زاد المسير في علم التفسير

سورة الانعام
(فصل في نزولها:) روى مجاهد عن ابن عباس: أنّ سورة الأنعام مما نزل بمكّة. وهذا قول الحسن، وقتادة، وجابر بن زيد.
(488) وروى يوسف بن مهران عن ابن عبّاس، قال: نزلت سورة الأنعام جملة ليلا بمكّة.
وحولها سبعون ألف ملك.
(489) وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مكيّة، نزلت جملة واحدة، ونزلت ليلا وكتبوها من ليلتهم، غير ست آيات منها مدنيّات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى آخر الثّلاث آيات «1» ، وقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2» الآية. وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ «3» إلى آخر الآيتين. وذكر مقاتل نحو هذا. وزاد آيتين: قوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ «4» ، وقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ «5» .
وروي عن ابن عباس، وقتادة قالا: هي مكّيّة، إلّا آيتين نزلتا بالمدينة قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ «6» . وذكر أبو الفتح بن شيطاء: أنّها
__________
روي موقوفا ومرفوعا، والمرفوع لا يصح، والصحيح موقوف.
- أما الموقوف، فأخرجه الطبراني 12/ 12930 من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس موقوفا، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان، وورد من وجوه أخر موقوفا، وهو الراجح.
- وورد مرفوعا بنحوه عن جماعة من الصحابة فقد أخرجه الطبراني في «الأوسط» 6443 وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 159 من حديث أنس. وقال الهيثمي في «المجمع» 10992: رواه الطبراني عن شيخه عمر بن عبد الله بن عرس عن أحمد بن محمد السالمي ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات ا. هـ.
قلت: ابن عرس توبع عند ابن مردويه، فانحصر الإسناد في أحمد السالمي، وقد تفرد به.
- وفي الباب من حديث ابن عمر عند الطبراني في «الصغير» 220 وقال الهيثمي في «المجمع» 10991: وفيه يوسف بن عطية الصفّار، وهو ضعيف اهـ. بل متروك. ومن حديث جابر عند الحاكم 2/ 315، وصححه، ورده الذهبي بقوله: لا والله لم يدرك جعفر السدي، وأظن هذا موضوعا اه.
موقوف، صدره له شواهد منها ما تقدم، وعجزه واه بمرة. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وروايته الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، ولفظ «غير ست آيات ... » واه ليس بشيء.
__________
(1) سورة الأنعام: 151- 153.
(2) سورة الأنعام: 91.
(3) سورة الأنعام: 92. [.....]
(4) سورة الأنعام: 114.
(5) سورة الأنعام: 21.
(6) سورة الأنعام: 141.

(2/7)


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)

مكية، غير آيتين نزلتا بالمدينة قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، والتي بعدها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأنعام (6) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
فأمّا التّفسير، فقال كعب: فاتحة التوراة فاتحة الأنعام، وخاتمتها خاتمة هود وإنما ذكر السّماوات والأرض، لأنهما من أعظم المخلوقات. والمراد «بالجَعل» : الخلق. وقيل: إنّ «جعل» هاهنا: صلة والمعنى: والظلمات. وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال: أحدها: الكفر والإيمان، قاله الحسن.
والثاني: الليل والنهار، قاله السدي. والثالث: جميع الظّلمات والأنوار. قال قتادة: خلق السّماوات قبل الأرض، والظلماتِ قبل النور، والجنةَ قبل النار.
قوله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: المشركين بعد هذا البيان بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، أي:
يجعلون له عَدِيلاً، فيعبدون الحجارة المواتَ، مع إِقرارهم بأنه الخالق لِما وُصِف. يقال: عدلت هذا بهذا: إِذا ساويته به. قال أبو عبيدة: هو مقدَّم ومؤخَّر، تقديره: يعدلون بربهم. وقال النّصر بن شميل:
الباء: بمعنى «عن» .

[سورة الأنعام (6) : آية 2]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يعني: آدم، وذلك أنه لما شك المشركون في البعث، وقالوا: من يحيي هذه العظام؟ أعلمهم أنه خلقهم من طين، فهو قادر على إِعادة خلقهم.
قوله تعالى: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ فيه ستة اقوال «1» : أحدها: أن الأجل الأول: أجل الحياة إلى الموت والأجل الثّاني: أجل الموت إلى البعث، روي عن ابن عباس، والحسن، وابن المسيب، وقتادة، والضحاك، ومقاتل. والثاني: أن الأجل الأول: النوم الذي تُقْبَضُ فيه الروح، ثم ترجع في حال اليقظة والأجل المسمى عنده: أجل موت الإِنسان. رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أن الأجل الأول: أجل الآخرة متى يأتي، والأجل الثاني: أجل الدنيا، قاله مجاهد في رواية.
والرابع: أن الأول: خلق الأشياء في ستة أيام، والثاني: ما كان بعد ذلك إلى يوم القيامة، قاله عطاء الخراساني. والخامس: أن الأول: قضاه حين أخذ الميثاق على خلقه، والثاني: الحياة في الدنيا، قاله
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 148: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معناه: ثم قضى أجل الحياة الدنيا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وهو أجل البعث عنده. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب. لأنه تعالى ذكره نبّه خلقه على موضع حجته عليهم من أنفسهم فقال لهم: أيها الناس إن الذي يعدل به كفاركم الآلهة والأنداد هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين، فجعلكم صورا أجساما أحياء بعد إذ كنتم طينا جمادا، ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم ليعيدكم ترابا وطينا كالذي كنتم قبل أن ينشئكم ويخلقكم، وأجل مسمى عنده لإعادتكم أحياء وأجساما كالذي كنتم قبل مماتكم. وذلك نظير قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 28] .

(2/8)


وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)

ابن زيد، كأنه يشير إِلى أجل الذرية حين أحياهم وخاطبهم. والسادس: أن الأول: أجل من قد مات من قبل، والثاني: أجل من يموت من بعد، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ أي بعد هذا البيان تَمْتَرُونَ وفيه قولان: أحدهما: تشكّون قاله قتادة، والسدي. وفيما شكوا فيه قولان: أحدهما: الوحدانية. والثاني: البعث. والثاني: يختلفون: مأخوذ من المراء، ذكره الماورديّ.

[سورة الأنعام (6) : آية 3]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)
قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ فيه أربعة اقوال «1» : أحدها: هو المعبود في السماوات وفي الأرض، قاله ابن الأنباري. والثاني: وهو المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض، قاله الزجاج. والثالث: وهو الله في السماوات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض، قاله ابن جرير.
والرابع: أنه مقدَّم ومؤخَّر. والمعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض، ذكره بعض المفسّرين.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 5]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)
قوله تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ نزلت في كفار قريش. وفي «الآية» قولان:
أحدهما: أنها الآية من القرآن. والثاني: المعجزة، مثل انشقاق القمر.
والمراد بالحق: القرآن. والأنباء: الأخبار. والمعنى: سيعلمون عاقبة استهزائهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 6]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
قوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ القرن: اسم أهل كل عصر. وسمُّوا بذلك، لاقترانهم في الوجود: وللمفسرين في المراد بالقرن سبعة أقوال «2» :
(490) أحدها: أنه أربعون سنة، ذكره ابن سيرين عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
والثاني: ثمانون سنة، رواه أبو صالح عن ابن عبّاس.
__________
عزاه المصنف لابن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مرسل فهو واه، ولم أقف على إسناده، وهو منكر، والمحفوظ ما بعده.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 160: أصح الأقوال أنه: المدعو الله في السماوات وفي الأرض، أي يعبده ويوحده ويقرّ له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغبا ورهبا، إلا من كفر من الجن والإنس. وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي: هو إله من في السماء وإله من في الأرض وعلى هذا فيكون قوله يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ خبرا أو حالا.
(2) الراجح من هذه الأقوال هو القول الثالث: حيث ورد مرفوعا وهو حديث قوي.

(2/9)


(491) والثالث: مائة سنة، قاله عبد الله بن بسر «1» المازني وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
والرابع: مائة وعشرون سنة، قاله زُرارة بن أوفى، وإياس بن معاوية. والخامس: عشرون سنة، حكاه الحسن البصري. والسادس: سبعون سنة، ذكره الفراء. والسابع: أن القرن: أهل كل مدة كان فيها نبيٌّ، أو طبقة من العلماء، قلَّتِ السّنون، أو كثرت بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:
(492) «خيركم قرني» يعني: أصحابي «ثم الذين يلونهم» يعني: التابعين «ثم الذين يلونهم» يعني: الذين أخذوا عن التابعين. فالقرن: مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان فهو في كل قوم على مقدار أعمالهم.
واشتقاق القرن: من الاقتران. وفي معنى ذلك الاقتران قولان: أحدهما: أنه سمي قرنا، لأنه المقدار الذي هو أكثر ما يقترن فيه أهل ذلك الزمان في بقائهم. هذا اختيار الزجاج. والثاني: أنه سمي قرناً، لأنه يَقْرِنُ زماناً بزمانٍ، وأُمَّةً بأمَّةٍ، قاله ابن الأنباري. وحكى ابن قتيبة عن أبي عبيدة قال: يرون أن أقل ما بين القرنين: ثلاثون سنة.
قوله تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: أعطيناهم ما لم نُعطِكم. يقال: مكَّنتُه ومكَّنتُ له: إذا أقدرته على الشيء باعطاء ما يصح به الفعل من العدة. وفي هذه الآية رجوع من الخبر إلى الخطاب. فأما السماء: فالمراد بها المطر. ومعنى «أرسلنا» : أنزلنا. و «المدرار» : مفعال، من درَّ يَدِرُّ والمعنى: نرسلها كثيرة الدَّرِّ. ومِفعال: من أسماء المبالغة، كقولهم: امرأة مذكار: إذا كانت كثيرة الولادة للذكور، وكذلك مئناث. فان قيل: السماء مؤنَّثَة، فلم ذكَّر مدراراً؟! فالجواب:
أن حكم ما انعدل من النعوت عن منهاج الفعل وبنائه، أن يلزم التذكير في كلِّ حال، سواء كان وصفاً لمذكّر أو مؤنّث كقولهم: امرأة مذكار، ومعطار وامرأة مذكر، ومؤنث: وهي كفور، وشكور. ولو
__________
ورد ذلك مرفوعا وهو حديث قوي. علقه البخاري في «التاريخ الكبير» 1/ 323 و «الصغير» 1/ 216 قال: قال داود بن رشيد حدثنا أبو حياة شريح بن يزيد الحضرمي عن إبراهيم بن محمد بن زياد عن أبيه عن عبد الله بن بسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يعيش هذا الغلام قرنا» ، فعاش مائة سنة. وذكره الهيثمي في «المجمع» 16119 بأتم منه وقال رواه الطبراني والبزار باختصار إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليدركن قرنا» ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب الحضرمي، وهو ثقة اهـ.
وورد بنحوه عن الحسن بن أيوب الحضرمي قال: أراني عبد الله بن بسر شامة في قرنه فوضعت إصبعي عليها فقال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعه عليها وقال: «لتبلغن قرنا» أخرجه أحمد 4/ 189 والطبراني كما في «المجمع» 16120. قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب، وهو ثقة، ورجال الطبراني ثقات اهـ. وانظر «الإصابة» 2/ 281- 282 (4565) .
الخلاصة هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده.
حديث صحيح. لكن لفظ «يعني ... » ليس من الحديث. أخرجه البخاري 2651 و 3650 و 6428 و 6695 ومسلم 214 و 215 و 2535 وأبو داود 4657، والترمذي 2222 والنسائي 7/ 17 و 18، والطيالسي 852 وأحمد 4/ 427 و 436 و 440 وابن حبان 6729. والبيهقي 10/ 123 و 160 وفي «الدلائل» 6/ 552. من حديث عمران بن حصين. وله شواهد.
__________
(1) وقع في المطبوع «بشر» والمثبت عن كتب الحديث والتراجم.

(2/10)


وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)

بُنيتْ هذه الأوصاف على الفعل، لقيل: كافرة، وشاكرة، ومُذْكِرَة فلما عدل عن بناء الفعل، جرى مجرى ما يستغني بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة كقولهم: النعلَ لبستُها، والفأسَ كسرتُها، وكان إيثارهم التذكير للفرق بين المبني على الفعل، والمعدول عن مِثْلِ الأفاعيل. والمراد بالمدرار:
المبالغة في اتصال المطر ودوامه يعني: أنها تَدِرُّ وقت الحاجة إليها لا أنها تدوم ليلاً ونهاراً، فتفسد، ذكره ابن الأنباري.

[سورة الأنعام (6) : آية 7]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ.
(493) سبب نزولها: أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة، يشهدون أنه من عند الله، وأنك رسوله، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.
قال ابن قتيبة: والقرطاس: الصحيفة، يقال للرامي إذا أصاب الصحيفة: قَرْطَسَ. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: القرطاس قد تكلموا به قديماً. ويقال: إن أصله غير عربي. والجمهور على كسر قافه، وضمها أبو رزين، وعكرمة، وطلحة، ويحيى بن يعمر.
فأما قوله تعالى: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فهو توكيد لنزوله، وقيل: إنما علَّقه باللمس باليد إبعاداً له عن السحر، لأن السحر يُتَخَيَّلُ في المرئيات دون الملموسات. ومعنى الآية: إنّهم يدفعون الصّحيح.

[سورة الأنعام (6) : آية 8]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8)
قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ قال مقاتل:
(494) نزلت في النَّضْر بن الحارث، وعبد الله بن أبي أُمية، ونوفل بن خويلد.
و «لولا» بمعنى «هلاّ» أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ نصدقه: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً فعاينوه ولم يؤمنوا، لَقُضِيَ الْأَمْرُ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: لماتوا، ولم يؤخروا طرفة عين لتوبة، قاله ابن عباس.
والثاني: لقامت الساعة، قاله عكرمة، ومجاهد. والثالث: لعجل لهم العذاب، قاله قتادة.

[سورة الأنعام (6) : آية 9]
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
__________
لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب، وهو محمد بن السائب الكلبي، وهو ساقط الرواية، ممن يضع الحديث. وعزاه البغوي 2/ 110 للكلبي ومقاتل، ومقاتل أيضا يضع الحديث. وانظر «أسباب النزول» 422 للواحدي.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق وهو كذاب وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» 3/ 8 عن محمد بن إسحاق قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم، فيما بلغني، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث، وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله في ذلك من قولهم.

(2/11)


وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)

قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ أي: ولو جعلنا الرسول إليهم مَلكَاً، لجعلناه في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون رؤية المَلَك على صورته، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ أي: لشبَّهنا عليهم. يقال: ألبست الأمر على القوم، أُلبِسه أي: شبهته عليهم، وأشكلته. والمعنى: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكّوا، فلا يدرون أمَلَكٌ هو أم آدميٌ؟ فأضللناهم بما به ضلّوا قبل أن يُبعث المَلَك. وقال الزجاج: كانوا يلبسون على ضعفتهم في أمر النّبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: إنما هذا بشر مثلكم فقال تعالى: لو رأوا المَلَك رجلاً، لكان يلحقهم فيه من الَّلبْسِ مثلُ ما لحق ضعفتهم منه. وقرأ الزّهريّ، ومعاذ القارئ، وأبو رجاء: «وللبّسنا» ، بالتشديد، «عليهم ما يلبّسون» ، مشدّدة أيضا.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
قوله تعالى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا أي: أحاط. قال الزجاج: الحيق في اللغة: ما اشتمل على الإِنسان من مكروه فعله، ومنه: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «1» أي: لا ترجع عاقبة مكروهه إلا عليهم. قال السّدّيّ: وقع بهم العذاب الّذي استهزءوا به.

[سورة الأنعام (6) : آية 12]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)
قوله تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ المعنى: فان أجابوك، وإلا ف قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قال ابن عباس: قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين. قال الزجاج: ومعنى كتب: أوجب ذلك إيجاباً مؤكداً، وجائز أن يكون كتب في اللوح المحفوظ وإنما خُوطِبَ الخلقُ بما يعقلون، فهم يعقلون أن توكيد الشيء المؤخَّر أن يحفظ بالكتاب. وقال غيره: رحمته عامة فمنها تأخير العذاب عن مستحقِّه، وقبول توبة العاصي.
قوله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ اللام: لام القسم. كأنه قال: والله ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه. وذهب قوم إلى أن «إلى» بمعنى: «في» ثم اختلفوا، فقال قوم: في يوم القيامة. وقال آخرون: في قبوركم إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي: بالشرك، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، لِما سبق فيهم من القضاء. وقال ابن قتيبة: قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مردود إلى قوله: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الذين خسروا.

[سورة الأنعام (6) : آية 13]
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قوله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ.
__________
(1) سورة فاطر: 43.

(2/12)


قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)

(495) سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة فنحن نجعل لك نصيباً في أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلاً، وترجع عما أنت عليه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
وفي معنى «سكن» قولان: أحدهما: أنه من السكنى. قال ابن الأعرابي: «سكن» بمعنى حلّ.
والثاني: أنه من السكون الذي يضاد الحركة. قال مقاتل: من المخلوقات ما يستقر بالنهار، وينتشر بالليل ومنها ما يستقر بالليل، وينتشر بالنهار. فان قيل: لم خص السكون بالذكر دون الحركة؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن السكون أعم وجوداً من الحركة. والثاني: أن كل متحرك قد يسكن، وليس كل ساكن يتحرك. والثالث: أن في الآية إضماراً والمعنى: وله ما سكن وتحرك كقوله تعالى تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» أراد: والبرد فاختصر.

