زاد المسير في
علم التفسير وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
[سورة المائدة (5) : آية 49]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا
تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ
بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)
قوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ
سبب نزولها:
(433) أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسد «1» ، وعبد الله بن
صُوريا، وشأس بن قيس، قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إِلى محمد،
لعلنا نفتنه عن دينه، فأتَوه، فقالوا: يا محمد، قد عرفتَ أنَّا
أحبارُ اليهود وأشرافُهم، وأنَّا إِن تبعناك، اتبعك اليهود،
وإِن بيننا وبين قوم خصومة، فنحاكمهم إِليك، فتقضي لنا عليهم،
ونحن نؤمن بك، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونزلت
هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل: أن جماعة من بني
النضير قالوا له: هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في
أمر الدماء، كما كنا عليه من قبلُ، ونبايعك؟ فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو يعلى: وليس هذه الآية تكراراً لما تقدّم،
وإِنما نزلتا في شيئين مختلفين:
أحدهما: في شأن الرّجم. والآخر: في التسوية في الديات حتى
تحاكموا إِليه في الأمرين.
قوله تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ أي: يصرفوك عَنْ
بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ وفيه قولان:
أحدهما: أنه الرّجم، قاله ابن عباس. والثاني: شأن القصاص
والدماء، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فيه قولان: أحدهما: عن حكمك.
والثاني: عن الإِيمان، فاعلم أن إِعراضهم من أجل أن الله يريد
أن يعذبهم ببعض ذنوبهم. وفي ذكر البعض قولان: أحدهما: أنه على
حقيقته، وإِنما يصيبهم ببعض ما يستحقونه. والثاني: أن المراد
به الكل، كما يُذكر لفظ الواحد ويراد به الجماعة، كقوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «2»
والمراد: جميع المسلمين. وقال الحسن: أراد ما عجَّله من إِجلاء
بني النضير وقتل بني قريظة.
قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ قال
المفسّرون: أراد اليهود. وفي المراد بالفسق هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: الكفر، قاله ابن عباس. والثاني: الكذب، قاله ابن زيد.
والثالث: المعاصي، قاله مقاتل.
[سورة المائدة (5) : آية 50]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ قرأ الجمهور
«يبغون» بالياء، لأن قبله غَيبة، وهي قوله تعالى: وَإِنَّ
كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. وقرأ ابن عامر «تبغون»
بالتاء، على معنى: قل لهم.
(434) وسبب نزولها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما حكم
بالرّجم على اليهوديّين تعلّق بنو قريظة ببني النّضير،
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 12156 من حديث ابن عباس بسند ضعيف لجهالة
محمد بن أبي محمد.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن
عباس.
وورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه النسائي 8/ 18- 19 والدارقطني عن
عكرمة عن ابن عباس قال: «كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف
من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به،
وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة أدّى مائة وسق من تمر،
فلما بعث صلّى الله عليه وسلّم قتل رجل من النضير رجلا من
قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم
النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأتوه فنزلت وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ والقسط: النفس بالنفس، ثم
نزلت أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. وهو حديث حسن.
رجاله ثقات، لكن رواية سماك عن عكرمة مضطربة وليس فيه اللفظ
المرفوع.
وكرره النسائي ومن وجه آخر عن داود بن حصين، عن عكرمة عن ابن
عباس، وداود ضعّف في روايته عن عكرمة، وورد من وجه آخر، أخرجه
أحمد 2212 والطبراني 10732 وإسناده لين لأجل عبد الرحمن بن أبي
الزناد، لكن هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله أعلم.
__________
(1) وقع في الأصل «أسيد» ، والتصويب من كتب التفسير، والحديث.
(2) سورة الطلاق: 1. [.....]
(1/556)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
وقالوا: يا محمد هؤلاء إِخواننا، أبونا
واحد، وديننا واحد، إِذا قتلوا منا قتيلاً أعطونا سبعين وسقاً
من تمر، وإِن قتلنا منهم واحداً أخذوا منا أربعين ومائة وسْق،
وإِن قتلنا منهم رجلاً قتلوا به رجلين، وإِن قتلنا امرأةً
قتلوا بها رجلاً، فاقض بيننا بالعدل، فقال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: «ليس لبني النضير على بني قريظة فضل في عقل ولا
دم» فقال بنو النضير: والله لا نرضى بقضائك، ولا نطيع أمرك،
ولنأخذن بأمرنا الأوّل، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن
عباس.
قال الزجاج: ومعنى الآية: أتطلب اليهود حكماً لم يأمر الله به،
وهم أهل كتاب الله، كما تفعل الجاهلية؟! قوله تعالى: وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً قال ابن عباس: ومن أعدل؟! وفي
قوله تعالى: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قولان: أحدهما: يوقنون
بالقرآن، قاله ابن عباس. والثاني:
يوقنون بالله، قاله مقاتل. وقال الزجاج: من أيقن تبيّن عدلَ
الله في حكمه.
[سورة المائدة (5) : آية 51]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(435) أحدها: أنها نزلت في أبي لُبابة حين قال لبني قريظة إِذ
رضوا بحكم سعد: إِنه الذّبح، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو
قول عكرمة.
(436) والثاني: أن عُبادة بن الصّامت قال: يا رسول الله إِن لي
موالي من اليهود، وإِني أبرأ إِلى الله مِن ولاية يهود، فقال
عبد الله بن أُبيّ: إِنّي رجلٌ أخاف الدوائر، ولا أبرأ إِلى
الله مِن ولاية يهود، فنزلت هذه الآية، قاله عطية العوفي.
__________
أخرجه الطبري 12166 عن عكرمة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
- وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة كما
تقدّم مرارا.
أخرجه الطبري 12162 عن عطية العوفي مرسلا، ومع إرساله، عطية
واه. وورد من مرسل الزهري، أخرجه الطبري 12163، ومراسيل الزهري
واهية. وله شاهد موصول، أخرجه الطبري 12164 عن عبادة بن
الوليد، وهذا مرسل حسن، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها،
والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 729 بتخريجنا.
(1/557)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى
أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا
أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
(437) والثالث: أنه لما كانت وقعة أُحد
خافت طائفةٌ من الناس أن يُدال عليهم الكُفَّارُ، فقال رجل
لصاحبه: أمّا أنا فألحق بفلان اليهودي، فآخذ منه أماناً، أو
أتهوّد معه، فنزلت هذه الآية، قاله السدي، ومقاتل.
قال الزجاج: لا تتولوهم في الدين. وقال غيره: لا تستنصروا بهم،
ولا تستعينوا، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في العون والنصرة.
قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
فيه قولان: أحدهما: من يتولهم في الدين، فانه منهم في الكفر.
والثاني: من يتولهم في العهد فانه منهم في مخالفة الأمر.
[سورة المائدة (5) : آية 52]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ
يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ
أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ
فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ
(52)
قوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
يُسارِعُونَ فِيهِمْ قال المفسّرون: نزلت في المنافقين، ثم لهم
في ذلك قولان:
(438) أحدهما: أن اليهود والنصارى كانوا يميرون «1» المنافقين
ويقرضونهم فيُوادُّونهم، فلما نزلت لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصارى أَوْلِياءَ قال المنافقون: كيف نقطع مودّة قوم إِن
أصابتنا سنة وسَّعوا علينا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن
ابن عباس. وممن قال: نزلت في المنافقين، ولم يعين:
مجاهد، وقتادة.
والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أُبيّ، قاله عطيّة العوفي
«2» .
وفي المراد بالمرض قولان: أحدهما: أنه الشك، قاله مقاتل.
والثاني: النّفاق، قاله الزجّاج.
وفي قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِيهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها:
يسارعون في موالاتهم ومناصحتهم، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني:
في رضاهم، قاله ابن قتيبة. والثالث: في معاونتهم على المسلمين،
قاله الزجاج. وفي المراد «بالدائرة» قولان: أحدهما: الجدب
والمجاعة، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة:
نخشى أن يدور علينا الدّهر بمكروه، يعنون الجدب، فلا
يبايعوننا، ونمتار فيهم فلا يميروننا. والثاني:
انقلاب الدولة لليهود على المسلمين، قاله مقاتل. وفي المراد
بالفتح أربعة أقوال: أحدها: فتح مكة، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: فتح قرى اليهود، قاله الضحاك. والثالث: نصر النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم على مَن خالفه، قاله قتادة، والزجاج.
والرابع: الفَرَج، قاله ابن قتيبة. وفي الأمر أربعة أقوال:
أحدها: إجلاء
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 12165 عن السدي، مرسلا، فهو ضعيف.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة كما تقدم
مرارا.
__________
(1) في «اللسان» : الميرة: الطعام يمتاره الإنسان، وفي
التهذيب: جلب الطعام للبيع وهم يمتارون لأنفسهم ويميرون غيرهم
ميرا.
(2) عطية هو ابن سعد العوفي، وهو ضعيف، لا يحتج به، إلا أن ابن
أبي هو المراد في أكثر الآيات التي تذكر المنافقين، فإنه رأس
النفاق.
(1/558)
وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي
اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (54)
بني النضير وأخذ أموالهم، وقتل قريظة، وسبي
ذراريهم، قاله ابن السائِب، ومقاتل. والثاني: الجزية، قاله
السدي. والثالث: الخصب، قاله ابن قتيبة. والرابع: أن يؤمر
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم باظهار أمر المنافقين وقتلهم،
قاله الزجاج. وفيما أسرُّوا قولان: أحدهما: موالاتهم. والثاني:
قولهم: لعل محمّدا لا ينصر.
[سورة المائدة (5) : آية 53]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ أبو عمرو، بنصب
اللام على معنى: وعسى أن يقول.
ورفعه الباقون، فجعلوا الكلام مستأنفاً. وقرأ ابن كثير، ونافع،
وابن عامر: «يقول» ، بغير واو، مع رفع اللام، وكذلك في مصاحف
أهل مكة والمدينة.
قال المفسرون: لما أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني
النضير، اشتد ذلك على المنافقين، وجعلوا يتأسفون على فراقهم،
وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إِذا رآه جادّاً في معاداة
اليهود: أهذا جزاؤهم منك، طال والله ما أشبعوا بطنك؟ فلما
قُتلت قريظة، لم يُطق أحدٌ من المنافقين ستر ما في نفسه،
فجعلوا يقولون: أربعمائة حُصِدوا في ليلةٍ، فلما رأى المؤمنون
ما قد ظهر من المنافقين، قالوا: أَهؤُلاءِ يعنون المنافقين
الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قال ابن
عباس: أغلظوا في الأيمان. وقال مقاتل:
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ القسم بالله. وقال الزجاج: اجتهدوا في
المبالغة في اليمين إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ على عدوّكم حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ بنفاقهم.
[سورة المائدة (5) : آية 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا
يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
قوله تعالى: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ قرأ ابن
كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
يرتدَّ، بإدغام الدال الأولى في الأخرى، وقرأ نافع، وابن عامر:
يرتدد، بدَّالين. قال الزجاج: «يرتدد» هو الأصل، لأن الثاني
إِذا سُكِّن مِن المضاعف، ظهر التضعيف. فأما «يرتد» فأدغمت
الدال الأولى في الثانية، وحرِّكت الثانية بالفتح، لالتقاء
الساكنين. قال الحسن: علم الله أن قوماً يرجعون عن الإِسلام
بعد موت نبيهم عليه السلام، فأخبرهم أنه سيأتي بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. وفي المراد بهؤلاء القوم ستة
أقوال «1» : أحدها: أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل
الرّدَّة، قاله علي بن أبي طالب، والحسن عليهما السلام،
وقتادة، والضحاك، وابن جريج. قال أنس بن مالك: كرهت الصحابة
قتال مانِعي الزكاة، وقالوا: أهل القبلة، فتقلَّد ابو بكر
سيفه، وخرج وحده، فلم يجدوا بُداً من الخروج على أثره.
والثاني: أبو بكر، وعمر، روي عن الحسن، أيضاً. والثالث: أنهم
قومُ أبي موسى الأشعريّ.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 626: وأولى الأقوال في ذلك
عندنا بالصواب، ما روي به الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: أنهم أهل اليمن، قومُ أبي موسى الأشعري.
(1/559)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
(439) روى عياض الأشعري أنه لما نزلت هذه
الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم قوم هذا» يعني:
أبا موسى.
والرابع: أنهم أهل اليمن، رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال
مجاهد. والخامس: أنهم الأنصار، قاله السدي. والسادس: المهاجرون
والأنصار، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير:
وقد أنجز الله ما وَعَد فأتى بقومٍ في زمن عمر كانوا أحسن
موقعاً في الإِسلام ممّن ارتد.
قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قال علي بن أبي
طالب عليه السلام: أهل رِقَّة على أهل دينهم، أهل غِلظةٍ على
من خالفهم في دينهم. وقال الزجاج: معنى «أذلة» : جانبهم ليّن
على المؤمنين، لا أنهم أذلاّءُ. يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ لأن المنافقين يراقبون
الكفار، ويظاهرونهم، ويخافون لومهم، فأعلم الله عزّ وجلّ أن
الصحيحَ الإِيمان لا يخاف في الله لومة لائم، ثم أعلمك أن ذلك
لا يكون إِلا بتوفيقه، فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشاءُ يعني: محبتهم لله، ولين جانبهم للمسلمين، وشدّتهم
على الكافرين.
[سورة المائدة (5) : الآيات 55 الى 56]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ
راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ
(56)
قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ اختلفوا
فيمن نزلت على أربعة أقوال:
(440) أحدها: أن عبد الله بن سلام وأصحابه جاءوا إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إِن قوماً قد أظهروا لنا
العداوة، ولا نستطيع أن نجالس أصحابك لبُعد المنازل، فنزلت هذه
الآية، فقالوا: رضينا
__________
حسن. أخرجه الحاكم 2/ 313 والطبري 12193 والطبراني 17/ 371
وابن سعد 4/ 80 من حديث عياض الأشعري، وصححه الحاكم، ووافقه
الذهبي وقال الهيثمي في «المجمع» 10976: رجال الطبراني رجال
الصحيح. ويشهد له ما أخرجه البيهقي في «الدلائل» 5/ 352 من
حديث أبي موسى، وما أخرجه الطبراني في «الأوسط» 1414 من حديث
جابر وقال الهيثمي 1977: إسناده حسن اه.
إسناده ضعيف جدا. بل موضوع. أخرجه الواحدي 397 بهذا اللفظ،
وأتم، عن محمد بن مروان عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن
عباس وهذا إسناد ساقط ليس بشيء. محمد بن مروان هو السدي الصغير
متروك متهم بالكذب، وابن السائب هو الكلبي أقر على نفسه
بالكذب، راجع الميزان، وأبو صالح اسمه باذام غير ثقة في ابن
عباس، والمتن باطل. وهذه السلسلة تعرف عند علماء الحديث بسلسلة
الكذب.
وأخرجه عبد الرزاق كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 92- 93 عن ابن
عباس بنحوه. باطل، قال ابن كثير: فيه عبد الوهاب بن مجاهد، لا
يحتج به اه. وقال الذهبي في «الميزان» 2/ 682: قال يحيى: ليس
يكتب حديثه وقال أحمد: ليس بشيء. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه
لا يتابع عليه. وقال البخاري: يقولون: لم يسمع من أبيه اه.
والظاهر أن هذا المتن سرقه من الكلبي فركبه على هذا الإسناد.
وأخرجه الطبري 12219 عن مجاهد مرسلا، وفيه غالب بن عبيد الله
متروك. وكرره 12216 عن أبي جعفر بلاغا، ومع ذلك هو معضل. وورد
من حديث علي أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 93
وورد من حديث عمار بن ياسر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في
«المجمع» 10978. وقال الهيثمي: فيه من لم أعرفهم اه. وزاد ابن
كثير نسبته لابن مردويه عن أبي رافع وقال ابن كثير: وليس يصح
شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها، وجهالة رجالها وانظر «تفسير
الشوكاني» 815 و 816 بتخريجنا.
(1/560)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
بالله وبرسوله وبالمؤمنين، وأذَّن بلال
بالصلاة، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا مساكين
يسأل الناس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل أعطاك
أحدٌ شيئاً» ؟ قال: نعم. قال: «ماذا» ؟ قال: خاتم فضة. قال:
«من أعطاكه» ؟ قال: ذاك القائِم، فاذا هو علي بن أبي طالب،
أعطانيه وهو راكع، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه
الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. وقال مجاهد:
نزلت في علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع «1» .
والثاني: أن عبادة بن الصّامت لما تبرأ من حلفائه اليهود نزلت
هذه الآية في حقه «2» ، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث:
أنها نزلت في أبي بكر الصديق، قاله عكرمة. والرابع: أنها نزلت
فيمن مضى من المسلمين ومن بقي منهم، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ فيه
قولان: أحدهما: أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم، وهو تصدق علي عليه
السلام بخاتمه في ركوعه. والثاني: أن من شأنهم إِيتاء الزكاة
وفعل الركوع. وفي المراد بالركوع ثلاثة أقوال: أحدها: أنه نفس
الركوع على ما روى أبو صالح عن ابن عباس. وقيل: إِن الآية نزلت
وهُم في الركوع. والثاني: أنه صلاة التطوّع بالليل والنهار،
وإنما أُفرد الركوع بالذكر تشريفاً له، وهذا مروي عن ابن عباس
أيضا. والثالث: أنه الخضوع والخشوع، وأنشدوا «3» :
لا تُذِلَّ الفقيرَ عَلََّك أنْ ... تركع يَوْماً والدَّهْرُ
قَدْ رَفَعَهْ
ذكره الماوردي. فأما حِزْبَ اللَّهِ فقال الحسن: هم جند الله.
وقال أبو عبيدة: أنصار الله. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم
المهاجرون والأنصار، قاله ابن عباس. والثاني: الأنصار، ذكره
أبو سليمان.
[سورة المائدة (5) : آية 57]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ
هُزُواً وَلَعِباً سبب نزولها:
(441) أن رفاعة بن زيد بن التابوت، وسويد بن الحارث كانا قد
أظهرا الإسلام، ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادُّونهما،
فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 12221 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لجهالة
محمد بن أبي محمد.
__________
(1) انظر الحديث المتقدم. وقال ابن كثير في «تفسيره» 2/ 73- 74
ما ملخصه: وأما قوله تعالى وَهُمْ راكِعُونَ فقد توهم بعض
الناس أن الجملة في موضع حال من قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي
في حال ركوعهم، ولو كان كذلك لكان دفع الزكاة حال الركوع أفضل
من غيره، ولم يقل به أحد من أئمة الفتوى اه. وذكره ابن تيمية
رحمه الله في «المقدمة في أصول التفسير» ، وقال: إنه من وضع
الرافضة اه والظاهر أنه من وضع الكلبي، وسرقه منه بعض الضعفاء.
(2) تقدم.
(3) الشاعر هو: الأضبط بن قريع. وقوله لا تذلّ الفقير: لا
تعادي ولا تهين.
(1/561)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ
إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
فأما اتخاذهم الدّين هزُواً ولعباً، فهو
إِظهارهم الإِسلام وإِخفاؤهم الكفر وتلاعبهم بالدين. والذين
أُوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، والكفار: عبدة الأوثان. قرأ
ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة:
وَالْكُفَّارَ بالنّصب على معنى: لا تتخذوا الكفار أولياء.
وقرأ أبو عمرو والكسائي: «والكفارِ» خفضاً، لقرب الكلام من
العامل الجارِّ، وأمال أبو عمرو الألف. وَاتَّقُوا اللَّهَ أن
تولّوهم.
[سورة المائدة (5) : آية 58]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً
وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)
قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ في سبب نزولها
قولان:
(442) أحدهما: أن منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان
إِذا نادى إِلى الصلاة، وقام المسلمون إِليها، قالت اليهود:
قاموا لا قاموا، صلوا لا صلّوا، على سبيل الاستهزاء والضحك،
فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.
(443) والثاني: أن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين على ذلك، وقالوا: يا محمد لقد
أبدعت شيئاً لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية، فان كنت
تدَّعي النبوّة، فقد خالفت في هذا الأذان الأنبياء قبلك، فما
أقبح هذا الصوت، وأسمج هذا الأمر، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض
المفسّرين.
(444) وقال السُدّي: كان رجل من النصارى بالمدينة إِذا سمع
المنادي ينادي: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: حُرِق الكاذب،
فدخلت خادمه ذات ليلة بنارٍ وهو نائم، وأهله نيام، فسقطت شرارة
فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله.
والمناداة: هي الأذان، واتخاذهم إِيّاها هزواً: تضاحكهم
وتغامزهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما لهم في
إِجابة الصلاة، وما عليهم في استهزائهم بها.
[سورة المائدة (5) : آية 59]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ
مِنَّا.
(445) سبب نزولها: أن نفراً من اليهود أتوا رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم، فسألوه عمّن يؤمن به من الرُّسل، فذكر جميع
الأنبياء، فلما ذكر عيسى، جحدوا نبوّته، وقالوا: والله ما نعلم
ديناً شراً من دينكم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله ابن
عباس.
وقرأ الحسن، والأعمش: «تَنْقَمون» بفتح القاف. قال الزجاج:
يقال: نَقَمْتُ على الرجل أنقم،
__________
عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وتقدم مرارا أنه يضع
الحديث.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 400 م، بدون إسناد، ومن غير
عزو لقائل، فهو لا شيء.
ضعيف أخرجه الطبري 12223 عن السدي مرسلا، فهو ضعيف.
ضعيف. أخرجه الطبري 12224 عن ابن عباس من طريق ابن إسحاق به،
ومداره على محمد بن أبي محمد، وهو مجهول كما في «التقريب» ، و
«الميزان» . وانظر «تفسير الشوكاني» 818 بتخريجنا.
(1/562)
قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ
شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
ونَقِمْت عليه أنقَمُ، والأول أجود. ومعنى
«نقمت» : بالغت في كراهة الشيء، والمعنى: هل تكرهون منا إِلا
إِيماننا، وفسقكم، لأنكم علمتم أننا على حقّ، وأنكم فسقتم.
