زاد المسير في
علم التفسير وَهَذَا كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى
صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
عباس، والحسن، والفراء، وثعلب، والزجاج.
والثاني: ما وصفوه حقّ صفته، قاله أبو العالية، واختاره
الخليل. والثالث: ما عرفوه حق معرفته، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: «يجعلونه قراطيس» معناه: يكتبونه في قراطيس. وقيل:
إنما قال: قراطيس، لأنهم كانوا يكتبونه في قراطيس مقطَّعة، حتى
لا تكون مجموعة، ليخفوا منها ما شاؤوا.
قوله تعالى: «يبدونها» قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يجعلونه
قراطيس يبدونها» و «يخفون» بالياء فيهن. وقرأ نافع، وعاصم،
وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالتاء فيهن. فمن قرأ بالياء،
فلأن القوم غُيّب، بدليل قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ
حَقَّ قَدْرِهِ. ومن قرأ بالتاء، فعلى الخطاب والمعنى: تبدون
منها ما تحبون، وتخفون كثيراً، مثل صفة محمّد صلى الله عليه
وسلم، وآية الرجم، ونحو ذلك مما كتموه.
قوله تعالى: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا
آباؤُكُمْ في المخاطب بهذا قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، قاله الجمهور. والثاني: أنه خطاب
للمسلمين، قاله مجاهد. فعلى الأول:
عُلِّموا ما في التوراة وعلى الثاني: عُلِّموا على لسان محمّد
صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ هذا جواب لقوله: مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتابَ وتقديره: فإن أجابوك، وإلا فقل:
الله أنزله.
قوله تعالى: ثُمَّ ذَرْهُمْ تهديد. وخوضهم: باطلهم. وقيل: إن
هذا أمر بالإعراض عنهم، ثم نسخ بآية السيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 92]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ
عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
قوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ يعني القرآن. قال
الزجاج: والمبارك: الذي يأتي من قِبَله الخير الكثير. والمعنى:
أنزلناه للبركة والإنذار.
قوله تعالى: مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتاب.
قوله تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى قرأ عاصم إلا حفصا:
«ولينذر» بالياء فيكون الكتاب هو المنذر.
وقرأ الباقون: بالتاء، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
فأما أم القرى، فهي مكة. قال الزجاج: والمعنى: لتنذر أهل أم
القرى. وفي تسميتها بأم القرى أربعة أقوال: أحدها: أنها سميت
بذلك، لأن الأرض دُحيت من تحتها، قاله ابن عباس. والثاني:
لأنها أقدمُها، قاله ابن قتيبة. والثالث: لأنها قبلة جميع
الناس، يَؤُمُّونها. والرابع: لأنها كانت أعظم القرى شأناً،
ذكرهما الزجاج.
قوله تعالى: وَمَنْ حَوْلَها قال ابن عباس: يريد الأرض كلها.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ
بِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن.
والثاني: إلى النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: من
آمن بالآخرة آمن به ومن لم يؤمن به، فليس إيمانه بالآخرة
حقيقة، ولا يعتد به، ألا ترى إلى قوله: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
يُحافِظُونَ فدل على أنه أراد المؤمنين الذين يحافظون على
الصّلوات.
(2/54)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ
إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ
مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ
فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو
أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ
غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
(93)
[سورة الأنعام (6) : آية 93]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ
قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ
قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ
باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ
تَسْتَكْبِرُونَ (93)
قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ
كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ اختلفوا فيمن نزلت على
ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أن أولها، إلى قوله: وَلَمْ يُوحَ
إِلَيْهِ شَيْءٌ نزل في مُسيلمة الكذاب. وقوله تعالى:
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (542) نزل
في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان قد تكلم بالإسلام، وكان
يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحايين فاذا
أُملي عليه: «عزيز حكيم» كتب: «غفور رحيم» فيقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
هذا وذاك سواء. فلما نزلت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ
مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) أملاها عليه، فلما انتهى إلى
قوله: خَلْقاً آخَرَ عجب عبد الله بن سعد، فقال: فَتَبارَكَ
اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
«كذا أنزلت عليَّ، فاكتبها» فشك حينئذ، وقال: لئن كان محمد
صادقاً، لقد أوحي إليَّ كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً، لقد
قلت كما قال، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال عكرمة: ثم رجع
إلى الإسلام قبل فتح مكة.
والقول الثاني: أن جميع الآية في عبد الله بن سعد، قاله
السّدّيّ.
__________
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة
وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 442 عن ابن عباس من رواية
الكلبي معلقا والكلبي متروك متهم. وأخرجه الطبري 13559 من مرسل
عكرمة.
وكرره 13560 من مرسل السدي، وأخرجه الحاكم 3/ 45 والواحدي في
«أسباب النزول» 442 من مرسل شرحبيل بن سعد. فالحديث بهذه الطرق
مع اختلاف مخارجها. والله أعلم- ربما يتقوى ولكن لا تبلغ درجة
ما يحتج به. انظر «تفسير الشوكاني» 912، و «تفسير القرطبي»
2929 بتخريجنا.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» : وأولى الأقوال في ذلك عندي
بالصواب أن يقال: إن الله تعالى قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ
وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ولا تمانع بين علماء الأمة أن
ابن أبي سرح كان ممن قال: «إني قد قلت مثل ما قال محمد» . وأنه
ارتد عن إسلامه والتحق بالمشركين. فكان لا شك بذلك من قيله
مفتريا كذبا وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسي
الكذابين ادعيا على الله كذبا أنه بعثهما نبيين، وقال كل واحد
منهما إن الله أوحى إليه. وهو كاذب في قيله. فإن كان ذلك كذلك،
فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقا على الله كذبا. وقائلا
في ذلك الزمان وفي غيره: «أوحى الله إلي» . وهو في قيله كاذب،
لم يوح الله إليه شيئا. فأما التنزيل فإنه جائز أن يكون نزل
بسبب بعضهم وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم. وجائز أن يكون عني
به جميع المشركين من العرب. إذ كان قائلو ذلك منهم، فلم
يغيروه. فعيّرهم الله بذلك. وتوعدهم بالعقوبة على تركهم نكير
ذلك، ومع تركهم نكيره هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
كاذبون، ولنبوته جاحدون، ولآيات الله وتنزيله دامغون، فقال لهم
جل ثناؤه: «ومن أظلم ممن ادعى على النبوة كاذبا» وقال:
أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول ما أَنْزَلَ اللَّهُ
عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فينقض قوله بقوله، ويكذب بالذي تحققه
وينفي ما يثبته، وذلك إذا تدبره العاقل الأريب علم أن فاعله من
عقله عديم ا. هـ.
(2/55)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا
فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ
مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ
شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ
شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
(543) والثالث: أنها نزلت في مسيلمة،
والأسود العنْسيّ، قاله قتادة.
فان قيل: كيف أفرد قوله: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ من قوله:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى وذاك مفترٍ أيضا؟
فعنه جوابان: أحدهما: أن الوصفين لرجل واحد، وصف بأمر بعد أمر
ليدل على جرأته. والثاني: أنه خص بقوله: أَوْ قالَ أُوحِيَ
إِلَيَّ بعد أن عم بقوله: افْتَرى عَلَى اللَّهِ لأنه ليس كل
مفترٍ على الله يدعي أنه أوحي إليه، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي: سأقول.
قال ابن عباس: يعنون الشّعر، وهم المستهزئون. وقيل: هو قول عبد
الله بن سعد بن أبي سرح. قال الزجاج: وهذا جواب لقولهم: لَوْ
نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا.
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فيهم ثلاثة أقوال:
(544) أحدها: أنهم قوم كانوا مسلمين بمكة، فأخرجهم الكفار معهم
إلى قتال بدر، فلما أبصروا قلّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم رجعوا عن الإيمان فنزل فيهم هذا، قاله أبو صالح عن ابن
عباس.
والثاني: أنهم الذين قالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ
مِنْ شَيْءٍ قاله أبو سليمان. والثالث: الموصوفون في هذه
الآية، وهم المفترون والمدَّعون الوحي إليهم، ومماثلة كلام
الله. قال الزجاج: وجواب «لو» محذوف، والمعنى: لو تراهم في
غمرات الموت لرأيت عذاباً عظيماً. ويقال لكل من كان في شيء
كبير: قد غمر فلاناً ذلك. قال ابن عباس: غمرات الموت: سكراته.
قال ابن الانباري: قال اللغويون:
سميت غمرات لأن أهوالها يغمرن من يقعن به.
قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ فيه ثلاثة
أقوال: أحدها: بالضرب، قاله ابن عباس.
والثاني: بالعذاب، قاله الحسن، والضحاك. والثالث: باسطوها لقبض
الأرواح من الأجساد، قاله الفراء. وفي الوقت الذي يكون هذا فيه
ثلاثة أقوال: أحدها: عند الموت. قال ابن عباس: هذا عند الموت،
الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وملك الموت يتوفاهم.
والثاني: يوم القيامة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: في
النار، قاله الحسن.
قوله تعالى: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ فيه إضمار «يقولون» وفي
معناه قولان:
أحدهما: استسلموا لإخراج أنفسكم. والثاني: أخرجوا أنفسكم من
العذاب إن قدرتم.
قوله تعالى: تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ قال أبو عبيدة: الهون:
مضموم، وهو الهوان وإذا فتحوا أوله، فهو الرِّفق والدَّعة. قال
الزجاج: والمعنى: تجزَون العذاب الذي يقع به الهوان الشّديد.
[سورة الأنعام (6) : آية 94]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ
وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ
أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ
وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 13561 عن قتادة مرسلا فهو ضعيف والمتن
منكر، فالسورة مكية، وخبر مسيلمة مدني.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة لأن
مدارها على الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.
(2/56)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ
الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى.
(545) سبب نزولها: أن النضر بن الحارث قال: سوف تشفع لي
اللاَّت والعزى، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة.
ومعنى فرادى: وُحداناً. وهذا إخبار من الله تعالى بما يوبِّخ
به المشركين يوم القيامة. قال أبو عبيدة: فرادى، أي: فرد فرد.
وقال ابن قتيبة: فرادى: جمع فرد. وللمفسرين في معنى «فرادى»
خمسة اقوال متقاربة المعنى: أحدها: فرادى من الأهل والمال
والولد، قاله ابن عباس. والثاني: كل واحد على حدة، قاله الحسن.
والثالث: ليس معكم من الدنيا شيء، قاله مقاتل. والرابع: كل
واحد منفرد عن شريكه في الغيّ، وشقيقه، قاله الزجاج. والخامس:
فرادى من المعبودين، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه ثلاثة
اقوال: أحدها: لا مال ولا أهل ولا ولد. والثاني:
حفاةً عراةً غرلاً. والغرل: القلف. والثالث: أحياءً. وخولناكم:
بمعنى ملّكناكم. وَراءَ ظُهُورِكُمْ أي: في الدنيا. والمعنى أن
ما دأبتم في تحصيله في الدنيا فني، وبقي الندم على سوء
الاختيار. وفي شفعائهم، قولان: أحدهما: أنها الأصنام. قال ابن
عباس: شفعاؤكم، أي: آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم.
وزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ أي: عندكم شركاء. وقال ابن
قتيبة: زعمتم أنهم لي في خلقكم شركاء. والثاني: أنها الملائكة
كانوا يعتقدون شفاعتها، قاله مقاتل.
قوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: بالرفع. وقرأ نافع،
والكسائي، وحفص عن عاصم: بنصب النون على الظرف. قال الزجاج:
الرفع أجود، ومعناه: لقد تقطَّع وصلكم، والنصب جائز ومعناه:
لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم. وقال ابن الانباري:
التقدير: لقد تقطع ما بينكم، فحذف «ما» لوضوح معناها. قال أبو
علي:
الذين رفعوه، جعلوه اسماً، فأسندوا الفعل الذي هو «تقطَّع»
إليه والمعنى: لقد تقطع وصلكم. والذين نصبوا، أضمروا اسم
الفاعل في الفعل، والمضمر هو الوصل فالتقدير: لقد تقطع وصلكم
بينكم.
وفي الذي كانوا يزعمون قولان: أحدهما: شفاعة آلهتهم. والثاني:
عدم البعث والجزاء.
[سورة الأنعام (6) : آية 95]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ
اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى في معنى
الفلق قولان: أحدهما: أنه بمعنى الخلق، فالمعنى: خالق الحب
والنوى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، ومقاتل.
والثاني: أن الفلق بمعنى الشق. ثم في معنى الكلام قولان:
أحدهما: أنه فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة، روى هذا
المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والسدي، وابن
زيد. والثاني: أنه الشقان اللَّذان في الحب والنوى، قاله
مجاهد، وأبو مالك. قال ابن السائب: الحب: ما لم يكن له نوى،
كالبرّ
__________
ضعيف أخرجه الطبري 13577 عن عكرمة مرسلا فهو ضعيف. وذكره
السيوطي في «أسباب النزول» 478 عن عكرمة مرسلا.
(2/57)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا
فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ
فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
والشعير والنوى: مثل نوى التمر.
قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ
الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قد سبق تفسيره في (آل عمران) .
قوله تعالى: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: كيف تُصرفون عن الحقّ
بعد هذا البيان.
[سورة الأنعام (6) : آية 96]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
(96)
قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ في معنى الفلق قولان قد سبقا.
فأما الإصباح، فقال الأخفش: هو مصدر من أصبح. وقال الزجاج:
الإصباح والصبح واحد. وللمفسرين في الإصباح، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل، رواه ابن
أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه إضاءة الفجر، قاله مجاهد.
وقال ابن زيد: فلق الإصباح من الليل. والثالث: أنه نوَّر
النهار، قاله الضحاك. وقرأ أنس بن مالك، والحسن، وأبو مجلز،
وأيوب، والجحدري: «فالق الأَصباح» بفتح الهمزة. قال أبو عبيدة:
ومعناه جمع صبح.
قوله تعالى: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً قرأ ابن كثير، ونافع،
وأبو عمرو، وابن عامر: «جاعل» بألف، وقرأ عاصم، وحمزة،
والكسائي: «وجعل» بغير ألف. «الليلَ» نصباً. قال أبو عليّ: من
قرأ: «وجاعل» فلأجل «فالق» وهم يراعون المشاكلة. ومن قرأ:
«جعل» فلأنّ «فاعلا» ها هنا. بمعنى: «فعل» بدليل قوله:
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً. فأما السكن، فهو ما سكنْتَ
إليه. والمعنى: أن الناس يسكنون فيه سكون راحة. وفي الحسبان
قولان:
أحدهما: أنه الحساب، قاله الجمهور. قال ابن قتيبة: يقال: خذ من
كل شيء بحسبانه، أي:
بحسابه. وفي المراد بهذا الحساب، ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما
يجريان إلى أجل جُعل لهما، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني:
يجريان في منازلهما بحساب، ويرجعان إلى زيادة ونقصان، قاله
السدي. والثالث: أن جريانهما سبب لمعرفة حساب الشهور،
والأعوام، قاله مقاتل.
والقول الثاني: أن معنى الحسبان: الضياء، قاله قتادة. قال
الماوردي: كأنه أخذه من قوله تعالى:
وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ «1» أي: ناراً.
قال ابن جرير: وليس هذا من ذاك في شيء.
[سورة الأنعام (6) : آية 97]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها
فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ جعل،
بمعنى خلق. وإنما امتنَّ عليهم بالنجوم، لأن سالكي القفار
وراكبي البحار، إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها.
[سورة الأنعام (6) : آية 98]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ
يعني آدم فَمُسْتَقَرٌّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، إلا
رُويساً: بكسر القاف. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة،
والكسائي: بفتحها.
قال الزجاج: من كسر، فالمعنى: «فمنكم مستقِر» ومن نصب،
فالمعنى: «فلكم مستقَرّ» . فأما مستودع،
__________
(1) سورة الكهف: 40.
(2/58)
وَهُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ
كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ
حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا
قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا
إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
فبالفتح، لا غير. ومعناه على فتح القاف:
«ولكم مستودع» وعلى كسرها «ومنكم مستودع» . وللمفسّرين في معنى
المستقر والمستودع تسعة أقوال «1» : أحدها: فمستقر في الأرحام،
ومستودع في الأصلاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن
جبير، ومجاهد، وعطاء، والضحاك، والنخعي، وقتادة، والسدي، وابن
زيد. والثاني: المستقر في الأرحام، والمستودع في القبر، قاله
ابن مسعود. والثالث:
المستقر في الأرض، والمستودع في الأصلاب، رواه ابن جبير عن ابن
عباس. والرابع: المستقر والمستودع في الرحم، رواه قابوس عن
أبيه عن ابن عباس. والخامس: المستقر حيث يأوي، والمستودع حيث
يموت، رواه مقسم عن ابن عباس. والسادس: المستقر في الدنيا
والمستودع في القبر. والسابع: المستقر في القبر، والمستودع في
الدنيا، وهو عكس الذي قبله، رويا عن الحسن.
والثامن: المستقر في الدنيا، والمستودع عند الله تعالى، قاله
مجاهد. والتاسع: المستقر في الأصلاب، والمستودع في الأرحام،
قاله ابن بحر، وهو عكس الأول.
[سورة الأنعام (6) : آية 99]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا
بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً
نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ
طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ
انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي
ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني
المطر فَأَخْرَجْنا بِهِ أي: بالمطر. وفي قوله تعالى: نَباتَ
كُلِّ شَيْءٍ قولان: أحدهما: نبات كل شيء من الثمار، لأن كل ما
ينبت، فنباته بالماء.
والثاني: رزق كل شيء وغذاؤه. وفي قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا
مِنْهُ قولان: أحدهما: من الماء، أي:
به. والثاني: من النبات. قال الزجاج: الخَضِر بمعنى الأخضر
يقال: اخضرَّ، فهو أخْضر، وخَضِر، مثل أعوَّر، فهو أعْوَر،
وعَوِر.
قوله تعالى: نُخْرِجُ مِنْهُ أي: من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً
كالسنبل والشعير. والمتراكب:
الذي بعضه فوق بعض. قوله تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ
طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وروى الخفّاف عن أبي عمرو:
«قُنوان» بضم القاف وروى هارون عنه بفتحها. قال الفراء: معناه:
ومن النخل ما قنوانه دانية وأهل الحجاز يقولون: «قِنوان» بكسر
القاف وقيس يضمّونها وضبّة، وتميم يقولون: «قنيان» أنشدني
المفضّل عنهم:
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 202: «فمستقر» أي في
الأرحام و «مستودع» أي في الأصلاب وهذا القول هو الأظهر والله
أعلم ا. هـ. وقال الطبري في «تفسيره» 5/ 286: وأولى التأويلات
في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه عمّ بقوله:
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ كل خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة،
فمستقرا ومستودعا ولم يخص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أن في
بني آدام مستقرا في الرحم، ومستودعا في الصلب، ومنهم من هو
مستقر على ظهر الأرض أو بطنها، ومستودع في أصلاب الرجال، ومنهم
مستقر في القبر، مستودع على ظهر الأرض. فكلّ «مستقر» أو
«مستودع» . بمعنى من هذه المعاني، فداخل في عموم قوله
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ومراد به، إلا أن يأتي خبر يجب
التسليم له بأنه معنى به معنى دون معنى، وخاص دون عام. ا. هـ.
