيان فقال: «يا محمد، ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحرب سجال، يوم
لنا ويوم لكم» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه:
«أجيبوه» . فقالوا: لا سواء، لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم
في النار. فقال أبو سفيان: «أعل هبل» فقال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: «قولوا له: الله أعلى وأجل» فقال أبو سفيان:
«موعدنا وموعدكم بدر الصغرى» ونام المسلمون وبهم الكلوم. وقال
عكرمة وفيها نزلت الآية (آل عمران: 140) وهذه الآية إِنْ
تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما
تَأْلَمُونَ ولم يذكر الطبري أن رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم بعث طائفة في آثارهم وأنهم شكوا ألم الجراحات.
__________
(1) سورة نوح: 13.
(2) سورة الجاثية: 14.
(3) البيت في «اللسان» دون نسبة لقائل، والذائد، من ذاد الإبل:
إذا طردها وساقها ودفعها.
(4) في «اللسان» : النوب: جمع نائب: وهو صفة للنحل ترعى ثم
تنوب إلى بيتها لتصنع عسلها، تجيء وتذهب، والعوامل: التي تعمل
العسل.
(1/464)
إِنَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
(105)
النصر وإِظهار دينكم والجنة. وعلى الثاني:
تخافون من عذاب الله ما لا يخافون.
[سورة النساء (4) : آية 105]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ
لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105)
قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ
في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(358) أحدها: أن طُعمة بن أبيرق سرق درعاً لقتادة بن النعمان،
وكان الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتشر من خرق في
الجراب، حتى انتهى إِلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود،
فالتمست الدرعَ عند طعمة، فلم توجد عنده، وحلف: ما لي بها علم،
فقال أصحابها: بلى والله، لقد دخل علينا فأخذها، وطلبنا أثره
حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق، فلما حلف تركوه، واتّبعوا
أثر الدّقيق حتى انتهوا إلى منزلي اليهودي فأخذوه، فقال:
دفعَها إِليَّ طعمة، فقال قوم طعمة: انطلقوا إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، وليجادل عن صاحبنا فإنه بريء، فأتوه
فكلموه في ذلك، فهم أن يفعل، وأن يعاقب اليهودي، فنزلت هذه
الآيات كلها. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(359) والثاني: أن رجلاً من اليهود، استودع طُعمة بن أبيرق
درعاً، فخانها، فلما خاف اطلاعهم عليها، ألقاها في دار أبي
مُليل الأنصاري، فجادل قوم طعمة عنه، وأتوا إلى النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم، فسألوه أن يبرئه، ويكذّب اليهودي، فنزلت
الآيات. هذا قول السدي، ومقاتل.
(360) والثالث: أن مشربة «1» رفاعة بن زيدُ نقبت، وأخذ طعامه
وسلاحه، فاتهم به بنو أبيرق، وكانوا ثلاثة: بشير، ومبشّر،
وبشر، فذهب قتادة بن النعمان إِلى النبيّ عليه السلام فقال: يا
رسول الله إِن أهل بيت منّا فيهم جفاء «2» نقبوا مشربة لعمّي
رفاعة بن زيد، وأخذوا سلاحه، وطعامه، فقال: أنظرُ في ذلك، فذهب
قوم من قوم بني أبيرق إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
فقالوا: إِن قتادة بن النعمان، وعمّه عمدوا إلى
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 361 بدون إسناد، وقال الحافظ
في «تخريج الكشاف» 1/ 561: ذكره الثعلبي من رواية الكلبي عن
أبي صالح عن ابن عباس. وانظر «أسباب النزول» 373 و 374
للسيوطي.
وأخرجه الطبري 10417 من رواية سعيد عن قتادة مرسلا مع اختلاف
يسير. ويشهد لهذا الخبر الحديث الآتي برقم 360.
مرسل. أخرجه الطبري 10420 عن السدي مرسلا، ويشهد لأصله ما
بعده.
حسن. أخرجه الترمذي 3036 والحاكم 4/ 385 والطبري 10416 من حديث
قتادة بن النعمان، وفيه ابن إسحاق مدلس، وقد عنعن. وصححه
الحاكم، ووافقه الذهبي. وورد مختصرا عن قتادة مرسلا أخرجه
الطبري 10417، وورد موصولا عن ابن عباس أخرجه الطبري 10418
وفيه عطية العوفي، واه. وكرره 10419 عن ابن زيد، وهو عبد
الرحمن، مرسلا و 10420 عن السدي مرسلا و 10421 عن عكرمة مرسلا
و 10422 عن الضحاك مرسلا. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها،
فالحديث حسن في أقل تقدير، والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني»
707 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» المشربة والمشربة، بالفتح والضم: الغرفة
والمشارب: العلاليّ. وفي الحديث: أن النبي صلّى الله عليه
وسلّم كان في مشربة له أي كان في غرفة.
(2) في «اللسان» : الجفاء يكون في الخلقة والخلق، يقال: رجل
جافي الخلقة إذا كان كزّا غليظ العشرة والخرق في المعاملة
والتحامل عند الغضب والسورة على الجليس.
(1/465)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
أهل بيت منّا يرمونهم بالسرقة وهم أهل بيت
إِسلام وصلاح، فقال النبي لقتادة: رميتهم بالسرقة على غير
بيّنة! فنزلت هذه الآيات. قاله قتادة بن النعمان.
والكتاب: القرآن. والحق: الحكم بالعدل. لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ: أي لتقضي بينهم. وفي قوله تعالى: بِما أَراكَ
اللَّهُ قولان «1» : أحدهما: أنه الذي علّمه، والذي علّمه أن
لا يقبل دعوى أحد على أحد إِلا ببرهان. والثاني: أنه ما يؤدي
إليه اجتهاده، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً قال الزجاج:
لا تكن مخاصماً، ولا دافعاً عن خائن.
واختلفوا هل خاصم عنه أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه قام
خطيباً فعذره. رواه العوفي عن ابن عباس «2» . والثاني: أنه
همَّ بذلك، ولم يفعله، قاله سعيد بن جبير، وقتادة «3» .
قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحدٍ أن
يخاصم عن غيره في إِثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة
أمره، لأن الله تعالى عاتب نبيّه على مثل ذلك.
[سورة النساء (4) : آية 106]
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً
(106)
قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ في الذي أُمر بالاستغفار
منه قولان «4» :
أحدهما: أنه القيام بعذر. والثاني: أنه العزم على ذلك.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 563: وقوله
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ احتج به من
ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلّى الله عليه وسلّم له أن
يحكم بالاجتهاد بهذه الآية وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج
إليهم فقال «ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعل
أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق
مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها» . وروى
الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان
إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مواريث بينهما قد درست
ليس عندهما بينة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم
تختصمون إليّ وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من
بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق
أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها
انتظاما في عنقه يوم القيامة» فبكى الرجلان وقال كل منهما حقي
لأخي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما إذا قلتما
فاذهبا فاقتسما. ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما، ثم ليحلل كل
منكما صاحبه» .
(2) واه. أخرجه الطبري 10418 عن ابن عباس من رواية عطية
العوفي، واه.
(3) هذا ضعيف بل منكر، والصواب ما تقدم من وجوه، وأن السرقة
وقعت.
(4) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 359: ذهب الطبري إلى
أن المعنى. استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين، فأمره
بالاستغفار لما همّ بالدفع عنهم وقطع يد اليهودي. وهذا مذهب من
جوّز الصغائر على الأنبياء. صلوات الله عليهم وسلامه. قال ابن
عطية: وهذا ليس بذنب لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما دافع
على الظاهر وهو يعتقد براءتهم. والمعنى: استغفر الله للمذنبين
من أمتك والمتخاصمين بالباطل، ومحلك من الناس أن تسمع من
المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب. وقيل: هو أمر
بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول: أستغفر الله على
وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب. وقيل: الخطاب للنبي
صلّى الله عليه وسلّم والمراد بنو أبيرق. [.....]
(1/466)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ
مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ
مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا
أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ
يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
[سورة النساء (4) : الآيات 107 الى 108]
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ
الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)
قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ
أَنْفُسَهُمْ
أي: يُخوِّنون أنفسهم، فيجعلونها خائنة بارتكاب الخيانة. قال
عكرمة: والمراد بهم: طُعمة بن أُبيرق، وقومه الذين جادلوا عنه.
(361) وفي حديث العوفي عن ابن عباس قال: انطلق نفرٌ من عشيرةِ
طُعمة ليلاً إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إِن
صاحبنا بريء.
و «الاستخفاء» : الاستتار، والمعنى: يستترون من الناس لئلاَّ
يطّلعوا على خيانتهم وكذبهم، ولا يستترون من الله، وهو معهم
بالعلم. وكلُّ ما فُكِّر فيه، أو خيض فيه بليل، فقد بُيّت.
وجمهور العلماء على أن المشار إِليه بالاستخفاء والتبييت، قوم
طعمة. والذي بيّتوا: احتيالهم في براءة صاحبهم بالكذب. وقال
الزجاج: هو السارق نفسه، والذي بيّت أنه قال: أرمي اليهودي
بأنّه سارق الدرع، وأحلف أني لم أسرقها، فتقبل يميني، ولا تقبل
يمين اليهوديّ.
[سورة النساء (4) : آية 109]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
قال الزجاج: «ها» للتنبيه، وأعيدت في أوله.
والمعنى: ها أنتم الذين جادلتم. و «المجادلة، والجدال» : شدة
المخاصمة، و «الجدل» : شدّة الفتل.
والكلام يعود إلى مَن احتج عن السارق. فأما قوله: «عنهم» فانه
عائِد إلى السارق. و «عليهم» بمعنى «لهم» . والوكيل: القائم
بأمر مَن وكله. فكأنه قال: من الذي يتوكّل لهم منكم في خصومة
ربّهم؟!
[سورة النساء (4) : آية 110]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ
يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
اختلفوا في نزولها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت خطاباً
للسارق، وعَرْضاً للتّوبة عليه. رواه أبو صالح عن ابن عباس،
وبه قال ابن زيد، ومقاتل.
والثاني: أنها للذين جادلوا عنه من قومه، رواه العوفي عن ابن
عباس. والثالث: أنه عنى بها كل مسيء ومُذنب. ذكره أبو سليمان
الدمشقي. وإِطلاقُها لا يمنع أن تكون نزلت على سبب. وفي هذا
السوء ثلاثة أقوال: أحدها: أنه السرقة. والثاني: الشّرك.
والثالث: أنه كل ما يأثم به. وفي هذا الظلم قولان:
أحدهما: أنه رمي البريء بالتُّهمة. والثاني: ما دون الشّرك.
[سورة النساء (4) : آية 111]
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)
قوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
أي: ومن يعمل ذنباً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
يقول: إنّما يعود
__________
هو بعض المتقدم.
(1/467)
وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ
احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
وباله عليه. قاله مقاتل. وهذه في طُعمة
أيضا.
[سورة النساء (4) : آية 112]
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)
قوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
جمهور العلماء على أنها نزلت متعلقة بقصة طُعمة بن أبيرق.
(362) وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن
أبيِّ بن سلول إِذ رمى عائشة عليها السلام بالإفك.
وفي قوله تعالى: خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
أربعة أقوال «1» : أحدها: أن «الخطيئة» يمين السارق الكاذبة، و
«الإِثم» : سرقته الدرع، ورميه اليهودي، قاله ابن السائب.
والثاني: أن «الخطيئة» ما يتعلق به من الذنب، و «الإِثم» :
قذفه البريء، قاله مقاتل. والثالث: أن «الخطيئة» قد تقع عن
عمد، وقد تقع عن خطأ، و «الإثم» : يختصّ العمد. قاله ابن جرير،
وأبو سليمان الدمشقي. وذكر الزجاج أن الخطيئة نحو قتل الخطأ
الذي يرتفع فيه الإِثم. والرابع: أنه لمّا سمى الله عزّ وجلّ
بعض المعاصي خطيئة، وبعضها إِثماً، أعلم أن من كسب ما يقع عليه
أحد هذين الاسمين، ثم قذف به بريئاً، فقد احتمل بهتانا، ذكره
الزجّاج أيضا.
فأمّا قوله تعالى: ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
أي: يقذفُ بما جناه بريئاً منه.
فإن قيل: الخطيئة والإِثم اثنان، فكيف قال: به، فعنه أربعة
أجوبة: أحدها: أنه أراد: ثم يرم بهما، فاكتفى بإعادة الذكر على
الإثم من إِعادته على الخطيئة، كقوله تعالى: انْفَضُّوا
إِلَيْها «2» فخصّ التجارة، والمعنى للتجارة واللهو. والثاني:
أن الهاء تعودُ على الكسب، فلما دلّ ب «يكسب» على الكسب، كنى
عنه. والثالث: أن الهاء راجعة على معنى الخطيئة والإِثم، كأنه
قال: ومَن يكسب ذنباً، ثم يرم به. ذكر هذه الأقوال ابن
الأنباري. والرابع: أن الهاء تعود على الإِثم خاصة، قاله ابن
جرير الطبري.
وفي المراد بالبريء الذي قذفه هذا السارق قولان: أحدهما: أنه
كان يهودياً، قاله ابن عباس، وعكرمة، وابن سيرين وقتادة وابن
زيد، وسمّاه عكرمة، وقتادة: زيد بن السمين «3» . والثاني: أنه
كان مسلماً، روي عن ابن عباس، وقتادة بن النعمان، والسدي،
ومقاتل، واختلفوا في ذلك المسلم، فقال
__________
منكر جدا، ذكره المصنف عن الضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق
ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد، وهو متروك. والصواب
ما ذهب إليه الجمهور.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 566: الآية، يعني
كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل وقد كان بريئا
وهم الظلمة الخونة كما أطلع الله على ذلك رسوله صلّى الله عليه
وسلّم، ثم هذا التقريع والتوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف
بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم فعليه مثل عقوبتهم.
(2) الجمعة: 11.
(3) في المطبوع: «السّمير» والتصويب من الطبري 10421 وابن كثير
1/ 566.
(1/468)
وَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ
تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
الضحاك عن ابن عباس: هو عائشة لما قذفها
ابن أبيّ، وقال قتادة بن النعمان: هو لبيد بن سهل، وقال السدي،
ومقاتل: هو أبو مُليل الأنصاري.
فأما البهتان: فهو الكذب الذي يُحيّر من عِظَمه، يقال: بهت
الرجل: إِذا تحيّر. قال ابن السائب:
فقد احتمل بهتاناً برميه البريء، وإِثماً مبيناً بيمينه
الكاذبة.
[سورة النساء (4) : آية 113]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ
أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
(113)
قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنها متعلقة بقصة طُعمة وقومه، حيث لبَّسُوا على النبي
صلّى الله عليه وسلّم أمر صاحبهم، هذا قول ابن عباس من طريق
ابن السائب «1» .
(363) والثاني: أنَّ وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم فقالوا: جئناك نبايعك على أن لا نُحشرْ ولا نُعشرْ،
وعلى أن تمتّعنا بالعزَّى سنةً، فلم يجبهم، فنزلت هذه الآية،
هذا قول ابن عباس في رواية الضحاك.
وفي المراد بفضل الله ورحمته قولان: أحدهما: النبوّة والعصمة.
والثاني: الإِسلام والقرآن، رويا عن ابن عباس. قال مقاتل: لولا
فضل الله عليك حيث بيّن لك أمر طعمة وحوّلك بالقرآن عن تصديق
الخائِن لهمّت طائفة منهم أن يُضِلُّوك. قال الفرّاء: والمعنى
لقد همّت. فإن قيل: كيف قال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ
وقد همت باضلاله؟ فالجواب: أنه لولا فضل الله، لظهر تأثير ما
همّوا به. فأما الطائفة، فعلى رواية ابن السائب عن ابن عباس:
قوم طعمة، وعلى رواية الضحاك:
وفد ثقيف.
وفي الإِضلال قولان «2» : أحدهما: التخطئة في الحكم: والثاني:
الاستزلال عن الحقّ. قال
__________
لا أصل له. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق
ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد، وهو متروك، وقد
رويا عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، وانظر المقدمة.
- وخبر وفد ثقيف ورد بسياق آخر مطول، وليس فيه نزول الآية.
انظر «طبقات» ابن سعد 1/ 237- 238.
__________
(1) هذا واه، ابن السائب هو الكلبي كذبه غير واحد.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 566- 567: عن قتادة
بن النعمان وذكر قصة بني أبيرق فأنزل الله لَهَمَّتْ طائِفَةٌ
مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ يعني أسيد بن عروة وأصحابه،
يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في
كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم، لهذا أنزل الله فصل القضية وجلاءها
لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم امتن عليه بتأييده إياه في
جميع الأحوال، وعصمته له، وما أنزل عليه من الكتاب، وهو
القرآن، والحكمة وهي السنة عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
أي قبل نزول ذلك عليك كقوله وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ إلى آخر
السورة. وقال تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى
إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ولهذا قال
وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً.