[سورة الأنعام (6) : آية 14]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا.
(496) ذكر مقاتل أن سبب نزولها، أن كفَّار قريش قالوا: يا محمد، ألا ترجع إلى دين آبائك؟
فنزلت هذه الآية. وهذا الاستفهام معناه الإنكار أي: لا أتخذ وليا غير الله أتولاه، وأعبده، وأستعينه.
قوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الجمهور على كسر راء «فاطر» . وقرأ ابن أبي عبلة برفعها.
قال أبو عبيدة: الفاطر، معناه: الخالق. وقال ابن قتيبة: المبتدئ.
(497) ومنه «كل مولود يولد على الفطرة» أي: على ابتداء الخلقة، وهو الإقرار بالله حين أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم. وقال ابن عباس: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتُها، أي: أنا ابتدأتها. قال الزجاج: إن قيل:
كيف يكون الفطر بمعنى الخلق والانفطار الانشقاق في قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) «2» فالجواب: إنما يرجعان إلى شيء واحد، لأن معنى «فطرهما» : خلقهما خلقاً قاطعاً. والانفطار، والفطور: تقطُّعٌ وتشقُّقٌ.
قوله تعالى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قرأ الجمهور بضم الياء من الثاني ومعناه: وهو يرزق ولا
__________
باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 423 من رواية الكلبي عن ابن عباس. وهذه رواية ساقطة، الكلبي متروك كذاب. وقد روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فخبره لا شيء.
حديث صحيح. أخرجه البخاري 1358 و 1385 و 1359. ومسلم 2658 2380، وأبو داود 4705 و 4706 والترمذي 3150، والطيالسي 2433 وأحمد 2/ 253 و 282 و 346 و 481. وابن حبان 128 و 129 من حديث أبي هريرة، وله شواهد.
__________
(1) سورة النحل: 81.
(2) سورة الانفطار: 1.

(2/13)


قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

يُرزق، لأن بعض العبيد يرزق مولاه. وقرأ عكرمة والأعمش «ولا يَطعم» بفتح الياء. قال الزجاج: وهذا الاختيار عند البصراء بالعربية، ومعناه: وهو يَرزق ويُطْعِمُ ولا يأكل.
قوله تعالى: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أي: أول مسلم من هذه الأمة وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال الأخفش: معناه: وقيل لي: لا تكوننَّ، فصارت: أمرت، بدلاً من ذلك لأنه حين قال: أمرت، قد أخبر أنه قيل له.

[سورة الأنعام (6) : آية 15]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) زعم بعض المفسرين أنه كان يجب عليه أن يخاف عاقبة الذنوب، ثم نسخ ذلك بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» ، والصحيح أن الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ، وإنما هو معلق بشرط، ومثله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «2» .

[سورة الأنعام (6) : آية 16]
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
قوله تعالى: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم مَنْ يُصْرَفْ بضم الياء وفتح الراء، يعنون: العذاب. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «يَصرِف» بفتح الياء وكسر الراء الضمير قوله: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ومما يحسّن هذه القراءة قوله تعالى: فَقَدْ رَحِمَهُ، فقد اتفق إسناد الضميرين إلى اسم الله عزّ وجلّ، ويعني بقوله: يصرف العذاب يَوْمَئِذٍ، يعني: يوم القيامة، وَذلِكَ يعني: صرف العذاب.

[سورة الأنعام (6) : آية 17]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ الضر: اسم جامع لكل ما يتضرَّرُ به الإِنسان، من فقر ومرض وغير ذلك والخير: اسم جامع لكلّ ما ينتقع به الإِنسان. وللمفسرين في الضر والخير قولان:
أحدهما: أن الضر السقم والخير: العافية. والثاني: أنّ الضّرّ: الفقر، والخير: الغنى.

[سورة الأنعام (6) : آية 18]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
قوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ القاهر: الغالب، والقهر: الغلبة. والمعنى: أنه قهر الخلق فصرّفهم على ما أراد طوعاً وكرهاً فهو المستعلي عليهم، وهم تحت التّسخير والتذليل.

[سورة الأنعام (6) : آية 19]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً.
__________
(1) سورة الفتح: 3.
(2) سورة الزمر: 66.

(2/14)


الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)

(498) سبب نزولها: أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ما نرى أحداً يصدِّقُك بما تقول، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ومعنى الآية: قل لقريش: أيُّ شيء أعظم شهادة؟ فان أجابوك، وإلا فقل: الله، وهو شهيد بيني وبينكم على ما أقول. وقال الزّجّاج: أمره الله تعالى أن يحتجّ عليهم بأنّ شهادة الله عزّ وجلّ في نُبُوَّته أكبر شهادة، وأن القرآن الذي أتى به، يشهد له أنه رسول الله، وهو قوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ففي الإِنذار به دليل على نبوته، لأنه لم يأت أحد بمثله، ولا يأتي وفيه خبر ما كان وما يكون ووعد فيه بأشياء، فكانت كما قال. وقرأ عكرمة، وابن السميفع، والجحدري «وأَوحَى إليَّ» بفتح الهمزة والحاء «القرآن» بالنّصب فأمّا «الإنذار» ، فمعناه: التّخويف، ومعنى وَمَنْ بَلَغَ أي: من بلغ إليه هذا القرآن، فإني نذير له. قال القرظي: من بلغه القرآن فكأنّما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلَّمه.
(499) وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ.
قوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى هذا استفهام معناه الانكار عليهم. قال الفراء: وإنما قال: «أُخرى» ولم يقل: «آخر» لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث، كما قال:
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «1» . وقال: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى «2» .

[سورة الأنعام (6) : آية 20]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، في الكتاب قولان: أحدهما: أنه التوراة والإِنجيل وهذا قول الجمهور. والثاني: أنه القرآن.
وفي هاء يَعْرِفُونَهُ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله السدي.
(500) وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعبد الله بن سلام: إن الله قد أنزل على نبيه بمكة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ، فكيف هذه المعرفة؟ فقال: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأَنَا أشد معرفة بمحمّد صلى الله عليه وسلم مني بابني. فقال عمر: وكيف ذاك؟ فقال: إني أشهد أنه رسول الله حقا، ولا أدري ما يصنع النساء «3» .
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته هو الكلبي وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 424 عن الكلبي والكلبي ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.
باطل، عزاه السيوطي في «الدر» 3/ 12- 13 لأبي الشيخ وابن مردويه عن أنس، ولم أقف على إسناده وهو باطل لتفردهما به، ولأن السورة مكية وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك في العهد المدني وليس في مكة.
عزاه السيوطي في «الدر» 1/ 271 للثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس وهي رواية ساقطة. السدي هذا متروك متهم، والكلبي يضع الحديث. وورد من وجوه أخر واهية، لا تقوم بها حجة.
__________
(1) سورة الأعراف: 181.
(2) سورة طه: 52. [.....]
(3) أي ما أحدث النساء، فلعل الولد ليس من زوج المرأة.

(2/15)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)

والثاني: أنها ترجع إلى الدين والنبي. فالمعنى: يعرفون الإسلام أنّه دين الله عزّ وجلّ، وأن محمداً رسول الله، قاله قتادة. والثالث: أنها ترجع إلى القرآن. فالمعنى: يعرفون الكتاب الدال على صدقه ذكره الماوردي.
وفي الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ قولان: أحدهما: أنهم مشركو مكة. والثاني: كفّار أهل الكتابين.

[سورة الأنعام (6) : آية 21]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي: اختلق على الله الكذب في ادعاء شريك معه.
وفي «آياته» قولان: أحدهما: أنها محمد والقرآن، قاله ابن السائب. والثاني: القرآن، قاله مقاتل.
والمراد بالظلم المذكور في هذه الآية: الشّرك.

[سورة الأنعام (6) : آية 22]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً انتصب «اليوم» بمحذوف تقديره: واذكر يوم نحشرهم. قال ابن جرير: والمعنى: لا يفلحون اليوم، ولا يوم نحشرهم. وقرأ يعقوب: «يحشرهم» «ثم يقول» بالياء فيهما. وفي الذين عني قولان: أحدهما: المسلمون والمشركون. والثاني: العابدون والمعبودون.
وقوله: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ سؤال توبيخ. والمراد بشركائهم: الأوثان وإِنما أضافها إليهم لأنّهم زعموا أنّها شركاء لله. وفي معنى تَزْعُمُونَ قولان: أحدهما: يزعمون أنهم شركاء مع الله. والثاني: يزعمون أنها تشفع لهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 23]
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «ثم لم تكن» بالتاء، «فتنتُهم» بالرفع. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «تكن» بالتاء أيضا، «فتنتَهم» بالنصب وقد رُويت عن ابن كثير ايضاً. وقرأ حمزة، والكسائي: «يكن» بالياء، «فتنتَهم» بالنصب. وفي «الفتنة» أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها بمعنى الكلام والقول. قال ابن عباس، والضحاك: لم يكن كلامُهُم. والثاني: أنها المعذرة. قال قتادة، وابن زيد: لم تكن معذرتهم. قال ابن الأنباري: فالمعنى:
اعتذروا بما هو مُهْلِكٌ لهم، وسبب لفضيحتهم. والثالث: أنها بمعنى البلية. قال عطاء الخراساني: لم تكن بليتهم. وقال ابو عبيد: لم تكن بليتهم التي ألزمتهم الحجة، وزادتهم لائمة. والرابع: أنها بمعنى الافتتان. والمعنى: لم تكن عاقبة فتنتهم.
قال الزجاج: لم يكن افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤوا منه. ومثل ذلك في اللغة
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 166 والصواب من القول في ذلك أن يقال: معناه: ثم لم يكن قبلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله، إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فوصفت «الفتنة» موضع «القول» لمعرفة السامعين معنى الكلام. وإنما الفتنة التي هي الاختبار والابتلاء ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلا عند الاختبار، وضعت «الفتنة» التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم ا. هـ.

(2/16)


انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)

أن ترى إنسانا يحب غاوياً، فاذا وقع في هَلَكَةٍ تبرأ منه فيقول: ما كانت محبتك لفلان إِلا أن انتفيت منه. قال: وهذا تأويل لطيف، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام، وتصرُّفَ العربِ في ذلك. وقال ابن الأنباري: المعنى: أنهم افتتنوا بقولهم هذا، إذ كذبوا فيه، ونفوَا عن أنفسهم ما كانوا معروفين به في الدنيا.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «واللهِ ربِّنا» بكسر الباء. وقرأ حمزة، والكسائيّ، وخلف: بنصب الباء. وفي هؤلاء القوم الذين هذا وصفهم قولان «1» : أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: المنافقون.
ومتى يحلفون؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا من كان مسلماً، قالوا:
تعالوا نكابر عن شركنا، فحلفوا، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم إذا دخلوا النار، ورأوا أهل التّوحيد يخرجون، فحلفوا واعتذروا، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد. والثالث: أنهم إذا سئلوا: أين شركاؤكم؟
تبرؤوا، وحلفوا: ما كنا مشركين، قاله مقاتل.

[سورة الأنعام (6) : آية 24]
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي: باعتذارهم بالباطل. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي: ذهب ما كانوا يدّعون ويختلقون من أن الاصنام شركاء لله، وشفعاؤهم في الآخرة.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ.
(501) سبب نزولها: أن نفراً من المشركين، منهم عتبة، وشيبة، والنضر بن الحارث، وأُميَّةُ وأُبيّ ابنا خلف، جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمعوا إليه، ثم قالوا للنضر بن الحارث: ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بَِنيَّةً، ما أدري ما يقول؟ إلا أني أرى تحرك شفتيه، وما يقول إلا أساطير الأولين، مثلما كنت أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
فأما «الأكنّة» ، فقال الزجاج: هي جمع كنان، وهو الغطاء مثل عنان وأعنّة.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 425. تعليقا بقوله: قال ابن عباس في رواية أبي صالح ... فذكره فهذه علة وثمّ علة ثانية: أبو صالح، اسمه باذام ضعفه غير واحد، ولم يلق ابن عباس وذكره الواحدي في «الوسيط» 2/ 261 بقوله: نزلت. من غير عزو لقائل.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير، 2/ 164: وقال الضحاك عن ابن عباس: هذه في المنافقين، وفي هذا نظر فإن هذه الآية مكية والمنافقون إنما كانوا بالمدينة والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ..

(2/17)


وأما: «أن يفقهوه» ، فمنصوب على انه مفعول له. المعنى: وجعلنا على قلوبهم أكنَّة لكراهة أن يفقهوه، فلما حذفت اللام، نصبت الكراهة ولما حذفت الكراهة، انتقل نصبُها إلى «أنْ» .
«الوقر» : ثِقَلُ السمع، يقال: في أذنه وَقْر، وَقد وُقِرَتِ الأذن تُوْقَر. قال الشاعر:
وكلامٌ سيّئ قد وُقِرَتْ ... أُذُني عنه وما بي من صَمَمْ «1»
والوقِر، بكسر الواو أن يُحَمَّل البعير وغيره مقدار ما يطيق، يقال: عليه وَقْر، ويقال: نخلة موقِر، وموقِرة، وإنما فُعل ذلك بهم مجازاة لهم باقامتهم على كفرهم، وليس المعنى أنهم لم يفهموه، ولم يسمعوه ولكنهم لما عدلوا عنه، وصرفوا فكرهم عما عليهم في سوء العاقبة، كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ أي: كل علامة تدل على رسالتك، لا يُؤْمِنُوا بِها. ثمّ أعلم الله عزّ وجلّ مقدار احتجاجهم وجدلهم، وأنهم إنما يستعملون في الاحتجاج أن يقولوا: إِنْ هذا، أي:
ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وفيها قولان:
أحدهما: أنها ما سُطِّر من أخبارهم وأحاديثهم. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: أساطير الأولين: كذبهم، وأحاديثهم في دهرهم. وقال أبو الحسن الاخفش: يزعم بعضهم أن واحدة الأساطير: أسطورة. وقال بعضهم: أسطارة ولا أُراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو عباديد ومذاكير وأبابيل. وقال ابن قتيبة: أساطير الأولين: أخبارهم وما سطر منها، أي: ما كتب، ومنه قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ «2» أي: يكتبون، واحدها سطر، ثم أسطار، ثم أساطير جمع الجمع، مثل قول، وأقوال، وأقاويل.
والقول الثاني: أن معنى أساطير الأولين: الترهات. قال أبو عبيدة: واحد الأساطير: أسطورة، وإسطارة، ومجازها مجاز التُرهات. قال ابن الأنباري: الترهات عند العرب: طرق غامضة، ومسالك مشكلة، يقول قائلهم: قد أخذنا في ترهات البسابس، يعني: قد عدلنا عن الطريق الواضح إلى المشكل وعمّا يعرف إلى ما لا يعرف. و «البسابس» : الصحاري الواسعة، والتُّرَّهات: طرق تتشعب من الطريق الأعظم، فتكثر وتُشكِل، فجُعلت مثلا لما لا يصح وينكشف.
فان قيل: لم عابوا القرآن بأنه أساطير الأولين، وقد سطر الأولون ما فيه علم وحكمة، وما لا عيب على قائله؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنهم نسبوه إلى أنه ليس بوحي من الله. والثاني: أنهم عابوه بالإِشكال والغموض، استراحة منهم إلى البهت والباطل. فعلى الجواب الأول تكون «أساطير» من التسطير، وعلى الثاني تكون بمعنى الترهات، وقد شرحنا معنى التُّرَّهات.
قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ في سبب نزولها قولان:
(502) أحدهما: أن أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عمّا جاء
__________
أخرجه الحاكم 2/ 315 والواحدي 426 كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن سعد بن جبير عن ابن عباس به، وحبيب مدلس وقد عنعن ورواه عبد الرزاق في «تفسيره» 785 والطبري 13173 و 13174 و 13175 من
__________
(1) البيت: للمثقب العبدي في قصيدة حكمية جيدة أثبتها صاحب «المفضليات» 293.
(2) سورة القلم: 1.

