زاد المسير في علم التفسير

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)

سورة الدّخان
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
قوله عزّ وجلّ: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قد تقدّم بيانه، وجواب القسم إِنَّا أَنْزَلْناهُ والهاء كناية عن الكتاب، وهو القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وفيها قولان «1» . أحدهما: أنها ليلة القدر، وهو قول الأكثرين. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: أُنزلَ القرآنُ من عند الرحمن ليلة القدر جُملةً واحدةً، فوُضع في السماء الدنيا، ثم أُنزِلَ نجوماً. وقال مقاتل: نزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إِلى السماء الدنيا. والثاني: أنها ليلة النصف من شعبان، قاله عكرمة. قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي: مخوِّفين عقابنا. فِيها أي: في تلك الليلة يُفْرَقُ كُلُّ أي: يُفْصَل. وقرأ أبو المتوكّل، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ: «يْفِرقُ» بفتح الياء وكسر الراء «كُلَّ» بنصب اللام أَمْرٍ حَكِيمٍ أي: مُحْكَم. قال ابن عباس: يُكتَب من أُمِّ الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشرِّ والأرزاق والآجال، حتى الحاج، وإِنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى. وعلى ما روي عن عكرمة أن ذلك في ليلة النصف من شعبان، والرواية عنه بذلك مضطربة قد خولف الراوي لها، فروي عن عكرمة أنه قال: في ليلة القَدْر، وعلى هذا المفسرون.
قوله تعالى: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا قال الأخفش: «أمراً» و «رحمةً» منصوبان على الحال المعنى: إِنّا أنزِلْناه آمرِين أمراً وراحمين رحمة. قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوباً ب «يُفْرَقُ» بمنزلة يُفْرَقُ فَرْقاً، لأن «أمراً» بمعنى «فَرْقاً» . قال الفراء: ويجوز أن تُنصب الرحمة بوقوع «مرسلين» عليها، فتكون الرحمة هي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال مقاتل: «مرسِلِين» بمعنى منزِلِين هذا القرآن، أنزلناه رحمة لمن آمن به. وقال
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 223: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك ليلة القدر. وهذا اختيار ابن كثير والقرطبي.

(4/87)


فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)

غيره: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا» أي: إِنا نأمر بنَسخ ما يُنسخ من اللوح إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ الأنبياء، رَحْمَةً منّا بخلقنا. رَبِّ السَّماواتِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «ربُّ» بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «ربِّ» بكسر الباء. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: بَلْ هُمْ يعني الكفار فِي شَكٍّ مما جئناهم به يَلْعَبُونَ يهزئون به.

[سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 16]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
فَارْتَقِبْ أي: فانتطر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ اختلفوا في هذا الدخان ووقته على ثلاثة أقوال «1» أحدها: أنه دخان يجيء قبل قيام الساعة.
(1255) فروي عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الدُّخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزّكام. وروى عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوتُ على ابن عباس ذاتَ يوم، فقال: ما نمتُ الليلة حتى أصبحتُ، قلت: لم؟ قال: طلع الكوكب ذو الذَّنَب، فخشيتُ أن يطرق الدخان، وهذا المعنى مروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن.
والثاني: أن قريشاً أصابهم جوع، فكانوا يرون بينهم وبين السماء دخانا من الجوع.
__________
لم أره عن ابن عباس سواء مرفوعا أو موقوفا، ولعله سبق قلم. وورد من حديث جماعة من الصحابة فمن ذلك: حديث حذيفة بن اليمان: أخرجه الطبري 31061 وفيه رواد بن الجراح واه. وورد من حديث أبي مالك الأشعري، أخرجه الطبري 31062 وإسناده حسن في الشواهد. وله شواهد متعددة تراجع في كتب أشراط الساعة.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 228: وأولى القولين بالصواب في ذلك ما روي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يرتقبه، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم، على ما وصفه ابن مسعود لأن الله جل ثناؤه توعّد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ثم أتبع قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أمرا منه بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه وتهديدا للمشركين فهو بأن يكون إذ كان وعيدا لهم قد أحله بهم أشبه من أن يكون أخره عنهم لغيرهم.
قلت: وحديث ابن مسعود صحيح كالشمس كما سيأتي. لكنه رأي له. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 165 بعد أن ساق أحاديث مرفوعة في أن الدخان هو عند قيام الساعة وعقب ذلك بآثار موقوفة ومنها أثر عن ابن عباس- وهو الآتي برواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس موقوفا. فقال: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان التي أوردناها مما فيه دلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة، مع أنه ظاهر القرآن، قال تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أي بين واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسره ابن مسعود إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع، وهكذا قوله يَغْشَى النَّاسَ أي يتفشاهم ويعمهم، ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل: يَغْشَى النَّاسَ. اه.