[سورة المائدة (5) : آية 60]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ
اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ
مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ
أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)
قوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ قال
المفسرون: سبب نزولها قول اليهود للمؤمنين: والله ما علمنا أهل
دينٍ أقلّ حظّاً منكم في الدنيا والآخرة، ولا ديناً شرّاً من
دينكم. وفي قوله تعالى: بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ قولان: أحدهما:
بشرٍّ من المؤمنين، قاله ابن عباس. والثاني: بشرٍّ مما نقمتم
مِن إِيماننا، قاله الزجاج. فأما «المثوبة» فهي الثواب.
قال الزجاج: وموضع «مَنْ» في قوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ
اللَّهُ إِن شئت كان رفعاً، وإِن شئت كان خفضاً، فمن خفض جعله
بدلاً مِن «شرٍّ» فيكون المعنى: أُنبئكم بمن لعنه الله؟ ومن
رفع فباضمار «هو» كأنَّ قائلاً قال: مَن ذلك؟ فقيل: هو من لعنه
الله. قال أبو صالح عن ابن عباس: من لعنه الله بالجزية، وغضب
عليه بعبادة العجل، فهم شر مثوبة عند الله.
وروي عن ابن عباس أن المسخَين من أصحاب السبت: مسخ شبابهم
قردة، ومشايخهم خنازير.
وقال غيره: القردة: أصحاب السبت، والخنازير: كفار مائدة عيسى.
وكان ابن قتيبة يقول: أنا أظنُّ أن هذه القردة والخنازير هي
المسوخ بأعيانها توالدت. قال: واستدللت بقوله تعالى: وَجَعَلَ
مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ فدخول الألف واللام يدل
على المعرفة، وعلى أنها القردة التي تعاين، ولو كان أراد شيئاً
انقرض ومضى، لقال: وجعل منهم قردة وخنازير، إِلا أن يصحّ حديث
أم حبيبة في «المسوخ» فيكون كما قال عليه السلام. قلت أنا:
(446) وحديث أم حبيبة في «الصحيح» انفرد بإخراجه مسلم، وهو أنّ
رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله،
القردة والخنازير هي ممّا مُسِخ؟ فقال النبي عليه السلام: «إن
الله لم يمسخ قوماً أو يهلك قوماً، فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة،
وإِن القردة والخنازير قد كانت قبل ذلك» وقد ذكرنا في سورة
البقرة عن ابن عباس زيادة بيان ذلك، فلا يُلتفت إِلى ظن ابن
قتيبة.
قوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فيها عشرون قراءة. قرأ ابن
كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع، والكسائي: «وعبد»
بفتح العين والباء والدال، ونصب تاء «الطاغوت» . وفيها وجهان:
أحدهما: أن المعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد
الطاغوت. والثاني: أن المعنى: من لعنه الله وعبد الطاغوت. وقرأ
حمزة: «وعَبُدَ الطاغوتِ» بفتح العين والدال، وضم الباء، وخفض
تاء الطاغوت. قال ثعلب: ليس لها وجه إِلا أن يجمع فَعْل على
فَعُل. وقال الزجاج: وجهها أن الاسم بني على «فَعُل» كما تقول:
عَلُم زيد، ورجل حَذُر، أي: مبالغ في الحذر. فالمعنى: جعل منهم
خَدَمة
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2663 والحميدي 125 وأحمد 1/ 395- 396- 397-
422 وأبو يعلى 5313 من حديث ابن مسعود عن أم حبيبة.
(1/563)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ
قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ
خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ
(61)
الطاغوت ومن بلغ في طاعة الطاغوت الغاية.
وقرأ ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، «وعَبَدُوا» ، بفتح العين
والباء ورفع الدال على الجمع «الطاغوتَ» بالنصب. وقرأ ابن
عباس، وابن أبي عبلة: «وعَبَدَ» بفتح العين والباء والدال،
إِلا أنهما كسرا تاء «الطاغوت» . قال الفراء: أرادا «عبدة»
فحذفا الهاء. وقرأ أنس بن مالك: «وعَبيدَ» بفتح العين والدال
وبياء بعد الباء وخفض تاء «الطاغوت» . وقرأ أيوب، والأعمش:
«وعُبَّدَ» ، برفع العين ونصب الباء والدال مع تشديد الباء،
وكسر تاء «الطاغوت» . وقرأ أبو هريرة، وأبو رجاء، وابن
السميفع، «وعابد» بألف، مكسورة الباء مفتوحة الدال، مع كسر تاء
الطّاغوت. وقرأ أبو العالية، ويحيى بن وثَّاب: «وعُبُدَ» برفع
العين والباء وفتح الدال، مع كسر تاء الطاغوت. قال الزجاج:
هو جمع عبيد، وعُبُد مثل رغيف، ورغُف، وسرير، وسُرُر، والمعنى:
وجعل منهم عبيد الطاغوت.
وقرأ أبو عمران الجوني، ومورّق العجلي، والنخعي: «وعُبِدَ»
برفع العين وكسر الباء مخففة، وفتح الدال مع ضم تاء «الطاغوت»
. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعكرمة: «وعَبَّد» بفتح
العين والدال وتشديد الباء، مع نصب تاء الطاغوت. وقرأ الحسن،
وأبو مجلز، وأبو نهيك: «وعَبْدَ» بفتح العين والدال، وسكون
الباء خفيفة مع كسر تاء الطّاغوت. وقرأ قتادة، وهذيل بن
شرحبيل: «وعَبَدَة» بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ
منصوبة بعد الدال «الطواغيت» بالف وواو وياء بعد الغين على
الجمع. وقرأ الضحاك، وعمرو بن دينار: «وعُبَدَ» برفع العين
وفتح الباء والدال مع تخفيف الباء، وكسر تاء «الطاغوت» . وقرأ
سعيد بن جبير، والشعبي: «وعَبْدَة» مثل حمزة، إِلا أنهما رفعا
تاء «الطاغوت» .
وقرأ يحيى بن يعمر، والجحدري: «وعَبُدُ» بفتح العين ورفع الباء
مع كسر تاء «الطاغوت» . وقرأ أبو الأشهب العطاردي: «وعُبْدَ»
برفع العين وتسكين الباء، ونصب الدال، مع كسر تاء «الطاغوت» .
وقرأ أبو السّمّال: «وعبدة» بفتح العين والباء والدال وتاء في
اللفظ بعد الدال مرفوعة مع كسر تاء «الطّاغوت» . وقرأ معاذ
القارئ: «وعابد» مثل قراءة أبي هريرة إِلا أنه ضم الدال. وقرأ
أبو حياة:
«وعُبّادَ» بتشديد الباء وبألف بعدها مع رفع العين، وفتح
الدال. وقرأ ابن حَذْلَمْ، وعمرو بن فائد:
«وعبّاد» مثل أبي حياة إِلا أن العين مفتوحة والدال مضمومة.
وقد سبق ذكر «الطاغوت» في سورة البقرة. وفي المراد به هاهنا
قولان: أحدهما: الأصنام. والثاني: الشيطان.
قوله تعالى: أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً أي: هؤلاء الذين وصفناهم
شر مكاناً من المؤمنين، ولا شرّ في مكان المؤمنين، ولكن الكلام
مبني على كلام الخصم، حين قالوا للمؤمنين: لا نعرف شراً منكم،
فقيل: من كان بهذه الصّفة، فهو شرّ منهم.
[سورة المائدة (5) : آية 61]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ
وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا
يَكْتُمُونَ (61)
قوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا.
(447) قال قتادة: هؤلاء ناسٌ من اليهود كانوا يدخلون على رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم، فيخبرونه أنهم مؤمنون بما جاء به،
وهم متمسّكون بضلالتهم.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 12234 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف.
(1/564)
وَتَرَى كَثِيرًا
مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ
قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ
مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ (64)
قوله تعالى: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ
أي: دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين، فالكفر معهم في حالتيهم،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ من الكفر
والنّفاق.
[سورة المائدة (5) : آية 62]
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ (62)
قوله تعالى: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعني: اليهود
يُسارِعُونَ، أي: يبادرون فِي الْإِثْمِ وفيه قولان: أحدهما:
أنه المعاصي، قاله ابن عباس. والثاني: الكفر، قاله السدي.
فأما العدوان فهو الظلم. وفي «السحت» ثلاثة أقوال: أحدها:
الرّشوة في الحكم. والثاني:
الرشوة في الدين. والثالث: الربا.
[سورة المائدة (5) : آية 63]
لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ
قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما
كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
قوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبارُ «لولا» بمعنى: «هلاّ» ، و «الربّانيون» مذكورون
في آل عمران، ووَ الْأَحْبارُ قد تقدم ذكرهم في هذه السورة.
وهذه الآية من أشد الآيات على تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، لأن الله تعالى جمع بين فاعل المنكر وتارك الإِنكار في
الذم. قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخاً من هذه
الآية.
[سورة المائدة (5) : آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ
أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ
يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً
وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى
يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ قال
أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في فنحاص اليهودي وأصحابه، قالوا:
يد الله مغلولة. وقال مقاتل: فنحاص وابن صلوبا «1» ، وعازر بن
أبي عازر. وفي سبب قولهم هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أن الله
تعالى كان قد بسط لهم الرزق، فلما عصوا الله تعالى في أمر
محمّد صلّى الله عليه وسلّم وكفروا به كفَّ عنهم بعض ما كان
بسط لهم، فقالوا: يد الله مغلولة، رواه أبو صالح عن ابن عباس،
وبه قال عكرمة. والثاني: أن الله تعالى استقرض منهم كما استقرض
من هذه الأمة، فقالوا:
إِن الله بخيل، ويده مغلولة فهو يستقرضنا، قاله قتادة.
والثالث: أن النصارى لما أعانوا بختنصر المجوسي على تخريب بيت
المقدس، قالت اليهود: لو كان الله صحيحاً لمنعنا منه، فيده
مغلولة، ذكره قتادة أيضاً.
والمغلولة: الممسَكة المنقبضة. وعن ماذا عَنوا أنها ممسكة، فيه
قولان:
أحدهما: عن العطاء، قاله ابن عباس، وقتادة، والفرّاء، وابن
قتيبة، والزجّاج.
والثاني: ممسكة من عذابنا، فلا يعذبنا إِلا تحلّة القسم بقدر
عبادتنا العجل، قاله الحسن.
وفي قوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها: غلت
في جهنم، قاله الحسن. والثاني:
أُمسكت عن الخير، قاله مقاتل. والثالث: جُعِلوا بُخلاء، فهم
أبخل قوم، قاله الزجّاج. قال ابن
__________
(1) كذا في الأصل، وفي بعض كتب التفسير «صوريا» .
(1/565)
الأنباري: وهذا خبر أخبر الله تعالى به
الخلق أن هذا قد نزل بهم، وموضعه نصب على معنى الحال.
تقديره: قالت اليهود هذا في حال حكم الله بغل أيديهم، ولعنته
إِياهم، ويجوز أن يكون المعنى: فغلت أيديهم، ويجوز أن يكون
دعاء، معناه: تعليم الله لنا كيف ندعو عليهم، كقوله تعالى:
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «1» وقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «2» .
وفي قوله تعالى: وَلُعِنُوا بِما قالُوا ثلاثة أقوال: أحدها:
أُبعدوا من رحمة الله. والثاني: عذّبوا قردة بالجزية، وفي
الآخرة بالنّار. الثالث: مُسخوا قردة وخنازير.
(448) وروى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«من لعن شيئاً لم يكن للعنه أهلاً رجعت اللعنة على اليهود
بلعنة الله إِياهم» .
قال الزجاج: وقد ذهب قومٌ إِلى أن معنى «يد الله» : نعمته،
وهذا خطأ ينقضه بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ فيكون المعنى على
قولهم: نعمتاه، ونعم الله أكثر من أن تحصى. والمراد بقوله: بل
يَداهُ مَبْسُوطَتانِ:
أنه جواد ينفق كيف يشاء، وإِلى نحو هذا ذهب ابن الأنباري. قال
ابن عباس: إِن شاء وسَّع في الرزق، وإِن شاء قتَّر.
قوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً قال الزجاج: كلما
أُنزل عليك شيء كفروا به، فيزيد كفرهم. و «الطّغيان» هاهنا:
الغلو في الكفر. وقال مقاتل: وليزيدن بني النضير ما أُنزل
إِليك من ربك من أمر الرجم والدّماء طغياناً وكفراً.
قوله تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ
وَالْبَغْضاءَ فيمن عني بهذا قولان: أحدهما: اليهود والنصارى،
قاله ابن عباس: ومجاهد، ومقاتل. فإن قيل: فأين ذكر النصارى؟
فالجواب: أنه قد تقدم في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ. والثاني: أنهم اليهود،
قاله قتادة.
قوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا
اللَّهُ ذِكْر إِيقاد النار مَثَلٌ ضُربَ لاجتهادهم في
المحاربة، وقيل: إِن الأصل في استعارة اسم النار للحرب أن
القبيلة من العرب كانت إِذا أرادت حرب أُخرى أوقدت النار على
رؤوس الجبال، والمواضع المرتفعة، ليعلم استعدادهم للحرب،
فيتأهب من يريد إِعانتهم. وقيل: كانوا إِذا تحالفوا على الجدِّ
في حربهم، أوقدوا ناراً، وتحالفوا. وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: كلما جمعوا لحرب النبي صلّى الله عليه وسلّم فرّقهم
الله. والثاني: كلما مكروا مكراً رده الله. قوله
__________
لا أصل له في المرفوع، وقد صح ما يعارضه، وهو ما أخرجه أبو
داود 4908 والترمذي 1978 وابن حبان 5745 والطبراني 12757 عن
ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلّى الله عليه وسلّم،
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلعن الريح، فإنها مأمورة،
وليس أحد يلعن شيئا ليس له بأهل إلا رجعت عليه اللعنة» . رجاله
ثقات رجال الشيخين، لكن فيه عنعنة قتادة. وله شاهد من حديث ابن
مسعود، أخرجه أحمد 1/ 408 وجوده المنذري في «الترغيب» 4108.
وله شاهد من حديث أبي الدرداء، أخرجه أبو داود 4905 بإسناد
ضعيف لكن يصلح شاهدا لما قبله. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها،
فهو خبر صحيح. وهو يعارض حديث المصنف، لأن في هذه الأحاديث عود
اللعنة على صاحبها إن لم يكن الآخر أهلا لها، في حين سياق
المصنف ابن الجوزي فيه عودها على اليهود في جميع الأحوال.
__________
(1) سورة المسد: 1.
(2) سورة الفتح: 27.
(1/566)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ
مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
تعالى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً
فيه أربعة أقوال: أحدها: بالمعاصي، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: بمحو ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من كتبهم، ودفع
الإِسلام، قاله الزجاج. والثالث: بالكفر. والرابع:
بالظّلم، ذكرهما الماورديّ.
[سورة المائدة (5) : آية 65]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ
جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ يعني: اليهود
والنصارى آمَنُوا بالله وبرسله وَاتَّقَوْا الشرك لَكَفَّرْنا
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي سلفت.
[سورة المائدة (5) : آية 66]
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ
مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ قال ابن عباس: عملوا بما فيها. وفيما أُنزل
إِليهم من ربهم قولان: أحدهما: كتب أنبياء بني إِسرائيل.
والثاني: القرآن، لأنهم لما خوطبوا به، كان نازلاً إِليهم.
قوله تعالى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ فيه قولان:
أحدهما: لأكلوا بقطر السماء، ونبات الأرض، وهذا قول ابن عباس،
ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أن المعنى: لوسِّع عليهم، كما يقال: فلان في خير من
قرنه إِلى قدمه، ذكره الفراء، والزجاج. وقد أعلم الله تعالى
بهذا أن التقوى سبب في توسعة الرزق كما قال: لَفَتَحْنا
عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «1» وقال:
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «2» .
قوله تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ يعني: من أهل
الكتاب، وهم الذين أسلموا منهم، قاله ابن عباس، ومجاهد. وقال
القرظي: هم الذين قالوا: المسيح عبد الله ورسوله. و «الاقتصاد»
الاعتدال في القول والعمل من غير غلوّ ولا تقصير.
[سورة المائدة (5) : آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت على أسباب: روى الحسن
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
(449) «لما بعثني الله برسالته، ضقت بها ذرعاً، وعرفت أن من
الناس من يكذِّبني» ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
يهابُ قريشاً واليهود والنصارى، فأنزل الله هذه الآية.
__________
ضعيف. أخرجه أبو الشيخ كما في «أسباب النزول» للسيوطي 438. وهو
مرسل. ومراسيل الحسن واهية كما هو مقرر في كتب المصطلح. وانظر
«تفسير الشوكاني» 825 بتخريجنا.
__________
(1) سورة الأعراف: 96.
(2) سورة الطلاق: 3.
(1/567)
(450) وقال مجاهد: لما نزلت يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ قال:
«يا رب كيف أصنع؟
إِنما أنا وحدي يجتمع عليَّ الناس» ، فأنزل الله وَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ.
(451) وقال مقاتل: لما دعا اليهود، وأكثر عليهم، جعلوا
يستهزئون به، فسكت عنهم، فحُرِّض بهذه الآية.
(452) وقال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
يُحرَسُ فيرسل معه أبو طالب كلَّ يوم رجالاً من بني هاشم
يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية، فقال: «يا عمّاه إِن الله قد
عصمني من الجن والإِنس» .
(453) وقال أبو هريرة: نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات
يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجلٌ فأخذه، فقال: يا محمد
من يمنعني منك؟ فقال: «الله» ، فنزل قوله تعالى: وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
(454) وقالت عائشة: سهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات
ليلة، فقلت: ما شأنك؟ قال: ألا رجلٌ صالح يحرسني الليلة،
فبينما نحن في ذلك إِذ سمعت صوت السّلاح، فقال: «من هذا» ؟
فقال: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم حتى سمعت غطيطه «1» ، فنزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ، فأخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه من قبة
أدم «2» وقال «انصرفوا أيها النّاس، فقد عصمني الله تعالى» .
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 12275 عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان إذا أطلق، وخبره معضل، وهو
متروك متهم إذا وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟!
باطل. أخرجه الطبراني 1663 وابن عدي 7/ 22/ 1960 من حديث ابن
عباس، وأعلّه ابن عدي بالنضر بن عبد الرحمن الخزّاز ونقل عن
البخاري قوله: منكر الحديث. وقال النسائي متروك. وكذا ضعفه
الهيثمي به في «المجمع» 10981 وله علة ثانية عبد الحميد بن عبد
الرحمن الحمّاني وثقه ابن معين وفي رواية: ضعفه. وكذا ضعفه
أحمد وابن سعد وقال النسائي: ليس بالقوي. والآية مدنية كما ذكر
المصنف فالمتن منكر جدا، بل هو باطل. وانظر «تفسير القرطبي»
2751 و «ابن كثير» 2/ 102 بتخريجنا.
أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 103 من طريق حماد
بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وإسناده
حسن، رجاله ثقات سوى محمد بن عمرو، وهو حسن الحديث.
أخرجه الترمذي 3046 والحاكم 2/ 313 والطبري 12279 والواحدي 404
من حديث عائشة. صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي:
حديث غريب ورواه بعضهم مرسلا بدون ذكر عائشة اه. والمرسل أخرجه
الطبري 12277، وإسناده أصح من الموصول. وورد بمعناه من حديث
أبي سعيد الخدري أخرجه الطبراني في «الصغير» 418 والأوسط كما
في «المجمع» 10980 وأعله الهيثمي بعطية العوفي، وقال ضعيف.
وأصله عند البخاري 2885 ومسلم 2410 دون ذكر الآية وسبب النزول
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم
سهر، فلما قدم المدينة قال: «ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني
الليلة» إذ سمعنا صوت السلاح، فقال «من هذا؟» فقال: أنا سعد بن
أبي وقاص جئت لأحرسك. «فنام النبي صلّى الله عليه وسلّم» لفظ
البخاري.
وانظر «تفسير الشوكاني» 829 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» : الغطيط: هو صوت النائم المرتفع.
(2) الأدم: الأديم: الجلد ما كان، وقيل: الأحمر وقيل: هو
المدبوغ- والجمع الأدم.
(1/568)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
قال الزجّاج: قوله تعالى: بَلِّغْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ معناه: بلغ جميع ما أُنزل إِليك، ولا تراقبن
أحداً، ولا تتركنَّ شيئاً منه مخافة أن ينالك مكروه، فان تركت
منه شيئاً، فما بلَّغت. قال ابن قتيبة:
يدل على هذا المحذوف قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ. وقال
ابن عباس: إِن كتمت آية فما بلَّغت رسالتي. وقال غيره: المعنى:
بلِّغ جميع ما أُنزل إِليك جهراً، فان أخفيت شيئاً منه لخوف
أذىً يلحقك، فكأنك ما بلَّغت شيئاً. وقرأ أبو عمرو، وحمزة،
والكسائي: «رسالته» على التوحيد. وقرأ نافع «رسالاته» على
الجمع.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ قال ابن
قتيبة: أي يمنعك منهم. وعصمة الله: منعه للعبد من المعاصي،
ويقال: طعام لا يعصم، أي: لا يمنع من الجوع. فان قيل: فأين
ضمان العصمة وقد شُجَّ جبينه، وكسِرت رَباعيته، وبولغ في أذاه؟
فعنه جوابان: أحدهما: أنه عصمه من القتل والأسرِ وتلفِ الجملة،
فأمّا عوارض الأذى، فلا تمنع عصمة الجملة. والثاني: أن هذه
الآية نزلت بعد ما جرى عليه ذلك، لأن «المائدة» من أواخر ما
نزل.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ
فيه قولان: أحدهما: لا يهديهم إِلى الجنة.
والثاني: لا يعينهم على بلوغ غرضهم.
[سورة المائدة (5) : آية 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى
تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ
ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا
تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ
سبب نزولها:
(455) أن اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألست تؤمن
بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها حق؟ قال:
بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها، فأنا بريء من إِحداثكم.