(2/18)


به، فنزلت فيه هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول عمرو بن دينار، وعطاء بن دينار، والقاسم بن مخيمرة.
(503) وقال مقاتل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإِسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم سوءاً، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إِليهم، فيقتلوه، فقال: ما لي عنه صبر فقالوا: ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك، فقال أبو طالب: حين تروح الإِبل، فان حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعتُه إليكم، وقال:
والله لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم ... حَتَّى أُوَسَّدَ في التُّرَابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وابْشِرْ وقَرَّ بذاكَ مِنْكَ عُيُونا
وَعَرضْتَ دِيناً لاَ مَحَالَةَ أنَّه ... مِنْ خَيْرِ أدْيانِ البريَّةِ دِينا
لَولا المَلاَمَةُ أو حَذَاري سُبَّةُ ... لَوَجَدْتَني سَمْحَاً بذَاكَ مُبِيْنَا «1»
فنزلت فيه هذه الآية (504) والثاني: أن كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتّباع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويتباعدون بأنفسهم عنه، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال ابن الحنفية، والضحاك، والسدّي. فعلى القول الأول، يكون قوله تعالى: «وهم» كنايةً عن واحد وعلى الثاني: عن جماعة. وفي هاء «عنه» قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى النّبي صلى الله عليه وسلم. ثم فيه قولان «2» . أحدهما: ينهون عن أذاه والثاني: عن اتِّباعه. والقول الثاني: أنها تَرْجِع إلى القرآن، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد. وَيَنْأَوْنَ بمعنى
__________
طريق الثوري عن حبيب عمن سمع ابن عباس عن ابن عباس، وهذا أصح فالإسناد فيه راو مجهول ومع ذلك صححه الحاكم! وسكت عنه الذهب!. ولا يصح وما يأتي عن ابن عباس أرجح، وانظر «تفسير الشوكاني» 890 بتخريجنا.
عزاه المصنف لمقاتل، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 426 عن مقاتل بدون إسناد ومع ذلك فهو معضل، ومقاتل هو ابن سليمان متهم بالكذب والخبر لم يصح بكل حال وهو واه بمرة.
أخرجه الطبري 13163 والبيهقي 2/ 341 من طريق علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس، وفيه إرسال بينهما. وله شواهد عند الطبري عن ابن الحنفية 13162 وعن السدي 13164. وفي الباب روايات.
__________
(1) نسب المصنف هذه الأبيات لأبي طالب ولم يصح ذلك من جهة الإسناد كما تقدم.
قوله «غضاضة» : الغض من الشيء التنقص «والتوسد» كناية عن الموت.
(2) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 173: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال: تأويله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم من سواهم من الناس وينأون عن اتباعه. وذلك أن الآيات قبلها جرت بذكر جماعة المشتركين العادين به. والخبر عن تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإعراض عما جاءهم به من تنزيل الله ووحيه، فالواجب أن يكون قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ خبرا عنهم، إذا لم يأتنا ما يدل على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم، بل ما قبل هذه الآية وما بعدها، يدل على صحة ما قلنا من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون خبرا عن خاص منهم. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: وإن ير هؤلاء المشركون يا محمد، كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك يقولون: «إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأولين وأخبارهم» . وهم ينهون من استماع التنزيل. وينأون عنك فيبعدون منك ومن أتباعك اهـ.

(2/19)


وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)

يبعدون. وفي هاء «عنه» قولان: أحدهما: أنها راجعة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم. والثاني: إلى القرآن.
قوله تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ أي: وما يهلكون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بالتباعد عنه وَما يَشْعُرُونَ أنّهم يهلكونها.

[سورة الأنعام (6) : آية 27]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ في معنى «وقفوا» ستة أقوال. أحدها: حُبِسُوا عليها، قاله ابن السائب. والثاني: عُرِضُوا عليها، قاله مقاتل. والثالث: عاينوها. والرابع: وقفوا عليها وهي تحتهم. والخامس: دخلوا إليها فعرفوا مقدار عذابها، تقول: وقفت على ما عند فلان، أي فهمته وتبيَّنته، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الزجاج، واختار الأخير. وقال ابن جرير: عَلَى هاهنا بمعنى «في» .
السادس: جعلوا عليها وقفا، كالوقوف المؤبَّدة على سبلها، ذكره الماورديّ. والخطاب بهذه الآية للنّبي صلى الله عليه وسلم، والوعيد للكفار، وجواب «لو» محذوف، ومعناه: لو رأيتهم في تلك الحال، لرأيت عجباً.
قوله تعالى: وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم برفع الباء من «نكذبُ» والنون من «نكونُ» .
قال الزجاج: والمعنى أنهم تمنَّوا الرد، وضمنوا أنهم لا يكذِّبون. والمعنى: يا ليتنا نُرَدُّ، ونحن لا نكذب بآيات ربِّنا، رُدِدْنا أو لم نُردَّ، ونكون من المؤمنين، لأنّا قد عاينّا مالا نكذب معه أبداً. قال:
ويجوز الرفع على وجه آخر، على معنى «يا ليتنا نرد» ، يا ليتنا لا نكذب، كأنهم تمنوا الرد والتوفيق للتصديق. وقال الأخفش: إذا رفعت جعلته على مثل اليمين، كأنهم قالوا: ولا نكذب- واللهِ- بآيات ربِّنا، ونكون- والله- من المؤمنين. وقرأ حمزة إلا العجليَّ «1» ، وحفص عن عاصم، ويعقوب: بنصب الباء من «نكذبَ» ، والنون من «نكونَ» . قال مكي بن أبي طالب: وهذا النصب على جواب التمني، وذلك بإضمار «أن» ، حملاً على مصدر «نرد» ، فأضمرت «أن» لتكون مع الفعل مصدراً، فعطف بالواو مصدراً على مصدر. وتقديره: يا ليت لنا ردّا، وانتفاء من التكذيب، وكوناً من المؤمنين. وقرأ ابن عامر برفع الباء من «نُكذبُ» ، ونصب النون من «نكون» بالرّفع قد بيَّنا علته، والنصب على جواب التمني.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 28 الى 29]
بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
قوله تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ «بل» : ها هنا ردّ لكلامهم، أي: ليس الأمر على ما قالوا من أنهم لو ردُّوا لآمنوا. وقال الزجاج: «بل» استدراك وإيجاب بعد نفي تقول: ما جاء زيد بل عمرو.
وفي معنى الآية أربعة أقوال: أحدها: بدا ما كان يخفيه بعضهم عن بعض، قاله الحسن. والثاني:
بدا بنطق الجوارح ما كانوا يخفون من قبل بألسنتهم، قاله مقاتل. والثالث: بدا لهم جزاء ما كانوا
__________
(1) العجلي: هو أبو أحمد عبد الله بن صالح بن مسلم بن صالح العجلي الكوفي نزيل بغداد مقرئ مشهور ثقة.
أخذ القراءة عرضا عن حمزة الزيات وعن سليم عن حمزة أيضا، مات في حدود العشرين ومائتين.

(2/20)


وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)

يخفونه، قاله المبرد. والرابع: بدا للأتباع ما كان يُخفيه الرؤساء، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ قال ابن عباس: لعادوا إلى ما نُهوا عنه من الشرك، وإنهم لكاذبون في قولهم: وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قال ابن الانباري: كذَّبهم الله في إخبارهم عن أنفسهم أنهم إن رُدُّوا آمنوا ولم يكذبوا، ولم يكذِّبْهم في التمني.
قوله تعالى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا هذا إِخبار عن منكري البعث.
(505) قال مقاتل: لما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم كفار مكة بالبعث، قالوا هذا. وكان عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول: هذا حكاية قولهم، لو ردوا لقالوا «1» .

[سورة الأنعام (6) : آية 30]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قال مقاتل: عُرِضُوا على ربهم قالَ أَلَيْسَ هذا العذاب بِالْحَقِّ. وقال غيره: أليس هذا البعث حقا؟ فعلى قول مقاتل: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بالعذاب، وعلى قول غيره: تَكْفُرُونَ بالبعث.

[سورة الأنعام (6) : آية 31]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)
قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ إنما وُصِفُوا بالخسران، لأنهم باعوا الإيمان بالكفر، فعظم خسرانهم. والمراد بلقاء الله: البعث والجزاء والساعة: القيامة والبغتة: الفجأة. قال الزجاج:
كلُّ ما أتى فجأة فقد بغت يقال: قد بغته الأمر يَبْغَتُه بَغْتاً وبغتةً: إذا أتاه فجأة. قال الشاعر:
وَلكَِنَّهم بانُوا وَلَمْ أَخْشَ بَغْتَةً ... وَأَفْظَعُ شيءٍ حِينَ يَفْجَؤُكَ البَغْتُ «2»
قوله تعالى: يا حَسْرَتَنا الحسرة: التلهف على الشيء الفائت، وأهل التفسير يقولون: يا ندامتنا.
فإن قيل: ما معنى دعاء الحسرة، وهي لا تعقِلُ؟ فالجواب: أن العرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن عظيم ما تقع فيه، جعلته نداءً، فتدخِلُ عليه «يا» للتنبيه، والمراد تنبيه الناس، لا تنبيه المنادي. ومثله قولهم: لا أرينّك ها هنا. لفظه لفظ الناهي لنفسه، والمعنى للمنهي ومن هذا قولهم:
يا خَيْلَ الله اركبي، يراد: يا فرسان خيل الله. وقال سيبويه: إذا قلتَ: يا عجباه، فكأنك قلت: احضر وتعال يا عَجَبُ، فهذا زمانك. فأما التفريط فهو: التضييع. وقال الزجاج: التفريط في اللغة: تقدمه العجز. وفي المكني عنه بقوله: «فيها» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الدنيا، فالمعنى: على ما ضيعنا في الدنيا من عمل الآخرة، قاله مقاتل. والثاني: أنها الصَّفقة، لأن الخسران لا يكون إلّا في صفقة، وترك
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الحديث.
__________
(1) انظر «تفسير البغوي» 2/ 92 والقرطبي 6/ 377.
(2) البيت ليزيد بن ضبة، وضبة أمه، واسم أبيه مقسم، «مجاز القرآن» 1/ 193 و «اللسان» بغت.

(2/21)


وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)

ذكرها اكتفاءً بذكر الخسران قاله ابن جرير. والثالث: أنها الطاعة ذكره بعض المفسرين.
فأما الأوزار، فقال ابن قتيبة: هي الآثام، وأصل الوزر: الحمل على الظهر. وقال ابن فارس:
الوزر: الثقل. وهل هذا الحمل حقيقة؟ فيه قولان: أحدهما: أنه على حقيقته. قال عمير بن هانئ:
يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل قبيح، كلمَّا كان هَوْلٌ عظَّمه عليه، وزاده خوفا، فيقول: بئس الجليس أنت، ما لي ولك؟ فيقول: أنا عملك، طالما ركبتني في الدنيا، فلأركبنك اليوم حتى أُخزيَك على رؤوس الناس، فيركبُه ويتخطى به الناس حتى يقف بين يدي ربه، فذلك قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ وهذا قول السدي، وعمرو بن قيس الملائي، ومقاتل. والثاني: أنه مثل، والمعنى: يحملون ثقل ذنوبهم، قاله الزجاج. قال. فجعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أَثْقَلِ ما يُتحَمَّل.
ومعنى أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ: بئس الشيء شيئا يزرونه، أي يحملونه.

[سورة الأنعام (6) : آية 32]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: وما الحياة الدنيا في سرعة انقطاعها، وقصر عمرها إلا كالشيء يلعب به. والثاني: وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو، فأما فعل الخير، فهو من عمل الآخرة، لا من الدنيا. والثالث: وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو، لاشتغالهم عما أمروا به. واللعب: ما لا يُجدي نفعاً.
قوله تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ اللام: لام القسم، والدار الآخرة: الجنة «أفلا يعقلون» فيعملون لها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو وحمزة، والكسائي، «يعقلون» بالياء، في الأنعام والأعراف ويوسف ويس، وقرءوا في القصص بالتاء. وقرأ نافع كل ذلك بالياء، وروى حفص، عن عاصم كل ذلك بالتاء، إلا في يس فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ «1» ، بالياء وقرأ ابن عامر الذي في يس بالياء، والباقي بالتاء.

[سورة الأنعام (6) : آية 33]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(506) أحدها: أن رجلا من قريش يقال له: الحارث بن عامر، قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط فنتَّهِمَك اليوم، ولكنا إن نتَّبعْك نُتَخَطَّفْ من أرضنا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وقال مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذِّب النبي في العلانية، فاذا خلا مع أهل بيته، قال: ما محمد من أهل الكذب، فنزلت فيه هذه الآية «2» .
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.
__________
(1) سورة يس: 67.
(2) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، وذكره الواحدي 430.

(2/22)


والثاني: أن المشركين كانوا إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا فيما بينهم: إنه لَنبي، فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح «1» .
(507) والثالث: أن أبا جهل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نُكذب الذي جئت به، فنزلت هذه الآية، قاله ناجية بن كعب.
(508) وقال أبو يزيد المدني: لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فصافحه أبو جهل فقيل له:
أتصافح هذا الصابئ؟ فقال: والله إني لأعلم أنه نبي، ولكن متى كنا تبعاً لبني عبد مناف؟ فأنزل الله هذه الآية.
(509) والرابع: أن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل فقال الأخنس: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو، أم كاذب؟ فليس ها هنا من يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والسقاية، والحجابة، والنُّبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية، قاله السّدّيّ، ذكره الطبريّ مطوّلا.
فأما الذي يقولون، فهو التّكذيب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والكفر بالله. وفي الآية تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتعزية عما يواجهونه به.
قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قرأ نافع، والكسائي: «يُكْذِبُونَك» بالتخفيف وتسكين الكاف.
وفي معناها قولان: أحدهما: لا يُلْفُونَك كاذباً قاله ابن قتيبة. والثاني: لا يكذِّبون الشيء الذي جئت به، إنما يجحدون آياتِ الله، ويتعرَّضون لعقوباته. قال ابن الأنباري: وكان الكسائي يحتج لهذه القراءة بأن العرب تقول: كذبْتُ الرجل: إذا نسبْتَه إلى الكذب وصنعة الأباطيل من القول وأكذبتُه: إذا أخبرتَ أن الذي يحدث به كذب، ليس هو الصانع له. قال: وقال غير الكسائي: يقال: أكذبتُ الرجل: إذا أدخلتَه في جملة الكذابين، ونسبتَه إلى صفتهم، كما يقال: أبخلتُ الرجل: إذا نسبتَه إلى البخل، وأجبنتُه: إذا وجدتَه جبانا. قال الشاعر:
فَطَائِفَةٌ قَدْ أكْفَرُونِي بِحُبِّكُمْ ... وَطَائِفَةٌ قالوا مُسِيءٌ ومذنب «2»
__________
ورد موصولا ومرسلا. أخرجه الترمذي 3064 والحاكم 2/ 315 ح 3230 كلاهما عن ناجية بن كعب عن علي به، صححه الحاكم على شرطهما، وتعقبه الذهبي بقوله: لم يخرجا لناجية شيئا ا. هـ، وكرره الترمذي عن ناجية مرسلا، وكذا الطبري 13197 و 13198 وصوب الترمذي المرسل. والله أعلم. انظر والقرطبي 2195 بتخريجنا.
أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير «ابن كثير» 2/ 167 عن أبي يزيد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
وأخرجه أبو الشيخ كما في «الدر المنثور» 3/ 18 عن أبي يزيد مرسلا نحوه.
أخرجه الطبري 13196 عن السدي مرسلا. وذكره الواحدي بقوله السدي. فذكره. وهذا ضعيف فالسدي فيه ضعف إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله.
- الخلاصة: أكثر الأقوال أنها نزلت في شأن أبي جهل، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
__________
(1) عزاه المصنف لأبي صالح، وليس بشيء.
(2) البيت للكميت بن زيد الأسدي من قصيدته الرائعة في مدح آل البيت. [.....]

(2/23)


وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة وابن عامر: «يكَذِّبونك» بالتشديد وفتح الكاف وفي معناها خمسة أقوال: أحدها: لا يكذِّبونك بحجة، وإنما هو تكذيب عِناد وبَهْتٍ، قاله قتادة، والسدي. والثاني: لا يقولون لك: إنك كاذب، لعلمهم بصدقك، ولكن يكذِّبون ما جئت به، قاله ناجية ابن كعب. والثالث: لا يكذِّبونك في السر، ولكن يكذِّبونك في العلانية، عداوةً لك، قاله ابن السائب، ومقاتل. والرابع: لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم: كذبت. والخامس:
لا يكذِّبونك بقلوبهم، لأنهم يعلمون أنك صادق، ذكر القولين الزجاج. وقال أبو علي: يجوز أن يكون معنى القراءتين واحداً وإن اختلفت اللفظتان، إلا أن «فعّلتُ» : إذا أرادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من «فعلت» . ويؤكد أنَّ القراءتين بمعنىً، ما حكاه سيبويه أنهم قالوا: قلَّلتُ، وأقللت، وكثَّرتُ، وأكثرت بمعنىً. قال أبو علي: ومعنى «لا يكذِّبونك» : لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرتَ به مما جاء في كتبهم، ويجوز أن يكون معنى الحقيقة: لا يصادفونك كاذباً، كما تقول: أحمدت فلانا: إذا أصبتَه محموداً، لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ بألسنتهم ما يعلمونه يقينا، لعنادهم. وفي «آيات الله» ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. والثاني:
محمد والقرآن، قاله ابن السّائب. والثالث: القرآن، قاله مقاتل.