(4/88)


(1256) فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث مسروق، قال: كنا عند عبد الله، فدخل علينا رجل، فقال: جئتُكَ من المسجد وتركتُ رجلاً يقول في هذه الآية يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ: يغشاهم يومَ القيامة دخان يأخذ بأنفاسهم حتى يصيبَهم منه كهيئة الزكام فقال عبد الله: من عَلِم عِلْماً فلْيَقُل به، ومن لم يَعْلَم فلْيَقُل: الله أعلم، إنما كان هذا لأن قريشاً لمّا استعصت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا عليهم بسنين كسنيِّ يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميتة، وجعل الرجلُ ينظُر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فقالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، فقال الله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، فكشف عنهم، ثم عادوا إِلى الكفر، فأخذوا يومَ بدر، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى، وإِلى نحو هذا ذهب مجاهد وأبو العالية والضحاك وابن السائب ومقاتل.
والثالث: أنه يوم فتح مكة لمّا حُجبت السماءُ بالغبرة، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: هذا عَذابٌ أي: يقولون: هذا عذابٌ. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ فيه قولان:
أحدهما: الجوع. والثاني: الدّخان إِنَّا مُؤْمِنُونَ بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: من أين لهم التذكُّر والاتِّعاظ بعد نزول هذا البلاء، وحالهم أنه قد جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي: ظاهر الصِّدق؟! ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: أعرضوا ولم يقبلوا قوله وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي: هو معلَّم يعلِّمه بشر، مجنون بادعائه النُّبوَّة قال الله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أي: زماناً يسيراً «1» . وفي العذاب قولان: أحدهما:
الضُّرُّ الذي نزل بهم كُشف بالخِصب، هذا على قول ابن مسعود. قال مقاتل: كشفه إِلى يوم بدر.
والثاني: أنه الدخان، قاله قتادة. قوله تعالى: إِنَّكُمْ عائِدُونَ فيه قولان: أحدهما: إلى الشّرك، قاله ابن
__________
صحيح الإسناد. أخرجه البخاري 4774 عن محمد بن كثير عن سفيان ثنا منصور والأعمش عن أبي الضحى عن مسروق به. وأخرجه ابن حبان 6585 والطبراني 9048 وأبو نعيم في «الدلائل» 369 من طريق محمد بن كثير به. وأخرجه البخاري 4693 والحميدي 116 من طريق سفيان به. وأخرجه البخاري 4824 والترمذي 3254 وأحمد 1/ 441 من طريق شعبه عن الأعمش ومنصور به. وأخرجه البخاري 1007 و 4821 و 4822 و 4823 ومسلم 2798 ح 40 والطبري 31043 والطبراني 9046 و 9047 وأحمد 1/ 380 و 431 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 324 و 325 و 326 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه مسلم 2798 والطبري 31045 والبيهقي 2/ 326 من طرق عن جرير عن منصور به.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 166: وقوله إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يحتمل معنيين أحدهما: أنه يقول تعالى: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب، كقوله: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وكقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ والثاني: أن يكون المراد: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد سببه ووصوله كقوله تعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ. ولم يكن العذاب، باشرهم واتصل بهم، بل كان قد انعقد سببه عليهم، ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخبارا عن شعيب أنه قال لقومه حين قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ. قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقهم. اه.

(4/89)


وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)

مسعود. والثاني: إلى عذاب الله، قاله قتادة. قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى وقرأ الحسن، وابن يعمر، وأبو عمران: «يومَ تُبْطَشُ» بتاء مرفوعة وفتح الطاء «البَطْشَةُ» بالرفع. قال الزجاج: المعنى:
واذكر يومَ نَبْطِش، ولا يجوز أن يكون منصوباً بقوله: «مُنْتَقِمُونَ» ، لأن ما بعد «إنّا» لا يجوز أن يعمل فيما قبلها. وفي هذا اليوم قولان: أحدهما: يوم بدر، قاله ابن مسعود وأُبيُّ بن كعب وأبو هريرة وأبو العالية ومجاهد والضحاك. والثاني: يوم القيامة، قاله ابن عباس والحسن. والبَطْش: الأخذ بقوّة.