(2/59)
فأثَّتْ أعَالِيْهِ وآدَتْ أصُوْلُه ...
وَمَالَ بِقِنْيانٍ من البُسْرِ أحْمَرَا «1»
ويجتمعون جميعاً، فيقولون: «قِنو» و «قُنو» ولا يقولون: «قِني»
ولا «قُني» وكلب تقول: «ومال بقنيان» . قلت: هذا البيت لامرئ
القيس رواه أبو سعيد السكري: «ومال بِقِنوان» مكسورة القاف مع
الواو، ففيه أربع لغات: قِنوان، وقُنوان، وقنيان، وقنيان و
«أثّت» : كثرت ومنه: شعر أثيث.
و «آدت» : اشتدت. وقال ابن قتيبة: القنوان: عذوق النخل،
واحدها: قنو، جمع على لفظ تثنية ومثله: صنو وصنوان في التثنية،
وصنوان في الجميع. وقال الزجاج: قِنوان: جمع قِنو، وإذا ثنيته
فهما قِنوان، بكسر النون. ودانية، أي: قريبة المتناول، ولم
يقل: «ومنها قنوان بعيدة» لأن في الكلام دليلاً أن البعيدة
السحيقة قد كانت غير سحيقة، فاجتزئ بذكر القريبة عن ذكر
البعيدة كقوله تعالى:
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» . وقال ابن عباس: القُنوان
الدانية: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض.
قوله تعالى: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ قال الزجاج: هو نسق على
قوله: «خضراً» وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ المعنى: وأخرجنا
منه شجر الزيتون والرمان وقد روى أبو زيد عن المفضّل: «وجنات»
بالرفع.
قوله تعالى: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: مشتبها في المنظر وغير متشابه في الطعم، رواه أبو صالح
عن ابن عباس. والثاني: مشتبهاً ورقه، مختلفاً ثمره، قاله
قتادة، وهو في معنى الأول. والثالث: منه ما يشبه بعضه بعضاً،
ومنه ما يخالف. قال الزجاج: وإنما قرن الزيتون بالرمان، لأنهما
شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى
آخره. قال الشاعر.
بُورِكَ الميّت الغَريبُ كما بو ... رِكَ نَضْحُ الرُّمَّانِ
والزَّيْتُونِ «3»
ومعناه: أن البركة في ورقه اشتمالُه على عوده كلِّه.
قوله تعالى: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ قرأ ابن كثير، ونافع،
وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:
انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ، وكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ،
ولِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ: بالفتح في ذلك. وقرأ حمزة.
والكسائي، وخلف: بالضّمّ فيهنّ. قال الزّجّاج: يقال: ثمرة،
ثمر، وثِمَار، وثُمُر فمن قرأ: «إلى ثُمُره» بالضم أراد جمع
الجمع. وقال أبو علي: يحتمل وجهين: أحدهما: هذا، وهو أن يكون
الثمر جمع ثمار، والثاني: أن تكون الثمر جمع ثمرة، وكذلك:
أكمة، وأُكُم، وخشبة وخُشُب. قال الفراء:
يقول: انظروا إليه أول ما يَعْقِد، وانظروا إلى ينعه، وهو نضجه
وبلوغه. وأهل الحجاز يقولون: يَنْعَ، بفتح الياء، وبعض أهل نجد
يضمونها. قال ابن قتيبة: يقال: ينَعت الثّمر، وأينعت: إذا
أدركت، وهو اليُنْع واليَنْع. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة،
والأعمش، وابن محصن: «ويُنعِه» بضم الياء. قال الزجاج: الينع:
النُضج. قال الشاعر:
__________
(1) البيت لامرئ القيس. ديوانه 67. «اللسان» قنا. وقوله: أثت
أعاليه: عظمت والتفت من ثقل حملها. وقوله:
آدت أي تثنت ومالت.
(2) سورة النحل: 81.
(3) البيت منسوب إلى أبي طالب بن عبد المطلب «اللسان» نضح.
(2/60)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ
وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يَصِفُونَ (100)
في قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكَرَةٍ ...
حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعا «1»
وبيَّن الله تعالى لهم بتصريف ما خلق، ونقله من حال إلى حال لا
يقدر عليه الخلق، أنه كذلك يبعثهم.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
قال ابن عباس: يصدِّقون أن الذي أخرج هذا النبات قادر على أن
يحيي الموتى. وقال مقاتل: يصدّقون بالتّوحيد.
[سورة الأنعام (6) : آية 100]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا
لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يَصِفُونَ (100)
قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ جعلوا،
بمعنى وصفوا. قال الزجاج: نصبُ «الجن» من وجهين: أحدهما: أن
يكون مفعولاً، فيكون المعنى: وجعلوا لله الجنَ شركاء ويكون
الجن مفعولاً ثانيا، كقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ
الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «2» . والثاني: أن
يكون الجن بدلاً من شركاء، ومفسراً للشركاء. وقرأ ابو المتوكل،
وأبو عمران، وأبو حياة، والجحدري: «شركاء الجنُ» برفع النون
وقرأ ابن عبلة، ومعاذ القارئ: «الجنِّ» بخفض النون. وفي معنى
جعلهم الجن شركاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أطاعوا الشياطين في
عبادة الأوثان، فجعلوهم شركاء لله، قاله الحسن، والزجاج.
والثاني: قالوا: إن الملائكة بنات الله فهم شركاؤه، كقوله
تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً فسمى
الملائكة جنَّاً لاجتنانهم، قاله قتادة والسدي، وابن زيد.
والثالث: أن الزنادقة قالوا: الله خالق النور والماء والدواب
والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب، وفيهم
نزلت هذه الآية.
قاله ابن السائب «3» .
قوله تعالى: وَخَلَقَهُمْ في الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع
إلى الجاعلين له الشركاء، فيكون المعنى: وجعلوا للذي خلقهم
شركاء لا يخلقون. والثاني: أنها ترجع إلى الجن، فيكون المعنى:
والله خلق الجن، فكيف يكون الشريك لله مُحدِثا؟ ذكرهما الزجاج.
قوله تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ وقرأ نافع:
«وخرّقوا» بالتشديد، للمبالغة والتكثير، لأن المشركين ادَّعوا
الملائكةَ بناتِ الله، والنصارى المسيحَ. واليهود عزيراً. وقرأ
ابن عباس، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: «وحرّفوا» بحاء غير معجمة
وبتشديد الراء وبالفاء. وقرأ ابن السّميفع، والجحدريّ:
«وخارقوا» بألف وخاء معجمة قال السدي: أما «البنون» ، فقول
اليهود، عزير ابن الله، وقول النصارى:
المسيح ابن الله، وأما «البنات» فقول مشركي العرب: الملائكة
بناتُ الله. قال الفراء: خرّقوا، واخترقوا، وخلقوا، واختلقوا،
بمعنى افتروا. وقال أبو عبيدة: خرقوا: جعلوا. قال الزّجّاج:
ومعنى:
__________
(1) البيت منسوب إما للأحوص أو إلى يزيد بن معاوية. وهو في
«اللسان» دسكر و «مجاز القرآن» 1/ 202.
الدسكرة: بناء كالقصر. كانت الأعاجم تتخذه للشرب والملاهي.
[.....]
(2) سورة الصافات: 158.
(3) عزاه المصنف للكلبي، وهو ساقط العدالة، يضع الحديث، فخبره
لا شيء.
- وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 443 عن الكلبي بدون إسناد.
(2/61)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ
يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
«بغير علم» أنهم لم يذكروه من علم، إنما
ذكروه تكذّبا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 101 الى 102]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
قوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ قال الزجاج: أي: من
أين يكون له ولد، والولد لا يكون إلا من صاحبة؟! واحتج عليهم
في نفي الولد بقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فليس مثل
خالق الأشياء، فكيف يكون الولد لمن لا مثل له؟! فاذا نُسب إليه
الولد، فقد جعُل له مثل.
[سورة الأنعام (6) : آية 103]
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ في الإدراك قولان «1» :
أحدهما: أنه بمعنى الإحاطة.
والثاني: بمعنى الرؤية. وفي «الأبصار» قولان: أحدهما: أنها
العيون، قاله الجمهور. والثاني: أنها العقول، رواه عبد الرّحمن
بن مهدي عن أبي حصين القارئ. ففي معنى الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تحيط به الأبصار، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال
سعيد بن المسيب، وعطاء. وقال الزجاج:
معنى الآية: الإحاطة بحقيقته، وليس فيها دفع للرؤية، لِما صح
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرؤية، وهذا مذهب أهل
السُنَّة والعلم والحديث. والثاني: لا تدركه الأبصار إذا
تجلَّى بنوره الذي هو نوره، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث:
لا تدركه الأبصار في الدنيا، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه
قال
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 204- 205- 206. الآية
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ. فيه أقوال للأئمة من السلف أحدها:
لا تدركه في الدنيا، وإن كانت تراه في الآخرة كما تواترت به
الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- من غير ما طريق ثابت
في الصحاح والمسانيد كما قال مسروق، عن عائشة أنها قالت: من
زعم أن محمدا أبصر ربه فقد كذب. فإن الله يقول: لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ. وقد خالفهما ابن
عباس فعنه إطلاق الرؤية، وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين. وقال
آخرون: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ: أي جميعها، وهذا مخصص بما
ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة. وقال آخرون من
المعتزلة بمقتضى ما فهموه من هذه الآية: أنه لا يرى في الدنيا
ولا في الآخرة. فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك، مع ما
ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، أما
الكتاب فقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى
رَبِّها ناظِرَةٌ وقال تعالى عن الكافرين كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. قال الإمام
الشافعي: فدلّ هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى
وأما السنة فقد تواترت الأخبار أن المؤمنين يرون الله في الدار
الآخرة في العرصات، وفي روضات الجنان. جعلنا الله تعالى منهم
بمنه وكرمه آمين. وقيل: المراد بقوله لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ أي العقول وهذا غريب جدا. وخلاف ظاهر الآية، وكأنه
اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية والله أعلم. وقال آخرون: لا
منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أحصن من
الرؤية، ولا يلزم نفي الأحصن انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في
الإدراك المنفي، ما هو؟ فقيل: معرفة الحقيقة فإن هذا لا يعلمه
إلا هو وإن رآه المؤمنون كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك
حقيقته وكنهه وماهيته. فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى.
وقال آخرون:
المراد بالإدراك الإحاطة، قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم
الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم. قال الله
تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً. ونفي هذا الإدراك الخاص،
لا ينفي الرؤية يوم القيامة، يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء،
فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه- تعالى وتقدس وتنزه- فلا
تدركه الأبصار ا. هـ.
(2/62)
قَدْ جَاءَكُمْ
بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ
وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
الحسن، ومقاتل، ويدل على أن الآية مخصوصة
بالدنيا، قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى
رَبِّها ناظِرَةٌ «1» فقيَّد النظر إليه بالقيامة، وأطلق في
هذه الآية، والمطلق يحمل على المقيد. وقوله تعالى:
وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ فيه القولان: قال الزجاج: وفي هذا
الإعلام دليل على أنَّ خَلْقَه لا يدركون الأبصار، أي: لا
يعرفون حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من
عينيه، دون أن يبصر من غيرهما من أعضائه فأعلم الله أن خلقاً
من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه، ولا يحيطون بعلمه فكيف به عزّ
وجلّ؟! فأما «اللطيف» ، فقال أبو سليمان الخطابي: هو البرّ
بعباده، الذي يلطف لهم من حيث لا يعلمون، ويسبِّب لهم مصالحهم
من حيث لا يحتسبون. قال ابن الاعرابي: اللطيف: الذي يوصل إليك
أرَبَك في رِفق ومنه قولهم: لطف الله بك ويقال: هو الذي لَطُفَ
عن أن يُدرَك بالكيفية.
وقد يكون اللطف بمعنى الدقة والغموض، ويكون بمعنى الصغر في
نعوت الأجسام، وذلك مما لا يليق بصفات الباري سبحانه. وقال
الأزهري: اللطيف من أسماء الله، معناه: الرفيق بعباده والخبير:
العالم بكنه الشيء، المطّلع على حقيقته.
[سورة الأنعام (6) : آية 104]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ
بِحَفِيظٍ (104)
قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ البصائر:
جمع بصيرة، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به. قال
الزجاج: والمعنى: قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر
فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ نفع ذلك وَمَنْ عَمِيَ فعلى نفسه
ضرر ذلك، لأن الله عزّ وجلّ غني عن خلقه. وَما أَنَا
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ
والوكيل، وهذا قبل الأمر بالقتال.
(فصل:) وذكر المفسرون أن هذه الآية نسخت بآية السيف. وقال
بعضهم: معناها: لست رقيباً عليكم، أحصي أعمالكم فعلى هذا لا
وجه للنّسخ.
[سورة الأنعام (6) : آية 105]
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ
وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ قال الأخفش:
وَكَذلِكَ معناها: وهكذا. وقال الزجاج: المعنى: وَمِثْلُ ما
بيَّنَّا فيما تُلي عليك، نُبيِّن الآيات، قال ابن عباس:
نصرِّف الآيات، أي نبيِّنها في كل وجه، ندعوهم بها مرَّة،
ونخوفهم بها أُخرى. وَلِيَقُولُوا يعني أهل مكة حين تقرأ عليهم
القرآن «دارست» . قال ابن الانباري: معنى الآية: وكذلك نصرف
الآيات، لنلزمهم الحجة، وليقولوا:
دارست وإنما صرّف الآيات ليسعد قوم بفهمها والعمل بها، ويشقى
آخرون بالإعراض عنها فمن عمل بها سعد، ومن قال: دارست، شقي.
قال الزجاج: وهذه اللام في «ليقولوا» يسميها أهل اللغة لام
الصيرورة. والمعنى: أن السّبب الذي أدّاهم إلى أن يقولوا:
دارست!، هو تلاوة الآيات، وهذا كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «2» وهم لم
يطلبوا بأخذه أن يعاديهم، ولكن كان عاقبة الأمر أن صار لهم
عدواً وحزناً. ومثله أن تقول: كتب فلان الكتاب لحتفه، فهو لم
يقصد أن يُهلك نفسه بالكتاب. ولكن العاقبة كانت الهلاك. فأما
«دارست» فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «دارست»
__________
(1) سورة القيامة: 22- 23.
(2) سورة القصص: 8.
(2/63)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا
وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا
بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ
فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
بالألف وسكون السين وفتح التاء ومعناها:
ذاكرت أهل الكتاب. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي:
«درست» بسكون السين وفتح التاء، من غير ألف، على معنى: قرأت
كتب أهل الكتاب. قال المفسرون: معناها: تعلمت من جبر، ويسار.
وسنبين هذا في قوله: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ «1» إن شاء
الله. وقرأ ابن عامر، ويعقوب: «درست» بفتح الراء والسين وسكون
التاء من غير ألف. والمعنى: هذه الأخبار التي تتلوها علينا
قديمة قد درست. أي: قد مضت وامّحت. وجميع من ذكرنا فتح الدال
في قراءته. وقد روي عن نافع أنه قال: «دُرِسَت» برفع الدال
وكسر الراء وتخفيف التاء، وهي قراءة ابن يعمر ومعناها قُرئت.
وقرأ أبي بن كعب: «دَرُسَتْ» بفتح الدال والسين وضم الراء
وتسكين التاء.
قال الزجاج: وهي بمعنى: «دَرَسَتْ» أي: امّحت إلا أن المضمومة
الراء أشدّ مبالغة. وقرأ معاذ القارئ، وأبو العالية، ومورِّق:
«دُرِّسْتَ» برفع الدال، وكسر الراء وتشديدها ساكنة السين.
وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرّف: «دَرَسَ» بفتح الراء والسين
بلا ألف ولا تاء. وروى عصمة عن الأعمش:
«دارس» بألف.
قوله تعالى: وَلِنُبَيِّنَهُ يعني: التصريف لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ ما تبين لهم من الحق فيقبلوه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 106 الى 107]
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ
هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ
اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قال المفسرون: نسخ
بآية السيف.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا فيه ثلاثة
اقوال حكاها الزجاج: أحدها: لو شاء لجعلهم مؤمنين. والثاني: لو
شاء لأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان. والثالث: لو شاء لا
ستأصلهم، فقطع سبب شركهم. قال ابن عباس: وباقي الآية نسخ بآية
السيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 108]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ
زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ في سبب نزولها قولان:
(546) أحدهما: أنه لما قال للمشركين: إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «2» قالوا:
لتنتهينَّ يا محمد عن سبِّ آلهتنا وعيبها، أو لنهجونَّ إلهك
الذي تعبده، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
__________
ضعيف. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة
في ابن عباس. وأخرجه الطبري 13742 من طريق علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس، وفيه إرسال بينهما وذكره الواحدي في «أسباب النزول»
444 من رواية الوالبي عن ابن عباس.
__________
(1) سورة النحل: 103.
(2) سورة الأنبياء: 98.
(2/64)
وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ
لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ
وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ
(109)
(547) والثاني: أن المسلمين كانوا يسبون
أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا
لربهم قوماً جهلة لا علم لهم بالله، قاله قتادة.
ومعنى «يدعون» : يعبدون، وهي الأصنام. فَيَسُبُّوا اللَّهَ أي:
فيسبوا من أمركم بعيبها، فيعود ذلك إلى الله تعالى، لا أنهم
كانوا يصرحون بسب الله تعالى، لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم،
وإن أشركوا به. وقوله تعالى: عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ، أي:
ظلماً بالجهل. وقرأ يعقوب: «عُدُوّاً» ، بضم العين والدال
وتشديد الواو. والعرب تقول في الظلم: عدا فلان عَدْواً
وعُدُوّاً وعُدواناً. وعدا، أي: ظلم.
قوله تعالى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ أي:
كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام، وطاعة الشيطان، كذلك
زينا لكل جماعة اجتمعت على حق أو باطل عملهم من خير أو شر. قال
المفسرون:
وهذه الآية نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 109]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ
آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ
اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ
(109)
قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ في
سبب نزولها قولان:
(548) أحدهما: أنه لما نزل في (الشعراء) : إِنْ نَشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً «1» قال المشركون:
أنزلها علينا حتى والله نؤمن بها فقال المسلمون: يا رسول الله،
أنزلها عليهم لكي يؤمنوا فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن
عباس.
(549) والثاني: أن قريشاً قالوا: يا محمد، تخبرنا أنّ موسى كان
معه عصا يضرب بها الحجر، فينفجر منها اثنتا عشرة عيناً، وأن
عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فائتنا بمثل
هذه الآيات حتى نصدَّقك: فقال: «أي شيء تحبون؟» قالوا: أن تجعل
لنا الصفا ذهباً. قال: «فان فعلت تصدقوني؟» فقالوا: نعم، والله
لئن فعلت لنتّبعنّك أجمعين. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
يدعو، فجاءه جبريل فقال: إن شئت أصبح الصّفا ذهبا، ولكني لم
أرسل آية فلم يصدَّق بها، إلا أنزلت العذاب، وإن شئت تركتُهم
حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتركهم
حتى يتوب تائبهم» ، فنزلت هذه الآية إلى قوله:
يَجْهَلُونَ، هذا قول محمد بن كعب القرظي.