فقالوا: نحن على الهدى، ونأخذ بما في أيدينا، ولا نؤمن بك،
فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
فأما أهل الكتاب، فالمراد بهم اليهود والنّصارى. وقوله تعالى:
لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي: لستم على شيء من الدين الحق حتى
تقيموا التوراة والإِنجيل، وإِقامتهما: العمل بما فيهما، ومن
ذلك الإِيمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم. وفي الذي أُنزل
إِليهم من ربهم قولان قد سبقا، وكذلك باقي الآية.
[سورة المائدة (5) : آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ
وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (69)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا
وَالصَّابِئُونَ قد ذكرنا تفسيرها في البقرة. وكذلك اختلفوا في
إِحكامها ونسخها كما بينا هناك. فأما رفع «الصابئين» فذكر
الزجاج عن البصريين، منهم الخليل، وسيبويه أن قوله:
«والصابئون» محمول على التأخير، ومرفوع بالابتداء. والمعنى:
إِن الذين آمنوا والذين هادوا من آمَن بالله واليوم الآخر وعمل
صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
__________
إسناده ضعيف. أخرجه الطبري 12287 من طريق محمد بن إسحاق عن
محمد بن أبي محمد به، ومحمد هذا مجهول كما تقدم مرارا. وانظر
«تفسير الشوكاني» بتخريجنا.
(1/569)
لَقَدْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا
كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ
فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا
أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
والصابئون والنصارى كذلك أيضاً، وأنشدوا:
وإِلاَّ فاعلموا أنَّا وأنتم ... بُغاةٌ ما بقينا في شقاق «1»
المعنى: فاعلموا أنا بُغاة ما بقينا في شقاق، وأنتم أيضا كذلك.
[سورة المائدة (5) : آية 70]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا
إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى
أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)
قوله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قال
مقاتل: أخذ ميثاقهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها. قال ابن
عباس: كان فيمن كُذِّبُوا. محمد وعيسى، وفيمن قتلوا: زكريا
ويحيى. قال الزجاج:
فأما التكذيب، فاليهود والنصارى يشتركون فيه. وأمّا القتل
فيختصّ اليهود.
[سورة المائدة (5) : آية 71]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ
تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ
مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
قوله تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قرأ ابن كثير،
ونافع، وعاصم، وابن عامر: تَكُونَ بالنصب، وقرأ أبو عمرو،
وحمزة، والكسائي: «تكون» بالرفع، ولم يختلفوا في رفع «فتنة» .
قال مكي بن أبي طالب: من رفع جعل «أن» مخفّفة من الثقيلة،
وأضمر معها «الهاء» ، وجعل «حسبوا» بمعنى: أيقنوا، لأن «أن»
للتأكيد، والتأكيد لا يجوز إِلا مع اليقين. والتقدير: أنه لا
تكون فتنة. ومن نصب جعل «أن» هي الناصبة للفعل، وجعل «حسبوا»
بمعنى: ظنوا. ولو كان قبل «أن» فعلٌ لا يصلح للشك، لم يجز أن
تكون إِلا مخففة من الثقيلة، ولم يجز نصب الفعل بها، كقوله
تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ «2»
وعَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ «3» . وقال أبو علي: الأفعال ثلاثة:
فعلٌ يدلُ على ثبات الشيء واستقراره، نحو العلم والتيقّن،
وفعلٌ يدلُ على خلاف الثبات والاستقرار، وفعلٌ يجذب إِلى هذا
مرة، وإِلى هذا أُخرى، فما كان معناه العلم، وقعت بعده «أن»
الثقيلة، لأن معناها ثبوت الشيء واستقراره، كقوله تعالى:
وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ «4»
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى «5» ، وما كان على غير
وجه الثبات والاستقرار نحو: أطمع وأخاف وأرجو، وقعت بعده «أن»
الخفيفة، كقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ
اللَّهِ «6» تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ «7» فَخَشِينا
أَنْ يُرْهِقَهُما «8» أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي «9» ، وما
كان متردداً بين الحالين مثل حسبتُ وظننت، فإنه يُجعلُ تارةً
بمنزلة العلم، وتارةً بمنزلة أرجو وأطمع، وكلتا القراءتين في
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قد جاء بها التنزيل. فمثل
مذهب من نصب: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
أَنْ نَجْعَلَهُمْ
«10» أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ
يَسْبِقُونا «11»
__________
(1) البيت لبشر بن أبي خازم كما في «شواهد المعيني» 2/ 271.
[.....]
(2) سورة طه: 89.
(3) سورة المزمل: 20.
(4) سورة النور: 25.
(5) سورة العلق: 14.
(6) سورة البقرة: 229.
(7) سورة الأنفال: 26.
(8) سورة الكهف: 80.
(9) سورة الشعراء: 82.
(10) سورة الجاثية: 21.
(11) سورة العنكبوت: 4.
(1/570)
لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا
اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ
النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ
وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ
يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا «1» ،
ومثلُ مذهب مَنْ رفع: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ «2»
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ «3» . قال ابن
عباس: ظنوا أن الله لا يعذّبهم، ولا يبتليهم بقتلهم الأنبياء،
وتكذيبهم الرسل.
قوله تعالى: فَعَمُوا وَصَمُّوا قال الزجاج: هذا مثل تأويله:
أنهم لم يعملوا بما سمعوا ورأوا من الآيات، فصاروا كالعمي
الصمّ.
قوله تعالى: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فيه قولان: أحدهما:
رفع عنهم البلاء، قاله مقاتل. وقال غيره: هو ظفرهم بالأعداء،
وذلك مذكور في قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ
عَلَيْهِمْ. والثاني: أن معنى «تاب عليهم» : أرسل إِليهم
محمداً يعلمهم أن الله قد تاب عليهم إِن آمنوا وصدقوا، قاله
الزجاج.
وفي قوله تعالى: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا قولان: أحدهما: لم
يتوبوا بعد رفع البلاء، قاله مقاتل. والثاني:
لم يؤمنوا بعد بعثة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: كَثِيرٌ مِنْهُمْ أي: عمي وصم كثيرٌ منهم، كما
تقول: جاءني قومُك أكثرُهم. قال ابن الأنباري: هذه الآية نزلت
في قوم كانوا على الكفر قبل أن يبعث رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، فلما بعث كذبوه بغياً وحسداً، وقدَّروا أن هذا الفعل لا
يكون مُوبقاً لهم، وجانياً عليهم، فقال الله تعالى: وَحَسِبُوا
أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: ظنوا ألا تقع بهم فتنة في
الإِصرار على الكفر، فعموا وصموا بمجانبة الحق. ثُمَّ تابَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: عرّضهم للتّوبة بأن أرسل محمّدا صلّى
الله عليه وسلّم وإِن لم يتوبوا، ثم عموا وصموا بعد بيان الحق
بمحمد، كثيرٌ منهم، فخصّ بعضهم بالفعل الأخير، لأنهم لم
يجتمعوا كلهم على خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة المائدة (5) : آية 72]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ
ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)
قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قال مقاتل: نزلت في نصارى
نجران، قالوا ذلك. قوله تعالى: وَقالَ الْمَسِيحُ أي: وقد كان
المسيح قال لهم وهو بين أظهرهم: إِنه من يشرك بالله فقد حرم
الله عليه الجنة.
[سورة المائدة (5) : آية 73]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ
وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا
عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (73)
قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ
ثالِثُ ثَلاثَةٍ قال مجاهد: هم النصارى. قال وهب بن منبّه: لما
وُلد عيسى لم يبق صنم إِلا خرَّ لوجهه، فاجتمعت الشياطين إِلى
إِبليس، فأخبروه، فذهب فطاف أقطار الأرض، ثم رجع، فقال: هذا
المولود الذي ولد من غير ذكر، أردت أن أنظر إِليه، فوجدت
الملائكة قد حفّت بأمِّه، فليتخلف عندي اثنان من مردتكم، فلما
أصبح. خرج بهما في
__________
(1) سورة العنكبوت: 2.
(2) سورة المؤمنون: 95.
(3) سورة الزخرف: 80.
(1/571)
أَفَلَا يَتُوبُونَ
إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا
يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ
الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
صورة الرجال، فأتوا مسجد بني إِسرائيل وهم
يتحدثون بأمر عيسى، ويقولون: مولود من غير أب.
فقال إِبليس: ما هذا ببشر، ولكن الله أحبَّ أن يتمثّل في
امرأةٍ ليختبر العباد، فقال أحد صاحبيه: ما أعظم ما قلت، ولكن
الله أحب أن يتخذ ولداً. وقال الثالث: ما أعظم ما قلت، ولكن
الله أراد أن يجعل إِلها في الأرض، فألقوا هذا الكلام على
ألسنة الناس، ثم تفرَّقوا، فتكلم به الناس. وقال محمد بن كعب:
لمّا رفع عيسى اجتمع مائة من علماء بني إِسرائيل، وانتخبوا
منهم أربعة، فقال أحدهم:
عيسى هو الله كان في الأرض ما بدا له، ثم صعِد إِلى السماء،
لأنه لا يحيي الموتى ولا يبرئ الأكمه والأبرص إِلا الله. وقال
الثاني: ليس كذلك، لأنا قد عرفنا عيسى، وعرفنا أُمه، ولكنّه
ابن الله. وقال الثالث: لا أقول كما قلتما، ولكن جاءت به أُمه
من عمل غير صالح. فقال الرابع: لقد قلتم قبيحاً، ولكنه عبد
الله ورسوله، وكلمته، فخرجوا، فاتبع كلَّ رجل منهم عُنُقٌ «1»
من الناس. قال المفسّرون:
ومعنى الآية: أن النصارى قالت: الإِلهية مشتركة بين الله وعيسى
ومريم، وكل واحد منهم إِلهٌ. وفي الآية إِضمار، فالمعنى: ثالث
ثلاثة آلهة، فحذف ذكر الآلهة، لأن المعنى مفهوم، لأنه لا يكفر
من قال: هو ثالث ثلاثة، ولم يرد الآلهة، لأنه ما من اثنين إِلا
وهو ثالثهما، وقد دل على المحذوف قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ. قال الزجاج: ومعنى ثالث ثلاثة: أنه أحد
ثلاثة. ودخلت «من» في قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ للتوكيد.
والذين كفروا منهم، هم المقيمون على هذا القول. وقال ابن جرير:
المعنى: ليَمسّن الذين يقولون: المسيح هو الله، والذين يقولون:
إِن الله ثالث ثلاثة، وكلّ كافر يسلك سبيلهم، عذاب أليم.
[سورة المائدة (5) : آية 74]
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
قوله تعالى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ قال الفراء: لفظه
لفظ الاستفهام، ومعناه الأمر، كقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ.
[سورة المائدة (5) : آية 75]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ
الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ
انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
قوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ فيه
ردٌ على اليهود في تكذيبهم رسالته، وعلى النصارى في ادّعائهم
إِلهيَّته. والمعنى: أنه ليس بالهٍ، وإِنما حكمُه حكم من سبقه
من الرسل. وفي قوله تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ردٌ على من
نسبها من اليهود إِلى الفاحشة. قال الزجاج: والصدّيقة:
المبالغة في الصدق، وصدِّيق «فعِّيل» من أبنية المبالغة، كما
تقول: فلانٌ سكّيت، أي: مبالغ في السكوت. وفي قوله تعالى: كانا
يَأْكُلانِ الطَّعامَ قولان: أحدهما: أنه بيّن أنهما يعيشان
بالغذاء، ومن لا يُقيمه إِلا أكل الطعام فليس باله، قاله
الزجاج. والثاني: أنه نبه بأكل الطعام على عاقبته، وهو الحدث،
إِذ لا بد لآكل الطعام من الحدث، قاله ابن قتيبة. قال: وقوله
تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ من ألطف ما
يكون من الكناية. و «يؤفكون» : يُصرفون عن الحق ويُعدَلون،
يقال: أفِك الرجل عن كذا:
__________
(1) في «اللسان» العنق: الجماعة الكثيرة من الناس. [.....]
(1/572)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا
نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ
وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ
وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى
لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا
عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ
عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
(79)
إِذا عدل عنه، وأرض مأفوكة: محرومة المطر
والنّبات، كأنّ ذلك صرف عنها وعدل.
[سورة المائدة (5) : آية 76]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ
ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(76)
قوله تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال مقاتل:
قل لنصارى نجران: أتعبدون من دون الله، يعني عيسى ما لا يملك
لكم ضراً في الدنيا، ولا نفعاً في الآخرة. والله هو السميع
لقولهم: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، العليم بمقالتهم.
[سورة المائدة (5) : آية 77]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ
الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ
قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ
(77)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ قال مقاتل: هم نصارى
نجران. والمعنى: لا تغلوا في دينكم، فتقولوا غير الحق في عيسى.
وقد بيّنا معنى «الغلو» في آخر سورة (النساء) . قوله تعالى:
وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ
قال أبو سليمان: من قبل أن تَضِلُّوا. وفيهم قولان: أحدهما:
أنهم رؤساء الضَّلالَةِ من اليهود. والثاني: رؤساء اليهود
والنصارى، والآية خطاب للذين كانوا في عصر نبيّنا صلّى الله
عليه وسلّم نُهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم.
[سورة المائدة (5) : آية 78]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ
داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا
يَعْتَدُونَ (78)
قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ
في لعنهم قولان:
أحدهما: أنه نفس اللعن، ومعناه المباعدة من الرحمة. قال ابن
عباس: لُعنوا على لسان داود، فصاروا قردة، ولعنوا على لسان
عيسى في الإِنجيل. قال الزجاج: وجائز أن يكون داود وعيسى
أُعْلِمَا أن محمداً نبيّ، ولعنا من كفر به. والثاني: أنه
المسخ، قاله مجاهد، لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، وعلى
لسان عيسى، فصاروا خنازير. وقال الحسن، وقتادة: لعن أصحاب
السبت على لسان داود، فانهم لما اعتدوا، قال داود: اللهم
العنهم، واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولعن أصحاب المائدة على
لسان عيسى، فانهم لما أكلوا منها ولم يؤمنوا قال عيسى: اللهم
العنهم كما لعنت أصحاب السبت، فجُعلوا خنازير.
قوله تعالى: ذلِكَ بِما عَصَوْا أي: ذلك اللعن بمعصيتهم لله
تعالى في مخالفتهم أمره ونهيه، وباعتدائِهم في مجاوزة ما حدّه
لهم.
[سورة المائدة (5) : آية 79]
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما
كانُوا يَفْعَلُونَ (79)
قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ
التناهي: تفاعل من النهي، أي: كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً عن
المنكر. وذكر المفسّرون في هذا المنكر ثلاثة أقوال: أحدها:
صيدُ السّمك يوم السبت. والثاني: أخذ الرشوة في الحكم.
والثالث: أكل الربا، وأثمان الشحوم. وذِكْر المنكر منكَّراً
يدل على الإِطلاق، ويمنع هذا الحصر، ويدلُ على ما قلنا:
(1/573)
تَرَى كَثِيرًا
مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ
مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً
لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ
(82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى
أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ
الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (83)
(456) ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم أنه قال: «إِن الرجل من بني إِسرائيل كان إِذا رأى أخاه
على الذنب نهاه عنه تعذيراً، فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى
منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه، فلما رأى الله تعالى ذلك
منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن
مريم» .
قوله تعالى: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ قال الزجاج:
اللاّم دخلت للقسم والتوكيد، والمعنى:
لبئس شيئاً فعلهم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 80 الى 81]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ
كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
قوله تعالى: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ في المشار
إِليهم قولان: أحدهما: أنهم المنافِقُون، روي عن ابن عباس،
والحسن، ومجاهد. والثاني: أنهم اليهود، قاله مقاتل في آخرين،
فعلى هذا القول انتظام الآيات ظاهر، وعلى الأول يرجع الكلام
إلى قوله تعالى فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
يُسارِعُونَ فِيهِمْ. وفي الذين كفروا قولان: أحدهما: أنهم
اليهود، قاله أرباب القول الأول.
والثاني: أنهم مشركو العرب، قاله أرباب هذا القول الثاني.
قوله تعالى: لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي:
بئسما قدموا لمعادهم أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال
الزجاج: يجوز أن تكون «أن» في موضع رفع على إِضمار هو، كأنه
قيل: هو أن سخط الله عليهم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 83]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا
الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ
مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى
ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ
لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى
الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ
آمَنُوا الْيَهُودَ قال المفسّرون: نزلت هذه الآية وما بعدها
مما يتعلق بها في النجاشي وأصحابه. قال سعيد بن جبير: بعث
النجاشي قوما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلموا،
فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها، وسنذكر قصّتهم فيما بعد.
قال الزجاج: واللام في «لتجدن» لام القسم، والنون دخلت تفصل
بين الحال والاستقبال، و «عداوة» منصوب على التمييز، واليهود
ظاهروا المشركين على المؤمنين حسداً للنبيّ عليه السّلام.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: عبدة الأوثان. فأما
الذين قالوا إِنا نصارى، فهل هذا عام
__________
أخرجه أبو داود 4336 و 4337 والترمذي 3050 وابن ماجة 4006
وأحمد 1/ 391 من حديث أبي عبيدة عن أبيه عن ابن مسعود، وفيه
إرسال بينهما. وله شاهد من حديث أبي موسى، أخرجه الطبراني كما
في «المجمع» 12153 وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح اه. وفي
الباب أحاديث يحسن بها، وقد وهم من حكم بضعفه.
(1/574)
في كل النصارى أم خاص؟ فيه قولان: أحدهما:
أنه خاص، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه أراد النجاشي وأصحابه لما
أسلموا، قاله ابن عباس وابن جبير. والثاني: أنهم قوم من
النصارى كانوا متمسّكين بشريعة عيسى، فلما جاء محمد عليه
السلام أسلموا، قاله قتادة. والقول الثاني: أنه عام. قال
الزجاج:
يجوز أن يراد به النصارى لأنهم كانوا أقلَّ مظاهرةً للمشركين
من اليهود.
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً
قال الزجاج: «القس» و «القسيس» من رؤساء النصارى. وقال قطرب:
القسيس: العالم بلغة الروم، فأما الرهبان: فهم العباد أرباب
الصوامع. قال ابن فارس: الترهّب: التعبّد، فان قيل: كيف مدحهم
بأن منهم قسيسين ورهبانا وليس ذلك من أمرِ شريعتنا؟ فالجواب:
أنه مدحهم بالتمسّك بدين عيسى حين استعملوا في أمر محمد ما أخذ
عليهم في كتابهم، وقد كانت الرهبانية مستحسنة في دينهم.
والمعنى: بأن فيهم علماء بما أوصى به عيسى من أمر محمّد صلّى
الله عليه وسلّم. قال القاضي أبو يعلى: وربما ظن جاهلٌ أن في
هذه الآية مدح النصارى، وليس كذلك، لأنه إِنما مدح مَن آمن
منهم، ويدل عليه ما بعد ذلك، ولا شك أن مقالة النصارى أقبح من
مقالة اليهود.
قوله تعالى: وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، أي: لا يتكبرون
عن إتباع الحق.
قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ.
(457) قال ابن عباس: لمّا حضر أصحاب النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم بين يدي النّجاشيّ، وقرءوا القرآن، سمع ذلك القسيسون
والرهبان، فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، فقال الله تعالى:
ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ إلى قوله تعالى:
الشَّاهِدِينَ.
(458) وقال سعيد بن جبير: بعث النجاشي من خيار أصحابه ثلاثين
رجلاً إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليهم القرآن،
فبكوا ورقُّوا، وقالوا: نعرف والله، وأسلموا، وذهبوا إِلى
النجاشي فأخبروه فأسلم، فأنزل الله فيهم وَإِذا سَمِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ... الآية.
(459) وقال السدي: كانوا اثني عشر رجلاً سبعة من القسيسين،
وخمسة من الرّهبان، فلمّا قرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم القرآن، بكوا وآمنوا، فنزلت هذه الآية فيهم «1» .
__________
حسن. أخرجه الطبري 12320 من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
بأتم منه، ورجاله ثقات، لكن فيه إرسال بين علي وابن عباس. وله
شاهد عن عبد الله بن الزبير، أخرجه النسائي في «التفسير» 168
والطبري 12330، وله شاهد من مرسل عطاء، أخرجه الطبري 12322.
مرسل. أخرجه الطبري 12318 عن خصيف الجزري عن سعيد بن جبير
مرسلا.
- وكرره برقم 12328 عن سالم الأفطس عن سعيد به.
مرسل. أخرجه الطبري 12321 بأتم منه عن السدي مرسلا، والمرسل من
قسم الضعيف. وله شاهد عن أبي صالح، أخرجه الطبري 12326 وهو
مرسل، وفيه راو لم يسمّ. الخلاصة: هذه الروايات جميعا تتأيد
بمجموعها، فيكون النجاشي وأصحابه الذين آمنوا بالنبي صلّى الله
عليه وسلّم من هؤلاء، ويدخل في ذلك كل من اتصف بذلك من أهل
الكتاب، وأصح ما في الباب حديث ابن الزبير وابن عباس. وانظر
التعليق الآتي.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «جامع البيان» 5/ 5: والصواب في
ذلك من القول عندي: أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا: إِنَّا
نَصارى، أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يجدهم أقرب الناس
ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمّ لنا أسماءهم، وقد
يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي، ويجوز أن يكونوا قوما
كانوا على شريعة عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا
القرآن وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه.
(1/575)
وَمَا لَنَا لَا
نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ
أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ
الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ
حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ
مُؤْمِنُونَ (88)
قوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ، أي: مع من يشهد بالحق. وللمفسرين في المراد
بالشاهدين هاهنا أربعة أقوال: أحدها: محمد وأُمته، رواه علي بن
أبي طلحة، وعكرمة عن ابن عباس.
والثاني: أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم، رواه أبو صالح عن
ابن عباس. والثالث: الذين يشهدون بالإِيمان، قاله الحسن.
والرابع: الأنبياء والمؤمنون، قاله الزجّاج.
