زاد المسير في علم التفسير

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)

سورة المائدة
قال ابن عباس، والضّحّاك: هي مدنيّة. وقال مقاتل: نزلت نهارا وكلّها مدنيّة. وقال أبو سليمان الدّمشقيّ: فيها من المكّي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قال: وقيل: فيها من المكّيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ والصّحيح أنّ قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت بعرفة يوم عرفة، فلهذا نسبت إلى مكة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المائدة (5) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين: أحدهما: أنهم المؤمنون من أُمتنا، وهذا قول الجمهور. والثاني: أنهم أهل الكتاب، قاله ابن جريج.
وبِالْعُقُودِ: العهود، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والضحاك والسدي والجماعة وقال الزجاج: «العقود» : أوكد العهود. واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال «1» :
أحدها: أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحلّ وحرّم، وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني:
أنها عهود الدين كلها، قاله الحسن. والثالث: أنها عهود الجاهلية، وهي الحِلْفُ الذي كان بينهم، قاله قتادة. والرابع: أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإِيمان بالنبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن جريج، وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين. والخامس: أنها عقود الناس بينهم من بيع ونكاح، أو عقد الإِنسان على نفسه من نذر أو يمين، وهذا قول ابن زيد «2» .
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 388: وأولى الأقوال عندنا بالصواب، ما قاله ابن عباس، وأن معناه: أوفوا، يا أيها الذين آمنوا، بعقود الله التي أوجبها عليكم، وعقدها فيما أحلّ لكم وحرّم عليكم، وألزمكم فرضه وبين لكم حدوده.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 444- 445: ومتى كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرّم، كان حلّها محرّما لأن حلها بفعل المحرّم، وهو محرّم وإن كانت على فعل مندوب، أو ترك مكروه.
وإن كانت على فعل مباح، فحلّها مباح. فإن قيل: فكيف يكون حلّها مباحا وقد قال الله تعالى: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها؟ قلنا: هذا في الأيمان في العهود والمواثيق، بدليل قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، والعهد يجب الوفاء به بغير يمين، فمع اليمين أولى، فإن الله تعالى.
قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
وإن كانت على فعل مكروه، أو ترك مندوب، فحلّها مندوب إليه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك» وإن كانت اليمين على فعل محرّم، أو ترك واجب فحلّها واجب، لأن حلّها بفعل الواجب، وفعل الواجب واجب.

(1/505)


قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ في بهيمة الأنعام ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها أجنّة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أُمهاتها إِذا ذبحت الأُمهات، قاله ابن عمر، وابن عباس. والثاني: أنها الإِبل، والبقر، والغنم، قاله الحسن، وقتادة، والسدي. وقال الربيع: هي الأنعام كلها. وقال ابن قتيبة:
هي الإِبل، والبقر، والغنم، والوحوش كلها. والثالث: أنها وحش الأنعام كالظباء، وبقر الوحش، روي عن ابن عباس، وأبي صالح. وقال الفراء: بهيمة الأنعام: بقر الوحش، والظباء، والحمر الوحشيّة. قال الزجاج: وإِنما قيل لها بهيمة، لأنها أبهمت عن أن تميّز، وكل حي لا يميّز فهو بهيمة.
قوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ، روي عن ابن عباس أنه قال: هي الميتة وسائِر ما في القرآن تحريمه. وقال ابن الأنباري: المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ قال أبو الحسن الأخفش: أوفوا بالعقود غير محلي الصيد، فانتصب على الحال. وقال غيره: المعنى: أُحلت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلي اصطيادها، وأنتم حرم، قال الزجاج: الحرم: المحرمون، وواحد الحرم: حرام، يقال: رجل حرام، وقومٌ حرمٌ.
قال الشاعر:
فقلت لها فيئي إِليك فإنني ... حرامٌ وإِني بعد ذاك لبيبُ «2»
أي: ملبّ. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ أي: الخلق له يحل ما يشاء لمن يشاء، ويحرم ما يريد على من يريد.
__________
(1) فائدة: قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 308- 310: ما ملخصه: إذا خرج الجنين ميتا من بطن أمه بعد ذبحها، أو وجد ميتا في بطنها، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح، فهو حلال روي هذا عن ابن عمر وعلي وبه قال ابن المسيب والنخعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر. وقال ابن عمر: ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر وروي ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد والزهري والحسن وقتادة ومالك والليث، لأن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. وهذا إشارة إلى جميعهم. فكان إجماعا. وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا أن يخرج حيا فيذكى. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا منهم خالف ما قالوا إلى أن جاء النعمان، فقال: لا يحل لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين، ولنا «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ولأن هذا إجماع من الصحابة فمن بعدهم، فلا يعول على ما خالفه، ولأن الجنين متصل بها اتصال خلقه، يتغذى بغذائها، فتكون ذكاته ذكاتها، كأعضائها، ولأن الزكاة في الحيوان تختلف على حسب الإمكان فيه والقدرة، بدليل الصيد الممتنع والمقدور عليه والمتردية، والجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح أمه، فيكون ذكاة له. فصل: واستحب أبو عبد الله- الإمام أحمد بن حنبل- أن يذبحه وإن خرج ميتا ليخرج الدم الذي في جوفه. فصل: فإن خرج حيا حياة مستقرة، يمكن أن يذكى، فلم يذكه حتى مات فليس بذكي. قال أحمد: إن خرج حيا فلا بد من ذكاته لأنه نفس أخرى. قلت: وقال أبو يوسف ومحمد بقول الجمهور، راجع «الهداية» 9/ 508 بتخريجي.
(2) البيت للمضرب بن كعب بن زهير بن أبي سلمى كما في «مجاز القرآن» 1/ 145 و «شرح أدب الكاتب» للجواليقي 411.

(1/506)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)

[سورة المائدة (5) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
قوله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ في سبب نزولها قولان.
(394) أحدهما: أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة، فدخل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إِلام تدعو؟
فقال: «إِلى شهادة أن لا إِله إِلا الله، وأنِّي رسولُ الله» ، فقال: إِن لي أُمراء خلفي أرجع إِليهم أشاورهم، ثم خرج، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم» ، فمر شريح بسرح لأهل المدينة، فاستاقه، فلما كان عام الحُديبية، خرج شريح إِلى مكة معتمراً، ومعه تجارة، فأراد أهل السّرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السّدّي: اسمه الحطم بن هند البكري. قال: ولما ساق السَّرح جعل يرتجز:
قدْ لَفَّها الليل بسوّاقٍ حُطَم ... ليس براعي إِبل ولا غنم
ولا بجزّارٍ على ظَهْرِ وضم ... باتوا نيَاما وابنُ هندٍ لم ينم
بات يُقاسِيهَا غلامٌ كالزَّلَمْ ... خَدلَّجُ الساقين ممسوحُ القدم «1»
(395) والثاني: أن ناساً من المشركين جاءوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلّين بعمرة، فقال المسلمون: لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم، فنزل قوله تعالى وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ.
قال ابن قتيبة: وشعائِر الله: ما جعله الله علماً لطاعته. وفي المراد بها هنا سبعة أقوال «2» :
أحدها: أنها مناسك الحج، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. وقال الفرّاء: كان عامّة العرب لا يرون الصّفا
__________
أخرجه الطبري 10961 عن السدي، وهذا مرسل، وكرره 10962 عن عكرمة وعن ابن جريج ونسبه الواحدي 379 لابن عباس بدون سند، فلعل هذه المراسيل المتقدمة تتأيد بمجموعها، والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» 610 بتخريجنا.
ضعيف. أخرجه الطبري 10963 عن عبد الرحمن بن زيد مرسلا.
__________
(1) الرجز في «الأغاني» 14/ 44 و «حماسة أبي تمام» 1/ 354 وقد اختلفوا في نسبة هذا الشعر اختلافا كثيرا، ونسبه في: «الحماسة» لرشيد بن رميض العنزي، ونسب أيضا للأغلب العجلي، وللأخنس بن شهاب، ولجابر بن حني التغلبي ولعل الحطم أنشده مدحا لنفسه فيما فعل وقبل هذا الرجز:
هذا أوان الشدّ فاشتدي زيم والسّرح: المال السائم. وفي «اللسان» : الوضم: كل شيء يوضع عليه اللحم من خشب أو بارية يوقى به من الأرض. وقد ذكره في «اللسان» ونسبه إلى رشيد بن رميض العنزي. وقيل أبو زغبة الخزرجي. والزلم: القدح كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. وخدلّج الساقين: عظيمهما.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 393: وأولى التأويلات بقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ، قول عطاء: من توجيهه معنى ذلك إلى: لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه. [.....]

(1/507)


والمروة من الشعائر، ولا يطوفون بينهما، فقال الله تعالى: لا تستحلوا ترك ذلك. والثاني: أنها ما حرم الله تعالى في حال الإحرام، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: دين الله كله، قاله الحسن. والرابع:
حدود الله، قاله عكرمة وعطاء. والخامس: حَرمُ الله، قاله السدي. والسادس: الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام، قاله أبو عبيدة والزجاج. والسابع: أنها أعلام الحرم، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إِذا أرادوا دخول مكة، ذكره الماوردي، والقاضي أبو يعلى.
قوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ قال ابن عباس: لا تُحِلُّوا القتال فيه. وفي المراد بالشهر الحرام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ذو القَعدة، قاله عكرمة، وقتادة. والثاني: أن المراد به الأشهر الحرم. قال مقاتل: كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كلَّ سنة فيقول: ألا إِني قد أحللت كذا، وحرّمت كذا. والثالث: أنه رجب، ذكره ابن جرير الطبري. والهدي: كل ما أهدي إِلى بيت الله تعالى من شيءٍ.
وفي الْقَلائِدَ قولان: أحدهما: أنها المقلَّدات مِن الهدي، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها ما كان المشركون يقلدون به إِبلهم وأنفسهم في الجاهلية، ليأمنوا به عدوّهم، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إِلا في الأشهر الحُرُم، فمن لقوة مقلِّداً نفسه، أو بعيره، أو مشعراً بُدُنَهُ أو سائِقاً هدياً لم يُتعرض له. قال ابن عباس: كانَ مَن أراد أن يسافر في غير الأشهر الحُرُم، قلد بعيره من الشعر والوبر، فيأمَن حيثُ ذهب.
(396) وروى مالك بن مِغوَل عن عطاء قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم، فيأمنون به إِذا خرجوا من الحرم، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إِذا خرج من بيته يريد الحج تقلّد من السَّمُرِ، فلم يَعرِض له أحد، وإِذا رجع تقلَّد قلادة شعر، فلم يعرض له أحد. وقال الفراء: كان أهل مكة يُقلّدون بلحاء الشجر، وسائر العرب يُقلّدون بالوبر والشعر. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال «1» : أحدها: لا تستحلّوا المقلَّدات من الهدي. والثاني: لا تستحلوا أصحاب القلائد. والثالث: أن هذا نهيٌ للمؤمنين أن ينزعوا شيئاً من شجر الحرم، فيتقلّدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم، رواه عبد الملك عن عطاء، وبه قال مطرف، والربيع بن أنس.
قوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ «الآمّ» : القاصد، و «البيت الحرام» : الكعبة، والفضل:
الربح في التجارة، والرضوان من الله يطلبونه في حجّهم على زعمهم. ومثله قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي «2» ، وقيل: ابتغاء الفضل عام، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصّة.
__________
أخرجه الطبري 10954 عن عطاء مرسلا، وكرره 10953 من مرسل قتادة.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 396: والذي هو أولى بتأويل قوله: وَلَا الْقَلائِدَ إذ كانت معطوفة على أول الكلام ولم يكن في الكلام ما يدل على انقطاعها عن أوله، ولا أنه عنى بها النهي عن التقليد أو اتخاذ القلائد من شيء، أن يكون معناه: ولا تحلّوا القلائد. ونهي من الله عز وجل عن استحلال حرمة المقلّد، هديا كان ذلك أو إنسانا، دون حرمة القلادة. وإن الله عز ذكره، إنما دلّ بتحريمه حرمة القلادة على ما ذكرنا من حرمة المقلّد.
(2) سورة طه: 97.

(1/508)


قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا لفظُه لفظُ الأمر، ومعناه الإِباحة، نظيره فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «1» وهو يدلُ على إِحرامٍ متقدّم.
قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ وروى الوليد عن يعقوب «يجرمنْكم» بسكون النون، وتخفيفها. قال ابن عباس: لا يحملنّكم، قال غيره: لا يدخلنكم في الجُرم، كما تقول: آثمتُه أي: أدخلته في الإثم، وقال ابن قتيبة: لا يكسبنكم يقال: فلان جارمُ أهله، أي: كاسُبهم، وكذلك جريمتهم. وقال الهُذلي:
ووصف عقاباً:
جريمةَ ناهضٍ في رأس نِيْقٍ ... تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَليبا «2»
والناهض: فرخها، يقول: هي تكسب له، وتأتيه بقوته. و «الشنآن» البغض، يقال: شنئته أشنؤه:
إِذا أبغضته. وقال ابن الأنباري: «الشنآن» : البغض، و «الشنآن» بتسكين النون: البغيض. واختلف القراء في نون الشنآن، فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بتحريكها، وأسكنها ابن عامر، وروى حفص عن عاصم تحريكها، وأبو بكر عنه تسكينها، وكذلك اختُلف عن نافع. قال أبو علي:
«الشَّنآن» ، قد جاء وصفاً، وقد جاء اسماً، فمن حرّك، فلأنه مصدر، والمصدر يكثر على فَعَلان، نحو النَّزَوان، ومن سكَّن. قال: هو مصدر، وقد جاء المصدر على فَعْلان، تقول: لويته دينَه لَيَّانًا، فالمعنى في القراءتين واحد، وإِن اختلف اللفظان.
واختلفوا في قوله تعالى: أَنْ صَدُّوكُمْ فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح، فمن فتح جعل الصّد ماضياً، فيكون المعنى من أجل أن صدوكم، ومن كسرها، جعلها للشرط، فيكون الصّد مترقَّباً. قال أبو الحسن الأخفش: وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر، كقوله تعالى: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ «3» وقد كانت السرقة عندهم قد وقعت، وأنشد أبو علي الفارسي:
إِذا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْني لئيمةٌ ... وَلَمْ تَجِدي من أن تُقِرِّي بها بُدّا
فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء، والجزاء إِنما يكون بالمستقبل فيكون المعنى إِن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة.
قال ابن جرير: وقراءة مَن فتح الألف أبيَن، لأن هذه السورة نزلت بعد الحديبية، وقد كان الصدّ تقدّم. فعلى هذا في معنى الكلام قولان: أحدهما: ولا يحملنكم بغض أهل مكة أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فيه، فتقاتلوهم، وتأخذوا أموالهم إِذا دخلتموه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لا يحملنكم بغض أهل مكة، وصدّهم إِياكم أن تعتدوا بإتيان ما لا يحل لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين، على ما سبق في نزول الآية.
قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى قال الفراء: لِيُعِن بعضكم بعضاً. قال ابن عباس: البرّ ما
__________
(1) سورة الجمعة: 10.
(2) الصليب: الودك. وقد تقدم وقال ابن فارس: يقال جرم وأجرم ولا جرم بمنزلة قولك لا بد ولا محالة وأصلها من جرم أي اكتسب. انظر «تفسير القرطبي» 6/ 44.
(3) سورة يوسف: 77.

(1/509)


حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

أُمرت به، و «التقوى» : ترك ما نُهيت عنه. فأمّا «الإثم» فالمعاصي. والعدوان: التّعدّي في حدود الله، قاله عطاء.
فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها محكمة، روي عن الحسن أنه قال: ما نسخ من المائدة شيء، وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين قالوا: ولا يجوز استحلال الشعائر، ولا الهدي قبل أوان ذبحه، واختلفوا في «القلائد» فقال قوم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر، وقال آخرون: كانت الجاهلية تقلِّد من شجر الحرم، فقيل لهم: لا تستحلُّوا أخذ القلائد من الحرم، ولا تصدوا القاصدين إِلى البيت.
والثاني: أنها منسوخة، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال: أحدها: أن جميعها منسوخ، وهو قول الشعبي. والثاني: أنها وردت في حق المشركين كانوا يقلِّدون هداياهم، ويظهرون شعائِر الحج من الاحرام والتلبية، فنُهي المسلمون بهذه الآية عن التعرّض لهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» وهذا قول الأكثرين. والثالث: أن الذي نُسخ قوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ نسخه قوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «2» روي عن ابن عباس، وقتادة. والرابع: أن المنسوخ منها: تحريم الشهر الحرام، وآمّون البيت الحرام: إِذا كانوا مشركين، وهدي المشركين. إِذا لم يكن لهم من المسلمين أمان، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

[سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ مفسّرٌ في «البقرة» ، فأمّا وَالْمُنْخَنِقَةُ فقال ابن عباس: هي التي تختنق فتموت، وقال الحسن، وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد وغيره. قلت: والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك، قال ابن قتيبة: وَالْمَوْقُوذَةُ: التي تُضرب حتى توقَذ، أي: تشرف على الموت، ثم تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة، ومنه يقال: فلان وقيذ، وقد وقذته العبادة. و «المتردّية» : الواقعة من جبل أو حائط، أو في بئر، يقال: تردى: إِذا سقط. وَالنَّطِيحَةُ: التي تنطحها شاة أخرى أو بقرة، «فعيلة» في معنى «مفعولة» وَما أَكَلَ السَّبُعُ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، وابن أبي ليلى:
السَّبع: بسكون الباء. والمراد: ما افترسه فأكل بعضه إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي: إِلا ما لحقتم من هذا كله وبه حياة، فذبحتموه «3» . فأما الاستثناء، ففيه قولان: أحدهما: أنه يرجع إِلى المذكور من عند قوله تعالى:
__________
(1) سورة التوبة: 5.
(2) سورة التوبة: 38.
(3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 291: «مسألة: وإذا ندّ بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه فقتله أكل» . قال: وكذلك إذا تردى في بئر فلم يقدر على تذكيته، فجرحه في أي موضع قدر عليه، فقتله أكل، إلا أن تكون رأسه في الماء فلا يؤكل، لأن الماء يعين على قتله، هذا قول أكثر الفقهاء، روي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة، وبه قال مسروق والأسود والحسن وعطاء وطاوس وإسحاق والشعبي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور. وقال مالك: لا يجوز أكله إلا أن يذكّى. وهو قول ربيعة والليث. قال أحمد: لعل مالكا لم يسمع حديث رافع بن خديج اه باختصار.