(1/469)
لَا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْرًا عَظِيمًا (114)
الزجاج: وما يضلُّون إِلا أنفسهم، لأنهم
يعملون عمل الضّالين، فيرجع الضلال إِليهم.
فأما «الكتاب» ، فهو القرآن. وفي «الحكمة» ثلاثة أقوال: أحدها:
القضاء بالوحي، قالَه ابن عباس. والثاني: الحلال والحرام، قاله
مقاتل. والثالث: بيانُ ما في الكتاب، وإِلهام الصواب، وإِلقاء
صحة الجواب في الرّوع، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي قوله
تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الشرع، قاله ابن عباس ومقاتل.
والثاني: أخبار الأولين والآخرين، قاله أبو سليمان. والثالث:
الكتاب والحكمة، ذكره الماوردي. وفي قوله تعالى: وَكانَ فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
ثلاثة اقوال: أحدها: أنه المنة بالإِيمان. والثاني: المنّة
بالنبوّة، هذان عن ابن عباس.
والثالث: أنه عامّ في جميع الفضل الذي خصّه الله به، قاله أبو
سليمان.
[سورة النساء (4) : آية 114]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ
بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ
نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)
قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ قال ابن
عباس: هُم قومُ طعمة، وقال مقاتل:
وكلهم يهود تناجوا في أمر طعمة، وقال مجاهد: هو عام في نجوى
جميع الناس. قال الزجاج: ومعنى النجوى: ما تنفردُ به الجماعة
أو الاثنان، سِرَّاً كان أو ظاهراً. ومعنى «نجوت الشيء» في
اللغة. خلّصته وألقيته، يقال: نجوت الجلد: إِذا ألقيته عن
البعير وغيره. قال الشاعر:
فقلتُ انجُوَا عنها نجا الجلد إِنّه ... سيرُضيكما منها
سَنَامٌ وغارِبُهُ «1»
وقد نجوت فلاناً: إِذا استنكهته، قال الشاعر:
نجوتُ مجالداً فوجدتُ منه ... كريحِ الكلب مات قديمَ عهد «2»
وأصله كله من النَّجوة، وهو ما ارتفع من الأرض، قال الشاعر يصف
سيلاً:
فَمَنْ بنجوَته كَمَن بعَقوَته ... والمُسْتكنُّ كَمَن يمشي
بقِرْواح «3»
والمراد بنجواهم: ما يدبِّرونه بينهم من الكلام.
فأما قوله: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ فيجوز أن يكون
بمعنى: إِلا في نجوى من أمر بصدقة، ويجوز أن يكون استثناء ليس
من الأول، فيكون بمعنى: لكن من أمر بصدقةٍ، ففي نجواهم خير.
وأمّا قوله تعالى: أَمَرَ بِصَدَقَةٍ فالمعنى: حثّ عليها. وأما
المعروف، ففيه قولان:
أحدهما: أنه الفرض، روي عن ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنه عام
في جميع أفعال البرّ، وهو
__________
(1) البيت لأبي الغمر الكلابي كما في «الخزانة» 2/ 227 ونسب
أيضا إلى عبد الرحمن بن ثابت وقال ابن السيرافي في «إصلاح
المنطق» 94: يريد قشّر عنها لحمها وشحمها، كما يقشر الجلد
فإنها سمينة. وغاربها: ما بين السنام والعنق.
(2) البيت في «الحيوان» للحكم بن عبدل الأسدي.
(3) البيت لأوس بن حجر في «ديوانه» 16. وهو في «اللسان» لعبيد
بن الأبرص وفي «ديوانه» 53، والعقوة:
الساحة وما حول الدار والمحلة، والقرواح: البارز الذي ليس
يستره من السماء شيء. وقيل: الناقة الطويلة.
وكذلك النخلة الطويلة يقال لها: قرواح.
(1/470)
وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
اختيار القاضي أبي يعلى، وأبي سليمان
الدمشقي.
[سورة النساء (4) : آية 115]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ في سبب نزولها قولان:
(364) أحدهما: أنه لما نزل القرآن بتكذيب طُعمة، وبيان ظلمه،
وخاف على نفسه من القطع والفضيحة، هرب إِلى مكة، فلحق بأهل
الشرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وقتادة، وابن زيد،
والسدي.
(365) وقال مقاتل: لما قدم مكة نزل على الحجاج بن علاط السُلمي
فأحسن نزله، فبلغه أن في بيته ذهباً، فخرج في الليل فنقب حائط
البيت، فعلموا به فأحاطوا بالبيت، فلما رأوه، أرادوا أن
يرجموه، فاستحيا الحجاج، لأنه ضيفه، فتركوه، فخرج، فلحق بحرّة
بني سليم يعبُد صنمهم حتى مات على الشرك، فنزل فيه: إِنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. وقال غيره: بل خرج مع
تجارٍ فسرق منهم شيئاً، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وقيل: ركب
سفينةً، فسرق فيها مالاً، فعُلِمَ به، فألقي في البحر.
والقول الثاني: أن قوماً قدموا على رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فأسلموا، ثم ارتدُّوا، فنزلت فيهم هذه الآية، روي عن ابن
عباس.
ومعنى الآية: ومَن يخالف الرسول في التوحيد، والحدود، مِن بعد
ما تبيّن له التوحيد والحكم، ويتبع غير دين المسلمين، نولِّه
ما تولى، أي: نكله إِلى ما اختار لنفسه، ونصله جهنم: ندخله
إِياها.
قال ابن فارس: تقول صليت اللحم أصليه: إِذا شويته، فإن أردت
أنك أحرقته، قلت: أصليته. وساءت مصيراً، أي: مرجعاً يصار إليه
«1» .
__________
انظر الأحاديث المتقدمة (عند الآية 105) .
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان، وقد كذبه غير واحد، فخبره
لا شيء.
وذكره البغوي في «تفسيره» 1/ 480 بدون إسناد، ومن غير عزو
لأحد.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 568: وَمَنْ
يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي
ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلّى الله عليه
وسلّم فصار في شق والشرع في شق وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له
الحق وتبين له واتضح له وقوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ هذا ملازم للصفة الأولى ولكن قد تكون المخالفة
لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم
اتفاقهم عليه تحقيقا فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من
الخطأ تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة
في ذلك، وقد ذكرنا منها طرفا صالحا في كتاب «أحاديث الأصول»
ومن العلماء من ادّعى تواتر معناها، والذي عوّل عليه الشافعي
رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه
الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل وهو من أحسن
الاستنباطات وأقواها وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد
الدلالة منها على ذلك ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله:
نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً
أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره
ونزينها له استدراجا له كما قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ
يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ
لا يَعْلَمُونَ [القلم: 44] وقال تعالى: فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] وجعل النار مصيره في
الآخرة لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم
القيامة، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22- 23] وقال
تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف: 53] .
(1/471)
إِنَّ اللَّهَ لَا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا
إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ
نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
[سورة النساء (4) : آية 116]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما
دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ
ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ في
سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنها نزلت في حق طعمة بن أبيرق لما هرب من مكة، ومات
على الشرك، وهذا قول الجمهور، منهم سعيد بن جبير.
(366) والثاني: أن شيخاً من الأعراب جاء إِلى رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم فقال: إني مُنهَمك في الذنوب، إِلا أني لم
أشرك بالله منذ عرفته، وإني لنادمٌ مستغفرٌ، فما حالي؟ فنزلت
هذه الآية، روي عن ابن عباس. فأما تفسيرها، فقد تقدم.
[سورة النساء (4) : الآيات 117 الى 118]
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ
إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ
لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118)
قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً، «إن»
بمعنى: «ما» ويَدْعُونَ بمعنى:
يعبدون. والهاء في دُونِهِ ترجع إلى الله عزّ وجلّ. والقراءة
المشهورة إِناثاً. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر،
وأبو مجلز، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «إِلا وَثَناً» ، بفتح
الواو، والثاء من غير ألف. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين:
«أُنُثاً» ، برفع الهمزة والنون من غير ألف. وقرأ أبو العالية،
ومعاذ القارئ، وأبو نُهيك: (أناثاً) ، برفع الهمزة وبألف بعد
الثاء. وقرأ أبو هريرة، والحسن، والجوني: «إِلا أنثى» ، على
وزن «فعلى» . وقرأ أيوب السختياني: «إِلا وُثنا» ، برفع الواو
والثاء من غير ألف. وقرأ مورّق العجلي: (أُثُناً) ، برفع
الهمزة والثاء من غير ألف. قال الزجاج: فمن قال: إِناثاً، فهو
جمع أنثى وإِناث، ومَن قال: أنثاً، فهو جمع إِناث، ومن قال:
أُثنا، فهو جمع وثن، والأصل: وُثنٌ، إِلا أن الواو إِذا انضمّت
جاز إِبدالها همزة، كقوله تعالى: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ
«1» الأصل: وقتت. وجائز أن يكون أُثُن أصلها: أُثْن، فأتبعت
الضمّةُ الضمةَ، وجائِز أن يكون أثن، مثل أسد وأسد.
__________
واه بمرة. عزاه الشوكاني في «فتح القدير» 1/ 595 للثعلبي عن
الضحاك عن ابن عباس، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 566: هو
منقطع اه.
قلت: والثعلبي يروي الموضوعات. والضحاك لم يلق ابن عباس، وعامة
روايات الضحاك إنما هي من طريق جويبر بن سعيد ذاك المتروك،
ويجتنب أهل التفسير ذكره بسبب وضوح حاله، فالخبر واه بمرة.
__________
(1) سورة المرسلات: 11.
(1/472)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ
آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ
اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
فأما المفسرون، فلهم في معنى الإِناث أربعة
أقوال «1» : أحدها: أن الإِناث بمعنى الأموات، قاله ابن عباس:
والحسن في رواية، وقتادة. وقال الحسن: كل شيء لا روح فيه،
كالحجر، والخشبة، فهو إِناث. قال الزجاج: والموات كلها يخبر
عنها، كما يخبر عن المؤنّث، تقول من ذلك: الأحجار تعجبني،
والدراهم تنفعني. والثاني: أن الإِناث. الأوثان، وهو قول
عائشة، ومجاهد. والثالث: أن الإِناث اللاّت والعُزّى ومناة،
كلهن مؤنّث، وهذا قول أبي مالك، وابن زيد والسدي. وروى أبو
رجاء عن الحسن قال: لم يكن حيٌ من أحياء العرب إِلاّ ولهم صنم
يسمّونه: أُنثى بني فلان، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج:
والمعنى: ما يدعون إِلا ما يُسمّونه باسم الإِناث. والرابع:
أنها الملائكة كانوا يزعمون أنها بناتُ الله، قاله الضحاك.
وفي المراد بالشيطان ثلاثة أقوال: أحدها: شيطانٌ يكون في
الصنم. قال ابن عباس: في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم.
وقال أبيُّ بن كعب: مع كل صنم جنيّة. والثاني: أنه إِبليس،
وعبادته:
طاعته فيما سوّل لهم، هذا قول مقاتل، والزجاج. والثالث: أنه
أصنامهم التي عبدوا، ذكره الماوردي.
فأما «المريد» فقال الزجاج: «المريد» : المارد، وهو الخارج عن
الطاعة، ومعناه: أنه قد مرد في الشّر، يقال: مرد الرجل يمرُد
مُروداً: إِذا عتا، وخرج عن الطاعة. وتأويل المرود: أن يبلغ
الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف، وأصله في
اللغة: املساس الشيء، ومنه قيل للانسان: أمرد: إِذا لم يكن في
وجهه شعر، وكذلك يقال: شجرة مرداء: إِذا تناثر ورقها، وصخرة
مرداء: إذا كانت ملساء.
وفي قوله تعالى: لَعَنَهُ اللَّهُ قولان: أحدهما: أنه ابتداء
دعاء عليه باللعن، وهو قول من قال:
هو الأوثان. والثاني: أنه إِخبار عن لعن متقدم، وهو قول من
قال: هو إِبليس.
قال ابن جرير: المعنى: قد لعنه الله. قال ابن عباس: معنى
الكلام: دحره الله، وأخرجه من الجنة. وَقالَ يعني إِبليس:
لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. قال ابن
قتيبة: أي حظاً افترضته لنفسي منهم، فأضلّهم. وقال مقاتل:
النّصيب المفروض في اللغة: القطع أنَّ مِنْ كل ألفٍ إنسانٌ
واحد في الجنة، وسائِرهم في النار. قال الزجاج: «الفرض» في
اللغة: القطع، و «الفُرضة» : الثلمة تكون في النهر. و «الفرض»
في القوس: الحز الذي يشد فيه الوتر، والفرض فيما ألزمه الله
العباد: جعله حتما عليهم قاطعا.
[سورة النساء (4) : آية 119]
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ
وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً
(119)
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 279: وأولى
التأويلات من قال: عنى بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب
يعبدونها من دون الله ويسمونها الإناث من الأسماء، كاللات
والعزّى ونائلة ومناة. وإنما قلنا ذلك بتأويل الآية، لأن
الأظهر من معاني الإناث في كلام العرب ما عرّف بالتأنيث دون
غيره. يقول جل ثناؤه:
حسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه من
الأوثان والأنداد، حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد
السبيل، أنهم يعبدون إناثا ويدعونها آلهة أربابا. والإناث من
كل شيء أخسّه، فهم يقرّون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم
منهم بخساسته، ويمتنعون من إخلاص العبودية للذي له ملك كل شيء
وبيده الخلق والأمر.
(1/473)
قوله تعالى: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ قال ابن
عباس: عن سبيل الهدى، وقال غيره: ليس له من الضلال سوى الدّعاء
إليه. وفي قوله تعالى: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أربعة أقوال:
أحدها: أنه الكذب الذي يخبرهم به، قال ابن عباس: يقول لهم: لا
جنة، ولا نار، ولا بعث. والثاني: أنه التسويف بالتوبة، روي عن
ابن عباس. والثالث: أنه إيهامُهم أنهم سينالون من الآخرة حظاً،
قاله الزجاج. والرابع: أنه تزيين الأماني لهم، قاله أبو
سليمان.
قوله تعالى: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ قال قتادة،
وعكرمة، والسدي: هو شق أذن البَحيرة، قال الزجاج: ومعنى
«يبتكن» يُشقّقن، يقال: بتكت الشيء أبتكه بتكاً: إِذا قطعته،
وَبتَكه وبَتَك، مثل قطعه وقطع. وهذا في البحيرة كانت الجاهلية
إِذا ولدت الناقة خمسة أبطن، وكان الخامس ذكراً، شقّوا أذن
الناقة، وامتنعوا من الانتفاع بها، ولم تُطردْ عن ماءٍ، ولا
مرعى، وإِذا لقيها المعيي، لم يركبها.
سوّل لهم إِبليس أن هذا قربةٌ إِلى الله تعالى.
وفي المراد بتغيير خلق الله خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه تغيير
دين الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن في
رواية، وسعيد بن المسيّب وابن جبير والنخعي والضحاك والسدي
وابن زيد ومقاتل. وقيل: معنى تغيير الدّين: تحليل الحرام
وتحريم الحلال. والثاني: أنه تغيير الخلق بالخصاء، رواه عكرمة
عن ابن عباس، وهو مرويٌ عن أنس بن مالك، وعن مجاهد وقتادة
وعكرمة، كالقولين. والثالث: أنه التغيير بالوشم، وهو قول ابن
مسعود، والحسن في رواية. والرابع: أنه تغيير أمر الله، رواه
أبو شيبة عن عطاء. والخامس: أنه عبادة الشمس والقمر والحجارة،
وتحريم ما حرّموا من الأنعام، وإِنما خلق ذلك للانتفاع به،
قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ
اللَّهِ في المراد بالولي قولان: أحدهما: أنه بمعنى الرب، قاله
مقاتل. والثاني: من الموالاة، قاله أبو سليمان الدمشقي.
فان قال قائل: من أين لإِبليس العلم بالعواقب حتى قال:
ولأضلنّهم. وقال في سورة الأعراف وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ
شاكِرِينَ «2» . وقال في سورة بني إِسرائيل لَأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا «3» ، فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها:
أنه ظن ذلك، فتحقّق ظنه، وذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «4» قاله الحسن، وابن زيد. وفي
سبب ذلك الظن قولان: أحدهما: أنه لما قال الله تعالى له:
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 285: وأولى
الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال:
معناه وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ قال:
دين الله، وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه، وهي
قوله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره 1/ 569: على قول من جعل ذلك
أمرا أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس على فطرتهم. كما ثبت
في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه
أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من
جدعاء» . وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد قال: قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء
فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت
لهم» .