وقد ذكرنا معنى جَهْدَ أَيْمانِهِمْ في (المائدة) وإنما حلفوا
على ما اقترحوا من الآيات،
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 13743 عن قتادة مرسلا فهو ضعيف، وذكره
الواحدي في «أسباب النزول» 445 عن قتادة مرسلا.
موضوع. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، ورواية أبي
صالح هو الكلبي وكلاهما روى عن ابن عباس تفسير موضوعا.
ضعيف. أخرجه الطبري 13750 والواحدي 447 عن محمد بن كعب القرظي
مرسلا ومع إرساله في إسناده أبو معشر نجيح السندي، وهو ضعيف
فالخبر واه. وورد عن الكلبي، وهو لا شيء لأنه متروك متهم.
__________
(1) سورة الشعراء: 4.
(2/65)
وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
(110)
كقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «1» .
قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي: هو
القادر على الإتيان بها دوني ودون أحد من خلقه وَما
يُشْعِرُكُمْ أَنَّها أي: يدريكم أنها. قرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، وأبو بكر عن عاصم، وخلف في اختياره: بكسر الألف، فعلى
هذه القراءة يكون الخطاب بقوله «يشعركم» للمشركين، ويكون تمام
الكلام عند قوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ ويكون المعنى: وما
يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت؟ وتكون «إنها» مكسورة على
الاستئناف والإخبار عن حالهم. وقال أبو علي: التقدير: وما
يشعركم إيمانهم؟
فحذف المفعولُ. والمعنى: لو جاءت الآية التي اقترحوها، لم
يؤمنوا. فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين. قال سيبويه: سألت
الخليل عن قوله: «وما يشعركم إنها» فقلت: ما منعها أن تكون
كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع
إنما قال: وَما يُشْعِرُكُمْ ثم ابتدأ فأوجب، فقال: «إنها إذا
جاءت لا يؤمنون» ولو قال: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا
جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ
كان ذلك عذراً لهم. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي:
«أنها» بفتح الألف فعلى هذا، المخاطب بقوله: وَما يُشْعِرُكُمْ
رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه ثم في معنى الكلام
قولان: أحدهما:
وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وفي قراءة أُبي: «لعلها
إذا جاءت لا يؤمنون» . والعرب تجعل «أن» بمعنى «لعل» . يقولون:
ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً، أي: لعلك. قال عدي بن زيد:
أعَاذِلُ ما يُدْرِيْكِ أنَّ مَنِيَّتي ... إلى سَاعَةٍ في
اليَوْمِ أو في ضُحَى غَدِ
أي: لعل منيتي. وإلى هذا المعنى ذهب الخليل، والفراء في توجيه
هذه القراءة.
والثاني: أن المعنى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون، وتكون
«لا» صلة كقوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ «2» وقوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «3» ، ذكره الفراء ورده
الزجاج واختار الأول. والأكثرون على قراءة: «يؤمنون» بالياء
منهم ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم وقرأ
ابن عامر، وحمزة: بالتاء، على الخطاب للمشركين. قال أبو علي:
من قرأ بالياء، فلأنَّ الذين أقسموا غُيَّبٌ، ومن قرأ بالتاء،
فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب.
[سورة الأنعام (6) : آية 110]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ
يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ
التقليب: تحويل الشيء عن وجهه. وفي معنى الكلام، أربعة أقوال:
أحدها: لو أتيناهم بآية كما سألوا، لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن
الإيمان بها، وحُلْنا بينهم وبين الهدى، فلم يؤمنوا كما لم
يؤمنوا بما رأوا قبلها، عقوبة لهم على ذلك. وإلى هذا المعنى
ذهب ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد. والثاني: أنه جواب لسؤالهم في
الآخرة الرجوع إلى الدنيا فالمعنى:
لو رُدُّوا لحُلْنا بينهم وبين الهدى كما حُلْنا بينهم وبينه
أول مرة وهم في الدنيا، روى هذا المعنى ابن أبي طلحة عن ابن
عباس. والثالث: ونقلّب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان
بالآيات كما لم يؤمن أوائلهم
__________
(1) سورة الإسراء: 90.
(2) سورة الأعراف: 12.
(3) سورة الأنبياء: 95.
(2/66)
وَلَوْ أَنَّنَا
نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ
الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا
كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
من الأمم الخالية بما رأوا من الآيات، قاله
مقاتل. والرابع: أن ذلك التقليب في النار، عقوبة لهم، ذكره
الماوردي.
وفي هاء «به» أربعة أقوال. أحدها: أنها كناية عن القرآن.
والثاني: عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. والثالث: عما ظهر من
الآيات. والرابع: عن التقليب.
وفي المراد ب «أول مرة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن المرة الأولى:
دار الدنيا. والثاني: أنها معجزات الأنبياء قبل محمّد عليه
السلام. والثالث: أنها صرف قلوبهم عن الإيمان قبل نزول الآيات
أن لو نزلت والطغيان والعمه مذكوران في (البقرة) .
[سورة الأنعام (6) : آية 111]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ
وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ
قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةَ.
(550) سبب نزولها: أن المستهزئين أتوا رسولَ الله صلّى الله
عليه وسلم في رهط من أهل مكة، فقالوا له: ابعث لنا بعض موتانا
حتى نسألهم: أحق ما تقول، أم باطل؟ أو أرنا الملائكة يشهدون لك
أنك رسول الله، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلاً، فنزلت هذه
الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ومعنى الآية: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةَ كما سألوا وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى فشهدوا لك
بالنبوة وَحَشَرْنا أي: جمعنا: عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ في
الدنيا قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللَّهُ، فأخبر أن وقوع الإيمان بمشيئته، لا كما ظنوا أنهم متى
شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا لم يؤمنوا. فأمّا قوله تعالى:
«قِبَلاً» ، فقرأ ابن عامر، ونافع: بكسر القاف وفتح الباء. قال
ابن قتيبة: معناها: معاينة. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم،
وحمزة والكسائي: «قُبُلا» بضم القاف والباء. وفي معناها، ثلاثة
أقوال: أحدها:
أنه جمع قبيل، وهو الصِّنْف فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء
قبيلاً قبيلاً، قاله مجاهد، واختاره أبو عبيدة، وابن قتيبة.
والثاني: أنه جمع قبيل أيضاً، إلا أنه: الكفيل فالمعنى: وحشرنا
عليهم كل شيء، فكَفَلَ بصحة ما تقول، اختاره الفراء، وعليه
اعتراض، وهو أن يقال: إذا لم يؤمنوا بانزال الملائكة، وتكليم
الموتى، فَلأَنْ لا يؤمنوا بالكفالة التي هي قول، أولى.
فالجواب: أنه لو كَفَلَت الأشياء المحشورة، فنطق ما لم ينطق،
كان ذلك آية بينة. والثالث: أنه بمعنى المقابل، فيكون المعنى:
وحشرنا عليهم كل شيء، فقابلهم، قاله ابن زيد. قال أبو زيد:
يقال: لقيت فلاناً قِبَلاً وقَبَلاً وقُبُلاً وقبيلا وقبليّا
ومقابلة، وكله واحد، وهو المواجهة. قال أبو علي: فالمعنى في
القرآن- على ما قاله أبو زيد- واحد، وإن اختلفت الألفاظ.
قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ فيه قولان:
أحدهما: يجهلون أن الاشياء لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى.
والثاني: أنهم يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي
وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا، راجع ترجمتهما في
«الميزان» .
(2/67)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا
يَفْتَرُونَ (112)
[سورة الأنعام (6) : آية 112]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ
الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ
فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أي:
وكما جعلنا لك ولأُمتك شياطين الإنس والجن أعداءً، كذلك جعلنا
لمن تقدَّمك من الأنبياء وأُممهم والمعنى: كما ابتليناك
بالأعداء، ابتلينا مَنْ قبلك، ليعظم الثواب عند الصبر على
الأذى. قال الزّجّاج: «عدوّ» : في معنى أعداء، و «شياطين الإنس
والجن» : منصوب على البدل من «عدو» ، ومفسر له ويجوز أن يكون:
«عدواً» منصوب على أنه مفعول ثان، المعنى: وكذلك جعلنا شياطين
الإنس والجن أعداءً لأُممهم «1» . وفي شياطين الإنس والجن
ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم مردة الإنس والجن، قاله الحسن،
وقتادة. والثاني: أن شياطين الإنس: الذين مع الإنس، وشياطين
الجن: الذين مع الجن، قاله عكرمة، والسدي. والثالث: أن شياطين
الإنس والجن: كفارهم، قاله مجاهد.
قوله تعالى: يُوحِي أصل الوحي: الإعلام والدلالة بِسَتر
وإخفاء. وفي المراد به ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه:
يأمر. والثاني: يوسوس. والثالث: يشير.
وأما زُخْرُفَ الْقَوْلِ، فهو ما زُيِّن منه، وحُسِّن،
ومُوِّه، وأصل الزخرف: الذهب. قال أبو عبيدة: كل شيء حسَّنته
وزيَّنتَه وهو باطل، فهو زخرف. وقال الزجاج: «الزخرف» في
اللغة: الزينة فالمعنى: أن بعضهم يزين لبعض الأعمال القبيحة و
«غروراً» منصوب على المصدر وهذا المصدر محمول على المعنى، لأن
معنى إيحاء الزخرف من القول: معنى الغرور، فكأنه قال: يَغرُّون
غُروراً.
وقال ابن عباس: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً: الأمانيُّ
بالباطل. قال مقاتل: وَكّلَ إبليسُ بالإنس شياطين
يُضِلُّونَهم، فاذا التقى شيطان الإنس بشيطان الجن قال أحدهما
لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضللْ أنت صاحبك بكذا
وكذا، فذلك وحي بعضهم إلى بعض. وقال غيره: إن المؤمن إذا أعيا
شيطانه، ذهب إلى متمرد من الإنس، وهو شيطان الإنس، فأغراه
بالمؤمن ليفتنه. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس
شياطين. وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد عليَّ من
شيطان الجن، لأنّي كإذا تعوَّذت من ذاك ذهب عني، وهذا يجرني
إلى المعاصي عِياناً.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ في هاء الكناية
ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الوسوسة. والثاني: ترجع إلى
الكفر. والثالث: إلى الغرور، وأذى النبيّين.
قوله تعالى: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ قال مقاتل: يريد كفار
مكة وما يفترون من الكذب. وقال غيره: فذر المشركين وما
يخاصمونك به مما يوحي إليهم أولياؤهم، وما يختلقون من كذب،
وهذا القدر من هذه الآية منسوخ بآية السيف.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير «تفسيره» 2/ 211 الآية شَياطِينَ
الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: الشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا
يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء قبحهم الله ولعنهم.
(2/68)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ
تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ (116)
[سورة الأنعام (6) : آية 113]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ
مُقْتَرِفُونَ (113)
قوله تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أي: ولتميل والهاء: كناية عن
الزخرف والغرور. والأفئدة: جمع فؤاد، مثل غراب وأغربة. قال ابن
الأنباري: فعلنا بهم ذلك لكي تصغى إلى الباطل أفئدة الذين لا
يؤمنون بالآخرة، «وليرضوا» الباطل، وَلِيَقْتَرِفُوا أي:
ليكتسبوا، وليعملوا ما هم عاملون.
[سورة الأنعام (6) : آية 114]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً.
(551) سبب نزولها: أن مشركي قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه
وسلم: اجعل بيننا وبينك حَكَمَاً إن شئت من أحبار اليهود، وإن
شئت من أحبار النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك،
فنزلت هذه الآية، ذكره الماوردي.
فأما الحَكَمُ، فهو بمعنى الحاكم والمعنى: أفغير الله أطلب
قاضيا بيني وبينكم؟! والْكِتابَ:
القرآن، و «المفصل» : المبين الذي بان فيه الحق من الباطل،
والأمر من النهي، والحلال من الحرام.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ فيهم قولان: أحدهما: علماء
أهل الكتابين، قاله الجمهور. والثاني: رؤساء أصحاب النبيّ
محمّد صلّى الله عليه وسلم، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي،
وأشباههم، قاله عطاء. قوله تعالى:
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ قرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم:
«منزّل» بالتشديد وخفّفها الباقون.
[سورة الأنعام (6) : آية 115]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ قرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، وابن عامر، ونافع: «كلمات» على الجمع وقرأ عاصم، وحمزة،
والكسائي، ويعقوب، «كلمة» على التوحيد وقد ذكرت العرب الكلمة،
وأرادت الكثرة يقولون: قال قُسّ في كلمته، أي: في خطبته، وزهير
في كلمته، أي: في قصيدته. وفي المراد بهذه الكلمات ثلاثة
أقوال: أحدها: أنها القرآن، قاله قتادة. والثاني: أقضيتُه
وعداته. والثالث: وعده ووعيده وثوابه وعقابه. وفي قوله تعالى:
صِدْقاً وَعَدْلًا قولان: أحدهما:
صدقاً فيما أخبر، وعدلاً فيما قضى وقدَّر. والثاني: صدقاً فيما
وعد وأوعد، وعدلاً فيما أمر ونهى.
وفي قوله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ قولان: أحدهما: لا يقدر
المفترون على الزيادة فيها والنقصان منها.
والثاني: لا خُلف لمواعيده، ولا مغير لحكمه.
[سورة الأنعام (6) : آية 116]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ
هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)
قوله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ.
__________
لم أقف عليه، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد. وذكره الماوردي في
«تفسيره» 2/ 160 بدون سند ولا عزو لقائل.
(2/69)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
(552) سبب نزولها: أن الكفار قالوا
للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل ربُّكم؟
فنزلت هذه الآية، ذكره الفراء.
والمراد ب أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ: الكفار، وفي ماذا
يطيعهم فيه أربعة أقوال: أحدها: في أكل الميتة. والثاني: في
أكل ما ذبحوا للأصنام. والثالث: في عبادة الأوثان. والرابع: في
اتباع ملل الآباء. وسَبِيلِ اللَّهِ: دينه. قال ابن قتيبة:
ومعنى يَخْرُصُونَ: يحدسون ويوقعون ومنه قيل للحازر: خارص. فان
قيل: كيف يجوز تعذيب من هو على ظنٍ من شركه، وليس على يقينٍ من
كفره! فالجواب: انهم لما تركوا التماس الحجة، واتبعوا أهواءهم،
واقتصروا على الظن والجهل، عُذِّبوا، ذكره الزّجّاج.
[سورة الأنعام (6) : آية 117]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ
سَبِيلِهِ قال الزجاج: موضع «مَنْ» رفع بالابتداء، ولفظها لفظ
الاستفهام والمعنى: إن ربك هو أعلم أيُّ الناس يَضل عن سبيله.
وقرأ الحسن: «من يُضِل» بضم الياء وكسر الضاد، وهي رواية ابن
أبي شريح. قال أبو سليمان: ومقصود الآية: لا تلتفت إلى قسم من
أقسم أنه يؤمن عند مجيء الآيات، فلن يؤمن إلا من سبق له القدر
بالإيمان.
[سورة الأنعام (6) : آية 118]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ
بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
__________
حديث قوي. ورد من وجوه متعددة بألفاظ متقاربة. فقد أخرجه أبو
داود 1818 وابن ماجة 3173 والحاكم 4/ 113 و 231 والطبري 13813
و 13826 والبيهقي 9/ 241 من طرق عن سماك بن حرب عن عكرمة عن
ابن عباس: إن المشركين قالوا للمسلمين ... الحديث. وهذا إسناد،
رجاله ثقات، لكن رواية سماك عن عكرمة مضطربة، وقد صحح الحافظ
ابن كثير هذا الإسناد، وكدا صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه
الذهبي. وورد من وجه آخر نحوه، أخرجه النسائي في «التفسير» 191
والطبري 13815 عن هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس، وإسناده
غير قوي لأجل هارون بن عنترة.
وله شاهد من مرسل الحضرمي، أخرجه الطبري 13818 ومن مرسل الضحاك
13820 لكن في الطريق جويبر بن سعيد، وهو متروك ولكن توبع جويبر
برقم 13828. وله شاهد من مرسل مجاهد 13821 و 13822 ومن مرسل
قتادة 13823 و 13825 من مرسل السدي. وله شاهد من مرسل عكرمة،
أخرجه الطبري 13817 لكن فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا
يصح من هذا الوجه.
وورد بذكر اليهود بدل المشركين، أخرجه الترمذي 3069 من طريق
زياد بن عبد الله البكائي عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس به. وإسناده ضعيف لضعف عطاء بن السائب، فإنه
اختلط، وزياد لين الحديث وقد اضطرب عطاء فيه فقد أخرجه أبو
داود 2819 والطبراني 13829 والطبري 12295، والبيهقي 9/ 240
كلهم عن عمران بن عيينة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
«جاءت اليهود ... وذكر اليهود فيه نظر من وجوه ثلاثة. أحدها:
أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا. الثاني: أن الآية
مكية.
الثالث: اضطراب الروايات عن ابن السائب. الخلاصة: ذكر النبي
صلى الله عليه وسلم في الخبر ضعيف، وكون الذين جادلوا هم
اليهود، ضعيف منكر والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» 861 و «فتح
القدير» 932 بتخريجنا.
(2/70)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا
تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ
فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ
بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ
وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ
سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
(553) سبب نزولها: أن الله تعالى لما حرم
الميتة، قال المشركون للمؤمنين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله،
فما قتل الله لكم أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم، يريدون
الميتة، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
[سورة الأنعام (6) : آية 119]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ
مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ
بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُعْتَدِينَ (119)
قوله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا قال الزجاج:
المعنى: وأي شيء يقع لكم في أن لا تأكلوا؟
وموضع «أن» نصب، لأن «في» سقطت، فوصل المعنى إلى «أن» فنصبها.
قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو،
وابن عامر: «فصَّل لكم ما حرم عليكم» مرفوعتان وقرأ نافع، وحفص
عن عاصم، ويعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: «فَصَّل» بفتح الفاء،
«ما حَرَّم» بفتح الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن
عاصم: «فَصَّل» بفتح الفاء، «ما حُرِّم» بضم الحاء. قال
الزجاج: أي: فُصِّل لكم الحلال من الحرام، وأُحل لكم في
الاضطرار ما حُرِّم.