[سورة المائدة (5) : الآيات 84 الى 86]
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ
وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ
الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ
جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
قوله تعالى: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ قال ابن عباس:
لامهم قومهم على الإِيمان، فقالوا هذا، وفي القوم الصالحين
ثلاثة أقوال: أحدها: أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
قاله ابن عباس. والثاني: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وأصحابه، قاله ابن زيد. والثالث: المهاجرون الأولون، قاله
مقاتل.
قوله تعالى: وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: ثواب
المؤمنين.
[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما
أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ
بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا
طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ في سبب نزولها ثلاثة
أقوال:
(460) أحدها: أن رجالاً من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
منهم عثمان بن مظعون، حرّموا اللحم والنساء على أنفسهم،
وأرادوا جبّ أنفسهم ليتفرّغوا للعبادة، فقال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: «لم أُومر بذلك» ، ونزلت هذه الآية، رواه
العوفي عن ابن عباس.
__________
حسن. أخرجه الطبري 12350 وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن
عباس وكرره 12351 من وجه آخر عنه، وفيه عطية العوفي واه، وورد
مرسلا عن عكرمة أخرجه الطبري وهذا ضعيف لإرساله ومن مرسل قتادة
أخرجه الطبري 12348 مطولا، ومن مرسل السدي أخرجه 12349 وكرره
12340 من مرسل أبي مالك و 12345 من مرسل أبي قلابة. وذكره
الواحدي في «الأسباب» 411 بقوله: قال المفسرون اه. رووه بألفاظ
متقاربة، والمعنى متحد، وهذه الروايات المرسلة والموصولة تتأيد
بمجموعها، فالحديث حسن.
- وفي الصحيح أن عثمان بن مظعون نهاه رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم عن التبتل دون ذكر الآية وهو عند البخاري 5073 و 5074،
ومسلم 1402 والترمذي 1083 والنسائي 6/ 58 وابن ماجة 1848 وأحمد
1/ 175- 183 والدارمي 2/ 133 وابن حبان 4027 والبغوي 2237
والبيهقي 7/ 97 من حديث سعد بن أبي وقاص قال: ردّ رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له
لاختصينا. وانظر «أحكام القرآن» 737.
(1/576)
(461) وروى أبو صالح عن ابن عباس، قال:
كانوا عشرة: أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وعثمان بن
مظعون، والمقداد بن الأسود، وسالم مولى أبي حذيفة، وسلمان
الفارسي، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، اجتمعوا في دار عثمان بن
مظعون، فتواثقوا على ذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فقال: «من رغب عن سنَّتي فليس مني» ونزلت هذه الآية.
(462) قال السدي: كان سبب عزمهم على ذلك أنّ رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم جلس يوماً، فلم يزدهم على التخويف، فرقَّ
الناس، وبكوا، فعزم هؤلاء على ذلك، وحلفوا على ما عزموا عليه.
(463) وقال عكرمة: إِن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعثمان بن
مظعون، والمقداد، وسالماً مولى أبي حُذيفة في أصحابه،
تبتَّلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح
«1» ، وحرموا طيبات الطعام واللباس، إِلا ما يأكل ويلبس أهل
السياحة من بني إِسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام
الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية.
(464) والثاني: أن رجلاً أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
فقال: إِني إِذا أكلت من هذا اللحم، أقبلت على النساء، وإِني
حرَّمته عليّ، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(465) والثالث: أن ضيفاً نزل بعبد الله بن رواحة، ولم يكن
حاضراً، فلما جاء، قال لزوجته: هل أكل الضيف؟ فقالت: انتظرتك.
فقال: حبست ضيفي من أجلي؟! طعامك عليّ حرام. فقالت: وهو عليَّ
حرام إِن لم تأكله، فقال الضيف: وهو عليَّ حرام إِن لم تأكلوه،
فلما رأى ذلك ابن رواحة قال:
قرّبي طعامك، كلوا بسم الله، ثم غدا إلى النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم، فأخبره بذلك فقال: أحسنت، ونزلت هذه الآية، وقرأ حتى
بلغ لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ،
رواه عبد الرحمن بن زيد عن أبيه.
فأما «الطيبات» فهي اللذيذات التي تشتهيها النّفوس ممّا أبيح،
وفي قوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا خمسة أقوال: أحدها: لا تجبّوا
أنفسكم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وإِبراهيم. والثاني:
لا
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في
روايته عن ابن عباس، وراويته هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث،
وذكر أبي بكر وعمر في هذا الحديث غريب جدا.
أخرجه الطبري 12349 عن السدي مرسلا مطولا، وهذا المتن أصله
محفوظ بشواهده المرسلة والموصولة.
هو مرسل، وانظر ما تقدم.
ضعيف. أخرجه الترمذي 3054 والطبري 2354 وابن عدي 5/ 1070
والواحدي 410 من حديث ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف عثمان بن
سعد الكاتب، وبه أعله ابن عدي. وأما الترمذي فقال: حسن غريب،
ورواه بعضهم عن عثمان بن سعد مرسلا، ليس فيه عن ابن عباس،
ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلا اه. قلت: هو خبر ضعيف،
والصواب ما ذكره أئمة التفسير ومنهم ابن عباس، انظر الحديث
المتقدم. انظر «أحكام القرآن» 740 بتخريجنا.
ضعيف جدا، أخرجه الطبري 12353 عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن
أبيه مرسلا، ومع إرساله عبد الرحمن متروك الحديث. والصحيح في
سبب النزول ما قبله. وحديث ابن رواحة في الصحيح، وليس فيه ذكر
نزول الآية راجع البخاري 3581 وصحيح مسلم 2057. وانظر «أحكام
القرآن» 738 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» : المسوح: جمع مسح: وهو كساء من شعر يلبسه
الرهبان.
(1/577)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (89)
تأتوا ما نهى الله عنه، قاله الحسن.
والثالث: لا تسيروا بغير سيرة المسلمين مِن ترك النساء،
وإِدامة الصيام، والقيام، قاله عكرمة. والرابع: لا تحرّموا
الحلال، قاله مقاتل. والخامس: لا تغصبوا الأموال المحرّمة،
ذكره الماورديّ.
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ
يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ
إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (89)
قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمانِكُمْ سبب نزولها:
(466) أنه لما نزل قوله تعالى: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما
أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ قال القوم الذين كانوا حرّموا النساء
واللحم: يا رسول الله كيف نصنع بأيْماننا التي حلفنا عليها؟
فنزلت هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس. وقد سبق ذكر
«اللغو» في سورة البقرة.
قوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قرأ ابن كثير،
ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم:
«عقدتم» بغير ألف، مشددة القاف. قال أبو عمرو: معناها: وكدّتم،
وقرأ أبو بكر، والمفضّل عن عاصم: «عقَدْتُم» خفيفة بغير ألف،
واختارها أبو عبيد. قال ابن جرير: معناها: أوجبتموها على
أنفسكم «1» . وقرأ ابن عامر: «عاقدتم» بألف، مثل «عاهدتم» .
قال القاضي أبو يعلى: وهذه القراءة المشددة لا تحتمل إِلا عقد
قول. فأما المخففة، فتحتمل عقد القلب، وعقد القول. وذكر
المفسّرون في
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 12360 عن عطية بن سعد العوفي عن ابن عباس،
وإسناده ضعيف لضعف عطية.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 469- 471 ما
ملخصه: فصل: فإن قال: أقسمت، أو آليت، أو حلفت، أو شهدت
لأفعلنّ، ولم يذكر بالله. فعن أحمد روايتان، إحداهما: أنها
يمين، سواء نوى اليمين أو أطلق، وروي نحو ذلك عن عمر وابن عباس
والنخعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وعن أحمد: إن نوى اليمين
بالله كان يمينا، وإلا فلا، وهو قول مالك وإسحاق وابن المنذر،
لأنه يحتمل القسم بالله تعالى وبغيره، فلم تكن يمينا حتى يصرفه
بنيته إلى ما تجب به الكفارة، وقال الشافعي: ليس بيمين وإن
نوى، وروي نحو ذلك عن عطاء والحسن والزهري وقتادة وأبي عبيد
لأنها عريت عن اسم الله تعالى وصفته فلم تكن يمينا. ولنا أنه
ثبت لها عرف الشرع والاستعمال فإن أبا بكر قال: أقسمت عليك يا
رسول الله، لتخبرني بما أصبت مما أخطأت، فقال: النبي صلّى الله
عليه وسلّم «لا تقسم يا أبا بكر» رواه أبو داود. وقال العباس
للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أقسمت عليك يا رسول الله
لتبايعنّه، فبايعه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «أبررت
قسم عمي، ولا هجرة» . وفي كتاب الله إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إلى اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ
جُنَّةً فسماها يمينا.
- فصل: وإن قال: أعزم، أو عزمت لم يكن قسما، نوى به القسم أو
لم ينو، لأنه لم يثبت لهذا اللفظ عرف في شرع ولا استعمال، ولا
هو موضوع للقسم، ولا فيه دلالة عليه.
- مسألة: أو بأمانة الله قال القاضي: لا يختلف المذهب في أن
الحلف بأمانة الله يمين مكفرة، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال
الشافعي: لا تنعقد اليمين بها إلا أن ينوي الحلف بصفة الله
تعالى.
- فصل: فإن قال: والأمانة لا فعلت. ونوى الحلف بأمانة الله فهي
يمين مكفّرة. وإن أطلق فعلى روايتين:
إحداهما: يكون يمينا، والثانية: لا يكون يمينا، لأنه لم يضفها
إلى الله تعالى.
(1/578)
معنى الكلام قولين: أحدهما: ولكن يؤاخذكم
بما عقَّدتم عليه قلوبكم في التعمد لليمين، قاله مجاهد.
والثاني: بما عقَّدتم عليه قلوبكم أنه كذب، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ «1» قال ابن جرير: الهاء عائدةٌ
على «ما» في قوله: «بما عقَّدتم» .
فصل: فأما إِطعام المساكين «2» ، فروي عن ابن عمر، وزيد بن
ثابت، وابن عباس، والحسن في آخرين: أنّ لكلّ مساكين مدّ برّ،
وبه قال مالك، والشافعي. وروي عن عمر، وعليّ، وعائشة في آخرين:
لكلّ مساكين نصف صاع من بُرّ، قال عمر، وعائشة: أو صاعاً من
تمر، وبه قال أبو حنيفة.
ومذهب أصحابنا في جميع الكفارات التي فيها إِطعام، مثل كفارة
اليمين، والظهار، وفدية الأذى، والمفرّطة في قضاء رمضان، مُدّ
بُرٍّ، أو نصف صاع تمر أو شعير. ومِنْ شرط صحة الكفارة، تمليك
الطعام للفقراء، فإن غدَّاهم وعشَّاهم، لم يجزئه، وبه قال سعيد
بن جبير، والحكم، والشافعي. وقال الثوري، والأوزاعي: يجزئه،
وبه قال أبو حنيفة، ومالك «3» . ولا يجوز صرف مدّين إلى مساكين
واحد «4» ، ولا إخراج القيامة في الكفارة، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجوز. قال الزجاج: وإِنما وقع لفظ التّذكير في
المساكين، ولو كانوا إِناثاً لأجزأ، لأن المغلَّب في كلام
العرب التذكير. وفي قوله تعالى: مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ قولان:
أحدهما: من أوسطه في القدر، قاله عمر، وعلي، وابن عباس،
ومجاهد.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 481- 482:
كفارة سائر الأيمان تجوز قبل الحنث وبعده، صوما كانت أو غيره،
في قول أكثر أهل العلم، وبه قال مالك، وممن روي عنه جواز تقديم
التكفير عمر وابنه وابن عباس وسلمان الفارسي ومسلمة بن مخلد،
وبه قال الحسن وابن سيرين وربيعة والأوزاعي والثوري وابن
المبارك وإسحاق وأبو عبيد وأبو خيثمة وسليمان بن داود، وقال
أصحاب الرأي: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث، لأنه تكفير قبل وجود
سببه، وقال الشافعي كقولنا، في الإعتاق والإطعام والكسوة.
وكقولهم في الصيام من أجل أنه عبادة بدنية.
قلت: ويخطئ أكثر العامة حيث يظنون أن المتعين هو صيام ثلاثة
أيام. ولا يعرفون غير ذلك؟!!
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 511: لا يجزئ
في الكفارة إخراج قيمة الطعام، ولا الكسوة، في قول إمامنا
ومالك والشافعي وابن المنذر، وهو الظاهر من قول عمر وابن عباس
وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي. وأجازه الأوزاعي وأصحاب
الرأي اه ملخصا. وانظر القرطبي 6/ 280.
(3) قال الإمام القرطبي في «تفسيره» 6/ 277: قال مالك: إن غدّى
عشرة مساكين وعشاهم أجزأه. وقال الشافعي: لا يجوز أن يطعمهم
جملة واحدة، لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطي كل مساكين مدا.
وروي عن علي: لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة. يعني غداء دون
عشاء، أو عشاء دون غداء حتى يغدّيهم ويعشيهم. قال أبو عمر: وهو
قول أئمة أهل الفتوى بالأمصار. وانظر ما ذكره 6/ 276.
(4) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 513: المكفّر
لا يخلو من أن يجد المساكين بكمال عددهم، أو لا يجدهم، فإن
وجدهم لم يجزئه إطعام أقل من عشرة في كفارة اليمين، ولا أقل من
ستين في كفارة الظهار، وكفارة الجماع في رمضان وبهذا قال
الشافعي وأبو ثور. وأجاز الأوزاعي دفعها إلى واحد. وقال أبو
عبيد: إن خص بها أهل بيت شديدي الحاجة جاز. وقال أصحاب الرأي:
يجوز أن يرددها على مساكين واحد في عشرة أيام إن كانت كفارة
يمين، أو في ستين إن كان الواجب إطعام ستين مسكينا. ولا يجوز
دفعها إليه في يوم واحد. وحكاه أبو الخطاب عن أحمد اه ملخصا.
وانظر القرطبي 6/ 278.
(1/579)
والثاني: مِن أوسط أجناس الطعام، قاله ابن
عمر، والأسود، وعَبيدة، والحسن، وابن سيرين.
وروي عن ابن عباس قال: كان أهل المدينة يقرون للحُرِّ مِن
القوت أكثر ما للمملوك، وللكبير أكثر ما للصغير، فنزلت مِنْ
أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ليس بأفضله ولا بأخسِّه.
وفي كسوتهم خمسة أقوال: أحدها: أنها ثوبٌ واحدٌ، قاله ابن
عباس، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، والشافعي. والثاني: ثوبان، قاله
أبو موسى الأشعري، وابن المسيّب، والحسن، وابن سيرين، والضحاك.
والثالث: إِزار ورداء وقميص، قاله ابن عمر. والرابع: ثوب جامع
كالملحفة، قاله إِبراهيم النخعي. والخامس: كسوة تجزئ فيها
الصلاة، قاله مالك. ومذهب أصحابنا: أنه إِن كسا الرجل، كساه
ثوباً، والمرأة ثوبين، درعاً وخماراً، وهو أدنى ما تُجزئ فيه
الصلاة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو الجوزاء ويحيى بن يعمر: «أو
كُسوتهم» بضم الكاف. وقد قرأ سعيد بن جبير وأبو العالية وأبو
نهيك ومعاذ القارئ: «أو كاسوتهم» بهمزة مكسورة مفتوحة الكاف
مكسورة التاء والهاء. وقرأ ابن السميفع وأبو عمران الجوني
مثله، إِلا إنهما فتحا الهمزة. قال المصنف:
ولا أرى هذه القراءة جائزة لأنها تسقط أصلاً من أصول الكفارة.
قوله تعالى: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ تحريرها: عتقها، والمراد
بالرقبة: جملة الشخص. واتفقوا على اشتراط إِيمان الرقبة في
كفارة القتل لموضع النص. واختلفوا في إِيمان الرقبة المذكورة
في هذه الكفارة على قولين: أحدهما: أنه شرط، وبه قال الشافعي،
لأن الله تعالى قيد بذكر الإِيمان في كفارة القتل، فوجب حمل
المطلق على المقيّد. والثاني: ليس بشرط، وبه قال أبو حنيفة،
وعن أحمد رضي الله عنه في إِيمان الرقبة المعتقة في كفارة
اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع، والمنذورة، روايتان.
قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ اختلفوا فيما إِذا لم يجده،
صام، على خمسة أقوال: أحدها: أنه إِذا لم يجد درهمين صام، قاله
الحسن. والثاني: ثلاثة دراهم، قاله سعيد بن جبير. والثالث:
إِذا لم يجد إِلا قَدْرَ ما يكفِّر به، صام، قاله قتادة.
والرابع: مائتي درهم، قاله أبو حنيفة. والخامس: إِذا لم يكن له
إِلا قدر قوته وقوت عائلته يومه وليلته «1» ، قاله أحمد،
والشافعي. وفي تتابع الثّلاثة أيام «2» ، قولان: أحدهما: أنه
__________
(1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 533: ويكفّر بالصوم من
لم يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته، مقدار ما يكفر به
وجملة ذلك أن كفارة اليمين تجمع تخييرا وترتيبا، فيتخير بين
الخصال الثلاث، ويعتبر أن لا يجد فاضلا عن قوته وقوت عياله
يومه وليلته قدرا يكفّر به، وهذا قول إسحاق، وأبو عبيد وقال
الشافعي من جاز له الأخذ من الزكاة لحاجته وفقره، أجزأه
الصيام، لأنه فقير. وقال سعيد بن جبير، إذا لم يملك إلا ثلاثة
دراهم، كفّر بها. وقال الحسن: درهمين. وهذان القولان نحو
قولنا، ووجه ذلك أن الله اشترط للصيام، أن لا يجد. فاعتبر فيه
الفاضل عن قوته وقوت عياله، يومه وليلته، كصدقة الفطر.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 528: ظاهر
المذهب اشتراط التتابع في الصوم كذلك قال النخعي، والثوري،
وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن علي
رضي الله عنه، وبه قال عطاء ومجاهد، وعكرمة.
وعن أحمد رواية أخرى، أنه يجوز تفريقها. وبه قال مالك والشافعي
في أحد قوليه لأن الأمر بالصوم مطلق، فلا يجوز تقييده إلا
بدليل. وفي قراءة ابن مسعود: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» كذلك
ذكره أحمد: إن كان قرآنا فهو حجة، وإن لم يكن قرآنا، فهو رواية
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأيضا هو حجة فوجب التتابع.
(1/580)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
شرط، وكان أُبيّ، وابن مسعود يقرآن: «فصيام
ثلاثة أيام متتابعات» وبه قال ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، وعطاء،
وقتادة، وأبو حنيفة، وهو قول أصحابنا. والثاني: ليس بشرط،
ويجوز التفريق، وبه قال الحسن، ومالك. وللشافعي فيه قولان.
قوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ
فيه إِضمار تقديره: إذا حلفتم وحنثتم.
وفي قوله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها:
أقلّوا منها، ويشهد له قوله تعالى:
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ، وأنشدوا:
قليل الألايا حافظ ليمينه «1»
والثاني: احفظوا أنفسكم من الحنث فيها. والثالث: راعوها لكي
تؤدّوا الكفّارة عند الحنث فيها.
[سورة المائدة (5) : آية 90]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(467) أحدها: أن سعد بن أبي وقاص أتى نفراً من المهاجرين
والأنصار، فأكل عندهم، وشرب الخمر قبل أن تحرم، فقال:
المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجلٌ لَحْي جمل فضربه، فجدع
أنفه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فنزلت هذه
الآية، رواه مصعب بن سعد عن أبيه.
(468) وقال سعيد بن جبير: صنع رجل من الأنصار صنيعاً، فدعا سعد
بن أبي وقاص، فلما أخذت فيهم الخمرة افتخروا واستبُّوا، فقام
الأنصاري إِلى لحي بعير، فضرب به رأس سعد، فإذا الدم على وجهه،
فذهب سعد يشكو إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزل تحريم
الخمر في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى
قوله تعالى: تُفْلِحُونَ.
(469) والثاني: أن عمر بن الخطاب قال: اللهم بين لنا في الخمر
بيانا شافيا فنزلت التي في «البقرة» فقال: اللهم بيِّن لنا في
الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في النساء لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر
بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية، رواه أبو ميسرة عن عمر.
(470) والثالث: أن أُناساً من المسلمين شربوها، فقاتل بعضهم
بعضاً، وتكلموا بما لا يرضاه الله من القول، فنزلت هذه الآية،
رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
__________
صحيح. أخرجه مسلم 4/ 1877 ح 1748 والواحدي 412 وأحمد 1/ 181-
185 والبيهقي 8/ 285 والطبري 12522 و 12523 من حديث سعد. وانظر
«تفسير الشوكاني» 851 بتخريجنا.
هو مرسل، لكن يشهد له ما قبله.
مضى في سورة البقرة، وهو حديث حسن.
فيه انقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس، لكن يشهد له ما
تقدم.
__________
(1) هو صدر بيت لكثير عزة وتمامه: وإن سبقت منه الألية برّت.
(1/581)
إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى
رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
(471) والرابع: أن قبيلتين من الأنصار
شربوا، فلما ثَمِلوا عبث بعضهم ببعض، فلما صحَوْا جعل الرجل
يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته، فيقول: صنع بي هذا أخي فلان!!
والله لو كان بي رؤوفاً ما صنع بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم
الضغائن، وكانوا إِخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فنزلت هذه الآية،
رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وقد ذكرنا الخمر والميسر في البقرة «1» وذكرنا في «النصب» في
أوّل هذه السورة «2» قولين، وهما اللذان ذكرهما المفسرون في
الأنصاب. وذكرنا هناك «الأزلام» . فأما الرجس، فقال الزجاج: هو
اسمٌ لكل ما اسْتُقْذِرَ من عمل، يقال: رَجُس الرَّجل يرجُس،
ورَجِسَ يَرْجَسُ: إِذا عمل عملاً قبيحاً، والرَّجس بفتح
الراء: شدّة الصوت، فكأن الرِّجسَ، العملُ الذي يقبح ذكره،
ويرتفع في القبح، ويقال:
رعدٌ رجّاس: إِذا كان شديد الصوت.