(1/510)


وَالْمُنْخَنِقَةُ. والثاني: أنه يرجع إِلى ما أكل السبع خاصة، والعلماء على الأول.
فصل في الذكاة: قال الزجاج: أصل الذكاة في اللغة: تمام الشيء، فمنه الذكاء في السن، وهو تمام السِّن. قال الخليل: الذكاء: أن تأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة، ومنه الذكاء في الفهم، وهو أن يكون فهماً تاماً، سريع القبول. وذكّيت النار، أي: أتممت إِشعالها. وقد روي عن عليّ، وابن عباس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: ما أدركت ذكاته بأن توجد له عينٌ تَطْرِف أو ذنب يتحرك، فأكله حلالٌ. قال القاضي أبو يعلى: ومذهب أصحابنا أنه إِن كان يعيش مع ما به، حل بالذبح، فان كان لا يعيش مع ما به، نظرت، فان لم تكن حياته مستقرّة، وإِنما حركته حركة المذبوح، مثل أن شُقَّ جوفه، وأُبينت حشوته، فانفصلت عنه، لم يحل أكله، وإِن كانت حياته مستقرة يعيش اليوم واليومين، مثل أن يشق جوفه، ولم تقطع الأمعاء، حل أكله. ومن الناس من يقول: إِذا كانت فيه حياة في الجملة أُبيح بالذكاة، والصحيح ما ذكرنا، لأنه إِذا لم تكن فيه حياة مستقرة، فهو في حكم الميت.
ألا ترى أن رجلاً لو قطع حُشْوَةَ آدمي، ثم ضرب عنقه آخر، فالأول هو القاتل، لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول.
وفي ما يجب قطعه في الذكاة روايتان «1» : إِحداهما: أنه الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء، فإن نقص من ذلك شيئاً لم يؤكل، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله.
والثانية: يجزئ قطع الحلقوم والمريء، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. وقال مالك: يجزئ قطع الأوداج، وإِن لم يقطع الحلقوم. وقال الزجاج: الحلقوم بعد الفم، وهو موضع النفَس، وفيه شعب تتشعب منه في الرئة.
__________
(1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 303- 308: يعتبر قطع الحلقوم والمريء وبهذا قال الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يعتبر مع هذا قطع الودجين وبه قال مالك وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة: يعتبر قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين ولا خلاف أن الأكمل قطع الأربعة: الحلقوم والمريء والودجين اه ملخصا. ويسنّ الذبح بسكين حادّ، ويكره أن يسنّ السكين والحيوان يبصره ويكره أن يذبح شاة وأخرى تنظر إليه، ويستحب أن يستقبل القبلة. وإذا ذبح فأتى على المقاتل، فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل. يعني وطئ عليها شيء يقتلها مثله غالبا. وقال أصحابنا المتأخرين: لا يحرم بذلك وهو قول أكثر الفقهاء، لأنها إذا ذبحت فقد صارت في حكم الميت، وكذلك لو أبين رأسها بعد الذّبح، لم تحرم. وإذا ذبحها من قفاها، وهو مخطئ، فأتت السكين على موضع ذبحها، وهي في الحياة أكلت. قال القاضي: معنى الخطأ أن تلتوي الذبيحة عليه، فتأتي السكين على القفا، لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها في محل ذبحها، فسقط اعتبار المحل. وقد روي أن الفضل بن زياد قال: سألت أبا عبد الله عن من ذبح في القفا؟ قال: عامدا أو غير عامد؟ قلت: عامدا. قال: لا تؤكل، فإذا كان غير عامد، كأنه التوى عليه، فلا بأس. ومن ذبحها من قفاها اختيارا. لا تؤكل. وقال القاضي: إن بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء، حلّت وإلا فلا. وهذا مذهب الشافعي. وهذا أصح. لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحلّه. ولو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلّت بذلك.

(1/511)


والمريء: مجرى الطعام، والودجان: عرقان يقطعهما الذابح. فأما الآلة التي تجوز بها الذكاة، فهي كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج سوى السن والظفر، سواء كانا منزوعين أو غير منزوعين. وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالمنزوعين. فأما البعير إِذا توحش أو تردى في بئر، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقره. وقال مالك:
ذكاته ذكاة المقدور عليه. فإن رمى صيداً فأبان بعضه وفيه حياة مستقرة فذكّاه، أو تركه حتى مات جاز أكله، وفي أكل ما بان منه روايتان.
قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ في النصب قولان: أحدهما: أنها أصنام تنصب، فتُعبد من دون الله، قاله ابن عباس، والفراء، والزجاج، فعلى هذا القول يكون المعنى، وما ذبح على اسم النُّصب، وقيل لأجلها، فتكون «على» بمعنى «اللام» ، وهما يتعاقبان في الكلام، كقوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ «1» أي: عليك، وقوله تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «2» . والثاني: أنها حجارة كانوا يذبحون عليها، ويشرِّحون اللحم عليها ويعظمونها، وهو قول ابن جريج.
وقرأ الحسن، وخارجة عن أبي عمرو: على النَّصْب، بفتح النون، وسكون الصاد، قال ابن قتيبة، يقال: نُصُبٌ ونُصْبُ ونَصْبٌ، وجمعه أنصاب.
قوله تعالى: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قال ابن جرير: أي: وأن تطلبوا عِلم ما قُسم لكم، أو لم يقسم بالأزلام، واستفعلت من القسم، قسم الرزق والحاجات. قال ابن قتيبة: الأزلام: القداح، واحدها: زَلَم وزُلَم. والاستقسام بها: أن يضرب بها فيعمل بما يخرج فيها من أمرٍ أو نهي، فكانوا إِذا أرادوا أن يقتسموا شيئاً بينهم، فأحبُّوا أن يعرفوا قسم كل امرئٍ تعرفوا ذلك منها، فأخِذ الاستقسام من القِسم وهو النصيب. قال سعيد بن جبير: الأَزلام: حصى بيض، كانوا إِذا أرادوا غدواً، أو رواحاً، كتبوا في قدحين، في أحدهما: أمرني ربي، وفي الآخر: نهاني ربي، ثم يضربون بهما، فأيهما خرج، عملوا به. وقال مجاهد: الأزلام: سهام العرب، وكعاب «3» فارس التي يتقامرون بها. وقال السدي:
كانت الأزلام تكون عند الكهنة. وقال مقاتل: في بيت الأصنام. وقال قوم: كانت عند سدنة الكعبة.
قال الزجاج: ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، أو اخرج من أجل نجم كذا.
قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ في المشار إِليه بذلكم قولان: أحدهما: أنه جميع ما ذكر في الآية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أنه الاستقسام بالأزلام، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والفسق: الخروج عن طاعة الله إِلى معصيته.
قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ في هذا «اليوم» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اليوم الذي دخل فيه رسول الله مكة في حجة الوداع، قاله أبو صالح عن ابن عباس «4» . وقال ابن السائب: نزلت ذلك اليوم. والثاني: أنه يوم عرفة، قاله مجاهد، وابن زيد.
__________
(1) سورة الواقعة: 91.
(2) سورة الإسراء: 7.
(3) في اللسان الكعاب: فصوص النّرد. واللعب بها حرام.
(4) لا يصح عن ابن عباس، فهو من رواية أبي صالح، وهو غير ثقة في ابن عباس، وراوية أبي صالح هو محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.

(1/512)


والثالث: أنه لم يرد يوماً بعينه، وإِنما المعنى: الآن يئسوا، كما تقول: أنا اليوم قد كبرت، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: العرب توقع اليوم على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي، فيقولون: قد كنت في غفلة، فاليوم استيقظت، يريدون: فالآن، ويقولون: كان فلان يزورنا، وهو اليوم يجفونا، ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد. قال الشاعر:
فيومٌ علينا ويوم لنا ... ويومٌ نُساء ويومٌ نُسر «1»
أراد: فزمان لنا، وزمان علينا، ولم يقصد ليوم واحد لا ينضم إِليه غيره.
وفي معنى يأسهم قولان: أحدهما: أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: يئسوا من بطلان الإِسلام، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: وإِنما يئسوا من إِبطال دينهم لما نقل الله خوف المسلمين إِليهم. وأمنهم إِلى المسلمين، فعلموا أنهم لا يقدرون على إِبطال دينهم، ولا على استئصالهم، وإِنما قاتلوهم بعد ذلك ظناً منهم أن كفرهم يبقى. قوله تعالى:
فَلا تَخْشَوْهُمْ قال ابن جريج: لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، وقال ابن السائب: لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم، واخشوني في مخالفة أمري.
قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
(397) روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إِلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إِنكم تقرؤون آيةً من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأيّ آية هي؟ قال: قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فقال عمر: إِني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله، والساعة التي نزلت فيها، والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم بعرفة في يوم جمعة. وفي لفظ «نزلت عشيّة عرفة» قال سعيد بن جبير: عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك أحداً وثمانين يوماً «2» .
فأما قوله تعالى: الْيَوْمَ ففيه قولان: أحدهما: أنه يوم عرفة، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه ليس بيوم معيّن، رواه عطيّة عن ابن عباس، وقد ذكرنا هذا آنفاً.
وفي معنى إِكمال الدين خمسة أقوال «3» : أحدها: أنه إِكمال فرائضه وحدوده، ولم ينزل بعد هذه
__________
صحيح. أخرجه البخاري 45 و 4407 و 4606 و 7268 ومسلم 3017 والترمذي 3043 والنسائي 8/ 114 وأحمد 1/ 28 والطبري 11098 و 11099 عن طارق بن شهاب عن عمر به.
__________
(1) البيت للنمر بن تولب كما في «الشواهد الكبرى» للعيني 1/ 565. [.....]
(2) هو مرسل، وتقدم في أواخر سورة البقرة.
(3) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 419: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين به، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم بإفرادهم البلد الحرام وإجلائه عنه المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطونهم المشركون. فأما الفرائض والأحكام، فإنه قد اختلف فيها: هل كانت أكملت ذلك اليوم، أم لا؟ ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أن قبض بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا. فإذا كان ذلك كذلك، وكان قوله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ النساء: 176 آخرها نزولا، وكان ذلك من الأحكام والفرائض.

(1/513)


يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)

الآية تحليل ولا تحريم، قاله ابن عباس، والسُدّي، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم شرائِع دينكم. والثاني: أنه بنفي المشركين عن البيت، فلم يحج معهم مشرك عامئذ، قاله سعيد بن جبير، وقتادة. وقال الشعبي: كمال الدين هاهنا: عزه وظهوره، وذلّ الشّرك ودروسه، لا تكامل الفرائض والسّنن، لأنّها لم تزل تنزل إِلى أن قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم نصر دينكم. والثالث: أنه رفع النسخ عنه. وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قُبض، روي عن ابن جبير أيضاً. والرابع: أنه زوال الخوف من العدو، والظهور عليهم، قاله الزجاج. والخامس: أنه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها، كما نسخ بها ما تقدمها. وفي إِتمام النعمة ثلاثة أقوال:
أحدها: منع المشركين من الحج معهم، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة. والثاني: الهداية إِلى الإيمان، قاله ابن زيد. والثالث: الإِظهار على العدو، قاله السدي.
قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ أي: دعته الضرورة إِلى أكل ما حرُم عليه. فِي مَخْمَصَةٍ أي:
مجاعة، والخمص: الجوع. قال الشاعر يذم رجلاً:
يَرَى الخمْصَ تعذيباً وإِن يلق شَبْعَةً ... يَبِتْ قلبُه من قِلَّة الهمِّ مُبْهما «1»
وهذا الكلامُ يرجع إِلى المحرمات المتقدّمة من الميتة والدم، وما ذكر معهما.
قوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ قال ابن قتيبة: غير مائل إلى ذلك، و «الجنف» : الميل. وقال ابن عباس، والحسن، ومجاهد: غير متعمد لإِثم. وفي معنى «تجانف الإِثم» قولان:
أحدهما: أن يتناول منه بعد زوال الضرورة، روي عن ابن عباس في آخرين.
والثاني: أن يتعرّض لمعصية في مقصده، قاله قتادة. وقال مجاهد: من بغى وخرج في معصية، حرم عليه أكله. قال القاضي أبو يعلى: وهذا أصح من القول الأول، لأن الآية تقتضي اجتماع تجانف الاثم مع الاضطرار، وذلك إنما يصحّ في سفر العاصي، ولا يصح حمله على تناول الزِّيادة على سد الرّمق، لأن الاضطرار قد زال. قال أبو سليمان: ومعنى الآية: فمن اضطر فأكله غير متجانف لإِثم، فإن الله غفور، أي: متجاوز عنه، رحيم إِذْ أحل ذلك للمضطر.

[سورة المائدة (5) : آية 4]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ في سبب نزولها قولان:
(398) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما أمر بقتل الكلاب، قال الناس: يا رسول الله ماذا أحلّ لنا من
__________
ضعيف، أخرجه الحاكم 2/ 311 والطبري 11137 والطبراني 971 و 972 والواحدي في «الأسباب» 383 من حديث أبي رافع وإسناده ضعيف لضعف موسى بن عبيدة الربذي، وبه أعله الهيثمي في «المجمع» 6096 والوهن في هذا الحديث ذكر جبريل عليه السلام، أما الأمر بقتل الكلاب ونزول الآية، فقد ورد من وجه آخر عن ابن إسحاق عن أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى أم رافع عن أبي رافع، ورجاله ثقات لكن فيه عنعنة ابن إسحاق، وله شاهد من مرسل عكرمة أخرجه الطبري 11138 ومن مرسل محمد بن كعب برقم 11139، وقد صح لفظ «لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» فهذا أخرجه مسلم 2105، وليس فيه ذكر الآية والأمر بقتل الكلاب، وانظر «تفسير الشوكاني» 769 و «أحكام القرآن» 621 بتخريجي.
__________
(1) البيت لحاتم الطائي كما في «الأغاني» 16/ 122.

(1/514)


هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية، أخرجه أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث أبي رافع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(399) وكان السبب في أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقتلها أن جبريل عليه السلام استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأذن له، فلم يدخل وقال: «إِنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة» ، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو.
(400) والثاني: أن عدي بن حاتم، وزيد الخيل الذي سمّاه رسول الله: زيد الخير، قالا: يا رسول الله إِنا قومٌ نصيد بالكلاب والبُزاة «1» ، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما لا ندرك ذكاته، وقد حرّم الله الميتة، فماذا يحلُّ لنا منها؟ فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير.
قال الزجاج: ومعنى الكلام: يسألونك أي شيء أُحل لهم؟ قل: أُحلّ لكم الطيبات، وأُحل لكم صيد ما علّمتم من الجوارح، والتأويل أنهم سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علمتم، لأن في الكلام دليلاً عليه. وفي الطيبات قولان: أحدهما: أنها المباح من الذبائح. والثاني: أنها ما استطابته العربُ مما لم يحرّم. فأما الْجَوارِحِ فهي ما صيد به من سباع البهائم والطير، كالكلب، والفهد، والصقر والبازي، ونحو ذلك مما يقبل التعليم «2» . قال ابن عباس: كل شيءٍ صاد فهو جارح. وفي تسميتها بالجوارح قولان: أحدهما: لكسب أهلها بها. قال ابن قتيبة: أصل الاجتراح: الاكتساب، يقال: امرأة لا جارح لها، أي: لا كاسب. والثاني: لأنها تجرح ما تصيد في الغالب، ذكره الماوردي. قال أبو سليمان الدمشقي: وعلامة التعليم أنك إِذا دعوته أجاب، وإذا أسّدته على الصيد استأسد، ومضى في طلبه، وإِذا أمسك أمسك عليك لا على نفسه. وعلامة إِمساكه عليك: أن لا يأكل منه شيئاً، هذا في السباع والكلاب «3» ، فأما تعليم جوارح الطير فبخلاف السباع، لأن الطائر إِنما يُعلّم الصيد بالأكل،
__________
هو بعض المتقدم، وقوله «إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» دون باقي الخبر، متفق عليه، وسيأتي.
أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في ابن كثير 2/ 22، وهو مرسل، ومع إرساله، فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وعطاء بن دينار روايته عن سعيد بن جبير صحيفة. وذكره الواحدي في أسبابه 384 بدون إسناد عن سعيد بن جبير. وله شاهد مرسل، أخرجه الطبري 4227 من حديث جابر وإسناده ضعيف. فيه أشعث بن سوّار، ضعيف والحسن لم يسمع من جابر. وقد أخرجه عبد الرزاق 2656 بإسناد على شرط مسلم عن جابر موقوفا وهو الصواب وورد عن جماعة من الصحابة. والإجماع منعقد على ذلك. وانظر «تفسير الشوكاني» 770 و 771 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» : الباز: لغة في البازي، وجمع البازي بزاة.
(2) وقال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 265- 266: فصل: وكل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به من سباع البهائم: كالفهد أو جوارح الطير فحكمه حكم الكلب في إباحة صيده، وبمعنى هذا قال ابن عباس وطاوس ويحيى بن أبي كثير والحسن ومالك والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي وأبو ثور. وحكي عن ابن عمر ومجاهد أنه لا يجوز الصيد إلا بالكلب اه باختصار.
(3) قال الإمام البغوي في «تفسيره» عقب الحديث 753: واختلفوا فيما أخذت الصيد وأكلت منه شيئا، فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه روي ذلك عن ابن عباس، وهو قول عطاء وطاوس والشعبي، وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي، وهو أصح قولي الشافعي، ورخص بعضهم في أكله روي ذلك عن ابن عمر وسلمان وسعد بن أبي وقاص، وبه قال مالك.
وانظر «المغني» 13/ 262- 263. و «الأحكام للجصاص» 3/ 312- 313.

(1/515)


والفهد، والكلب، وما أشبههما يعلمون بترك الأكل، فهذا فرق ما بينهما.
وفي قوله تعالى: مُكَلِّبِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أصحاب الكلاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والسدي، والفراء، والزجاج، وابن قتيبة. قال الزجاج: يقال: رجل مكلّب وكلاّبي، أي: صاحب صيد بالكلاب. والثاني: أن معنى مُكَلِّبِينَ: مُصرّين على الصيد، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثالث: ان مُكَلِّبِينَ بمعنى: معلمين. قال أبو سليمان الدمشقي: وإِنما قيل لهم: مكلبين، لأن الغالب من صيدهم إِنما يكون بالكلاب. قال ثعلب: وقرأ الحسن، وأبو رزين: مُكْلِبين، بسكون الكاف، يقال:
أكلب الرجل: إِذا كثرت كلابه، وأمشى: إِذا كثرت ماشيته، والعرب تدعو الصائد مكلّبا.
قوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ قال سعيد بن جبير: تؤدّبونهن لطلب الصيد. وقال الفراء:
تؤدّبونهن أن لا يأكلن صيدهن. واختلفوا هل إِمساك الصائد عن الأكل شرط في صحة التعليم أم لا؟
على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شرط في كل الجوارح، فان أكلت، لم يؤكل، روي عن ابن عباس، وعطاء. والثاني: أنه ليس بشرط في الكل، ويؤكل وإِن أكلت، روي عن سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبي هريرة، وسلمان الفارسي. والثالث: أنه شرط في جوارح البهائم، وليس بشرط في جوارح الطير، وبه قال الشعبي، والنخعي، والسدي، وهو أصح لما بيّنا أن جارح الطير يعلم على الأكل، فأبيح ما أكل منه، وسباع البهائم تعلم على ترك الأكل، فأبيح ما أكلت منه. فعلى هذا إِذا أكل الكلب والفهد من الصيد، لم يبحْ أكله. فأما ما أكل منه الصقر والبازي، فمباح، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، وقال مالك: يباح أكل ما أكل منه الكلب، والفهد، والصقر، فإن قتل الكلب، ولم يأكل، أُبيح. وقال أبو حنيفة: لا يباح، فان أدرك الصيد، وفيه حياة، فمات قبل أن يذكيه، فإن كان ذلك قبل القدرة على ذكاته أُبيح، وإِن أمكنه فلم يذكّه، لم يبحْ، وبه قال مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يباح في الموضعين. فأما الصيد بكلب المجوسي، فروي عن أحمد أنه لا يكره، وهو قول الأكثرين، وروي عنه الكراهة، وهو قول الثوري لقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ وهذا خطاب للمؤمنين «1» . قال القاضي أبو يعلى: ومنع أصحابنا الصيد بالكلب الأسود، وإِن كان معلماً، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتله،
__________
(1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 272: وإن صاد المسلم، بكلب مجوسيّ فقتل، حلّ صيده. وبهذا قال سعيد بن المسيّب، والحكم، ومالك والشافعي، وأبو ثور وأصحاب الرأي. وعن أحمد: لا يباح. وكرهه جابر والحسن، ومجاهد، والنخعي، والثوري لقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ. وهذا لم يعلّمه. ولنا، أنه آلة صاد بها المسلم، فحلّ صيده، كالقوس والسهم. قال ابن المسيّب: هو بمنزلة شفرته.
والآية دلّت على إباحة الصيد بما علمناه وما علمه غيرنا، فهو في معناه، فيثبت الحكم بالقياس الذي ذكرناه، يحققه أن التعليم إنما أثر في جعله آلة، ولا تشترط الأهلية في ذلك كعمل القوس والسهم. وإنما يشترط إرسال الآية من الكلب والسهم، وقد وجد هاهنا.

(1/516)


الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)

والأمر بالقتل: يمنع ثبوت اليد، ويبطل حكم الفعل، فيصير وجوده كالعدم، فلا يباح صيده «1» .
قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ قال الأخفس: «من» زائدة كقوله تعالى: فِيها مِنْ بَرَدٍ «2» .
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الإِرسال، قاله ابن عباس، والسدي، وعندنا أن التسمية شرط في إِباحة الصيد «3» . والثاني: ترجع إِلى الأكل فتكون التسمية مستحبّة.
قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قال سعيد بن جبير: لا تستحلوا ما لم يذكر اسم الله عليه.