وقال سعيد بن جبير: فُصِّل لكم ما حُرِّم عليكم، يعني: ما
بُيِّن في (المائدة) من الميتة، والدم، إلى آخر الآية. «وإن
كثيراً ليضَلون بأهوائهم» يعني: مشركي العرب يَضلون في أمر
الذبائح وغيره، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «ليضلون» ، وفي
(يونس) : «ربنا ليَضِلوا» وفي (ابراهيم) : «أنداداً ليَضلوا»
وفي (الحج) :
«ثاني عطفه ليَضل» وفي (لقمان) : «ليَضل عن سبيل الله بغير
علم» وفي (الزمر) : «أنداداً ليَضل» ، بفتح الياء في هذه
المواضع الستة وضمهن عاصم وحمزة، والكسائي. وقرأ نافع، وابن
عامر: «ليَضَلون بأهوائهم» . وفي (يونس) «ليَضلوا» بالفتح وضما
الأربعة الباقية. فمن فتح، أراد: أنهم هم الذين ضلوا ومن ضم،
أراد: أنهم أضلوا غيرهم، وذلك أبلغ في الضلال، لأن كل مضلّ
ضالّ؟ وليس كلّ ضال مضلّا.
[سورة الأنعام (6) : آية 120]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ
(120)
قوله تعالى: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ، في الإثم
ها هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الزنا، رواه أبو صالح عن ابن عباس فعلى هذا، في
ظاهره وباطنه قولان: أحدهما:
أن ظاهره: الإعلان به، وباطنه: الاستسرار به، قاله الضحاك،
والسدي. قال الضحاك: وكانوا يرون الاستسرار بالزنا حلالاً.
والثاني: أن ظاهره نكاح المحرمات، كالأُمهات، والبنات، وما نكح
الآباء.
وباطنه: الزنا، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: أنه عام في كل إثم. والمعنى: ذروا المعاصي، سرَّها
وعلانيتها وهذا مذهب أبي العالية، ومجاهد، وقتادة، والزجاج.
وقال ابن الأنباري: المعنى: ذروا الإثم من جميع جهاته.
والثالث: أن الإثم: المعصية، إلّا أنّ المراد به ها هنا أمر
خاصّ. قال ابن زيد: ظاهره ها هنا:
نزع أثوابهم، إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة، وباطنه: الزّنا.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهذه الرواية واهية، لكن
المتن محفوظ، انظر ما قبله.
(2/71)
وَلَا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ
لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى
أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
[سورة الأنعام (6) : آية 121]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى
أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ سبب نزولها مجادلة المشركين للمؤمنين في
قولهم: أتأكلون مما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله! على ما
ذكرنا في سبب قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ هذا قول ابن عباس.
(554) وقال عكرمة: كتبت فارس إلى قريش: إن محمداً وأصحابه لا
يأكلون ما ذبحه الله، ويأكلون ما ذبحوا لأنفسهم فكتب المشركون
إلى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فوقع في أنفس ناسٍ
من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت هذه الآية.
وفي المراد بما لم يذكر اسم الله عليه أربعة أقوال: أحدها: أنه
الميتة، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنه الميتة
والمنخنقة، إلى قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، روي
عن ابن عباس.
والثالث: أنها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها، قاله عطاء.
والرابع: أنه عام فيما لم يسمَّ الله عند ذبحه وإلى هذا المعنى
ذهب عبد الله بن يزيد الخطمي، ومحمد بن سيرين.
(فصل:) فان تعمَّد ترك التسمية، فهل يباح؟ فيه عن أحمد روايتان
«1» . وإن تركها ناسياً أُبيحت.
وقال الشافعي: لا يحرم في الحالين جميعاً. وقال شيخنا علي بن
عبيد الله: فاذا قلنا: إن ترك التسمية عمداً يمنع الإباحة، فقد
نُسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى: وَطَعامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ «2» . وعلى قول
الشافعي: الآية محكمة.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يعني: وإنَّ أكلَ ما لم يُذكر
عليه اسم الله لفسق، أي: خروج عن الحقّ والدّين. وفي المراد
بالشياطين ها هنا قولان: أحدهما: أنهم شياطين الجن، روي عن ابن
عباس الثاني: قوم من أهل فارس، وقد ذكرناه عن عكرمة. فعلى
الأولى: وحيهم الوسوسة، وعلى الثاني:
وحيهم الرسالة. والمراد ب «أوليائهم» الكفار الذين جادلوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم في ترك أكل الميتة «3» . ثم
__________
ضعيف منكر. أخرجه الطبري 13809 عن عكرمة مرسلا فهو ضعيف، وكرره
13810 عن عكرمة بنحوه مرسلا أيضا، وذكره «فارس» منكر، وتقدم
الراجح.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المفتي» 13/ 290- 291:
التسمية على الذبيحة، المشهور من مذهب أحمد أنها شرط مع الذكر،
وتسقط بالسهو، وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال مالك والثوري
وأبو حنيفة وإسحاق، وممن أباح ما نسيت التسمية عليه: عطاء
وطاوس وابن المسيب والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن
محمد وربيعة الرأي. وعن أحمد أنها مستحبة غير واجبة في عمد ولا
سهو، وبه قال الشافعي. ولنا قول ابن عباس: من نسي التسمية فلا
بأس، وروى سعيد بن منصور بإسناده عن راشد بن سعد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
«ذبيحة المسلم، حلال، وإن لم يسم إذا لم يتعمد» . قال: ويفارق
الصيد، لأن ذبحه في غير محل فاعتبرت التسمية تقوية له.
(2) سورة المائدة: 5. [.....]
(3) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 328 الآية وَإِنَّ الشَّياطِينَ
لَيُوحُونَ: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال:
إن الله أخبر أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا
المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة، بما ذكرنا من جدالهم إياهم
وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أولياء
منهم. وجائز الجنسان أن يكون شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم
من الإنس، وجائز أن يكون كلاهما تعاونا على ذلك، كما أخبر الله
عنهما في الآية الأخرى التي يقول فيها: وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً
[الأنعام: 112] . بل ذلك الأغلب من تأويله عندي، لأن الله أخبر
نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجن والإنس كما جعل لأنبيائه
من قبله، يوحي بعضهم إلى بعض المزيّن من الأقوال الباطلة ثم
أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه
ومن تبعه من المؤمنين فيما حرم الله من الميتة عليهم ا. هـ.
(2/72)
أَوَمَنْ كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ
فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ
بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
فيهم قولان: أحدهما: أنهم مشركو قريش.
والثاني: اليهود وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال الميتة
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
[سورة الأنعام (6) : آية 122]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً
يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ
لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ (122)
قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ اختلفوا
فيمن نزلت على خمسة أقوال:
(555) أحدها: أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل، وذلك
أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث، وحمزة لم
يؤمن بَعْدُ، فأُخبر حمزةُ بما فعل أبو جهل، فأقبل حتى علا أبا
جهل بالقوس، فقال له: أما ترى ما جاء به؟ سفَّه عقولنا، وسبَّ
آلهتنا، فقال حمزة: ومن أسفهُ منكم؟
تعبدون الحجارة من دون الله؟! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن
محمداً عبده ورسوله، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
(556) والثاني: أنَّها نزلت في عمَّار بن ياسر، وأبي جهل، رواه
أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة.
(557) والثالث: في عمر بن الخطاب، وأبي جهل، قاله زيد بن أسلم،
والضّحّاك.
والرابع: في النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي جهل، قاله مقاتل.
والخامس: أنها عامة في كل مؤمن وكافر، قاله الحسن في آخرين.
وفي قوله تعالى: كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ قولان: أحدهما:
كان ضلا فهديناه، قاله مجاهد.
والثاني: كان جاهلاً، فعلَّمناه، قاله الماوردي. وقرأ نافع:
«ميّتاً» بالتشديد قال أبو عبيدة: الميتة،
__________
لم أره مسندا. وذكره الواحدي في أسباب النزول 450 بدون إسناد
عن ابن عباس فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد، والصحيح عموم الآية.
واه. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية
ساقطة. وأخرجه الطبري 13842 عن عكرمة مرسلا، فهو ضعيف وفيه
انقطاع وكرره 13841 عن عكرمة بنحوه مرسلا وفيه راو لم يسم.
والصحيح عموم الآية، ولا يصح تخصيصها بروايات واهية.
ضعيف. أخرجه الطبري 13840 عن الضحاك مرسلا، فهو ضعيف. وأخرجه
الواحدي في «أسباب النزول» 451 عن زيد بن أسلم مرسلا، ومع
إرساله فيه مبشر بن عبيد وهو ممن يضع الحديث.
(2/73)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا
فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ
الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ
شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
مخففة: من ميّتة، والمعنى واحد. وفي
«النور» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الهدى، قاله ابن عباس.
والثاني: القرآن، قاله الحسن. والثالث: العلم. وفي قوله تعالى:
يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ثلاثة أقوال:
أحدها: يهتدي به في الناس، قاله مقاتل. والثاني: يمشي به بين
الناس إلى الجنة. والثالث: ينشر به دينه في الناس، فيصير
كالماشي! ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ المثل: صلة والمعنى: كمن هو في
الظلمات. وقيل: المعنى: كمن لو شُبّه بشيء كان شبيهُه من في
الظلمات. وقيل: المراد بالظّلمات ها هنا: الكفر.
قوله تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ أي: كما بقي هذا في ظلماته لا
يتخلص منها، كذلك زين لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من
الشّرك والمعاصي.
[سورة الأنعام (6) : آية 123]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها
لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ
وَما يَشْعُرُونَ (123)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ: أي: وكما
زينا للكافرين عملهم، فكذلك جعلنا في كل قرية أكابرَ مجرميها،
وقيل معناه: وكما جعلنا فُسَّاق مكة أكابرها، فكذلك جعلنا
فُسَّاق كل قرية أكابرها.
وإنما جعل الأكابر فُسَّاقَ كلِّ قرية، لأنهم أقرب إلى الكفر
بما أعطوا من الرياسة والسعة. وقال ابن قتيبة: تقدير الآية:
وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر و «أكابر» لا ينصرف، وهم
العظماء.
قوله تعالى: لِيَمْكُرُوا فِيها قال أبو عبيدة: المكر:
الخديعة، والحيلة، والفجور، والغدر، والخلاف. قال ابن عباس:
ليقولوا فيها الكذب. قال مجاهد: أجلسوا على كل طريق من طرق مكة
أربعةً، ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم،
يقولون للناس: هذا شاعر، وكاهن.
قوله تعالى: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ أي: ذلك
المكر بهم يحيق.
[سورة الأنعام (6) : آية 124]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى
مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ
عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ
(124)
قوله تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ.
(558) سبب نزولها: أن أبا جهل قال: زاحمتنا بنو عبد مناف في
الشرف، حتى إذا صرنا كَفَرَسَيْ رِهَان، قالوا: منَّا نبيٌ
يوحى إليه. والله لا نؤمن به ولا نَتَّبعِهُ أو أن يأتيَنَا
وحي كما يأتيه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قال الزجاج: الهاء والميم تعود على الأكابر الذين جرى ذكرهم.
وقال أبو سليمان: تعود على المجادلين في تحريم الميتة، قال
مقاتل: والآية: انشقاق القمر، والدخان، قال ابن عباس في قوله
تعالى: مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ قال: حتى يوحى إلينا،
ويأتينا جبريل، فيخبرنا أن محمداً صادق. قال
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الحديث، كذبه غير واحد. وأصل
الحديث له شواهد واهية، دون ذكر نزول الآية.
(2/74)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ
يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا
كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ
اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
الضحاك: سأل كل واحد منهم أن يختص بالرسالة
والوحي.
قوله تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالاته» وقرأ ابن كثير، وحفص
عن عاصم: «رسالتَه» بنصب التاء على التوحيد والمعنى: أنهم
ليسوا لها بأهل، وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: والله لو كانت
النبوة حقاً لكنتُ أولى بها منك، لأني أكبرُ منك سناً، وأكثرُ
منك مالاً، فنزل قوله تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالاته» .
وقال أهل المعاني: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل
مبعثهم مطاعين في قومهم، لأن الطعن كان يتوجه عليهم، فيقال:
إنما كانوا رؤساء فاتُّبِعوا، فكان الله أعلم حيث جعل الرسالة
ليتيم أبي طالب، دون أبي جهل والوليد، وأكابر مكة.
قوله تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ قال أبو
عبيدة: الصَّغَار: أشد الذل. وقال الزجاج:
المعنى: هم، وإن كانوا أكابر في الدّنيا، فسيصيبهم صغار عند
الله، أي: صغار ثابت لهم عند الله.
وجائز أن يكون المعنى: سيصيبهم عند الله صغار، وقال الفراء:
معناه: صغار من عند الله، فحذفت «مِنْ» . وقال ابو رَوقْ: صغار
في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة.
[سورة الأنعام (6) : آية 125]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ
يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
(125)
قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ قال مقاتل:
نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل.
قوله تعالى: يَشْرَحْ صَدْرَهُ قال ابن الاعرابي: الشرح:
الفتح. قال ابن قتيبة: ومنه يقال:
شرحتُ لك الأمر، وشرحتُ اللحم: إذا فتحتَه. وقال ابن عباس:
«يشرحْ صدره» أي: يوسعْ قلبه للتوحيد والإيمان.
(559) وقد روى ابن مسعود أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ، فقيل له: يا رسول الله، وما هذا الشرح؟ قال:
«نور يقذفه الله في القلب، فينفتح القلب» . قالوا: فهل لذلك من
أمارة؟ قال: «نعم» . قيل: وما هي؟ قال: «الإنابة إلى دار
الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله»
.
قوله تعالى: ضَيِّقاً قرأ الأكثرون بالتشديد. وقرأ ابن كثير:
«ضيقا» ، وفي (الفرقان) :
__________
متن باطل بأسانيد واهية. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 852
والطبري 13856 و 13857 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 1/ 257
عن أبي جعفر المدائني مرسلا. ومع إرساله أبي جعفر المدائني
ذكره الذهبي في «الميزان» 4608 وقال: قال أحمد وغيره: أحاديثه
موضوعة. وورد من حديث ابن مسعود عند الحاكم 4/ 311 والبيهقي في
الشعب 10552 وإسناده ضعيف لضعف عدي بن الفضل، وقد سكت عليه
الحاكم، وقال الذهبي: ابن الفضل ساقط اهـ. وفيه المسعودي اختلط
بأخرة. وأخرجه الطبري 13859 عن أبي عبيدة عن ابن مسعود،
وإسناده منقطع، وفيه سعيد بن عبد الملك الحراني، وهو متروك روى
أحاديث كذب. وكرره الطبري 13861 عن عبد الرحمن- هو المسعودي-
عن ابن مسعود، وهذا معضل بينهما. فهذه روايات واهية ليست بشيء،
والأشبه كونه من كلام أبي جعفر المدائني، حيث رواه الطبري عنه
من طرق. انظر «تفسير الشوكاني» 940 بتخريجنا.
(2/75)
وَهَذَا صِرَاطُ
رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
«ضَيْقاً» «1» بتسكين الياء خفيفة. قال أبو
علي: الضَّيِّق، والضَّيْق: مثل الميّت، والميْت.
قوله تعالى: حَرَجاً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر،
وحمزة، والكسائي: حَرَجاً بفتح الراء. وقرأ نافع، وابو بكر عن
عاصم: بكسر الراء، قال الفراء: وهما لغتان. وكذلك قال يونس بن
حبيب النحوي: هما لغتان، إلا أن الفتح أكثر على ألسنة العرب من
الكسر، ومجراهما مجرى الدَّنَفِ والدَّنِفَ. وقال الزجاج:
الحرج في اللغة: أضيق الضّيق.
قوله تعالى: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن
عامر، وحمزة، والكسائي:
«يصَّعد» بتشديد الصاد والعين وفتح الصاد من غير ألف. وقرأ أبو
بكر عن عاصم: «يصّاعد» بتشديد الصاد وبعدها ألف. وقرأ ابن
كثير: «يَصْعَد» بتخفيف الصاد والعين من غير ألف والصاد ساكنة،
وقرأ ابن مسعود، وطلحة: «تصْعَدُ» بتاء من غير ألف. وقرأ
أُبيُّ بن كعب: «يتصاعد» بألف وتاء. قال الزّجّاج: قوله تعالى:
«كأنما يصّاعد في السماء» و «يصَّعَّد» ، أصله: «يتصاعد» ، و
«يتصعد» ، إلا أن التاء تدغم في الصاد لقربها منها، والمعنى
كأنه قد كُلِّف أن يَصْعَدَ إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من
ضيق صدره عنه. ويجوز أن يكون المعنى: كأن قلبه يصعد في السماء
نُبُوّاً عن الإسلام والحكمة. وقال الفراء: ضاق عليه المذهب،
فلم يجد إلا أن يصعد في السماء، وليس يقدر على ذلك. وقال ابو
علي:
«يَصَّعَّد» و «يَصّاعد» : من المشقة، وصعوبة الشيء، ومنه قول
عمر: ما تَصَعَّدني شيء كما تصعدتني خطبة النكاح، أي: ما شق
عليَّ شيء مشقتها.
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: مثل ما قصصنا عليك. يَجْعَلُ اللَّهُ
الرِّجْسَ وفيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه الشيطان، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. يعني: أن
الله يسلِّطه عليهم. والثاني: أنه المأثم، رواه أبو صالح عن
ابن عباس. والثالث: أنه مالا خير فيه، قاله مجاهد. والرابع:
العذاب، قاله عطاء، وابن زيد، وأبو عبيدة. والخامس: أنه اللعنة
في الدنيا والعذاب في الآخرة، قاله الزجاج. وهذه الآية تقطع
كلام القَدَريَّة، إذ قد صرحت بأن الهداية والإضلال متعلّقة
بإرادة الله تعالى.
[سورة الأنعام (6) : آية 126]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
قوله تعالى: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه
القرآن، قاله ابن مسعود. والثاني:
التوحيد، قاله ابن عباس. والثالث: ما هو عليه من الدِّين، قاله
عطاء.
ومعنى استقامته: أنه يؤدِّي بسالكه إلى الفوز، قال مكي بن أبي
طالب: و «مستقيماً» : نصب على الحال من «صراط» ، وهذه الحال
يقال لها: الحال المؤكدة، لأن صراط الله، لا يكون إلا
مستقيماً، ولم يؤت بها لتفرق بين حالتين، إذ لا يتغير صراط
الله عن الاستقامة أبدا، وليست هذه الحال كالحال من قولك: «هذا
زيد راكباً» ، لأن زيداً قد يخلو من الرّكوب.
[سورة الأنعام (6) : آية 127]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ
بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)
قوله تعالى: لَهُمْ دارُ السَّلامِ يعني الجنة. وفي تسميتها
بذلك أربعة أقوال: أحدها: أن السّلام،
__________
(1) سورة الفرقان: 13.
(2/76)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ
الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا
اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي
أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
هو الله، وهي داره، قاله ابن عباس، والحسن،
وقتادة والسدي. والثاني: أنها دار السلامة التي لا تنقطع، قاله
الزجاج. والثالث: أن تحية أهلها فيها السلام، ذكره أبو سليمان
الدمشقي. والرابع: أن جميع حالاتها مقرونة بالسلام، ففي ابتداء
دخولهم: ادْخُلُوها بِسَلامٍ «1» ، وبعد استقرارهم:
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ
«2» . وقوله تعالى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «3» وعند
لقاء الله سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ «4» ، وقوله
تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «5» . ومعنى:
عِنْدَ رَبِّهِمْ أي:
مضمونة لهم عنده، وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي: متولي إيصال المنافع
إليهم، ودفع المضار عنهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطّاعات.