قوله تعالى: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ قال ابن عباس: من تزيين
الشيطان. فإن قيل: كيف نُسِبَ إِليه، وليس من فعله؟ فالجواب:
أن نسبته إِليه مجاز، وإِنما نسب إِليه، لأنه هو الداعي إِليه،
المزيّن له، ألا ترى أن رجلاً لو أغرى رجلاً بضرب رجل، لجاز أن
يقال له: هذا من عملك.
قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ قال الزجاج: اتركوه. واشتقاقه في
اللغة: كونوا جانباً منه. فإن قيل:
كيف ذكر في هذه الآية أشياء، ثم قال: فاجتنبوه؟ فالجواب: أن
الهاء عائدةٌ على الرجس، والرجس واقعٌ على الخمر، والميسر،
والأنصاب، والأزلام، ورجوع الهاء عليه بمنزلة رجوعها على الجمع
الذي هو واقعٌ عليه، ومنبئ عنه، ذكره ابن الأنباريّ.
[سورة المائدة (5) : الآيات 91 الى 92]
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ
أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ أما «الخمر» فوقوع العداوة والبغضاء فيها على
نحو ما ذكرنا في سبب نزول الآية من القتال والمماراة. وأما
الميسر، فقال قتادة: كان الرجل يقامر على أهله وماله، فيُقمَرُ
ويبقى حزيناً سليباً، فينظر إِلى ماله في يد غيره، فيكسبه ذلك
العداوة والبغضاء.
قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فيه قولان: أحدهما:
أنه لفظ استفهام، ومعناه الأمر. تقديره:
انتهوا. قال الفراء: ردّد علي أعرابيٌ: هل أنت ساكتٌ، هل أنت
ساكت؟ وهو يريد: اسكت، اسكت.
والثاني: أنه استفهام، لا بمعنى الأمر. ذكر شيخنا علي بن عبيد
الله أن جماعة كانوا يشربون الخمر بعد
__________
حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 171 والطبري 12526 والحاكم 4/
141 والبيهقي 8/ 285 والطبراني 12459، عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس. وسكت عنه الحاكم، وصححه الذهبي على شرط مسلم، وهو كما
قال، ويشهد له ما قبله، بل ربما تعددت الأسباب فنزلت الآيات في
جميع ذلك.
__________
(1) سورة البقرة: 219.
(2) سورة المائدة: 3.
(1/582)
لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا
وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
هذه الآية، ويقولون: لم يحرّمها، إِنما
قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، فقال بعضنا: انتهينا، وقال
بعضنا: لم ننته، فلما نزلت قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ حُرّمت،
لأن «الإِثم» اسمٌ للخمر.
وهذا القول ليس بشيء، والأوّل أصح.
قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما
أمَرَاكم، واحذروا خلافهما فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي:
أعرضتم، فاعلموا أنما على رسولنا محمد البلاغ المبين وهذا
وعيدٌ لهم، كأنه قال فاعلموا أنّكم قد استحققتم العقاب
لتولّيكم.
[سورة المائدة (5) : آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ
اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا سبب نزولها:
(472) أن ناسا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ماتوا وهم
يشربون الخمر، إِذ كانت مباحة، فلما حرِّمت قال ناس: كيف
بأصحابنا وقد ماتوا وهم يشربونها؟! فنزلت هذه الآية، قاله
البراء بن عازب.
و «الجناح» : الإِثم. وفيما طعموا ثلاثة أقوال: أحدها: ما
شربوا من الخمر قبل تحريمها، قاله ابن عباس، قال ابن قتيبة:
يقال: لم أطعم خُبْزاً وأدماً ولا ماءً ولا نوماً. قال الشاعر:
فَإنْ شئتِ حرَّمتُ النِّساء سِواكُم ... وإِن شئتِ لم أطْعَمْ
نُقَاخاً ولا بَرْدَا «1»
النقاخ: الماء البارد الذي ينقخ الفؤاد ببرده، والبرد: النوم.
والثاني: ما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر. والثالث: ما
طعموا من المباحات.
وفي قوله تعالى: إِذا مَا اتَّقَوْا ثلاثة أقوال: أحدها: اتقوا
بعد التحريم، قاله ابن عباس.
والثاني: اتقوا المعاصي والشرك. والثالث: اتقوا مخالفة الله في
أمره. وفي قوله تعالى: وَآمَنُوا قولان: أحدهما: آمنوا بالله
ورسوله. والثاني: آمنوا بتحريمها.
قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال مقاتل: أقاموا على
الفرائض.
__________
صحيح. أخرجه الترمذي 3050 و 3051 والطيالسي 715 وأبو يعلى 1719
و 1720 وابن حبان 5350 والطبري 12533 من حديث البراء، وإسناده
صحيح على شرطهما، لكن فيه عنعنة أبي إسحاق، وهو مدلس، وجاء في
رواية أبي يعلى: قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: أسمعته من البراء،
قال: لا اه.
ومع ذلك يعتضد بحديث أنس: قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي
طلحة فنزل تحريم الخمر فأمر مناديا فنادى فقال أبو طلحة: اخرج
فانظر ما هذا الصوت قال: فخرجت، قال: فجرت في سكك المدينة قال:
وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ، فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في
بطونهم قال: فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا. أخرجه البخاري
4620 ومسلم 1980 والحميدي 1210 وأحمد 3/ 183 والنسائي 8/ 287
وابن حبان 5352 و 5363 و 5364 والبيهقي 8/ 286 والبغوي 2043 من
طرق عن أنس، رووه بألفاظ متقاربة، واللفظ للبخاري.
__________
(1) البيت للعرجي وهو في ديوانه: 109 و «اللسان» مادة: نقخ.
(1/583)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ
الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ
اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ
ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ
مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا
بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ
عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا
اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ
مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّقَوْا في هذه التقوى
المعادة أربعة أقوال: أحدها: أن المراد خوف الله عزّ وجلّ.
والثاني: أنها تقوى الخمر والميسر بعد التحريم. والثالث: أنها
الدوام على التقوى. والرابع: أن التقوى الأولى مخاطبة لمن
شربها قبل التحريم، والثانية لمن شربها بعد التحريم.
قوله تعالى: وَآمَنُوا في هذا الإِيمان المُعاد قولان: أحدهما:
صدّقوا بجميع ما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والثاني:
آمنوا بما يجيء من الناسخ والمنسوخ.
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا في هذه التقوى
الثالثة أربعة أقوال: أحدها: اجتنبوا العودَ إِلى الخمر بعد
تحريمها، قاله ابن عباس: والثاني: اتقوا ظلم العباد. والثالث:
توقوا الشبهات. والرابع:
اتقوا جميع المحرّمات. وفي الإِحسان قولان: أحدهما: أحسنوا
العمل بترك شربها بعد التحريم، قاله ابن عباس. والثاني: أحسنوا
العمل بعد تحريمها، قاله مقاتل.
[سورة المائدة (5) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ
بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ
لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى
بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ
اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ.
(473) قال المفسّرون: لما كان عام الحديبية، وأقام النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم بالتنعيم، كانت الوحوش والطير تغشاهم في
رحالهم، وهم مُحرِمون، فنزلت هذه الآية، ونهوا عنها ابتلاء.
قال الزجاج: اللام في «ليبلونَّكم» لام القسم، ومعناه: لنختبرن
طاعتكم من معصيتكم. وفي «من» قولان: أحدهما: أنها للتبعيض، ثم
فيه قولان: أحدهما: أنه عنى صيد البرِّ دون صيد البحر.
والثاني: أنه عنى الصيد ما داموا في الإِحرام كأنَّ ذلك بعض
الصيد. والثاني: أنها لبيان الجنس، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ.
قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال مجاهد:
الذي تناله اليد: الفراخ والبيض، وصغار الصيد، والذي تناله
الرماح: كبار الصيد.
قوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ قال مقاتل: ليرى الله من يخافه
بالغيب ولم يَره، فلا يتناول الصيد وهو مُحرم فَمَنِ اعْتَدى
فأخذ الصيد عمداً بعد النهي للمُحرِم عن قتل الصيد فَلَهُ
عَذابٌ أَلِيمٌ قال ابن عباس: يوسع بطنه وظهره جلدا، وتسلب
ثيابه.
[سورة المائدة (5) : آية 95]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً
فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا
عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ
طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ
أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ
فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ
(95)
__________
ورد ذلك عن مقاتل بن حيان، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر»
2/ 576، وهذا معضل، ومقاتل له مناكير كثيرة، وتفرده بهذا يدل
على وهنه بل وبطلانه أيضا، حيث لم أجده عن غيره، والله أعلم.
وانظر «أحكام القرآن» 2/ 170 بتخريجنا.
(1/584)
قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بيّن الله عزّ وجلّ بهذه الآية من أيِّ وجهٍ
تقع البلوى، وفي أيِّ زمانٍ، وما على من قتله بعد النهي؟. وفي
قوله: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ثلاثة أقوال:
أحدها: وأنتم محرمون بحج أو عمرة، قاله الأكثرون. والثاني:
وأنتم في الحرم، يقال: أحرم:
إِذا دخل في الحرم، وأنجد: إِذا أتى نجداً. والثالث: الجمع بين
القولين.
قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فيه قولان:
أحدهما: أن يتعمّد قتله ذاكراً لإِحرامه، قاله ابن عباس،
وعطاء. والثاني: أن يتعمد قتله ناسياً لإِحرامه، قاله مجاهد.
فأما قتله خطأً، ففيه قولان:
أحدهما: أنه كالعمد، قاله عمر، وعثمان، والجمهور. قال الزهري:
نزل القرآن بالعمد، وجرت السنّة في الخطأ، يعني: ألحقت المخطئ
بالمتعمّد في وجوب الجزاء.
(474) وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الضبع صيد
وفيه كبش إِذا قتله المحرم» .
وهذا عامّ في العامد والمخطئ. قال القاضي أبو يعلى: أفاد تخصيص
العمد بالذكر ما ذكر في أثناء الآية من الوعيد، وإِنما يختصّ
ذلك بالعامد. والثاني: أنه لا شيء فيه، قاله ابن عباس وابن
جبير وطاوس وعطاء وسالم والقاسم وداود. وعن أحمد روايتان،
أصحهما الوجوب.
قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرأ ابن
كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «فجزاء مثل» مضافة وبخفض
«مثل» . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «فجزاءٌ» منون «مثلُ»
مرفوع. قال أبو علي: من أضاف، فقوله تعالى: مِنَ النَّعَمِ
يكون صفة للجزاء، وإِنما قال: مثل ما قتل، وإِنما عليه جزاء
المقتول لا جزاء مثله، لأنهم يقولون: أنا أُكرِمُ مثلك،
يريدون: أنا أُكرِمُك، فالمعنى: جزاء ما قتل. ومَن رفع «المثل»
، فالمعنى: فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول، والتقدير:
فعليه جزاء. قال ابن قتيبة: النعم: الإِبل، وقد يكون البقر
والغنم، والأغلب عليها الإِبل. وقال الزجاج: النعم في اللغة:
الإِبل والبقر والغنم، فان انفردت الابل، قيل لها: نعم، وإِن
انفردت البقر والغنم، لم تسم نعماً.
فصل: قال القاضي أبو يعلى: والصيد الذي يجب الجزاء بقتله: ما
كان مأكول اللحم، كالغزال، وحمار الوحش، والنعامة، ونحو ذلك،
أو كان متولداً من حيوان يؤكل لحمه، كالسِّمع، فإنه متولد من
الضبع، والذئب، وما عدا ذلك من السباع كلها، فلا جزاء على
قاتلها سواء ابتدأ قتلها، أو عدت عليه فقتلها دفعاً عن نفسه،
لأن السبع لا مثل له صورة ولا قيمة، فلم يدخل تحت الآية.
(475) ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجاز للمحرم قتل
الحيّة، والعقرب، والفويسقة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور،
والسَّبع العادي. قال: والواجب بقتل الصيد فيما له مثلٌ من
الأنعام مثله، وفيما لا مثل
__________
صحيح. أخرجه أبو داود 3801 وابن ماجة 3085 والدارمي 2/ 74
والحاكم 1/ 452، والدارقطني 2/ 246 وابن حبان 3964 من حديث
جابر، وصححه الحاكم على شرطهما وجاء في «تلخيص الحبير» 2/ 278.
قال الترمذي: سألت عنه البخاري فصححه، وكذا صححه عبد الحق،
وجوّده البيهقي، وأعلّه بعضهم بالوقف.
وانظر «تفسير القرطبي» 2809 بتخريجنا.
يشير المصنف للحديث الصحيح الوارد عن عائشة رضي الله عنها أن
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خمس من الدواب كلهن فاسق
يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب
العقور» . أخرجه البخاري 1829 ومسلم 1198 وأحمد 6/ 259 وابن
حبان 5632 وأبو يعلى 4503 والطحاوي 2/ 166. والدارقطني 2/ 231
من طرق عن عائشة، رووه بألفاظ متقاربة. وفي رواية مسلم برقم
1198 ح 68. «الحية والكلب العقور» . وفيه «السبع العادي» .
أخرجه أبو داود 1848 والترمذي 838 وابن ماجة 3089 والطحاوي 1/
385 وأحمد 3/ 3- 32- 79 والبيهقي 5/ 210 من طريق يزيد بن أبي
زياد عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد في أثناء حديث،
وإسناده غير قوي لأجل يزيد بن أبي زياد، فقد ضعفه غير واحد.
والألفاظ الواردة في الصحيحين ليس فيها ذكر «السبع العادي» .
والفويسقة: هي الفأرة.
(1/585)
له قيمته، وهو قول مالك، والشافعي. وقال
أبو حنيفة: الواجب فيه القيامة، وحمل المثل على القيامة،
وظاهرُ الآية يردُّ ما قال، ولأن الصحابة حملوا الآية على
المثل من طريق الصورة، فقال ابن عباس:
المثل: النظير، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بعير.
قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني بالجزاء،
وإِنما ذكر اثنين، لأن الصيد يختلف في نفسه، فافتقر الحكم
بالمثل إلى عدلين. وقوله تعالى: مِنْكُمْ يعني: من أهل ملتكم.
قوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ قال الزجاج: هو منصوب
على الحال، والمعنى: يحكمان به مقدّراً أن يهدى «1» . ولفظ
قوله «بالغ الكعبة» لفظ معرفة، ومعناه: النكرة. والمعنى:
بالغاً الكعبة، إِلا أن التنوين حُذف استخفافاً. قال ابن عباس:
إِذا أتى مكّة ذبحه، وتصدّق به.
قوله تعالى: أَوْ كَفَّارَةٌ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو،
وحمزة، والكسائي: أَوْ كَفَّارَةٌ منوناً طَعامُ رفعاً. وقرأ
نافع، وابن عامر: «أو كفّارة» رفعا غير منوّن «طعام مساكين»
على الاضافة.
قال أبو علي: من رفع ولم يضف، جعله عطفاً على الكفارة عطف
بيان، لأن الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة إِلى الطعام،
لأن الكفارة لقتل الصيد، لا للطعام، ومن أضاف الكفارة إِلى
الطعام، فلأنه لما خيّر المكفِّر بين الهدي، والطعام، والصيام،
جازت الإِضافة لذلك، فكأنه قال: كفارةُ طعامٍ، لا كفارة هدي،
ولا صيام. والمعنى: أو عليه بدل الجزاء والكفارة، وهي طعامُ
مساكين «2» . وهل يعتبر في إِخراج الطعام قيمة النظير، أو قيمة
الصيد؟ فيه قولان: أحدهما: قيمة النظير، وبه قال عطاء،
والشافعي، وأحمد. والثاني: قيمة الصيد، وبه قال قتادة، وأبو
حنيفة، ومالك. وفي قدر الإطعام لكلّ
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 5/ 450- 451 ما
ملخصه: أما فدية الأذى، فتجوز في الموضع الذي حلق فيه، نص عليه
أحمد، وقال الشافعي: لا تجوز إلا في الحرم لقوله تعالى ثُمَّ
مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. ولنا أن النبي صلّى
الله عليه وسلّم أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية، ولم يأمر
ببعثه إلى الحرم.
- وأما جزاء الصيد، فهو لمساكين الحرم لقوله تعالى: هَدْياً
بالِغَ الْكَعْبَةِ.
فصل: وما وجب نحره بالحرم، وجب تفرقة لحمه به، وبهذا قال
الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا ذبحها في الحرم، جاز تفرقة
لحمها في الحل. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 413. [.....]
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله 5/ 451: فصل: والطعام كالهدي،
يختص بمساكين الحرم فيما يختص الهدي به، وقال عطاء والنخعي: ما
كان من هدي فبمكة، وما كان من طعام وصيام. فحيث شاء، وهذا
يقتضيه مذهب مالك وأبي حنيفة، ولنا قول ابن عباس: الهدي
والطعام بمكة، والصوم حيث شاء.
- فصل: ومساكين الحرم من كان فيه من أهل، أو وارد إليه من
الحاجّ وغيرهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم، ولو دفع إلى من
ظاهره الفقر فبان غنيا خرّج فيه وجهان كالزكاة، وللشافعي فيه
قولان، وما جاز تفريقه بغير الحرم لم يجز دفعه إلى فقراء أهل
الذمة، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وجوزه أصحاب الرأي، ولنا
أنه كافر، فلم يجز الدفع إليه، كالحربي.
(1/586)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ
الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
مساكين قولان: أحدهما: مدّان من بُرٍّ، وبه
قال ابن عباس، وأبو حنيفة. والثاني: مُدُّ بُرٍّ، وبه قال
الشافعي، وعن أحمد روايتان، كالقولين.
قوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قرأ أبو رزين، والضحاك،
وقتادة، والجحدري، وطلحة: «أو عِدل ذلك» ، بكسر العين. وقد
شرحنا هذا المعنى في البقرة. قال أصحابنا: يصوم عن كل مُدّ
بُرٍّ، أو نصف صاع تمر، أو شعير يوماً. وقال أبو حنيفة: يصوم
يوماً عن نصف صاع في الجميع. وقال مالك، والشافعي: يصوم يوماً
عن كلِّ مدٍّ من الجميع.
فصل: وهل هذا الجزاء على الترتيب، أم على التخيير؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه على التخيير بين إِخراج النظير، وبين الصيام، وبين
الإِطعام.
والثاني: أنه على الترتيب، إِن لم يجد الهدي، اشترى طعاماً،
فإن كان معسراً صام، قاله ابن سيرين. والقولان مرويّان عن ابن
عباس، وبالأول قال جمهور الفقهاء.
قوله تعالى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي: جزاء ذنبه. قال
الزجاج: «الوبال» : ثقل الشيء في المكروه، ومنه قولهم: طعامٌ
وبيل، وماءُ وبيل: إذا كانا ثقيلين. قال الله عزّ وجلّ:
فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أي: ثقيلاً شديداً.
قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ فيه قولان: أحدهما:
ما سلف في الجاهلية، من قتلهم الصيد، وهم محرمون، قاله عطاء.
والثاني: ما سلف من قتل الصيد في أوّل مرّة، حكاه ابن جرير،
والأول أصح. فعلى القول الأول يكون معنى قوله: وَمَنْ عادَ في
الإِسلام، وعلى الثاني: وَمَنْ عادَ ثانية بعد أولى. قال أبو
عبيدة: «عاد» في موضع يعود، وأنشد:
إِن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً ... وإِن ذكِرْتُ بسوءٍ عندهم
أذِنُوا «1»
قوله تعالى: فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «الانتقام» :
المبالغة في العقوبة، وهذا الوعيد بالانتقام لا يمنع إِيجاب
جزاء ثانٍ إِذا عاد، وهذا قول الجمهور، وبه قال مالك والشافعي،
وأحمد. وقد روي عن ابن عباس، والنخعي، وداود: أنه لا جزاء عليه
في الثاني، إنّما وعد بالانتقام.
[سورة المائدة (5) : آية 96]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ
وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما
دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (96)
قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ قال أحمد: يؤكل
كلُّ ما في البحر إِلا الضِّفدِع والتِّمساح، لأن التمساح يأكل
الناس يعني: أنه يَفْرِسُ. وقال أبو حنيفة، والثوري: لا يباح
منه إِلا السمك. وقال ابن أبي ليلى، ومالك: يباح كلُّ ما فيه
من ضفدع وغيره.
__________
(1) البيت لقعنب ابن أم صاحب، وهو في «اللسان» مادة- أذن- ملفق
من بيتين هما:
إنْ يَسْمَعُوا رِيْبِةً طارُوا بِهَا فَرَحاً ... مِنَّي وما
سمعوا من صالح دفنوا
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
جهلا علينا وجبنا عن عدوّهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
(1/587)
جَعَلَ اللَّهُ
الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ
وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
فأما طعامه، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما
نبذه البحر ميّتاً، قاله أبو بكر، وعمر، وابن عمر، وأبو أيوب،
وقتادة. والثاني: أنه مليحه، قاله سعيد بن المسيّب، وسعيد بن
جبير والسدّي، وعن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة كالقولين. واختلفت
الرواية عن النخعي. فروي عنه كالقولين، وروي عنه أنه جمع
بينهما، فقال: طعامه المليح «1» ، وما لفظه. والثالث: أنه ما
نبت بمائة من زروع البرّ، وإِنما قيل لهذا: طعام البحر، لأنه
ينبت بمائه، حكاه الزجاج.
وفي المتاع قولان: أحدهما: أنه المنفعة، قاله ابن عباس، والحسن
وقتادة. والثاني: أنه الحلّ قاله النخعي. قال مقاتل: متاعاً
لكم يعني المقيمين، وللسيارة، يعني المسافرين.
قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ
حُرُماً أما الاصطياد فمحرّم على المحرم «2» ، فإن صيد لأجله،
حَرُم عليه أكله خلافاً لأبي حنيفة، فإن أكل فعليه الضمان
خلافاً لأحد قولي الشافعي. فإن ذبح المُحرم صيداً، فهو ميتة،
خلافاً لأحد قولي الشافعي أيضاً. فإن ذبح الحلال صيداً في
الحرم، فهو ميتة أيضاً، خلافا لأكثر الحنفيّة.