[سورة المائدة (5) : آية 5]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
قوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال القاضي أبو يعلى: يجوز أن يريد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه الآية، ويجوز أن يريد اليوم الذي تقدم ذكره في قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ، وفي قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وقيل: ليس بيوم معيّن، وقد سبق الكلام في «الطيبات» وإنما كرّر إِحلالها تأكيداً. فأما أهل الكتاب، فهم اليهود والنّصارى. وطعامهم: ذبائحهم،
__________
(1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 267: ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود، إذا كان بهيما لأنه شيطان. قال أحمد: الذي ليس فيه بياض وممن كره صيده الحسن، والنخعي، وقتادة، وإسحاق. قال أحمد: ما أعرف أحدا يرخّص فيه. يعني من السلف. وأباح صيده أبو حنيفة ومالك والشافعي، لعموم الآية والخبر، والقياس على غيره من الكلاب. ولنا، أنه كلب يحرم اقتناؤه، ويجب قتله، فلم يبح صيده كغير المعلّم، ودليل تحريم اقتنائه ما روى مسلم في «صحيحه» بإسناده عن عبد الله بن المغفّل، قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل الكلاب، ثم نهى عن قتلها، فقال: «عليكم بالأسود البهيم، ذي النكتتين، فإنه شيطان» . فالنبي سماه شيطانا، ولا يجوز اقتناء الشيطان. وإباحة الصيد المقتول رخصة، فلا تستباح بمحرّم كسائر الرّخص.
(2) سورة النور: 43.
(3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 257- 265: مسألة، قال أبو القاسم، رحمه الله «وإذا سمّى وأرسل كلبه أو فهده المعلّم، واصطاد، وقتل، ولم يأكل منه، جاز أكله فاشترط في إباحة ما قتله الجارح شروط منها. أن يسمّي عند إرسال الجارح، فإن ترك التسمية عمدا أو سهوا لم يبح هذا تحقيق المذهب وهو قول الشعبي وأبي ثور، وعن أحمد أن التسمية تشترط في إرسال الكلب في العمد والنسيان، ولا يلزم ذلك في إرسال السهم. وممن أباح متروك التسمية في النسيان دون العمد أبو حنيفة ومالك، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» . وقال الشافعي: يباح متروك التسمية عمدا أو سهوا لأن البراء روى، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلم يذبح على اسم الله، سمّى أو لم يسمّ» . وعن أحمد رواية أخرى مثل هذا. ولنا قوله تعالى:
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أرسلت كلبك، وسمّيت، فكل» ، قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: «لا تأكل، فإنك إنما سمّيت على كلبك ولم تسمّ على الآخر» متفق عليه.
وحديث أبي ثعلبة، فهذه نصوص صحيحة لا يعرّج على ما خالفها. وأما أحاديث الشافعي، وإن صحت فهي في الذبيحة، ولا يصح قياس الصيد عليها، والتسمية المعتبرة «بسم الله» وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا ذبح قال: «بسم الله والله أكبر» . وجاء في تفسير قوله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ لا أذكر إلا ذكرت معي.
ولنا، قوله صلّى الله عليه وسلّم: «موطنان لا أذكر فيهما، عند الذبيحة، والعطاس» رواه أبو محمد الخلّال بإسناده.

(1/517)


هذا قول ابن عباس، والجماعة. وإِنما أريد بها الذبائح خاصّة، لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن توَّلاه من مجوسي وكتابي، وإِنما الذكاة تختلف، فلما خصّ أهل الكتاب بذلك، دل على أن المراد الذبائح، فأما ذبائح المجوس، فأجمعوا على تحريمها. واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان «1» ، فروي عن ابن عباس أنه سُئل عن ذبائح نصارى العرب، فقال: لا بأس بها، وتلا قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وهذا قول الحسن، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعكرمة، وقتادة، والزهري، والحكم، وحماد. وقد روي عن علي، وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل. ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين. إِحداهما: تباح ذبائحهم، وهو قول أبي حنيفة، ومالك. والثانية: لا تباح. وقال الشافعي: من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن، لم يبح أكل ذبيحته.
قوله تعالى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي: وذبائحكم لهم حلال، فاذا اشتروا منا شيئاً كان الثمن لنا حلالاً، واللحم لهم حلالاً. قال الزجاج. والمعنى: أُحل لكم أن تطعموهم.
فصل: وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إِباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً وإِن ذكروا غير اسم الله عليها، فكان هذا ناسخاً لقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ «2» والصحيح أنها أطلقت إِباحة ذبائحهم، لأن الأصل أنهم يذكرون الله فيُحمل أمرهم على هذا. فإن تيقنّا أنهم ذكروا غيره فلا نأكل ولا وجه للنسخ، وإِلى هذا الذي قلته ذهب علي، وابن عمر، وعبادة، وأبو الدرداء، والحسن في جماعة.
__________
(1) فائدة: قال الإمام الخرقي في «المختصر» مسألة: وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال إذا سموا، أو نسوا التسمية» قال الإمام الموفق في «شرحه» : وجملة ذلك أن كل من أمكنه الذبح من المسلمين وأهل الكتاب إذا ذبح حل أكل ذبيحته رجلا كان أو امرأة، بالغا أو صبيا، حرا أو عبدا، لا نعلم في هذا خلافا. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي. ويشترط أن يكون عاقلا، فإن كان طفلا أو مجنونا أو سكران لا يعقل، لم يصح منه الذبح، وبهذا قال مالك، وقال الشافعي: لا يعتبر القول. ولنا أن الذكاة يعتبر لها القصد، فيعتبر لها العقل كالعبادة. فإن من لا عقل له، لا يصح منه القصد، فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها. قال: والتسمية مشترطة في كل ذابح مع العمد سواء كان مسلما أو كتابيا، فإن ترك الكتابي التسمية عن عمد، أو ذكر اسم غير الله، لم تحل ذبيحته، روي ذلك عن علي، وبه قال النخعي والشافعي وحماد وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال عطاء ومجاهد ومكحول: إذا ذبح النصراني باسم المسيح حلّ، فإن الله تعالى أحل لنا ذبيحته، وقد علم أنه سيقول ذلك. اه ملخصا 13، 311- 312.
وقال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» : وذبيحة المسلم والكتابي حلال. ويحل إذا كان يعقل التسمية والذبيحة ويضبط، وإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة، أما إذا كان لا يضبط ولا يعقل التسمية والذبيحة لا تحل، لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص وذلك بالقصد، والأقلف والمختون سواء، وإطلاق اسم الكتابي ينتظم:
الكتابي والذمي والحربي والعربي والتغلبي. ولا تؤكل ذبيحة المجوسي والمرتد والوثني والمحرم، وكذا لا يؤكل ما ذبح من الصيد في الحرم، وإن ترك التسمية عمدا فالذبيحة ميتة لا تؤكل، وإن تركها ناسيا أكل وقال الشافعي: أكل في الوجهين. وقال مالك: لا يؤكل في الوجهين والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء اه ملخصا «فتح القدير شرح الهداية» 9/ 497- 499 بتخريجي.
(2) سورة الأنعام: 121.

(1/518)


قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ فيهن قولان: أحدهما: العفائف، قاله ابن عباس. والثاني:
الحرائِر، قاله مجاهد. وفي قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قولان: أحدهما: الحرائِر أيضاً، قاله ابن عباس. والثاني: العفائِف، قاله الحسن، والشعبي، والنخعي، والضحاك والسدي، فعلى هذا القول يجوز تزويج الحرّة منهن والأمة.
فصل: وهذه الآية أباحت نكاح الكتابية. وقد روي عن عثمان أنه تزوج نائِلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية. وعن طلحة بن عبيد الله: أنه تزوج يهودية. وقد روي عن عمر، وابن عمر كراهة ذلك. واختلفوا في نكاح الكتابية الحربية، فقال ابن عباس: لا تحل، والجمهور على خلافه، وإِنما كرهوا ذلك، لقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» ، والنكاح يوجب الود. واختلفوا في نكاح نساء تغلب، فروي عن عليّ رضي الله عنه الحظر، وبه قال جابر بن زيد، والنخعي، وروي عن ابن عباس الإباحة. وعن أحمد روايتان. واختلفوا في إماء أهل الكتاب، فروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد: أنه لا يجوز نكاحهن، وبه قال الأوزاعي، ومالك، واللّيث بن سعد، والشافعي، وأصحابنا، وروي عن الشعبي، وأبي ميسرة جواز ذلك، وبه قال أبو حنيفة. فأما المجوس، فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب، وقد شذّ من قال: إِنهم أهل كتاب.
(401) ويبطل قولهم قولُه عليه السلام: «سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب» .
فأما «الأجور» ، و «الإحصان» ، و «السّفاح» ، و «الأخذان» فقد سبق في سورة النساء.
قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.
(402) سبب نزول هذا الكلام: أن الله تعالى لما رخَّص في نكاح الكتابيات قلن بينهن: لولا أن الله تعالى قد رضي علينا، لم يبح للمؤمنين تزويجنا، وقال المسلمون: كيف يتزوّج الرجل منا الكتابية، وليست على ديننا، فنزلت: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وقال مقاتل بن حيّان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إِحصان المسلمين إِياهن بالذي يخرجهن من الكفر. وروى ليث عن مجاهد: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ قال:
الإِيمان بالله تعالى، وقال الزجاج: معنى الآية: من أحل ما حرّم الله، أو حرّم ما أحلّه الله فهو كافر.
وقال أبو سليمان: من جحد ما أنزله الله من شرائِع الإِيمان، وعرفه من الحلال والحرام، فقد حبط
__________
صحيح. أخرجه مالك في «الموطأ» عن محمد الباقر وهو مرسل لأنه لم يدرك عمر ولا عبد الرحمن بن عوف. ورواه ابن سعد وفيه شيخه الواقدي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص والواقدي ضعيف.
لكن أخرجه البخاري 3157 وأبو داود 3043 والترمذي 1587 والدارمي 2406 وابن الجارود 1105 والبيهقي 9/ 189 وأحمد 1/ 190، 94 كلهم عن بجالة بن عبدة قال: «لم يكن عمر يأخذ الجزية من المجوس حتى حدثه ابن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر» فهذا إسناد صحيح متصل.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس، ولم يسمع منه كما قال ابن حبان، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.
__________
(1) سورة المجادلة: 22.

(1/519)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

عمله المتقدّم. وسمعت الحسن بن أبي بكر النّيسابوريّ الفقيه يقول: إنّما أباح الله عزّ وجلّ الكتابيّات، لأنّ بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن، فَحَذَّر ناكحهنَّ من الميل إِلى دينهن بقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ

[سورة المائدة (5) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قال الزجاج: المعنى: إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة، كقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «1» قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: إذا آخيت فآخ أهل الحسب، وإِذا اتجرت فاتجر في البزّ «2» . قال: ويجوز أن يكون الكلام مقدّماً ومؤخراً، تقديره: إِذا غسلتم وجوهكم، واستوفيتم الطهور، فقوموا إِلى الصلاة. وللعُلماء في المراد بالآية قولان «3» .
أحدهما: إِذا قمتم إِلى الصلاة محدثين، فاغسلوا، فصار الحدث مضمراً في وجوب الوضوء، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، والفقهاء. والثاني: أن الكلام على إِطلاقه من غير إِضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة، محدثاً كان، أو غير محدث، وهذا مروي عن عليّ رضي الله عنه وعكرمة، وابن سيرين. ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ، ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجباً، ثم نسخ بالسنّة.
(403) وهو ما روى بُريدة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوءٍ واحدٍ، فقال له عمر: لقد صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال: «عمداً فعلته يا عمر» .
__________
صحيح. أخرجه مسلم 277 وأبو داود 172 والترمذي 61 والنسائي 1/ 16 والدارمي 1/ 169 وأحمد 5/ 350- 351- 358 وأبو عوانة 1/ 237 والطحاوي في «المعاني» 1/ 41 وابن حبان 1706 و 1707 و 1708 والبيهقي 1/ 162 من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.
__________
(1) سورة النحل: 98. [.....]
(2) في «اللسان» : البزّ: الثياب، وقيل البزّ من الثياب أمتعة البزاز والبزاز بائع البزّ وحرفته البزازة.
(3) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 454: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: إن الله عني بقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا، جميع أحوال قيام القائم إلى الصلاة، غير أنه أمر فرض بغسل ما أمر الله بغسله القائم إلى صلاته، بعد حدث كان منه ناقض طهارته، وقبل إحداث الوضوء منه، وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته لذلك كان عليه السلام يتوضأ لكلّ صلاة قبل فتح مكة ثم صلى يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد، ليعلّم أمته أن ما كان يفعله عليه السلام من تجديد الطهر لكل صلاة، إنما كان منه أخذا بالفضل، وإيثارا منه لأحب الأمرين إلى الله، ومسارعة منه إلى ما ندبه إليه ربّه، لا على أن ذلك كان عليه فرضا واجبا.

(1/520)


وقال قوم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناها: إِذا قمتم إِلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء، فاغسلوا وجوهكم «1» .
قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ «إِلى» حَرْفٌ موضوعٌ للغاية، وقد تدخل الغاية فيها تارة، وقد لا تدخل، فلما كان الحديث يقيناً، لم يرتفع إِلا بيقين مثله، وهو غسل المرفقين. فأما الرأس فنقل عن أحمد وجوب مسح جميعه «2» ، وهو قول مالك، وروي عنه: يجب مسح أكثره، وروي عن أبي حنيفة روايتان: إِحداهما: أنه يتقدّر بربع الرأس. والثانية: بمقدار ثلاث أصابع.
قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم:
بكسر اللام عطفاً على مسح الرأس، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب:
بفتح اللام عطفاً على الغَسل، فيكون من المقدم والمؤخّر. قال الزجاج: الرِّجل من أصل الفخذ إِلى القدم، فلما حدّ الكعبين، عُلمَ أن الغسل ينتهي إِليهما، ويدل على وجوب الغَسل التحديد بالكعبين، كما جاء في تحديد اليد «إلى المرافق» ولم يجيء في شيء من المسح تحديد. ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض، لأن التحديد بالكعبين يدل على الغسل، فينسق بالغسل على المسح. قال الشاعر:
__________
(1) قال الإمام ابن العربي في «أحكام القرآن» 2/ 48: قال زيد بن أسلم: معناه إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ من النوم، وبين هذا أن النوم حدث، وبه قال جملة الأمة.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 235- 237 ما ملخصه. فصل: والنوم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
نوم المضطجع، فينقض الوضوء يسيره وكثيره في قول كل من يقول بنقضه بالنوم. الثاني: نوم القاعد، إن كان كثيرا نقض، رواية واحدة، وإن كان يسيرا لم ينقض، وهذا قول حماد والحكم ومالك والثوري وأصحاب الرأي، وقال الشافعي: لا ينقض وإن كثر، إذا كان القاعد متمكنا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض. الثالث:
نوم القائم والراكع والساجد، فروي عن أحمد في جميع ذلك روايتان: إحداهما: ينقض، وهو قول الشافعي، والثانية: لا ينقض إلا إذا كثر. وذهب أبو حنيفة إلى أن النوم في حال من أحوال الصلاة لا ينقض وإن كثر.
لأنه حال من أحوال الصلاة، فأشبهت حال الجلوس. والظاهر عن أحمد التسوية بين القيام والجلوس.
واختلفت الرواية عن أحمد في القاعد المستند والمحتبي. فعنه: لا ينقض يسيره. قال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: الوضوء من النوم؟ قال: إذا طال. قيل: فالمحتبي؟ قال: يتوضأ. قيل: فالمتكئ؟ قال: الاتكاء شديد، والمتساند كأنه أشد من الاحتباء، ورأى منها كلها الوضوء، إلا أن يغفو قليلا، وعنه: ينقض بكل حال لأنه معتمد على شيء، فهو كالمضطجع، والأولى أنه متى كان معتمدا بمحل الحدث على الأرض أن لا ينقض منه إلا الكثير اه باختصار. وانظر «المدونة» 1/ 9- 10 و «تفسير القرطبي» 5/ 222.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 175- 176: لا خلاف في وجوب مسح الرأس. واختلف في قدر الواجب، فروي عن أحمد وجوب مسح جميعه في حق كل أحد، وهو مذهب مالك. وعن أحمد: يجزئ مسح بعضه، وبه قال الحسن والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، إلا أن الظاهر عن أحمد في حق الرجل وجوب الاستيعاب، وأن المرأة يجزئها مسح مقدم رأسها اه ملخصا.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 183- 184 ما ملخصه: فصل: والأذنان من الرأس، فقياس المذهب وجوب مسحهما مع مسحه. وقال الخلال: كلهم حكوا عن أبي عبد الله فيمن ترك مسحهما عامدا أو ناسيا أنه يجزئه، وذلك لأنهما تبع للرأس، والأولى مسحهما معه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مسحهما مع رأسه.
- وقال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» : ومسح الأذنين، وهو سنة بماء الرأس عندنا خلافا للشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام «الأذنان من الرأس» والمراد بيان الحكم دون الخلقة.

(1/521)


يا ليتَ بَعْلك قد غدا ... متقلِّداً سيفاً ورُمحاً «1»
والمعنى: وحاملاً رمحاً. وقال الآخر.
علفتها تبناً وماءً بارِداً «2» والمعنى: وسقيتها ماءً بارداً. وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز الجرّ على الإِتباع، والمعنى:
الغسل، نحو قولهم: جحر ضبٍ خربٍ. وقال ابن الأنباري: لما تأخّرت الأرجل بعد الرؤوس، نسقت عليها للقرب والجوار، وهي في المعنى نسق على الوجوه كقولهم: جحر ضبٍّ خَربٍ، ويجوز أن تكون منسوقة عليها، لأن العرب تسمّي الغسل مسحاً، لأن الغسل لا يكون إِلا بمسح. وقال أبو علي: مَن جرّ فحُجَّتُه أنه وجد في الكلام عاملين: أحدهما: الغسل، والآخر: الباء الجارّة، ووجه العاملين إِذا اجتمعا: أن يحمل الكلام على الأقرب منهما دون الأبعد، وهو «الباء» هاهنا، وقد قامت الدلالة على أن المراد بالمسح: الغسل من وجهين «3» :
__________
(1) البيت غير منسوب في «مشكل القرآن» : 165 و «الكامل» 1/ 289 و «اللسان» مادة: قلد. ونسبه في حواشي ابن القوطية على «الكامل» 189 لعبد الله بن الزبعرى. ويروى الشطر الأول منه «ورأيت زوجك في الوغى» وفي «اللسان» : تقلّد الأمر: احتمله.
(2) هو صدر بيت وعجزه: حتى شتت همّالة عيناها. وهو في «الخزانة» 1/ 499 وشرح «شواهد المغني» 314.
قال العيني: 4/ 181 أنشده الأصمعي وغيره، ولم أر أحدا عزاه إلى قائله.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 35: ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي 1/ 75 عن النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضلته، وهو قائم، ثم قال: إن أناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع كما صنعت، وقال: «هذا وضوء من لم يحدث» . والأحاديث التي جاءت بالغسل كثيرة. ففي البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو قال تخلف عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته:
«أسبغوا الوضوء، وبل للأعقاب من النار» . وروى مسلم عن عمر بن الخطاب «أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدم، فأبصره النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ارجع فأحسن وضوءك» قال ابن كثير: وإسناده جيد قوي صحيح.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» : وغسل الرجلين واجب في قول أكثر أهل العلم، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على غسل القدمين. وروي عن علي أنه مسح على نعليه وقدميه، وحكي عن ابن عباس أنه قال: ما أجد في كتاب الله إلا غسلتين ومسحتين. وحكي عن الشعبي أنه قال: الوضوء مغسولان وممسوحان، فالممسوحان يسقطان في التيمم. ولم نعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح على الرجلين غير ما ذكرنا إلا ما حكي عن ابن جرير أنه قال: هو مخيّر بين المسح والغسل، واحتج بظاهر الآية. وما روي عن ابن عباس. ولنا أن عبد الله بن زيد، وعثمان، حكيا وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالا: فغسل قدميه. وفي حديث عثمان: ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا، متفق عليهما. وعن علي أنه حكى وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا. فإن قيل: فعطفه على الرأس دليل على أنه أراد حقيقة المسح. قلنا: قد افترقا من وجوه: أحدها: أن الممسوح في الرأس شعر يشق غسله، والرجلين أشبه بالمغسولات. والثاني: أنهما محدودان بحد ينتهي إليه، فأشبها اليدين. والثالث: أنهما معرضتان للخبث لكونهما يوطأ بهما على الأرض بخلاف الرأس. وأما حديث أوس في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: فإنما أراد الغسل الخفيف وكذلك ابن عباس، ولذلك قال: أخذ ملء كفّه من ماء فرش على قدميه، والمسح يكون بالبلل لا برش الماء.