[سورة الأنعام (6) : آية 128]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ
اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ
الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا
أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ
خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ (128)
قوله تعالى: «ويوم نحشرهم جميعاً» يعني الجن والإنس. وقرأ حفص
عن عاصم: «يحشرهم» بالياء. قال أبو سليمان: يعني: المشركين
وشياطينهم الذين كانوا يوحون إليهم بالمجادلة لكم فيما حرَّمه
الله من الميتة. قوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ فيه إضمار،
فيقال لهم: يا معشر والمعشر: الجماعة أمرهم واحد، والجمع:
المعاشر. وقوله: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي: من
إغوائهم وإضلالهم.
وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعني الذين أضلهم الجن:
رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ فيه ثلاثة أقوال:
(560) أحدها: أن استمتاع الإنس بالجن: أنهم كانوا إذا سافروا،
فنزلوا وادياً، وأرادوا مبيتاً، قال أحدهم: أعوذ بعظيم هذا
الوادي من شر أهله واستمتاع الجن بالإنس: أنهم كانوا يفخرون
على قومهم، ويقولون: قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا، رواه
أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل، والفراء.
والثاني: أن استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يغرونهم به
من الضلالة والكفر والمعاصي.
واستمتاع الإنس بالجن: أن الجن زَيَّنَتْ لهم الأمور التي
يهوَوْنَها، وشَّهوْها إليهم حتى سهل عليهم فعلها، روى هذا
المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال محمد بن كعب، والزجاج.
والثالث: أن استمتاع الجن بالإنس: إغواؤهم إياهم. واستمتاع
الإنس بالجن: ما يتلقَّون منهم من السحر والكهانة ونحو ذلك.
والمراد بالجن في هذه الآية: الشياطين.
قوله تعالى: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا فيه
قولان: أحدهما: الموت، قاله الحسن، والسّدّيّ.
__________
عزاه المصنف لابن عباس من رواية الكلبي، وهي رواية ساقطة. وكذا
عزاه لمقاتل، وهو متهم. وأخرجه الطبري 13893 عن ابن جريج قوله.
ويأتي شيء من هذا في سورة الجن.
__________
(1) سورة الحجر: 46.
(2) سورة الرعد، 23- 24.
(3) سورة الواقعة: 26.
(4) سورة يس: 58.
(5) سورة الأحزاب: 44.
(2/77)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي
بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ
لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا
وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
والثاني: الحشر، ذكره الماوردي. قوله
تعالى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ قال الزجاج: المثوى: المقام و
«خالدين» منصوب على الحال. المعنى: النار مقامكم في حال خلود
دائم إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ هو استثناء من يوم القيامة،
والمعنى: خالِدِينَ فِيها مذ يبعثون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من
مقدار حشرهم من قبورهم، ومدتهم في محاسبتهم. ويجوز أن تكون
إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن يزيدهم من العذاب. وقال بعضهم: إلا
ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب وقيل في هذا غير
قول، ستجدها مشروحة في (هود) إن شاء الله.
[سورة الأنعام (6) : آية 129]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ (129)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً
في معناه أربعة اقوال «1» : أحدها: نجعل بعضهم أولياء بعض،
رواه سعيد عن قتادة. والثاني: نُتْبِعُ بعضهم بعضاً في النار
بأعمالهم من الموالاة، وهي المتابعة، رواه معمر عن قتادة.
والثالث: نسلِّط بعضهم على بعض، قاله ابن زيد. والرابع: نكل
بعضهم إلى بعض ولا نعينهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: من المعاصي.
[سورة الأنعام (6) : آية 130]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ
لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)
قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ
قرأ الحسن، وقتادة: «تأتكم» بالتاء، سُلٌ مِنْكُمْ
. واختلفوا في الرسالة إلى الجن على أربعة اقوال «2» : أحدها:
أن الرسل كانت تبعث إلى الإِنس خاصة، وأن الله تعالى بعث
محمّدا صلى الله عليه وسلم إلى الإِنس والجن، رواه أبو صالح عن
ابن عباس. والثاني: أن رسل الجن، هم الذين سمعوا القرآن،
فولَّوا إلى قومهم منذرين، روي عن ابن عباس أيضاً. وقال مجاهد:
الرسل من الإِنس، والنذر من الجن، وهم قوم يسمعون كلام الرسل،
فيبلِّغون الجن ما
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 344: وأولى هذه الأقوال في
تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: معناه وكذلك نجعل بعض الظالمين
لبعض أولياء لأن الله ذكر قبل هذه الآية ما كان من قول
المشركين، فقال جل ثناؤه:
وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ
بَعْضُنا بِبَعْضٍ وأخبر جل ثناؤه: أن بعضهم أولياء بعض، ثم
عقب خبره ذلك بخبره عن أن ولاية بعضهم بعضا بتوليته إياهم،
فقال: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء
بعض يستمتاع بعضهم ببعض، كذلك نجعل بعضهم أولياء بعض في كل
الأمور بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من معاصي الله ويعملونه. ا.
هـ.
(2) قال ابن كثير في «تفسيره» 2/ 225 الآية لَمْ يَأْتِكُمْ
رُسُلٌ مِنْكُمْ: هذا استفهام تقريرا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
، أي من جملتكم والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل، كما نص
على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة، من السلف
والخلف، وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم ومن الجن نذر. وحكى
ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلا، واحتج
بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها على ذلك نظر، لأنها
محتملة وليس بصريحة. وهي- والله أعلم- كقوله تعالى: مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ أي المالح والحلو بَيْنَهُما
بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ إلى أن قال يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من
الملح لا من الحلو، وهذا واضح ولله الحمد. ا. هـ.
(2/78)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ
يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا
رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ
الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا
أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا
تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
سمعوا. والثالث: أن الله تعالى بعث إليهم
رسلاً منهم، كما بعث إلى الإِنس رسلاً منهم، قاله الضحاك
ومقاتل وأبو سليمان، وهو ظاهر الكلام. والرابع: أن الله تعالى
لم يبعث إليهم رسلاً منهم وإنما جاءتهم رسل الإِنس، قاله ابن
جريج والفراء والزجاج. قالوا: ولا يكون الجمع في قوله تعالى:
لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
مانعاً أن تكون الرسل من أحد الفريقين، كقوله تعالى: يَخْرُجُ
مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ، وإنما هو خارج من الملح
وحده. وفي دخول الجن الجنة إذا آمنوا قولان: أحدهما: يدخلونها،
ويأكلون ويشربون، قاله الضّحّاك. والثاني: ثوابهم أن يجاروا من
النار ويصيروا تراباً، رواه سفيان عن ليث.
قوله تعالى: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
أي: يقرءون عليكم كتبي، يُنْذِرُونَكُمْ
أي: يخوّفونكم بيوم القيامة.
وفي قوله تعالى: هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
قولان: أحدهما: أقررنا على أنفسنا بانذار الرسل لنا.
والثاني: شهد بعضنا على بعض بانذار الرسل إياهم. ثم أخبرنا
الله تعالى بحالهم، فقال: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
أي: بزينتها وإمهالهم فيها شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
أي: أقروا أنهم كانوا في الدنيا كافرين. وقال مقاتل: ذلك حين
شهدت عليهم جوارحهم بالشّرك والكفر.
[سورة الأنعام (6) : آية 131]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُها غافِلُونَ (131)
قوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى
بِظُلْمٍ قال الزجاج: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل، وأمر
عذاب من كذب، لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم، أي: لا يهلكهم
حتى يبعث إليهم رسولاً. قال ابن عباس: «بظلم» أي: بشرك
وَأَهْلُها غافِلُونَ لم يأتهم رسول.
[سورة الأنعام (6) : آية 132]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ
عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
قوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: لكل عامل
بطاعة الله أو بمعصيته درجات، أي: منازل يبلغها بعمله، إن كان
خيراً فخيراً، وإن كان شراً فشراً. وإنما سميت درجات لتفاضلها
في الارتفاع والانحطاط، كتفاضل الدرج.
قوله تعالى: عَمَّا يَعْمَلُونَ قرأ الجمهور بالياء وقرأ ابن
عامر بالتاء على الخطاب.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 134]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما
أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما
تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ يريد: الغني عن خلقه ذُو
الرَّحْمَةِ قال ابن عباس: بأوليائه وأهل طاعته. وقال غيره:
بالكل. ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين. إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ بالهلاك وقيل: هذا الوعيد لأهل مكة
وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ
أي: ابتدأكم مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ يعني: آباءهم
الماضين. إِنَّ ما تُوعَدُونَ به من مجيء السّعة والحشر لَآتٍ
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: بفائتين. قال أبو عبيدة:
يقال: أعجزني كذا، أي: فاتني وسبقني.
(2/79)
قُلْ يَا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا
ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا
هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا
كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ
لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ (136)
[سورة الأنعام (6) : آية 135]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
قوله تعالى: عَلى مَكانَتِكُمْ وقرأ أبو بكر عن عاصم:
«مكاناتكم» على الجمع. قال ابن قتيبة:
أي: على موضعكم، يقال: مكان ومكانة، ومنزل ومنزلة. وقال
الزجاج: اعملوا على تمكنكم. قال:
ويجوز أن يكون المعنى: اعملوا على ما أنتم عليه. تقول للرجل
إذا أمرته أن يثبت على حال: كن على مكانتك.
قوله تعالى: إِنِّي عامِلٌ أي: عامل ما أمرني به ربي فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ. قرأ ابن
كثير، ونافع، وأبو عمرو. وابن عامر، وعاصم: «تكون» بالتاء.
وقرأ حمزة، والكسائي: بالياء. وكذلك خلافهم في (القصص) ، ووجه
التأنيث، اللفظ، ووجه التذكير، أنه ليس بتأنيث حقيقي. وعاقبة
الدار: الجنة. والظالمون ها هنا: المشركون. فان قيل: ظاهر هذه
الآية أمرهم بالاقامة على ما هم عليه، وذلك لا يجوز. فالجواب:
أن معنى هذا الأمر المبالغة في الوعيد فكأنه قال: أقيموا على
ما أنتم عليه، إن رضيتم بالعذاب، قاله الزجاج.
(فصل:) وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أن المراد بها التهديد
فعلى هذا هي محكمة. والثاني:
أن المراد بها ترك القتال، فعلى هذا هي منسوخة بآية السيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 136]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ
وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ
وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ
إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى
شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)
قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ قال ابن قتيبة:
ذرأ، بمعنى خلق. مِنَ الْحَرْثِ وهو الزرع. (والأنعام) : الإبل
والبقر والغنم، وكانوا إذا زرعوا، خطوا خطاً، فقالوا: هذا لله،
وهذا لآلهتنا، فإذا حصدوا ما جعلوه لله، فوقع منه شيء فيما
جعلوه لآلهتهم، تركوه وقالوا: هي إليه محتاجة وإذا حصدوا ما
جعلوه لآلهتهم، فوقع منه شيء في مال الله، أعادوه إلى موضعه.
وكانوا يجعلون من الأنعام شيئا لله فاذا ولدت إناثها ميِّتاً
أكلوه، وإذا ولدت أنعام آلهتهم ميِّتاً عظموه فلم يأكلوه. وقال
الزجاج:
معنى الآية: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيباً،
وجعلوا لشركائهم نصيباً، يدل عليه قوله تعالى: فَقالُوا هذا
لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فدل بالإِشارة إلى
النصيبين على نصيب الشركاء وكانوا إذا زكا ما لله، ولم يزكُ ما
لشركائهم، ردوا الزاكي على أصنامهم، وقالوا: هذه أحوج، والله
غني وإذا زكا ما للأصنام، ولم يزكُ ما لله، أقروه على ما به.
قال المفسرون: وكانوا يَصرفون ما جعلوا لله إلى الضِّيفان
والمساكين. فمعنى قوله: فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أي: إلى
هؤلاء. ويصرفون نصيب آلهتهم في الزرع إلى النفقة على
خُدَّامها. فأما نصيبها في الأنعام، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه كان للنفقة عليها أيضاً. والثاني: أنهم كانوا يتقربون به،
فيذبحونه لها. والثالث: أنه البحيرة، والسائبة، والوصيلة،
والحام. وقال الحسن: كان إذا هلك ما لأوثانهم غَرِموه، وإذا
هلك ما لله لم يَغْرَمُوه. وقال
(2/80)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ
شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ
دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ
وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
ابن زيد: كانوا لا يأكلون ما جعلوه لله حتى
يذكروا عليه اسم أوثانهم، ولا يذكرون الله على ما جعلوه
للأوثان. فأما قوله: «بزَعمهم» فقرأ الجمهور: بفتح الزاي وقرأ
الكسائي، والأعمش: بضمها. وفي الزعم ثلاث لغات: ضم الزاي،
وفتحها، وكسرها ومثله: السُّقط، والسَّقط والسِّقط والفَتْك
والفُتْك، والفِتْك والزَّعم، والزُّعم، والزِّعم، قال الفراء:
فتح الزاي في الزَّعم، لأهل الحجاز وضمها لأسد وكسرها لبعض قيس
فيما يحكي الكسائيّ.
[سورة الأنعام (6) : آية 137]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ
أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا
عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ
فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ أي: ومثل ذلك الفعل القبيح فيما
قسموا بالجهل زيَّن. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون «وكذلك»
مستأنفاً، غير مشارٍ به إلى ما قبله فيكون المعنى: وهكذا زيّن.
وقرأ الجمهور: «زَيَّن» بفتح الزاي والياء، ونصب اللام من
«قَتْلَ» ، وكسر الدال من «أولادِهم» ، ورفع «الشّركاء» ووجه
هذه القراءة ظاهر. وقرأ ابن عامر: بضم زاي «زين» ، ورفع اللام،
ونصب الدال من «أولادهم» ، وخفض «الشركاء» . قال أبو علي:
ومعناها: قتلُ شركائهم أولادَهمُ ففصل بين المضاف والمضاف إليه
بالمفعول به، وهذا قبيح، قليل في الاستعمال. وقرأ أبو عبد
الرحمن السلمي، والحسن: «زُيِّن» بالرفع، «قتلُ» بالرفع أيضاً،
«أولادِهم» بالجر، «شركاؤُهم» رفعاً. قال الفراء: رفع القتل
إذا لم يسمَّ فاعله، ورفع الشركاء بفعل نواه، كأنه قال: زيَّنه
لهم شركاؤهم. وكذلك قال سيبويه في هذه القراءة كأنه قيل: مَن
زيَّنه؟ فقال: شركاؤهم. قال مكي بن أبي طالب: وقد روي عن ابن
عامر أيضاً أنه قرأ بضم الزاي، ورفع اللام، وخفض الأولاد
والشركاء فيصير الشركاء اسماً للأولاد، لمشاركتهم للآباء في
النسب والميراث والدِّين.
وللمفسرين في المراد بشركائهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم
الشياطين، قاله الحسن، ومجاهد، والسدِّي. والثاني: شركاؤهم في
الشرك، قاله قتادة. والثالث: قوم كانوا يخدمون الاوثان، قاله
الفراء، والزجاج. والرابع: أنهم الغُواة من الناس، ذكره
الماوردي. وإنما أضيف الشركاء إليهم، لأنهم هم الذين اختلقوا
ذلك وزعموه.
وفي الذي زيَّنوه لهم من قتل أولادهم قولان: أحدهما: أنه وأدْ
البنات أحياءً خيفة الفقر، قاله مجاهد. والثاني: أنه كان يحلف
أحدهم أنه إن ولد له كذا وكذا غلاماً أن ينحر أحدهم، كما حلف
عبد المطلب في نحر عبد الله، قاله ابن السائب، ومقاتل.
قوله تعالى: لِيُرْدُوهُمْ أي: ليهلكوهم. وفي هذه اللام قولان:
أحدهما: أنها لام «كي» .
والثاني: أنها لام العاقبة، كقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا «1» أي: آل أمرهم إلى الردى، لا أنهم قصدوا ذلك. قوله
تعالى: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي: ليخلطوا. قال
ابن عباس: ليُدخلوا عليهم الشك في دينهم وكانوا على دين
إسماعيل، فرجعوا عنه بتزيين الشّياطين.
__________
(1) سورة القصص: 8.
(2/81)
وَقَالُوا هَذِهِ
أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ
نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا
وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
(138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ
خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ
يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ
وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
قوله تعالى: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ
قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا دفنوا بناتهم قالوا: إن
الله أمرنا بذلك فقال: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ أي: يكذبون
وهذا تهديد ووعيد، فهو محكم، وقال قوم: مقصوده ترك قتالهم، فهو
منسوخ بآية السيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 138]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ
مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها
وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً
عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)
قوله تعالى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ الحرث:
الزرع، والحجر: الحرام والمعنى:
أنهم حرَّموا أنعاماً وحرثاً جعلوه لأصنامهم. قال ابن قتيبة:
وإنما قيل للحرام: حجر، لأنه حُجر على الناس أن يصيبوه. وقرأ
الحسن، وقتادة: «حُجْر» بضم الحاء. قال الفراء: يقال: حِجْر،
وحُجْر، بكسر الحاء وضمها وهي في قراءة ابن مسعود: «حرج» ،
مثل: «جذب» و «جبذ» . وفي هذه الأنعام التي جعلوها للأصنام
قولان: أحدهما: أنها البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام.
والثاني: أنها الذبائح للأوثان، وقد سبق ذكرهما.
قوله تعالى: لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ هو كقولك: لا
يذوقها إلا من نريد. وفيمن أطلقوا له تناولها قولان: أحدهما:
أنهم منعوا منها النساء، وجعلوها للرجال، قاله ابن السائب.
والثاني: عكسه، قاله ابن زيد. قال الزجاج: أعلم الله عزّ وجلّ
أن هذا التحريم زعم منهم، لا حجة فيه ولا برهان. وفي قوله
تعالى: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ثلاثة أقوال: أحدها:
أنها الحام، قاله ابن عباس. والثاني:
البحيرة، كانوا لا يحجُّون عليها، قاله أبو وائل. والثالث:
البحيرة، والسائبة، والحام، قاله السدي.
قوله تعالى: وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهَا هي قربان آلهتهم، يذكرون عليها اسم الأوثان خاصة.
وقال أبو وائل. هي التي كانوا لا يحجُّون عليها وقد ذكرنا هذا
عنه في قوله تعالى: حُرِّمَتْ ظُهُورُها، فعلى قوله، الصفتان
لموصوف واحد. وقال مجاهد: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم
الله عليها في شيء لا إن رُكِبوا ولا إن حملوا ولا إن حلبوا،
ولا إن نتجوا. وفي قوله تعالى: افْتِراءً عَلَيْهِ قولان:
أحدهما: أن ذكر أسماء أوثانهم وترك ذكر الله! هو الافتراء.
والثاني: أن إضافتهم ذلك إلى الله تعالى، هو الافتراء لأنهم
كانوا يقولون: هو حرّم ذلك.