[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 98]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً
لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ
ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ جعل بمعنى: صيّر. وفي
تسمية الكعبة كعبة قولان:
أحدهما: لأنها مربعة، قاله عكرمة، ومجاهد.
والثاني: لعُلوها ونتوئها، يقال: كعبت المرأة كعابة، وهي كاعب،
إِذا نتأ ثديها.
ومعنى تسمية البيت بأنه حرام: أنه حَرُم أن يصاد عنده، وأن
يختلى ما عنده من الخلا، وأن يُعضَدَ شجرُه، وعظمت حرمته.
والمراد بتحريم البيت سائِر الحرم، كما قال: هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ «3» وأراد: الحرم. والقيام: بمعنى القوام. وقرأ
ابن عامر: قيما بغير ألف. قال أبو علي: وجهه على أحد أمرين،
إِما أن يكون جعله مصدراً، كالشبع. أو حذف الألف وهو يريدها،
كما يُقصر الممدود. وفي معنى الكلام ستة أقوال: أحدها: قياماً
للدين، ومعالم للحج، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: قياماً لأمرِ مَن توجه إِليها، رواه العوفي عن ابن
عباس. قال قتادة: كان الرجل لو جرّ كلّ
__________
(1) في «اللسان» الملح والمليح: خلاف العذب من الماء.
(2) قال الإمام القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 6/ 321- 322:
اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد، فقال مالك والشافعي
وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحاق، وهو الصحيح عن عثمان: إنه لا
بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولا من أجله لحديث جابر.
وقال أبو حنيفة وأصحابه أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا
اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أم لا. واحتجوا بحديث أبي
قتادة، وهو قول عمر وعثمان في رواية. وروي عن علي وابن عباس
وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال سواء
صيد من أجله أو لم يصد، وبه قال إسحاق، وروي عن الثوري،
واحتجوا بحديث الصعب بن جثّامة اه ملخصا، وانظر «المغني» 5/
135- 136.
(3) سورة المائدة: 95.
(1/588)
مَا عَلَى الرَّسُولِ
إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
تَكْتُمُونَ (99)
جريرة، ثم لجأ إليها، لم يتناول. والثالث:
قياماً لبقاء الدين، فلا يزال في الأرض دين ما حُجَّت
واستُقْبِلت، قاله الحسن. والرابع: قوام دنيا وقوام دين، قاله
أبو عبيدة. والخامس: قياماً للناس، أي:
مما أُمروا أن يقوموا بالفرض فيه، ذكره الزجاج. والسادس:
قياماً لمعايشهم ومكاسبهم بما يحصل لهم من التجارة عندها، ذكره
بعض المفسرين.
فأما الشهر الحرام، فالمراد به الأشهر الحرم، كانوا يأمن بعضهم
بعضاً فيها، فكان ذلك قواماً لهم، وكذلك إِذا أهدى الرجل هدياً
أو قلد بعيره أمِنَ كيف تصرّف، فجعل الله تعالى هذه الأشياء
عصمة للناس بما جعل في صدورهم من تعظيمها.
قوله تعالى: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا ذكر ابن الأنباري في المشار
إِليه بذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أخبر في هذه السورة بغيوب كثيرة من أخبار
الأنبياء وغيرهم، وأطلع على أشياء من أحوال اليهود والمنافقين،
فقال: ذلك لتعلموا، أي: ذلك الغيب الذي أنبأتكم به عن الله
يدلكم على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، ولا تخفى
عليه خافية.
والثاني: أن العرب كانت تسفك الدماء بغير حلها، وتأخذ الأموال
بغير حقها، ويقتل أحدهم غير القاتل، فاذا دخلوا البلد الحرام،
أو دخل الشهر الحرام، كفُّوا عن القتل. والمعنى: جعل اللهِ
الكعبة أمناً، والشهر الحرام أمناً، إِذ لو لم يجعل للجاهلية
وقتاً يزول فيه الخوف لهلكوا، فذلك يدل على أنه يعلم ما في
السّماوات وما في الأرض.
والثالث: أن الله تعالى صرف قلوب الخلق إِلى مكة في الشهور
المعلومة، فاذا وصلوا إِليها عاش أهلها معهم، ولولا ذلك ماتوا
جوعاً، لعلمه بما في ذلك من صلاحهم، وليستدلوا بذلك على أنه
يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.
والرابع: أن الله تعالى جعل مكة أمناً، وكذلك الشهر الحرام،
فإذا دخل الظبي الوحشي الحرم، أنس بالناس، ولم ينفر من الكلب،
ولم يطلبه الكلب، فإذا خرجا عن حدود الحرم، طلبه الكلبُ،
وذُعِر هو منه، والطائِر يأنس بالناس في الحرم، ولا يزالُ يطير
حتى يقرب من البيت، فإذا قرب منه عدل عنه، ولمْ يطرْ فوقه
إِجلالاً له، فإذا لحقه وجعٌ طرح نفسه على سقف البيت استشفاءً
به، فهذه الأعاجيب في ذلك المكان، وفي ذلك الشهر قد دللن على
أن الله تعالى يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.
[سورة المائدة (5) : آية 99]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99)
قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ في هذه
الآية تهديدٌ شديد. وزعم مقاتل أنها نزلت والتي بعدها، في أمر
شُريح بن ضُبيعة وأصحابه، وهم حجاج اليمامة حين همّ المسلمون
بالغارة عليهم، وقد سبق ذكر ذلك في أول السورة. وهل هذه الآية
محكمةٌ، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها محكمة، وأنها تدل على أن الواجب على الرسول
التبليغ، وليس عليه الهُدى.
والثاني: أنها كانت قبل الأمر بالقتال، ثم نسخت بآية السّيف.
(1/589)
قُلْ لَا يَسْتَوِي
الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ
الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ
لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
[سورة المائدة (5) : آية 100]
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ
كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.
(476) روى جابر بن عبد الله أن رجلاً قال: يا رسول الله إِن
الخمر كانت تجارتي، فهل ينفعني ذلك المال إِن عملت فيه بطاعة
الله؟ فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِن الله لا يقبل
إِلاّ الطيِّب» فنزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم.
وفي الخبيث والطيب أربعة أقوال: أحدها: الحلال والحرام، قاله
ابن عباس، والحسن. والثاني:
المؤمِن والكافر، قاله السدي. والثالث: المطيع والعاصي.
والرابع: الرديء والجيِّد، ذكرهما الماوردي. ومعنى الإعجاب
هاهنا: السّرور بما يتعجّب منه.
[سورة المائدة (5) : آية 101]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ
إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ
يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها
وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
قوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ في سبب نزولها ستة أقوال:
(477) أحدها: أن الناس سألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى
أحفوه بالمسألة، فقام مغضباً خطيباً، فقال:
«سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا
بينته لكم» ، فقام رجل من قريش، يقال له: عبد الله بن حُذافة
كان إِذا لاحى «1» يُدعى إِلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله مَن
أبي؟ قال: أبوك حُذافة، فقام آخر، فقال: أين أبي؟ قال: في
النار، فقام عمر فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً،
وبمحمد نبياً، وبالقرآن إِماماً، إِنَّا حديثو عهدٍ بجاهلية،
والله أعلم مَن أباؤنا، فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية، رواه أبو
صالح عن أبي هريرة، وقتادة عن أنس.
(478) والثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس،
فقال: «إِن الله كتب عليكم الحجّ، فقام عكاشة
__________
باطل. أخرجه الواحدي 417 والأصبهاني في «الترغيب» 1235 عن جابر
بن عبد الله، وإسناده ساقط. فيه محمد بن يوسف بن يعقوب الرازي
وضّاع، انظر ضعفاء ابن الجوزي 3254 و «الميزان» 4/ 72.
حديث صحيح. أما حديث أبي هريرة، فأخرجه الطبري 12806، وفيه قيس
بن الربيع، وهو غير قوي، لكن للحديث شواهد كثيرة منها الآتي.
وأما حديث أنس. فأخرجه البخاري 4621 و 4362 و 7295 ومسلم 2359
والنسائي في «التفسير» 174 والترمذي 3056 وابن حبان 6429
والبغوي في «التفسير» 839 من طرق عن أنس، رووه بألفاظ متقاربة،
وطوله بعضهم. انظر «أحكام القرآن» 801 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه مسلم 1337 والنسائي 5/ 110- 111 وأحمد 2/ 508 وابن
حبان 3704 و 3705 والبيهقي 4/ 326 والدارقطني 2/ 281 والطبري
12809. وأخرجه الطبري 12808 من طريق عبد الرحيم بن سليمان
والدارقطني 2/ 282 عن محمد بن فضيل، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم
الهجري- وهو ضعيف- عن أبي عياض عن أبي هريرة.
__________
(1) لاحى: أي خاصم.
(1/590)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ
مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
ابن مُحصن، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟
فقال: أما إِني لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم،
اسكتوا عني ما سكتُّ عنكم، فإنما هلكَ من هلك ممن كان قبلكم
بكثرة سؤالِهم، واختلافهم على أنبيائهم» فنزلت هذه الآية، رواه
محمد بن زياد عن أبي هريرة. وقيل: إِن السائل عن ذلك الأقرع بن
حابس.
(479) والثالث: أن قوما كانوا يسألون رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم استهزاء، فيقول الرجل: مَن أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته:
أين ناقتي؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو الجويرية «1» عن ابن
عباس.
(480) والرابع: أن قوماً سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
عن البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، فنزلت هذه الآية،
رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير.
والخامس: أن قوماً كانوا يسألون الآيات والمعجزات، فنزلت هذه
الآية، روي هذا المعنى عن عكرمة.
والسادس: أنها نزلت في تمنيهم الفرائض، وقولهم: وددنا أن الله
تعالى أذِنَ لنا في قتال المشركين، وسؤالهم عن أحبِّ الأعمال
إِلى الله، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قال الزجاج: أَشْياءَ في موضع خفض إِلا أنها فتحت، لأنها لا
تنصرف. وتُبْدَ لَكُمْ: تظهر لكم. فأعلم الله تعالى أن السؤال
عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع، لأنه يسوء الجواب عنه. وقال
ابن عباس: إِن تبد لكم، أي: إِن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم
ذلك.
قوله تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ
الْقُرْآنُ أي: حين ينزل القرآن فيها بفرض أو إِيجاب، أو نهي
أو حكم، وليس في ظاهر ما نزل دليل على شرح ما بكم إِليه حاجة،
فإذا سألتم حينئذ عنها تبد لكم. وفي قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ
عَنْها قولان: أحدهما: أنها إِشارة إِلى الأشياء. والثاني:
إِلى المسألة. فعلى القول الأول في الآية تقديم وتأخير.
والمعنى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، عفا الله عنها.
ويكون معنى: عفا الله عنها: أمسك عن ذكرها، فلم يوجب فيها
حكماً. وعلى القول الثاني، الآية على نظمها، ومعنى: عفا الله
عنها: لم يؤاخذ بها.
[سورة المائدة (5) : آية 102]
قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها
كافِرِينَ (102)
قوله تعالى: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ في هؤلاء
القوم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين سألوا عيسى نزول
المائدة، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنهم قوم صالح حين
سألوا النّاقة، هذا
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4622 والطبري 12798 والطبراني 12695
والواحدي 418 والبغوي 842 كلهم عن ابن عباس به. وانظر «أحكام
القرآن» 802 بتخريجنا.
ضعيف. أخرجه الطبري 12815 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، فيه خصيف
الجزري، وهو صدوق لكنه سيء الحفظ كثير الخطأ، وكرره الطبري
12816 عن عكرمة مرسلا، وهو أصح، والمتقدم عن ابن عباس أصح،
وكذا المتقدم عن أنس وأبي هريرة، والظاهر أن رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم قد سئل مسائل كثيرة، فنزلت هذه الآية في ذلك
جميعا، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 804 بتخريجنا.
__________
(1) وقع في الأصل «الجورية» والمثبت عن كتب الحديث.
(1/591)
مَا جَعَلَ اللَّهُ
مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ
وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
على قول السدي. وهذان القولان يخرجان على
أنهما سألوا الآيات. والثالث: أن القوم هم الذين سألوا في شأن
البقرة وذبحها، فلو ذبحوا بقرةً لأجزأت، ولكنهم شدّدوا فشدّد
الله عليهم، قاله ابن زيد. وهذا يخرج على سؤال من سأل عن الحج،
إِذ لو أراد الله أن يشدِّد عليهم بالزيادة في الفرض لشدّد.
والرابع:
أنهم الذين قالوا لنبيٍ لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل
الله، وهذا عن ابن زيد أيضاً، وهو يخرج على من قال: إِنما
سألوا عن الجهاد والفرائض تمنياً لذلك. قال مقاتل: كان بنو
إِسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أخبروهم بها تركوا
قولهم ولم يصدّقوهم، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين.
[سورة المائدة (5) : آية 103]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا
وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)
قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ أي: ما أوجب
ذلك، ولا أمر به. وفي «البحيرة» أربعة أقوال: أحدها: أنها
الناقة إِذا نُتِجَتْ خمسة أبطن نظروا إِلى الخامس، فإن كان
ذكراً نحروه، فأكله الرجال والنساء، وإِن كان أنثى شقوا
أُذنها، وكانت حراماً على النساء لا ينتفعن بها، ولا يذقن من
لبنها، ومنافعها للرجال خاصة، فإذا ماتت، إشترك فيها الرجال
والنساء، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة. والثاني: أنها
الناقة تلد خمس إِناث ليس فيهن ذكر، فيَعْمِدون إِلى الخامسة،
فيَبْتِكُون أُذنها، قاله عطاء. والثالث: أنها ابنة السائِبة،
قاله ابن إِسحاق، والفراء. قال ابن إِسحاق: كانت الناقة إِذا
تابعت بين عشر إِناث، ليس فيهن ذكر، سُيِّبت، فإذا نُتِجَتْ
بعد ذلك أُنثى، شقّت أُذنها، وسمّيت بحيرة، وخليت مع أُمها.
والرابع أنها الناقة كانت إِذا نُتِجَت خمسة أبطن، وكان آخرها
ذكراً بحروا أُذنها، أي:
شقُّوها، وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا
تمنع عن مرعى، وإِذا لقيها لم يركبها، قاله الزجاج.
فأما «السائبة» ، فهي فاعلة بمعنى: مفعولة، وهي المسيّبة،
كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ: أي مرضيّة. وفي السائِبة
خمسة أقوال: أحدها: أنها التي تُسيّب من الأنعام للآلهة، لا
يركبون لها ظهراً، ولا يحلبون لها لبناً، ولا يجزُّون منها
وبراً، ولا يحملون عليها شيئاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن
عباس. والثاني: أن الرجل كان يُسيّب من ماله ما شاء، فيأتي به
خزنة الآلهة، فيطعمون ابن السبيل من ألبانِه ولحومه إِلا
النساء، فلا يطعمونهن شيئاً منه إِلا أن يموت، فيشترك فيه
الرجال والنساء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقال الشّعبيّ:
كانوا يهدون آلهتهم الإِبل والغنم، ويتركونها عند الآلهة، فلا
يشرب منها إِلا رجلٌ، فان مات منها شيءٌ أكله الرجال والنساء.
والثالث: أنها الناقة إِذا ولدت عشرة أبطن، كلهن إِناث، سيّبت،
فلم تركب، ولم يجز لها وبر، ولم يشرب لبنها إِلا ضيف أو ولدُها
حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء، ذكره الفراء.
والرابع: أنها البعير يُسيّب بنذر يكون على الرجل إِن سلمه
الله تعالى من مرض أو بلّغه منزله أن يفعل ذلك، قاله ابن
قتيبة. قال الزجاج: كان الرجل إِذا نذر لشيء من هذا، قال:
ناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ولا تمنع من
ماء ومرعى. والخامس: أنه البعير يحج عليه الحجة، فيُسيّب، ولا
يستعمل شكراً لنجحها، حكاه الماوردي عن الشافعي.
(1/592)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ
(104)
وفي «الوصيلة» خمسة أقوال: أحدها: أنها
الشاة إِذا نُتِجَت سبعة أبطن، نظروا إِلى السابع، فإن كان
أُنثى، لم ينتفع النساء منها بشيء إِلا أن تموت، فيأكلها
الرجال والنساء، وإِن كان ذكراً، ذبحوه، فأكلوه جميعاً، وإِن
كان ذكراً وأُنثى، قالوا: وصلت أخاها، فتترك مع أخيها فلا
تذبح، ومنافعها للرجال دون النساء، فإذا ماتت، اشترك فيها
الرجال والنساء، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذهب إِلى نحوه
ابن قتيبة، فقال: إِن كان السابع ذكراً، ذبح فأكل منه الرجال
والنساء، وإِن كان أُنثى، تركت في النعم، وإِن كان ذكراً
وأُنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم تذبح، لمكانها، وكانت لحومها
حراماً على النساء، ولبن الأُنثى حراماً على النساء إِلا أن
يموت منها شيء فيأكله الرجال والنساء. والثاني: أنها الناقة
البكر تبتكر في أول نتاج الإِبل بالأُنثى، ثم تثنّي بالأنثى،
فكانوا يستبقونها لطواغيتهم، ويَدْعونها الوصيلة، أي: وصلت
إِحداهما بالأُخرى، ليس بينهما ذكر، رواه الزهري عن ابن
المسيّب. والثالث: أنها الشاة تنتج عشر إِناثٍ متتابعاتٍ في
خمسة أبطن، فيدعونها الوصيلة، وما ولدت بعد ذلك فللذكور دون
الإِناث، قاله ابن إِسحاق. والرابع: أنها الشاة تنتج سبعة
أبطن، عناقين عناقين «1» ، فإذا ولدت في سابعها عناقاً وجدياً،
قيل: وصلت أخاها، فجَرت مجرى السائبة، قاله الفراء. والخامس:
أن الشاة كانت إِذا ولدت أُنثى، فهي لهم، وإِذا ولدت ذكراً
جعلوه لآلهتهم فإن ولدت ذكراً وأُنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم
يذبحوا الذكر لآلهتهم، قاله الزجاج.
وفي «الحام» ستة أقوال: أحدها: أنه الفحل، ينتج من صلبه عشرة
أبطن، فيقولون: قد حمى ظهره، فيسيبونه لأصنامهم، ولا يحملُ
عليه، قاله ابن مسعود، وابن عباس، واختاره أبو عبيدة، والزجاج.
والثاني: أنه الفحل يولد لولده، فيقولون: قد حمى هذا ظهره، فلا
يحملون عليه، ولا يجزُّون وبره، ولا يمنعونه ماءً، ولا مرعى،
رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، واختاره الفراء، وابن قتيبة.
والثالث: أنه الفحل يظهر من أولاده عشر إِناثٍ من بناته، وبنات
بناته، قاله عطاء. والرابع: أنه الذي ينتج له سبع إِناث
متواليات، قاله ابن زيد. والخامس: أنه الذي لصُلبه عشرة كلها
تضرِب في الإِبل، قاله أبو روق. والسادس: أنه الفحل يضرب في
إِبل الرجل عشر سنين، فيخلَّى ويقال: قد حمى ظهره، ذكره
الماوردي عن الشافعي.
قال الزجاج: والذي ذكرناه في البحيرة، والسائِبة، والوصيلة،
والحام أثبت ما روينا عن أهل اللغة. وقد أعلم الله عزّ وجلّ في
هذه الآية أنه لم يحرّم من هذه الأشياء شيئاً، وأن الذين كفروا
افتروا على الله عزّ وجلّ. قال مقاتل: وافتراؤهم: قولهم: إِن
الله حرَّمه، وأمرنا به.
وفي قوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ قولان: أحدهما:
وأكثرهم، يعني: الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب على الله من
الرؤساء الذين حرموا، قاله الشعبي. والثاني: لا يعقلون أن هذا
التحريم من الشّيطان، قاله قتادة.
[سورة المائدة (5) : آية 104]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ
وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ
آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا
يَهْتَدُونَ (104)
__________
(1) في «اللسان» : العناق: الأنثى من ولد المعز.
(1/593)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ
مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني:
إِذا قيل لهؤلاء المشركين الذين حرَّموا على أنفسهم هذه
الأنعام: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ في القرآن من
تحليل ما حرّمتم على أنفسكم، قالوا: حَسْبُنا أي:
يكفينا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الدين والمنهاج
أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الدين وَلا
يَهْتَدُونَ له، أيتّبعونهم في خطئهم.
[سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا
يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (105)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ في سبب نزولها قولان:
(481) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتب إِلى هَجَر،
وعليهم المنذر بن ساوي يدعوهم إِلى الإسلام، فإن أبوا
فليُؤدُّوا الجزية، فلما أتاه الكتاب، عرضه على مَن عنده من
العرب واليهود والنصارى والمجوس، فأقرُّوا بالجزية، وكرهوا
الإسلام، فكتب إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما
العرب فلا تقبل منهم إِلا الإسلام أو السّيف، وأما أهل الكتاب
والمجوس، فاقبل منهم الجزية» فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم أسلمت العرب، وأعطى أهل الكتاب والمجوس
الجزية، فقال منافقو مكة: عجباً لمحمدٍ يزعم أن الله بعثه
ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا، وقد قبل من مجوس هَجر، وأهل
الكتاب الجزية، فهلاّ أكرههم على الإسلام، وقد ردَّها على
إِخواننا من العرب، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية،
رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(482) وقال مقاتل: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقبل
الجزية إِلا من أهل الكتاب فلما أسلمت العرب طوعاً وكرهاً،
قبلها من مجوس هَجَر، فطعن المنافقون في ذلك، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أن الرجل كان إِذا أسلم، قالوا له: سفهت آباءك
وضللتهم، وكان ينبغي لك أن تنصرهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن
زيد «1» .
قال الزجاج: ومعنى الآية: إِنما ألزمكم الله أمر أنفسكم، ولا
يؤاخذكم بذنوب غيركم، وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف،
لأن المؤمن إِذا تركه وهو مستطيع له، فهو ضالّ، وليس بمهتدٍ.