[سورة الأنعام (6) : آية 34]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ هذه تعزية له على ما يلقى منهم. قال ابن عباس:
فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا رجاء ثوابي، وَأُوذُوا حتى نُشروا بالمناشير، وحُرقوا بالنار حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا بتعذيب من كذبهم.
قوله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ فيه خمسة أقوال: أحدها: لا خُلْفَ لمواعيده، قاله ابن عباس. والثاني: لا مبدِّل لما أخبر به وما أمر به، قاله الزجاج. والثالث: لا مبدل لحكوماته وأقضيته النافذة في عباده، فعبّرت الكلمات عن هذا المعنى، كقوله تعالى: وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي: وجب ما قضي عليهم. فعلى هذا القول، والذي قبله، يكون المعنى: لا مبدل لحكم كلمات الله، ولا ناقض لما حكم به، وقد حكم بنصر أنبيائه بقول: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» . والرابع:
أن معنى الكلام معنى النهي، وإن كان ظاهره الإخبار فالمعنى: لا يُبدِّلَن أحد كلمات الله، فهو كقوله:
لا رَيْبَ فِيهِ. والخامس: أن المعنى: لا يقدر أحد على تبديل كلام الله، وإن زخرف واجتهد، لأن الله تعالى صانه برصين اللفظ، وقويم الحكم، أن يختلط بألفاظ أهل الزيغ، ذكر هذه الألفاظ الثلاثة ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي: فيما صبروا عليه من الأذى فنُصروا. وقيل: إن «مِن» صلة.
__________
(1) سورة المجادلة: 21.

(2/24)


وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)

[سورة الأنعام (6) : آية 35]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)
قوله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ.
(510) سبب نزولها: أنّ الحارث بن عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش فقال: يا محمد، ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات، فإن فعلت آمنا بك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
و «كبر» : بمعنى «عظم» . وفي إعراضهم قولان: أحدهما: عن استماع القرآن. والثاني: عن اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأما «النفق» ، فقال ابن قتيبة: النفق في الأرض: المدخل، وهو السَّرب. والسُّلَّم في السماء: المصعد. وقال الزجاج: النفق: الطريق النافذ في الأرض. والنافقاء، ممدود: أحد جحِرة اليربوع يَخرِقه من باطن الأرض إلى جلدة الأرض، فاذا بلغ الجلدة أرقَّها، حتى إنْ رابه ريب، دفع برأسه ذلك المكان وخرج، ومنه سمي المنافق، لأنه أبطن غير ما أظهر، كالنافقاء الذي ظاهره غير بين، وباطنه حفر في الأرض. و «السلّم» مشتق من السلامة، وهو الشيء الذي يسلّمك إلى مصعدك.
والمعنى: فان استطعت هذا فافعل، وحذف «فافعل» ، لأن في الكلام دليلا عليه. وقال أبو عبيدة:
السلّم: السبب والمرقاة، تقول: اتخذتني سُلَّماً لحاجتك، أي: سببا. وفي قوله تعالى: فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ قولان: أحدهما: بآية قد سألوك إيّاها، وذلك أنهم سألوا نزول ملك الموت، ومثل آيات الأنبياء، كعصا موسى، وناقة صالح. والثاني: بآية هي أفضل من آيتك.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لو شاء أن يطبعهم على الهدى لطبعهم. والثاني: لو شاء لأنزل ملائكة تضطرُّهم إلى الإيمان. ذكرهما الزجاج. والثالث: لو شاء لآمنوا كلهم، فأخبر إنما تركوا الإيمان بمشيئته، ونافذ قضائه.
قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تجهل أنه لو شاء لجمعهم على الهدى. والثاني: لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم، ويكفر بعضهم. والثالث: لا تكونن ممن لا صبر له، لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين.

[سورة الأنعام (6) : آية 36]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
قوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أي: إنما يجيبك من يسمع، والمراد به سماع قبول.
وفي المراد بالموتى قولان: أحدهما: أنهم الكفار، قاله الحسن، ومجاهد وقتادة، فيكون المعنى: إنما يستجيب المؤمنون فأما الكفار، فلا يستجيبون حتى يبعثهم الله تعالى: ثم يحشرهم كفاراً، فيجيبون اضطراراً. والثاني: أنهم الموتى حقيقة، ضربهم الله تعالى مثلاً والمعنى: أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله، فكذلك الذين لا يسمعون.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وراويته هو الكلبي، وقد كذبه غير واحد، فالخبر لا شيء.

(2/25)


وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)

قوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ يعني: المؤمنين والكافرين، فيجازي الكلّ.

[سورة الأنعام (6) : آية 37]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)
قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قال ابن عباس: نزلت في رؤساء قريش.
و «لولا» : بمعنى «هلاّ» وقد شرحناها في سورة النساء.
وقال مقاتل: أرادوا بالآية مثل آيات الأنبياء. وقال غيره: أرادوا نزول ملك يشهد له بالنبوَّة.
وفي قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا يعلمون بأنّ الله سبحانه وتعالى قادر على إنزال الآية. والثاني: لا يعلمون ما عليهم من البلاء في إنزالها، لأنهم إن لم يؤمنوا بها، زاد عذابهم. والثالث: لا يعلمون المصلحة في نزول الآية.

[سورة الأنعام (6) : آية 38]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: يريد كل ما دبَّ على الأرض. قال الزجاج:
وذكر الجناحين توكيد، وجميع ما خُلق لا يخلو إما أن يدبّ، وإمّا أن يطير.
وقوله تعالى: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ قال مجاهد: أصناف مصنفة. وقال أبو عبيدة: أجناس يعرفون الله ويعبدونه. وفي معنى «أمثالكم» أربعة أقوال: أحدها: أمثالكم في كون بعضها يفقه عن بعض، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: في معرفة الله، قاله عطاء. والثالث: أمثالكم في الخلق والموت والبعث، قاله الزجاج. والرابع: أمثالكم في كونها تطلب الغذاء، وتبتغي الرزق، وتتوقَّى المهالك، قاله ابن قتيبة. قال ابن الانباري: وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن الله تعالى ركَّب في المشركين عقولاً، وجعل لهم أفهاما ألزمهم بها أن يتدبَّروا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ويتمسكوا بطاعته، كما جعل للطير أفهاما يعرف بها بعضها إشارة بعض، وهدى الذَّكَرَ منها لإتيان الأنثى، وفي كل ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها.
قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ في الكتاب قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ.
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ما تركنا شيئا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب، وإلى هذا المعنى ذهب قتادة، وابن زيد. والثاني: أنه القرآن. روى عطاء عن ابن عباس: ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم.
فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المعنى: ما فرطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبيناه في الكتاب، إما نصاً، وإما مجملاً، وإما دلالة، كقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «1» أي: لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين.
قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فيه قولان «2» : أحدهما: أنه الجمع يوم القيامة.
__________
(1) سورة النحل: 89.
(2) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 188: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن كل دابة وطائر محشور إليه، وجائز أن يكون معنيا بذلك حشر القيامة، وجائز أن يكون معنيا به حشر الموت، وجائز أن يكون معنيا به الحشرات جميعا، ولا دلالة في ظاهر التنزيل، ولا في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم أي ذلك المراد بقوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ إذ كان (الحشر) في كلام العرب الجمع، من ذلك قول الله تعالى ذكره جامعا خلقه إليه يوم القيامة، وجامعهم بالموت، كان أصوب القول في ذلك أن يعم بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها. وأن يقال: كل دابة وكل طائر محشور إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة، إذ كان الله تعالى ذكره قد عم بقوله: «ثم إلى ربهم يحشرون» ولم يخصص به حشر دون حشر. فإن قال قائل: فما وجه قوله وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بجناحيه وهل يطير الطائر إلا بجناحيه فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟ قيل: قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى ذكره أنزل هذا الكتاب بلسان قوم، وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم. فإذا كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا: (كلمت فلانا بفمي) ، و (مشيت إليه برجلي) و (ضربته بيدي) خاطبهم الله تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم، ويستعملونه في خطابهم، ومن ذلك قوله تعالى ذكره: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [ص: 23] .

(2/26)


وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)

(511) روى أبو ذر قال: «انتطحت شاتان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر، أتدري فيما انتطحتا؟
قلت: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما» .
(512) وقال أبو هريرة: يحشر الله الخلق يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدله أن يأخذ للجمَّاء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً، فيقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا.
والثاني: أن معنى حشرها: موتها، قاله ابن عباس، والضّحّاك.

[سورة الأنعام (6) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم صُمٌّ عن القرآن لا يسمعونه، وَبُكْمٌ عنه لا ينطقون به فِي الظُّلُماتِ أي: في الشرك والضلالة. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ فيموت على الكفر وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام.

[سورة الأنعام (6) : آية 40]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40)
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة: «أرأيتم»
__________
حسن. أخرجه أحمد 5/ 173 والبزار 350 و 3451 «كشف» من حديث أبي ذر وفي إسناده ليث بن أبي سليم غير قوي، وبقية رجاله ثقات وقد توبع فقد أخرجه أحمد 5/ 162 والطبري 13226 وفيه راو لم يسم وأخرجه الطبري 13227 عن منذر الثوري عن أبي ذر. وهذا منقطع بين أبي ذر ومنذر الثوري.
والصواب الرواية المتقدمة حيث رواه منذر عن أشياخ له عن أبي ذر. وبكل حال الحديث حسن بطرقه وفي الباب أحاديث تعضده وانظر ما بعده، وانظر «الشوكاني» 894 بتخريجنا.
موقوف صحيح أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 786 ومن طريقه الطبري 13225 عن أبي هريرة موقوفا، وإسناده صحيح. وورد بعضه مرفوعا. أخرجه مسلم 2582 والترمذي 2420 وعبد الرزاق 34765 وأحمد 2/ 323 وابن حبان 8363 عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) وله شواهد. انظر «تفسير الشوكاني» 895 و «تفسير القرطبي 2896 بتخريجنا.

(2/27)


بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)

و «أرأيتكم» و «أرأيت» بالألف في كل القرآن مهموزاً وليَّن الهمزة نافع في الكل. وقرأ الكسائي بغير همز ولا ألف. قال الفراء: العرب تقول: أرأيتك، وهم يريدون: أخبرني.
فأمّا عذاب الله، ففي المراد به ها هنا قولان: أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس. والثاني:
العذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية، قاله مقاتل. فأما الساعة، فهي القيامة. قال الزجاج: وهو اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد، وللوقت الذي يبعثون فيه.
قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أي: أتدعون صنماً أو حجراً لكشفِ ما بكم؟! فاحتج عليهم بما لا يدفعونه، لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جواب لقوله تعالى: «أرأيتكم» ، لأنه بمعنى أخبروا، كأنه قيل لهم: إن كنتم صادقين، فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم؟.

[سورة الأنعام (6) : آية 41]
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
قوله تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ قال الزجاج: أعلمهم أنهم لا يدعون في الشدائد إلا إياه وفي ذلك أعظم الحجج عليهم، لأنهم عبدوا الأصنام. فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ المعنى: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم، وهذا على اتساع الكلام مثل قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» ، أي: اهل القرية. وَتَنْسَوْنَ: يجوز أن يكون بمعنى «تتركون» ويجوز أن يكون المعنى: إنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 42]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ في الآية محذوف، تقديره: ولقد أرسلنا إلى أُمم من قبلك رسلا فخالفوهم، فأخذناهم بالبأساء وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الزمانة والخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها البؤس، وهو الفقر، قاله ابن قتيبة. والثالث: أنها الجوع، ذكره الزجاج. وفي الضرَّاء ثلاثة أقوال: أحدها: البلاء، والجوع، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني:
النقص في الأموال والأنفس، ذكره الزجاج. والثالث: الاسقام والأمراض، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي: لكي يتضرعوا. والتضرع: التذلل والاستكانة. وفي الكلام محذوف تقديره: فلم يتضرّعوا.

[سورة الأنعام (6) : آية 43]
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43)
قوله تعالى: فَلَوْلا معناه: «فهلاَّ» . والبأس: العذاب. ومقصود الآية: أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قد أرسل إلى قوم قبله بلغوا من القسوة أنهم أخذوا بالشدائد، فلم يخضعوا، وأقاموا على كفرهم، وزين لهم الشيطان ضلالتهم فأصرّوا عليها.
__________
(1) سورة يوسف: 82.

(2/28)


فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)

[سورة الأنعام (6) : آية 44]
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ قال ابن عباس: تركوا ما وعظوا به. فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ يريد رخاء الدنيا وسرورها. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر: «فتَّحنا» بالتشديد هنا وفي الأعراف، وفي الأنبياء: «فُتِّحت» ، وفي القمر: «فتّحنا» ، والجمهور على تخفيفهن. قال الزجاج:
أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير، حتى إذا ظنوا أن ما كان نزل بهم، لم يكن انتقاماً، وما فُتح عليهم، باستحقاقهم، أخذناهم بغتة، أي: فاجأهم عذابنا.
وقال ابن الانباري: إنما أراد بقوله تعالى: «كل شيء» : التأكيد، كقول القائل: أكلنا عند فلان كلَّ شيء، وكنا عنده في كل سرور، يريد بهذا العموم تكثير ما يصفه والإطناب فيه، كقوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «1» . وقال الحسن: من وُسِّع عليه فلم ير أنه لم يُمكر به، فلا رأي له ومن قُتِّر عليه فلم ير أنه ينظر له، فلا رأي له، ثم قرأ هذه الآية، وقال: مُكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجاتهم ثم أُخذوا.
قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ في المبلس خمسة اقوال: أحدها: أنه الآيس من رحمة الله عزّ وجلّ، رواه الضحاك عن ابن عباس وقال في رواية أخرى: الآيس من كل خير. وقال الفراء:
المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه، ولذلك قيل للذي يسكت عند انقطاع حجته، فلا يكون عنده جواب:
قد أبلس. قال العجَّاج:
يا صَاحِ هَلْ تعْرِفُ رَسْماً مُكْرَساً ... قَالَ نَعَمْ! أعْرِفُه! وأبْلَسَا «2»
أي: لم يَحِرْ جواباً. وقيل: المكرس: الذي قد بعرت فيه الإبل، وبوَّلت، فيركب بعضه بعضاً.
والثاني: أنه المفتضح. قال مجاهد: الإبلاس: الفضيحة. والثالث: أنه المهْلك، قاله السدي. والرابع:
أنه المجهود المكروب الذي قد نزل به من الشّر ما لا يستطيعه، قاله ابن زيد. والخامس: أنه الحزين النادم، قاله أبو عبيدة، وأنشد لرؤبة:
وحَضَرتْ يوم الخميس الأخماس ... وفي الوجوه صُفرةٌ وإِبلاس
أي: اكتئاب، وكسوف، وحزن. وقال الزجاج: هو الشديد الحسرة، الحزين، اليائس. وقال في موضع آخر: المبلس: السّاكت المتحيّر.

[سورة الأنعام (6) : آية 45]
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
قوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا قال ابن السائب: دابرهم: الذي يتخلف في آخرهم.
والمعنى: أنهم استؤصلوا. وقال أبو عبيدة: دابرهم: آخرهم الذي يدبرهم: قال ابن قتيبة: هو كما
__________
(1) سورة النمل: 23.
(2) في «اللسان» كرس، تكرس الشيء تكارس أي تراكم وتلازب. وأبلس: سكت غما.

(2/29)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)

يقال: اجتُثَّ أصلهم. قال المفسرون: وإنما حمد نفسه على قطع دابرهم، لأن ذلك إنعام على رسلهم الذين كذبوهم، وعلّم الحمد على كفايته شرّ الظّالمين.

[سورة الأنعام (6) : آية 46]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ أي: أذهبها وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ حتى لا تعرفون شيئا مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ؟ في هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعود على الفعل، والمعنى: يأتيكم بما أخذ الله منكم، قاله الزجاج. وقال الفراء: إذا كنيت عن الأفاعيل، وإن كثرتْ، وحَّدتَ الكناية، كقولك للرجل: إقبالك وإدبارك يؤذيني. والثاني: أنها تعود إلى الهدى، ذكره الفراء.
فعلى هذا تكون الكناية عن غير مذكور، ولكن المعنى يشتمل عليه، لأن من أُخذ سمعه وبصره وُختم على قلبه لم يهتد. والثالث: أنها تعود على السمع، ويكون ما عُطف عليه داخلاً معه في القصة، لأنه معطوف عليه، ذكره الزّجّاج. والجمهور يقرءون: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ بكسر هاء «به» .
وروى المسيبَّي عن نافع: «بهُ انظر» : بالضم. قال أبو علي: من كسر، حذف الياء التي تلحق الهاء في نحو: بهي عيب، ومن ضم، فعلى قول من قال: فخسفنا بهو بدارهو الأرض، فحذف الواو.
قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ قال مقاتل: يعني تكون العلامات في أُمور شتى، فيخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب، وبما صُنع بالأُمم الخالية ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ، أي:
يعرضون فلا يعتبرون.

[سورة الأنعام (6) : آية 47]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً قال الزجاج: البغتة: المفاجأة والجهرة: أن يأتيهم وهم يرونه. هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أي: هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم، لأنكم كفرتم معاندين، فقد علمتم أنكم ظالمون.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 48 الى 49]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
قوله تعالى: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ أي: بالثواب ومنذرين بالعقاب وليس إرسالهم ليأتوا بما يقترحونه من الآيات. ثم ذكر ثواب من صدق، وعقاب من كذب في تمام الآية والتي بعدها.
وقال ابن عباس: يفسقون: بمعنى يكافرون.

[سورة الأنعام (6) : آية 50]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)
قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ.