(1/522)


أحدهما: أن أبا زيد قال: المسح خفيف الغسل، قالوا: تمسحت للصلاة، وقال أبو عبيدة:
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ «1» ، أي ضرباً، فكأن المسح في الآية غسل خفيف. فإن قيل: فالمستحب التكرار ثلاثاً؟ قيل: إِنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون.
والوجه الثاني: أن التحديد والتوقيت إِنما جاء في المغسول دون الممسوح، فلما وقع التحديد مع المسح، عُلم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد، وحجة من نصب أنه حَمل ذلك على الغسل لاجتماع فُقهاء الأمصار على الغسل.
قوله تعالى: إِلَى الْكَعْبَيْنِ «إِلى» بمعنى «مع» ، والكعبان: العظمان الناتئان من جانبي القدم.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا أي: فتطهروا، فأدغمت التاء في الطاء، لأنهما من مكان واحد، وقد بيّن الله عزّ وجلّ طهارة الجنب في سورة النّساء بقوله تعالى: حَتَّى تَغْتَسِلُوا «2» وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إلى قوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و «الحرج» : الضيق، فجعل الله الدين واسعاً حين رخّص في التيمم.
قوله تعالى: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي: يريد أن يطهركم. قال مقاتل: من الأحداث والجنابة، وقال غيره: من الذنوب والخطايا، لأن الوضوء يكفر الذنوب.
قوله تعالى: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الذي يتمُّ به النعمة أربعة أقوال:
أحدها: بغفران الذنوب.
(404) قال محمد بن كعب القرظي: حدثني عبد الله بن دارة، عن حمران قال: مررت على عثمان بفخّارةٍ من ماءٍ، فدعا بِها فتوضأ، فأحسن الوضوء ثم قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرة أو مرّتين أو ثلاثاً ما حدّثتكم، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما توضأ عبد فأحسن الوضوء، ثم قام إِلى الصلاة، إِلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى» قال محمد بن كعب: وكنت إِذا سمعت الحديث التمسته في القرآن. فالتمست هذا فوجدته في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ «3» فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه، ثم قرأت الآية التي في المائدة: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلى قوله وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فعلمت أنه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم.
__________
ضعيف بهذا اللفظ والإسناد. أخرجه البيهقي في «الشعب» 2728 من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب به، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر، واسمه عيسى بن أبي عيسى.
- والذي صح عن عثمان ما أخرجه البخاري 159 و 1934 و 6433 ومسلم 226 وغيرهما عن حمران مولى عثمان أن عثمان بن عفان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كل رجل ثلاثا، ثم قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال: «من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه» .
__________
(1) سورة ص: 33.
(2) سورة النساء: 43.
(3) سورة الفتح: 1- 2.

(1/523)


وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)

والثاني: بالهداية إِلى الإِيمان، وإِكمال الدين، وهذا قول ابن زيد. والثالث: بالرخصة في التيمم، قاله مقاتل، وأبو سليمان. والرابع: ببيان الشرائِع، ذكره بعض المفسّرين.

[سورة المائدة (5) : آية 7]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني النعم كلَّها. وفي هذا حثٌ على الشكر.
وفي الميثاق أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه إِقرار كل مؤمن بما آمن به. قال ابن عباس: لما أنزل الله الكتاب، وبعث الرسول، فقالوا: آمنا، ذكَّرهم ميثاقه الذي أقرُّوا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء.
والثاني: أنه الميثاق الذي أخذه من بني آدم حين أخرجهم من ظهره، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن زيد. والثالث: أنه ما وثق على المؤمنين على لسان نبيه عليه السلام من الأمر بالوفاء بما أقرّوا به من الإِيمان. روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أنه الميثاق الذي أخذ من الصّحابة على السمع والطاعة في بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، ذكره بعض المفسّرين. قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قال مقاتل: اتقوه في نقض الميثاق إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما فيها من إيمان وشكّ.

[سورة المائدة (5) : آية 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت من أجل كفار قريش أيضا، وقد تقدّم ذكرهم في قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ روى نحو هذا أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال مقاتل.
(405) والثاني: أن قريشاً بعثت رجلاً ليقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأطلع الله نبيه على ذلك، ونزلت هذه الآية، والتي بعدها، هذا قول الحسن.
(406) والثالث: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذهب إِلى يهود بني النضير يستعينهم في ديةٍ، فهمُّوا بقتله، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وقتادة.
ومعنى الآية: كونوا قوامين لله بالحق، ولا يحملنَّكم بغض قوم على ترك العدل اعْدِلُوا في
__________
هو الآتي بعد حديث.
هو الآتي بعد حديث جابر.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 481: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول ابن عباس، وهو أن معناه: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ يعني وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر.

(1/524)


وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

الولي والعدو هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي: إِلى التقوى. والمعنى: أقرب إِلى أن تكونوا متقين، وقيل: هو أقرب إلى اتّقاء النّار.

[سورة المائدة (5) : الآيات 9 الى 10]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)
قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ في معناها قولان:
أحدهما: أن المعنى: وعدهم الله أن يغفر لهم ويأجرهم فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى.
والثاني: أن المعنى: وعدهم فقال: لهم مغفرة. وقد بيّنّا في البقرة معنى «الجحيم» » .

[سورة المائدة (5) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
في سبب نزولها أربعة أقوال «2» :
(407) أحدها: أن رجلاً من محارب قال لقومه: الا أقتل لكم محمداً، فقالوا: وكيف تقتله؟
فقال: أفتك به، فأقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيفه في حجره، فأخذه، وجعل يهزّه، ويهمّ به، فيَكْبِتُه الله، ثم قال: يا محمد ما تخافني؟ قال: لا، قال: لا تخافني وفي يدي السّيف؟! قال: يمنعني الله منك، فأغمد السيف، فنزلت هذه الآية، رواه الحسن البصري عن جابر بن عبد الله. وفي بعض الألفاظ: فسقط السّيف من يده. وفي لفظ آخر: فما قال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئاً ولا عاقبه. واسم هذا الرجل: غورث بن الحارث من محارب خصفة.
__________
ذكر نزول الآية ضعيف. أخرجه الواحدي 385 من طريق ابن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر به، وإسناده ضعيف، فيه عنعنة ابن إسحاق والحسن وكلاهما مدلس، وفيه عمرو بن عبيد، وهو ضعيف، والوهن في هذا الخبر بذكر نزول الآية، وأما أصل الحديث فصحيح. أخرجه البخاري 4135 و 4136 ومسلم 843 والواحدي 386 والبيهقي 6/ 319 والطبري 11569 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل نجد فلما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرّق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت سمرة، فعلّق بها سيفه، قال جابر، فنمنا نومة فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت له: الله، فها هوذا جالس» ثم لم يعاقبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وليس فيه سبب نزول الآية.
والقائلة: شدة الحر. والعضاه: شجر له شوك. واختراط السيف: سله. صلتا: مجردا من غمده.
__________
(1) سورة البقرة: 119.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 487: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية، نعمته على المؤمنين به وبرسوله، في استنقاذه نبيهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم مما كانت اليهود همت به في قتله ومن معه، يوم سار إليهم نبي الله صلّى الله عليه وسلّم في الدية التي كان تحمّلها عن قتيلي عمرو بن أمية.

(1/525)


وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)

(408) والثاني: أن اليهود عزموا على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكفاه الله شرّهم، قال ابن عباس:
صنعوا له طعاماً، فأوُحِيَ إِليه بشأنهم، فلم يأت.
(409) وقال مجاهد، وعكرمة: خرج إِليهم يستعينهم في دية، فقالوا: اجلس حتى نعطيك، فجلس هو وأصحابه، فخلا بعضهم ببعض، وقالوا: لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن، فمن يظهر على هذا البيت، فيطرح عليه صخرة؟ فقال عمرو بن جحّاش: أنا، فجاء إِلى رحى عظيمة ليطرحها عليه، فأمسك الله يده، وجاء جبريل، فأخبره، وخرج، ونزلت هذه الآية.
(410) والثالث: أن بني ثعلبة، وبني مُحارب أرادوا أن يفتكوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبأصحابه، وهم ببطن نخلة في غزاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السابعة، فقالوا: إِِن لهم صلاة هي أحبّ إِليهم من آبائِهم وأمهاتهم، فإذا سجدوا وقعنا بهم، فأطلع الله نبيه على ذلك، وأنزل صلاة الخوف، ونزلت هذه الآية، هذا قول قتادة.
والرابع: أنها نزلت في حق اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هذا قول ابن زيد.

[سورة المائدة (5) : آية 12]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قال أبو العالية: أخذ الله ميثاقهم أن يخلصوا له العبادة، ولا يعبُدوا غيره. وقال مقاتل: أن يعملوا بما في التوراة.
وفي معنى النقيب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الضمين، قاله الحسن، ومعناه: أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده، ولا يجوز أن يكون ضميناً عنهم بالوفاء، لأن ذلك لا يصح ضمانه. وقال ابن قتيبة: هو الكفيل على القوم. والنقابة شبيهة بالعرافة. والثاني: أنه الشاهد، قاله قتادة. وقال ابن فارس:
النقيب: شاهد القوم، وضمينهم. والثالث: الأمين، قاله الربيع بن أنس، واليزيدي، وهذه الأقوال تتقارب. قال الزجاج: النقيب في اللغة، كالأمين والكفيل، يقال: نقب الرجل على القوم ينقب: إِذا صار نقيباً عليهم، وصناعته النقابة، وكذلك عرِّف عليهم: إِذا صار عريفاً، ويقال لأول ما يبدو من الجرب: النّقبة، ويجمع النّقب والنّقب. وقال الشاعر:
__________
أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 2/ 489- 490 من طريق عطاء عن ابن عباس وعن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس مطوّلا، ومقاتل متهم، والضحاك لم يلق ابن عباس، وأخرجه الطبري 11567 بسند فيه مجاهيل.
وانظر ما بعده،
أخرجه الطبري برقم 11561 و 11562 عن مجاهد، وبرقم 11565 عن عكرمة، وكلاهما مرسل.
مرسل. أخرجه الطبري 11568 عن قتادة مرسلا. فهذه المراسيل تتأيد بمجموعها، وإن اختلفت ألفاظها، والله أعلم، فإن المعنى متحد، وهو محاولة الكفرة قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم.

(1/526)


فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)

متبذِلاً تبدو محاسنُه ... يضعُ الهناء مواضِعَ النُّقب «1»
ويقال: في فلان مناقب جميلة، وكل الباب معناه: التأثير الذي له عُمق ودخول، ومن ذلك نقبت الحائِط، أي: بلغت في النقب آخِرَه، والنقبة من الجرب: داء شديد الدخول. وإِنما قيل: نقيب، لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم، وهو الطريق إِلى معرفة أمورهم. ونقل أن الله تعالى أمر موسى وقومه بالسّير إلى الأرض المقدسة، وكان يسكنها الجبارون، فقال تعالى: يا موسى اخرج إِليها وجاهد من فيها من العدو، وخُذْ من قومك اثني عشر نقيباً، من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أُمروا به، فاختاروا النقباء. وفيما بعثوا له قولان:
أحدهما: أن موسى بعثهم إِلى بيت المقدس، ليأتوه بخبر الجبارين، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنهم بعثوا ضمناء على قومِهِمْ بالوفاء بميثاقهم، قاله الحسن، وابن إِسحاق. وفي نبوّتهم قولان: أصحهما: أنهم ليسوا بأنبياء.
قوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ في الكلام محذوف. تقديره: وقال الله لهم. وفي المقول لهم قولان: أحدهما: أنهم بنو إِسرائيل، قاله الجمهور. والثاني: أنهم النقباء، قاله الربيع، ومقاتل. ومعنى إِنِّي مَعَكُمْ أي: بالعون والنصرة، وفي معنى: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ قولان: أحدهما: أنه الإِعانة والنصر، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد وقتادة والسدي. والثاني: أنه التعظيم والتوقير، قاله عطاء واليزيدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة.
قوله تعالى: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً في هذا الإقراض قولان: أحدهما: أنه الزكاة الواجبة.
والثاني: صدقة التطوع. وقد شرحنا في البقرة معنى القرض الحسن.
قوله تعالى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ يشير إِلى الميثاق فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي: أخطأ قصد الطريق.

[سورة المائدة (5) : آية 13]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ في الكلام محذوف، تقديره: فنقضوا، فبنقضهم لعنّاهم. وفي المراد بهذه اللعنة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها التعذيب بالجزية، قاله ابن عباس. والثاني: التعذيب بالمسخ، قاله الحسن، ومقاتل. والثالث: الإِبعاد من الرحمة، قاله عطاء، والزجاج.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: قاسِيَةً بالألف، يقال: قست، فهي قاسية، وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضّل، عن عاصم: «قسيّةً» بغير ألف مع تشديد الياء، لأنه قد يجيء فاعل وفعيل، مثل شاهد وشهيد، وعالم وعليم. و «القسوة» : خلاف اللّين والرّقة. وقد ذكرنا هذا في (البقرة) .
__________
(1) البيت لدريد بن الصّمة كما في «اللسان» مادة- نقب. [.....]

(1/527)


وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)

وفي تحريفهم الكلم ثلاثة أقوال: أحدها: تغيير حدود التوراة، قاله ابن عباس. والثاني: تغيير صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. والثالث: تفسيره على غير ما أُنزل، قاله الزجاج.
قوله تعالى: عَنْ مَواضِعِهِ مبيّن في (سورة النساء) .
قوله تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ النسيان هاهنا: الترك عن عمد. والحظ: النصيب.
قال مجاهد: نسوا كتاب الله الذي أُنزل عليهم، وقال غيره: تركوا نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم.
وفي معنى ذُكِّرُوا بِهِ قولان: أحدهما: أمروا. والثاني: أوصوا.
قوله تعالى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ وقرأ الأعمش «على خيانة منهم» قال ابن قتيبة:
الخائِنة: الخيانة. ويجوز أن تكون صفة للخائِن، كما يقال: رجلٌ طاغية، وراوية للحديث. قال ابن عباس: وذلك مثل نقض قريظة عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخروج كعب بن الأشرف إِلى أهل مكة للتّحريض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم ينقضوا العهد، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: بل القليل ممن لم يؤمن.
قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ واختلفوا في نسخها على قولين:
أحدهما: أنها منسوخة، قاله الجمهور. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها آية السّيف. والثاني: قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... «1» . والثالث:
قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ... «2» .
(411) والثاني: أنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عهد، فغدروا، وأرادوا قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأظهره الله عليهم، ثم أنزل الله هذه الآية، ولم تنسخ.
قال ابن جرير: يجوز أن يعفى عنهم في غدرةٍ فعلوها، ما لم ينصبوا حرباً، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصّغار، فلا يتوجّه النّسخ.

[سورة المائدة (5) : آية 14]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ قال الحسن: إِنما قال: قالوا:
إِنا نصارى، ولم يقُل: من النصارى، لِيَدل على أنهم ليسوا على منهاج النصارى حقيقة، هم الذين اتبعوا المسيح. وقال قتادة: كانوا بقرية، يقال لها: ناصرة، فسمّوا بهذا الاسم، قال مقاتل: أُخذ عليهم الميثاق، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد، فتركوا ما أُمروا به.
قوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ قال النّصر: هيّجنا، وقال المؤرّج: حرّشنا بعضهم على بعض وقال الزجاج: ألصقنا بهم ذلك، يقال: غريت بالرّجل غرى مقصوراً: إِذا لصقت به، هذا قول الأصمعيّ.
__________
تقدم آنفا، وقد ساقه المصنف بمعناه. وانظر كلام الطبري في «تفسيره» 4/ 498- 499.
__________
(1) سورة التوبة: 29.
(2) سورة الأنفال: 58.

(1/528)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)

وقال غير الأصمعي: غريت به غراءً ممدود، وهذا الغراء الذي يُغرى به إِنما يلصق به الأشياء، ومعنى أغرينا بينهم العداوة والبغضاء: أنهم صاروا فرقاً يكفّر بعضهم بعضاً. وفي الهاء والميم مِن قوله بَيْنَهُمُ قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى اليهود والنصارى، قاله مجاهد وقتادة والسدي. الثاني: أنها ترجع إِلى النصارى خاصة، قاله الربيع. وقال الزجاج: هم النصارى، منهم النسطوريّة واليعقوبيّة والملكيّة، وكل فرقة منهم تعادي الأخرى. وفي تمام الآية وعيد شديد لهم.

[سورة المائدة (5) : آية 15]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15)
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود. والثاني: اليهود والنّصارى. و «الرّسول» : محمّد صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ قال ابن عباس: أخفوا آية الرّجم «1» ، وأمر محمّد عليه السلام وصفته وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يتجاوز، فلا يخبرهم بكتمانه. فان قيل: كيف كان له أن يمسك عن حق كتموه فلا يبينه؟
فعنه جوابان: أحدهما: أنه كان متلقياً ما يؤمر به، فإذا أُمِر باظهار شيءٍ من أمرهم، أظهره، وأخذهم به، وإِلا سكت. والثاني: أن عقد الذّمة إِنما كان على أن يُقرّوا على دينهم، فلما كتموا كثيراً مما أُمروا به، واتخذوا غيره ديناً، أظهر عليهم ما كتموه مِن صفته وعلامة نبوته، لتتحقّق معجزته عندهم، واحتكموا إِليه في الرجم، فأظهر ما كتموا مما يوافق شريعته، وسكت عن أشياء ليتحقق إِقرارهم على دينهم. قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ قال قتادة: يعني بالنور: النبي محمّدا صلّى الله عليه وسلّم. وقال غيره: هو الإِسلام، فأما الكتاب المبين، فهو القرآن.

[سورة المائدة (5) : آية 16]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ يعني: بالكتاب. ورضوانه: ما رضيه الله تعالى. و «السُبل» ، جمع سبيل، قال ابن عباس: سبل السلام: دين الاسلام. وقال السدي: «السلام» : هو الله، و «سبله» :
دينه الذي شرعه. قال الزجاج: وجائِز أن يكون «سُبل السلام» طريق السَّلامة التي مَن سلكها سَلِمَ في دينه، وجائز أن يكون «السلام» اسم الله عزَّ وجلَّ، فيكون المعنى: طرق الله عزّ وجلّ. قوله تعالى:
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ قال ابن عباس: يعني الكفر إِلَى النُّورِ يعني: الإِيمان بِإِذْنِهِ أي:
بأمره وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام. وقال الحسن: طريق الحقّ.

[سورة المائدة (5) : آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
__________
(1) أخرجه الطبري 11612 بسند حسن عن ابن عباس.

(1/529)


وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)

قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قال ابن عباس: هؤلاء نصارى أهل نجران، وذلك أنهم اتخذوه إِلهاً قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: فمن يقدر أن يدفع من عذابه شيئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي: فلو كان إِلهاً كما تزعمون لقَدَرَ أن يردّ أمرَ اللهِ إِذا جاءه بإهلاكه أو إِهلاك أمّه، ولما نزل أمر الله بأمّه، لم يقدرْ أن يدفع عنها. وفي قوله تعالى:
يَخْلُقُ ما يَشاءُ ردٌ عليهم حيث قالوا للنبي: فهات مثله من غير أب «1» . فإن قيل: فلم قال وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ولم يقل: وما بينهن؟ فالجواب أن المعنى: وما بَين هذين النوعين من الأشياء، قاله ابن جرير.