وقال عثمان بن عفان: لم يأت تأويلُها بعد. وقال ابن مسعود:
تأويلُها في آخر الزّمان: قولوا ما قبل منكم، فإذا غلبتم،
فعليكم أنفسكم. وفي قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ
إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قولان:
__________
لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس. وكذا عزاه
الواحدي في «أسباب النزول» 420 للكلبي عن أبي صالح عن ابن
عباس، وهذا إسناد ساقط، الكلبي يضع الحديث، وأبو صالح غير ثقة
في ابن عباس، وقد رويا تفسيرا مصنوعا ونسباه لابن عباس، راجع
ترجمتهما في «الميزان» وهذا المتن أمارة الوضع لائحة عليه.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق، وهو ممن يضع
الحديث، فهذا خبر لا شيء.
__________
(1) عزاه المصنف لابن زيد، واسمه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم،
وهو واه إذا وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟! فهذا خبر لا شيء.
(1/594)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا
عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ
تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ
بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ
كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا
إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
أحدهما: لا يضركم من ضل بترك الأمر
بالمعروف إِذا اهتديتم أنتم للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
قاله حُذيفة بن اليمان، وابن المسيّب. والثاني: لا يضرُّكم من
ضل من أهل الكتاب إِذا أدُّوا الجزية، قاله مجاهد. وفي قوله
تعالى: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تنبيهٌ على
الجزاء.
فصل: فعلى ما ذكرنا عن الزجاج في معنى الآية، هي محكمة، وقد
ذهب قومٌ من المفسرين إِلى أنها منسوخة، ولهم في ناسخها قولان:
أحدهما: أنه آية السيف. والثاني: أن آخرها نسخ أولها.
روي عن أبي عبيد أنه قال: ليس في القرآن آية جمعت الناسخ
والمنسوخ غير هذه، وموضع المنسوخ منها إلى قوله تعالى: لا
يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ والناسخ: قوله: إِذا اهتديتم. والهُدى
هاهنا: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
[سورة المائدة (5) : آية 106]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا
عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ
تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ
إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا
قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ
الْآثِمِينَ (106)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ
بَيْنِكُمْ.
(483) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان تميم الدّاري،
وعدي بن بداء يختلفان إِلى مكة، فصحبهما رجلٌ من قريش من بني
سهم، فمات بأرض ليس فيها أحد من المسلمين، فأوصى إِليهما
بتركته، فلما قدما، دفعاها إِلى أهله، وكتما جاماً كان معه من
فضة، وكان مخوَّصاً بالذهب، فقالا: لم نره، فأُتي بهما إِلى
النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستحلفهما بالله: ما كتما، وخلى
سبيلهما، ثم إِن الجام وُجدَ عند قومٍ من أهل مكة، فقالوا:
ابتعناه من تميم الدّاري، وعدي بن بداء، فقام أولياء السهمي،
فأخذوا الجام، وحلف رجلان منهم بالله: إِن هذا الجام جام
صاحبنا، وشهادتنا أحق مِن شهادتهما، وما اعتدينا، فنزلت هذه
الآية، والتى بعدها.
قال مقاتل: واسم الميِّت: بُزيلُ بن أبي مارية مولى العاص بن
وائل السهمي، وكان تميم، وعدي نصرانيين، فأسلم تميم، ومات عديٌ
نصرانياً.
فأما التفسير: فقال الفراء: معنى الآية: ليشهدكم اثنان إِذا
حضر أحدكم الموت. قال الزجاج:
المعنى: شهادة هذه الحال شهادة اثنين، فحذف «شهادة» ويقوم
«اثنان» مقامهما. وقال ابن الأنباري:
معنى الآية: ليشهدكم في سفركم إِذا حضركم الموت، وأردتم
الوصيّة اثنان. وفي هذه الشهادة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها
الشهادة على الوصيّة التي ثبتت عند الحكام، وهو قول ابن مسعود،
وأبي موسى، وشريح، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والثوري،
والجمهور. والثاني: أنها أيمان الوصي بالله تعالى إذا
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2780 وأبو داود 3606 والترمذي 3060
والدارقطني 4/ 166 والطبري 12670 والجصاص في «الأحكام» 4/ 160
والطبراني 12/ 71 والواحدي 421 والبيهقي 10/ 165 كلهم من حديث
ابن عباس به، فهو من مسند ابن عباس، وهو مختصر كما ترى، وانظر
«أحكام ابن العربي» 826 و «تفسير الشوكاني» 872 بتخريجي ولله
الحمد والمنة.
(1/595)
ارتاب الورثة بهما، وهو قول مجاهد.
والثالث: أنها شهادة الوصيّة، أي: حضورها، كقوله تعالى: أَمْ
كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ «1» ، جعل
الله الوصي هاهنا اثنين تأكيداً، واستدل أرباب هذا القول بقوله
تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ قالوا: والشاهد لا يلزمه يمينٌ.
فأما «حضور الموت» فهو حضور أسبابه ومقدماته. وقوله تعالى:
حِينَ الْوَصِيَّةِ، أي: وقت الوصية. وفي قوله: «منكم» قولان:
أحدهما:
من أهل دينكم وملتكم، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن
المسيب، وسعيد بن جبير وشريح، وابن سيرين، والشعبي، وهو قول
أصحابنا. والثاني: من عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضاً،
قاله الحسن وعكرمة، والزّهريّ، والسّدّيّ. قوله تعالى: أَوْ
آخَرانِ تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم.
وفي قوله تعالى: مِنْ غَيْرِكُمْ قولان: أحدهما: من غير ملتكم
ودينكم، قاله أرباب القول الأول.
والثاني: من غير عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضاً، قاله
أرباب القول الثاني. وفي «أوْ» قولان:
أحدهما: أنها ليست للتخيير، وإِنما المعنى: أو آخران من غيركم
إِن لم تجدوا منكم، وبه قال ابن عباس، وابن جبير. والثاني:
أنها للتّخيير، ذكره الماورديّ.
فصل: والقائل بأن المراد بالآية شهادة مسلمين من القبيلة، أو
من غير القبيلة لا يشك في إِحْكَامِ هذه الآية. فأما القائل
بأن المراد بقوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أهل الكتاب
إِذا شهدوا على الوصيّة في السفر، فلهم فيها قولان: أحدهما:
أنها محكمة، والعمل على هذا باق، وهو قول ابن عباس. وابن
المسيب، وابن جبير، وابن سيرين، وقتادة، والشعبي، والثوري،
وأحمد في آخرين. والثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى:
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «2» وهو قول زيد بن أسلم،
وإليه يميل أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، قالوا: وأهل الكفر
ليسوا بعدول. والأول أصح، لأن هذا موضع ضرورة كما يجوز في بعض
الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض والنفاس والاستهلال.
قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ هذا الشرط
متعلق بالشهادة، والمعنى: ليشهدكم اثنان إِن أنتم ضربتم في
الأرض، أي: سافرتم. فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فيه
محذوفٌ، تقديره: وقد أسندتم الوصية إِليهما، ودفعتم إِليهما
مالكم تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ خطابٌ للورثة
إِذا ارتابوا. وقال ابن عباس: هذا من صلة قوله: «أو آخران من
غيركم» أي: من الكفار، فأما إِذا كانا مسلمين، فلا يمين
عليهما. وفي هذه الصلاة قولان «3» : أحدهما: صلاة العصر، رواه
أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال شريح، وابن جبير، وإِبراهيم،
وقتادة، والشعبي. والثاني: من بعد صلاتهما في دينهما، حكاه
السدي عن ابن عباس «4» . وقال به. وقال الزجاج: كان الناس
بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس. وقال
ابن قتيبة: لأنه وقت يعظمه أهل الأديان.
قوله تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ أي: فيحلفان إِنِ
ارْتَبْتُمْ أي: شككتم يا أولياء الميّت. ومعنى
__________
(1) سورة البقرة: 133.
(2) سورة الطلاق: 65.
(3) قال الإمام الطبري رحمه الله 5/ 111: وأولى القولين
بالصواب عندنا، قول من قال: «تحبسونهما من بعد صلاة العصر» .
وهي الصلاة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتخيرها
لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر
بالله من تعظيم ذلك الوقت، لقربه من غروب الشمس.
(4) السدي لم يسمع من ابن عباس، وهذا قول منكر، ليس بشيء.
(1/596)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ
مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا
أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا
لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
الآية: إِذا قدم الموصى إِليهما بتركة
المتوفي، فاتهمهما الوارث، استحلفا بعد صلاة العصر: أنهما لم
يسرقا، ولم يخونا. فالشرط في قوله: «إِن ارتبتم» متعلق
بتحبسونهما، كأنه قال: إِن إِرتبتم حبستموهما فاستحلفتموهما،
فيحلفان بالله: لا نَشْتَرِي بِهِ أي: بأيماننا، وقيل: بتحريف
شهادتنا، فالهاء عائدة على المعنى. ثَمَناً أي: عرضاً من
الدنيا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي: ولو كان المشهود له ذا قرابة
منا، وخصّ ذا القرابة، لميل القريب إِلى قريبه. والمعنى: لا
نحابي في شهادتنا أحداً، ولا نميل مع ذي القربى في قول الزور
وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنما أُضيفت إِليه، لأمره
بإقامتها، ونهيه عن كتمانها، وقرأ سعيد بن جبير: «ولا نكتم
شهادةً» بالتنوين «الله» بقطع الهمزة وقصرها، وكسر الهاء،
ساكنة النون في الوصل. وقرأ سعيد بن المسيب، وعكرمة «شهادة»
بالتنوين والوصل منصوبة الهاء. وقرأ أبو عمران الجوني «شهادة»
بالتنوين وإِسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة وقصرها مفتوحة
الهاء، وقرأ الشعبي وابن السميفع «شهادة» بالتنوين وإِسكانها
في الوصل «الله» بقطع الهمزة، ومدّها، وكسر الهاء. وقرأ أبو
العالية، وعمرو بن دينار مثله، إِلاّ أنهما نصبا الهاء.
واختلف العلماء لأي معنىً وجبت اليمين على هذين الشاهدين، على
ثلاثة أقوال: أحدها:
لكونهما من غير أهل الإسلام، روي هذا المعنى عن أبي موسى
الأشعري. والثاني: لوصيّةٍ وقعت بخط الميِّت وفَقَدَ ورثتُهُ
بعضَ ما فيها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: لأن الورثة
كانوا يقولون:
كان مال ميِّتنا أكثر، فاستخانوا الشاهدين، قاله الحسن،
ومجاهد.
[سورة المائدة (5) : آية 107]
فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ
يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ
مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ
الظَّالِمِينَ (107)
قوله تعالى: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا
إِثْماً. قال المفسرون:
(484) لما نزلت الآية الأولى، دعا رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم عديًّا وتميماً، فاستحلفهما عند المنبر: أنهما لم يخونا
شيئاً مما دفع إِليهما فحلفا، وخلَّى سبيلهما، ثم ظهر الإِناء
الذي كتماه، فرفعهما أولياء الميّت إلى رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم فنزلت فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا
إِثْماً.
ومعنى «عثر» : اطّلع أي: إِن عثر أهل الميت، أو مَن يلي أمره،
على أن الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا اسْتَحَقَّا
إِثْماً لميلهما عن الاستقامة في شهادتهما فَآخَرانِ يَقُومانِ
مَقامَهُما أي:
مقام هذين الخائنين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْأَوْلَيانِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر
والكسائي: «استُحِق» بضم التاء، الْأَوْلَيانِ على التثنية.
وفي قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ قولان:
أحدهما: أنهما الذمّيان. والثاني: الوليّان.
فعلى الأول في معنى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أربعة أقوال: أحدها:
استحق عليهم الإِيصاء، قال ابن الأنباري: المعنى: من القوم
الذين استحق فيهم الإِيصاء، استحقه الأوليان بالميت، وكذلك قال
__________
عزاه المصنف للمفسرين، وأصله محفوظ بما تقدم سوى لفظ «عند
المنبر» فهذا لم يرد في شيء من الروايات الصحيحة الموصولة بل
ولا المرسلة، فهو واه.
(1/597)
الزجاج: المعنى: من الذين استحقت الوصية أو
الإِيصاء عليهم. والثاني: أنه الظلم، والمعنى: من الذين استحق
عليهم ظلم الأولَيان فحذف الظلم، وأقام الأوليين مقامه، ذكره
ابن القاسم أيضاً.
والثالث: أنه الخروج مما قاما به من الشهادة، لظهور خيانتهما.
والرابع: أنه الإثم، والمعنى: استحق منهم الإثم، ونابت «على»
عن «مِن» كقوله تعالى: عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ «1» أي:
منهم. وقال الفراء:
«على» بمعنى «في» كقوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ «2» أي:
في ملكه، ذكر القولين أبو علي الفارسي.
وعلى هذه الأقوال مفعول «استُحق» محذوف مُقدّر.
وعلى القول الثاني في معنى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ قولان:
أحدهما: استحق منهم الأوليان، وهو اختيار ابن قتيبة. والثاني:
جني عليهم الإثم، ذكره الزجاج.
فأما «الأوليان» فقال الأخفش: الأوليان: اثنان، واحدهما:
الأولى، والجمع: الأولون: ثم للمفسرين فيهما قولان: أحدهما:
أنهما أولياء الميت، قاله الجمهور، قال الزجاج: «الأوليان» في
قول أكثر البصريين يرتفعان على البَدَلِ مما في «يقومان»
والمعنى: فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين. وقال أبو
علي: لا يخلو الأوليان أن يكون ارتفاعهما على الابتداء، أو
يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: فآخران يقومان مقامهما هما
الأوليان، أو يكون بدلاً من الضمير الذي في «يقومان» والتقدير:
فيقوم الأوليان. والقول الثاني: أن الأوليان: هما الذّميان،
والمعنى: أنهما الأوليان بالخيانة، ذكرهما ابن الأنباريّ، فعلى
هذا يكون المعنى: يقومان، إِلا من الذين استحق عليهم. قال
الشاعر:
فليتَ لنا مِنْ ماءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً باتَتْ
على طهيان «3»
أي بدلاً من ماء زمزم.
وروى قرّة عن ابن كثير، وحفص عن «4» عاصم: «استحق» بفتح التاء
والحاء «الأوليان» على التثنية، والمعنى: استحق عليهم الأوليان
بالميت وصيته التي أوصى بها، فحذف المفعول. وقرأ حمزة، وأبو
بكر عن عاصم: «استحق» برفع التاء، وكسر الحاء، «الأولين» بكسر
اللام، وفتح النون على الجمع، والتقدير: من الأولين الذين
استحق فيهم الإِثم، أي: جني عليهم، لأنهم كانوا أولين في
الذكر، ألا ترى أنه قد تقدم ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ على قوله
تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. وروى الحلبي عن عبد
الوارث «الأوَّلَين» بفتح الواو وتشديدها، وفتح اللام، وسكون
الياء، وكسر النون، وهو تثنية:
أوَّل. وقرأ الحسن البصري: «استحق» بفتح التاء والحاء،
«الأوّلان» تثنية «أوَّل» على البدل من قوله:
«فآخران» .
وقال ابن قتيبة: أشبه الأقوال بالآية أن الله تعالى أراد أن
يعرِّفنا كيف يشهد بالوصية عند حضور الموت فقال: ذَوا عَدْلٍ
مِنْكُمْ أي: عدلان من المسلمين، وعلم أن من الناس من يسافر
فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، وينزل القرية التي لا
يسكنها غيرهم، ويحضره الموت، فلا يجد من يشهده من المسلمين،
فقال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، أي: من غير أهل دينكم،
فالذّمّيّان في السّفر
__________
(1) سورة المطففين: 2. [.....]
(2) سورة البقرة: 102.
(3) في «اللسان» الطهيان: كأنه اسم قلّة جبل، والطهيان: خشبة
يبرد عليها الماء. ونسب البيت للأحول الكندي.
(4) وقع في الأصل «و» بدل «عن» والمثبت هو الصواب.
(1/598)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ
يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ
تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
(108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا
أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ (109)
خاصّة إذا لم يوجد غيرهما، تَحْبِسُونَهُما
مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ
ارْتَبْتُمْ أراد: تحبسونهما من بعد صلاة العصر إِن ارتبتم في
شهادتهما، وخشيتم أن يكونا قد خانا، أو بدَّلا فإذا حلفا، مضت
شهادتهما، فإن عثر أي: ظهر على أنهما استحقا إِثماً، أي: حنثا
في اليمين بكذب أو خيانة، فآخران، أي: قام في اليمين مقامهما
رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان، وهما الوليان
يقال:
هذا الأولى بفلان، ثم يحذف من الكلام «بفلان» فيقال: هذا
الأولى، وهذان الأوليان، و «عليهم» بمعنى: «منهم» فيحلفان
بالله: لقد ظهرنا على خيانة الذميين، وكذبهما، وما اعتدينا
عليهما، ولشهادتنا أصح، لكفرهما وإِيماننا، فيرجع على الذّميين
بما اختانا، وينقض ما مضى من الحكم بشهادتهما تلك.
وقال غيره: لشهادتنا، أي: ليميننا أحق، وسميت اليمين شهادة،
لأنها كالشهادة على ما يحلفُ عليه أنه كذلك. قال المفسرون:
فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص، والمطّلب بن أبي
وَداعة السهميان، فحلفا بالله، ودُفِعَ الإناء إِليهما وإلى
أولياء الميّت.
[سورة المائدة (5) : آية 108]
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ
يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أي: ذلك الذي حكمنا به من ردّ
اليمين، أَقرب إِلى إِتيان أهل الذّمّة بالشهادة على وجهها،
أي: على ما كانت، وأقرب أن يخافوا أن تردَّ أيمان أولياء الميت
بعد أيْمانهم، فيحلفون على خيانتهم، فيفتضحوا، ويغرموا، فلا
يحلفون كاذبين إِذا خافوا ذلك. وَاتَّقُوا اللَّهَ أن تحلفوا
كاذبين، أو تخونوا أمانة، واسمعوا الموعظة.
[سورة المائدة (5) : آية 109]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ
قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ
(109)
قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ قال الزجّاج:
نصب «يوم» محمول على قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ: واتقوا
يوم جمعة للرسل. ومعنى مسألته للرسل توبيخ الذين أُرسلوا
إِليهم. فأما قول الرسل:
لا عِلْمَ لَنا ففيه ستة أقوال «1» : أحدها: أنهم طاشت عقولهم
حين زفرت جهنم، فقالوا: لا عِلْمَ لَنا ثم تُرَدُّ إِليهم
عقولُهم، فينطلقون بحجتهم، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه
قال الحسن، ومجاهد، والسدي. والثاني: أن المعنى لا عِلْمَ لَنا
إِلاّ علمٌ أنت أعلم به منا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنّ المراد بقوله تعالى: ماذا أُجِبْتُمْ: ماذا عملوا
بعدكم، وأحدثوا، فيقولون:
لا عِلْمَ لَنا، قاله ابن جريج، وفيه بُعْد. والرابع: أن
المعنى: لا عِلْمَ لَنا مع علمك، لأنك تعلم الغيب، ذكره
الزجاج. والخامس: أن المعنى: لا عِلْمَ لَنا كعلمك، إِذ كنت
تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا، ونحن نعلم ما أظهروا، ولا نعلم
ما أضمروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا، هذا اختيار ابن
الأنباري. والسادس: لا عِلْمَ لَنا بجميع أفعالهم إِذ كنا نعلم
بعضها وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا، وإِنما يستحق
الجزاء بما تقع به الخاتمة، حكاه ابن الأنباريّ. قال
المفسّرون: إذا ردّ الأنبياء
__________
(1) صوب الإمام الطبري رحمه الله 5/ 126، القول الثاني.
(1/599)
إِذْ قَالَ اللَّهُ
يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى
وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي
فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ
الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي
وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا
مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ
عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
العلم إِلى الله أُبْلِسَتِ الأممُ، وعلمت
أن ما أتته في الدنيا غير غائب عنه، وأن الكل لا يخرجون عن
قبضته.
قوله تعالى: عَلَّامُ الْغُيُوبِ قال الخطابي: العلاَّم:
بمنزلة العليم، وبناء «فعَّال» بناء التكثير، فأما «الغيوب»
فجمع غيب، وهو ما غاب عنك.
[سورة المائدة (5) : آية 110]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي
عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ
الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ
عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي
وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ
(110)
قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى قال ابن عباس: معناه:
وإِذ يقول.
قوله تعالى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ في
تذكيره النعم فائدتان: إِحداهما: إِسماع الأمم ما خصه به من
الكرامة. والثانية: توكيد حجَّته على جاحده. ومن نعمه على مريم
أنه اصطفاها وطهرها، وأتاها برزقها من غير سبب. وقال الحسن:
المراد بذكر النعمة: الشكر. فأما النعمة، فلفظها لفظ الواحد،
ومعناها الجمع. فإن قيل: لم قال هاهنا: فَتَنْفُخُ فِيها وفي
آل عمران (فيه) «1» ؟
فالجواب: أنه جائِز أن يكون ذكر الطير على معنى الجميع، وأنَّث
على معنى الجماعة، وجاز أن يكون «فيه» للطّير، «وفيها» للهيئة
ذكره أبو علي الفارسي.
قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ قرأ ابن كثير،
وعاصم هاهنا، وفي «هود» و «الصف» :
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، وقرأ في «يونس» : لَسِحْرٌ مُبِينٌ
بألف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، الأربعة «سحرٌ مبين»
بغير ألف، فمن قرأ «سحر» أشار إِلى ما جاء به، ومن قرأ «ساحر»
، أشار إلى الشّخص.
[سورة المائدة (5) : آية 111]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي
وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ
(111)
وفي الوحي إلى الحواريين قولان: أحدهما: أنه بمعنى الإِلهام،
قاله الفراء. وقال السدي: قذف في قلوبهم. والثاني: أنه بمعنى
الأمر، فتقديره: أمرت الحواريين، و «إلى» صلة، قاله أبو عبيدة.
وفي قوله تعالى: وَاشْهَدْ قولان: أحدهما: أنهم يعنون الله
تعالى. والثاني: عيسى عليه السّلام. وقوله تعالى: بِأَنَّنا
مُسْلِمُونَ أي: مخلصون للعبادة والتوحيد. وقد سبق شرح ما أهمل
هاهنا فيما تقدم.