(2/30)


وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)

(513) سبب نزولها: أن أهل مكة قالوا: يا محمد، لو أنزل الله عليك كنزاً فتستغني به، فانك فقير محتاج أو تكون لك جنة تأكل منها، فانك تجوع، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قال الزّجّاج: وهذه الآية متّصلة بقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فأعلمهم أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي، ولا يعلم الغيب فيخبرهم به إلا بوحي، ولا يقول: إنه مَلَكٌ، لأن الملك يشاهد من أمور الله تعالى ما لا يشاهده البشر. وقرأ ابن مسعود، وابن جبير، وعكرمة، والجحدري: «إني ملك» بكسر اللام. وفي الأعمى والبصير قولان:
أحدهما: أن الأعمى: الكافر، والبصير: المؤمن، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: الأعمى: الضال، والبصير: المهتدي، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد.
وفي قوله تعالى: أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ قولان: أحدهما: فيما بُيِّن لكم من الآيات الدالة على وحدانيته وصدق رسوله. والثاني: فيما ضُرب لكم من مثل الأعمى والبصير وأنهما لا يستويان.

[سورة الأنعام (6) : آية 51]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
قوله تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ قال الزجاج: يعني بالقرآن، وإنما ذكر الذين يخافون الحشر دون غيرهم، وإن كان مُنْذِراً لجميع الخلق، لأن الحجة على الخائفين الحشر أظهر، لاعترافهم بالمعاد، فهم أحد رجلين: إما مسلم، فيُنذَر ليؤديَ حق الله عليه في إسلامه، وإما كتابي، فأهل الكتاب مجمعون على البعث. وذِكر الولي والشفيع، لأن اليهود والنصارى ذكرت أنها أبناء الله وأحبّاؤه، فأعلم عزّ وجلّ أن أهل الكفر ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع. وقال غيره: ليس لهم من دونه ولي، أي: ليس لهم غير الله ولي ولا شفيع، لأن شفاعة الشافعين بأمره.
وقال أبو سليمان الدمشقي: هذه الآية متعلقة بقوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ «1» . روى سعد بن أبي وقّاص قال:.

[سورة الأنعام (6) : آية 52]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، روى سعد بن أبي وقاص قال:
(514) نزلت هذه الآية في ستة: فيّ، وفي ابن مسعود، وصهيب، وعمار، والمقداد، وبلال.
قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء، فاطردهم عنك. فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فنزلت هذه الآية.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة واهية، وتقدم الكلام على ذلك مرارا.
حسن. أخرجه الطبري 13266 عن سعد وإسناده حسن وانظر ما بعده.
__________
(1) سورة الأنعام: 19.

(2/31)


(515) وقال خباب بن الأرتِّ: نزلت فينا، كنا ضعفاء عند النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلّمنا بالغداة والعشي ما ينفعنا، فجاء الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، فقالا: إنا من أشراف قومنا، وإنا نكره أن يرونا معهم، فاطردهم إذا جالسناك. قال: «نعم» . فقالوا: لا نرضى حتى تكتب بيننا كتاباً، فأتُي بأديم ودواة، ودعا علياً ليكتب، فلما أراد ذلك، ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بقوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ إلى قوله: فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فرمى بالصحيفة ودعانا، فأتيناه وهو يقول: «سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة» . فدنونا منه يومئذ حتى وضعنا ركبنا على ركبته.
(516) وقال ابن مسعود: مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خبَّاب، وصهيب، وبلال، وعمَّار، فقالوا: يا محمد، رضيتَ بهؤلاء، أتريد أن نكون تبعاً لهم؟! فنزلت: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.
(517) وقال عكرمة: جاء عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل، في أشراف بني عبد مناف، إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم في صدورنا، وأدنى لاتِّباعنا إياه، فأتاه أبو طالب فحدثه بذلك، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، فنزلت هذه الآيات، فأقبل عمر يعتذر من مقالته.
(518) وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت في الموالي، منهم بلال، وصهيب، وخبّاب، وعمّار، ومهجع، وسلمان، وعامر بن فهيرة، وسالم مولى أبي حذيفة وأن قوله:
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ نزلت فيهم أيضا.
(519) وقد روى العوفي عن ابن عباس: أنّ أناسا من الأشراف قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: نؤمن لك، وإذا صلينا فأخِّر هؤلاء الذين معك، فليصلوا خلفنا. فعلى هذا، إنما سألوه تأخيرهم عن الصّفّ، وعلى
__________
ضعيف. أخرجه ابن ماجة 4127 والطبري 13261، والواحدي في «الوسيط» 2/ 247 وفي «أسباب النزول» 432 من حديث خباب بن الأرتّ وإسناده ضعيف أبو سعد قارئ الأزد وعبد الله بن عامر أبو الكنود كلاهما مجهول. وللمتن علة أخرى: وهي كون الخبر مدني والسورة مكية، ولذا استغربه الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 173 وقال: فالآية مكية، والخبر مدني اهـ قلت: قدوم الأقرع وعيينة كان في المدينة.
- وأصلح من ذلك كله ما أخرجه: مسلم 2413 والنسائي في «التفسير» 183 وابن ماجة 4128 وأبو يعلى 826 والطبري 13266 والواحدي 431 والحاكم 3/ 319 عن سعد بن أبي وقاص قال: نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنا وابن مسعود وبلال ورجل من هذيل، ورجلان لست أسميهما. فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم اطردهم لا يجترءون علينا فنزلت» اهـ. وانظر «تفسير الشوكاني» 897 و 798 بتخريجنا.
حديث حسن. أخرجه أحمد 3975 والبزار 2209 والطبراني 10520 والواحدي 433 من حديث ابن مسعود، وقال الهيثمي في «المجمع» 10997: رجال أحمد رجال الصحيح غير كردوس، وهو ثقة. اهـ.
ويشهد له ما تقدم عن سعد من حديث ابن مسعود. انظر «تفسير الشوكاني» 897 وابن كثير 2/ 172 و 173.
بتخريجنا.
أخرجه الطبري 13267 عن عكرمة مرسلا والمرسل من قسم الضعيف، وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 173.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وراويته الكلبي يضع الحديث، والمتن منكر جدا بذكر سلمان فإن إسلامه كان في المدينة، والسورة مكية.
أخرجه الطبري 13386 عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف جدا، فيه عطية العوفي ضعيف، وعنه مجاهيل.

(2/32)


الأقوال التي قبله، سألوه طردهم عن مجلسه.
قوله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ في هذا الدعاء خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه الصلاة المكتوبة، قاله ابن عمر، وابن عباس. وقال مجاهد: هي الصلوات الخمس وفي رواية عن مجاهد، وقتادة قالا:
يعني صلاة الصبح والعصر. وزعم مقاتل أن الصلاة يومئذ كانت ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي ثم فرضت الصلوات الخمس بعد ذلك. والثاني: أنه ذكر الله تعالى، قاله إبراهيم النخعي، وعنه كالقول الأول. والثالث: أنه عبادة الله، قاله الضحاك. والرابع: أنه تعلم القرآن غدوة وعشية، قاله أبو جعفر.
والخامس: أنه دعاء الله بالتوحيد، والإخلاص له، وعبادته، قاله الزجاج.
وقرأ الجمهور: «بالغداة» وقرأ ابن عامر ها هنا وفي سورة الكهف أيضا: «بالغُدْوَةِ» بضم الغين وإسكان الدال وبعدها واو. قال الفراء: والعرب لا تدخل الألف واللام على «الغدوة» لأنها معرفة بغير ألف ولام، ولا تضيفها العرب يقولون: أتيتك غداة الخميس، ولا يقولون: غُدوة الخميس، فهذا دليل على أنها معرفة. وقال أبو علي: الوجه: الغداة، لأنها تستعمل نكرة، وتتعرف باللام وأما غُدوة، فمعرفة. وقال الخليل: يجوز أن تقول: أتيتك اليوم غُدوة وبُكرة، فجعلها بمنزلة ضحوة، فهذا وجه قراءة ابن عامر.
فان قيل: دعاء القوم كان متصلاً بالليل والنهار، فلماذا خص الغداة والعشي؟
فالجواب: أنه نبه بالغداة على جميع النهار، وبالعشي على الليل، لأنه إذا كان عمل النهار خالصا له، كان عمل الليل أصفى.
قوله تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قال الزّجّاج: أي يريدون الله، فشهد الله لهم بصحة النيات، وأنهم مخلصون في ذلك. وأما الحساب المذكور في الآية، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حساب الأعمال،
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 203- 204: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يطرد قوما كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي «والدعاء لله» يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولا وكلاما، وقد يكون بالعمل له بالجوارح، الأعمال التي كان عليهم فرضها، وغيرها من النوافل التي ترضي عن العامل له عابده بما هو عامل له، وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشي، لأن الله قد سمى «العبادة» «دعاء» فقال تعالى ذكره وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 6] وقد يجوز أن يكون ذلك على خاص من الدعاء. ولا قول أولى بذلك بالصحة من وصف القوم بما وصفهم الله به: من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي فيعمون بالصفة التي وصفهم بها ربهم ولا يخصون منها بشيء من دون شيء.
فتأويل الكلام إذا: يا محمد أنذر بالقرآن الذي أنزلته إليك، الذين يعلمون أنهم إلى ربهم محشورون فهم من خوف ورودهم على الله الذي لا شفيع لهم من دونه ولا نصير في العمل له دائبون إذا أعرض عن إنذارك واستماع ما أنزل الله عليك المكذبون بالله واليوم الآخر من قومك استكبارا على الله ولا تطردهم ولا تقصهم، فتكون ممن وضع الإقصاء في غير موضعه، فأقصى وطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه، وقرب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدنائه فإن الذين نهيتك عن طردهم هم الذين يدعون ربهم فيسألون عفوه ومغفرته بصالح أعمالهم، وأداء ما ألزمهم من فرائضه، ونوافل تطوعهم، وذكرهم إياه بألسنتهم بالغداة والعشي يلتمسون بذلك القربة إلى الله، والدنو من رضاه ا. هـ.

(2/33)


وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

قاله الحسن. والثاني: حساب الأرزاق. والثالث: أنه بمعنى الكفاية. والمعنى: ما عليك من كفايتهم، ولا عليهم كفايتك.
قوله تعالى: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ قال ابن الأنباري: عظم هذا الأمر على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخُوِّفَ بالدخول في جملة الظالمين، لأنه كان قد همّ بتقديم الرّؤساء على الضّعفاء.

[سورة الأنعام (6) : آية 53]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ المعنى: وكما ابتلينا قبلك الغني بالفقير، ابتلينا أيضاً بعضهم ببعض. و «فتنا» بمعنى: ابتلينا واختبرنا لِيَقُولُوا، يعني الكبراء: أَهؤُلاءِ
يعنون الفقراء والضعفاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالهدى؟ وهذا استفهام معناه الانكار، كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة. قال ابن السائب: ابتلى الله الرؤساء بالموالي فاذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله، أنف أن يسلم، ويقول: سبقني هذا! قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أي: بالذين يشكرون نعمته إذا منَّ عليهم بالهداية.
والمعنى: إنما يهدي الله من يعلم أنه يشكر. والاستفهام في «أليس» ، معناه التقرير، أي: إنه كذلك.

[سورة الأنعام (6) : آية 54]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
قوله تعالى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال:
(520) أحدها: أنها نزلت في رجال أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظيمة، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك.
(521) والثاني: أنها نزلت في الذين نُهي عن طردهم، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسّلام، وقال: «الحمد الله الذي جعل في أُمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام» ، قاله الحسن وعكرمة.
(522) والثالث: أنها نزلت في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة، ومصعب بن عمير، وسالم، وأبي سلمة، والأرقم بن أبي الأرقم، وعمار، وبلال، قاله عطاء.
(523) والرابع: أن عمر بن الخطاب كان اشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأخير الفقراء، استمالة
__________
ليس له أصل عن أنس، وإنما ورد عن ماهان وهو أبو صالح الحنفي الكوفي أخرجه الطبري 13294 و 13295 عن ماهان مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 436 بدون إسناد عن ماهان. وعزاه في «الدر» 3/ 26 للفريابي وعبد بن حميد ومسدد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ماهان، وتفرد المصنف بنسبته لأنس.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 435 بدون سند عن عكرمة مرسلا وسيأتي في سورة الكهف.
عزاه المصنف لعطاء، فهو مرسل، ولم أقف على إسناده، ولا يصح.
عزاه المصنف للكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فخبره هذا لا شيء.

(2/34)


وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)

للرؤساء إلى الإسلام، فلما نزلت: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، جاء عمر بن الخطّاب يعتذر من مقالته ويستغفر منها، فنزلت فيه هذه الآية، قاله ابن السائب.
(524) والخامس: أنها نزلت مبِّشرة باسلام عمر بن الخطاب فلما جاء وأسلم تلاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
فأما قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فمعناه: يصدِّقون بحججنا وبراهيننا.
قوله تعالى: فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه أُمر بالسلام عليهم تشريفا لهم وقد ذكرناه عن الحسن، وعكرمة. والثاني: أنه أُمر بابلاغ السلام إليهم عن الله تعالى، قاله ابن زيد. قال الزجاج: ومعنى السلام: دعاء للانسان بأن يسلم من الآفات. وفي السوء قولان: أحدهما: أنه الشرك.
والثاني: المعاصي.
وقد ذكرنا في سورة النساء معنى الجهالة.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي: «أنه من عمل منكم سوءاً» «فانه غفور» بكسر الألف فيهما. وقرأ عاصم، وابن عامر: بفتح الألف فيهما. وقرأ نافع. بنصب ألف «أنه» وكسر ألف «فانه غفور» . قال أبو علي: من كسر ألف «إنه» جعله تفسيرا للرحمة ومن كسر ألف «فانه غفور» فلأن ما بعد الفاء حكمه الابتداء، ومن فتح ألف «أنه من عمل» جعل «أنَّ» بدلا من الرحمة، والمعنى: كتب ربكم «أنه من عمل» ، ومن فتحها بعد الفاء أضمر خبراً تقديره: فله «أنه غفور رحيم» والمعنى: فله غفرانه. وكذلك قوله تعالى: فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «1» معناه: فله أن له نار جهنم، وأما قراءة نافع، فانه أبدل من الرحمة: واستأنف ما بعد الفاء.

[سورة الأنعام (6) : آية 55]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على المشركين، كذلك نبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل. قال ابن قتيبة: ومعنى تفصيلها:
إتيانها متفرقة شيئاً بعد شيء.
قوله تعالى: وَلِتَسْتَبِينَ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «ولتستبين» بالتاء، «سبيل» بالرفع. وقرأ نافع، وزيد عن يعقوب: بالتاء أيضا، إلا أنهما نصبا السبيل. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «وليستبين» بالياء، «سبيل» بالرفع. فمن قرأ وَلِتَسْتَبِينَ بالياء أو التاء، فلأن السبيل تذكر وتؤنث على ما بينا في آل عمران، ومن نصب اللام، فالمعنى: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين. وفي سبيلهم التي بُيِّنت له، قولان: أحدهما: أنها طريقهم في الشرك، ومصيرهم إلى الخزي، قاله ابن عباس. والثاني: أنها مقصودهم في طرد الفقراء عنه، وذلك إنما هو الحسد، لا إيثار مجالسته واتِّباعه، قاله أبو سليمان.
__________
لم أقف عليه، وأمارة الوضع لائحة عليه، فالمتن منكر، وليس له أصل.
__________
(1) سورة التوبة: 63.

(2/35)


قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)

فان قيل: كيف انفردت لام «كي» في قوله: «ولتستبين» وسبيلها أن تكون شرطاً لفعل يتقدمها أو يأتي بعدها؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري بجوابين: أحدهما: أنها شرط لفعل مضمر، يراد به: ونفعل ذلك لكي تستبين. والثاني: أنها معطوفة على لام مضمرة، تأويله: نفصّل الآيات لينكشف أمرهم، ولتستبين سبيلهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 56]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام. وفي معنى تَدْعُونَ قولان: أحدهما: تدعونهم آلهة. والثاني: تعبدون قاله ابن عباس. وأهواؤهم: دينهم. قال الزجاج: أراد إنما عبدتموها على طريق الهوى، لا على طريق البيّنة والبرهان. ومعنى «إذاً» معنى الشرط والمعنى: قد ضللت إن عبدتها. وقرأ طلحة، وابن أبي ليلى: «قد ضللت» بكسر اللام.

[سورة الأنعام (6) : آية 57]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57)
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي.
(525) سبب نزولها أن النضر بن الحارث وسائر قريش قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بالعذاب الذي تَعِدُنا به، استهزاءً وقام النضر عند الكعبة وقال: اللهم إن كان ما يقول حقا، فائتنا بالعذاب فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس.
فأما البينة، فهي الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل. قال الزجاج: أنا على أمر بيِّن، لا متبعٌ لهوى. قوله تعالى: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ في هاء الكناية، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الرب.
والثاني: ترجع إلى البيان. والثالث: ترجع إلى العذاب الذي طلبوه استهزاءً.
قوله تعالى: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي: ما بيدي. وفي الذي استعجلوا به قولان:
أحدهما: أنه العذاب قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنه الآيات التي كانوا يقترحونها ذكره الزجاج. قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فيه قولان: أحدهما: أنه الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بايجاب الثواب والعقاب. والثاني: أنه القضاء بانزال العذاب على المخالف.
قوله تعالى: يَقُصُّ الْحَقَّ قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع «يَقُصُّ الحق» بالصاد المشددة، من القصص والمعنى: أن كل ما أخبر به فهو حق. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
«يقضي الحق» من القضاء والمعنى: يقضي القضاء الحقّ.
__________
باطل. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو من رواية الكلبي، وهذا إسناد موضوع. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 437 بدون سند عن الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.