[سورة المائدة (5) : آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى قال مقاتل: هم يهود المدينة، ونصارى نجران. وقال السدي: قالوا: إِن الله تعالى أوحى إِلى إِسرائيل: إِنَّ ولدك بكري من الولد. فأدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوماً حتى تطهّرهم، وتأكل خطاياهم، ثم ينادي منادٍ: أخرجوا كلَّ مختون من بني إِسرائيل.
وقيل: إِنهم لما قالوا: المسيح ابن الله، كان معنى قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ أي: منّا ابن الله. وفي قوله: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ إِبطال لدعواهم، لأن الأب لا يعذّب ولده، والحبيبُ لا يُعذّبُ حبيبه وهم يقولون: إِن الله يعذبنا أربعين يَوماً بالنار. وقيل: معنى الكلام: فلمَ عذّب منكم من مسخه قردةً وخنازير؟ وهم أصحاب السبت والمائِدة.
قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أي: أنتم كسائِر بني آدم تُجازَوْن بالإِحسان والإِساءة. قال عطاء: يغفر لمن يشاء، وهم الموحدون، ويعذّب من يشاء، وهم المشركون.

[سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا.
(412) سبب نزولها: أن معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب، قالوا: يا معشر اليهود اتقوا الله، والله إِنكم لتعلمون أنه رسول الله، كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه بصفته. فقال وهب بن يهوذا، ورافع: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله بعد موسى من كتاب، ولا أرسل رسولاً بشيراً ولا نذيراً بعده، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
فأما «الفترة» فأصلها السكون، يقال: فتر الشيء يَفتر فتوراً: إذا سكنت حدّته، وانقطع عمّا كان
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 11619 من طريق محمد بن إسحاق به. وشيخه محمد بن أبي محمد مجهول كما في التقريب، وقال الذهبي في «الميزان» لا يعرف.
__________
(1) تقدم في آل عمران.

(1/530)


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)

عليه، والطرف الفاتر: الذي ليس بحديد. والفتور: الضعف. وفي مدّة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة أقوال: أحدها: أنه كان بين عيسى ومحمّد عليهما السلام ستمائة سنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سلمان الفارسي، ومقاتل. والثاني: خمسمائة سنة وستون سنة، قاله قتادة.
والثالث: أربع مائة وبضع وثلاثون سنة، قاله الضحاك. والرابع: خمسمائة سنة وأربعون سنة، قاله ابن السائب. وقال أبو صالح عن ابن عباس عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي: انقطاع منهم، قال: وكان بين ميلاد عيسى، وميلاد محمّد عليهما السّلام خمسمائة سنة وتسعة وتسعون سنة، وهي فترة. وكان بعد عيسى أربعة من الرسل، فذلك قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ «1» . قال: والرابع لا أدري من هو. وكان بين تلك السنين مائة سنة، وأربع وثلاثون نبوّة وسائِرها فترة. قال أبو سليمان الدمشقي: والرابع، والله أعلم: خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
(413) «نبيٌ ضيَّعه قومُه» .
قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا قال الفرّاء: كي لا تقولوا: مثل قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «2» . وقال غيره: لئلا تقولوا، وقيل: كراهة أن تقولوا.

[سورة المائدة (5) : آية 20]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20)
قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فيهم قولان: أحدهما: أنهم السبعون الذين اختارهم موسى، وانطلقوا معه إِلى الجبل، جعلهم الله أنبياء بعد موسى وهارون، وهذا قول ابن السائب ومقاتل.
والثاني: أنهم الأنبياء الذين أُرْسِلوا من بني إِسرائيل بعد موسى، ذكره الماوردي.
وبماذا جعلهم ملوكاً؟ فيه ثمانية أقوال: أحدها: بالمن والسلوى والحجر. والثاني: بأن جعل للرجل منهم زوجةً وخادماً. والثالث: بالزوجة والخادم والبيت، رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس، وهذا الثالث اختيار الحسن، ومجاهد. والرابع: بالخادم والبيت، قال عكرمة. والخامس: بتمليكهم الخدم. وكانوا أول مَن ملك الخدم، ومن اتخذ خادماً فهو ملك، قاله قتادة. والسادس: بكونهم أحراراً يملك الإِنسان منهم نفسه وأهله وماله، قاله السدّي. والسابع: بالمنازل الواسعة، فيها المياه الجارية، قاله الضحاك. والثامن: بأن جعل لهم الملك والسلطان، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين:
أحدهما: أنهم قوم موسى، وهذا مذهب ابن عباس، ومجاهد. قال ابن عباس: ويعني بالعالمين: الذين
__________
ضعيف منكر. أخرجه البزار 2361 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف قيس بن الربيع.
وهو معارض بحديث «أنا أولى الناس بعيسى، الأنبياء أبناء علات، وليس بيني وبين عيسى نبي» .
- أخرجه البخاري 3443 ومسلم 2365 وأحمد 2/ 319 وغيرهم من حديث أبي هريرة.
- فهذا يرد الحديث المتقدم، بل ولا يصح ثبوت نبوة رجل بخبر ضعيف.
__________
(1) سورة يس: 14.
(2) سورة النساء: 176.

(1/531)


يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)

هم بين ظهرانيهم. وفي الذي آتاهم ثلاثة أقوال: أحدها: المن والسّلوى والحجر والغمام، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثاني: أنه الدار والخادم والزوجة، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن جرير:
ما أُوتي أحد من النِّعم في زمان قوم موسى ما أُوتوا. والثالث: كثرة الأنبياء فيهم، ذكره الماورديّ.
والثاني: أن الخطاب لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي مالك.

[سورة المائدة (5) : آية 21]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)
قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا وقرأ ابن محيصن: «يا قوم ادخلوا» بضمّ الميم، وكذلك «يا قوم اذكروا» و «يا قوم اعبدوا» «1» . وفي معنى الْمُقَدَّسَةَ قولان:
أحدهما: المطهرة، قاله ابن عباس، والزجاج. قال: وقيل للسطل: القَدَس، لأنهُ يتطهّر منه، وسُمّي بيت المقدس، لأنه يتطهر فيه من الذنوب. وقيل: سمّاها مقدّسة، لأنها طهرت من الشرك، وجعلت مسكناً للأنبياء والمؤمنين. والثاني: أن المقدَّسة: المباركة، قاله مجاهد.
وفي المراد بتلك الأرض أربعة أقوال: أحدها: أنها أريحا: رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي، وابن زيد. قال السدي: أريحا هي أرض بيت المقدس. وروي عن الضحاك أنه قال: المراد بهذه الأرض إيلياء وبيت المقدس. قال ابن قتيبة: وقرأت في مناجاة موسى أنه قال: اللهم إِنَّك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن البيوت بكة وإِيلياء ومن إِيلياء بيت المقدس، فهذا يدل على أن إِيلياء الأرض التي فيها بيت المقدس، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن إِيلياء بيت المقدس، وهو معرَّب. قال الفرزدق:
وبيتانِ بَيْتُ الله نحْنُ ولاته ... وبيت بأعلى إيلياء مشرّف
والثاني: أنها الطور وما حوله، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثالث: أنها دمشق وفلسطين وبعض الأردُن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أنها الشام كلها، قاله قتادة.
وفي قوله تعالى: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بمعنى أمرَكم وفرض عليكم دخولها، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنه بمعنى: وهبها الله لكم، قاله محمد بن إِسحاق. وقال ابن قتيبة: جعلها لكم. والثالث: كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكنكم.
فإن قيل: كيف قال: فإنها محرمة عليهم، وقد كتبها لهم؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه إِنما جعلها لهم بشرط الطاعة، فلما عصَوْا حرَّمها عليهم.
والثاني: أنه كتبها لبني إِسرائيل، وإِليهم صارت، ولم يعنِ موسى أن الله كتبها للذين أُمِرُوا بدخولها بأعيانهم. قال ابن جرير: ويجوز أن يكون الكلام خرج مخرج العموم، وأُريد به الخصوص فتكون مكتوبة لبعضهم، وقد دخلها يوشع، وكالب.
قوله تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فيه قولان:
أحدهما: لا ترجعوا عن أمر الله إِلى معصيته. والثاني: لا ترجعوا إلى الشّرك به.
__________
(1) سورة الأعراف: 59.

(1/532)


قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)

[سورة المائدة (5) : آية 22]
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22)
قوله تعالى: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ قال الزجاج: الجبار من الآدميّين: الذي يُجبِر الناس على ما يريد، يقال: جبار: بَيِّنُ الجَبَرِيَّة، والجِبِرِيَّة بكسر الجيم والباء، والجَبَرُوَّةُ والجُبُّورة والتَّجبار والجَبَرُوت. وفي معنى وصفه هؤلاء بالجبارين ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا ذوي قوّة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا عظام الخلْق والأجسام، قاله قتادة. والثالث: أنهم كانوا قتَّالين، قاله مقاتل.
(الإِشارة إِلى القصَّة) قال ابن عباس: لما نزل موسى وقومه بمدينة الجبارين، بعث اثني عشر رجلاً، ليأتوه بخبرهم، فلقيَهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائِه، فأتى بهم المدينة، ونادى في قومه، فاجتمعوا، فقالوا لهم: من أين أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى بعثنا لنأتيَه بخبركم، فأعطوهم حبَّةً من عنبٍ توقر «1» الرجل، وقالوا لهم، قولوا لموسى وقومه: اقدروا قدر فاكههم، فلما رجعوا، قالوا: يا موسى إِن فيها قوماً جبارين. وقال السدي: كان الذي لقيهم، يقال له: عاج، يعني: عوج بن عناق، فأخذ الاثني عشر، فجعلهم في حُجرته وعلى رأسه حُزمة حطب، وانطلق بهم إِلى امرأته، فقال: انظري إِلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، فطرحهم بين يديها، قال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا، بل خلِّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. فلما خرجوا قالوا: يا قوم إِن أخبرتم بني إِسرائيل بخبر القوم، ارتدوا عن نبي الله، فأخذوا الميثاق بينهم على كتمان ذلك، فنكث عشرة، وكتم رجلان، وقال مجاهد: لما رأى النُّقباءُ الجبارينَ، وجدوهم يدخل في كمِّ أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إِلا خمسة أو أربعة، ويدخل في شطر الرّمّانة إذ نزع حبّها خمسة أو أربعة، فرجع النقباء كلُّهم ينهى سبطه عن قتالهم إِلا يوشع، وابن يوقنّا «2» .

[سورة المائدة (5) : آية 23]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
قوله تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ في الرجلين ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يوشع بن نون، وكالب بن يوقنة، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: ابن يوقنّا، وهما من النقباء. والثاني: أنهما كانا من الجبارين فأسلما، روي عن ابن عباس. والثالث: أنهما كانا في مدينة الجبارين، وهما على دين موسى، قاله الضحاك. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأيوب: «يُخافون» بضم الياء، على معنى أنهما كانا من العدوّ، فخرجا مؤمنين. وفي معنى «خوفهم» ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم خافوا الله وحده. والثاني: خافوا الجبارين، ولم يمنعهم خوفهم قول الحق. والثالث: يُخاف منهم، على قراءة ابن جبير. وفيما أنعم به عليهما أربعة أقوال: أحدها: الإِسلام، قاله ابن عباس.
__________
(1) في «اللسان» : الوقر: الحمل الثقيل.
(2) هذه الأخبار من مجازفات الإسرائيليين وترّهاتهم، وفيها من المبالغة ما لا يخفى.

(1/533)


قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)

والثاني: الصلاح والفضل واليقين، قاله عطاء. والثالث: الهُدى، قاله الضحاك. والرابع: الخوف، ذكره ابن جرير عن بعض السلف. قوله تعالى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ قال ابن عباس: قال الرجلان:
ادخلوا عليهم باب القرية فانهم قد مُلئوا منّا رعبا وفرقا.

[سورة المائدة (5) : آية 24]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا قال ابن زيد: قالوا له: انظر كما صنع ربك بفرعون وقومه، فليصنع بهؤلاء. وقال مقاتل: فاذهب أنت وسل ربَّك النصر. وقال غيرهما: اذهب أنت وليُعِنْكَ ربك.
(414) قال ابن مسعود: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون صاحبه أحبُّ إِليَّ مما عُدِلَ به، أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إِنا هاهنا قاعدون، ولكنّا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك.
فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشرق لذلك وجهه وسُرّ به.
(415) وقال أنس: استشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس يوم خرج إِلى بدر، فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم، فأشار عليه عمر فسكت، فقال رجل من الأنصار: إِنما يريدكم، فقالوا: يا رسول الله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب وأنت وربك فقاتلا إِنا هاهنا قاعدون، ولكن والله لو ضربت أكبادها حتى تبلغ برك الغماد لكنّا معك.

[سورة المائدة (5) : آية 25]
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)
قوله تعالى: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فيه قولان: أحدهما: لا أملك إِلا نفسي، وأخي لا يملك إِلا نفسه. والثاني: لا أملك إِلا نفسي وإِلاّ أخي، أي: وأملك طاعة أخي، لأن أخاه إِذا أطاعه فهو كالمِلْكِ له، وهذا على وجه المجاز، كما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
(416) «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر» فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي إِلا لك يا رسول الله، يعني: أنِّي متصرّف حيث صرّفتني، وأمرك جائِز في مالي.
قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال ابن عباس: اقض بيننا وبينهم. وقال أبو عبيدة: باعد، وافصل، وميّز. وفي المراد بالفاسقين ثلاثة أقوال: أحدها: العاصون، قاله ابن عباس.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3952 و 4609 والنسائي في «التفسير» 160 من حديث ابن مسعود.
صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» 161 وأحمد 3/ 105 و 188 وأبو يعلى 3766 و 3803 وابن حبان 4721 من حديث حميد الطويل عن أنس، وإسناده على شرط الشيخين. وأخرجه مسلم 1779 وأبو داود 2681 وأحمد 3/ 219- 220 وابن حبان 4722 من طريق حماد عن ثابت عن أنس نحوه.
صحيح. أخرجه النسائي في «فضائل الصحابة» 9 وابن ماجة 94 وابن أبي شيبة 12/ 6- 7 وأحمد 2/ 253- 366. وابن حبان 6858، وهو حديث صحيح، رووه من حديث أبي هريرة. وأخرجه بأطول مما هنا الترمذي 3661 وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وأصله متفق عليه.

(1/534)


قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)

والثاني: الكاذبون، قاله ابن زيد. والثالث: الكافرون، قاله أبو عبيدة، قال السدي: غضب موسى حين قالوا له: اذهب أنت وربك، فدعا عليهم، وكانت عجلة من موسى عجلها.

[سورة المائدة (5) : آية 26]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ الإِشارة إِلى الأرض المقدَّسة. ومعنى تحريمها عليهم: منعهم منها. فأمّا نصب «الأربعين» ، فقال الفراء: هو منصوب بالتحريم، وجائز أن يكون منصوباً ب «يتيهون» . وقال الزجاج: لا يجوز أن ينتصب بالتحريم، لأن التفسير جاء أنها محرَّمة عليهم أبداً، قلت: وقد اختلف المفسرون في ذلك، فذهب الأكثرون، منهم عكرمة، وقتادة، إِلى ما قال الزجاج، وأنها حرّمت عليهم أبداً، قال عكرمة: فإنها محرّمة عليهم أبداً يتيهون في الأرض أربعين سنة، وذهب قومٌ، منهم الربيع بن أنس، إِلى أنها حُرِّمَت عليهم أربعين سنة، ثم أمروا بالسير إِليها، وهذا اختيار ابن جرير. قال: إِنما نصبت بالتحريم، والتحريم كان عاماً في حق الكلِّ، ولم يدخلها في هذه المدة منهم أحد، فلما انقضت، أُذن لمن بقي منهم بالدخول مع ذراريهم. قال أبو عبيدة: ومعنى: يتيهون:
يحورون ويضلون.
(الإشارة إلى قصتهم) قال ابن عباس: حرّم الله على الذين عَصَوْا دُخُولَ بيت المقدس، فلبثوا في تيههم أربعين سنة، وماتوا في التيه، ومات موسى وهارون، ولم يدخل بيت المقدس إِلا يوشع وكالب بأبناء القوم، وناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين فافتتحها. وقال مجاهد: تاهوا أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا. وقال السدي: لما ضرب الله عليهم التيه، ندم موسى على دعائه عليهم، وقالوا له: ما صنعت بنا، أين الطعام؟ فأنزل الله المنَّ. قالوا: فأين الشراب؟ فأُمِر موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فأين الظلُّ؟ فظلّل عليهم الغمام. قالوا: فأين اللباس؟ وكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرّق لهم ثوب، وقُبض موسى ولم يبق أحد ممن أبى دخول قرية الجبارين إِلاَّ مات، ولم يشهد الفتح. وفيه قول آخر أنه لما مضت الأربعون خرج موسى ببني إِسرائيل من التيه، وقال لهم: ادخلوا هذه القرية، فكلوا منها حيث شئتم رغداً، وادخلوا الباب سجداً، وقولوا حطةٌ ... إِلى آخر القصّة. وهذا قول الربيع بن أنس، وعبد الرّحمن بن زيد. قال ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي: وهذا الصحيح، وأن موسى هو الذي فتح مدينة الجبارين مع الصالحين من بني إِسرائيل، لأن أهل السيرة أجمعوا على أن موسى هو قاتل عوج، وكان عوج ملكهم، وكان بلعم بن باعوراء فيمن سباه موسى وقتله، ولم يدخل مع موسى من قدمائهم غير يوشع وكالب، وإِنما حرِّمت على الذين لم يطيعوا. وفي مسافة أرض التيه قولان: أحدهما: تسعة فراسخ، قاله ابن عباس. قال مقاتل: هذا عرضها، وطولها ثلاثون فرسخاً. والثاني: ستة فراسخ في طول اثني عشر فرسخاً، حكاه مقاتل أيضاً.
قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال الزجاج: لا تحزن على قوم شأنهم المعاصي، ومخالفة الرسل. وقال ابن قتيبة: يقال أسيت على كذا، أي: حزنت، فأنا آسي أسى.

(1/535)


وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)

[سورة المائدة (5) : آية 27]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ النبأ: الخبر. وفي ابنيْ آدم قولان:
أحدهما: أنهما ابناه لِصُلبه، وهما قابيل وهابيل، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أنهما أخوان من بني إِسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وهذا قول الحسن، والعلماء على الأول، وهو أصح لقوله تعالى: لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ «1» ولو كان من بني إِسرائيل، لكان قد عرف الدّفن.
(417) ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال عنه: «إِنه أول من سن القتل» .
وقوله تعالى: بِالْحَقِّ أي: كما كان. والقربان: فعلان من القرب، وقد ذكرناه في آل عمران.
وفي السبب الذي قربا لأجله قولان: أحدهما: أن آدم عليه السلام كان قد نُهِي أن يُنْكِحَ المرأة أخاها الذي هو توأمها، وأُجيز له أن يُنكحها غيره من إِخوتها، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأُنثى، فولدت له ابنة وسيمة، وأخرى دميمة، فقال أخو الدميمة لأخي الوسيمة: أنكحني أُختك، وأُنكحك أُختى، فقال أخو الوسيمة: أنا أحق بأختي، وكان أخو الوسيمة صاحب حرث، وأخو الدميمة صاحب غنم، فقال: هلمَّ فلنقرّب قرباناً، فأينا تُقُبِّل قربانُه فهو أحقُّ بها، فجاء صاحب الغنم بكبش أبيض أعين أقرن، وجاء صاحب الحرث بصُبْرَةٍ «2» من طعام، فتُقُبِّل الكبش، فخزنه الله في الجنة أربعين خريفاً، فهو الذي ذبحه إِبراهيم، فقتله صاحب الحرث، فوَلَدُ آدم كلهم من ذلك الكافر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهما قرّباه من غير سبب. روى العوفي عن ابن عباس أن ابنيْ آدم كانا قاعدَين يوماً، فقالا: لو قرّبنا قرباناً، فجاء صاحب الغنم بخير غنمه وأسمنها، وجاء الآخر ببعض زرعه، فنزلت النار، فأكلت الشاة، وتركت الزرع، فقال لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أن قربانك تُقُبِّل، وأنك خيٌر مني لأقتلنَّك.
واختلفوا هل قابيل وأُخته وُلدا قبل هابيل وأُخته، أم بعدهما؟ على قولين، وهل كان قابيل كافراً أو فاسقاً غير كافر؟ فيه قولان: وفي سبب قبول قربان هابيل قولان: أحدهما: أنه كان أتقى الله من قابيل. والثاني: أنه تقرّب بخيار ماله، وتقرب قابيل بشرِّ ماله. وهل كان قربانهما بأمر آدم، أم من قِبل أنفسهما؟ فيه قولان: أحدهما: أنه كان وآدم قد ذهب إِلى زيارة البيت. والثاني: أن آدم أمرهما بذلك.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3335 و 6867 و 7321 ومسلم 1677 والترمذي 2673 والنسائي 7/ 81- 82 في «التفسير» 162 وعبد الرزاق 19718 وابن ماجة 2616 وأحمد 1/ 383 وابن أبي شيبة 9/ 364 وابن حبان 5983 والطحاوي في «المشكل» 1/ 483 من حديث ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمِها، لأنه أول من سنّ القتل؟» . وانظر «تفسير الشوكاني» 794 و «أحكام القرآن» 690 بتخريجنا.
__________
(1) سورة المائدة: 31.
(2) في «اللسان» : الصّبرة: ما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن. كالكومة.