[سورة المائدة (5) : آية 112]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ
يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ
السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(112)
__________
(1) سورة آل عمران: 49.
(1/600)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ
نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ
قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ
(113)
قوله تعالى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قال
الزجاج: أي: هل يقدر. وقرأ الكسائي: «هل تستطيع» بالتاء، ونصْب
الرب. قال الفراء: معناه: هل تقدر أن تسأل ربك. قال ابن
الأنباري: ولا يجوز لأحدٍ أن يتوهم أن الحواريين شكُّوا في
قدرة الله، وإِنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن
تقوم معي، وهو يعلم أنه مستطيع، ولكنّه يريد: هل يسهل عليك.
وقال أبو علي: المعنى: هل يفعل ذلك بمسألتك إِيّاه. وزعم بعضهم
أنهم قالوا ذلك قبل استحكام إِيمانهم ومعرفتهم، فردَّ عليهم
عيسى بقوله:
اتقوا الله، أن تنسبوه إِلى عجز، والأول أصح.
فأما «المائدة» فقال اللغويون: المائدة: كل ما كان عليه من
الأخونة «1» طعام، فإذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة، والكأس:
كل إِناء فيه شراب فإذا لم يكن فيه شراب، فليس بكأس، ذكره
الزجاج.
قال الفراء: وسمعت بعض العرب يقول للطبق الذي تهدى عليه
الهدية: هُوَ المُهْدَى، مقصور، ما دامت عليه الهدية، فإذا كان
فارغاً رجع إِلى اسمه إِن كان طبقاً أو خواناً أو غير ذلك.
وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن لفظها فاعلة، وهي في المعنى
مفعولة، مثل عِيشَةٍ راضِيَةٍ. قال أبو عبيدة: وهي من العطاء،
والممتاد: المفتعل المطلوب منه العطاء، قال الشاعر:
إِلى أمير المؤمنين الممتادِ «2»
وَمَادَ زيدٌ عَمْراً: إِذا أعطاه. قال الزجاج: والأصل عندي في
«مائدة» أنها فاعلةٌ من: ماد يميد: إِذا تحرّك، فكأنها تميد
بما عليها. وقال ابن قتيبة: المائدة: الطعام، من: مادني
يميدني، كأنها تميد الآكلين، أي: تعطيهم، أو تكون فاعلة بمعنى:
مفعول بها، أي: ميد بها الآكلون.
قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه
ثلاثة أقوال: أحدها: اتقوه أن تسألوه البلاء، لأنها إِن نزلت
وكذّبتم، عُذبتم، قاله مقاتل. والثاني: أن تسألوه ما لم تسأله
الأُمم قبلكم، ذكره أبو عبيد.
والثالث: أن تشكُّوا في قدرته.
[سورة المائدة (5) : آية 113]
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا
وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ
الشَّاهِدِينَ (113)
قوله تعالى: قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها هذا اعتذار
منهم بيّنوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه.
وفي إِرادتهم للأكل منها ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أرادوا ذلك
للحاجة، وشدة الجوع، قاله ابن عباس.
والثاني: ليزدادوا إِيماناً، ذكره ابن الأنباري. والثالث:
للتبرك بها، ذكره الماورديّ. وفي قوله تعالى:
وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ثلاثة أقوال: أحدها: تطمئن إِلى أن
الله تعالى قد بعثك إِلينا نبياً. والثاني: إِلى أن الله تعالى
قد إختارنا أعواناً لك. والثالث: إِلى أن الله تعالى قد أجابك.
وقال ابن عباس: قال لهم عيسى:
هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً، ثم لا تسألونه شيئاً إِلا
أعطاكم؟ فصاموا، ثم سألوا المائدة.
فمعنى: وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في أنّا إِذا صمنا
ثلاثين يوماً لم نسأل الله شيئاً إِلا أعطانا. وفي هذا العلم
قولان: أحدهما: أنه علمٌ يحدث لهم لم يكن، وهو قول مَن قال:
كان سؤالهم قبل استحكام معرفتهم. والثاني: أنه زيادة علم إِلى
علم، ويقين إِلى يقين، وهو قول من قال: كان سؤالهم بعد
__________
(1) في «اللسان» أخاوين جمع خوان: وهو ما يوضع عليه الطعام عند
الأكل.
(2) هذا الرجز لرؤبة كما في اللسان (ميد) . والممتاد: المطلوب
منه العطاء.
(1/601)
قَالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً
مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا
وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
(114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ
يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا
أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
معرفتهم. وقرأ الأعمش: «وتعلم» بالتاء،
والمعنى: وتعلم القلوب أن قد صدقتنا. وفي قوله تعالى:
مِنَ الشَّاهِدِينَ أربعة أقوال: أحدها: من الشاهدين لله
بالقدرة، ولك بالنبّوة. والثاني: عند بني إِسرائيل إِذا رجعنا
إِليهم، وذلك أنهم كانوا مع عيسى في البرِيّة عند هذا السؤال.
والثالث: من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدنا من
الآيات الدالة على أنك نبي. والرابع: من الشاهدين لك عند الله
بأداء ما بعثت به.
[سورة المائدة (5) : آية 114]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ
عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً
لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
قوله تعالى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وقرأ
ابن محيصن، وابن السميفع، والجحدري:
«لأولانا وأخرانا» برفع الهمزة، وتخفيف الواو، والمعنى: يكون
اليوم الذي نزلت فيه عيداً لنا، نعظِّمه نحن ومن بعدنا، قاله
قتادة، والسدي. وقال كعب: أُنزلت عليهم يوم الأحد، فاتخذوه
عيداً. وقال ابن قتيبة: عيداً، أي: مجمعاً. قال الخليل بن
أحمد: العيد: كل يوم يجمع، كأنهم عادوا إِليه. وقال ابن
الأنباري: سُمِّيَ عيداً للعودِ من الترح إِلى الفرح.
قوله تعالى: وَآيَةً مِنْكَ أي علامة منك تدل على توحيدك، وصحة
نبوة نبيك. وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن، والضحاك «وأنه منك»
بفتح الهمزة، وبنون مشدّدة.
وفي قوله تعالى: وَارْزُقْنا قولان: أحدهما: ارزقنا ذلك من
عندك. والثاني: ارزقنا الشكر على ما أنعمت به من إجابتك لنا.
[سورة المائدة (5) : آية 115]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ
بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ
أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
قوله تعالى: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ قرأ
نافع وعاصم وابن عامر «منزِّلها» بالتشديد، وقرأ الباقون
خفيفة. وهذا وعدٌ بإجابة سؤال عيسى. واختلف العلماء: هل نزلت
أم لا؟ على قولين «1» :
أحدهما: أنها نزلت، قاله الجمهور، فروى وهب بن منبِّه عن أبي
عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: لما رأى عيسى أنهم قد
جدّوا في طلبها لبس جُبَّة من شعر، ثم توضأ، واغتسل، وصفَّ
قدميه في محرابه حتى استويا، وألصق الكعب بالكعب، وحاذى
الأصابع بالأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وطأطأ
رأسه خضوعاً، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت تسيل دموعه على
خده، وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض من دموعه حيال
وجهه، ثم رفع رأسه إِلى السماء، فقال: اللهم ربنا أنزل علينا
مائدة من السماء، فبينما عيسى كذلك، هبطت عليهم مائدةٌ من
السماء، سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من تحتها، وغمامة من
فوقها، وعيسى يبكي ويتضرَّع، ويقول: إِلهي اجعلها سلامةً، لا
تجعلها عذاباً، حتى استقرَّت بين يديه، والحواريون من حوله،
فأقبل هو وأصحابه حتى قعدوا حولها، وإِذا عليها منديلٌ مغطَّى،
فقال عيسى: أيكم أوثق بنفسه وأقل بلاءً عند ربه فليأخذ
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 5/ 135: والصواب من القول
عندنا في ذلك أن يقال إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على
الذين سألوا عيسى ذلك.
(1/602)
هذا المنديل، وليكشف لنا عن هذه الآية.
قالوا: يا روح الله أنت أولانا بذلك، فاكشف عنها، فاستأنف وضوا
جديداً، وصلى ركعتين، وسأل ربه أن يأذن له بالكشف عنها، ثم قعد
إِليها، وتناول المنديل، فإذا عليها سمكة مشوية، ليس فيها شوك،
وحولها من كل البقل ما خلا الكرَّاث، وعند رأسها الخل، وعند
ذنبها الملح، وحولها خمسة أرغفةٍ، على رغيف تمر، وعلى رغيف
زيتون، وعلى رغيف خمس رمانات. فقال شمعون رأس الحواريين: يا
روح الله أمِن طعام الدنيا هذا، أمِّن طعام الجنة؟ فقال عيسى:
سبحان الله أما تنتهون! ما أخوفني عليكم. قال شمعون: لا وإِله
بني إِسرائيل ما أردت بهذا سوءاً. قال عيسى: ليس ما ترون عليها
من طعام الدنيا، ولا من طعام الجنة، إِنما هو شيءٌ ابتدعه
الله، فقال له: «كن» فكان أسرع من طرفة عين. فقال الحواريون:
يا روح الله إِنما نريد أن ترينا في هذه الآية آية، فقال:
سبحان الله! ما اكتفيتم بهذه الآية؟! ثم أقبل على السمكة فقال:
عودي بإذن الله حيةً طريةً، فعادت تضطرب على المائدة، ثم قال:
عودي كما كنت، فعادت مشوية، فقال: يا روح الله كن أنت أول من
يأكل منها، فقال: معاذ الله بل يأكل منها مَن سألها، فلما رأوا
امتناعه، خافوا أن يكون نزولها عقوبة، فلما رأى عيسى ذلك دعا
لها الفقراء والزَّمنى واليتامى، فقال: كلوا من رزق ربكم،
ودعوة نبيكم، ليكون مهنؤها لكم، وعقوبتها على غيركم، فأكل منها
ألف وسبعمائة إِنسان، يصدرون عنها شباعاً وهي كهيئتها حين
نزلت، فصحَّ كل مريض، واستغنى كل فقير أكل منها، ثم نزلت بعد
ذلك عليهم، فازدحموا عليها، فجعلها عيسى نوباً بينهم، فكانت
تنزل عليهم أربعين يوماً، تنزل يوماً وتغبُّ «1» يوماً، وكانت
تنزل عند ارتفاع الضحى، فيأكلون منها حتى إِذا قالوا، ارتفعت
إِلى السماء وهم ينظرون إِلى ظلها في الأرض «2» . وقال قتادة:
كانت تنزل عليهم بكرةً وعشية، حيث كانوا. وقال غيره:
نزلت يوم الأحد مرتين. وقيل: نزلت غدوة وعشية يوم الأحد، فلذلك
جعلوه عيداً. وفي الذي كان على المائدة ثمانية أقوال: أحدها:
أنه خبز ولحم، روي عن عمار بن ياسر عن النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم أنه قال:
(485) «نزلت المائدة من السماء خبزاً ولحما» .
__________
ضعيف جدا، شبه موضوع، والصواب وقفه. أخرجه الترمذي 3061
والطبري 13016 من حديث عمار مرفوعا، وقال الترمذي: رواه غير
واحد عن سعيد به موقوفا، وهو أصح من المرفوع، ولا نعلم للمرفوع
أصلا اه. قلت: إسناده واه، وله علل ثلاث: الأولى: رواه غير
واحد موقوفا. الثانية: قتادة مدلس، وقد عنعن. الثالثة: خلاس
كثير الإرسال والرواية عمن لم يلقه. وقد أخرجه الطبري 13018 عن
قتادة عن خلاس عن عمار به موقوفا، ورجاله رجال الشيخين سوى
خلاس روى له البخاري متابعة. وأخرجه الطبري 13015 من وجه آخر
عن عمار، وفيه راو لم يسم. وأخرجه الطبري 13019 عن سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة قال ذكر لنا ... فذكره. وإسناده صحيح إلى
قتادة، فلو كان هذا الحديث مرفوعا عند قتادة لما رواه بصيغة
التمريض، ومن غير عزو لأحد. فالأشبه في هذا كونه موقوفا،
والموقوف ضعيف جدا، شبه موضوع.
__________
(1) في «اللسان» : النّوب: جمع نوبة: وهي الفرصة والدّولة.
والغبّ: ورد يوم، وظمأ آخر.
(2) قال ابن كثير رحمه الله 2/ 154: هذا أثر غريب جدا، قطّعه
ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا له ليكون
سياقه أتم وأكمل، والله سبحانه وتعالى- أعلم.
وكل هذه الآثار تدل على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل، أيام
عيسى ابن مريم، إجابة من الله لدعوته، وكما دل على ذلك ظاهر
السياق في القرآن العظيم.
(1/603)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ
يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ
سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي
بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا
فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
والثاني: أنها سمكة مشوية، وخمس أرغفة،
وتمر، وزيتون، ورمان. وقد ذكرناه عن سلمان.
والثالث: ثمرٌ من ثمار الجنة، قاله عمار بن ياسر، وقال قتادة:
ثمرٌ من ثمار الجنة، وطعامٌ من طعامها.
والرابع: خبزٌ، وسمكٌ، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال
الحسن، وأبو عبد الرحمن السلمي.
والخامس: قطعةٌ من ثريد، رواه الضحاك عن ابن عباس. والسادس:
أنه أنزل عليها كل شيء إِلا اللحم، قاله سعيد بن جبير.
والسابع: سمكةٌ فيها طعم كلِّ شيءٍ من الطعام، قاله عطية
العوفي.
والثامن: خبز أرز وبقل، قاله ابن السائِب.
والقول الثاني: أنها لم تنزل، روى قتادة عن الحسن أن المائِدة
لم تنزل، لأنه لما قال الله تعالى:
فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً
لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قالوا: لا حاجة لنا
فيها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: أُنزلت مائدة عليها
ألوانٌ من الطعام، فعرضها عليهم، وأخبرهم أنه العذاب إِن
كفروا، فأبوها فلم تنزل. وروى ليث عن مجاهد قال: هذا مثلٌ ضربه
الله تعالى لخلقه، لينهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه، ولم ينزل
عليهم شيء، والأول أصح.
قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أي: بعد إِنزال
المائدة. وفي العذاب المذكور قولان:
أحدهما: أنه المسخ. والثاني: جنسٌ من العذاب لم يعذَّب به أحد
سواهم. قال الزجاج: ويجوز أن يعجل لهم في الدنيا، ويجوز أن
يكون في الآخرة.
وفي «العالمين» قولان: أحدهما: أنه عام. والثاني: عالمو
زمانهم.
وقد ذكر المفسرون أن جماعة من أصحاب المائدة مسخوا. وفي سبب
مسخهم ثلاثة أقوال:
(486) أحدها: أنهم أمروا أن لا يخونوا، ولا يدَّخِروا، فخانوا
وادخروا، فمسخوا قردةً وخنازير، رواه عمار بن ياسر عن النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم.
والثاني: أن عيسى خصَّ بالمائدة الفقراء، فتكلم الأغنياء
بالقبيح من القول، وشكَّكوا الناس فيها، وارتابوا، فلما أمسى
المرتابون بها، وأخذوا مضاجعهم، مسخهم الله خنازير، قاله سلمان
الفارسي.
والثالث: أن الذين شاهدوا المائدة، ورجعوا إِلى قومهم،
فأخبروهم، فضحك بهم من لم يشهد، وقالوا: إِنما سحر أعينكم،
وأخذ بقلوبكم، فمن أراد الله به خيراً، ثبت على بصيرته، ومن
أراد به فتنة، رجع إِلى كفره. فلعنهم عيسى، فأصبحوا خنازير،
فمكثوا ثلاثة أيام، ثم هلكوا، قاله ابن عباس.
[سورة المائدة (5) : آية 116]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي
بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما
فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ
عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ في
زمان هذا القول قولان:
أحدهما: أنه يقوله له يوم القيامة، قاله ابن عباس، وقتادة،
وابن جريج.
__________
هو الحديث المتقدم، المرفوع ضعيف جدا.
(1/604)
مَا قُلْتُ لَهُمْ
إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ
وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
والثاني: أنه قاله له حين رفعه إِليه، قاله
السدي، والأول أصح.
وفي «إِذْ» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها زائِدة، والمعنى: وقال
الله، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنها على أصلها، والمعنى: وإذ
يقول الله له، قاله ابن قتيبة. والثالث: أنها بمعنى: «إذا» ،
كقوله تعالى:
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا «1» والمعنى: إِذا. قال أبو النجم:
ثم جزاكَ الله عنِّي إِِذ جزى ... جنَّاتِ عَدْنٍ في السّماوات
العلا
ولفظ الآية لفظ الاستفهام، ومعناها التوبيخ لِمن ادّعى ذلك على
عيسى.
قال أبو عبيدة: وإِنما قال: «إِلهين» ، لأنهم إِذ أشركوا فعل
ذكر مع فعل أنثى ذكَّروهما. فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم
إلهاً، فكيف قال الله تعالى ذلك فيهم؟ فالجواب: أنهم لما
قالوا: لم تلد بشراً، وإِنما ولدت إِلهاً، لزمهم أن يقولوا:
إِنها من حيث البعضية بمثابة مَن ولدته، فصاروا بمثابة من
قاله.
قوله تعالى: قالَ سُبْحانَكَ أي: براءة لك من السوء ما يَكُونُ
لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي:
لست أستحق العبادة فأدعو الناس إِليها. وروى عطاء بن السائب عن
ميسرة قال: لما قال الله تعالى لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
رُعِد كل مَفْصِل منه حتى وقع مخافة أن يكون قد قاله، وما قال:
إِني لم أقل، ولكنه قال: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ
عَلِمْتَهُ. فإن قيل: ما الحكمة في سؤال الله تعالى له عن ذلك
وهو يعلم أنه ما قاله؟ فالجواب: أنه تثبيت للحجة على قومه،
وإِكذاب لهم في ادّعائهم عليه أنه أمرهم بذلك، ولإِنه إِقرارٌ
من عيسى بالعجز في قوله: وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ
وبالعبودية في قوله: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ.
قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي قال الزجاج: تعلم ما
أُضمره، ولا أعلم ما عندك علمُه، والتأويل: تعلم ما أعلم وأنا
لا أعلم ما تعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 117]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا
اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما
دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
(117)
قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ قال مقاتل: وحِّدوه.
قوله تعالى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي: على ما يفعلون
ما كنت مقيماً فيهم، وقوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي فيه
قولان: أحدهما: بالرفع إِلى السماء. والثاني: بالموت عند
انتهاء الأجل. و «الرقيب» مشروحٌ في سورة (النساء) ، و
«الشّهيد» في (آل عمران) .
[سورة المائدة (5) : آية 118]
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ
لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
قوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ قال
الحسن، وأبو العالية: إِن تعذبهم، فبإقامتهم على كفرهم، وإِن
تغفر لهم، فبتوبة كانت منهم. وقال الزجاج: علم عيسى أن منهم من
آمن، ومنهم من أقام
__________
(1) سورة سبأ: 51.
(1/605)
قَالَ اللَّهُ هَذَا
يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(120)
على الكفر، فقال في جملتهم: إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ أي: إِن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك، وأنت
العادل فيهم، لأنك قد أوضحت لهم الحق، فكفروا، وإِن تغفر لهم،
أي: وإِن تغفر لمن أقلع منهم، وآمَن، فذلك تفضّل منك، لأنه قد
كان لك أن لا تغفر لهم بعد عظيم فريتهم، وأنت في مغفرتك لهم
عزيز، لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك. وقال ابن الأنباري:
معنى الكلام: لا ينبغي لأحدٍ أن يعترض عليك، فإن عذبتهم، فلا
اعتراض عليك، وإِن غفرت لهم- ولست فاعلاً إِذا ماتوا على
الكفر- فلا اعتراض عليك. وقال غيره: العفو لا ينقص عزّك، ولا
يخرج عن حكمك.
(487) وقد روى أبو ذر قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قيام ليلةٍ بآيةٍ يردِّدها: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ
عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ.
[سورة المائدة (5) : الآيات 119 الى 120]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ
فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(120)
قوله تعالى: قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ
صِدْقُهُمْ قرأ الجمهور برفع «اليوم» ، وقرأ نافع بنصبه على
الظرف. قال الزجاج: المعنى: قال الله هذا لعيسى في يوم ينفع
الصادقين صدقهم، ويجوز أن يكون على معنى: قال الله هذا الذي
ذكرناه يقع في يوم ينفع الصادقين صدقهم. والمراد باليوم: يوم
القيامة. وإِنما خصّ نفع الصدق به لأنه يوم الجزاء. وفي هذا
الصدق قولان: أحدهما: أنه صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة.
والثاني: صدقهم في الآخرة ينفعهم هنالك. وفي هذه الآية تصديقٌ
لعيسى فيما قال.
قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي: بطاعتهم، وَرَضُوا
عَنْهُ بثوابه. وفي قوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ تنبيهٌ على عبودية عيسى، وتحريضٌ على تعليق الآمال
بالله وحده.
__________
ضعيف. أخرجه النسائي في «الكبرى» 11161 وأحمد 5/ 149 من حديث
أبي ذر، وفي إسناده جسرة بنت دجاجة، وثقها ابن حبان والعجلي،
وهما ممن يوثق المجاهيل، في حين قال البخاري وهو إمام هذا
الفن:
عند جسرة عجائب، راجع «تهذيب التهذيب» 12/ 435.
(1/606)
الجزء الثاني
فهرس الموضوعات
الموضوع: الصفحة 6- تفسير سورة الأنعام: 7 7- تفسير سورة
الأعراف: 100 8- تفسير سورة الأنفال: 186 9- تفسير سورة
التوبة: 230 10- تفسير سورة يونس: 314 11- تفسير سورة هود: 355
12- تفسير سورة يوسف: 411 13- تفسير سورة الرعد: 479 14- تفسير
سورة إبراهيم: 503 15- تفسير سورة الحجر: 522 16- تفسير سورة
النحل: 548.
(2/5)
|