(2) سورة الأعراف: 17.
(3) سورة الإسراء: 62. [.....]
(4) سورة سبأ: 20.
(1/474)
يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا
(120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ
عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «1» علم أنه ينال ما يريد.
والثاني: أنه لما استزلَّ آدم، قال: ذرّية هذا أضعف منه.
والثاني: أن المعنى: لأحرضنّ ولأجتهدنّ في ذلك، لا انه كان
يعلم الغيب، قاله ابن الأنباري.
والثالث: أن من الجائِز أن يكون علم من جهة الملائكة بخبر من
الله تعالى أن أكثر الخلق لا يشكرون، ذكره الماوردي.
فان قيل: فلم اقتصر على بعضهم؟ فقال: نَصِيباً مَفْرُوضاً «2»
وقال: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ وقال: إِلَّا
قَلِيلًا فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها: أنه يجوز أن يكون علم مآل
الخلق من جهة الملائكة، كما بينّا. والثاني: أنه لما لم ينلْ
من آدم كل ما يريد، طمع في بعض أولاده، وأيس من بعض.
والثالث: انه لما عاين الجنّة والنار، علم أنهما خلقتا لمن
يسكنهما، فأشار بالنصيب المفروض إلى ساكني النار.
[سورة النساء (4) : الآيات 120 الى 122]
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ
غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ
عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
قوله تعالى: يَعِدُهُمْ يعني: الشيطان يعد أولياءه. وفيما
يعدهم به قولان: أحدهما: أنه لا بعث لهم، قاله مقاتل. والثاني:
النصرة لهم، ذكره أبو سليمان الدمشقي، وفيما يُمنِّيهم قولان:
أحدهما: الغرور والأماني، مثل أن يقول: سيطول عمرك، وتنال من
الدنيا مرادك: والثاني: الظفر بأولياء الله.
قوله تعالى: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي:
باطلاً يغرُّهم به. فأما المحيص، فقال الزجاج: هو المعدِل
والملجأ، يقال: حِصتُ عن الرجل أحيص، ورووا: جضتُ أجيض بالجيم
والضاد، بمعنى: حصت، ولا يجوز ذلك في القرآن، وإِن كان المعنى
واحداً، لأن القراءة سنّة، والذي في القرآن أفصحُ مما يجوز،
ويقال: حُصتُ أحوص حوصاً وحياصة: إِذا خطت، قال الأصمعي:
يقال: حصْ عين صقرك، أي: خط عينه، والحوصُ في العين: ضيق
مؤخرها، ويقال: وقع في حيصَ بيصَ، وحاص باص: إِذا وقع فيما لا
يقدر على التخلص منه.
[سورة النساء (4) : آية 123]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123)
قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ في سبب نزولها ثلاثة
أقوال:
(367) أحدها: أن أهل الأديان اختصموا، فقال أهل التّوراة:
كتابنا خير الكتاب، ونبيّنا خير
__________
أخرجه الطبري 10501 عن ابن عباس برواية العوفي، وهو واه. وورد
مرسلا، أخرجه الطبري 10495 و 10496 عن مسروق و 10499 عن السدي،
و 10500 عن الضحاك، و 10502 عن أبي صالح.
__________
(1) سورة ص: 85.
(2) سورة النساء: 118.
(1/475)
الأنبياء، وقال أهل الإِنجيل مثل ذلك، وقال
المسلمون: كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم الأنبياء، فنزلت
هذه الآية، ثم خيّر بين الأديان بقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ
دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. رواه العوفي عن ابن
عباس، وإِلى هذا المعنى ذهب مسروق وأبو صالح وقتادة والسدي.
(368) والثاني: أن العرب قالت: لا نُبعثُ، ولا نعذبُ، ولا
نحاسب، فنزلت هذه الآية، هذا قول مجاهد.
(369) والثالث: أن اليهود والنصارى قالوا: لا يدخل الجنة
غيرنا، وقالت قريش: لا نُبعث، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة.
قال الزجاج: اسم «ليس» مضمر، والمعنى: ليس ثواب الله عز وجل
بأمانيكم، وقد جرى ما يدل على الثواب، وهو قوله تعالى:
سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
وفي المشار إليهم بقوله «أمانيكم» قولان «1» : أحدهما: أنهم
المسلمون على قول الأكثرين.
والثاني: المشركون على قول مجاهد. فأما أماني المسلمين، فما
نقل من قولهم: كتابنا ناسخ للكتب، ونبينا خاتم الأنبياء،
وأماني المشركين قولهم: لا نبعث، وأماني أهل الكتاب قولهم: نحن
أبناء الله وأحباؤه، وإِن النار لا تمسُّنا إِلا أياماً
معدودة، وأنّ كتابنا خير الكتاب، ونبيّنا خير الأنبياء، فأخبر
الله عزّ وجلّ أن دخول الجنة والجزاء، بالأعمال لا بالأماني.
وفي المراد «بالسوء» قولان «2» : أحدهما: أنه المعاصي.
__________
ضعيف، أخرجه الطبري 10507 عن مجاهد مرسلا.
هو مرسل، فهو واه، والمتن غريب.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 290: وأولى
التأولين بالصواب ما قاله مجاهد: من أنه عنى بقوله: لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ مشركي قريش. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن
المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله:
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وإنما جرى ذكر أماني الشيطان المفروض،
وذلك في قوله وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وقوله: يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ، فإلحاق معنى قوله جل ثناؤه: لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ بما قد جرى ذكره قبل، أحقّ وأولى من ادعاء
تأويل فيه، لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا أثر عن الرسول
الله صلّى الله عليه وسلّم ولا إجماع أهل التأويل. فتأويل
الآية إذا: ليس الأمر بأمانيكم، يا معشر أولياء الشيطان وحزبه،
التي يمنيكموها وليّكم عدو الله، ولا أماني أهل الكتاب الذين
قالوا اغترارا بالله وبحلمه عنهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [سورة البقرة: 80] . فإن الله
مجاز كل عامل منكم جزاء عمله، من يعمل منكم سوءا، ومن غيركم،
يجز به، ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا، ومن يعمل من
الصالحات من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة. ولم
يرجح ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 570 بين هذه الأقوال
وإنما قال بعد ذكر الأقوال: والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس
بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال وليس
كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه على
الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان، والعبرة
بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام،
ولهذا قال بعده: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 292: وأولى
التأويلات هو أن كل من عمل سوءا صغيرا أو كبيرا من مؤمن أو
كافر، جوزي به، وذلك لعموم الآية كل عامل سوء، من غير أن يخصّ
أو يستثنى منهم أحد فهي على عمومها. وبنحو ما قلنا تظاهر
الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(1/476)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ
نَقِيرًا (124)
(370) ومنه حديث أبي بكر الصديق أنه قال:
يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ فإذا عملنا سوءاً جُزينا به، فقال: غفر الله لك يا
أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء «1» ؟ فذلك
ما تُجزَون به.
والثاني: أنه الشرك، قاله ابن عباس، ويحيى بن أبي كثير.
وفي هذا الجزاء قولان: أحدهما: أنه عام في كل من عمل سوءاً
فإنه يجازى به، وهو معنى قول أُبيِّ بن كعب، وعائشة، واختاره
ابن جرير، واستدل عليه بحديث أبي بكر الذي قدمناه. والثاني:
أنه خاص في الكفار يجازَوْن بكل ما فعلوا، فأما المؤمن فلا
يجازى بكل ما جنى، قاله الحسن البصري.
وقال ابن زيد: وعد الله المؤمنين أن يكفّر عنهم سيئاتهم، ولم
يَعِد المشركين.
قوله تعالى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا قال
أبو سليمان: لا يجد مَن أراد الله أن يجزيه بشيءٍ من عمله
ولياً، وهو القريب، ولا ناصراً يمنعه من عذاب الله وجزائِه.
[سورة النساء (4) : آية 124]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا
يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)
__________
حسن. أخرجه أحمد 1/ 11، والطبري 10528 و 10529 و 10531 و 10532
و 10533 والمروزي في «مسند أبي بكر» 111 و 112، وأبو يعلى 98 و
99 و 100 و 101 وابن حبان 2910 والحاكم 3/ 74- 75 والبيهقي 3/
373 من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير
الثقفي عن أبي بكر الصديق.
وإسناده ضعيف لانقطاعه: أبو بكر بن زهير لم يدرك الصديق. وصححه
الحاكم، ووافقه الذهبي.
- وأخرجه أبو يعلى 99 من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن
أبي بكر الصديق. وأخرجه الطبري 10526 عن عائشة عن أبي بكر
بنحوه. وأخرجه الطبري 10534 عن مسلم بن صبيح قال: قال أبو بكر.
وأورده ابن كثير في «تفسيره» 1/ 572 عن مسلم بن صبيح، عن مسروق
قال: قال أبو بكر. وأخرجه المروزي 22 وأبو يعلى 18 والطبري
10527 والحاكم 3/ 552- 553 من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن
زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن أبي
بكر. وزياد وعلي بن زيد ضعيفان.
وأخرجه الترمذي 3039 وأبو يعلى 21 عن روح بن عبادة، عن موسى بن
عبيدة، عن مولى ابن سبّاع، عن ابن عمر يحدث عن أبي بكر. وقال
الترمذي: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال. وموسى بن عبيدة يضعف
في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد، وأحمد بن حنبل ومولى ابن سبّاع
مجهول. ويشهد له حديث عائشة أخرجه الترمذي 2991 وأحمد 6/ 218
والطبري 10536 كلهم من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن
أمية ابنة عبد الله أنها سألت عائشة عن قول الله تعالى: إِنْ
تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ
بِهِ اللَّهُ وعن قوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فقال: «هذه معاتبة الله العبد فيما يصيبه من الحمى
والنكبة حتى البضاعة يضعها في كم قميصه فيفقدها فيفزع لها حتى
إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير. وقال
الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة، لا نعرفه إلا من
حديث حماد بن سلمة. وأخرجه الحاكم 2/ 308 من طريق آخر موقوفا
عليها.
وصححه ووافقه الذهبي وانظر ما أخرجه ابن حبان 2923. ويشهد له
أيضا حديث أبي هريرة أخرجه مسلم 2574 والترمذي 3038 وأحمد 2/
249، والطبري 10525، وابن حبان 2926 والبيهقي 3/ 373. وانظر
«تفسير ابن كثير» 1/ 571 و «تفسير القرطبي» 2473 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» : اللأي المشقة والجهد، واللأواء: الشدة وضيق
العيش.
(1/477)
وَمَنْ أَحْسَنُ
دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ.
(371) قال مسروق: لما نزلت لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا
أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء،
فنزلت وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، وهذه تدل على ارتباط
الإِيمان بالعمل الصالح، فلا يقبل أحدهما إِلاّ بوجود الآخر،
وقد سبق ذكر «النّقير» .
[سورة النساء (4) : آية 125]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)
قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ قال ابن عباس: خيّر الله بين الأديان بهذه الآية.
وأَسْلَمَ بمعنى: أخلص. وفي «الوجه» قولان: أحدهما: أنه الدين.
والثاني: العمل. وفي الإحسان قولان: أحدهما: أنه التوحيد، قاله
ابن عباس. والثاني: القيام لله بما فرض الله، قاله أبو سليمان
الدمشقي. وفي اتِّباع ملة إِبراهيم قولان: أحدهما: اتباعه على
التوحيد والطاعة. والثاني: اتباع شريعته، اختاره القاضي أبو
يعلى.
فأما الخليل، فقال ابن عباس: الخليل الصفي، وقال غيره:
المصافي، وقال الزجاج: هو المُحبُّ الذي ليس في محبّته خلل.
قال: وقيل: الخليل: الفقير، فجائِز أن يكون إبراهيم سُمّي خليل
الله بأنه أحبّه محبةً كاملةً، وجائِز أن يكون لأنه لم يجعل
فقرَه وفاقته إِلاّ إِليه، و «الخُلّة» : الصداقة، لأن كلَّ
واحد يسدُّ خلل صاحبه، و «الخَلة» بفتح الخاء: الحاجة: سُميت
خَلَّة للاختلال الذي يلحق الانسان فيما يحتاج إِليه، وسمي
الخَلّ الذي يؤكل خلاً، لأنه اختلّ منه طعم الحلاوة. وقال ابن
الأنباري:
الخليل: فعيل من الخُلة، والخلّة: المودّة. وقال بعض أهل
اللغة: الخليل، المحب، والمحب الذي ليس في محبته نقص ولا خلل،
والمعنى: أنه كان يحبُ الله، ويحبهُ الله محبة لا نقص فيها،
ولا خلل، ويقال: الخليل: الفقير، فالمعنى: اتّخذه فقيرا ينزل
فقره وفاقته به، لا بغيره. وفي سبب اتخاذ الله له خليلاً ثلاثة
أقوال: أحدها: أنه اتخذه خليلاً لإِطعامه الطعام.
(372) روى عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
أنه قال: «يا جبريل، لم اتخذ الله إِبراهيم خليلا؟
قال: لإِطعامه الطعام» .
(373) والثاني: أن الناس أصابتهم سنَة فأقبلوا إِلى باب
إِبراهيم يطلبون الطعام، وكانت له مِيرَة من صديق له بمصر في
كل سنة، فبعث غلمانه بالإِبل إِلى صديقه، فلم يعطهم شيئا،
فقالوا: لو احتملنا
__________
أخرجه الطبري 10495 عن مسروق.
ضعيف. أخرجه البيهقي 9616 من حديث عبد الله بن عمرو، وفيه ابن
لهيعة والراوي عنه ليس من العبادلة، فالحديث ضعيف والمتن منكر،
فإن الأمر أعم من ذلك. وانظر «تفسير القرطبي» 2478.
لا أصل له في المرفوع. عزاه المصنف لرواية أبي صالح عن ابن
عباس وهو في «تفسير البغوي» برواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن
عباس، وهذا إسناد ساقط، الكلبي متروك، وأبو صالح لم يسمع من
ابن عباس، والكلبي وأبو صالح أقرّا أنهما كانا يكذبان على ابن
عباس. راجع ترجمتهما في «الميزان» .
وذكر هذا الخبر الطبري بدون إسناد في «تفسيره» 4/ 297، ونقله
عنه ابن كثير في «تفسيره» 1/ 573، وقال:
وفي صحة هذا ووقوعه نظر، وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا
يصدق ولا يكذب.
(1/478)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا
بميرة، فملؤوا الغرائِر»
رملاً، ثم أتوا إِبراهيم عليه السلام، فأعلموه، فاهتم إِبراهيم
لأجل الخلق. فنامَ وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان، ففتحت
الغرائر، فاذا دقيق حُواري، فأمرت الخبازين فخبزوا، وأطعموا
الناس، فاستيقظ إِبراهيم، فقال: من أين هذا الطعام؟
فقالت: من عند خليلك المصري، فقال: بل من عند خليلي الله عزّ
وجلّ، فيومئذٍ اتخذه الله خليلا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أنه اتخذه خليلاً لكسره الأصنام، وجداله قومه، قاله
مقاتل.
[سورة النساء (4) : آية 126]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ
اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أي: أحاط
علمه بكل شيء.
[سورة النساء (4) : آية 127]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ
فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى
النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما
تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً
(127)
قوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ في سبب نزولها
خمسة أقوال:
(374) أحدها: أنهم كانوا في الجاهلية لا يورِّثون النساء
والأطفال، فلما فرض الله المواريث في هذه السورة، شق ذلك
عليهم، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت
هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة،
وابن زيد.
(375) والثاني: أن ولي اليتيمة كان يتزوّجها إِذا كانت جميلةً
وهَوِيَها، فيأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى
تموت، فاذا ماتت ورثها، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن
ابن عباس.
(376) والثالث: أنهم كانوا لا يؤتون النساء صَدُقَاتِهِنَّ،
ويتملَّك ذلك أولياؤهنّ، فلما نزل قوله
__________
حسن صحيح، أخرجه الطبري 10544 و 10546 عن ابن عباس، وفيه عطاء
بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط. وورد من مرسل مجاهد، أخرجه
الطبري 10552 و 10553 ومن مرسل سعيد بن جبير، أخرجه برقم 10558
ومن مرسل ابن زيد، برقم 10562. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
أخرجه الطبري 10576 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به. وأخرجه
الطبري 10554 عن عطية العوفي عن ابن عباس قال: كانت اليتيمة
تكون في حجر الرجل فيرغب أن ينكحها أو يجامعها، ولا يعطيها
مالها، رجاء أن تموت فيرثها. وأخرجه الطبري 10549 و 10550 عن
إبراهيم النّخعي مرسلا. وأخرجه برقم 10551 عن أبي مالك مرسلا.
فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
صحيح. أخرجه البخاري 4600 ومسلم 3018 وأبو داود 2068 والنسائي
في «التفسير» 144 والواحدي 368 في «أسباب النزول» والبيهقي 7/
141- 142 والطبري 10559 كلهم عن عروة عن أبيه عن عائشة رضي
الله عنها: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ إلى قوله: وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ قالت عائشة: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو
وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى العذق فيرغب أن ينكحها
ويكره أن يزوّجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته، فيعضلها
فنزلت هذه الآية.
وقوله «فيعضلها» : أي لم يعاملها معاملة الأزواج لنسائهم، ولم
يتركها تتصرف في نفسها، فكأنه قد منعها.
__________
(1) في «اللسان» : الغرائر: جمع غرارة: وهي الجوالق التي يوضع
فيها التبن والقمح وغيرهما.
(1/479)
تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ
نِحْلَةً سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت
هذه الآية، هذا قول عائشة عليها السلام.
(377) والرابع: أن رجلاً كانت له امرأة كبيرة، وله منها أولاد،
فأراد طلاقها، فقالت: لا تفعل، واقسم لي في كل شهر إِن شئت أو
أكثر فقال: لئن كان هذا يصلحُ، فهو أحبُ إِليّ، فأتى رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، فذكر له ذلك، فقال: «قد سمع الله ما
تقول، فإن شاء أجابك» ، فنزلت هذه الآية، والتي بعدها، رواه
سالم الأفطس عن سعيد بن جبير.
والخامس: أن ولي اليتيمة كان إِذا رغب في مالها وجمالها لم
يبسط لها في صداقها، فنزلت هذه الآية، ونهوا أن ينكحوهنّ، أو
يبلغوا بهنّ سنتهن من الصداق، ذكره القاضي أبو يعلى.
وقوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ أي: يطلبون منك الفتوى، وهي
تبيين المشكل من الأحكام. وقيل:
الاستفتاء: الاستخبار. قال المفسّرون: والذي اسْتَفْتَوه فيه،
ميراث النساء، وذلك أنهم قالوا: كيف ترث المرأة والصبي الصغير؟
قوله تعالى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ قال الزجاج: موضع «ما»
رفع، المعنى: الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب أيضا
يفتيكم فيهنّ. وهو قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ
الآية. والذي تلي عليهم في التزويج قوله تعالى: وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» . وفي يتامى النساء قولان: أحدهما:
أنهنّ النساء اليتامى، فأضيفت الصّفة إِلى الاسم، كما تقول:
يوم الجمعة. والثاني: أنهن أمهات اليتامى، فأضيف إِليهن
أولادهن اليتامى.
وفي الذي كتب لهن قولان: أحدهما: أنه الميراث، قاله ابن عباس،
ومجاهد في آخرين.
والثاني: أنه الصداق. ثم في المخاطب بهذا قولان: أحدهما: أنهم
أولياء المرأة كانوا يحوزون صداقها دونها. والثاني: ولي
اليتيمة، كان إِذا تزوجها لم يعدل في صداقها.
وفي قوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ قولان:
أحدهما: وترغبون في نكاحهن رغبة في جمالهن، وأموالهن، هذا قول
عائشة، وعبَيدة. والثاني: وترغبون عن نكاحِهن لقبحهنّ،
فتمسكوهن رغبة في أموالهن، وهذا قول الحسن.
قوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ قال
الزجاج: موضع «المستضعفين» خفض على قوله تعالى: وَما يُتْلى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ المعنى: وفي
الولدان. قال ابن عباس: يريد أنهم لم يكونوا يورّثون صغيراً من
الغلمان والجواري، فنهاهم الله عن ذلك، وبيّن لكلّ ذي سهم
__________
لم أر من أسنده عن سعيد، وهو مرسل، والمرسل من قسم الضعيف،
وتقدم روايات كثيرة، ليس فيها ما هو مرفوع لفظي، والله أعلم.
__________
(1) سورة النساء: 3.
(1/480)
وَإِنِ امْرَأَةٌ
خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ
تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
سهمه. قوله تعالى: وَأَنْ تَقُومُوا
لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ قال الزجاج: موضع «أن» خفض، فالمعنى:
في يتامى النساء، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. قال ابن عباس:
يريد العدل في مهورهن ومواريثهنّ.
[سورة النساء (4) : آية 128]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ
إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما
صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً
في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(378) أحدها: أن سودة خشيت أن يطلّقها رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، وأمسكني، واجعل
يومي لعائشة، ففعل، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(379) والثاني: أن بنت محمد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج،
فكره منها أمراً، إِما كِبَراً، وإِما غيره، فأراد طلاقها،
فقالت: لا تطلقني، واقسم لي ما شئت، فنزلت هذه الآية، رواه
الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب، وقال مقاتل: واسمها خويلة «1» .
والثالث: قد ذكرناه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في نزول
الآية التي قبلها.
(380) وقالت عائشة: نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلا يستكثر
منها، ويريد فراقها، ولعلها تكون له محبة أو يكون لها ولد
فتكره فراقه، فتقول له: لا تطلقني وأمسكني، وأنت في حل من
شأني. رواه البخاري، ومسلم.
وفي خوف النشوز قولان: أحدهما: أنه العلم به عند ظهوره.
والثاني: الحذر من وجوده لأماراته. قال الزجاج: والنشوز من بعل
المرأة: أن يُسيء عشرتها، وأن يمنعها نفسه ونفقته. وقال أبو
__________
أخرجه الترمذي 3040 والطبري 10613 من حديث ابن عباس بهذا
اللفظ، وقال الترمذي: حسن غريب.
- قلت: إسناده غير قوي لأنه من رواية سماك عن عكرمة، وهي
مضطربة، ولكن ورد من وجه آخر بنحوه.
أخرجه أبو داود 2135 والحاكم 2/ 186 من حديث عائشة وصححه،
ووافقه الذهبي، وإسناده حسن لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد.
وخبر سودة دون ذكر نزول الآية، أخرجه مسلم 1463 وابن حبان 4211
من حديث عائشة قالت: ما رأيت امرأة أحب إليّ أن أكون في
مسلاخها من سودة بنت زمعة، من امرأة فيها حدة.
قالت: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
لعائشة. قالت: يا رسول الله: قد جعلت يومي منك لعائشة، فكان
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة يومين، يومها ويوم
سودة. أخرجه البخاري 5212 ومسلم 1463 والنسائي في «الكبرى»
7934 وابن ماجة 1972 مختصرا والبيهقي 7/ 74- 75 من حديث عائشة
مطولا وليس فيه سبب نزول الآية. وانظر «تفسير القرطبي» 2481
بتخريجنا.
مرسل. أخرجه الشافعي 1/ 250 والواحدي 370 والبيهقي 7/ 296 عن
ابن المسيب مرسلا.
- وورد من حديث رافع بن خديج. أخرجه مالك 2/ 548- 549، والحاكم
2/ 308، ولكن ليس فيه نزول الآية. وقال الحاكم: صحيح على شرط
الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
صحيح. أخرجه البخاري 2450 و 2694 و 4601 ومسلم 3021 والبيهقي
7/ 296 والواحدي 369 والطبري 10589 و 10590 و 10591 عن عائشة
به. وانظر «تفسير القرطبي» 2483.
__________
(1) ورد اسمها في «تفسير القرطبي» 5/ 384 و «تفسير البغوي» 1/
486 خولة بنت محمد بن مسلمة، وفي بقية كتب التفاسير ابنة محمد
بن مسلمة، ولم تسمّ.
(1/481)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا
رَحِيمًا (129)
سليمان: نشوزاً، أي: نبواً عنها إِلى
غيرها، أو إعراضا عنها، واشتغالاً بغيرها. فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما قرأ ابن كثير، ونافع،
وأبو عمرو، وابن عامر: «يصّالحا» بفتح الياء والتشديد. والأصل:
«يتصالحا» ، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ عاصم، وحمزة،
والكسائي: «يُصلحا» بضم الياء والتخفيف. قال المفسرون:
والمعنى: أن يوقعا بينهما أمرا يرضيان به، وتدوم بينهما
الصحبة، مثل أن تصبر على تفضيله. وروي عن علي، وابن عباس:
أنهما أجازا لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها، أو بعض أيامها،
بأن يجعله لغيرها.
وفي قوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ قولان «1» : أحدهما: خير
من الفرقة، قاله مقاتل، والزجاج.
والثاني: خيرٌ من النشوز والإِعراض، ذكره الماوردي. قال قتادة:
متى ما رضيت بدون ما كان لها، واصطلحا عليه، جاز، فان أبتْ لم
يصلح أن يحبسها على الخسف.
قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ «أحضرت» بمعنى:
ألزمت. و «الشّح» : الإِفراط في الحرص على الشيء. وقال ابن
فارس: «الشح» : البخل مع الحرص، وتشاح الرجلان على الأمر: لا
يريدان أن يفوتهما، وفيمن يعود إِليه هذا الشح من الزوجين
قولان: أحدهما: المرأة، فتقديره:
وأحضرت نفس المرأة الشح بحقها من زوجها، هذا قول ابن عباس،
وسعيد بن جبير. والثاني:
الزوجان جميعاً، فالمرأة تشح على مكانها من زوجها، والرجل يشح
عليها بنفسه إِذا كان غيرُها أحبَّ إِليه، هذا قول الزجاج.
وقال ابن زيد: لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئاً فتحلله، ولا تطيب
نفسها أن تعطيه شيئاً من مالها، فتعطّفه عليها.
قوله تعالى: وَإِنْ تُحْسِنُوا فيه قولان: أحدهما: بالصّبر على
التي يكرها. والثاني: بالإِحسان إِليها في عشرتها. قوله تعالى:
وَتَتَّقُوا يعني الجور عليها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم عليه.
[سورة النساء (4) : آية 129]
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ
حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها
كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)
قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ
النِّساءِ قال أهل التفسير: لن تطيقوا أن تسوّوا بينهن في
المحبة التي هي ميل الطباع، لأن ذلك ليس من كسبكم وَلَوْ
حَرَصْتُمْ على ذلك فَلا تَمِيلُوا إِلى التي تحبون في النفقة
والقسم. وقال مجاهد: لا تتعمّدوا الإِساءة فتذروا الأخرى
كالمعلقة قال ابن عباس: المعلقة: التي لا هي أيِّم، ولا ذات
بعل. وقال قتادة: المعلقة: المسجونة. قوله تعالى: وَإِنْ
تُصْلِحُوا أي: بالعدل في القسمة وَتَتَّقُوا الجور فَإِنَّ
اللَّهَ كانَ غَفُوراً لميل القلوب.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 10/ 262- 263:
وإذا خافت المرأة نشوز زوجها وإعراضه عنها، لرغبته عنها، إما
لمرض بها أو كبر أو دمامة، فلا بأس أن تضع عنه بعض حقوقها
تسترضيه بذلك، لقول الله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ
بَعْلِها نُشُوزاً ... الآية. ومتى صالحته على ترك شيء من
قسمها أو نفقتها أو على ذلك كله، جاز، فإن رجعت، فلها ذلك. قال
أحمد، في الرجل يغيب عن امرأته، فيقول لها: إن رضيت على هذا
وإلا فأنت أعلم. فتقول: قد رضيت. فهو جائز، فإن شاءت رجعت.
(1/482)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا
يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا
حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ
تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ
وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا
(133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ
ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا
بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ
يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا
فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا
أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا (135)
[سورة النساء (4) : الآيات 130 الى 132]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ
وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا
اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى
بِاللَّهِ وَكِيلاً (132)
قوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يقول: وإِن أبت المرأة أن تسمح
لزوجها بإيثار التي يميل إِليها، واختارت الفرقة، فإن الله
يغني كلَّ واحد من سعته. قال ابن السائِب: يغني المرأة برجل،
والرجل بامرأة. ثم ذكر ما يوجبُ الرغبة إِليه في طلب الخير،
فقال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ يعني: أهل التوراة، والإِنجيل، وسائر الكتاب
وَإِيَّاكُمْ يا أهل القرآن أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ قيل: وحّدوه
وَإِنْ تَكْفُرُوا بما أوصاكم به فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فلا يضرّه خلافكم. وقيل: له ما
في السماوات، وما في الأرض من الملائكة، فهم أطوع له منكم. وقد
ذكرنا في سورة البقرة معنى «الغني الحميد» «1» ، وفي آل عمران
معنى «الوكيل» «2» .
[سورة النساء (4) : آية 133]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ
بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133)
قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قال
ابن عباس: يريد المشركين والمنافقين وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أطوع
له منكم. وقال أبو سليمان: هذا تهدّد للكفار، يقول: إِن يشأ
يهلككم كما أهلك مَن قبلكم إِذ كفروا به، وكذّبوا رسله.
[سورة النساء (4) : آية 134]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً
(134)
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا قيل: إِن هذه
الآية نزلت من أجل المنافقين كانوا لا يصدِّقون بالقيامة،
وإِنما يطلبون عاجل الدنيا، ذكره أبو سليمان. وقال الزجاج: كان
مشركو العرب يتقربون إِلى الله ليعطيهم من خير الدنيا، ويصرف
عنهم شرّها، ولا يؤمنون بالبعث، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن خير
الدنيا والآخرة عنده. وذكر الماوردي أن المراد بثواب الدنيا:
الغنيمة في الجهاد، وثواب الآخرة: الجنة. قال: والمراد بالآية:
حث المجاهد على قصد ثواب الله.
[سورة النساء (4) : آية 135]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ
الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى
أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ في سبب نزولها قولان:
__________
(1) سورة البقرة: 267.
(2) سورة آل عمران: 173.
(1/483)
(381) أحدهما: أن فقيراً وغنياً اختصما
إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان صَغْوُه «1» مع الفقير
يرى أن الفقير لا يَظلم الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول
السدي. والثاني: أنها متعلقة بقصّة ابن أُبيرق، فهي خطاب للذين
جادلوا عنه، ذكره أبو سليمان الدمشقي «2» .
و «القوّام» : مبالغة مِن قائِم. و «القسط» : العدل. قال ابن
عباس: كونوا قوّالين بالعدل في الشهادة على من كانت، ولو على
أنفسكم. وقال الزجاج: معنى الكلام: قوموا بالعدل، واشهدوا لله
بالحق، وإِن كان الحق على الشاهد، أو على والديه، أو قريبه «3»
، إِنْ يَكُنْ المشهود له غَنِيًّا فالله أولى به، وإِن يكن
فقيراً فالله أولى به. فأما الشهادة على النفس، فهي إِقرار
الإِنسان بما عليه من حق. وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إِلى فقر
المشهود عليه، ولا إِلى غناه، فإن الله تعالى أولى بالنظر
إِليهما. قال عطاء: لا تحيفوا على الفقير، ولا تعظموا الغني،
فتمسكوا عن القول فيه. وممن قال: إِن الآية نزلت في الشهادات،
ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، والزّهريّ، وقتادة،
والضحاك.
قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا فيه
أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: فلا تتبعوا الهوى، واتقوا الله
أن تعدِلوا عن الحق، قاله مقاتل. والثاني: ولا تتبعوا الهوى
لتعدلوا، قاله الزجاج. والثالث: فلا تتبعوا الهوى كراهية أن
تعدلوا عن الحق. والرابع: فلا تتبعوا الهوى فتعدلوا، ذكرهما
الماوردي. قوله
__________
ضعيف، أخرجه الطبري 10683 عن السدي مرسلا. وذكره الواحدي بدون
إسناد في «أسباب النزول» 371، وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي
كما في «أسباب النزول» للسيوطي.
- وفي الطبري والواحدي وكان- ضلعه- بدلا من وكان- صغوه-.
__________
(1) في «اللسان» : صغا: مال ويقال صغوه معك: أي ميله معك.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 320: وهذه
الآية عندي تأديب من الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا
ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا، وخيانتهم
ما خانوا ممن ذكر قيل، عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وشهادتهم لهم عنده بالصلاح. [.....]