(1/536)


لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)

وهل قُتل هابيل بعد تزويج أُخت قابيل، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه قتله قبل ذلك لئلا يصل إِليها.
والثاني: أنه قتله بعد نكاحها.
قوله تعالى: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ وروى زيد عن يعقوب: «لأقتلنْك» بسكون النون وتخفيفها.
والقائل: هو الذي لم يُتقبَّل منه. قال الفراء: إِنما حذف ذكره، لأن المعنى يدل عليه، ومثل ذلك في الكلام أن تقول: إِذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت، وإِذا اجتمع السفيه والحليم حُمِد، وإِنما كان ذلك، لأن المعنى لا يشكل، فلو قلت: مرّ بي رجلٌ وامرأةٌ، فأعنتُ، وأنت تريد أحدهما، لم يجز، لأنه ليس هناك علامة تدل على مُرادِك. وفي المراد بالمتقين قولان: أحدهما: أنهم الذين يتقون المعاصي، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الذين يتقون الشرك، قاله الضحاك.

[سورة المائدة (5) : آية 28]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28)
قوله تعالى: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ فيه قولان: أحدهما: أما أنا بمنتصرٍ لنفسي، قاله ابن عباس. والثاني: ما كنت لأبتدئك، قاله عكرمة. وفي سبب امتناعه من دفعه عنه قولان: أحدهما:
أنه منعه التحرُّج مع قدرته على الدفع وجوازه له، قاله ابن عمر وابن عباس. والثاني: أن دفع الانسان عن نفسه لم يكن في ذلك الوقت جائزاً، قاله الحسن ومجاهد.
وقال ابن جرير: ليس في الآية دليل على أن المقتول علم عزم القاتل على قتله، ثم ترك الدفع عن نفسه، وقد ذُكر أنه قتله غِيلةً، فلا يدَّعى ما ليس في الآية إلا بدليل.

[سورة المائدة (5) : آية 29]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29)
قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فيه قولان:
أحدهما: إِني أُريد أن ترجع بإثم قتلي وإِثمك الذي في عنقك، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس. ومجاهد، وقتادة، والضحاك. والثاني: أن تبوء بإثمي في خطاياي، وإِثمك في قتلك لي، وهو مروي عن مجاهد أيضاً. قال ابن جرير: والصحيح عن مجاهد القول الأول.
(418) وقد روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمِها، لأنه كان أول من سن القتل» .
فإن قيل: كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوء قابيل بالإِثم وهو معصية، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ فعنه ثلاثة أجوبة «1» : أحدها: أنه ما أراد لأخيه الخطيئة، وإِنما أراد: إِن قتلتني أردت أن تبوء بالإِثم، وإِلى هذا المعنى ذهب الزجاج. والثاني: أن في الكلام محذوفا، وتقديره: إني
__________
هو الحديث المتقدم.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 534: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وأما معنى: وَإِثْمِكَ
فهو إثمه بغير قتله وذلك معصيته لله جل ثناؤه في أعمال سواه، وأجمع أهل التأويل عليه.

(1/537)


فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

أُريد أن لا تبوء بإثمي وإِثمك، فحذف «لا» كقوله تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي: أن لا تميد بكم، ومنه قول امرئ القيس:
فقلتُ يمينُ اللهِ أبرحُ قَاعِدَاً ... وَلَوْ قطَّعوا رأسي لَدَيْكِ وأوصالي «1»
أراد: لا أبرح. وهذا مذهب ثعلب. والثالث: أن المعنى: أريد زوال أن تبوء باثمي وإِثمك، وبطلان أن تبوء باثمي وإِثمك. فحذف ذلك، وقامت «أن» مقامه، كقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «2» أي: حبّ العجل، ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ الإِشارة إلى مصاحبة النّار.

[سورة المائدة (5) : آية 30]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)
قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ فيه خمسة أقوال: أحدها: تابعته على قتل أخيه، قاله ابن عباس. والثاني: شجَّعته، قاله مجاهد. والثالث: زيَّنت له، قاله قتادة. والرابع: رخَّصت له، قاله أبو الحسن الأخفش. والخامس: أنَّ «طوّعت» فعَّلت من «الطوع» والعرب تقول: طاع لهذه الظبية أصول هذا الشجر، وطاع له كذا، أي: أتاه طوعاً، حكاه الزجاج عن المبرّد. وقال ابن قتيبة: شايعتْه وانقادت له، يقال: لساني لا يَطوع بكذا، أي: لا ينقاد، وهذه المعاني تتقارب.
وفي كيفية قتله ثلاثة أقوال: أحدها: أنه رماه بالحجارة حتى قتله، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: ضرب رأسه بصخرة وهو نائم، رواه مجاهد عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه. والثالث:
رضخ رأسه بين حجرين، قال ابن جريج: لم يدر كيف يقتله، فتمثّل له إِبليس، وأخذ طائِراً فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، ففعل به هكذا، وكان ل «هابيل» يومئذٍ عشرون سنة. وفي موضع مصرعه ثلاثة أقوال: أحدها: على جبل ثور، قاله ابن عباس. والثاني: بالبصرة، قاله جعفر الصادق.
والثالث: عند عَقْبَة حِرَاء، حكاه ابن جرير الطّبريّ.
وفي قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: من الخاسرين الدنيا والآخرة، فخسرانه الدنيا: أنه أسخط والديه، وبقي بلا أخ، وخسرانه الآخرة: أنه أسخط ربه، وصار إِلى النار، قاله ابن عباس. والثاني أنه أصبح من الخاسرين الحسنات، قاله الزجاج. والثالث: من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إيّاها، قاله القاضي أبو يعلى.

[سورة المائدة (5) : آية 31]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ قال ابن عباس: حمله على عاتقه، فكان إِذا مشى تخطُّ يداه ورجلاه في الأرض، وإِذا قعد وضعه إِلى جنبه حتى رأى غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، ثم بحث
__________
(1) في «اللسان» : الوصل: كل عظم على حدة لا يكسر، ولا يخلط بغيره، ولا يوصل به غيره والجمع أوصال والأوصال: مجتمع العظام.
(2) سورة البقرة: 93. [.....]

(1/538)


مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

له الأرض حتى واراه بعد أن حمله سنين. وقال مجاهد: حمله على عاتقه مائة سنة. وقال عطية: حمله حتى أروح «1» . وقال مقاتل: حمله ثلاثة أيام.
وفي المراد بسوأة أخيه قولان: أحدهما: عورة أخيه. والثاني: جيفة أخيه.
قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ، فان قيل: أليس الندم توبة، فَلِم لم يقبل منه؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أنه يجوز أن لا يكون الندم توبة لمن تقدَّمنا، ويكون توبة لهذه الأمة، لأنها خصّت بخصائِص لم تشارَك فيها، قاله الحسن بن الفضل. والثاني: أنه ندم على حمله لا على قتله. والثالث:
أنه ندم إِذ لم يواره حين قتله. والرابع: أنه ندم على فوات أخيه، لا على ركوب الذنب. وفي هذه القصّة تحذير من الحسد، لأنه الذي أهلك قابيل.

[سورة المائدة (5) : آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ قال الضحاك: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلماً، وقال أبو عبيدة: من جناية ذلك، ومن جري ذلك. قال الشاعر:
وأهل خباءٍ صالحٍ ذَاتُ بينهم ... قدِ احتربوا في عاجِلٍ أنا آجِلُه «2»
أي: جانيه وجارٌ ذلك عليهم. وقال قوم: الكلام متعلق بما قبله، والمعنى: فأصبح من النادمين من أجل ذلك. فعلى هذا يَحسن الوقف هاهنا، وعلى الأول لا يحسن الوقف. والأوّل أصحّ.
وكَتَبْنا بمعنى: فرضنا. ومعنى قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: قتلها ظلماً ولم تقتل نفساً. أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ «فساد» منسوق على نَفْسٍ، المعنى: أو بغير فساد تستحق به القتل. وقيل: أراد بالفساد هاهنا: الشرك.
وفي معنى قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً خمسة أقوال: أحدها: أن عليه إِثم من قتل الناس جميعاً، قاله الحسن، والزجاج. والثاني: أنه يصلى النار بقتل المسلم، كما لو قتل الناس جميعاً، قاله مجاهد، وعطاء. وقال ابن قتيبة: يُعذَّبُ كما يُعذَّب قاتل النَّاسِ جميعاً. والثالث: أنه يجب عليه من القصاص مثل ما لو قتل الناس جميعاً، قاله ابن زيد. والرابع: أن معنى الكلام: ينبغي لجميع الناس أن يُعينوا ولي المقتول حتى يُقيدوه منه، كما لو قتل أولياءَهم جميعاً، ذكره القاضي أبو يعلى.
والخامس: أن المعنى: من قتل نبياً أو إِماماً عادلاً، فكأنما قتل الناس جميعاً، رواه عكرمة عن ابن عباس. والقول بالعموم أصح.
فإن قيل: إِذا كان إِثم قاتل الواحد كاثم من قتل الناس جميعاً، دل هذا على أنه لا إِثم عليه في
__________
(1) في «اللسان» أروح اللحم: تغيّرت رائحته.
(2) نسبه أبو عبيدة في «مجاز القرآن» إلى الخفوت وهو توبة بن مضرس. ونسبه التبريزي في شرح «إصلاح المنطق» إلى خوات بن جبير وألحق بشعر زهير بن أبي سلمى في ديوانه بشرح الشنتمري.

(1/539)


إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)

قتل مَن يقتله بعد قتل الواحد إِلى أن يفنى الناس؟ فالجواب: أن المقدار الذي يستحقّه قاتل الناس جميعاً معلوم عند الله محدود، فالذي يقتل الواحد يلزمه ذلك الإِثم المعلوم، والذي يقتل الاثنين يلزمه مثلاه، وكلما زاد قتلاً زاده الله إِثماً، ومثل هذا قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «1» فالحسنة معلوم عند الله مقدار ثوابها، فعاملها يعطى بمثل ذلك عشر مرات. وهذا الجواب عن سؤال سائل إِن قال: إِذا كان من أحيا نفساً فله ثواب من أحيا الناس، فما ثواب من أحيا الناس كلَّهم؟ هذا كله منقول عن المفسرين. والذي أراه أن التشبيه بالشيء تقريبٌ منه، لأنه لا يجوز أن يكون إِثم قاتل شخصين كإثم قاتل شخص، وإِنما وقع التشبيه ب «كأنما» ، لأن جميع الخلائِق من شخص واحد، فالمقتول يتصوّر منه نشر عدد الخلق كلِّهم.
وفي قوله تعالى: وَمَنْ أَحْياها خمسة أقوال: أحدها: استنقذها من هلكةٍ، روي عن ابن مسعود، ومجاهد. قال الحسن. من أحياها من غرق أو حرق أو هلاك. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: من شدَّ عَضُدَ نبي أو إِمامٍ عادِلٍ، فكأنما أحيا الناس جميعاً. والثاني: ترك قتل النفس المحرّمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية. والثالث: أن يعفو أولياء المقتول عن القصاص، قاله الحسن وابن زيد وابن قتيبة. والرابع: أن يزجر عن قتلها وينهى. والخامس: أن يعين الوليَّ على استيفاء القصاص لأن في القصاص حياةً، ذكرهما القاضي أبو يعلى. وفي قوله تعالى:
فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً قولان: أحدهما: فله أجر من أحيا الناس جميعاً، قاله الحسن وابن قتيبة. والثاني: فعلى جميع الناس شكره كما لو أحياهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ يعني: بني إِسرائيل الذين جرى ذكرهم.

[سورة المائدة (5) : آية 33]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)
قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(419) أحدها: أنها نزلت في ناسٍ من عُرَينة قدموا المدينة، فاجتووها، فبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في
__________
حديث صحيح دون ذكر نزول الآية. أخرجه البخاري 4193 ومسلم 1671 وأبو داود 4366 والترمذي 72 و 1845 و 2042 والنسائي 7/ 97 و 160 وابن أبي شيبة 7/ 75 وأحمد 3/ 186- 198 وابن حبان 1376 والبغوي في «التفسير» 782 من طرق كلهم من حديث أنس، رووه بألفاظ متقاربة والمعنى متحد، وليس في شيء من طرقه ذكر نزول الآية، وإنما ورد من طريق قتادة وحده، وليس في الصحيح.
وورد نزول الآية من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 11812، وورد من مرسل سعيد بن جبير، أخرجه الطبري 11814، وورد موصولا من حديث جرير البجلي، أخرجه الطبري 11815 لكن فيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو متروك. وورد عن قتادة عن أنس، أخرجه الطبري 11819 ولعل الصواب كونه من مرسل قتادة كما تقدم آنفا، فوصله أحد الرواة وهما. وورد من وجه آخر عن أنس أخرجه الطبري 11820 وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وورد من مرسل السدي، أخرجه الطبري 11821. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، إلا أن روايات الصحيح خالية من ذكر نزول الآية، فالله أعلم.
__________
(1) سورة الأنعام: 160.

(1/540)


إِبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فصحوا، وارتدوا عن الاسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإِبل، فأرسل رسول الله في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمَّر أعينهم، وألقاهم بالحرَّة حتى ماتوا، ونزلت هذه الآية، رواه قتادة عن أنس، وبه قال سعيد بن جبير، والسدي.
(420) والثاني: أن قوماً من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عهد وميثاق، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فخيّر الله رسوله بهذه الآية: إِن شاء أن يقتلهم، وإِن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
(421) والثالث: أن أصحاب أبي بُردة الأسلمي قطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الاسلام، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(422) وقال ابن السائب: كان أبو بردة، واسمه هلال بن عويمر، وادع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين لم يُهَجْ، ومن مرّ بهلال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يُهِجْ، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الاسلام بناسٍ من قوم هلال، فَنَهَدُوا إِليهم، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، ولم يكن هلال حاضراً، فنزلت هذه الآية.
والرابع: أنها نزلت في المشركين، رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن «1» .
واعلم أن ذكر «المحاربة» لله عزّ وجلّ في الآية مجاز. وفي معناها للعلماء قولان: أحدهما: أنه سمّاهم محاربين له تشبيهاً بالمحاربين حقيقة، لأن المخالف محارب، وإِن لم يحارب. فيكون المعنى:
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 11807 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، وفيه إرسال، علي لم يسمع من ابن عباس. وورد عن الضحاك مرسلا، أخرجه الطبري 11808 وفيه جويبر بن سعيد وهو متروك.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو متهم بالوضع، فحديثه لا شيء.
عزاه المصنف لابن السائب وهو الكلبي، واسمه محمد، وهو ساقط متهم، فخبره باطل.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 549: وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيه معرّفة حكمه على من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعرنيين ما فعل.
وقال الإمام ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 2/ 93: من قال: إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب لأن عكلا وعرينة ارتدّوا وقتلوا وأفسدوا، ولكن يبعد، لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة. وقد قيل للكفار قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ. وقد قال في المحاربين: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ وكذلك المرتد. يقتل بالردة دون المحاربة، فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون فلو ثبت أن هذه الآية نزلت في شأن عكل أو عرينة لكان غرضا ثابتا، ونصا صريحا. وإنما ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم استتابة العرنيين لما أحدثوا من القتل والمثلة والحرب، وإنما يستتاب المرتد الذي يرتاب فيستريب به ويرشد ويبيّن له المشكل.

(1/541)


يخالفون الله ورسوله بالمعاصي. والثاني: أن المراد: يحاربون أولياء الله، وأولياء رسوله. وقال سعيد بن جبير: أراد بالمحاربة لله ورسوله، الكفر بعد الاسلام. وقال مقاتل: أراد بها الشرك «1» . فأما «الفساد» فهو القتل والجراح وأخذ الأموال، وإِخافة السبيل.
قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا اختلف العلماء هل هذه العقوبة على التّرتيب، أم على التّخيير؟ فمذهب أحمد رضي الله عنه أنها على الترتيب «2» ، وأنهم إِذا قتلوا، وأخذوا المال، أو قتلوا ولم يأخذوا، قُتِلوا وصلِّبوا، وإِن أخذوا المال، ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإِن لم يأخذوا المال، نُفوا. قال ابن الأنباري: فعلى هذا تكون «أو» مبعّضة، فالمعنى: بعضهم يفعل به كذا، وبعضهم كذا، ومثله قوله تعالى: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «3» المعنى: قال بعضهم هذا، وقال بعضهم هذا. وهذا القول اختيار أكثر اللغويين. وقال الشافعي: إِذا قتلوا وأخذوا المال، قُتِلوا وصُلِّبوا، وإِذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قُتلوا ولم يُصلَّبوا، وإِذا أخذوا المال ولم يَقتلوا، قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقال مالك: الإِمام مخير في إِقامة أيِّ الحدود شاء، سواء قتلوا أو لم يقتلوا، أخذوا المال أو لم يأخذوا، والصلب بعد القتل. وقال أبو حنيفة، ومالك: يُصْلب ويُبعج برمحٍ حتى يموت.
واختلفوا في مقدار زمان الصّلب. فعندنا أنه يُصلب بمقدار ما يشتهر صلبُه. واختلف أصحاب الشافعي، فقال بعضهم: ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال بعضهم: يترك حتى يسيل صديده.
قال أبو عبيدة: معنى «من خلاف» أن تُقطَع يدُه اليُمنى ورجله اليسرى، يُخالَف بين قطعهما. فأما «النفي» فأصله الطرد والإِبعاد. وفي صفة نفيهم أربعة أقوال: أحدها: إِبعادهم من بلاد الاسلام إِلى دار الحرب، قاله أنس بن مالك، والحسن، وقتادة، وهذا إِنما يكون في حق المحارب المشرك، فأما المسلم فلا ينبغي أن يُضطر إِلى ذلك. والثاني: أن يُطلبوا لِتُقام عليهم الحدود، فيُبعدوا، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثالث: إِخراجهم مِن مدينتهم إِلى مدينة أُخرى، قاله سعيد بن جبير. وقال مالك:
ينفى إِلى بلدٍ غير بلده، فيحبس هناك. والرابع: أنه الحبس، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وقال أصحابنا:
صِفَةُ النفي: أن يُشرّد ولا يترك يأوي في بلد، فكلما حَصَل في بلد نُفي إِلى بلد غيره. وفي «الخزي»
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 552: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: «المحارب لله ورسوله» من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة.
(2) قال الإمام الموفق في «المغني» 12/ 475: مسألة: «فمن قتل منهم وأخذ المال، قتل وإن عفا صاحب المال، وصلب حتى يشتهر، ودفع إلى أهله، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، في مقام واحد، ثم حسمتا وخلي» قال الإمام الموفق في شرحه: روينا نحو هذا عن ابن عباس، وبه قال قتادة وأبو مجلز وحماد والليث والشافعي وإسحاق: وعن أحمد: أنه إذا قتل وأخذ المال قتل وقطع، كما لو زنى وسرق، وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخيّر فيهم بين القتل والصلب، والقطع والنفي لأن «أو» تقتضي التخيير، وهذا قول ابن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبي الزناد وأبي ثور وداود، وقال أصحاب الرأي: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطع، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين قتله وصلبه، وبين قتله وقطعه، وبين أن يجمع له ذلك كله. لأنه وجد منه ما يوجب القتل والقطع اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 150.
(3) سورة البقرة: 135.