(2/36)


قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)

[سورة الأنعام (6) : آية 58]
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
قوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي: من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قال ابن عباس: يقول: لم أمهلكم ساعة، ولأهلكتكم.
قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: إن شاء عاجلهم، وإن شاء أخَّر عقوبتهم. والثاني: أعلم بما يؤول إليهم أمرهم، وأنه قد يهتدي منهم قوم، ولا يهتدي آخرون فلذلك يؤخّرهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 59]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)
قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قال ابن جرير: المفاتح: جمع مفتح يقال: مفتح ومفتاح، فمن قال: مفتح، جمعه: مفاتح. ومن قال: مفتاح، جمعه: مفاتيح. وفي «مفاتح الغيب» سبعة أقوال:
أحدها: أنها خمس لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ.
(526) روى البخاري في أفراده من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا تعلم نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلا الله» .
(527) قال ابن مسعود: أُوتي نبيُّكم علم كل شيء إلا مفاتيحَ الغيب.
والثاني: أنها خزائن غيب السماوات من الأقدار والأرزاق، قاله ابن عباس. والثالث: ما غاب عن الخلق من الثواب والعقاب، وما تصير إليه الأمور، قاله عطاء. والرابع: خزائن غيب العذاب، متى ينزل، قاله مقاتل. والخامس: الوُصلة إلى علم الغيب إذا اسْتُعْلم، قاله الزجاج. والسادس: عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال. والسابع: ما لم يكن، هل يكون، أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون، وما لا يكون إن كان، كيف يكون؟ فأما البَرُّ، فهو القفر.
وفي البحر قولان: أحدهما: أنه الماء، قاله الجمهور. والثاني: أنه القرى، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها قال الزجاج: المعنى: أنه يعلمها ساقطة وثابتة، كما تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه، ليس تأويله: اعرفه في حال مجيئه فقط. فأما ظلمات الأرض، فالمراد بها بطن الأرض.
وفي الرطب واليابس، خمسة أقوال: أحدها: أن الرطب: الماء، واليابس: البادية. والثاني:
الرّطب. ما ينبت، واليابس: ما لا يُنبِت. والثالث: الرطب: الحي، واليابس: الميت. والرابع:
الرطب: لسان المؤمن يذكر الله، واليابس: لسان الكافر لا يتحرك بذكر الله. والخامس: أنهما الشيء
__________
حديث صحيح. أخرجه البخاري 1039 و 4379 و 4627 و 4697 و 4778، وأحمد 2/ 24 و 52 و 58 و 85 و 86، وابن حبان 70 و 71 والطبراني 13246. من حديث ابن عمر.
جيد. أخرجه الطبري 13309 ك عن ابن مسعود، وإسناده قوي.

(2/37)


وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)

ينتقل من إحدى الحالتين إلى الأخرى، فهو يعلمه رطباً، ويعلمه يابساً.
وفي الكتاب المبين قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ قاله مقاتل. والثاني: أنه علم الله المتقَنُ ذكره الزجاج.
فان قيل: ما الفائدة في إِحصاء هذه الأشياء في كتاب؟ فعنه ثلاثة أجوبة، ذكرهن ابن الأنباري:
أحدها: أنه أحصاها في كتاب، لتقف الملائكة على نفاذ علمه. والثاني: أنه نبه بذلك عباده على تعظيم الحساب، وأعلمهم أنه لا يفوته ما يصنعون، لأن من يثبت ما لا ثواب فيه ولا عقاب، فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع. والثالث: أن المراد بالكتاب: العلم فالمعنى: أنها مثبتة في علمه.

[سورة الأنعام (6) : آية 60]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ يريد به النوم، لأنه يقبض الأرواح عن التصرف، كما يقبض بالموت. وقال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم. وجرحتم: بمعنى كسبتم. ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ أي: يوقظكم فيه، أي: في النهار. لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي: لتبلغوا الأجل المسمى لانقطاع حياتكم، فدل باليقظة بعد النوم على البعث بعد الموت.

[سورة الأنعام (6) : آية 61]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61)
قوله تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً الحفظة: الملائكة، واحدهم: حافظ، والجمع: حفظة، مثل كاتب وكتبة، وفاعل وفعلة. وفيما يحفظونه قولان: أحدهما: أعمال بني آدم قاله ابن عباس. والثاني:
أعمالهم وأجسادهم، قاله السدي.
قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وقرأ حمزة: «توفاه رسلنا» وحجته أنه فعل مسند إلى مؤنث غير حقيقي، وإنما التأنيث للجمع، فهو مثل: وَقالَ نِسْوَةٌ «1» . وفي المراد بالرسل ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم أعوان مَلَك الموت، قاله ابن عباس. وقال النخعي: أعوانه يتوفَّون النفوس، وهو يأخذها منهم.
والثاني: أن المراد بالرسل: مَلَك الموت وحده، قاله مقاتل. والثالث: أنهم الحفظة، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ قال ابن عباس: لا يضيِّعون.
فان قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وبين قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «2» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه يجوز أن يريد بالرّسل ملك كالموت وحده، وقد يقع الجمع على الواحد. والثاني: أن أعوان مَلَك الموت يفعلون بأمره، فأضيف الكل إلى فعله. وقيل: تَوَفيّ أعوان ملك الموت بالنزع، وتوفِّي ملك الموت بأن يأمر الأرواح فتجيب، ويدعوها فتخرج، وتوفِّي الله تعالى بأن يخلق الموت في الميّت.
__________
(1) سورة يوسف: 30.
(2) سورة السجدة: 11.

(2/38)


ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

[سورة الأنعام (6) : آية 62]
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
قوله تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ يعني العباد. وفي متولي الردِّ قولان: أحدهما: أنهم الملائكة، رَدَّتهم بالموت إلى الله تعالى. والثاني: أنه الله عزّ وجلّ، ردهم بالبعث في الآخرة. وفي معنى ردهم إلى الله تعالى، قولان: أحدهما: أنهم ردوا إلى المكان الذي لا يملك الحكم فيه إلا الله وحده.
والثاني: أنهم ردوا إلى تدبيره وحده لأنه لما أنشأهم كان منفرداً بتدبيرهم، فلما مكنهم من التصرف صاروا في تدبير أنفسهم، ثم كفهم عنه بالموت فصاروا مردودين إلى تدبيره.
قوله تعالى: أَلا لَهُ الْحُكْمُ يعني القضاء. وبيان سرعة الحساب، في سورة البقرة.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
قوله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ، مشدَّدَين. وقرأ يعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: بسكون النون وتخفيف الجيم.
قال الزجاج: والمشدَّدة أجود للكثرة. وظلمات البر والبحر: شدائدها والعرب تقول لليوم الذي تلقى فيه شدة: يوم مظلم، حتى إنهم يقولون: يوم ذو كواكب، أي: قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل.
قال الشاعر:
فِدَىً لِبَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي ... إذا كَانَ يَوْماً ذا كَواكَب أشْنَعَا «1»
قوله تعالى: تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً أي: مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر إلى الشيء، والحاجة. قوله تعالى: وَخُفْيَةً قرأ عاصم إلا حفصا: «وخِفية» بكسر الخاء وكذلك في سورة الأعراف. وقرأ الباقون بضم الخاء، وهما لغتان. قال الفراء: وفيها لغة أخرى بالواو، ولا تصلح في القراءة:
خِفْوة، وخَفْوة. ومعنى الكلام، أنكم تدعونه في أنفسكم، كما تدعونه ظاهراً: «لئن أنجيتنا» ، كذلك قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو: «لئن أنجيتنا» ، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي:
«لئن أنجانا» بألف، لمكان الغيبة في قوله: «تدعونه» . وكان حمزة، والكسائي، وخلف، يميلون الجيم. قوله تعالى: مِنْ هذِهِ يعني: في أي شدة وقعتم، قلتم: «لئن أنجيتنا من هذه» . قال ابن عباس: و «الشّاكرون» ها هنا: المؤمنون. وكانت قريش تسافر في البر والبحر، فاذا ضلوا الطريق وخافوا الهلاك، دعَوُا الله مخلصين، فأنجاهم. فأما «الكرب» فهو الغم الذي يأخذ بالنّفس، ومنه اشتقّت الكربة.

[سورة الأنعام (6) : آية 65]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
__________
(1) البيت أنشده سيبويه في «الكتاب» 1/ 21 ونسبه لمقاس العائذي. وأراد باليوم يوما من أيام الحرب، وصفه بالشدة فجعله كالليل تبدو فيه الكواكب، إما لكثرة السلاح الصقيل فيه، وإما لما ذكره من النجوم.

(2/39)


قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ فيه قولان:
أحدهما: أن الذي فوقهم: العذاب النازل من السماء، كما حُصب قوم لوط، وأصحاب الفيل. والذي من تحت أرجلهم: كما خُسف بقارون، قاله ابن عباس، والسدي، ومقاتل. وقال غيرهم: ومنه الطوفان، والريح، والصيحة، والرجفة. والقول الثاني: أن الذي من فوقهم: من قِبَل أمرائهم. والذي من تحتهم من سَفَلتهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال في رواية أخرى: الذي من فوقهم: أئمة السوء والذي من تحت أرجلهم: عبيد السوء.
قوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً قال ابن عباس: يَبُثُّ فيكم الأهواء المختلفة، فتصيرون فِرَقاً. قال ابن قتيبة: يلبسكم: من الالتباس عليهم. والمعنى: حتى تكونوا شِيعَاً، أي: فرقا مختلفين. ثم يذيق بعضكم بأس بعض بالقتال والحرب. وقال الزجاج: يلبسكم، أي: يخلط أمركم خلط اضطراب، لا خلط اتفاق. يقال: لَبَسْتُ عليهم الأمر، ألبسه: إذا لم أبيِّنه. ومعنى شيعاً: أي يجعلكم فرقاً، فاذا كنتم مختلفين، قاتل بعضكم بعضاً.
قوله تعالى: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أي: يقتل بعضكم بيد بعض.
وفيمن عُني بهذه الآية، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها في المسلمين أهل الصلاة، هذا مذهب ابن عباس، وأبي العالية، وقتادة.
(528) وقال أُبي بن كعب في هذه الآية: هن أربع خلال، وكلُّهن عذاب، وكلُّهن واقع قبل يوم القيامة، فمضت اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، أُلبسوا شيعاً، وأذيق بعضهم بأس بعض. وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف، والرجم.
والثاني: أن العذاب للمشركين، وباقي الآية للمسلمين، قاله الحسن.
(529) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يصيبكم بعذاب أصابه مَن كان قبلكم، فأعطانيها، وسألته إن لا يسلِّط عليكم عدواً يستبيح بيضتكم، فأعطانيها، وسألته أن لا يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض، فمنعنيها» .
والثالث: أنها تهدُّدٌ للمشركين، قاله ابن جرير الطّبريّ، وأبو سليمان الدّمشقي.
__________
موقوف. أخرجه أحمد 5/ 135 عن أبي بن كعب موقوفا، وإسناده غير قوي، فيه أبو جعفر الرازي، وهو صدوق، لكنه سيء الحفظ. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 21 وقال رواه أحمد ورجاله ثقات.
صحيح. أخرجه مسلم 2890 وابن أبي شيبة 10/ 320 وأحمد 1/ 175 و 181 و 182، وأبو يعلى 734 وابن حبان 7237 من حديث سعد، وبعضهم اختصره. وأخرجه الطبري 3370 رواية نافع بن خالد الخزاعي عن أبيه أن النبي.. وفي الباب أحاديث منها: حديث ثوبان عند مسلم 2889 وأبو داود 4252 والترمذي 2176 وابن ماجة 3952 وأحمد 5/ 278 و 284 وابن حبان 7238 والبيهقي في «الدلائل» 6/ 526- 527 والبغوي 3910. وحديث خباب بن الأرت عند الترمذي 2175 والنسائي 3/ 216- 217 وأحمد 5/ 108 و 109 وابن حبان 7236 والمزي في تهذيب «الكمال» 14/ 447- 448 والطبراني 3621 و 3622 و 3624 و 3626. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح اهـ.

(2/40)


وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

[سورة الأنعام (6) : آية 66]
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
قوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ في هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها كناية عن القرآن. والثاني:
عن تصريف الآيات. والثالث: عن العذاب.
قوله تعالى: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فيه قولان:
أحدهما: لست حفيظاً على أعمالكم لأُجازيكم بها، إنما أنا منذر، قاله الحسن.
والثاني: لست حفيظاً عليكم، أخذكم بالإيمان، إنما أدعوكم إلى الله تعالى، قاله الزجاج.
فصل: وفي هذا القدر من الآية قولان: أحدهما: أنه اقتضى الاقتصار في حقهم على الإنذار من غير زيادة، ثم نسخ ذلك بآية السيف. والثاني: أن معناه: لست حفيظاً عليكم، إنما أُطالبكم بالظواهر من الإِقرار والعمل، لا بالأسرار فعلى هذا هو محكم.

[سورة الأنعام (6) : آية 67]
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
قوله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي: لكل خبر يخبر الله به وقت يقع فيه من غير خلف ولا تأخير. قال السدي: فاستقر نبأ القرآن بما كان يَعِدهم من العذاب يوم بدر. وقال مقاتل: منه في الدنيا يوم بدر، وفي الآخرة جهنّم.

[سورة الأنعام (6) : آية 68]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فيمن أريد بهذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها:
المشركون. والثاني: اليهود. والثالث: أصحاب الأهواء. والآيات: القرآن. وخوض المشركين فيه:
تكذيبهم به واستهزاؤهم، ويقاربه خوض اليهود، وخوض أهل الأهواء، والمراء، والخصومات.
قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي: فاترك مجالستهم، حتى يكون خوضهم في غير القرآن. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ وقرأ ابن عامر: «يُنَسِّينَّكَ» ، بفتح النون، وتشديد السين، والنون الثانية. ومثل هذا: غَرّمْتُهُ وأغرمتُه. وفي التنزيل: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ «1» والمعنى: إذا أنساك الشيطان، فقعدت معهم ناسياً نَهْيَنَا لك، فلا تقعد بعد الذكرى. والذكر والذكرى: واحد. قال ابن عباس: قم إذا ذكرت والظّالمون:
المشركون.

[سورة الأنعام (6) : آية 69]
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
قوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(530) أحدها: أن المسلمين قالوا: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه
__________
عزاه المصنف لابن عباس ولم أقف عليه وهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.
__________
(1) سورة الأعراف: 55.

(2/41)


وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

فمنعناهم، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا أن نطوف بالبيت، فنزلت هذه الآية.
(531) والثاني: أن المسلمين قالوا: إنا نخاف الإثم إن لم ننههم عن الخوض، فنزلت هذه الآية.
(532) والثالث: أن المسلمين قالوا: لو قمنا عنهم إذا خاضوا، فانا نخشى الإثم في مجالستهم، فنزلت هذه الآية. هذا عن مقاتل، والأولان عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: يتقون الشرك. والثاني: يتقون الخوض. قوله تعالى: مِنْ حِسابِهِمْ يعني: حساب الخائضين. وفي «حسابهم» قولان: أحدهما: أنه كفرهم وآثامهم. والثاني: عقوبة خوضهم.
قوله تعالى: وَلكِنْ ذِكْرى أي: ولكن عليكم أن تذكروهم، وفيما تذكرونهم به، قولان:
أحدهما: المواعظ. والثاني: قيامكم عنهم. قال مقاتل: إذا قمتم عنهم، منعهم من الخوض الحياء منكم، والرغبة في مجالستكم. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: يتقون الاستهزاء.
والثاني: يتقون الوعيد.
فصل: وقد ذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة، لأنها اقتضت جواز مجالسة الخائضين والاقتصار على تذكيرهم، ثم نسخت بقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ «1» . والصحيح أنها محكمة، لأنها خبر، وإنما دلت على أن كل عبد يختص بحساب نفسه، ولا يلزمه حساب غيره.

[سورة الأنعام (6) : آية 70]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
قوله تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً فيهم قولان: أحدهما: أنهم الكفار.
والثاني: اليهود والنصارى. وفي اتخاذهم دينهم لعباً ولهواً، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه استهزاؤهم بآيات الله إذا سمعوها. والثاني: أنهم دانوا بما اشتَهوا، كما يلهون بما يشتهون. والثالث: أنهم يحافظون على دينهم إذا اشتَهوا، كما يلهون إذا اشتَهوا. قال الفراء: ويقال: إنه ليس من قوم إلا ولهم عيد، فهم يلهون في أعيادهم، إلّا أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، فان أعيادهم صلاة وتكبير وبرٌ وخير.
فصل: ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، قولان: أحدهما: أنه خرج مخرج
__________
ذكره البغوي في «تفسيره» 2/ 133 عن ابن عباس بدون إسناد ولم أقف على إسناده والظاهر أنه من رواية الكلبي أو الضحاك وكلاهما يروي عن ابن عباس تفسيرا واهيا.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث.
__________
(1) سورة النساء: 140. [.....]