[سورة الأنعام (6) : آية 139]
وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ
لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ
مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ
إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
قوله تعالى: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعني
بالأنعام: المحرمات عندهم، من البحيرة، والسائبة، والوصيلة.
وللمفسرين في المراد بما في بطونها ثلاثة أقوال «1» : أحدها:
أنه اللبن،
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 358- 359: والصواب من القول في
ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم
كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام- يعني أنعامهم-: «هذا
محرم على أزواجنا» و «الأزواج» إنما هي نساؤهم في كلامهم، وهن
لا شك بنات من هن أولاده، وحلائل من هن أزواجه. وفي قوله الله
عز وجل: وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا الدليل الواضح على أن
تأنيث «الخالصة» كان لما وصفت من المبالغة في وصف ما في بطون
الأنعام بالخلوصة للذكور، لأنه لو كان لتأنيث الأنعام لقيل:
«ومحرمة على أزواجنا» ولكن لما كان التأنيث في «الخالصة» لما
ذكرت، ثم لم يقصد في «المحرم» ما قصد في «الخالصة» من
المبالغة، رجع فيها إلى تذكير «ما» واستعمال ما هو أولى به من
صفته ا. هـ.
(2/82)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ
قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا
مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا
وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: الأجنَّة،
قاله مجاهد. والثالث: الولد واللبن، قاله السدي، ومقاتل.
قوله تعالى: خالِصَةٌ لِذُكُورِنا قرأ الجمهور: «خالصة» على
لفظ التأنيث. وفيها أربعة أوجه. أحدها: أنه إنما أُنثت، لأن
الأنعام مؤنثة، وما في بطونها مثلها، قاله الفراء. والثاني: أن
معنى «ما» التأنيث، لأنها في معنى الجماعة فكأنه قال: جماعة ما
في بطون هذه الأنعام خالصة، قاله الزجاج. والثالث: أن الهاء
دخلت للمبالغة في الوصف، كما قالوا: «علاّمة» و «نسّابة» .
والرابع: أنه أُجري مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث عن
الأسماء المذكَّرة كقولك: عطاؤك عافية، والرخص نعمة، ذكرهما
ابن الأنباري. وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والضحاك،
والأعمش، وابن أبي عبلة: «خالصٌ» بالرفع، من غير هاء. قال
الفراء: وإنما ذُكِّر لتذكير «ما» . وقرأ ابن عباس، وأبو رزين،
وعكرمة، وابن يعمر: «خالصُهُ» برفع الصاد والهاء على ضمير
مذكَّر، قال الزجاج: والمعنى: ما خلص حياً. وقرأ قتادة:
«خالصةً» بالنصب. فأما الذكور، فهم الرجال، والأزواج: النساء.
قوله تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً قرأ الأكثرون: «يكن»
بالياء، «ميتة» بالنصب وذلك مردود على لفظ «ما» . والمعنى وإن
يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة. وقرأ ابن كثير: «يكن»
بالياء، «ميتةٌ» بالرفع.
وافقه ابن عامر في رفع الميتة غير أنه قرأ: «تكن» بالتاء.
والمعنى: وإن تحدث وتقع، فجعل «كان» :
تامة لا تحتاج إلى خبر. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «تكن» بالتاء،
«ميتةً» بالنصب. والمعنى: وإن تكن الأنعام التي في البطون
ميتة.
قوله تعالى: فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ يعني الرجال والنساء.
سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ قال الزجاج:
أراد جزاء وصفهم الذي هو كذب.
[سورة الأنعام (6) : آية 140]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى
اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)
قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ وقرأ
ابن كثير، وابن عامر: «قتَّلوا» بالتشديد. قال ابن عباس: نزلت
في ربيعة، ومضر، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياءً في
الجاهلية من العرب. وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم
بنته مخافة السبي والفاقة، ويغذو كلبه. قال الزجاج: وقوله:
«سفهاً» منصوب على معنى اللام. تقديره: للسفه تقول: فعلت ذلك
حذر الشر. وقرأ ابن السّميفع، والجحدريّ، ومعاذ القارئ:
«سفهاء» برفع السين وفتح الفاء والهمزة بالمدّ وبالنصب والهمز.
قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ: أي: كانوا يفعلون ذلك للسفه من
غير أن أتاهم علم في ذلك وحرَّموا ما رزقهم الله من الأنعام
والحرث، وزعموا أن الله أمرهم بذلك.
(2/83)
وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ
وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ
وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
[سورة الأنعام (6) : آية 141]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ
مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ
كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
(141)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ
وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن المعروشات ما انبسط على وجه الأرض، فانتشر مما
يعرَّش، كالكرم، والقرع، والبِطيخ وغير معروشات: ما قام على
ساق، كالنخل، والزرع، وسائر الأشجار. والثاني: أن المعروشات:
ما أنبته الناس وغير معروشات: ما خرج في البراري والجبال من
الثمار، رويا عن ابن عباس. والثالث: أن المعروشات، وغير
المعروشات: الكرم، منه ما عرش، ومنه ما لم يعرش، قاله الضحاك.
والرابع: أن المعروشات: الكروم التي قد عُرّش عنبها، وغير
المعروشات: سائر الشّجر الذي لا يعرّش، قاله أبو عبيدة.
والأُكُلُ: الثمر. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً
قد سبق تفسيره.
قوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ هذا أمر إباحة
وقيل: إنما قدَّم الأكل لينهى عن فعل الجاهلية في زروعهم من
تحريم بعضها.
قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قرأ ابن عامر،
وعاصم وأبو عمرو: بفتح الحاء، وهي لغة أهل نجد، وتميم. وقرأ
ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي: بكسرها، وهي لغة أهل
الحجاز، ذكره الفراء. وفي المراد بهذا الحق قولان «1» :
أحدهما: أنه الزكاة، روي عن أنس بن مالك، وابن عباس، وسعيد بن
المسيب، والحسن، وطاوس، وجابر بن زيد، وابن الحنفية، وقتادة في
آخرين فعلى هذا، الآية محكمة. والثاني: أنه حق غير الزكاةُ فرض
يوم الحصاد، وهو إطعام من حضر، وترك ما سقط من الزرع والثمر،
قاله عطاء ومجاهد.
وهل نُسخ ذلك، أم لا؟ إن قلنا: إنه أمر وجوب، فهو منسوخ
بالزكاة وإن قلنا: إنه أمر استحباب، فهو باقي الحكم. فان قيل:
هل يجب إيتاء الحق يوم الحصاد؟ فالجواب: إن قلنا: إنه
__________
(1) قال الإمام ابن العربي في «أحكام القرآن» 2/ 282. الآية
وَآتُوا حَقَّهُ: اختلف في تفسير هذا الحق على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه الصدقة المفروضة، قاله سعيد بن المسيب وغيره، ورواه
ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية. الثاني: أنها
الصدقة في المفروضة تكون يوم الحصاد وعند الصرام وهي إطعام من
حضر والإيتاء لمن غير قاله مجاهد. الثالث: أن هذا منسوخ
بالزكاة قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقد زعم قوم أن هذا
اللفظ مجمل ولم يحصلوا القول فيه، وحقيقة الكلام عليه: أن قوله
آتُوا مفسر، وقوله حَقَّهُ مفسر في المؤتى، مجمل في المقدار.
وإنما يقع النظر في رفع الإشكال الذي أنشأه احتمال هذه
الأقوال. وقد بينا فيما سبق وجه أنه ليس في الماء حق سوى
الزكاة، وتحقيقه في القسم الثاني من علوم القرآن، وفي سورة
البقرة من هذا التأليف، وثبت أن المراد بذلك ها هنا الصدقة
المفروضة. وقد أفادت هذه الآية وجوب الزكاة فيما سمى الله
سبحانه، وأفادت بيان ما يجب فيه من مخرجات الأرض التي أجملها
الله في قوله وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
[البقرة: 267] وفسرها ها هنا، فكانت آية البقرة عامة في المخرج
كله مجملة في القدر، فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي
أمر بأن يبين للناس ما نزل إليهم.
(2/84)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ
حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (142)
إطعام من حضر من الفقراء، فذلك يكون يوم
الحصاد وإن قلنا: إنه الزكاة، فقد ذُكرت عنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن الأمر بالإِيتاء محمول على النخيل، لأن صدقتها تجب
يوم الحصاد. فأما الزروع، فالأمر بالإيتاء منها محمول على وجوب
الإخراج إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد فيؤخَّر إلى زمان
التنقية، ذكره بعض السلف. والثاني: أن اليوم ظرف للحق، لا
للايتاء فكأنه قال: وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية.
والثالث: أن فائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب فيه بنفس خروجه
وبلوغه، إنما يجب يوم حصوله في يد صاحبه. وقد كان يجوز أن
يتوهم أن الحق يلزم بنفس نباته قبل قطعه، فأفادت الآية أن
الوجوب فيما يحصل في اليد، دون ما يتلف، ذكر الجوابين القاضي
أبو يعلى.
وفي قوله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا ستة أقوال «1» : أحدها: أنه
تجاوز المفروض في الزكاة إلى حد يُجحف به، قاله أبو العالية،
وابن جريج. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن ثابت بن قيس بن شماس
صرم خمسمائة نخلة، ثم قسمها في يوم واحد، فأمسى ولم يترك لأهله
شيئا، فكره الله تعالى له ذلك، فنزلت: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ
لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. والثاني: أنّ الإسراف: يمنع الصدقة
الواجبة! قاله سعيد بن المسيب. والثالث: أنه الإِنفاق في
المعصية، قاله مجاهد، والزهري. والرابع: أنه إشراك الآلهة في
الحرث والأنعام، قاله عطيّة، وابن السائب. والخامس: أنه خطاب
للسلطان لئلا يأخذ فوق الواجب من الصدقة، قاله ابن زيد.
والسادس: أنه الإسراف في الأكل قبل أداء الزّكاة، قاله ابن
بحر.
[سورة الأنعام (6) : آية 142]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
قوله تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً هذا نسق على ما قبله
والمعنى: أنشأ جنّاتٍ وأنشأ حمولة وفرشاً. وفي ذلك خمسة أقوال:
أحدها: أن الحمولة: ما حمل من الإبل، والفرشَ: صغارها، قاله
ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وابن قتيبة. والثاني: أن الحمولة:
ما انتفعت بظهورها، والفرش: الراعية، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: أن الحمولة: الإبل: والخيل، والبغال، والحمير، وكل
شيء يُحمَل عليه. والفرش: الغنم: رواه ابن أبي طلحة عن ابن
عباس. والرابع:
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 371: والصواب من القول في ذلك
عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى بقوله: وَلا تُسْرِفُوا
عن جميع معاني «الإسراف» ولم يخصص منها معنى دون معنى وإذ كان
ذلك كذلك، وكان «الإسراف» في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق
في العطية، إما بتجاوز حده في الزيادة، وإما بتقصير عن حده
الواجب، كان معلوما أن المفرق ماله مباراة، والباذل له للناس
حتى أجحفت به عطيته، مسرف بتجاوزه حد الله إلى ما ليس له.
وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه. وذلك كمنعه ما
ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة إذا وجبت فيه، أو منعه من
ألزمه الله نفقته من أهله وعياله وألزمه منها، وكذلك السلطان
في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه. كل هؤلاء فيما فعلوا
من ذلك مسرفون، داخلون في معنى من أتى ما نهى الله عنه من
الإسراف بقوله: وَلا تُسْرِفُوا في عطيتكم من أموالكم ما يجحف
بكم إذا كان ما قبله من الكلام أمرا من الله بإيتاء الواجب فيه
أهله يوم حصاده. فإن الآية قد كانت تنزل على رسول الله صلى
الله عليه وسلم بسبب خاص من الأمور والحكم بها على العام، بل
عامة آي القرآن كذلك، فكذلك قوله وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا
يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ا. هـ.
(2/85)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ
مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي
بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ
حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ
وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ
لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
الحمولة: من الإبل، والفرش: من الغنم، قاله
الضحاك. والخامس: الحمولة: الإبل والبقر. والفرش:
الغنم، وما لا يحمل عليه من الإبل، قاله قتادة. وقرأ عكرمة،
وأبو المتوكل وأبو الجوزاء: «حُمولة» بضم الحاء.
قوله تعالى: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قال الزجاج:
المعنى: لا تحرِّموا ما حرمتم مما جرى ذكره، وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي: طرقه. قال: وقوله تعالى: ثَمانِيَةَ
أَزْواجٍ بدل من قوله تعالى: حَمُولَةً وَفَرْشاً. والزوج، في
اللغة: الواحد الذي يكون معه آخر. قلت: وهذا كلام يفتقر إلى
تمام، وهو أن يقال: الزوج: ما كان معه آخر من جنسه، فحينئذ
يقال لكل واحد منهما: زوج.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 143 الى 145]
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ
الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ
الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ
قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ
بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ
فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
قوله تعالى: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الضأن: ذوات الصوف من
الغنم، والمعز: ذوات الشعر منها.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: من «المعَز» بفتح العين.
وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، والكسائي: بتسكين العين. والمراد
بالأنثيين: الذكر والأنثى. قُلْ آلذَّكَرَيْنِ من الضأن والمعز
حرم الله عليكم أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منها؟ المعنى: فان كان ما
حرّم الله عليكم الذكرين. فكل الذكور حرام، وإن كان حرم
الأنثيين، فكل الإناث حرام، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام
الأنثيين، فهي تشتمل على الذكور، وتشتمل على الإناث، وتشتمل
على الذكور والإناث، فيكون كل جنين حراماً. وقال ابن الأنباري:
معنى الآية: ألَحِقَكم التحريم من جهة الذّكرين، أم من جهة
الأنثيين؟ فان قالوا: من جهة الذكرين حَرُم عليهم كل ذكر، وإن
قالوا: من جهة الأنثيين، حرمت عليهم كل أُنثى، وإن قالوا: من
جهة الرحم، حَرُمَ عليهم الذكر والأنثى. وقال ابن جرير الطبري:
إن قالوا: حَرَّم الذكرين، أوجبوا تحريم كل ذكر من الضأن
والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض الذكران منها وظهوره، وفي ذلك
فساد دعواهم. وإن قالوا: حرَّم الأنثيين أوجبوا تحريم لحوم كل
أُنثى من ولد الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض ذلك
وظهوره. وإن قالوا: ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فقد كانوا
يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها. قال المفسرون: فاحتج الله تعالى
عليهم بهذه الآية والتي بعدها، لأنهم كانوا يحرِّمون أجناساً
من النعم، بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون
الرجال.
وفي قوله تعالى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ
إبطال لما حرَّموه من البحيرة، والسائبة، والوصيلة والحام. وفي
قوله تعالى: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ
الْأُنْثَيَيْنِ، إبطال قولهم: ما فِي بُطُونِ هذِهِ
الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى
أَزْواجِنا.
قوله تعالى: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ قال الزجاج: المعنى: فسروا
ما حرمتم بعلم، أي: أنتم لا علم
(2/86)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي
مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ
إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ
لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا
عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
لكم، لأنكم لا تؤمنون بكتاب. أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ أي: هل شاهدتم الله قد حرَّم هذا، إذا كنتم لا تؤمنون
برسول؟
قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ
كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال ابن عباس:
يريد عمرو بن لحي، ومن جاء بعده. والظّالمون ها هنا: المشركون.
[سورة الأنعام (6) : آية 145]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ نبْههم بهذا على أن التحريم والتحليل،
إنما يثبت بالوحي، وقال طاوس، ومجاهد: معنى الآية: لا أجد
محرماً مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا. والمراد
بالطاعم: الآكل. إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أي: إلا أن يكون
المأكول ميتة. قرأ ابن كثير، وحمزة: «إلا أن يكون» بالياء،
«ميتة» نصبا! وقرأ ابن عامر: «إلا أن تكون» بالتاء، «ميتةٌ»
بالرفع على معنى: إلا أن تقع ميتةٌ، أو تحدث ميتةٌ. أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً قال قتادة: إنما حُرِّمَ المسفوحُ. فأما اللحم إذا
خالطه دم، فلا بأس به. وقال الزجاج: المسفوح: المصبوب. وكانوا
إذا ذَكَّوا يأكلون الدم كما يأكلون اللحم. والرجس: اسم لما
يُستقذَر، وللعذاب. أَوْ فِسْقاً المعنى: أو أن يكون المأكول
فسقا. أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: رُفع الصوت على ذبحه
باسم غير الله، فسمي ما ذُكر عليه غير اسم الله فسقاً والفسق:
الخروج من الدين.
(فصل:) اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين
«1» :
__________
(1) قال الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في «التمهيد» 1/
139 ما ملخصه، بعد أن أسند حديث أبي هريرة «أكل كل ذي ناب من
السباع حرام» : وهذا حديث ثابت مجتمع على صحته، وفيه من الفقه
أن النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع نهي تحريم، لا نهي أدب
وإرشاد، وكل خبر جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه نهي،
فالواجب استعماله على التحريم إلا أن يأتي معه أو في غيره دليل
يبين أن المراد أنه ندب وأدب. وقد زعم بعض أصحابنا أنه نهى
تنزه وتقذر، فإن أراد به نهي أدب فهذا ما لا يوافق عليه، وإن
أراد أن كل ذي ناب من السباع يجب التنزه عنه كما يتنزه عن
النجاسة فهذا غاية في التحريم. ولم يرده القائلون من أصحابنا.
لأنهم استدلوا بظاهر هذه الآية قُلْ لا أَجِدُ ... وذكر أن من
الصحابة من استعمل هذه الآية، ولم يحرم ما عداها، ويلزمه على
أصله هذا أن يحل لحم الحمر الأهلية، وهو لا يقول هذا في لحم
الحمر الأهلية. لأنه لا تعمل الزكاة عنده في لحومها ولا في
جلودها، ولو لم يكن محرما إلا ما في هذه الآية لكانت الحمر
الأهلية حلالا. وهو لا يقول به، ولا أحد من أصحابه، وهذه
مناقضة، وكذلك يلزمه أن لا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه
عمدا، ويستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين. وأظن قائل هذا
القول من أصحابنا في أكل كل ذي ناب.
راعى اختلاف العلماء، ولا يجوز مراعاة الاختلاف عند طلب الحجة.
لأن الاختلاف ليس منه شيء لازم دون دليل، وإنما الحجة اللازمة
الإجماع لأن الإجماع يجب الانقياد إليه. فأما قوله تعالى قُلْ
لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ ... فقال قوم من فقهاء العراقيين،
ممن يجيز نسخ القرآن بالسنة: إن هذه الآية منسوخة بالسنة. وقال
آخرون: معنى الآية، أي لا أجد قد أوحي إلي في هذا الحال أي وقت
نزول الآية. وقالت فرقة: الآية محكمة، ولا يحرم إلا ما فيها،
وهو قول ابن عباس، وقد روي عنه خلافه في أشياء حرمها، يطول
ذكرها وكذلك اختلف فكيه عن عائشة، وروي عن ابن عمر من وجه
ضعيف، وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير.