(3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 14/ 137: من
لزمته الشهادة، فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد، لا يسعه
التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك. وجملته أن أداء الشهادة
من فروض الكفايات، فإن تعينت عليه، بأن لا يتحملها من يكفي
فيها سواه، لزمه القيام بها. وإن قام بها اثنان غيره، سقط عنه
أداؤها إذا قبل الحاكم. فإن كان تحمّلها جماعة، فأداؤها واجب
على الكل، إذا امتنعوا أثموا كلهم، كسائر فروض الكفاية. ولا
تجوز شهادة الوالدين وإن علوا، للولد وإن سفل، ولا شهادة الولد
وإن سفل لهما وإن علوا، وبه قال شريح، والحسن، ومالك والشافعي
وإسحاق وأصحاب الرأي.
وروي عن أحمد رواية ثانية، تقبل شهادة الابن لأبيه، ولا تقبل
شهادة الأب له، لأن مال الابن في حكم مال الأب، له أن يتملكه
إذا شاء لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ومالك لأبيك» . وأما
شهادة أحدهما على صاحبه، فتقبل. نصّ عليه أحمد. وهذا قول عامة
أهل العلم، ولم أجد في «الجامع» فيه خلافا، وذلك لقوله تعالى:
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. فأمر
بالشهادة عليهم، ولو لم تقبل لما أمر بها، ولأنها ردّت للتهمة
في إيصال النفع، ولا تهمة في شهادته عليه، فوجب أن تقبل،
كشهادة الأجنبي، بل أولى.
وقال بعض الشافعية: لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص، ولا
حدّ قذف، لأنه لا يقتل بقتله، ولا يحدّ بقذفه، فلا يلزمه ذلك.
والمذهب الأوّل، لأنه يتهم له ولا يتهم عليه، فشهادته عليه
أبلغ في الصّدق، كإقراره على نفسه.
(1/484)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا قرأ ابن كثير،
ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، والكسائي، تلووا، بواوين، الأولى
مضمومة، واللام ساكنة. وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إِلى غير الحق. قال ابن
عباس: يلوي لسانه بغير الحق، ولا يقيم الشهادة على وجهها، أو
يعرض عنها ويتركها. وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك،
وقتادة، والسدي، وابن زيد. والثاني: أن يلوي الحاكم وجهه إِلى
بعض الخصوم، أو يُعرِضَ عن بعضهم، روي عن ابن عباس أيضاً.
والثالث:
أن يلوي الإِنسان عنقه إِعراضاً عن أمر الله لكبره وعتوِّه.
ويكون: «أو تعرضوا» بمعنى: وتعرضوا، ذكره الماوردي. وقرأ
الأعمش، وحمزة، وابن عامر: «تلوا» بواو واحدة، واللاّم مضمومة.
والمعنى: أن تلوا أمور الناس، أو تتركوا، فيكون الخطاب
للحكّام.
[سورة النساء (4) : آية 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ في سبب نزولها قولان:
(382) أحدهما: أن عبد الله بن سلام، وأسداً، وأُسيداً ابني
كعب، وثعلبة بن قيس، وسلاماً، وسلمة، ويامين. وهؤلاء مؤمنو أهل
الكتاب أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول
الله نؤمن بك، وبكتابك، وبموسى، والتوراة، وعزير، ونكفر بما
سوى ذلك من الكتاب والرسل، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن
ابن عباس. والثاني: أن مؤمني أهل الكتاب كان بينهم وبين اليهود
كلام لما أسلموا، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل «1» .
وفي المشار إليهم بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنهم المسلمون، قاله الحسن، فيكون
المعنى: يا أيها الذين آمنوا بمحمد والقرآن اثبتوا على
إِيمانكم. والثاني: اليهود والنصارى، قاله الضحاك، فيكون
المعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى، والتوراة، وبعيسى،
والإِنجيل:
آمنوا بمحمد والقرآن. والثالث: المنافقون، قاله مجاهد، فيكون
المعنى: يا أيها الذين آمنوا في الظّاهر بألسنتهم، آمنوا
بقلوبكم.
__________
باطل. ذكره البغوي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا
إسناد ساقط: الكلبي متروك كذاب، وأبو صالح لم يسمع من ابن
عباس. وانظر ترجمتهما في «الميزان» . وذكره الواحدي في أسباب
النزول 372 عن الكلبي بدون إسناد، وقال الحافظ في «تخريج
الكشاف» 1/ 576: ذكره الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن
ابن عباس.
__________
(1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان عند الإطلاق، وهو متهم
بالوضع، فخبره لا شيء.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 324: يعني
الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمن قبل محمد من
الأنبياء والرسل، وصدّقوا بما جاءوهم به من عند الله، يعني بما
هم مؤمنون من الكتاب والرسل، آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى
رَسُولِهِ فإنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله، تجدون صفته في
كتبكم، ذلك بأنهم كانوا صنفين: أهل التوراة مصادقين بها وبمن
جاء بها، وهم مكذبون بالإنجيل وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما،
وصنف أهل الإنجيل، وهم مصدقون به وبالتوراة وسائر الكتاب،
مكذبون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والفرقان.
(1/485)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ
ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
قوله تعالى: وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ
عَلى رَسُولِهِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «نزِّل
على رسوله، والكتاب الذي أُنزل من قبل» مضمومتين. وقرأ نافع،
وعاصم، وحمزة، والكسائي: نَزَلَ على رسوله، والكتاب الذي
أنْزَلَ مفتوحتين. والمراد بالكتاب: الذي نزل على رسوله
القرآن، والكتاب الذي أنزل من قبل: كل كتاب أنزل قبل القرآن،
فيكون «الكتاب» ها هنا اسم جنس.
[سورة النساء (4) : آية 137]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا اختلفوا
فيمن نزلت على ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها في اليهود آمنوا
بموسى، ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعده
بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد عليه السلام، هذا قول ابن عباس.
وروي عن قتادة قال: آمنوا بموسى، ثم كفروا بعبادة العجل، ثم
آمنوا به بعد عوده، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفراً
بمحمد. والثاني: أنها في اليهود والنصارى، آمن اليهود
بالتوراة، وكفروا بالإِنجيل، وآمن النصارى بالإِنجيل. ثم تركوه
فكفروا به، ثم ازدادوا كفراً بالقرآن وبمحمد، رواه شيبان عن
قتادة. وروي عن الحسن قال: هم قوم من أهل الكتاب، قصدوا تشكيك
المؤمنين، فكانوا يظهرون الإيمان ثم الكفر، ثم ازدادوا كفراً
بثبوتهم على دينهم. وقال مقاتل: آمنوا بالتوراة وموسى، ثم
كفروا من بعد موسى، ثم آمنوا بعيسى والإِنجيل، ثم كفروا من
بعده، ثم ازدادوا كفراً بمحمد والقرآن. والثالث: أنها في
المنافقين آمنوا، ثم ارتدوا، ثم ماتوا على كفرهم، قاله مجاهد.
وروى ابن جريج عن مجاهد ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال: ثبتوا
عليه حتى ماتوا. قال ابن عباس: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ
لَهُمْ ما أقاموا على ذلك وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أي: لا
يجعلهم بكفرهم مهتدين. قال: وإِنما علق امتناع المغفرة بكفر
بعد كفر، لأن المؤمن بعد الكفر يُغفرُ له كفره، فإذا ارتدّ
طولب بالكفر الأوّل «2» .
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 326: وأولى
هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال: عنى بذلك أهل الكتاب
الذين أقروا بحكم التوراة، ثم كذبوا بخلافهم إياه، ثم أقرّ من
أقرّ منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذّب به بخلافه إياه، ثم كذّب
بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والفرقان، فازداد بتكذيبه كفرا على
كفره.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 264: ومن
ارتد عن الإسلام من الرّجال والنساء، وكان بالغا عاقلا، دعي
إليه ثلاثة أيام، وضيّق عليه، فإن رجع، وإلا قتل. فإنه لا يقتل
حتى يستتاب ثلاثا. هذا قول أكثر أهل العلم. وروي عن أحمد،
رواية أخرى، أنه لا تجب استتابته، ولكن تستحب. وهذا القول
الثاني للشافعي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من بدّل
دينه فاقتلوه» ولم يذكر استتابته. وإن مفهوم كلام الخرقي، أنه
إذا تاب قبلت توبته، ولم يقتل أي كفر كان، وهذا مذهب الشافعي.
وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال، وقال إنه
أولى على مذهب أبي عبد الله. والرواية الأخرى لا تقبل توبة
الزنديق، ومن تكررت ردته.
وهو قول مالك، والليث وإسحاق، وعن أبي حنيفة روايتان كهاتين.
فأما من تكررت ردّته فقد قال الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. وقد روي عن
ظبيان بن عمارة، أن رجلا من بني سعد مرّ على مسجد بني حنيفة،
فإذا هم يقرءون برجز مسيلمة، فرجع إلى ابن مسعود، فذكر له ذلك،
فبعث إليهم، فأتي بهم فاستتابهم فتابوا، فخلّى سبيلهم، إلا
رجلا منهم يقال له ابن النّوّاحة. قال: قد أتيت بك مرة فزعمت
أنك قد تبت، وأراك عدت. فقتله.
(1/486)
بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ
فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ
بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ
إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
[سورة النساء (4) : آية 138]
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138)
قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ زعم مقاتل أنه لما نزلت
المغفرة في سورة الفتح للنبي والمؤمنين قال عبد الله بن أُبيّ
ونفر معه: فما لنا؟ فنزلت هذه الآية «1» . وقال غيره: كان
المنافقون يتولَّون اليهود، فأُلحِقوا بهم في التبشير بالعذاب.
وقال الزجاج: معنى الآية: اجعل موضع بشارتهم العذاب. والعرب
تقول: تحيتك الضَّربُ، أي: هذا بدلٌ لك من التحيّة. قال
الشاعر:
وخيلٍ قد دلفتُ لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع «2»
[سورة النساء (4) : آية 139]
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ
قال ابن عباس: يتخذون اليهود أولياء في العون والنُّصرة. قوله
تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أي: القوة بالظهور
على محمد وأصحابه، والمعنى:
أيتقون بهم؟ قال مقاتل: وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على
قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال الزجاج: أيبتغي
المنافقون عند الكافرين العزة. و «العزَّة» : المنعة، وشدة
الغلبة، وهو مأخوذ من قولهم: أرض عَزاز. قال الأصمعي: العزاز:
الأرض التي لا تنبت. فتأويل العزة: الغلبة والشدة التي لا
يتعلق بها إذلال. قالت الخنساء:
كَأَنْ لم يكونوا حِمىً يُتَّقَى ... إِذْ النَّاسُ إِذ ذَاكَ
مَن عَزّ بَزَّا
أي: من قوي وغَلَبَ سَلبَ. ويقال: قد استُعِزَّ على المريض،
أي: اشتد وجعه. وكذلك قول الناس: يَعزُّ عليّ أن يفعل، أي:
يشتد، وقولهم: قد عزَّ الشيء: إِذا لم يوجد، معناه: صعب أن
يوجد، والباب واحد.
[سورة النساء (4) : آية 140]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ
آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا
تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ
الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
قوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ وقرأ
عاصم، ويعقوب: «نَزَّل» بفتح النون والزاي.
قال المفسّرون: الذي نزل عليهم في النهي عن مجالستهم، قوله في
الأنعام وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ «3» وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار
اليهود، فيسخرون من القرآن ويكذبون به، فنهى الله المسلمين عن
مجالستهم. وآيات الله: هي القرآن. والمعنى: إِذا سمعتم الكفر
بآيات الله، والاستهزاء بها، فلا تقعدوا معهم حتى يأخذوا في
حديث غير الكفر، والاستهزاء. إِنَّكُمْ إِن جالستموهم على ما
هم عليه من ذلك، فأنتم مِثْلُهُمْ، وفي ماذا تقع المماثلة فيه،
قولان: أحدهما:
__________
(1) باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالوضع، كما تقدم،
وخبره لا شيء، ليس له أصل.
(2) في «الخزانة» 4/ 53 قال البغدادي: وهذا البيت نسبه شراح
أبيات «الكتاب» وغيرهم إلى عمرو بن معديكرب الصحابي ولم أره في
شعره. وفي «اللسان» : دلف: الدّليف: المشي الرّويد. ودلفت
الكتيبة إلى الكتيبة في الحرب تقدمت. وجيع أي موجع.
(3) سورة الأنعام: 68.
(1/487)
الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ
اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ
لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا
كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
إِلَّا قَلِيلًا (142)
في العصيان. والثاني: في الرضى بحالهم، لأن
مُجالس الكافر غير كافر. وقد نبّهت الآية على التحذير من
مجالسة العصاة. قال إِبراهيم النّخعيّ: إنّ الرجل ليجلس فيتكلم
بالكلمة، فيرضي الله بها، فتصيبُه الرحمة فتعمُّ من حوله، وإِن
الرجل ليجلس في المجلس، فيتكلم بالكلمة، فيسخط الله بها،
فيصيبه السّخط، فيعمّ من حوله.
[سورة النساء (4) : آية 141]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ
مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ
لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ
وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ قال أبو سليمان:
هذه الآية نزلت في المنافقين خاصة. قال مقاتل: كان المنافقون
يتربصون بالمؤمنين الدوائِر، فإن كان الفتح، قالُوا أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ؟ فاعطونا من الغنيمة. وَإِنْ كانَ
لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ، أي دولةٌ على المؤمنين، قالوا للكفار:
أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ؟
قال المبرِّد: ومعنى: ألم نستحوذ عليكم: ألم نغلبْكم على
رأيكم. وقال الزجاج: ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم. و «نستحوذ»
في اللغة، بمعنى: نستولي، يقال: حُذْت الإِبل، وحُزْتها: إِذا
استوليت عليها وجمعتها. وقال غيره: ألم نستول عليكم بالمعونة
والنصرة؟ وقال ابن جريج: ألم نبين لكم أنا على دينكم؟ وفي قوله
تعالى: وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ثلاثة أقوال:
أحدها: نمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم. والثاني: بما نعلمكم من
أخبارهم. والثالث: بصرفنا إيّاكم عن الدخول عن الإِيمان. ومراد
الكلام: إِظهار المنّة من المنافقين على الكفار، أي: فاعرفوا
لنا هذا الحق عليكم.
قوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
يعني المؤمنين والمنافقين. قال ابن عباس: يريد أنه أخّر عقاب
المنافقين. قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا سبيل لهم عليهم يوم القيامة، روى يُسيْع الحضرمي
عن علي بن أبي طالب أن رجلاً جاءه، فقال: أرأيت قول الله عزّ
وجلّ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون، فقال:
وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ يوم القيامة عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. هذا مروي عن ابن عباس، وقتادة.
والثاني: أن المراد بالسبيل: الظهور عليهم، يعني: أن المؤمنين
هم الظاهرون، والعاقبة لهم، وهذا المعنى في رواية عكرمة، عن
ابن عباس. والثالث: أن السبيل: الحجة. قال السدي: لم يجعل الله
عليهم حجة، يعني فيما فعلوا بهم من القتل والإِخراج من الديار.
قال ابن جرير: لما وعد الله المؤمنين أنه لا يدخل المنافقين
مدخلهم من الجنة، ولا المؤمنين مدخل المنافقين، لم يكن
للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم: أنتم كنتم أعداءنا،
وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في النار.
[سورة النساء (4) : آية 142]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ
النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142)
قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
أي: يعملون عمل المخادع. وقيل: يخادعون نبيّه،
(1/488)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
وهو خادعهم، أي: مجازيهم على خداعهم. وقال
الزجاج: لما أمر بقبول ما أظهروا، كان خادعاً لهم بذلك. وقيل:
خداعه إِياهم يكون في القيامة بإطفاء نورهم، وقد شرحنا طرفاً
من هذا في (البقرة) . قوله تعالى: وَإِذا قامُوا إِلَى
الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
أي: متثاقلين. وكُسالى
: جمع كسلان، و «الكسل» :
التثاقل عن الأمر. وقرأ أبو عمران الجونيّ: «كسالى» بفتح
الكاف، وقرأ ابن السّميقع: «كسلى» ، بفتح الكاف من غير ألف.
وإنما كانوا هكذا، لأنهم يصلّون حذراً على دمائهم، لا يرجون
بفعلها ثواباً، ولا يخافون بتركها عقابا. قوله تعالى: يُراؤُنَ
النَّاسَ
أي: يصلُّون ليراهم الناس. قال قتادة: والله لولا الناس ما صلى
المنافق. وفي تسمية ذكرهم بالقليل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه
سُمّي قليلاً، لأنه غير مقبول، قاله علي رضي الله عنه، وقتادة.
والثاني: لأنه رياء، ولو كان لله لكان كثيراً، قاله ابن عباس،
والحسن. والثالث: أنه قليل في نفسه، لأنهم يقتصرون على ما
يظهر، دون ما يخفى من القراءة والتّسبيح، ذكره الماورديّ.