(1/542)


إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)

قولان: أحدهما: أنه العقاب. والثاني: الفضيحة.
وهل يثبت لهم حكم المحاربين في المصر، أم لا؟ ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي، وأبو يوسف: المصر والصحارى سواء «1» ، ويعتبر في المال المأخوذ قدر نصاب، كما يُعتبر في حقِّ السَّارِقِ، خلافاً لمالك.

[سورة المائدة (5) : آية 34]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قال أكثر المفسّرين: هذا الاستثناء في المحاربين المشركين إِذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم، وآمنوا قبل القدرة عليهم، فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من مال أو دمٍ، وهذا لا خلاف فيه. فأما المحاربون المسلمون، فاختلفوا فيهم، ومذهب أصحابنا: أن حدود الله تسقط عنهم مِن انحتام القتل والصلب والقطع والنفي. فأما حقوق الآدميين من الجراح والأموال، فلا تسقطها التوبة، وهذا قول الشّافعيّ «2» .

[سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
قوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ في «الوسيلة» قولان:
أحدهما: أنها القربة، قاله ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، والفراء. وقال قتادة: تقربوا إِليه بما يرضيه. قال أبو عبيدة: يقال: توسلت إليه، أي: تقرّبت إليه. وأنشد:
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 474: والمحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء، فيغصبونهم المال مجاهرة. وجملته أن المحاربين الذين تثبت لهم أحكام المحاربة، تعتبر لهم شروط ثلاث:
أحدها: أن يكون ذلك في الصحراء، فإن كان منهم في القرى والأمصار، فقد توقف أحمد رحمه الله فيهم، وظاهر كلام الخرقي أنهم غير محاربين وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق وقال كثير من أصحابنا هو قاطع حيث كان. وبه قال الأوزاعي، والليث والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب، ولأن ذلك إذا وجد في مصر كان أعظم خوفا، وأكثر ضررا، فكان بذلك أولى.
(2) جاء في «المغني» 12/ 483: مسألة «فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم، سقطت عنهم حدود الله تعالى وأخذوا بحقوق الآدميين، من الأنفس والجراح والأموال، إلا أن يعفى لهم عنها» قال الإمام الموفق: لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور، والأصل فيه قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ... فعلى هذا يسقط عنهم تحتّم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح، وغرامة المال والديّة لما لا قصاص فيه، فأما إن تاب بعد القدرة عليه لا يسقط عنه شيء من حدود الله تعالى. وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة: كالزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة، لأنها حدود الله تعالى، إلا حد القذف، لأنه حق آدمي، ويحتمل أن لا تسقط اه ملخصا.

(1/543)


وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)

إِذا غفل الواشُونَ عُدْنَا لِوَصِْلَنا ... وَعَاَد التَّصَافي بيننا وَالوَسَائلُ «1»
والثاني: المحبة، يقول: تحببوا إِلى الله، هذا قول ابن زيد.

[سورة المائدة (5) : آية 38]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما قال ابن السائب: نزلت في طُعمة بن أُبيرق «2» ، وقد مضت قصّته في سورة النّساء. ووَ السَّارِقُ: إِنما سُمّي سارقاً، لأنه يأخذ الشيء في خفاءٍ، واسترق السّمع: إِذا تسمَّع مستخفياً. قال المبرّد: والسارق هاهنا مرفوع بالابتداء، لأنه ليس القصد منه واحداً بعينه، وإِنما هو، كقولك: مَنْ سَرَق فاقطعْ يده. وقال ابن الأنباري: وإِنّما دخلت الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط، تقديره: من سرق فاقطعوا يَدَهُ، قال الفرّاء: وإِنما قال: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما لأن كلَّ شيءٍ موحّد من خلق الإنسان إِذا ذُكِرَ مضافاً إِلى اثنين فصاعداً، جُمع، تقول: قد هشمت رؤوسَهما وملأت ظهورهما وبطونهما ضرباً، ومثله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «3» وإِنما اختير الجمع على التثنية، لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين في الانسان: اليدين، والرجلين، والعينين، فلما جرى أكثره على هذا، ذُهِبَ بالواحد منه إِذا أُضيف إِلى اثنين مذهب التثنية، وقد يجوز تثنيتهما.
قال أبو ذؤيب.
فتخالسا نفسيهما بنوافذٍ ... كَنَوَافِذِ العُبُط التي لا تُرقَع «4»
فصل: وهذه الآية اقتضت وجوب القطع على كلِّ سارق «5» ، وبينت السُنَّة أن المراد به السارقُ لِنِصابٍ من حِرْزِ مثله، كما قال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» .
(423) ونهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن قتل النساء، والصبيان، وأهل الصّوامع. واختُلِفَ في مقدار النصاب، فمذهب أصحابنا: أن للسّرقة نصابين: أحدهما: من الذهب ربع دينار، ومن الورق ثلاثة دراهم، أو
__________
متفق عليه، وتقدم.
__________
(1) في «تفسير القرطبي» 6/ 151 وفي «مجاز القرآن» 1/ 164 لم يعرف قائله.
(2) ابن السائب هو الكلبي، وهو متهم بالوضع، فخبره باطل، لا أصل له.
(3) سورة التحريم: 4.
(4) تخالسا: جعل كل واحد منهما يختلس نفس صاحبه بالطعن. النوافذ: جمع نافذة وهي الطعن تنفذ حتى يكون لها رأسان. عبط: جمع عبيط، وأصل العبط: شق الجلد الصحيح.
(5) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 459 في شرح المسألة 1589: وجملته أن الوالد لا يقطع بالسرقة من مال ولده، وإن سفل وسواء في ذلك الأب والأم، والابن والبنت، والجد والجدة، من قبل الأب والأم وهذا قول عامة أهل العلم منهم: مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور وابن المنذر:
القطع على كل سارق بظاهر الكتاب.
قال الإمام الموفق: والعبد إذا سرق من مال سيده فلا قطع عليه في قولهم جميعا، ووافقهم أبو ثور، وحكي عن داود أنه يقطع لعموم الآية اه ملخصا، وانظر «أحكام الجصاص» 4/ 80- 81 و «تفسير القرطبي» . [.....]
(6) سورة التوبة: 5.

(1/544)


قيمة ثلاثة دراهم مِن العروض وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: لا يقطع حتى تبلغ السّرقة عشرة دراهم. وقال الشافعي: الاعتبار في ذلك بربع دينار، وغيره مقوَّمٌ به، فلو سرق درهمين قيمتهما ربع دينار، قُطع، فان سَرق نصاباً من التّبر، فعليه القطع. وقال أبو حنيفة: لا يقطع حتى يبلغ ذلك نصاباً مضروباً، فان سرق منديلاً لا يساوي نصاباً، في طرفه دينار، وهو لا يعلم، لا يقطع. وقال الشافعي:
يقطع. فإن سرق ستارة الكعبة، قطع، خلافاً لأبي حنيفة. فإن سرق صَبياً صغيراً حُراً، لم يقطع، وإِن كان على الصغير حُلي. وقال مالك: يقطع بكل حال. وإِذا اشترك جماعة في سرقة نصاب، قطعوا «1» ، وبه قال مالك، إِلا أنه اشترط أن يكون المسروق ثقيلاً يحتاج إِلى معاونة بعضهم لبعض في إِخراجه.
وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا قطع عليه بحال ويجبُ القطع على جاحد العاريَّة عندنا، وبه قال سعيد بن المسيب، والليث بن سعد، خلافاً لأكثر الفقهاء.
فصل: فأما الحرز، فهو ما جعل للسكنى، وحفظ الأموال، كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس، ويحفظون أمتعتهم بها، فكل ذلك حِرز، وإِن لم يكن فيه حافظ ولا عنده، وسواء سُرِق من ذلك وهو مفتوح الباب، أو لا باب له إِلا أنه محجّر بالبناء. فأما ما كان في غير بناءٍ ولا خيمة، فإنه ليس في حرز إِلا أن يكون عنده من يحفظه. ونقل الميموني عن أحمد: إِذا كان المكان مشتركاً في الدّخول إِليه، كالحمام والخيمة لم يقطع السارق منه، ولم يُعتَبَر الحافظ. ونقل عنه ابن منصور: لا يقطع سارق الحمام إِلا أن يكون على المتَاع أجير حافظ. فأما النبّاش، فقال أحمد في رواية أبي طالب:
يقطع، وبه قال مالك، والشافعي، وابن أبي ليلى. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة: لا يقطع.
فصل: فأما موضع قطع السارق «2» ، فمن مَفْصِل الكَفِّ، ومِن مَفْصِلِ الرِّجْلِ. فأمّا اليد اليسرى
__________
(1) جاء في «المغني» 12/ 468: «وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا» قال الإمام الموفق:
وبهذا قال مالك وأبو ثور. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق: لا قطع عليهم إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا، كما لو انفرد كل واحد بدون النصاب اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 146. وجاء في «المغني» 13/ 172- 173: «ولا يقام الحد على المسلم في أرض العدو» وجملته أن من أتى حدا من الغزاة، أو ما يوجب قصاصا في أرض الحرب، لم يقم عليه حتى يقفل، فيقام عليه حده، وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق: وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر: يقام الحد في كل موضع، لأن الله تعالى أمر بإقامته في كل مكان وزمان، إلا أن الشافعي قال: إذا لم يكن أمير الجيش الإمام، أو أمير إقليم، فليس له إقامة الحد، ويؤخّر حتى يأتي الإمام. لأن إقامة الحدود إليه، وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود، أو قوة به، أو شغل عنه أخّر. وقال أبو حنيفة: لا حد ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع. اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 171 بتخريجي.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 440: لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف، وهو الكوع، لأنها آلة السرقة، فناسب عقوبته بإعدام آلتها، وإذا سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى، وبذلك قال جماعة إلا عطاء حكي عنه أنه تقطع يده اليسرى، وروي عن داود وربيعة، وهذا شذوذ يخالف قول جماعة فقهاء الأمصار من أهل الفقه والأثر، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، وقول أبي بكر وعمر. وأما الآية فالمراد بها قطع يد كل واحد منهما. وفي قراءة ابن مسعود «فاقطعوا أيمانهما» إذا ثبت هذا، فإنه تقطع رجله اليسرى لقوله تعالى: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ وتقطع الرجل من مفصل الكعب في قول أكثر أهل العلم، وفعل ذلك عمر وكان علي يقطع من نصف القدم، من معقد الشراك، ويدع له عقبا يمشي عليها، وهو قول أبي ثور.
- قال: وإذا قطع حسم، وهو أن يغلى الزيت فيغمس عضوه فيه، لتنسد أفواه العروق اه ملخصا. وانظر «أحكام الجصاص» 4/ 69- 74، و «تفسير القرطبي» 6/ 171- 172.
وجاء في «المغني» 12/ 446- 447 ما ملخصه: مسألة: «فإن عاد حبس، ولا يقطع غير يد ورجل» يعني إذا عاد فسرق بعد قطع يده ورجله، لم يقطع منه شيء آخر وحبس، وبهذا قال علي والحسن والشعبي والنخعي والزهري وحماد والثوري وأصحاب الرأي، وعن أحمد أنه تقطع في الثالثة يده اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، وفي الخامسة يعزر ويحبس، وروي عن أبي بكر وعمر أنهما قطعا يد أقطع اليد والرجل، وهذا قول قتادة ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، وروي عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز، أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة، والرجل اليمنى في الرابعة، ويقتل في الخامسة لحديث جابر: «جيء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بسارق فقال: اقتلوه.....» ولنا ما روى سعيد عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبيه قال:
حضرت عليّ بن أبي طالب، أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟
قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين. قال: قتلته إذا، وما عليه القتل، بأي شيء يأكل الطعام، بأي شيء يتوضأ بأي شيء يغتسل، بأي شيء يقوم على حاجته، فرده إلى السجن، ثم جلده جلدا شديدا ثم أرسله اه ملخصا.
وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 172 و «أحكام الجصاص» 4/ 72- 73.

(1/545)


فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)

والرجل اليُمنى، فروي عن أحمد: لا تقطع، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي حنيفة، وروي عنه: أنها تقطع، وبه قال مالك، والشافعي. ولا يثبت القطع إِلا باقراره مرتين، وبه قال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: يثبت بمرّة. ويجتمع القطع والغرم موسِراً كان أو معسراً. وقال أبو حنيفة: لا يجتمعان، فان كانت العين باقية أخذها ربُّها، وإِن كانت مستهلكة، فلا ضمان. وقال مالك: يضمنها إِن كان موسراً، ولا شيء عليه إِن كان معسراً «1» .
قوله تعالى: نَكالًا مِنَ اللَّهِ قد ذكرنا «النكال» في البقرة. قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال سعيد بن جبير: شديد في انتقامه، حكيم إذا حكم بالقطع. قال الأصمعي: قرأت هذه الآية، وإِلى جنبي أعرابيٌ، فقلت: والله غفور رحيم، سهواً، فقال الأعرابي: كلام مَن هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعد فأعدت: والله غفور رحيم، فقال: ليس هذا كلام الله، فتنبهت، فقلت: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فقال:
أصبت، هذا كلام الله. فقلت له: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال: يا هذا عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع.

[سورة المائدة (5) : الآيات 39 الى 40]
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
قوله تعالى: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ. سبب نزولها:
__________
(1) قال الإمام الموفق في «المغني» 12/ 454 ما ملخصه: لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين المسروقة إذا كانت باقية، فأما إن كانت تالفة، فعلى السارق رد قيمتها، أو مثلها إن كانت مثلية، قطع أو لم يقطع، موسرا كان أو معسرا، وهذا قول الحسن والنخعي وحماد والبتّي والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يجتمع الغرم والقطع، إن غرمها قبل القطع سقط القطع، وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم، وقال عطاء وابن سيرين والشعبي ومكحول: لا غرم على السارق إذا قطع، ووافقهم مالك في المعسر، ووافقنا في الموسر. وانظر «أحكام الجصاص» 4/ 83- 84.

(1/546)


يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)

(424) أن امرأة كانت قد سرقت، فقالت: يا رسول الله هل لي من توبة؟ فنزلت هذه الآية. قاله عبد الله بن عمرو. وقال سعيد بن جبير: فمن تاب من بعد ظلمه، أي: سرقته، وأصلح العمل، فإن الله يتجاوز عنه، إِن الله غفور لما كان منه قبل التوبة، رحيم لمن تاب.

[سورة المائدة (5) : آية 41]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال «1» :
(425) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرّ بيهودي وقد حمموه «2» وجلدوه، فقال: أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: أنشدُك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولكنّه كثر في أشرافنا، فكنا نترك الشريف، ونُقيمه على الوضيع، فقلنا: تعالوا نُجْمِعْ على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ إنّي أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمَرَ به فَرُجم، ونزلت هذه الآية، رواه البراء بن عازب.
__________
أخرجه أحمد 2/ 177 والطبري 11922 من حديث عبد الله بن عمرو قال: «إن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء الذين سرقتهم، فقالوا: يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اقطعوا يدها، فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال نعم. أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك. فأنزل الله عز وجل: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ إلى آخر الآية.
وفيه عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف الحديث، وهذا الحديث يعرف بحديث المخزومية، وأصله في الصحيحين دون ذكر نزول الآية، وبسياق آخر. وانظر «تفسير الشوكاني» 803 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه مسلم 1700 وأبو داود 4447 و 4448 وأحمد 4/ 286 وابن ماجة 2558 والبيهقي 8/ 246 والطبري 12039 من حديث البراء بن عازب.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، أن يقال: عني بقوله: لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ ... الآية، قوم من المنافقين. وجائز أن يكون ممن دخل هذه الآية ابن صوريا، وجائز أن يكون أبو لبابة، وجائز أن يكون غيرهما، غير أن أثبت شيء روي في ذلك ما روي عن البراء بن عازب وأبي هريرة لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإذا كان ذلك كذلك، كان الصحيح من القول فيه أن يقال: عني به عبد الله بن صوريا.
(2) في «اللسان» : حمّم الرجل: سخّم وجهه بالحمم، وهو الفحم. وفي الحديث أنه أمر بيهودي محمّم مجلود أي مسود الوجه.

(1/547)


(426) والثاني: أنها نزلت في ابن صوريا آمن ثم كفر، وهذا المعنى مروي عن أبي هريرة.
(427) والثالث: أنها نزلت في يهودي قتل يهودياً، ثم قال: سلوا محمداً فإن كان بُعِثَ بالدّية، اختصمنا إِليه، وإِن كان بعث بالقتل، لم نأته، قاله الشعبي.
والرابع: أنها نزلت في المنافقين، قاله ابن عباس، ومجاهد «1» .
(428) والخامس: أن رجلاً من الأنصار أشارت إِليه قريظة يوم حِصارهم: على ماذا ننزل؟ فأشار إِليهم: أنه الذّبح، قاله السدي.
(429) قال مقاتل: هو أبو لبابة بن عبد المنذر، قالت له قريظة: اننزل على حُكم سعدٍ؟ فأشار بيده: أنه الذّبح، وكان حليفاً لهم. قال أبو لبابة: فعلمت أني قد خُنتُ الله ورسوله، فنزلت هذه الآية.
ومعنى الكلام: لا يحزنك مسارعة الذي يُسارِعُون في الكفر من الذين قالوا آمنّا بأفواههم وهم المنافقون، ومن الذين هادوا وهم اليهود. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قال سيبويه: هو مرفوعٌ بالابتداء. قال أبو الحسن الأخفش: ويجوز أن يكونَ رفعُه على معنى: ومن الذين هادوا سماعون للكذب. وفي معناه أربعة أقوال: أحدها: سماعون منك ليكذبوا عليك. والثاني: سماعون للكذب، أي: قائلون له.
والثالث: سماعون للكذب الذي بدَّلوه في توراتهم. والرابع: سماعون للكذب، أي قابلون له، ومنه:
«سمع الله لمن حمده» أي: قبل.
وفي قوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ قولان: أحدهما: يسمعون لأولئك، فهم عيونٌ لهم. والثاني: سمّاعون من قوم آخرين، وهم رؤساؤهم المبدِّلون التوراة. وفي السمّاعين للكذب، وللقوم الآخرين قولان: أحدهما: أن «السّماعين للكذب» يهود المدينة، والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهود فدَك. والثاني: بالعكس من هذا.
وفي تحريفهم الكلم خمسة أقوال: أحدها: أنه تغيير حدود الله في التوراة، وذلك أنهم غيّروا الرّجم، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: تغيير ما يسمعونه من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالكذب عليه، قاله الحسن. والثالث: إِخفاء صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والرابع: إِسقاط القود بعد استحقاقه. والخامس: سوء التأويل. وقال ابن جرير: المعنى يُحرّفون حكم الكلم، فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين بذلك.
__________
أخرجه الطبري 11926 و 11928 و 11929 عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وإسناد ضعيف، فيه راو لم يسمّ، وهو عجز حديث مطول. وأخرجه أبو داود 4450 و 4451 والطبري 12013 والواحدي 392 من حديث أبي هريرة، ولم يذكر فيه أنه ابن صوريا.
ضعيف. أخرجه الطبري 11924 و 11925 عن الشعبي مرسلا، وهو معارض بحديث البراء، وذاك أصح.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 11923 عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، والمتن منكر، معارض بما تقدم عن البراء، ومراسيل السدي مناكير. وانظر «أحكام القرآن» 717 بتخريجنا.
مقاتل متروك، وكذبه غير واحد، فخبره لا شيء، والصواب ما رواه البراء.
__________
(1) أخرجه الطبري 11930 عن عبد الله بن كثير مرسلا. وكرره 11931 عن مجاهد مرسلا أيضا، ولم أره عن ابن عباس، والخبر ضعيف بكل حال.