وأما سائر فقهاء المسلمين في جميع الأمصار فمخالفون لهذا القول
متبعون للسنة في ذلك. وقال أكثر أهل العلم، والنظر من أهل
الأثر: إن الآية محكمة غير منسوخة، وكل ما حرمه النبي صلى الله
عليه وسلم مضموم إليها، ولا فرق بين ما حرم الله عز وجل في
كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم اه. [.....]
(2/87)
وَعَلَى الَّذِينَ
هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا
حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ
بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا
لَصَادِقُونَ (146)
أحدهما: أنها محكمة. ولأرباب هذا القول في
سبب إحكامها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها خبر، والخبر لا يدخله
النسخ. والثاني: أنها جاءت جواباً عن سؤال سألوه فكان الجواب
بقدر السؤال، ثم حُرِّم بعد ذلك ما حُرِّم. والثالث: أنه ليس
في الحيوان محرم إلا ما ذُكر فيها.
والقول الثاني: أنها منسوخة بما ذكر في (المائدة) من المنخنقة
والموقوذة، وفي السُنَّةِ من تحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب
من السباع، ومخلب من الطير. وقيل: إن آية (المائدة) داخلة في
هذه الآية، لأنّ تلك الأشياء كلّها ميتة.
[سورة الأنعام (6) : آية 146]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ
الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما
إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا
لَصادِقُونَ (146)
قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي
ظُفُرٍ وقرأ الحسن، والأعمش: «ظُفْرٍ» بسكون الفاء وهذا
التحريم تحريم بلوى وعقوبة. وفي ذي الظفر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ما ليس بمنفرج الأصابع، كالإبل، والنعام،
والإوَزِّ، والبط، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة،
والسّدّيّ. والثاني: أنّه الإبل فقط، قاله ابن زيد. والثالث:
كل ذي حافر من الدواب، ومخلب من الطير، قاله ابن قتيبة. قال:
وسمي الحافر ظفراً على الإستعارة والعرب تجعل الحافر والأظلاف
موضع القدم، استعارة وأنشدوا:
سَأمْنْعُها أوْ سَوْفَ أجْعَلُ أمْرَهَا ... إلى مَلِكٍ
أظلافُه لم تُشقَّق «1»
أراد قدميه وإنما الأظلاف للشاء والبقر. قال ابن الأنباري:
الظّفر ها هنا، يجري مجرى الظفر للانسان. وفيه ثلاث لغات
أعلاهن: ظُفُر ويقال: ظُفْر، وأُظفور. وقال الشاعر:
ألم تر أنَّ الموتَ أدْرَك مَنْ مَضَى ... فلم يُبْقِ منه ذا
جناح وذا ظُفُر
وقال الآخر:
لقد كنتُ ذا نابٍ وظُفْرٍ على العِدَى ... فأصبحتُ ما
يَخْشَوْنَ نابي ولا ظُفْري
وقال الآخر:
ما بين لُقمته الأولى إذا انحَدَرَتْ ... وبين أخرى تليها
قِيْدُ أُظْفُور «2»
وفي شحوم البقر والغنم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إنما حرّم من
ذلك شحوم الثروب خاصة، قاله قتادة. والثاني: شحوم الثروب
والكلى، قاله السدي، وابن زيد. والثالث: كل شحم لم يكن مختلطا
__________
(1) البيت غير منسوب في «مشكل القرآن» 116 وفي السمط 746 منسوب
لعقفان بن قيس بن عاصم بن عبيد اليربوعي. وقوله: أظلافه لم
تشقق: أي أنه منتعل مترفه، فلم تشقق قدماه.
(2) البيت غير منسوب في «اللسان» ظفر «أساس البلاغة» .
(2/88)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ
بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
بعظم، ولا على عظم، قاله ابن جريج. وفي
قوله تعالى: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ما علق بالظهر من الشحوم، قاله ابن عباس. والثاني:
الأَليْةَ، قاله أبو صالح، والسدي.
والثالث: ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما، قاله قتادة.
فأما الحوايا، فللمفسرين فيها أقوال تتقارب معانيها. قال ابن
عباس، والحسن، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة:
هي المباعر. وقال ابن زيد: هي بنات اللبن، وهي المرابض التي
تكون فيها الأمعاء. وقال الفراء: الحوايا:
هي المباعر، وبنات اللبن، وقال الاصمعي: هي بنات اللبن،
واحدها: حاوياء، وحاوية، وحَويّة. قال الشاعر:
أقْتُلُهم ولا أرى مُعاويه ... الجاحِظَ العَيْنِ العَظيمَ
الحاويهْ «1»
وقال الآخر:
كأنَّ نقيق الحَبِّ في حاويائه ... فحيحُ الأفاعي أو نقيقُ
العقارِب «2»
وقال أبو عبيدة: الحوايا اسم لجميع ما تحوّى من البطن، أي: ما
استدار منها. وقال الزجاج:
الحوايا: اسم لجميع ما تحوّى من الأمعاء، أي: استدار. وقال ابن
جرير الطبري: الحوايا: ما تحوّى من البطن. فاجتمع واستدار، وهي
بنات اللبن، وهي المباعر، وتسمى: المرابض، وفيها الأمعاء.
قوله تعالى: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فيه قولان: أحدهما:
أنه شحم البطن والألَيْة، لأنهما على عظم، قاله السدي.
والثاني: كل شحم في القوائم، والجنب، والرأس. والعينين،
والأذنين، فهو مما اختلط بعظم، قاله ابن جريج. واتفقوا على أن
ما حملت ظهورهما حلال، بالاستثناء من التحريم. فأما ما حملت
الحوايا، أو ما اختلط بعظم، ففيه قولان: أحدهما: أنه داخل في
الاستثناء، فهو مباح والمعنى: وأُبيح لهم ما حملت الحوايا من
الشّحم وما اختلط بعظم، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أنه نسق
على ما حرِّم، لا على الاستثناء فالمعنى: حرَّمنا عليهم
شحومهما، أو الحوايا، أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت الظهور،
فانه غير محرم، قاله الزجاج. فأما «أو» المذكورة هاهنا، فهي
بمعنى الواو، كقوله تعالى آثِماً أَوْ كَفُوراً.
قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ أي: ذلك التحريم عقوبة لهم على
بغيهم. وفي بغيهم قولان:
أحدهما: أنه قتلهم الأنبياء، وأكلهم الربا. والثاني: أنه تحريم
ما أحلّ لهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 147]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ
وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ.
(561) قال ابن عباس: لمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
للمشركين: «هذا ما أُوحي إليَّ أنَّه محرَّم على المسلمين وعلى
اليهود» ، قالوا: فانك لم تصب، فنزلت هذه الآية.
__________
لم أقف على إسناده، وتفرد المصنف بذكره دليل وهنه.
__________
(1) البيت منسوب لعلي رضي الله عنه «اللسان» حوي.
(2) البيت منسوب إلى جرير وهو في ديوانه: 83 «واللسان» حوى.
(2/89)
سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا
آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ
عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ
لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ
الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ
شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
وفي المكذبين قولان: أحدهما: المشركون،
قاله ابن عباس. والثاني: اليهود، قاله مجاهد.
والمراد بذكر الرحمة الواسعة، أنه لا يعجل بالعقوبة. والبأس:
العذاب. وفي المراد بالمجرمين قولان: أحدهما: المشركون.
والثاني: المكذّبون.
[سورة الأنعام (6) : آية 148]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما
أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا
قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ
تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ
تَخْرُصُونَ (148)
قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي: إذا لزمتْهم
الحجة، وتيقَّنوا باطل ما هم عليه من الشّرك وتحريم ما لم
يحرِّمه الله لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا، فجعلوا هذا حجة
لهم في إقامتهم على الباطل فكأنهم قالوا: لو لم يرض ما نحن
عليه، لحال بيننا وبينه، وإنما قالوا ذلك مستهزئين، ودافعين
للاحتجاج عليهم، فيقال لهم: لم تقولون عن مخالفيكم: إنهم
ضالُّون، وإنما هم على المشيئة أيضاً؟
فلا حجة لهم، لأنهم تعلَّقوا بالمشيئة، وتركوا الأمر، ومشيئة
الله تعم جميع الكائنات، وأمره لا يعمّ مراداته، فعلى العبد
اتباع الأمر، وليس له أن يتعلَّل بالمشيئة بعد ورود الأمر.
قوله تعالى: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال
ابن عباس: أي: قالوا لرسلهم مثلما قال هؤلاء لك، حَتَّى ذاقُوا
بَأْسَنا أي: عذابنا. قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ أي:
كتاب نزل من عند الله في تحريم ما حرَّمتم إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ لا اليقين و «إن» بمعنى «ما» . و «تخرصون» :
تكذبون.
[سورة الأنعام (6) : آية 149]
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ
أَجْمَعِينَ (149)
قوله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ قال
الزجاج: حجَّته البالغة: تبيينه أنه الواحد، وإرساله الأنبياء
بالحجج المعجزة. قال السدي: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ
أَجْمَعِينَ يوم أخذ الميثاق.
[سورة الأنعام (6) : آية 150]
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ
اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ (150)
قوله تعالى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ قال الزجاج: زعم سيبويه
أن هَلُمَّ هاء ضمت إليها «لُمَّ» ، وجعلتا كالكلمة الواحدة
فأكثر اللغات أن يقال: «هلمَّ» : للواحد والاثنين والجماعة
بذلك جاء القرآن. ومن العرب من يثنِّي ويجمع ويؤنث، فيقول
للذكر: «هلمَّ» وللمرأة: «هلمِّي» ، وللاثنين «هلمَّا» ،
وللثنتين: «هلمَّا» ، وللجماعة: «هلمُّوا» ، وللنسوة:
«هلمُمْن» . وقال ابن قتيبة: هَلُمَّ، بمعنى: «تعال» . وأهل
الحجاز لا يثنُّونها ولا يجمعونها، وأهل نجد يجعلونها من
«هَلْمَمَتْ» فيثنُّون ويجمعون ويؤنِّثون، وتوصل باللام،
فيقال: «هلم لك» ، «وهلم لكما» . قال: وقال الخليل: أصلها
«لُم» ، وزيدت الهاء في أولها. وخالفه الفراء فقال: أصلها «هل»
ضم إليها «أُمّ» ، والرفعة التي في اللام من همزة «أُمّ» لما
تركت انتقلت إلى ما قبلها وكذلك «اللهم» يرى أصلها: «يا ألله
أمِّنا بخير» فكثرت في الكلام، فاختلطت، وتركت الهمزة. وقال
ابن الانباري: معنى «هلم» : أقبل وأصله: «أُمَّ يا رجل» ، أي:
«اقصد» ، فضموا «هل» إلى «أم» وجعلوهما حرفاً واحداً، وأزالوا
«أم» عن التّصرّف،
(2/90)
قُلْ تَعَالَوْا
أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا
نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ
أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(152)
وحوّلوا ضمّة همزة «أم» إلى اللام، وأسقطوا
الهمزة، فاتصلت الميم باللام. وإذا قال الرجل للرجل «هلم» ،
فأراد أن يقول: لا أفعل، قال: «لا أهَلُمّ ولا أُهَلِمُّ» .
قال مجاهد: هذه الآية جواب قولهم: إن الله حرم البحيرة،
والسائبة. قال مقاتل: الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا الحرث
والأنعام، فَإِنْ شَهِدُوا أن الله حرَّمه فَلا تَشْهَدْ
مَعَهُمْ أي: لا تصدّق قولهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 151]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا
تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها
وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ
عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً «ما» بمعنى «الذي»
.
وفي «لا» قولان: أحدهما: أنها زائدة كقوله تعالى: أَلَّا
تَسْجُدَ. والثاني: أنها ليست زائدة، وإنّما هي باقية فعلى هذا
القول، في تقدير الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون قوله: «أن
لا تشركوا» ، محمولا على المعنى فتقديره: أتل عليكم أن لا
تشركوا، أي أتل تحريم الشرك. والثاني: أن يكون المعنى: أوصيكم
أن لا تشركوا، لأنّ قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً
محمول على معنى: أوصيكم بالوالدين إحساناً، ذكرهما الزجاج.
والثالث: أن الكلام تم عند قوله: حَرَّمَ رَبُّكُمْ. ثم في
قوله:
«عليكم» قولان: أحدهما: أنها إغراء، كقوله عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ «1» ، فالتقدير: عليكم أن لا تشركوا، ذكره ابن
الانباري. والثاني: أن يكون بمعنى: فُرض عليكم، ووجب عليكم أن
لا تشركوا. وفي هذا الشرك قولان: أحدهما: أنه ادعاء شريك مع
الله عزّ وجلّ. والثاني: أنه طاعة غيره في معصيته.
قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ يريد دفن البنات
أحياءً، مِنْ إِمْلاقٍ أي: من خوف فقر.
قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها
وَما بَطَنَ فيه خمسة اقوال:
أحدها: أن الفواحش: الزنا، وما ظهر منه: الإعلان به، وما بطن:
الاستسرار به، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي. والثاني: أن ما
ظهر: الخمر، ونكاح المحرمات. وما بطن: الزنا، قاله سعيد بن
جبير، ومجاهد. والثالث: أن ما ظهر: الخمر، وما بطن: الزنا،
قاله الضحاك. والرابع: أنه عام في الفواحش. وظاهرها: علانيتها،
وباطنها: سِرُّها، قاله قتادة. والخامس: أن ما ظهر: أفعال
الجوارح، وما بطن: اعتقاد القلوب، ذكره الماوردي في تفسير هذا
الموضع، وفي تفسير قوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ
«2» .
والنفس التي حرَّم الله: نفس مسلم أو معاهد. والمراد بالحقّ:
ادن الشّرع.
[سورة الأنعام (6) : آية 152]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ
وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
__________
(1) سورة المائدة: 105.
(2) سورة الأنعام: 120.
(2/91)
قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ
إنما خص مال اليتيم، لأن الطمع فيه، لقلِّة مراعيه وضعف مالكه
أقوى. وفي قوله: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
أربعة أقوال: أحدها: أنه أكل الوصي المصلح للمال بالمعروف وقت
حاجته، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: التجارة فيه، قاله
سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي. والثالث: أنه حفظه له
إلى وقت تسليمه إليه، قاله ابن السائب.
والرابع: أنه حفظه عليه، وتثميره له، قاله الزجاج. قال: و
«حتى» محمولة على المعنى فالمعنى:
احفظوه عليه حتى يبلغ أشده، فاذا بلغ أشده، فادفعوه إليه.
فأما الأشُدُّ، فهو استحكام قوة الشباب والسنِّ. قال ابن
قتيبة: ومعنى الآية: حتى يتناهى في النبات إلى حدِّ الرجال.
يقال: بلغ أشده: إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في النقصان.
وقال أبو عبيدة:
الأَشُدُّ لا واحد له منه فان أُكرهوا على ذلك، قالوا: شَدَّ،
بمنزلة: ضَبَّ والجمع: أضبّ. قاله ابن الانباري: وقال جماعة من
البصريين: واحد الأشُدِّ: شُدٌ، بضم الشين. وقال بعض البصريين:
واحد الأشُدِّ: شِدّةٌ، كقولهم: نِعمة، وأنْعُم. وقال بعض أهل
اللغة: الأشُدُّ: اسم لا واحد له. وللمفسرين في الأشُد ثمانية
أقوال: أحدها: أنه ثلاث وثلاثون سنة، رواه ابن جبير عن ابن
عباس. والثاني: ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، قاله أبو
صالح عن ابن عباس. والثالث: أربعون سنة، روي عن عائشة عليها
السلام. والرابع: ثماني عشرة سنة، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل.
والخامس: خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة. والسادس: أربعة وثلاثون
سنة، قاله سفيان الثوري. والسابع: ثلاثون سنة، قاله السدي.
وقال: ثم جاء بعد هذه الآية: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ
«1» فكأنه يشير إلى النسخ. والثامن: بلوغ الحلم، قاله زيد بن
أسلم، والشعبي، ويحيى بن يعمر، وربيعة، ومالك بن أنس، وهو
الصحيح. ولا أظن بالذين حكينا عنهم الأقوال التي قبله فسروا
هذه الآية بما ذُكر عنهم، وإنما أظن أن الذين جمعوا التفاسير،
نقلوا هذه الأقوال من تفسير قوله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ إلى هذا المكان، وذلك نهاية الأشُدِّ، وهذا ابتداء
تمامه وليس هذا مثل ذاك. قال ابن جرير: وفي الكلام محذوف، ترك
ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حُذف، لأن المعنى: حتى يبلغ
أشده فإذا بلغ اشده، وآنستم منه رشدا، فادفعوا إليه ماله. وهذا
الذي ذكره ابن جرير ليس بصحيح، لأنّ إيناس الرّشد استفيد من
سورة (النساء) وكذلك أولياء اليتامى، فحُمل المطلق على المقيد.
قوله تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
أي: أتمّوه ولا تنقصوا منه. وَالْمِيزانَ
أي: وَزْنَ الميزان.
والقسط: العدل. لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
أي: ما يسعها. ولا تضيق عنه. قال القاضي أبو يعلى:
لما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل،
كُلّفنا الاجتهاد في التحري، دون تحقيق الكيل والوزن. قوله
تعالى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
أي: إذا تكلمتم أو شهدتم، فقولوا الحق، ولو كان المشهود له أو
عليه ذا قرابة. وعَهْد الله يشتمل على ما عهده إلى الخلق
وأوصاهم به، وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره.
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
أي: لتذَّكَّروه وتأخذوا به. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو:
«تذّكّرون» و «يذّكّرون» و «يذّكّر الإنسان» و «أن يذّكّر» ، و
«ليذّكّروا» مشدّدا ذلك
__________
(1) سورة النساء: 6.
(2/92)
وَأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ
بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
كلُّه. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، وابن
عامر كل ذلك بالتشديد، إلا قوله تعالى: أَوَلا يَذْكُرُ
الْإِنْسانُ فانهم خففوه. روى أبان، وحفص عن عاصم: «يذكرون»
خفيفة الذال في جميع القرآن. قرأ حمزة، والكسائي: «يذّكّرون»
مشدداً إذا كان بالياء، ومخفّفا إذا كان بالتاء.
[سورة الأنعام (6) : آية 153]
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً قرأ ابن كثير،
ونافع، وعاصم، وأبو عمرو: «وأنّ» بفتح الألف مع تشديد النون.
قال الفراء: إن شئت جعلت «أن» مفتوحة بوقوع «أتل» عليها وإن
شئت جعلتها خفضاً، على معنى: ذلكم وصاكم به، وبأن هذا صراطي
مستقيماً. وقرأ ابن عامر بفتح الألف أيضاً، إلا أنه خفف النون،
فجعلها مخففة من الثقيلة وحكم إعرابها حكم تلك. وقرأ حمزة،
والكسائي: بتشديد النون مع كسر الألف. قال الفراء: وكسر الألف
على الاستئناف. وفي الصراط قولان: أحدهما: أنه القرآن.
والثاني: الإسلام. وقد بينا إعراب قوله: «مستقيما» . فأما
«السُّبُل» ، فقال ابن عباس: هي الضلالات. وقال مجاهد: البدع
والشبهات. وقال مقاتل: أراد ما حرَّموا على أنفسهم من الأنعام
والحرث. فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أي: فتضلِّكم عن
دينه.