[سورة النساء (4) : آية 143]
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ المذبذب: المتردّد بين
أمرين، وأصل التذبذب: التحرّك، والاضطراب، وهذه صفة المنافق،
لأنه محيّر في دينه لا يرجع إِلى اعتقاد صحيح. قال قتادة:
ليسوا بالمشركين المصرّحين بالشرك، ولا بالمؤمنين المخلصين.
قال ابن زيد: ومعنى بَيْنَ ذلِكَ: بين الاسلام والكفر، لم
يظهروا الكفر فيكونوا إِلى الكفار، ولم يصدّقوا الإِيمان،
فيكونوا إِلى المؤمنين.
قال ابن عباس: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
سَبِيلًا إِلى الهدى.
(383) وقد روى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه
قال: «مثل المنافق: مثل الشاة العائِرة «1» بين الغنمين تُعيرُ
إِلى هذه مرةً، وإِلى هذه مرة، ولا تدري أيّها تتبّع» .
[سورة النساء (4) : آية 144]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144)
قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ في المراد
بالكافرين قولان:
أحدهما: اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: المنافقون، قال
الزجاج: ومعنى الآية: لا تجعلوهم بطانتكم وخاصّتكم. والسلطان:
الحجة الظاهرة، وإنما قيل للأمير: سلطان، لأنه حجة الله في
أرضه، واشتقاق السلطان: من السليط. والسَّليط: ما يستضاء به،
ومن هذا قيل للزيت: السَّليط. والعرب تؤنِّث السلطان وتذكِّره،
تقول: قضت عليك السلطان، وأمرتك السلطان، والتذكير أكثر، وبه
جاء القرآن، فمن أنَّث، ذهب إِلى معنى الحجة، ومن ذكَّر، أراد
صاحب السلطان. قال ابن الأنباريّ: تقدير
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2784 والنسائي 8/ 124 وأحمد 2/ 102 و 143
والرامهرمزي في «الأمثال» ص 86 من طرق عن عبد الله بن عمر.
__________
(1) العائرة: المترددة الحائرة لا تدري أيهما تتبع.
(1/489)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ
بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ
شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
الآية: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم
بموالاة الكافرين حجة بيِّنة تلزمكم عذابه، وتكسبكم غضبه؟
[سورة النساء (4) : آية 145]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)
قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: بفتح الراء، وقرأ
عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: بتسكين الراء. قال الفراء: وهي
لغتان. قال أبو عبيدة: جهنم أدراك، أي: منازلٌ، وأطباق. فكل
منزل منها: درك. وحكى ابن الأنباري عن بعض العلماء أنه قال:
الدركات: مراق، بعضها تحت بعض. وقال الضحاك: الدرج: إِذا كان
بعضها فوق بعضها، والدرك: إِذا كان بعضها أسفل من بعض. وقال
ابن فارس: الجنة درجات، والنار دركات.
وقال ابن مسعود في هذه الآية: هم في توابيت من حديد مبهمة
عليهم. قال ابن الأنباري: المبهمة:
التي لا أقفال عليها، يقال: أمرٌ مبهم: إذا كان ملتبسا ولا
يعرف معناه، ولا بابه.
قوله تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً قال ابن عباس:
مانعاً من عذاب الله.
[سورة النساء (4) : آية 146]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْراً عَظِيماً (146)
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قال مقاتل: سبب نزولها:
أن قوماً قالوا عند ذكر مستقر المنافقين: فقد كان فلان وفلان
منافقين، فتابوا، فكيف يُفْعَل بهم؟ فنزلت هذه الآية «1» .
ومعنى الآية:
إِلا الذين تابوا من النفاق وَأَصْلَحُوا أعمالهم بعد التوبة
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي: استمسكوا بدينه.
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ فيه قولان:
أحدهما: أنه الإِسلام، وإِخلاصه: رفع الشرك عنه، قاله مقاتل.
والثاني: أنه العمل، وإِخلاصه: رفع شوائِب النفاق والرياء منه،
قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ في «مع» قولان:
أحدهما: أنها على أصلها، وهو الاقتران. وفي ماذا اقترنوا
بالمؤمنين؟ فيه قولان:
أحدهما: في الولاية، قاله مقاتل. والثاني: في الدين والثواب.
قاله أبو سليمان.
والثاني: أنها بمعنى «مِن» فتقديره: فأولئك من المؤمنين، قاله
الفراء.
[سورة النساء (4) : آية 147]
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ
وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ «ما» حرف
استفهام، ومعناه: التقرير، أي: إِن الله لا يعذِّب الشاكر
المؤمن، ومعنى الآية: ما يصنع الله بعذابكم إِن شكرتم نعمه،
وآمنتم به وبرسوله.
والإيمان مقدّم في المعنى وإِن أخِّر في اللفظ. وروي عن ابن
عباس أن المراد بالشكر: التوحيد. قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ
شاكِراً عَلِيماً أي: للقليل من أعمالكم، عليما بنيّاتكم،
وقيل: شاكرا، أي: قابلا.
__________
(1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط، وتقدم.
(1/490)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
[سورة النساء (4) : آية 148]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ
إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)
قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ في سبب نزولها قولان:
(384) أحدهما: أن ضيفاً تضيّف قوماً فأساؤوا قِراهُ فاشتكاهم،
فنزلت هذه الآية رخصةً في أن يشكوا، قاله مجاهد.
(385) والثاني: أن رجلاً نال من أبي بكر الصّدّيق والنبيّ صلّى
الله عليه وسلّم حاضر، فسكت عنه أبو بكر مراراً، ثم ردّ عليه،
فقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو بكر: يا رسول الله
شتمني فلم تقل له شيئاً، حتى إِذا رددت عليه قمت؟! فقال: «إِن
ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت عليه، ذهب الملك، وجاء الشيطان»
فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل.
واختلف القراء في قراءة إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فقرأ الجمهور بضم
الظاء، وكسر اللام. وقرأ عبد الله بن عمرو، والحسن، وابن
المسيب، وأبو رجاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، وزيد بن
أسلم، بفتحهما. فعلى قراءة الجمهور، في معنى الكلام ثلاثة
أقوال: أحدها: إِلا أن يدعو المظلوم على مَن ظلمه، فإن الله قد
أرخص له، قاله ابن عباس. والثاني: إِلا أن ينتصر المظلومُ من
ظالمه، قاله الحسن، والسدي. والثالث: إِلا أن يخبر المظلوم
بظلم من ظلمه، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. وروى ابن جريج عنه
قال: إِلا أن يجهر الضيف بذم من لم يضيفه. فأما قراءة مَن فتح
الظاء، فقال ثعلب: هي مردودة على قوله تعالى: ما يَفْعَلُ
اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِلا من ظلم. وذكر الزجاج فيها قولين:
أحدهما:
أن المعنى: إِلا أن الظالم يجهر بالسوء ظلماً. والثاني: إِلا
أن تجهروا بالسوء للظالم. فعلى هذا تكون «إِلا» في هذا المكان
استثناءً منقطعاً، ومعناها: لكن المظلوم يجوز له أن يجهرَ
لظالمه بالسوء. ولكن الظالم قد يجهر بالسوء. واجهروا له
بالسوء. وقال ابن زيد: إِلا من ظلم، أي: أقام على النفاق،
فيجهر له بالسوء حتى يَنْزِع.
قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً أي: لما تجهرون به من سوء
القول عَلِيماً بما تخفون. وقيل:
سميعاً لقول المظلوم، عليماً بما في قلبه، فليتق الله، ولا يقل
إِلا الحق. وقال الحسن: من ظُلِم، فقد رخّص له أن يدعو على
ظالمه من غير أن يعتدي، مثل أن يقول: اللهم أعني عليه، اللهم
استخرج لي حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد.
__________
ضعيف، أخرجه عبد الرزاق 654 والطبري 10758 عن مجاهد مرسلا، فهو
ضعيف.
وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 373 بدون إسناد والبغوي في
«التفسير» 1/ 494 عن مجاهد.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو واه. وورد دون ذكر الآية ونزولها.
أخرجه أبو داود 4896 عن سعيد بن المسيب مرسلا. وأخرجه برقم
4897 من طريق ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي
هريرة بنحوه متصلا، وإسناده حسن لأجل محمد بن عجلان. وقال
المنذري في «الترغيب» 4051 رواه أبو داود هكذا مرسلا ومتصلا من
طريق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بنحوه، وذكر
البخاري في تاريخه أن المرسل أصح. ولفظ مرسل سعيد بن المسيب:
بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس ومعه أصحابه وقع
رجل بأبي بكر فآذاه، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية، فصمت
عنه أبو بكر ثم آذاه الثالثة، فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم حين انتصر أبو بكر، فقال أبو بكر:
أوجدت علي يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
«نزل ملك من السماء يكذّبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع
الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان» .
(1/491)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا
أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ
بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ
أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ
كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ
مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا
مُبِينًا (153)
[سورة النساء (4) : آية 149]
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ
سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً قال ابن عباس: يريد من
أعمال البرِّ كالصيام والصدقة. وقال بعضهم: إِن تبدوا خيراً
بدلاً من السوء. وأكثرهم على أن «الهاء» في تُخْفُوهُ تعود
إِلى الخير. وقال بعضهم: تعود إِلى السوء. قوله تعالى: فَإِنَّ
اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قال أبو سليمان: أي: لم يزل ذا عفوٍ مع
قدرته، فاعفوا أنتم مع القدرة.
[سورة النساء (4) : آية 150]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، كانوا يؤمنون بموسى، وعزير،
والتّوراة، ويكافرون بعيسى، والإِنجيل، ومحمد، والقرآن، قاله
ابن عباس.
والثاني: أنهم اليهود والنصارى، آمَن اليهود بالتوراة وموسى،
وكفروا بالإِنجيل وعيسى، وآمن النصارى بالإِنجيل وعيسى، وكفروا
بمحمد والقرآن، قاله قتادة.
ومعنى قوله تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
اللَّهِ وَرُسُلِهِ أي: يريدون أن يفرّقوا بين الإِيمان بالله،
والإِيمان برسله، ولا يصح الإِيمان به والتكذيب برسله أو
ببعضهم وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ أي: بين
إِيمانهم ببعض الرُسُلِ، وتكذيبهم ببعض سَبِيلًا أي: مذهباً
يذهبون إِليه، وقال ابن جريج: دينا يدينون به.
[سورة النساء (4) : الآيات 151 الى 152]
أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ
عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ
غَفُوراً رَحِيماً (152)
قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ذكر «الحقّ»
هاهنا توكيا لكفرهم إزالةً لتَوَهُّم مَن يتوهم أن إِيمانهم
ببعض الرّسل يزيل عنهم اسم الكفر.
[سورة النساء (4) : آية 153]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ
كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ
ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ
وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)
قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ في سبب نزولها ثلاثة
أقوال «1» :
أحدها: أنهم سألوه أن ينزِّل كتاباً عليهم خاصّة، هذا قول
الحسن، وقتادة.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 346: وأولى
الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن أهل التوراة سألوا رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسأل ربه أن ينزل عليهم كتابا من
السماء، آية معجزة جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها، شاهدة لرسول
الله صلّى الله عليه وسلّم بالصدق، آمرة لهم باتباعه.
(1/492)
وَرَفَعْنَا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ
ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا
فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
(386) والثاني: أن اليهود والنصارى أتوا
إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: لا نُبايعك حتى
تأتينا بكتابٍ من عند الله إِلى فلان أنك رسول الله، وإِلى
فلان بكتاب أنك رسول الله، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن جريج.
(387) والثالث: أن اليهود سألوا النبيّ عليه السلام أن ينزل
عليهم كتاباً من السماء مكتوباً كما نزلت التوراة على موسى،
هذا قول القرظي، والسدي.
وفي المراد بأهل الكتاب قولان: أحدهما: اليهود والنصارى.
والثاني: اليهود. وفي المراد بالكتاب المنزّل من السماء قولان:
أحدهما: كتاب مكتوب غير القرآن. والثاني: كتاب بتصديقه في
رسالته. وقد بيّنا في البقرة معنى سؤالهم رؤية الله جهرة،
واتّخاذهم العجل. والْبَيِّناتُ الآيات التي جاء بها موسى. فإن
قيل: كيف قال: ثم اتخذوا العجل، و «ثم» تقتضي التراخي،
والتأخر، أفكان اتخاذ العجل بعد قولهم: أَرِنَا اللَّهَ
جَهْرَةً؟ فعنه أربعة أجوبة: ذكرهن ابن الأنباري. أحدهن: أن
تكون «ثم» مردودة على فعلهم القديم، والمعنى: وإِذْ وَعَدْنا
موسى أربعين فخالفوا أيضاً، ثم اتخذوا العجل.
والثاني: أن تكون مقدمة في المعنى، مؤخّرة في اللفظ، والتقدير:
فقد اتخذوا العجل، ثم سألوا موسى أكبر من ذلك، ومثله
فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا
يَرْجِعُونَ «1» المعنى: فألقه إِليهم، ثم انظر ماذا يرجعون،
ثم تول عنهم. والثالث: أن المعنى، ثم كانوا اتخذوا العجل،
فأضمر الكون. والرابع: أن ثم معناها التأخير في الإِخبار،
والتقديم في الفعل، كما يقول القائِل: شربت الماء، ثم أكلت
الخبز، يريد:
شربت الماء، ثم أخبركم أني أكلت الخبز بعد إِخباري بشرب الماء.
قوله تعالى: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ أي: لم نستأصل عبدة العجل.
و «السلطان المبين» : الحجّة البيّنة. قال ابن عباس: اليد
والعصا. وقال غيره: الآيات التّسع.
[سورة النساء (4) : آية 154]
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ
ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي
السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)
قوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ أي:
بما أعطوا الله من العهد والميثاق: ليعملُنَّ بما في التوراة.
قوله تعالى: لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ قرأ نافع: «لا
تعْدُّوا» بتسكين العين وتشديد الدال، وروى عنه ورش
«تَعَدُّوا» بفتح العين وتشديد الدال، وقرأ الباقون «تَعْدوا»
خفيفة، وقد ذكرنا هذا وغيره في البقرة. و «الميثاق الغليظ» :
العهد المؤكّد.
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 10776 عن ابن جريج، وهذا معضل، وما
يرسله ابن جريج واه، ليس بشيء.
قال الذهبي في «الميزان» 2/ 659: قال الإمام أحمد: بعض هذه
الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة.
ضعيف. أخرجه الطبري 10773 عن السدي مرسلا. وبرقم 10774 عن كعب
القرظي.
__________
(1) سورة النمل: 28.
(1/493)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ
بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ
إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى
مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا
قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
[سورة النساء (4) : آية 155]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ
قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ
فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155)
قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ «ما» صلة مؤكّدة.
قال الزجاج: والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم، وهو أن الله أخذ عليهم
الميثاق أن يُبيّنوا ما أنزل عليهم من ذكر النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم وغيره. والجالب للباء العامل فيها، وقوله تعالى:
حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ «1» أي: بنقضهم ميثاقهم،
والأشياء التي ذكرت بعده حرّمنا عليهم. وقوله تعالى:
فَبِظُلْمٍ «2» بدل من قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ. وجعل
الله جزاءهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم. وقال ابن فارس:
الطّبع: الختم ومن ذلك طبع الله على قلب الكافر كأنه ختم عليه
حتى لا يصل إِليه هدى ولا نور فلم يوفّق لخير، والطابع: الخاتم
يختم به. قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا فيه
قولان: أحدهما: فلا يؤمن منهم إِلا القليل، وهم عبد الله بن
سلام، وأصحابه، قاله ابن عباس. والثاني: المعنى: إِيمانهم
قليل، وهو قولهم: ربنا الله، قاله مجاهد.
[سورة النساء (4) : آية 156]
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً
(156)
قوله تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ في إِعادة ذكر الكفر فائِدة وفيها
قولان: أحدهما: أنه أراد: وبكفرهم بمحمد والقرآن، قاله ابن
عباس. والثاني: وبكفرهم بالمسيح، وقد بشروا به، قاله أبو
سليمان الدمشقي. فأما «البهتان» فهو في قول الجماعة: قذفهم
مريم بالزّنى.
[سورة النساء (4) : الآيات 157 الى 158]
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ
وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ
اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ
رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
(158)
قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ قال
الزجاج: أي باعترافهم بقتلهم إِيَّاه، وما قتلوه، يُعذَّبون
عذابَ من قتل، لأنهم قتلوا الذي قتلوا على أنّه نبي.
وفي قوله تعالى: رَسُولَ اللَّهِ قولان: أحدهما: أنه من قول
اليهود، فيكون المعنى: أنه رسول الله على زعمه. والثاني: أنه
من قول الله، لا على وجه الحكاية عنهم.