[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 29]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)
قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا أي: ابتَلَينا قَبْلَهُمْ أي: قَبْلَ قومك قَوْمَ فِرْعَوْنَ بارسال موسى إِليهم وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ وهو موسى بن عمران. وفي معنى «كريم» ثلاثة أقوال: أحدها: حسن الخُلُق، قاله مقاتل. والثاني: كريم على ربِّه، قاله الفراء. والثالث: شريفٌ وسيطُ النسب، قاله أبو سليمان. قوله تعالى: أَنْ أَدُّوا أي: بان أدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ وفيه قولان: أحدهما: أدُّوا إلى ما أدعوكم إليه من الحق باتِّباعي، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس. فعلى هذا ينتصب «عبادَ الله» بالنداء. قال الزجاج: ويكون المعنى: أن أدُّوا إِليَّ ما آمُركم به يا عباد الله. والثاني: أرسِلوا معي بني إِسرائيل، قاله مجاهد، وقتادة، والمعنى: أطلِقوهم من تسخيركم، وسلِّموهم إِليَّ. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تفتروا عليه، قاله ابن عباس. والثاني: لا تعتوا عليه، قاله قتادة.
والثالث: لا تعظَّموا عليه، قاله ابن جريج إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي: بحجة تدل على صدقي. فلمّا قال هذا تواعدوه بالقتل فقال: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وفيه قولان: أحدهما: أنه رجم القول، قاله ابن عباس فيكون المعنى: أن يقولوا: شاعر أو مجنون. والثاني: القتل، قاله السدي. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي: فاتركوني لا معي ولا علَيَّ، فكفروا ولم يؤمنوا، فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قال الزجاج: من فتح «أنَّ» ، فالمعنى: بأن هؤلاء ومن كسر، فالمعنى: قال: إنّ هؤلاء، و «إنّ» بعد القول مكسورة. وقال المفسرون: المجرمون هاهنا: المشركون. فأجاب اللهُ دعاءه، وقال: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا يعني بالمؤمنين «1» إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وقومه فأعلمهم أنهم يتبعونهم، وأنه سيكون
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 118: السرى: سير الليل. والإدلاج: سير السحر والإسآد: سيره كله. والتأويب: سير النهار. وقوله تعالى: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أمر بالخروج بالليل، وسير الليل يكون من الخوف، والخوف يكون من وجهين: إما من العدو فيتخذ الليل سترا مسدلا، فهو من أستار الله تعالى، وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان بحرّ أو جدب. فيتخذ السرى مصلحة من ذلك. وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسري ويدلج ويترقق ويستعجل قدر الحاجة وحسب العجلة، وما تقتضيه المصلحة. وفي «جامع الموطأ» : « «إن الله رفيق يحب الرفق، ويرضى به، ويعين عليه ما لا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدّوابّ العجم فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض جدبة فانجوا عليها بنقيها، وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطريق فإنه طرق الدّوابّ ومأوى الحيّات» . قلت: حديث صحيح. أخرجه مالك 2/ 979 عن خالد بن معدان مرسلا. وورد من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا، أخرجه مسلم 1926.

(4/90)


سبباً لغرقهم. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي: ساكناً على حاله بعد أن انفرق لك، ولا تأمره أن يرجع كما كان حتى يدخُلَه فرعون وجنوده. والرَّهْو: مشيٌ في سُكون. قال قتادة: لمّا قطع موسى عليه السلام البحر، عطف يضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي كما هو طريقاً يابساً. قوله تعالى: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أخبره الله عزّ وجلّ بغرقهم لِيَطْمَئِنَّ قلبُه في ترك البحر على حاله. كَمْ تَرَكُوا أي: بعد غرقهم مِنْ جَنَّاتٍ وقد فسرنا الآية في الشعراء «1» . فأما «النَّعمة» فهو العيش اللَّيِّن الرغد. وما بعد هذا قد سبق بيانه «2» إِلى قوله: وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني بني إسرائيل. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ أي على آل فرعون، وفي معناه ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنه على الحقيقة.
(1257) روى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما مِنْ مُسْلِمٍ إٍلاّ وله في السماء بابان، باب يصعَدُ فيه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه» وتلا صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية. وقال عليّ رضي الله عنه: إِن المؤمن إذا مات بكى عليه مُصَلاّه من الأرض ومَصْعَد عمله من السماء، وإِن آل فرعون لم يكن لهم في الأرض مُصَلّى ولا في السماء مَصْعَد عمل، فقال الله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، وإِلى نحو هذا ذهب ابن عباس والضحاك ومقاتل. وقال ابن عباس: الحُمرة التي في السماء
__________
ضعيف جدا. أخرجه الترمذي 3255 وأبو يعلى 4133 وأبو نعيم 3/ 53 من طريق موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عن أنس به مرفوعا، وهذا إسناد ضعيف جدا، موسى بن عبيدة ضعيف ليس بشيء، وشيخه يزيد ضعيف روى مناكير كثيرة عن أنس، وهذا منها. وضعفه الترمذي بقوله: موسى ويزيد يضعفان، وكذا ضعفه الهيثمي في «المجمع» 7/ 104 والحافظ في «المطالب العالية» 3/ 369. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» 3/ 53 من طريق صفوان بن سليم عن يزيد بن أبان به والراوي عن صفوان هو إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، وهو ضعيف. ولعجزه شاهد مرسل، أخرجه الطبري 31129 ومع ذلك المتن منكر، وحسبه الوقف، وانظر «تفسير القرطبي» 5469 بتخريجنا.
__________
(1) الشعراء: 57.
(2) يس: 55.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 168: وقوله: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم، وعتوهم وعنادهم. وقال القرطبي في «تفسيره» 16/ 121: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أي لكفرهم. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض، أي عمّت مصيبته الأشياء، وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد. وتقدير الآية: فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا موضع عبادتهم من الأرض وفي بكاء السماء والأرض أنه كالمعروف من بكاء الحيوان، ولا استحالة في ذلك. وإذا كانت السماوات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم فكذلك تبكي مع ما جاء من الخبر في ذلك، والله أعلم بصواب هذه الأقوال.