[سورة الأنعام (6) : آية 154]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي
أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً
لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
قوله تعالى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ قال الزّجّاج:
«ثمّ» ها هنا للعطف على معنى التلاوة فالمعنى: أتل ما حرم
ربكم، ثم اتل عليكم ما آتاه الله موسى. وقال ابن الانباري:
الذي بعد «ثم» مقدَّم على الذي قبلها في النية والتقدير: ثم
كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمّد صلى
الله عليه وسلم.
قوله تعالى: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ في قوله تعالى:
تَماماً قولان:
أحدهما: أنها كلمة متصلة بما بعدها تقول: أعطيتك كذا تماماً
على كذا، وتماما لكذا، وهذا قول الجمهور. والثاني: أن قوله:
تَماماً كلمة قائمة بنفسها، غير متصلة بما بعدها والتقدير:
آتينا موسى الكتاب تماماً، أي: في دفعة واحدة، لم نفرِّق
إنزاله كما فُرِّق إنزال القرآن، ذكره أبو سليمان الدمشقي. وفي
المشار إليه بقوله: أَحْسَنُ
أربعة أقوال: أحدها: أنه الله عزّ وجلّ: ثم في معنى الكلام
قولان: أحدهما: تماماً على إحسان الله إلى أنبيائه، قاله ابن
زيد. والثاني: تماما على إحسان الله تعالى إلى موسى وعلى هذين
القولين، يكون «الذي» بمعنى «ما» . والقول الثاني: أنه إبراهيم
الخليل عليه السلام فالمعنى: تماماً للنعمة على إبراهيم الذي
أحسن في طاعة الله، وكانت نُبُوَّة موسى نعمة على إبراهيم،
لأنه من ولده، ذكره الماوردي. والقول الثالث: أنه كل محسن من
الانبياء، وغيرهم.
وقال مجاهد: تماماً على المحسنين، أي: تماماً لكل محسن. وعلى
هذا القول، يكون «الذي» بمعنى «مَن» ، و «على» بمعنى لام الجر
ومن هذا قول العرب: أتم عليه، وأتم له. قال الراعي:
(2/93)
وَهَذَا كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ
الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا
عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
رعته أشهرا وخلا عليها «1» أي: لها. قال
ابن قتيبة: ومثل هذا أن تقول: أوصي بمالي للذي غزا وحج تريد:
للغازين والحاجِّين. والقول الرابع: أنه موسى. ثم في معنى:
«أحسن» قولان: أحدهما: أَحْسَنَ في الدنيا بطاعة الله عزّ
وجلّ. قال الحسن، وقتادة: تماما لكرامته في الجنة إلى إحسانه
في الدنيا. وقال الربيع: هو إحسان موسى بطاعته. وقال ابن جرير:
تماماً لنعمنا عنده على إحسانه في قيامه بأمرنا ونهينا.
والثاني:
أحسن في العلم وكُتُبَ اللهِ القديمةِ وكأنه زيد على ما أحسنه
من التوراة ويكون «التمام» بمعنى الزيادة، ذكره ابن الانباري.
فعلى هذين القولين، يكون «الذي» بمعنى: «ما» .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رزين، والحسن، وابن يعمر:
«على الذي أحسنُ» ، بالرفع.
قال الزجاج: معناه: على الذي هو أحسن الأشياء. وقرأ عبد الله
بن عمرو، وأبو المتوكل، وأبو العالية: «على الذي أُحْسِنَ»
برفع الهمزة وكسر السين وفتح النون وهي تحتمل الإحسان، وتحتمل
العلم.
قوله تعالى: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أي: تبياناً لكل شيء
من أمر شريعتهم مما يحتاجون إلى علمه، لكي يؤمنوا بالبعث
والجزاء.
[سورة الأنعام (6) : آية 155]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
قوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ يعني القرآن،
فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا أن تخالفوه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
قال الزّجّاج: لتكونوا راجين للرّحمة.
[سورة الأنعام (6) : آية 156]
أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ
مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ
(156)
قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا. سبب نزولها:
(562) أن كفار مكة قالوا: قاتل الله اليهود والنصارى، كيف
كذّبوا أنبياءهم فو الله لو جاءنا نذير وكتاب، لكنَّا أهدى
منهم، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قال الفراء: «أن» في موضع نصب في مكانين: أحدهما: أنزلناه لئلا
تقولوا. والآخر: من قوله:
واتقوا أن تقولوا. وذكر الزجاج عن البصريين، أن معناه:
أنزلناه، كراهة أن تقولوا ولا يجيزون إضمار «لا» . فأما الخطاب
بهذه الآية، فهو لأهل مكة والمراد إثبات الحجة عليهم بانزال
القرآن كي لا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا
على اليهود والنصارى، وكنا غافلين عمّا فيهما. و «دراستهم» :
قراءتهم الكتاب. قال الكسائي. وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ
لَغافِلِينَ لا نعلم ما هي، لأن كتبهم لم تكن بلُغَتِنَا،
فأنزل الله كتاباً بلغتهم لتنقطع حجّتهم.
__________
باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث فالخبر لا شيء
والمتن باطل.
__________
(1) البيت منسوب للراعي النميري وهو عبيد بن حصين وتمامه: فطار
النيّ فيها واستنارا. «أدب الكاتب» لابن قتيبة 336. ورعته رعت
هذه الناقة هذا النبات أشهرا وتخلت به لم يرعه غيرها.
(2/94)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ
أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى
مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ
آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ
أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا
إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ
فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا
مُنْتَظِرُونَ (158)
[سورة الأنعام (6) : آية 157]
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ
لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ
بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ
يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا
يَصْدِفُونَ (157)
قوله تعالى: لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ قال الزجاج: إنما كانوا
يقولون هذا، لأنهم مُدِلُّون بالأذهان والأفهام، وذلك أنهم
يحفظون أشعارهم وأخبارهم، وهم أُمِّيُّون لا يكتبون. فَقَدْ
جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ أي: ما فيه البيان وقطع الشبهات. قال ابن
عباس: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ أي: حجة، وهو النبي، والقرآن،
والهدى، والبيان، والرحمة، والنعمة. فَمَنْ أَظْلَمُ أي: أكفر
مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ يعني محمداً والقرآن.
وَصَدَفَ عَنْها: أعرض فلم يؤمن بها. وسوء العذاب: قبيحه.
[سورة الأنعام (6) : آية 158]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ
يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها
لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها
خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ أي: ينتظرون إِلَّا أَنْ
تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو
عمرو، وابن عامر: «تأتيهم» بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي:
«يأتيهم» بالياء. وهذا الإتيان لقبض أرواحهم. وقال مقاتل:
المراد بالملائكة: ملك الموت وحده.
قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ قال الحسن: أو يأتي أمْرُ
ربك. وقال الزجاج: أو يأتيَ إهلاكه وانتقامه، إمِّا بعذاب
عاجل، أو بالقيامة. قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ
رَبِّكَ وروى عبد الوارث إلا القزاز: بتسكين ياء «أو يأتي» ،
وفتحها الباقون. وفي هذه الآية أربعة أقوال:
(563) أحدها: أنه طلوع الشمس من مغربها، رواه أبو سعيد الخدريّ
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن مسعود في رواية
زرارة بن أوفى عنه، وعبد الله بن عمرو، ومجاهد وقتادة، والسدي.
(564) وقد روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى
تطلع الشمس من مغربها، فاذا طلعت ورآها الناس، آمن مَن عليها،
فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في
إيمانها خيراً» .
(565) وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: «لا تزال التّوبة مقبولة حتى
__________
أخرجه الترمذي 3071 وأحمد 3/ 31 وأبو يعلى 1353 وإسناده ضعيف
فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيء الحفظ وعطية
العوفي ضعيف وحسنه الترمذي، وذكر أن بعضهم رواه موقوفا ا. هـ.
من حديث أبي سعيد الخدري ومع ذلك فمثله لا يقال بالرأي.
حديث صحيح أخرجه البخاري 4635 و 4636 و 6506 و 7121، ومسلم 157
وأبو داود 4312 والنسائي في «الكبرى» 11177 وابن ماجة 4068
وأحمد 2/ 231 و 313 و 350 و 398 و 530 وأبو يعلى 6085 وابن
حبان 6838 والطبري 14208 و 14214 و 14215 من حديث أبي هريرة.
حسن. أخرجه أحمد 1/ 192 والطبراني 19/ 381 وفي «مسند
«الشاميين» 1674 والطبري 14217 و 14218 من حديث معاوية وعبد
الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص وإسناده حسن، رجاله
(2/95)
إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي
شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ
بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
تطلع الشمس من مغربها، فاذا طلعت، طُبع على
كلّ قلب بما فيه، وكفي الناس العمل» .
والثاني: أنه طلوع الشمس والقمر من مغربهما، رواه مسروق عن ابن
مسعود. والثالث: أنه إحدى الآيات الثلاث، طلوع الشمس من
مغربها، والدابة، وفتح يأجوج ومأجوج، روى هذا المعنى القاسم عن
ابن مسعود. والرابع: أنه طلوع الشمس من مغربها، والدجَّال،
ودابة الأرض، قاله أبو هريرة والأول أصح.
والمراد بالخير ها هنا: العمل الصالح وإنما لم ينفع الإيمان
والعمل الصالح حينئذ، لظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان.
وقال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه،
قبِل منه، كما يقبل منه قبل الآية. وقيل: إن الحكمة في طلوع
الشمس من مغربها، أن الملحدة والمنجمين، زعموا أن ذلك لا يكون،
فيريهم الله تعالى قدرته، ويطلعها من المغرب كما أطلعها من
المشرق، ولتحقق عجز نمرود حين قال له إبراهيم: فَأْتِ بِها
مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ «1» .
(فصل:) وفي قوله: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ
قولان: أحدهما: أن المراد به التهديد، فهو محكم.
والثاني: أنه أمر بالكف عن القتال، فهو منسوخ بآية السيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 159]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ
مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قرأ ابن
كثير، وأبو عمرو: «فرّقوا» مشددة. وقرأ حمزة، والكسائي:
«فارقوا» بألف. وكذلك قرءوا في (الروم) فمن قرأ: «فرّقوا» ،
أراد: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض. ومن قرأ: «فارقوا» ، أراد:
باينوا. وفي المشار إليهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أهل الضلالة من هذه الأمة، قاله أبو هريرة.
والثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والضحاك،
وقتادة، والسدي. والثالث: اليهود، قاله مجاهد. والرابع: جميع
المشركين، قاله الحسن. فعلى هذا القول، دينهم: الكفر الذي
يعتقدونه ديناً، وعلى ما قبله، دينهم: الذي أمرهم الله به.
والشِّيَع: الفرق والأحزاب. قال الزجاج: ومعنى «شيّعتُ» في
اللغة: اتبعت. والعرب تقول:
شاعكم السلام، وأشاعكم، أي: تبعكم. قال الشاعر:
ألا يا نَخْلَةً مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ... بَرُوْدِ الظِّلِّ
شَاعَكُم السَّلاَمُ «2»
وتقول: أتيتك غداً، أو شِيَعة، أي: أو اليوم الذي يتبعه. فمعنى
الشيعة: الذين يتبع بعضهم بعضاً، وليس كلهم متّفقين.
__________
ثقات. وأخرجه أحمد 4/ 99 من حديث معاوية، وإسناده حسن. وقال
الهيثمي في «المجمع» 5/ 251: رجال أحمد ثقات.
__________
(1) سورة البقرة: 258.
(2) البيت غير منسوب في «أساس البلاغة» «واللسان» شيع.
(2/96)
مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
وفي قوله تعالى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي
شَيْءٍ قولان: أحدهما: لست من قتالهم في شيء ثم نسخ بآية
السيف، وهذا مذهب السدي. والثاني: لست منهم، أي: أنت بريء
منهم، وهم منك برآء، إنما أمرهم إلى الله في جزائهم، فتكون
الآية محكمة.
[سورة الأنعام (6) : آية 160]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (160)
قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها
وقرأ يعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: «عَشْرٌ» بالتنوين،
«أمثالُها» بالرفع. قال ابن عباس: يريد من عَمِلَها، كتبت له
عشر حسنات. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا
جزاء مِثْلَها. وفي الحسنة والسيئة ها هنا قولان:
أحدهما: أن الحسنة: قول لا إله إلا الله. والسيئة: الشرك، قاله
ابن مسعود، ومجاهد، والنخعي. والثاني: أنه عام في كل حسنة
وسيئة.
(566) روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله
عليه وسلم قال: «يقول الله عزّ وجلّ: من جاء بالحسنة فله عشر
أمثالها أو أَزِيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو
أَغْفِر» .
فان قيل: إذا كانت الحسنة كلمة التوحيد، فأي مثل لها حتى يجعل
جزاءُ قائلها عشر أمثالها؟
فالجواب: أن جزاء الحسنة معلوم القدر عند الله، فهو يجازي
فاعلها بعشر أمثاله، وكذلك السيئة. وقد أشرنا إلى هذا في
(المائدة) عند قوله: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً «1»
. فان قيل: المثل مذكَّر، فلم قال: عَشْرُ أَمْثالِها والهاء
إنما تسقط في عدد المؤنث؟ فالجواب: أن الأمثال خلقت حسنات
مؤنثة وتلخيص المعني: فله عشر حسنات أمثالها، فسقطت الهاء من
عشر، لأنها عدد مؤنَّث، كما تسقط عند قولك: عشر نعال، وعشر
جباب.
[سورة الأنعام (6) : آية 161]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً
قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (161)
قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ قال الزجاج: أي: دلَّني على الدين الذي هو دين
الحق. ثم فسَّر ذلك بقوله: دِيناً قِيَماً قرأ ابن كثير،
ونافع، وأبو عمرو: «قيما» مفتوحة القاف،
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2687. وأخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات»
959 وابن المبارك في «الزهد» 1035 ولصدره شاهد من حديث أبي
هريرة عند البخاري 7501 ومسلم 128 وأحمد 2/ 242 وابن حبان 380،
381، 382، وابن مندة في «الإيمان» 375. ولعجزه «ومن تقرب مني
... » شاهد من حديث أنس عند البخاري 7536 وعبد الرزاق 30575
والطيالسي 2012 وأحمد 3/ 122 و 127 و 272، 283 وأبو يعلى 3180.
ويشهد لعجزه أيضا حديث أبي هريرة عند البخاري 7405 ومسلم 2675
وابن حبان 376 وأحمد 2/ 435 و 509. ولفظ الحديث: عن أبي ذر رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله:
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء
سيئة بمثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن
تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة،
ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها
مغفرة» .
__________
(1) سورة المائدة: 32.
(2/97)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا
وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا
عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى
رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ (164)
مشددة الياء. والقيم: المستقيم. وقرأ عاصم،
وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «قِيَماً» بكسر القاف وتخفيف
الياء. قال الزجاج: وهو مصدر، كالصِّغَر والكِبَر. وقال مكي:
من خففه بناه على «فِعَل» وكان أصله أن يأتي بالواو، فيقول:
«قِوَماً» كما قالوا: عِوَض، وحِوَل، ولكنه شذ عن القياس. قال
الزجاج:
ونصب قوله: دِيناً قِيَماً محمول على المعنى، لأنه لما قال:
«هداني» دل على عرّفني ديناً ويجوز أن يكون على البدل من قوله:
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، فالمعنى: هداني صراطاً مستقيماً
ديناً قيماً.
و «حنيفاً» منصوب على الحال من إبراهيم، والمعنى: هداني ملّة
إبراهيم في حال حنيفيّته.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 الى 163]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ
وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي يريد: الصلاة المشروعة.
والنّسك: جمع نسيكة. وفي النّسك ها هنا أربعة أقوال: أحدها:
أنها الذبائح قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وابن
قتيبة.
والثاني: الدين، قاله الحسن. والثالث: العبادة. قال الزجاج:
النسك كلُّ ما تُقُرِّب به إلى الله عزّ وجلّ، إلا أن الغالب
عليه أمر الذبح. والرابع: أنه الدين، والحج، والذبائح، رواه
أبو صالح عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَمَحْيايَ وَمَماتِي الجمهور على تحريك ياء
«محياي» ، وتسكين ياء «مماتي» . وقرأ نافع: بتسكين ياء «محياي»
، ونصب ياء «مماتي» ، ثم للمفسرين في معناه قولان:
أحدهما: أن معناه: لا يملك حياتي ومماتي إلا الله.
والثاني: حياتي لله في طاعته، ومماتي لله في رجوعي إلى جزائه.
ومقصود الآية أنه أخبرهم أن أفعالي وأحوالي لله وحده، لا لغيره
كما تشركون أنتم به.
قوله تعالى: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قال الحسن،
وقتادة: أوّل المسلمين من هذه الأمّة.
[سورة الأنعام (6) : آية 164]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ
شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ (164)
قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا.
(567) سبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه
وسلم: ارجع عن هذا الأمر، ونحن لك الكُفلاء بما أصابك من تبعة،
فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها أي:
لا يُؤْخذُ سواها بعملها. وقيل: المعنى: إلا عليها عقاب
معصيتها، ولها ثواب طاعتها. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرى قال الزجاج: لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى. والمعنى: لا
يؤخذ أحد بذنب غيره. قال أبو سليمان: ولما ادَّعت كل فرقة من
اليهود والنصارى والمشركين أنهم أولى بالله من غيرهم. عرفهم
أنه الحاكم بينهم بقوله تعالى:
__________
باطل، عزاه المصنف لمقاتل وهو من يضع الحديث وقد وضع مقاتل وهو
ابن سليمان وكذا الكلبي لكل آية سببا لنزولها، وليس هذا بشيء.
(2/98)
وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ
رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ، ونظيره: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» .
[سورة الأنعام (6) : آية 165]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ
بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما
آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ (165)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ قال
أبو عبيدة: الخلائف: جمع خليفة. قال الشماخ:
تُصيْبُهُمُ وتُخْطُئُني المَنايا ... وأخْلُفُ في رُبُوعٍ
عَنْ رُبوع «2»
وللمفسرين فيمن خلفوه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم خلفوا الجن
الذين كانوا سكان الأرض قاله ابن عباس. والثاني: أن بعضهم يخلف
بعضاً قاله ابن قتيبة. والثالث: أن أمة محمد خلفت سائر الأمم،
ذكره الزجاج.
قوله تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أي:
في الرزق، والعلم، والشرف، والقوة، وغير ذلك لِيَبْلُوَكُمْ
أي: ليختبركم، فيظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب.
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ فيه قولان:
أحدهما: أنه سماه سريعاً، لأنه آتٍ، وكل آتٍ قريبٌ. والثاني:
أنه إذا شاء العقوبة، أسرع عقابه.
__________
(1) سورة الحج: 17.
(2) البيت للشماخ ديوانه: 58 «واللسان» ربع. الربوع: جمع ربع
وهو جماعة الناس الذين ينزلون ربعا يسكنونه، يقول: أبقى في قوم
بعد قوم.
(2/99)
|