(1/548)


سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ قال الزجاج: أي من بعد أن وَضَعه الله مواضعه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه. قوله تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ في القائلين لهذا قولان:
(430) أحدهما: أنهم اليهود، وذلك أن رجلاً وامرأةً من أشرافهم زنيا، فكان حدهما الرّجم، فكرهت اليهود رجمهما، فبعثوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألونه عن قضائه في الزّانيين إِذا أُحصِنَا، وقالوا: إِن أفتاكم بالجلد فخذوه، وإِن أفتاكم بالرّجم فلا تعملوا به، هذا قول الجمهور.
(431) والثاني: أنهم المنافقون. قال قتادة: وذلك أن بني النضير كانوا لا يُعطون قريظة القود إِذا قتلوا منهم، وإِنما يعطونهم الدية، فإذا قتلت قريظة من النضير لم يَرْضوا إلا بالقود تعززا عليهم، فقتل بنو النضير رجلا من قريظة عمداً، فأرادوا رفع ذلك إِلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال رجل من المنافقين: إِن قتيلكم قتيل عمد، ومتى ترفعوا ذلك إِلى محمد خشيتُ عليكم القود، فان قُبِلَتْ منكم الدِّية فأعطوا، وإِلا فكونوا منه على حذر.
وفي معنى فَاحْذَرُوا ثلاثة أقوال: أحدها: فاحذروا أن تعملوا بقوله الشديد. والثاني: فاحذروا أن تُطْلِعُوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به. والثالث: فاحذروا أن تسألوه بعدها.
قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ في «الفتنة» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى الضلالة، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني: العذاب، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: الفضيحة، ذكره الزجاج. قوله تعالى: فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لا تغني عنه، ولا تقدر على استنقاذه. وفي هذا تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من حزنه على مسارعتهم في الكفر.
قوله تعالى: لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ قال السدّي: يعني المنافقين واليهود، لم يُرِدْ أن يطهر قلوبهم من دَنَسِ الكُفر، ووسَخ الشِّرك بطهارة الإِيمان والإِسلام.
قوله تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أما خزي المنافقين، فبهتك ستره وإِطلاع النبي على كفرهم، وخزي اليهود بفضيحتهم في إِظهار كذبهم إِذ كتموا الرجم، وبأخذ الجزية منهم. قال مقاتل: وخزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي النّضير بإجلائهم.

[سورة المائدة (5) : آية 42]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
قوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قال الحسن: يعني حكام اليهود يسمعون الكذب ممن يكذبُ عندهم في دعواه، ويأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان: هم اليهود يسمعون الكذب، وهو قول بعضهم لبعض: محمد كاذب، وليس بنبي، وليس في التوراة رجم، وهم يعلمون كذبهم. قوله تعالى:
__________
أخرجه الطبري 11941 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورجاله ثقات لكنه منقطع بينهما، ومع ذلك هو يتأيد بحديث البراء.
ضعيف. أخرجه الطبري 11944 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف.

(1/549)


وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر «السُّحُتُ» مضمومة الحاء مثقَّلة.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة «السُّحْتُ» ساكنة الحاء خفيفة. وروى خارجة بن مصعب عن نافع «أكّالون للسَّحْت» بفتح السين وجزم الحاء. قال أبو علي: السُّحْت والسُّحُتُ لغتان، وهما اسمان للشيء المسحوت، وليسا بالمصدر، فأما من فتح السين، فهو مصدر سحتٍ، فأوقع اسم المصدر على المسحوت، كما أوقع الضرب على المضروب في قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير. وفي المراد بالسحت ثلاثة أقوال: أحدها: الرشوة في الحكم. والثاني: الرشوة في الدين، والقولان عن ابن مسعود. والثالث: أنه كل كسب لا يحل، قاله الأخفش.
قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ فيمن أُريد بهذا الكلام قولان:
أحدهما: اليهوديان اللذان زنيا، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي. والثاني: رجلان من قريظة والنضير قتل أحدهما الآخر، قاله قتادة. وقال ابن زيد: كان حيي بن أخطب قد جعل للنضيريّ ديتين، والقرظي دية، لأنه كان من النضير، فقالت قريظة: لا نرضى بحكم حُيي، ونتحاكم إِلى محمد، فقال الله تعالى لنبيّه: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ الآية.
فصل: اختلف علماء التفسير في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها منسوخة، وذلك أن أهل الكتاب كانوا إِذا ترافعوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان مخيَّراً، إِن شاء حكم بينهم، وإِن شاء أعرض عنهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فلزمه الحكم، وزال التخيير، وهذا مروي عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، والسدي. والثاني: أنها محكمة، وأن الإِمام ونوابه في الحكم مخيّرون إِذا ترافعوا إِليهم، إِن شاؤوا حكموا بينهم، وإِن شاؤوا أعرضوا عنهم، وهذا مروي عن الحسن، والشعبي، والنخعي، والزهري، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو الصحيح، لأنه لا تنافي بين الآيتين، لأن إِحداهما: خيَّرت بين الحكم وتركه. والثانية: بينت كيفية الحكم إِذا كان.

[سورة المائدة (5) : آية 43]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
قوله تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ قال المفسّرون: هذا تعجيب من الله عزّ وجلّ لنبيه من تحكيم اليهود إِياهُ بعد علمهم بما في التوراة من حكم ما تحاكموا إِليه فيه، وتقريع لليهود إِذ يتحاكمون إِلى مَن يجحدون نبوته، ويتركون حكم التوراة التي يعتقدون صحتها.
قوله تعالى: فِيها حُكْمُ اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: حكم الله بالرجم، وفيه تحاكموا، قاله الحسن. والثاني: حكمه بالقود، وفيه تحاكموا، قاله قتادة.
قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فيه قولان: أحدهما: من بعد حكم الله في التوراة.
والثاني: من بعد تحكيمك. وفي قوله تعالى: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ قولان: أحدهما: ليسوا بمؤمنين لتحريفهم التوراة. والثاني: ليسوا بمؤمنين أن حكمك من عند الله لجحدهم نبوّتك.

(1/550)


إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)

[سورة المائدة (5) : آية 44]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ قال المفسرون: سبب نزول هذه الآية: استفتاء اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمر الزانيين، وقد سبق «1» . و «الهدى» : البيان. فالتّوراة مبيّنة صحة نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ومبينة ما تحاكموا فيه إِليه. و «النور» : الضياء الكاشف للشبهات، والموضح للمشكلات.
وفي «النبيين الذين أسلموا» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الأنبياء من لَدُنْ موسى إِلى عيسى، قاله الأكثرون. فعلى هذا القول في معنى «أسلموا» أربعة أقوال: أحدها: سلموا لحكم الله، ورضوا بقضائه. والثاني: انقادوا لحكم الله، فلم يكتموه كما كتم هؤلاء. والثالث: أسلموا أنفسهم إِلى الله عزّ وجلّ. والرابع: أسلموا لما في التوراة ودانوا بها، لأنه قد كان فيهم من لم يعمل بكل ما فيها كعيسى عليه السلام. قال ابن الأنباري: وفي «المسلم» قولان: أحدهما: أنه سُمّي بذلك لاستسلامه وانقياده لربه. والثاني: لإِخلاصه لربّه، من قوله تعالى: وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ «2» أي: خالصاً له.
والثاني: أن المراد بالنبيين نبيّا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله الحسن، والسدي. وذلك حين حكم على اليهود بالرّجم، وذكره بلفظ الجمع كقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «3» . وفي الذي حكم به منها قولان: أحدهما: الرجم والقود. والثاني: الحكم بسائِرها ما لم يرد في شرعه ما يخالف.
والثالث: النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم، قاله عكرمة.
قوله تعالى: لِلَّذِينَ هادُوا قال ابن عباس: تابوا من الكفر. قال الحسن: هم اليهود. قال الزجاج: ويجوز أن يكون في الآية تقديم وتأخير. على معنى: إِنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونورٌ للذين هادوا، يحكم بها النبيون الذين أسلموا. فأما «الربانيون» فقد سبق ذكرهم في (آل عمران) . وأما «الأحبار» فهم العلماء واحدهم حَبر وحِبر، والجمع أحبار وحبور. وقال الفراء: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار: حِبر بكسر الحاء. وفي اشتقاق هذا الاسم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من الحَبار وهو الأثر الحسن، قاله الخليل. والثاني: أنه من الحِبر الذي يكتب به، قاله الكسائي. والثالث: أنه من الحبر الذي هو الجمال والبهاء.
(432) وفي الحديث «يخرج رجل من النار قد ذهَبَ حِبْرُه وسبره» أي: جماله وبهاؤه. فالعالم
__________
لم أره مسندا، وإنما أورده الزمخشري في «الفائق» 1/ 85 وابن الجوزي في «غريب الحديث» 1/ 186 بدون إسناد، ومن غير عزو، فهذا مما لا أصل له. أي لا إسناد له.
__________
(1) انظر الأحاديث المتقدمة عند الآية: 41.
(2) سورة الزمر: 29.
(3) سورة النساء: 54.

(1/551)


بَهِيٌ بجمال العلم، وهذا قول قطرب.
وهل بين الرّبانيين والأحبار فَرْق أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا فرق، والكل العلماء، هذا قول الأكثرين، منهم ابن قتيبة، والزجاج. وقد روي عن مجاهد أنه قال: الرّبانيون: الفُقهاء العُلماء، وهم فوق الأحبار. وقال السدي: الربانيون العلماء، والأحبار القُرّاء. وقال ابن زيد: الربانيون: الولاة، والأحبار: العُلماء، وقيل: الربانيون: علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود.
قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ قال ابن عباس: بما استودعوا من كتاب الله وهو التوراة. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: يحكمون بحكم ما استحفظوا. والثاني: العلماء بما استحفظوا. قال ابن جرير: «الباء» في قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا من صلة الأحبار.
وفي قوله تعالى: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ قولان:
أحدهما: وكانوا على ما في التوراة من الرَّجم شهداء، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: وكانوا شهداء لمحمد عليه السلام بما قال أنه حق. رواه العوفي عن ابن عباس.
قوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، وابن عامر، والكسائي «واخشون» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو بياء في الوصل، وبغير ياء في الوقف، وكلاهما حسنٌ. وقد أشرنا إِلى هذا في سورة آل عمران «1» . ثم في المخاطبين بهذا قولان.
أحدهما: أنهم رؤساء اليهود، قيل لهم: فلا تخشوا الناس في إِظهار صفة محمد، والعمل بالرّجم، واخشوني في كتمان ذلك، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. قال مقاتل: الخطاب ليهود المدينة، قيل لهم: لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرّجم، ونعت محمد، واخشوني في كتمانه.
والثاني: أنهم المسلمون، قيل لهم: لا تخشوا الناس، كما خشيت اليهود الناس، فلم يقولوا الحق، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا في المراد بالآيات قولان: أحدهما: أنها صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. والثاني: الأحكام والفرائِض. والثمن القليل مذكور في البقرة.
فأمّا قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. وقوله تعالى بعدها:
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. فاختلف العلماء فيمن نزلت على خمسة أقوال «2» :
أحدها: أنها نزلت في اليهود خاصة، رواه عبيد بن عبد الله عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: أنها نزلت في المسلمين، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى. والثالث: أنها عامّة في
__________
(1) سورة آل عمران: 173.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 597: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها. وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبرا عنهم أولى قلت: ومع ذلك العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن فعل من هذه الأمة مثل أفعال اليهود ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، ومن فعل أفعال المشركين ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، ومن فعل أفعال النصارى ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، فإن هذا القرآن ما نزل لمجرد التلاوة والتبرك به، بل ليهتدى به، وليعتبر به. والله ولي التوفيق.

(1/552)


وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

اليهود، وفي هذه الأمَّة، قاله ابن مسعود، والحسن، والنخعي، والسدي. والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى، قاله أبو مجلز. والخامس: أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، قاله الشعبي.
وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان: أحدهما: أنه الكفر بالله تعالى. والثاني: أنه الكفر بذلك الحكم، وليس بكفر ينقل عن الملّة.
وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو يعلم أن الله أنزله، كما فعلت اليهود، فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلاً إِلى الهوى من غير جحود، فهو ظالم وفاسِق. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومَن أقرَّ به ولم يحكم به فهو فاسق وظالم.

[سورة المائدة (5) : آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قوله تعالى: وَكَتَبْنا أي: فرضنا عَلَيْهِمْ أي: على اليهود فِيها أي: في التوراة. قال ابن عباس: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، فما بالهم يخالفون، فيقتلون النفسين بالنفس، ويفقئون العينينِ بالعين؟ وكان على بني إِسرائيل القصاص أو العفو، وليس بينهم دية في نفس ولا جُرح، فخفف الله عن أُمة محمد بالدية. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: النَّفسَ بالنفسِ، والعينَ بالعينِ، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنَ بالسنِ، ينصبون ذلك كلَّه، ويرفعون «والجروحُ» . وكان نافع، وعاصم، وحمزة ينصبون ذلك كلَّه، وكان الكسائي يقرأ: «أن النفس بالنفس» نصباً، ويرفع ما بعد ذلك. قال أبو علي: وحجّته أن الواو لعطف الجُمل، لا للاشتراك في العامل، ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى، لأن معنى: وكتبنا عليهم: قلنا لهم: النفس بالنفس، فحمل العين على هذا، وهذه حجّة من رفع الجروح. ويجوز أن يكون مستأنفاً، لا أنه ممّا كُتب على القوم، وإِنما هو ابتداء ايجاب. قال القاضي أبو يعلى: وقوله تعالى: العين بالعين، ليس المراد قلع العين بالعين، لتَعذّر استيفاء المماثلة، لأنا لا نقف على الحدِّ الذي يجب قلعه، وإِنما يجب فيما ذهب ضوؤها وهي قائمةٌ، وصفة ذلك أن تُشدَّ عين القالع، وتُحمى مرآة، فتقدّم من العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوؤها. وأما الأنف فإذا قطع المارن، وهو ما لان منه، وتركت قصبته، ففيه القصاص، وأما إِذا قطع من أصله، فلا قصاص فيه، لأنه لا يمكن استيفاء القصاص، كما لو قطع يده من نصف الساعد. وقال أبو يوسف، ومحمد: فيه القصاص إِذا استوعب. وأما الأُذن، فيجب القصاص إذا استُوعِبَت، وعرف المقدار. وليس في عظمٍ قصاص إِلا في السن، فان قلعت قلع مثلها، وإِن كُسِرَ بعضُها، برد بمقدار ذلك. وقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ يقتضي إِيجاب القصاص في سائِر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها.
قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يشير إِلى القصاص. فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ في هاء «له» قولان:

(1/553)


وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

أحدهما: أنها إِشارة إِلى المجروح، فاذا تصدّق بالقصاص كفّر من ذنوبه، وهو قول ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والحسن، والشعبي. والثاني: إِشارة إِلى الجارح إِذا عفا عنه المجروح، كفر عنه ما جنى، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وهو محمول على أن الجاني تاب من جنايته، لأنه إِذا كان مُصرّاً فعقوبة الإِصرار باقية.

[سورة المائدة (5) : آية 46]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
قوله تعالى: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي: وأتبعنا على آثار النبيّين الذين أسلموا بِعِيسَى فجعلناه يقفو آثارهم مُصَدِّقاً أي: بعثناه مُصدّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً ليس هذا تكرار للأول، لأن الأول لعيسى، والثاني للإنجيل، لأن عيسى كان يدعو إِلى التصديق بالتوراة، والإِنجيل أنزل وفيه ذكر التّصديق بالتّوراة.

[سورة المائدة (5) : آية 47]
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
قوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ قرأ الأكثرون بجزم اللام على معنى الأمر، تقديره: وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه. وقرأ الأعمش، وحمزة بكسر اللام، وفتح الميم على معنى «كي» ، فكأنه قال: وآتيناه الإِنجيل لكي يحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله فيه.

[سورة المائدة (5) : آية 48]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن بِالْحَقِّ أي: بالصدق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ قال ابن عباس: يريد كلَّ كتاب أنزله الله تعالى.
وفي «المهيمن» أربعة أقوال: أحدها: أنه المؤيمن، رواه التميمي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. وعكرمة، وعطاء، والضحاك. وقال المبرّد: «مهيمن» في معنى: «مؤيمن» إِلا أن الهاء بدل من الهمزة، كما قالوا: أرقت الماء، وهرقت، وإِيّاك وهِيّاك. وأرباب هذا القول يقولون: المعنى:
أن القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتاب. إِلا أن ابن أبي نجيح روى عن مجاهد: ومُهيمَناً عليه. قال:
محمد مؤتمن على القرآن. فعلى قوله، في الكلام محذوف، كأنه قال: وجعلناك يا محمد مهيمناً عليه، فتكون هاء «عليه» راجعة إِلى القرآن. وعلى غير قول مجاهد ترجع إلى الكتاب المتقدّمة. والثاني: أنه الشاهد، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل. والثالث: أنه المصدِّق على ما أخبر عن الكتاب، وهذا قول ابن زيد، وهو قريبٌ من القول الأول. والرابع: أنه الرقيب الحافظ، قاله الخليل.

(1/554)


قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ يشير إِلى اليهود بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إِليك في القرآن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ. قاله أبو سليمان: المعنى: فترجع عما جاءك. قال ابن عباس: لا تأخذ بأهوائِهم في جَلد المُحصَن.
قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً قال مجاهد: الشرعة: السُّنة، والمنهاج: الطريق.
وقال ابن قتيبة: الشرعة والشريعة واحد، والمنهاج: الطريق الواضح. فان قيل: كيف نسق «المنهاج» على «الشرعة» وكلاهما بمعنى واحد؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن بينهما فرقاً من وجهين: أحدهما: أن «الشرعة» ابتداء الطريق، والمنهاج: الطريق المستمر، قاله المبرّد. والثاني: أن «الشرعة» الطريق الذي ربما كان واضحاً، وربما كان غير واضح، والمنهاج: الطريق الذي لا يكون إِلا واضحاً، ذكره ابن الأنباري. فلما وقع الاختلاف بين الشرعة والمنهاج، حَسُنَ نسق أحدهما على الآخر. والثاني: أن الشِّرعة والمنهاج بمعنى واحد، وإِنما نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين. قال الحطيئة:
ألا حَبَّذّا هندٌ وأرضٌ بها هِندُ ... وهندٌ أتى من دُونها النَّأْي والبُعْدُ
فنسق البُعد على النأي لما خالفه في اللفظ، وإِن كان موافقاً له في المعنى، ذكره ابن الأنباري.
وأجاب عنه أربابُ القول الأول، فقالوا: «النأي» كل ما قلّ بعده أو كثُر كأنه المفارقة، والبعد إِنما يُستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته.
وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: لكل ملة جعلنا شرعةً ومنهاجاً، فلأهل التوراة شريعة، ولأهل الإِنجيل شريعة، ولأهل القرآن شريعة، هذا قول الأكثرين. قال قتادة: الخطاب للأمم الثلاث: أمةِ موسى، وعيسى، وأمة محمد، فللتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللفرقان شريعة، يُحِلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرّم ما يشاء بلاءً، ليعلمَ من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يُقبل غيره، التوحيدُ والإِخلاصُ لله الذي جاءت به الرسل. والثاني: أن المعنى: لكل مَن دخل في دين محمّد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا، هذا قول مجاهد.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً فيه قولان: أحدهما: لجمعكم على الحق.
والثاني: لجعلكم على ملةٍ واحدةٍ وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ أي: ليختبركم فِي ما آتاكُمْ من الكتاب، وبيّن لكم من الملل. فإن قيل: إِذا كان المعنى بقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً: نبينا محمداً مع سائر الأنبياء قبله، فمن المخاطب بقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ؟ فالجواب: أنه خطاب لنبينا، والمراد به سائِر الأنبياء والأمم. قال ابن جرير: والعرب من شأنها إِذا خاطبت غائباً، فأرادت الخبر عنه أن تغلِّب المخاطَب، فتخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب.
قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ قال ابن عباس، والضحاك: هو خطابٌ لأمة محمد عليه السلام. قال مقاتل: و «الخيرات» : الأعمال الصالحة: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ مِن الدِّين. قال ابن جرير: قد بين ذلك في الدنيا بالأدلّة والحجج، وغدا بيبّنه بالمجازاة.

(1/555)