(2/42)


قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)

التّهديد، كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1» . فعلى هذا هو محكم، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد. والثاني: أنه اقتضى المسامحة لهم والإعراض عنهم، ثم نسخ بآية السيف وإلى هذا ذهب قتادة، والسدي.
قوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ أي: عظ بالقرآن. وفي قوله: أَنْ تُبْسَلَ قولان: أحدهما: لئلا تبسل نفس، كقوله تعالى: أَنْ تَضِلُّوا «2» . والثاني: ذكرّهم إبسال المبسلين بجناياتهم لعلَّهم يخافون.
وفي معنى «تبسل» سبعة اقوال: أحدها: تُسْلَم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، والسدي. وقال ابن قتيبة: تُسْلَم إلى الهلكة. قال الشاعر:
وإبسالي بَنّي بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْناه ولا بِدِمٍ مُرَاقِِ «3»
أي: بغير جرم أجرمناه والبَعْوُ: الجناية. وقال الزجاج: تُسْلَمُ بعملها غير قادرة على التخلص.
والمستبسل: المستسلم الذي لا يعلم أنه يقدر على التخلص. والثاني: تُفْضَح، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: تُدفع، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: تُهلَكُ، روي عن ابن عباس أيضاً.
والخامس: تُحبس وتُؤخذ، قاله قتادة، وابن زيد. والسادس: تُجزى، قاله ابن السائب، والكسائي.
والسابع: تُرتهن، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: تُرتهن وتسلم وأنشد:
هُنَالِكَ لا أرْجُو حَياةً تَسُرُّنِي ... سَمِيْرَ اللَّيالي مُبْسَلاً بالجَرَائِر «4»
سمير الليالي: أبَدَ الليالي. فأما الولي: فهو الناصر الذي يمنعها من عذاب الله. والعدل: الفداء.
قال ابن زيد: وإن تفتد كلَّ فداء لا يقبل منها. فأما الحميم، فهو الماء الحار. قال ابن قتيبة: ومنه سمي الحمّام.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 72]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
قوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أنعبد ما لا يضرنا إن لم نعبده، ولا ينفعنا إن عبدناه، وهي الأصنام. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أي: نرجع إلى الكفر بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ إلى الإسلام، فنكون كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ. وقرأ حمزة: «استهواه الشياطين» ، على قياس قراءته: «توفاه رُسْلُنا» . وفي معنى «استهوائها» قولان: أحدهما: أنها هوت به وذهبت، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: تُشبَّه له الشياطين، فيتبعها حتى تهوي به في الأرض، فتضلّه. والثاني: زيَّنت له هواه، قاله الزجاج. قال:
و «حيران» منصوب على الحال، أي: استهوته في حال حيرته. قال السّدّيّ: قال المشركون للمسلمين:
__________
(1) سورة المدثر: 11.
(2) سورة النساء: 176.
(3) البيت لعوف بن الأحوص الكلابي «مجاز القرآن» 1/ 194 و «اللسان» بسل.
(4) البيت للشنفرى وهو شاعر جاهلي من صعاليك العرب وفتاكهم «مجاز القرآن» 1/ 195، «اللسان» بسل.
قوله: سمير الليالي ويروى «سجيس الليالي» . وهما بمعنى: ومعنى «مبسلا بالجرائر» : أنه أسلم إلى عدوه بما جنى عليهم.

(2/43)


وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

اتَّبِعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، فقال تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ فنكون كرجل كان مع قوم على طريق، فضلّ، فحيرته الشياطين، وأصحابه على الطريق يدعونه: يا فلان هلم إلينا، فانا على الطريق، فيأبى.
(533) وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الرّحمن بن أبي بكر الصديق، دعاه أبوه وأُمه إلى الإسلام فأبى. قال مقاتل: والمراد بأصحابه: أبواه «1» .
قوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى هذا رد على من دعا إلى عبادة الأصنام، وزجرٌ عن إجابته، كأنه قيل له: لا تفعل ذلك، لأن هدى الله هو الهدى، لا هدى غيره.
قوله تعالى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ قال الزجاج: العرب تقول: أمرتك أن تفعل، وأمرتك لتفعل، وأمرتك بأن تفعل. فمن قال: «بأن» فالباء للالصاق. والمعنى: وقع الأمر بهذا الفعل، ومن قال: «أن تفعل» فعلى حذف الباء ومن قال: «لتفعل» فقد أخبر بالعلة التي لها وقع الامر. قال: وفي قوله: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وجهان: أحدهما: أُمرنا لأن نسلم، ولأن نقيم الصلاة. والثاني: أن يكون محمولاً على المعنى، لأن المعنى: أُمرنا بالإسلام، وبإقامة الصّلاة.

[سورة الأنعام (6) : آية 73]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ فيه أربعة أقوال: أحدها: خلقهما للحق. والثاني: خلقهما حقاً. والثالث: خلقهما بكلامه وهو الحق. والرابع: خلقهما بالحكمة.
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قال الزجاج: الأجود أن يكون منصوباً على معنى:
واذكر يوم يقول كن فيكون، لأن بعده وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ فالمعنى: واذكر هذا وهذا. وفي الذي يقول له كن فيكون، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم القيامة، قاله مقاتل. والثاني: ما يكون في القيامة. والثالث:
أنه الصور، وما ذكر من أمر الصور يدل عليه، قالهما الزجاج. قال: وخُصَّ ذلك اليوم بسرعة إيجاد الشيء، ليدل على سرعة أمر البعث.
قوله تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ أي: الصدق الكائن لا محالة وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ.
وروى إسحاق بن يوسف الأزرق عن أبي عمرو «ننفخ» بنونين. ومعنى الكلام: أن الملوك يومئذ لا ملك لهم، فهو المنفرد بالملك وحده، كما قال: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «2» . وفي «الصور» قولان:
أحدهما: أنه قرن ينفخ فيه.
__________
باطل. عزاه المصنف لابن عباس، وهو من رواية أبي صالح كما في «تفسير القرطبي» 7/ 20 وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته الكلبي يضع الحديث، والمتن باطل.
__________
(1) قول مقاتل هذا باطل وهو من بدع التأويل.
(2) سورة الانفطار: 19.

(2/44)


(534) روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور، فقال: «هو قرن ينفخ فيه. وقال مجاهد: الصّور كهيئة البوق. وحكى ابن قتيبة: أن الصور: القرن، في لغة قوم من أهل اليمن، وأنشد:
نحن نطحنا غَدَاةَ الجَمْعَيْن ... بالضَّابِحَاتِ في غُبارِ النَّقْعَيْن
نَطْحاً شَدِيدَاً لا كَنَطْحِ الصّورَيْن «1»
وأنشد الفراء:
لَوْلاَ ابنُ جَعْدَةَ لَم يُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُم ... وَلاَ خُرَاسَانُ حتَّى يُنْفَخَ الصُّوْرُ «2»
وهذا اختيارُ الجمهور.
والثاني: أن الصور جمع صورة يقال: صورة وصور، بمنزلة سورة وسور، كسورة البناء والمراد نفخ الأرواح في صُوَرِ الناس، قاله قتادة، وأبو عبيدة. وكذلك قرأ الحسن، ومعاذ القارئ، وأبو مِجْلَز، وأبو المتوكل «في الصُّوَر» بفتح الواو. قال ثعلب: الأجود أن يكون الصور: القرن، لأنه قال عزّ وجلّ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ثم قال: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ولو كان الصُّوَر، كان: ثم نُفخ فيها، أو فيهن وهذا يدل على أنه واحد وظاهر القرآن يشهد أنه يُنفخ في الصُّور مرتين.
(535) وقد روى أهل التفسير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصّور قرن ينفخ فيه
__________
حسن صحيح. أخرجه أبو داود 4742 والترمذي 2430 و 3244 والنسائي في «الكبرى» 11312 و 11381 و 11456 وأحمد 2/ 162 و 192 والدارمي 2/ 325 وابن حبان 7312 والحاكم 2/ 436 و 506 و 4/ 560 وأبو نعيم في «الحلية» 7/ 243 والمزي في «تهذيب الكمال» 4/ 130 وابن المبارك في «الزهد» 1599.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الترمذي كلهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
هو بعض حديث الصور المطول. أخرجه الطبراني في «الطوال» 36، وأبو الشيخ في «العظمة» 388 و 389 و 390، والبيهقي في «البعث» 668 و 669، والطبري 2/ 330 و 331 و 17/ 110 و 24/ 30 و 61 و 30/ 26 و 31 و 32 وإسحاق بن راهويه كما في «المطالب العالية» 2991 من طرق عن إسماعيل بن رافع، وهو واه، فرواه تارة عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة وتارة عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب عن أبي هريرة وتارة عن محمد بن يزيد ابن أبي زيادة عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، وتارة عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة. وأيا كان فمداره على إسماعيل بن رافع، ولم يتابعه على هذا الحديث بطوله أحد، وهو واه. جاء في الميزان 872: ضعفة أحمد ويحيى وجماعة، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر اهـ.
باختصار. وقد اضطرب فيه كما سبق. وقد نص الحفاظ على وهن هذا الحديث بطوله فقال الحافظ في «المطالب العالية» 2991: فيه ضعف ا. هـ. وقال البوصيري، في 1/ 21: تابعيه مجهول. وجاء في الفتح
__________
(1) الرجز في «غريب القرآن» : 26 بدون نسبة، والأول والثالث في «اللسان» صور. والضابحات: الخيل.
(2) البيت: بدون نسبة في «معاني القرآن» للفراء 1/ 240 واللسان: صور. وابن جعدة هو عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي. والقهندز: بضم القاف والهاء وسكون النون وضم الدال من لغة خراسان، يعنون بها الحصن أو القلعة. وقد استشهد الفراء وابن جرير على أن العرب تقول: نفخ في الصور، ونفخ الصور.

(2/45)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

ثلاث نفخات: الأولى: نفخة الفزع. والثانية: نفخة الصعق. والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين» . قال ابن عباس: وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي الأولى، يعني: نفخة الصعق.
قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه، وَالشَّهادَةِ وهو ما شاهدوه ورأوه. وقال الحسن: يعني بذلك السر والعلانية.

[سورة الأنعام (6) : آية 74]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ في «آزر» أربعة أقوال: أحدها: أنه أسم أبيه، روي عن ابن عباس، والحسن، والسدي، وابن إسحاق. والثاني: أنه اسم صنم، فأما اسم أبي إبراهيم، فتارح، قاله مجاهد. فيكون المعنى: أتتخذ آزر أصناماً؟ فكأنه جعل أصناماً بدلاً من آزر، والاستفهام معناه الإنكار. والثالث: أنه ليس باسم، إنما هو سبّ بعيب، وفي معناه قولان: أحدهما: أنه المعوَّج، كأنه عابه بزيغه وتعويجه عن الحق، ذكره الفراء. والثاني: أنه المخطئ، فكأنّه قال: يا مخطئ أتتخذ أصناماً؟ ذكره الزجاج. والرابع: أنه لقب لأبيه، وليس باسمه، قاله مقاتل بن حيان. قال ابن الانباري:
قد يغلب على اسم الرجل لقبه، حتى يكون به أشهر منه باسمه. والجمهور على قراءة «آزر» بالنصب.
وقرأ الحسن، ويعقوب بالرفع. قال الزجاج: من نصب، فموضع «آزر» خفضٌ بدلاً من أبيه ومن رفع فعلى النداء.

[سورة الأنعام (6) : آية 75]
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ أي: وكما أريناه البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه، نريه مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وقيل: «نري» بمعنى أرينا. قال الزجاج: والملكوت بمنزلة المُلك، إلا أن الملكوت أبلغ في اللغة، لأن الواو والتاء يزادان للمبالغة ومثل الملكوت: الرغبوت والرهبوت.
قال مجاهد: ملكوت السماوات والأرض: آياتها تفرّجت له السماوات السبع، حتى العرشُ، فنظر فيهن، وتفرجت له الأرضون السبع، فنظر فيهن. وقال قتادة: ملكوت السّماوات: الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار. وقال السدي: أُقيم على صخرة، وفتحت له السماوات والأرض، فنظر إلى ملك الله عزّ وجلّ، حتى نظر إلى العرش، وإلى منزله من الجنّة، وفتحت
__________
11/ 368- 369 عقب حديث 6518 ما ملخصه: وأخرجه عبد بن حميد وأبي يعلى في «الكبير» وعلي بن معبد في «الطاعة والمعصية» ومداره على إسماعيل بن رافع، واضطرب في سنده مع ضعفه، وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في «تفسيره» عن محمد بن عجلان عن محمد القرظي واعترض مغلطاي على عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع، وخفي عليه أن الشامي أضعف منه، ولعله سرقه من إسماعيل فلزقه بابن عجلان وقد قال الدارقطني: يضع الحديث. وقد قال الحافظ ابن كثير: جمعه إسماعيل بن رافع من عدة آثار فساقه كله مساقا واحدا ا. هـ. وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع القاضي أبو بكر بن العربي في «سراجه» وتبعه القرطبي في «التذكرة» وقول عبد الحق في تضعيفه أولى، وضعفه قبله البيهقي اهـ كلام الحافظ، وتكلم عليه أيضا ابن كثير رحمه الله في «البداية والنهاية» 2/ 223 و 224.
وخلاصة القول: أنه حديث ضعيف بهذا التمام، وبعض ألفاظه في الصحيحين وغيرهما وبعضه في الكتاب المعتبرة وبعضه الآخر منكر لا يتابع عليه انظر «تفسير ابن كثير» 2/ 190.

(2/46)


فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)

له الأرضون السبع، حتى نظر إلى الصخرة التي عليها الأرضون.
قوله تعالى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ هذا عطف على المعنى، لأن معنى الآية: نريه ملكوت السّماوات والأرض ليستدل به، وليكون من الموقنين. وفي ما يوقِن به ثلاثة أقوال: أحدها: وحدانية الله وقدرته. والثاني: نبوته ورسالته. والثالث: ليكون موقنا بعلم كل شيء حساً، لا خبراً.

[سورة الأنعام (6) : آية 76]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
قوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ قال الزجاج: يقال: جن عليه الليل، وأجنه الليل: إذا أظلم، حتى يستر بظلمته ويقال لكل ما ستر: جنّ، وأجنّ، والاختيار أن يقال: جنّ عليه الليل، وأجنه الليل.
الإشارة إلى بذء قصة إبراهيم عليه السلام: روى أبو صالح عن ابن عباس قال: وُلد إبراهيم في زمن نُمروذ، وكان لنمروذ كُهَّان، فقالوا له: يولد في هذه السنة مولود يفسد آلهة أهل الأرض، ويدعوهم إلى غير دينهم، ويكون هلاك أهل بيتك على يديه، فعزل النساء عن الرجال، ودخل آزر إلى بيته، فوقع على زوجته، فحملت، فقال الكهان لنمروذ: إن الغلام قد حمل به الليلة. فقال: كل من ولدت غلاما فاقتلوه. فلما أخذ أُم إبراهيم المخاضُ، خرجت هاربة، فوضعته في نهر يابس، ولفّته في خرقة، ثم وضعته في حَلْفاء، وأخبرت به أباه، فأتاه، فحفر له سرباً، وسد عليه بصخرة، وكانت أُمه تختلف إليه فترضعه، حتى شب وتكلم، فقال لأُمه: من ربي؟ فقالت: أنا. قال: فمن ربكِ؟ قالت:
أبوك. قال: فمن رب أبي؟ قالت: اسكت. فسكت، فرجعت إلى زوجها، فقالت: إن الغلام الذي كنا نتحدث أنه يغير دين أهل الأرض، ابنك. فأتاه، فقال له مثل ذلك. فلما جنَّ عليه الليل، دنا من باب السرب، فنظر فرأى كوكباً. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم «رأى» ، بفتح الراء والهمزة وقرأ أبو عمرو: «رَإى» بفتح الراء وكسر الهمزة، وقرأ أبن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم.
«رِإى» ، بكسر الراء والهمزة، واختلفوا فيها إذا لقيها ساكن، وهو آت في ستة مواضع: رَأَى الْقَمَرَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ وفي النحل وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا «1» وفي الكهف: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ «2» ، وفي الأحزاب: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ «3» . وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة إلا العبسي، وخلف في اختياره: بكسر الراء وفتح الهمزة في الكل، وروى العبسي كسرة الهمزة أيضاً، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: وابن عامر، والكسائي: بفتح الراء والهمزة. فان اتصل ذلك بمكني، نحو: رآك، ورآه، ورآها فان حمزة، والكسائي، وخلف، والوليد عن ابن عامر، والمفضل، وأبان، والقزاز عن عبد الوارث، والكسائي عن أبي بكر: يكسرون الراء، ويميلون الهمزة.
وفي الكوكب الذي رآه قولان: أحدهما: أنه الزهرة، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني:
المشتري، قاله مجاهد، والسدي.
قوله تعالى: قالَ هذا رَبِّي فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على ظاهره. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قال هذا ربي، فعبده حتى
__________
(1) سورة النحل: 85 و 86.
(2) سورة الكهف: 53.
(3) سورة الأحزاب: 22.