قوله تعالى: وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أي: أُلقِي شبهُه على
غيره. وفيمن أُلقي عليه شبهه قولان:
أحدهما: أنه بعض من أراد قتله من اليهود. روى أبو صالح عن ابن
عباس: أن اليهود لما اجتمعت على قتل عيسى، أدخله جبريل خوخة
لها رَوزنة «3» ، ودخل وراءه رجل منهم، فألقى الله عليه شبه
عيسى، فلما خرج على أصحابه، قتلوه يظنونه عيسى، ثم صلبوه،
وبهذا قال مقاتل وأبو سليمان. والثاني: أنه رجُلٌ من أصحاب
عيسى، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن عيسى خرج على أصحابه
لما أراد الله رفعه، فقال: أيكم يُلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني،
ويكون معي في درجتي؟ فقام شابّ، فقال:
__________
(1) سورة النساء: 160.
(2) سورة النساء: 160. [.....]
(3) الروزنة: الكوّة، وقيل: الخرق في أعلى السقف، ويقال للكوّة
النافذة: الرّوزن.
(1/494)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد القول، فقام
الشاب، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد، فقال الشاب: أنا، فقال: نعم
أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى، وجاء اليهود، فأخذوا
الرجل، فقتلوه، ثم صلبوه «1» . وبهذا القول قال وهب بن منبه،
وقتادة، والسدي.
قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ في المختلفين
قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان: أحدهما:
أنها كناية عن قتله، فاختلفوا هل قتلوه أم لا؟ وفي سبب
اختلافهم في ذلك قولان: أحدهما: أنهم لما قتلوا الشخص المشبّه
كان الشبه قد أُلقي على وجهه دون جسده، فقالوا: الوجه وجه
عيسى، والجسد جسد غيره، ذكره ابن السائب.
والثاني: أنهم قالوا: إِن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا؟ وإِن كان
هذا صاحبنا، فأين عيسى يعنون الذي دخل في طلبه، هذا قول السدي.
والثاني: أن «الهاء» كناية عن عيسى، واختلافهم فيه قول بعضهم:
هو ولد زنى، وقول بعضهم، هو ساحر.
والثاني: أن المختلفين النصارى، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان:
أحدهما: أنها ترجع إِلى قتله، هل قتل أم لا؟ والثاني: أنها
ترجع إِليه، هل هو إِله أم لا؟
وفي هاء «منه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى قتله. والثاني:
إِلى نفسه، هل هو إِلهٌ، أم لغيرِ رشدة «2» ، أم هو ساحر؟
قوله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ
الظَّنِّ قال الزجاج: «اتباع» منصوب بالاستثناء، وهو استثناء
ليس من الأول. والمعنى: ما لهم به من علم إِلا أنهم يتبعون
الظن، وإِن رُفع جاز على أن يجعل علمهم اتباع الظن، كما تقول
العرب: تحيّتك الضّرب.
قوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ في «الهاء» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إِلى الظن فيكون المعنى: وما قتلوا ظنّهم
يقيناً، هذا قول ابن عباس.
والثاني: أنها ترجع إِلى العلم، أي: ما قتلوا العلم به يقيناً،
تقول: قتلته يقيناً، وقتلته علماً للرأي والحديث. هذا قول
الفراء، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة: وأصل هذا: أن القتل للشيء
يكون عن قهر واستعلاء وغلبة، يقول: فلم يكن علمهم بقتل المسيح
علماً أحيط به، إِنما كان ظناً.
والثالث: أنها ترجع إلى عيسى، فيكون المعنى: وما قتلوا عيسى
حقاً، هذا قول الحسن، وقال ابن الأنباري: اليقين مؤخر في
المعنى، فالتقدير: وما قتلوه، بل رفعه الله إليه يقينا.
[سورة النساء (4) : آية 159]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ
قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً (159)
قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قال الزجاج: المعنى: وما منهم أحد إلّا
ليؤمننّ
__________
(1) ذكره ابن كثير في «تفسيره» 1/ 587 وقال: وكان من خبر
اليهود عليهم لعائن الله وغضبه وسخطه وعقابه أنه لما بعث الله
عيسى ابن مريم ... وذكر القصة. وأخرجه الطبري 10784 و 10785 عن
وهب بن المنبه. وبرقم 10786 و 10787 عن قتادة. وبرقم 10788 عن
السدي، وليس فيهم رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس.
فهذه روايات عن أهل الكتاب يستأنس بها، ولا يحتجّ، فالله أعلم.
(2) في «اللسان» : وهو لرشدة، وهو نقيض زنية. هذا ولد رشدة:
إذا كان لنكاح صحيح.
(1/495)
به، ومثله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها
«1» . وفي أهل الكتاب قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن
عباس.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله الحسن، وعكرمة. وفي هاء «به»
قولان: أحدهما: أنها راجعة إلى عيسى، قاله ابن عباس: والجمهور.
والثاني: أنها راجعة إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله
عكرمة. وفي هاء «موته» قولان «2» :
أحدهما: أنها ترجع إِلى المؤمِن. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال: ليس يهودي يموتُ أبداً حتى يؤمن بعيسى، فقيل لابن عباس:
إِن خرّ من فوق بيْت؟ قال: يتكلم به في الهُويِّ «3» . قال:
وهي في قراءة أُبي: «قبل موتهم» ، وهذا قول مجاهد، وسعيد بن
جبير. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يؤمن اليهودي قبل أن يموت،
ولا تخرج روح النصراني حتى يشهد أن عيسى عبد. وقال عكرمة:
لا تخرج روج اليهوديّ والنّصرانيّ حتى يؤمن بمحمّد صلّى الله
عليه وسلّم.
والثاني: أنها تعود إِلى عيسى، روى عطاء عن ابن عباس قال: إِذا
نزل إِلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني، ولا أحدٌ يعبد غير
الله إِلا اتّبعه، وصدّقه، وشهد أنه روح الله، وكلمته، وعبده
__________
(1) سورة مريم: 71.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 360: وأولى
الأقوال بالصواب والصحة، قول من قال: تأويل ذلك: وإن من أهل
الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته. وقال ابن كثير رحمه الله في
«تفسيره» 1/ 590: لا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح
لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من
قتل عيسى وصلبه وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك،
فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه
وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه وإنه باق حي وإنه سينزل
قبل يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مسيح
الضلالة ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، يعني لا
يقبلها من أحد من أهل الأديان بل لا يقبل إلا الإسلام أو
السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب
حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم ولهذا قال: وَإِنْ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ
مَوْتِهِ أي موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود ومن وافقهم
من النصارى أنه قتل وصلب وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي بأعمالهم التي شاهدها قبل رفعه إلى
السماء وبعد نزوله إلى الأرض.
فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى أن كل كتابي لا يموت حتى
يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام، فهذا هو الواقع،
وذلك أن كل واحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن
به ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك
كما قال الله تعالى في أول هذه السورة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ الآية وقال
تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ الآيتين، وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في
ردّ هذا القول حيث قال: ولو كان المراد بهذه الآية هذا لكان كل
من آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو بالمسيح ممن كفر بهما
يكون على دينهما حينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه لأنه قد
أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته، فهذا ليس بجيد إذ لا يلزم
من إيمانه في حالة لا ينفعه إيمانه أنه يصير بذلك مسلما ألا
ترى قول ابن عباس: ولو تردّى من شاهق أو ضرب سيف أو افترسه سبع
فإنه لا بد أن يؤمن بعيسى فالإيمان به في هذه الحال ليس بنافع
ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه والله أعلم. ومن تأمل هذا
جيدا وأمعن النظر اتضح له أنه هو الواقع لكن لا يلزم منه أن
يكون المراد بهذه الآية هذا بل المراد بها ما ذكرناه من تقرير
وجود عيسى عليه السلام وبقاء حياته في السماء وأنه سينزل إلى
الأرض قبل يوم القيامة ليكذّب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى
الذين تباينت أقوالهم فيه وتصادمت وتعاكست وتناقضت وخلت عن
الحق.
(3) في «اللسان» : هوى، يهوي هويّا: إذا سقط من فوق إلى أسفل.
(1/496)
فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ
لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ
سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
ونبيّه. وهذا قول قتادة، وابن زيد، وابن
قتيبة، واختاره ابن جرير، وعن الحسن كالقولين وقال الزجاج: هذا
بعيدٌ، لعموم قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ والذين
يبقوْن حينئِذ شرذمة منهم، إِلا أن يكون المعنى: أنهم كلهم
يقولون: إن عيسى الذي ينزل لقتل الدجّال نؤمن به.
قوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً
قال قتادة: يكون عليهم شهيداً أنه قد بلَّغ رسالات ربه، وأقرّ
بالعبودية على نفسه.
[سورة النساء (4) : آية 160]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ
طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ كَثِيراً (160)
قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا قال مقاتل: حرّم
الله على أهل التوراة الربا، وأن يأكلوا أموال الناس ظلماً،
ففعلوا، وصدوا عن دين الله، وعن الإِيمان بمحمد عليه السلام،
فحرّم الله عليهم ما ذكر في قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «1» عقوبة لهم. قال أبو
سليمان:
وظلمهم: نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وما ذكر في الآيات
قبلها. وقال مجاهد: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال:
صدّهم أنفسهم وغيرهم عن الحق. قال ابن عباس: صدهم عن سبيل
الله، يعني الإِسلام، وأكلهم أموال الناس بالباطل، أي: بالكذب
على دين الله، وأخذ الرُّشى على حكم الله، وتبديل الكتاب التي
أنزلها الله ليستديموا المأكل.
[سورة النساء (4) : آية 161]
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ
أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ
مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)
قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا أي: أعددنا للكافرين، يعني اليهود،
وقيل: إِنما قال «منهم» ، لأنه علم أنّ قوما منهم يؤمنون،
فيأمنون العذاب.
[سورة النساء (4) : آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ
سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال ابن عباس:
هذا استثناء لمؤمني أهل الكتاب، فأما الراسخون، فهم الثّابتون
في العلم. قال أبو سليمان: وهم عبد الله بن سلام، ومَن آمَن
معه، والذين آمنوا من أهل الإِنجيل ممّن قَدِمَ مع جعفر من
الحبشة، والمؤمنون، يعني أصحاب رسول الله. فأما قوله تعالى:
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ فهم القائمون بأدائها كما أُمروا.
وفي نصب «المقيمين» أربعة أقوال: أحدها: أنه خطأٌ من الكاتب،
وهذا قول عائشة «2» ، وروي عن عثمان بن عفان أنه قال: إِن في
المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها «3» . وقد قرأ ابن مسعود،
__________
(1) سورة الأنعام: 146.
(2) خبر عائشة، أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص 160- 161
والطبري 10843 من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه
عنها، وهذا إسناد رجاله ثقات، لكن في رواية أبي معاوية عن هشام
اضطراب إلى عائشة، أبو معاوية هو محمد بن حازم، ويحمل هذا على
اجتهاد من عائشة رضي الله عنها، والجمهور على خلافه، وهذا إن
ثبت عنها ذلك.
(3) لا يصح مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. أخرجه أبو
عبيد في «فضائل القرآن» ص 159- 160 ح 20/ 49 وابن أبي داود في
«المصاحف» ص 42 كلاهما عن الزبير بن خرّيت عن عكرمة، وهذا
مرسل، فهو ضعيف. وأخرجه ابن أبي داود ص 41 عن عبد الأعلى بن
عبد الله بن عامر القرشي، وهذا معضل مع جهالة القرشي هذا،
وكرره من وجه آخر عن قتادة، وهو مرسل ومع إرساله فيه من لم
يسمّ، وكرره ص 41- 42 من وجه آخر عن قتادة عن نصر بن عاصم
الليثي عن عبد الله بن خطيم عن يحيى بن يعمر عن عثمان به، وهذا
إسناد ضعيف لجهالة ابن خطيم هذا، وهذه الروايات جميعا واهية لا
تقوم بها حجة.
(1/497)
إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ
وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ
زَبُورًا (163)
وأُبيّ، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والجحدري:
«والمقيمون الصلاة» بالواو. وقال الزجاج: قول من قال إِنه خطأ،
بعيدٌ جداً، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة، والقدوة،
فكيف يتركون في كتاب الله شيئاً يُصلِحُه غيرهم؟! فلا ينبغي أن
ينسب هذا إليهم. وقال الأنباري: حديثُ عثمان لا يصح، لأنه غير
متصل، ومحال أن يؤخر عثمان شيئاً فاسداً، ليُصلحه من بعده.
والثاني: أنه نسقٌ على «ما» والمعنى يؤمنون بما أنزل إِليك،
وبالمقيمين الصلاة، فقيل: هم الملائكة، وقيل: الأنبياء.
والثالث: أنه نسقٌ على الهاء والميم من قوله مِنْهُمْ فالمعنى:
لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما
أنزل إِليك. قال الزجاج: وهذا رديء عند النحويين، لا ينسق
بالظاهر المجرور على المضمر المجرور إِلا في الشّعر. والرابع:
أنه منصوبٌ على المدح، فالمعنى: اذكر المقيمين الصلاة، وهم
المؤتون الزكاة. وأنشدوا:
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ ... سُمُّ العُداة وآفةُ
الجُزْرِ
النازلين بكلِّ معترَكٍ ... والطيبون مَعاقِدَ الأُزْرِ «1»
وهذا على معنى: اذكر النازلين، وهم الطيبون، ومن هذا قولك:
مررت بزيد الكريمِ، إن أردت أن تخلصَه من غيره. فالخفض هو
الكلام، وإِن أردت المدح والثناء، فإن شئت نصبت، فقلت: بزيد
الكريمَ، كأنك قلت: اذكر الكريم، وإِن شئت رفعت على معنى: هو
الكريمُ. وتقول: جاءني قومك المطعمين في المحْل، والمغيثون في
الشدائِد على معنى: اذكر المطعمين، وهم المغيثون، وهذا القول
اختيار الخليل، وسيبويه. فهذه الأقوال حكاها الزجاج، واختار
هذا القول.
[سورة النساء (4) : آية 163]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ
زَبُوراً (163)
قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال ابن عباس: قال عدي
بن زيد، وسُكين: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشرٍ من شيءٍ
بعد موسى، فنزلت هذه الآية. وقد ذكرنا في «آل عمران» معنى
الوحي، وذكرنا نوحا هنالك. وإِسحاق: أعجمي، وإِن وافق لفظ
العربي، يقال: أسحقه الله يسحقه إِسحاقاً، ويعقوب: أعجمي. فأما
اليعقوب، وهو ذكر الحجل وهي القبج «2» فعربيّ، كذلك قرأته على
شيخنا أبي
__________
(1) البيتان للخرنق بنت هفان من قصيدة رثت بها زوجها بشر بن
عمرو بن مرثد الضبعي وابنها علقمة، وأخويها حسان وشرحبيل، ومن
قتل معه من قومه. كما في «الخزانة» 2/ 301. والآفة: العلّة.
والجزر: جمع جزور، وهي الناقة التي تنحر. والطيبون معاقد
الأزر: من عادة العرب إذا وصفوا الرجل بطهارة الإزار وطيبه فهو
إشارة وكناية عن عفة الفرج.
(2) في «اللسان» : القبج: الكروان، معرّب، وهو بالفارسية كبج،
والقاف والجيم لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب.
(1/498)
وَرُسُلًا قَدْ
قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا
(164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ
بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا
(166)
منصور اللغوي، وأيوب: أعجمي، ويونس: اسم
أعجمي. قال أبو عبيدة، يقال: يُونُس ويُونِس بضم النون وكسرها،
وحكى أبو زيد الأنصاري عن العرب همزة مع الكسرة والضمّة
والفتحة. وقال الفراء:
يونس بضم النون من غير همز لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول:
يؤنس بالهمز، وبعض بني عُقيل يقول: يونس بفتح النون من غير
همز. والمشهور في القراءة يونُس برفع النون من غير همز. وقد
قرأ ابن مسعود، وقتادة، ويحيى بن يعمر، وطلحة: يؤنس بكسر النون
مهموزا. وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران والجحدري: يُونَس بفتح
النون من غير همز. وقرأ أبو المتوكل: يؤنس بفتح النون مهموزاً.
وقرأ أبو السّماك العدوي: يونِس بكسر النون من غير همز. وقرأ
عمرو بن دينار برفع النون مهموزاً.
وهارون: اسمٌ أعجمي، وباقي الأنبياء قد تقدم ذكرهم. فأما
الزبور، فأكثر القرّاء على فتح الزَاي، وقرأ أبو رزين، وأبو
رجاء، والأعمش، وحمزة بضم الزاي. قال الزجاج: فمن فتح الزاي،
أراد: كتاباً، ومن ضم، أراد: كتُباً. ومعنى ذكر «داود» أي: لا
تنكروا تفضيل محمد بالقرآن، فقد أعطى الله داود الزبور. وقال
أبو علي: كأنَّ حمزة جعل كتاب داود أنحاء، وجعل كلَّ نحو
زبراً، ثم جمع، فقال:
زُبُوراً. وقال ابن قتيبة: الزَّبُور فَعُول بمعنى مفعول، كما
تقول: حلوب وركوب بمعنى: محلوب ومركوب، وهو من قولك: زبرت
الكتاب أزبره زبراً: إِذا كتبته، قال: وفيه لغة أخرى: الزُبور
بضم الزاي، كأنه جمع.
[سورة النساء (4) : آية 164]
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً
لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى
تَكْلِيماً (164)
قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً تأكيد كلّم
بالمصدر يدل على أنه سمع كلام الله حقيقة.
روى أبو سليمان الدمشقي، قال: سمعت إِسماعيل بن محمد الصفّار
يقول: سمعت ثعلبا يقول: لولا أن الله تعالى أكّد الفعل
بالمصدر، لجاز أن يكون كما يقول أحدنا للآخر: قد كلمتُ لك
فلاناً، بمعنى:
كتبت إِليه رقعة، أو بعثت إِليه رسولاً، فلما قال: تكليماً، لم
يكن إِلا كلاماً مسموعا من الله.
[سورة النساء (4) : آية 165]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ
اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)
قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ
أي: لئلا يحتجوا في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل، لأن هذه
الأشياء إِنما تجب بالرّسل.
[سورة النساء (4) : آية 166]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ
شَهِيداً (166)
قوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ في سبب نزولها قولان:
(388) أحدهما: أن النبي عليه السلام دخل على جماعة من اليهود،
فقال: «إِني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله» ، فقالوا:
ما نعلم ذلك. فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
(389) والثاني: أن رؤساء أهل مكّة أتوا رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم، فقالوا: سألنا عنك اليهود، فزعموا أنّهم
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 10854 عن ابن عباس به بسند ضعيف لجهالة
محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق.
باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 375 عن الكلبي بدون
إسناد، والكلبي متهم بالوضع، فخبره لا شيء، بل هو باطل، فإن
سورة النساء مدنية وسؤالات أهل مكة ومجادلاتهم مكية.
(1/499)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا
ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا
لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ
طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ
رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
لا يعرفونك، فائتنا بمن يشهد لك أن الله
بعثك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن السائب.
قال الزجاج: الشاهد: المبيِّن لما يشهد به، فالله عزّ وجلّ
بيَّن ذلك، ويعلم مع إِبانته أنه حق.
وفي معنى أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنزله
وفيه علمه، قاله الزجاج. والثاني: أنزله من علمه، ذكره أبو
سليمان الدمشقي. والثالث: أنزله إِليك بعلمٍ منه أنك خيرته من
خلقه، قاله ابن جرير.
قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، فيه قولان: أحدهما:
يشهدون أنَّ الله أنزله. والثاني: يشهدون بصدقك. قوله تعالى:
وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً قال الزجاج: «الباء» دخلت مؤكِّدة.
والمعنى: اكتفوا بالله في شهادته.
[سورة النساء (4) : آية 167]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ
ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ قال مقاتل وغيرُهُ: هُم اليهود كفروا بمحمد، وصدُّوا
الناس عن الإِسلام. قال أبو سليمان: وكان صدُّهم عن الإِسلام
قولهم للمشركين ولأتباعهم: ما نجد صفة محمد في كتابنا.
[سورة النساء (4) : الآيات 168 الى 169]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ
طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيراً (169)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا قال مقاتل
وغيره: هم اليهود أيضاً كفروا بمحمد والقرآن.
وفي الظلم المذكور هاهنا قولان: أحدهما: أنه الشرك، قاله
مقاتل. والثاني: أنه جحدهم صفة محمّد النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم في كتابهم. قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ
لَهُمْ يريد من مات منهم على الكفر. وقال أبو سليمان: لم يكن
الله ليستر عليهم قَبيح فعالهم، بل يفضحهم في الدنيا، ويعاقبهم
بالقتل والجلاء والسّبي، وفي الآخرة بالنار وَلا
لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ينجون فيه. وقال مقاتل: طريقاً إِلى
الهدى وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يعني كان عذابهم
على الله هيّنا.
[سورة النساء (4) : آية 170]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ
مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ
اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ الكلام عامّ، وروي عن ابن
عباس أنه قال: أراد المشركين. قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ
بِالْحَقِّ أي: بالهدى، والصدق. قوله تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً
لَكُمْ قال الزجاج عن الخليل وجميع البصريين: إنه منصوبٌ
بالحمل على معناه، لأنك إِذا قلت: انته خيراً لك، وأنت تدفعه
عن أمرٍ فتدخله في غيره، كان المعنى: انته وأتِ خيراً لك،
وادخل في ما هو خير لك. وأنشد الخليل وسيبويه قول عمر بن أبي
ربيعة:
فواعديه سَرْحَتَيْ مالك ... أَوِ الرُّبا بينهما أسهلا «1»
__________
(1) في «اللسان» : السّرح: شجر كبار عظام طوال، لا يرعى وإنما
يستظل فيه وهو كل شجر لا شوك فيه.
وقال أبو حنيفة: السرحة: دوحة محلال واسعة يحل تحتها الناس في
الصيف ويبتنون تحتها البيوت.
(1/500)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا
تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا
اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
كأنّه قال: ائتي مكاناً أسهل.
قوله تعالى: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: هو غني عنكم. وعن إِيمانكم.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بما يكون من إِيمان أو كفر حَكِيماً
في تكليفكم مع علمه بما يكون منكم.
[سورة النساء (4) : آية 171]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا
عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا
تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ
إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً
(171)
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ
قال مقاتل: نزلت في نصارى نجران: السّيد والعاقِب ومَن معهما
«1» . والجمهور على أن المراد بهذه الآية: النصارى. وقال
الحسن: نزلت في اليهود والنصارى. والغلو: الإفراط ومجاوزة
الحد، ومنه غلا السّعر. وقال الزجاج: الغلو: مجاوزة القدر في
الظلم. وغلو النصارى في عيسى: قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم:
هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة. وعلى قول الحسن غلو
اليهود فيه قولهم: إنه لغير رشدة «2» . وقال بعض العلماء: لا
تغلوا في دينكم بالزيادة في التشدّد فيه.
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي:
لا تقولوا: إِن الله له شريك أو ابن أو زوجة.
وقد ذكرنا معنى «المسيح» والكلمة في (آل عمران) . وفي معنى
وَرُوحٌ مِنْهُ سبعة أقوال: أحدها: أنه روح ٌمن أرواح الأبدان.
قال أبيّ بن كعب: لما أخذ الله الميثاق على بني آدم كان عيسى
روحاً من تلك الأرواح، فأرسله إِلى مريم، فحملت به. والثاني:
أن الروح النفخ، فسُمّي روحاً، لأنه حدث عن نفخة جبريل في درع
«3» مريم. ومنه قول ذي الرمّة:
وَقُلتُ لهُ ارْفعهَا إِليك وأحْيِها ... بروحِك واقْتَتْه لها
قيتة قدرا «4»
__________
(1) ذكره الواحدي بدون سند ولا عزو لأحد في «أسباب النزول» 376
ولم يذكر فيه أسماء، وعزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 603: ينهى الله
تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى
فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها
الله إياه فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون
الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن
زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه
سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، أو صحيحا أو كذبا،
ولهذا قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وروى أحمد عن ابن عمر أن رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى
عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله»
وقال الحافظ ابن حجر: وقوله: «لا تطروني» ، والإطراء: المدح
بالباطل، تقول: أطريت فلانا، مدحته فأفرطت في مدحه، وقوله:
«كما أطرت النصارى ابن مريم» أي: في دعواهم فيه الإلهية وغير
ذلك. [.....]
(3) في «اللسان» درع المرأة: قميصها.
(4) يأمره بالرفق والنفخ القليل شيئا فشيئا، كأنه جعل النفخ
قوتا لهذه النار، يقدر لها تقديرا شيئا بعد شيء حتى تكتمل.
وقالوا: «أحيها بروحك» أي أحيها بنفخك.
(1/501)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
هذا قول أبي رَوق. والثالث: أن معنى
وَرُوحٌ مِنْهُ إِنسان حيٌ باحياء الله له. والرابع: أن الروح:
الرحمة، فمعناه: ورحمة منه، ومثله وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ
مِنْهُ «1» . والخامس: أن الروح هاهنا جبريل. فالمعنى ألقاها
الله إلى مريم، والذي ألقاها روحٌ منه، ذكر هذه الأقوال
الثلاثة أبو سليمان الدمشقي. والسادس: أنه سمّاه روحاً، لأنه
يحيا به الناس كما يحيون بالأرواح، ولهذا المعنى سمي القرآن
روحاً، ذكره القاضي أبو يعلى. والسابع: أن الرّوح: الوحي أوحى
إلى مريم يبشرها به، وأوحى إِلى جبريل بالنفخ في درعها، وأوحى
إِلى ذات عيسى أن: كن فكان. ومثله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ
بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ «2» أي. بالوحي، ذكره الثعلبي.
فأما قوله «منه» فانه إِضافة تشريفٍ، كما تقول: بيت الله،
والمعنى من أمره، ومما يقاربها قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ «3» .
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ قال الزجاج: رفعه بإضمار:
لا تقولوا آلهتُنا ثلاثة إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ أي: ما
هو إِلا إِلهٌ واحد سُبْحانَهُ ومعنى «سبحانه» : تبرئته مِن أن
يكون له ولد. قاله أبو سليمان: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي:
قيّما على خلقه، مدبّرا لهم.
[سورة النساء (4) : آية 172]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ
عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
(172)
قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً
لِلَّهِ.
(390) سبب نزولها: أن وفد نجران وفدوا على رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم، فقالوا: يا محمد لَمْ تذكر صاحبنا؟ قال: ومن
صاحبكم؟ قالوا: عيسى، قال: وأي شيءٍ أقول له؟ هو عبد الله،
قالوا: بل هو الله، فقال: إِنه ليس بعار عليه أن يكون عبد
الله، قالوا: بلى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن
عباس.
قال الزجاج: معنى يستنكف: يأنَف، واصله في اللغة من نكفت
الدمع: إِذا نحيته باصبُعِكَ من خدّك. قال الشاعر:
فبانوا فلولا ما تذكَّرُ منهم ... من الحِلْفِ لم يُنكَفْ
لعينيك مَدْمعُ «4»
قوله تعالى: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
قال ابن عباس: هم حملة العرش.
[سورة النساء (4) : آية 173]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي: ثواب أعمالهم
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مضاعفة الحسنات.
__________
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 377 عن الكلبي بلا
سند، والكلبي متهم.
__________
(1) سورة المجادلة: 22.
(2) سورة النحل: 2.
(3) سورة الجاثية: 13.
(4) لم ينسب إلى قائل كما في «اللسان» مادة- نكف-.
(1/502)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ
مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا
(175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا
الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا
وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
(391) وروى ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم في قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ قال:
يدخلون الجنة وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ الشفاعة لمن وجبت له
النار ممن صنع إليهم المعروف في الدّنيا.
[سورة النساء (4) : آية 174]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)
قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ في
البُرهان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحجة، قاله مجاهد، والسدي.
والثاني: القرآن، قاله قتادة. والثالث: أنه النبيّ محمّد عليه
السلام، قاله سفيان الثوري. فأما النور المبين، فهو القرآن،
قاله قتادة، وإنما سمّاه نوراً، لأن الأحكام تبين به بيان
الأشياء بالنّور.
[سورة النساء (4) : آية 175]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ
إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
قوله تعالى: وَاعْتَصَمُوا بِهِ أي: استمسكوا. وفي «هاء» به
قولان: أحدهما: أنها تعود إلى النور وهو القرآن، قاله ابن
جريج. والثاني: تعود إِلى الله تعالى، قاله مقاتل. وفي
«الرحمة» قولان:
أحدهما: أنها الجنة، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها نفس
الرحمة، والمعنى: سيرحمهم، قاله أبو سليمان. وفي «الفضل»
قولان: أحدهما: أنه الرزق في الجنة، قاله مقاتل. والثاني: أنه
الإِحسان، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي:
يوفقهم لإِصابة الطريق المستقيم. وقال ابن الحَنفية: الصراط
المستقيم: دين الله.
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها
نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها
وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ
مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً
فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ في سبب نزولها قولان:
(392) أحدهما: أنها نزلت في جابر بن عبد الله. روى أبو الزبير
عن جابر قال: مرضت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
يعودني هو وأبو بكر وهما ماشيان فوجدني قد أغمي عليّ، فتوضّأ
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم صبَّ علي من وَضوئه،
فأفقت، وقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي تسع
أخوات، ولم
__________
ضعيف. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 846 والطبراني 10462 من
حديث ابن مسعود، وفيه إسماعيل بن عبد الله الكندي، وهو ضعيف
وقال الذهبي في «الميزان» أتى بخبر منكر. وقال ابن كثير في
«تفسيره» 1/ 605: لا يثبت. وصوب الوقف فيه. والمرفوع ضعفه أيضا
السيوطي في «الدر» 2/ 440 ووافقه الشوكاني وهو كما قالوا.
وانظر «تفسير الشوكاني» 735 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 194 ومسلم 1616 وأبو داود 2886 والترمذي
2098 والبيهقي 6/ 231 وأحمد 3/ 298 وأبو يعلى 2018 والطيالسي
1945 والطبري 10873 والواحدي 378 من حديث جابر.
(1/503)
يكن لي ولد؟ فلم يجبني بشيء، ثم خرج
وتركني، ثم رجع إِليّ وقال: يا جابر لا أراك ميتاً من وجعك
هذا، وإنّ الله عزّ وجلّ قد أنزل في أخواتك، وجعل لهن الثلثين،
فقرأ عليَّ هذه الآية: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فيَّ. والثاني:
أن الصحابة أهمّهم بيان شأن الكلالة فسألوا عنها نبي الله،
فنزلت هذه الآية، هذا قول قتادة «1» .
(393) وقال سعيد بن المسيب: سأل عمر بن الخطّاب رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم كيف نورّث الكلالة؟
فقال: «أو ليس قد بين الله ذلك، ثم قرأ: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ
يُورَثُ كَلالَةً فأنزل الله عزّ وجلّ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.
قوله تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ أي: مات لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ
يريد: ولا والِد: فاكتفى بذكر أحدهما، ويدلُ على المحذوف أنَّ
الفتيا في الكلالة، وهي مَن ليس له ولد ولا والد «2» .
قوله تعالى: وَلَهُ أُخْتٌ يريد من أبيه وأُمه فَلَها نِصْفُ
ما تَرَكَ عند انفرادها وَهُوَ يَرِثُها أي: يستغرق ميراث
الأُخت إِذا لم يكن لها ولد ولا والد، وهذا هو الأخ من الأب
والأم، أو من الأب فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ يعني: أُختين.
وسئل الأخفش ما فائدة قوله «اثنتين» وكانَتَا لا يُفسّر إِلا
باثنتين؟
فقال: أفادت العدد العاري عن الصفة، لأنه يجوز في كانَتَا
صغيرتين، أو حرتين، أو صالحتين، أو طالحتين، فلما قال:
اثْنَتَيْنِ فاذا اطلاق العدد على أي وصف كانتا عليه.
فَلَهُمَا الثُّلُثانِ من تركة أخيهما الميت وَإِنْ كانُوا
يعني المخلفين.
قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا قال ابن
قتيبة: لئلا تضلوا. وقال الزجاج: فيه قولان:
أحدهما: أن لا تضلوا، فأضمرت لا. والثاني: كراهية أن تضلوا،
وهو قول البصريين. قال ابن جريج:
أن تضلوا في شأن المواريث.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 10870 عن ابن المسيب مرسلا، ولا يصح كونها
نزلت بسبب سؤال عمر، فقد أخرج مسلم 1617 ما يعارضه.
__________
(1) مرسل. أخرجه الطبري 10869 عن قتادة مرسلا.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 9/ 6: أجمع أهل
العلم أنه لا يرث أخ، ولا أخت لأب وأم أو لأب، مع ابن، ولا مع
ابن ابن وإن سفل ولا مع أب. والأصل في هذا قوله تعالى:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ....
وانظر «المغني» 9/ 9- 63 لمزيد من البحث في مسائل الفرائض.
(1/504)
|