(2/47)


فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)

غاب، وعبد القمر حتى غاب، وعبد الشمس حتى غابت واحتج أرباب هذا القول بقوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي وهذا يدل على نوع تحيير، قالوا: وإنما قال هذا في حال طفولته على ما سبق إلى وهمه، قبل أن يثبت عنده دليل. وهذا القول لا يرتضى، والمتأهِلّون للنبوة محفوظون من مثل هذا على كل حال. فأما قوله: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي فما زال الأنبياء يسألون الهدى، ويتضرّعون في دفع الضّلال عنهم، كقولهم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «1» ، ولأنه قد آتاه رشده من قبل، وأراه ملكوت السّماوات والأرض ليكون موقناً، فكيف لا يعصمه عن مثل هذا التحيير؟! والثاني: أنه قال ذلك استدراجاً للحجة، ليعيب آلهتهم ويريهم بغضها عند أفولها، ولا بد أن يضمر في نفسه: إما على زعمكم، أو فيما تظنون، فيكون كقوله: أَيْنَ شُرَكائِيَ «2» ، وإما أن يضمر: يقولون، فيكون كقوله تعالى: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «3» ، أي: يقولان ذلك، ذكر نحو هذا أبو بكر بن الانباري، ويكون مراده استدراج الحجة عليهم، كما نقل عن بعض الحكماء أنه نزل بقوم يعبدون صنما، فأظهر تعظيمه، فأكرموه، وصدروا عن رأيه، فدهمهم عدو، فشاورهم ملِكهم، فقال: ندعو إلهنا ليكشف ما بنا، فاجتمعوا يدعونه، فلم ينفع، فقال: ها هنا إله ندعوه، فيستجيب، فدعَوُا الله، فصرف عنهم ما يحذرون، وأسلموا. والثالث: أنه قال مستفهما، تقديره: أهذا ربي؟ فأضمرت ألف الاستفهام، كقوله:
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «4» ؟ أي: أفَهُمُ الخالدون؟ قال الشاعر:
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلام مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاَ «5»
أراد: أكذبتك؟ قال ابن الأنباري: وهذا القول شاذ، لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذ كان فارقاً بين الإخبار والاستخبار وظاهر قوله: هذا رَبِّي أنه إشارة إلى الصانع. وقال الزجاج: كانوا أصحاب نجوم، فقال: هذا ربي، أي هذا الذي يدبرني، فاحتج عليهم أن هذا الذي تزعمون أنه مدبر، لا نرى فيه إلّا مدَّبر. و «أفل» بمعنى: غاب يقال: أفل النجم يأفُل ويأفِل أفولاً.
قوله تعالى: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أي: حبَّ ربٍّ معبود، لأن ما ظهر وأفل كان حادثا مدبّرا.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 77 الى 78]
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ قال ابن قتيبة: سمي القمر قمراً لبياضه والأقمر: الأبيض وليلة قمراء، أي: مضيئة. فأما البازغ، فهو الطالع. ومعنى لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي: لئن لم يثبِّتني على الهدى. فان قيل: لم قال في الشمس: هذا، ولم يقل: هذه؟ فعنه أربعة أجوبه: أحدها: أنه رأى ضوء الشمس، لا عينها، قاله محمد بن مقاتل. والثاني: أنه أراد: هذا الطالع ربي، قاله الأخفش. والثالث: أن الشمس بمعنى الضياء والنور، فحمل الكلام على المعنى. والرابع: أن الشمس ليس في لفظها علامة من علامات التأنيث، وإنما يشبه لفظها لفظ المذكَّر، فجاز تذكيرها. ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
__________
(1) سورة إبراهيم: 35.
(2) سورة النحل: 27.
(3) سورة البقرة: 127. [.....]
(4) سورة الأنبياء: 34.
(5) البيت للأخطل من قصيدة يهجو بها جريرا، ديوانه 41 و «اللسان» كذب.

(2/48)


إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)

[سورة الأنعام (6) : الآيات 79 الى 80]
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)
قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ قال الزجاج: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب العالمين عزّ وجلّ. وباقي الآية قد تقدم.
وقوله تعالى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قال ابن عباس: جادلوه في آلهتهم، وخوَّفوه بها، فقال منكراً عليهم: أَتُحاجُّونِّي. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: أَتُحاجُّونِّي وتَأْمُرُونِّي بتشديد النون. وقرأ نافع، وابن عامر بتخفيفها، فحذفا النون الثانية لالتقاء النونين. ومعنى أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي: في توحيده. وَقَدْ هَدانِ، أي: بيَّن لي ما به اهتديت. وقرأ الكسائي: «هداني» ، بامالة الدال. والإمالة حسنة فيما كان أصله الياء، وهذا من هدى يَهدي.
قوله تعالى: وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي: لا أرهب آلهتكم، وذلك أنهم قالوا: نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء، فقال: لا أخافها لأنها لا تضر ولا تنفع إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً فله أخاف وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي: عَلِمه علماً تاما.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 81 الى 82]
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
قوله تعالى: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ أي: من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخافون أنتم أنكم أشركتم بالله الذي خلقكم ورزقكم، وهو قادر على ضركم ونفعكم ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي: حجة فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أي: بأن يأمن العذاب، الموحّدُ الذي يعبد من بيده الضر والنفع؟ أم المشرك الذي يعبد ما لا يضر ولا ينفع؟ ثم بين الأحق من هو بقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أي: لم يخلطوه بشرك.
(536) روى البخاري، ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية، شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، وأينا ذلك؟ فقال: إنّما هو الشّرك، ألم تسمعوا ما قاله لقمان لابنه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» ؟
__________
حديث صحيح. أخرجه البخاري 32 و 3428 و 3429 و 4776 و 6918 و 6937 ومسلم 124، والترمذي 3067 والنسائي في «الكبرى» 11390 والطيالسي 270 وأحمد 1/ 387 و 424 و 444، والطبري 13483 و 13484 و 13487. وابن حبان 253 وابن مندة في «الإيمان» 265 و 266 و 267 و 268 والبيهقي 10/ 185 من حديث ابن مسعود.
__________
(1) سورة لقمان: 13.

(2/49)


وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)

وفيمن عني بهذه الآية، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إبراهيم وأصحابه، وليست في هذه الأمة، قاله علي بن أبي طالب. وقال في رواية أخرى: هذه الآية لإبراهيم خاصة، ليس لهذه الأمة منها شيء.
والثاني: أنه من هاجر إلى المدينة، قاله عكرمة. والثالث: أنها عامة، ذكره بعض المفسرين. وهل هي من قول ابراهيم لقومه، أم جواب من الله تعالى؟ فيه قولان.

[سورة الأنعام (6) : آية 83]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا يعني ما جرى بينه وبين قومه من الاستدلال على حدوث الكوكب والقمر والشمس، وعيبهم، إذ سووا بين الصغير والكبير، وعبدوا من لا ينطق، وإلزامه إياهم الحجة.
آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها بالإلهام. وقال مجاهد: الحجة قول ابراهيم: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ؟
قوله تعالى: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عمرو وابن عامر: «درجاتِ من نشاء» ، مضافا. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ دَرَجاتٍ، منوّنا، وكذلك قرءوا في (يوسف) . ثم في المعنى قولان: أحدهما: أن الرفع بالعلم والفهم والمعرفة. والثاني: بالاصطفاء للرسالة. قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ قال ابن جرير: حكيم في سياسة خلقه، وتلقينه أنبياءه الحج على أممهم المكذبة عَلِيمٌ بما يؤول إليه أمر الكلّ.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 87]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولداً لصلبه وَيَعْقُوبَ ولدا لإسحاق كُلًّا من هؤلاء المذكورين هَدَيْنا أي: أرشدنا.
قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ في «هاء الكناية» ، قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى نوح رواه أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، ومقاتل، وابن جرير الطبري. والثاني: إلى إبراهيم، قاله عطاء.
وقال الزجاج: كلا القولين جائز، لأن ذكرهما جميعاً قد جرى، واحتج ابن جرير للقول الأول بأن الله تعالى، ذكر في سياق الآيات لوطاً، وليس من ذرية إبراهيم، وأجاب عنه أبو سليمان الدمشقي بأنه يحتمل أن يكون أراد: ووهبنا له لوطاً في المعاضدة والنصرة، ثم قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ من أبين دليل على انه إبراهيم، لأن افتتاح الكلام إنما هو بذكر ما أثاب به إبراهيم. فأما «يوسف» فهو اسم أعجمي. قال الفراء: «يوسف» . بضم السين من غير همز، لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول: «يؤسف» ، بالهمز، وبعض العرب يقول: «يوسِف» بكسر السين، وبعض بني عُقيل يقول:
«يوسَف» بفتح السين.
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه، بأن

(2/50)


ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)

رفعنا درجته، ووهبنا له أولاداً أنبياء أتقياء، كذلك نجزي المحسنين. فأما عيسى، وإلياس، واليسع، ولوطا، فأسماء أعجمية، وجمهور القرّاء يقرءون «اليسع» بلام واحدة مخففة، منهم ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو وابن عامر. وقرأ حمزة، والكسائيّ ها هنا وفي (ص) «إلِلْيَسَّعَ» بلامين مع التشديد. قال الفراء: وهي أشبه بالصواب، وبأسماء الأنبياء من بني إسرائيل، ولأن العرب لا تدخل على «يَفْعَل» ، إذا كان في معنى فلان، ألفاً ولاماً، يقولون: هذا يسع قد جاء، وهذا يعمر، وهذا يزيد، فهكذا الفصيح من الكلام. وأنشدني بعضهم.
وَجَدْنا الوَلِيْد بنَ اليَزْيِد مباركاً ... شَدِيْداً بأحْناءِ الخِلافَةِ كاهِلُه «1»
فلما ذكر الوليد بالألف واللام، أتبعه يزيد بالألف واللام، وكلٌ صواب. وقال مكي: من قرأه بلام واحدة، فالأصل عنده: يسع، ومن قرأه بلامين، فالأصل عنده: لَيْسَعُ، فأدخلوا عليه حرف التعريف. وباقي أسماء الأنبياء قد تقدم بيانها، والمراد بالعالمين: عالمو زمانهم.
قوله تعالى: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ «من» ها هنا للتبعيض. قال الزجاج: المعنى: هدينا هؤلاء، وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم. وَاجْتَبَيْناهُمْ مثل اخترناهم واصطفيناهم، وهو مأخوذ من جبيت الشيء:
إذا أخلصته لنفسك. وجبيت الماء في الحوض: إذا جمعته فيه. فأمّا الصّراط المستقيم، فهو التّوحيد.

[سورة الأنعام (6) : آية 88]
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)
قوله تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ قال ابن عباس: ذلك دين الله الذي هم عليه يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وَلَوْ أَشْرَكُوا يعني الأنبياء المذكورين لَحَبِطَ أي: لبطل وزال عملهم، لأنه لا يقبل عمل مشرك.

[سورة الأنعام (6) : آية 89]
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني الكتاب التي أنزلها عليهم. والحكم: الفقه والعلم فَإِنْ يَكْفُرْ بِها يعني بآياتنا. وفيمن أُشير إليه ب «هؤلاء» ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنهم أهل مكة، قاله ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة. والثاني: أنهم قريش، قاله السدي. والثالث: أمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن.
__________
(1) البيت منسوب لابن ميادة الرماح بن أبرد، معاني القرآن 1/ 342. وأحناء: جمع الحنو هو الجهة والجانب.
الكاهل اسم لما بين الكتفين ويعبر بشدة الكاهل عن القوة.
(2) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 261: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: عني بقوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ، كفار قريش فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ يعني به الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرا عنهم أولى وأحق من أن يكون خبرا عن غيرهم. فتأويل الكلام إذا كان ذلك كذلك، فإن كفر قومك من قريش، يا محمد بآياتنا، وكذبوا وجحدوا حقيقتها فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رسلنا وأنبياءنا من قبلك الذين لا يجحدون حقيقتها ولا يكذبون بها ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها. ا. هـ.

(2/51)


أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

قوله تعالى: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قال أبو عبيدة: فقد رزقناها قوماً. وقال الزجاج: وكلنا بالإيمان بها قوماً. وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال: أحدها: أنهم أهل المدينة من الأنصار، قاله ابن عباس، وابن المسيب، وقتادة، والسدي. والثاني: الأنبياء والصالحون، قاله الحسن. وقال قتادة: هم النبيُّون الثمانية عشر، المذكورون في هذا المكان، وهذا اختيار الزجاج، وابن جرير. والثالث: أنهم الملائكة، قاله أبو رجاء. والرابع: أنهم المهاجرون والأنصار.

[سورة الأنعام (6) : آية 90]
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يعني النبيين المذكورين. وفي قوله تعالى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قولان: أحدهما: بشرائعهم وبسننهم فاعملْ، قاله ابن السائب. والثاني: اقتدِ بهم في صبرهم، قاله الزجاج. وكان ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، يثبتون الهاء من قوله: «اقتده» في الوصل ساكنة. وكان حمزة، والكسائيّ وخلف، ويعقوب، والكسائي عن أبي بكر، واليزيدي في اختياره، يحذفون الهاء في الوصل. ولا خلاف في إثباتها في الوقف، وإسكانها فيه. قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً يعني على القرآن. والذكرى: العظة. والعالمون ها هنا: الجنّ والإنس.

[سورة الأنعام (6) : آية 91]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ في سبب نزولها سبعة أقوال «1» :
__________
(1) قال الطبري في تفسيره 5/ 264: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال، عني بقوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مشركو قريش، وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا، فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا مع ماضي الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتاب، وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود: الإقرار بصحف إبراهيم وموسى، وزبور داود وإذا لم يأت بما روى من الخبر بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود، خبر صحيح متصل السند، ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماع، وكان الخبر من أول السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرا عن المشركين من عبدة الأوثان، وكان قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ موصولا بذلك غير مفصول منه لم يجز لنا أن ندعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. ولكني أظن أن الذين تأولوا ذلك خبرا عن اليهود، وجدوا قوله قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ فوجهوا تأويل ذلك إلى أن لأهل التوراة فقرأوه على وجه الخطاب لهم تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ فجعلوا ابتداء الآية خبرا عنهم إذا كانت خاتمتها خطابا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل، لما وصفت قبل من أن قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل فالأولى أن يكون ذلك خبرا عنهم. والأصوب من القراءة، في قوله: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً منها. أن يكون بالياء لا بالتاء، على معنى: أن اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، ويكون الخطاب بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ لمشركي قريش، وهذا هو المعنى الذي قصده كمجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك، وكذلك كان يقرأ. اهـ.

(2/52)


(537) أحدها: أن مالك بن الصيف رأس اليهود، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين» ؟ قال: نعم.
قال: «فأنت الحبر السمين» . فغضب، ثم قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس وكذلك قال سعيد بن جبير، وعكرمة: نزلت في مالك بن الصيف.
(538) والثاني: أن اليهود قالوا: يا محمد، أنزل الله عليك كتاباً؟ قال: «نعم» . قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فنزلت هذه الآية، رواه الوالبي عن ابن عباس.
(539) والثالث: أن اليهود قالوا: يا محمد، إن موسى جاء بألواح يحملها من عند الله، فائتنا بآية كما جاء موسى، فنزل: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ، إلى قوله:
عَظِيماً «1» . فلما حدَّثهم بأعمالهم الخبيثة، قالوا: والله ما أنزل الله عليك ولا على موسى وعيسى، ولا على بشر، من شيء، فنزلت هذه الآية، قاله محمد بن كعب.
والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى، آتاهم الله علما، فلم ينتفعوا به، قاله قتادة.
(540) والخامس: أنها نزلت في فنحاص اليهودي، وهو الذي قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قاله السدي.
(541) والسادس: أنها نزلت في مشركي قريش، قالوا: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والسابع: أن أولها، إلى قوله: مِنْ شَيْءٍ في مشركي قريش. وقوله تعالى: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى في اليهود، رواه ابن كثير عن مجاهد.
وفي معنى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: ما عظَّموا الله حق عظمته، قاله ابن
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 13539 من رواية جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير مرسلا، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 440 عن سعيد بن جبير بدون إسناد.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس وهي رواية واهية فيه انقطاع بين علي الوالبي وابن عباس.
- أخرجه الطبري 13544 من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 438 من رواية الوالبي عن ابن عباس.
مرسل. أخرجه الطبري 13542 عن محمد بن كعب القرظي مرسلا والمرسل من قسم الضعيف.
مرسل. أخرجه الطبري 13541 عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
الخلاصة هذه الروايات وإن كانت ضعيفة أو مرسلة لكنها تتأكد بمجموعها ومع ذلك اختار ابن جرير القول الآتي، انظر التعليق على ذلك.
مرسل أخرجه الطبري 13547 عن مجاهد مرسلا والمرسل من قسم الضعيف.
__________
(1) سورة النساء: 153- 156.

(2/53)