(4/91)


وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)

بكاؤها. وقال مجاهد: ما مات مؤمن إِلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، فقيل له:
أو تَبكي؟ قال: وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دَويّ كَدَويَّ النحل؟!.
والثاني: أن المراد: أهل السماء وأهل الأرض، قاله الحسن، ونظير هذا قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها «1» ، أي: أهل الحرب. والثالث: أن العرب تقول إِذا أرادت تعظيمَ مَهِلكِ عظيمٍ: أظلمت الشمسُ له، وكَسَفَ القمرُ لفقده، وبكتْه الرّيحُ والبرقُ والسماءُ والأرضُ، يريدون المبالغة في وصف المصيبة، وليس ذلك بكذب منهم، لأنهم جميعاً متواطئون عليه، والسّامِعُ له يَعرف مذهبَ القائل فيه ونيَّتُهم في قولهم: أظلمت الشمسُ كادت تُظْلِم، وكَسَفَ القمرُ: كاد يَكْسِف، ومعنى «كاد» : هَمَّ أن يَفعَل ولم يفعل قال ابن مُفَرِّغ يرثي رجلاً:
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ ... والبَرْقُ يَلْمَعُ في غَمامَهْ «2»
وقال الآخر:
الشَّمْسُ طالِعَةٌ لَيْسَتْ بكاسِفةٍ ... تَبْكِي عَلَيْكَ- نُجُومَ اللَّيْلِ والْقَمَرا «3»
أراد: الشمسُ طالعةٌ تبكي عليه، وليست مع طلوعها كاسِفةً النجومَ والقمرََ، لأنها مُظْلِمةٌ، وإِنما تَكْسٍفُ بضوئها، فنجُومُ الليل باديةٌ بالنهار، فيكون معنى الكلام: إن الله لمّا أهلك قوم فرعون لم يبك عليهم باكٍ، ولم يَجْزَعْ جازعٌ، ولم يوجد لهم فَقْدٌ، هذا كلُّه كلامُ ابن قتيبة.

[سورة الدخان (44) : الآيات 30 الى 42]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34)
إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
قوله تعالى: مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والتعب في أعمال فرعون، إِنَّهُ كانَ عالِياً أي: جبَّاراً. وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ يعني بني إِسرائيل عَلى عِلْمٍ عَلِمه اللهُ فيهم على عالَمي زمانهم، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ كانفراق البحر، وتظليل الغمام، وإِنزال المَنِّ والسَّلْوى، إلى غير ذلك ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي: نِعمة ظاهرة.
ثم رجع إلى ذِكْر كفار مكة، فقال إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى يعنون التي تكون في الدنيا وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي: بمبعوثين، فَأْتُوا بِآبائِنا أي: ابعثوهم لنا
__________
(1) محمد: 4.
(2) البيت ليزيد بن مفرّغ الحميري، وهو في «الأغاني» 18/ 187 و «الأضداد» 424 للأنباري.
(3) البيت لجرير يرثي عمر بن عبد العزيز، ديوانه: 304 و «اللسان» - بكى-

(4/92)


إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في البعث. وهذا جهل منهم من وجهين: أحدهما: أنهم قد رأوا من الآيات ما يكفي في الدلالة فليس لهم أن يتنطّعوا «1» . والثاني: أن الإِعادة للجزاء وذلك في الآخرة، لا في الدنيا. ثم خوَّفهم عذابَ الأُمَم قَبْلَهم، فقال: أَهُمْ خَيْرٌ أي: أشَدُّ وأقوى أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ؟! أي: ليسوا خيراً منهم.
(1258) روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما أدري تُبَّعاً، نبيّ، أو غير نبيّ» .
وقالت عائشة: لا تسُبُّوا تُبَّعاً فإنه كان رجلاً صالحاً، ألا ترى أن الله تعالى ذَمَّ قومَه ولم يذُمَّه.
وقال وهب: أسلَم تُبَّع ولم يُسْلِم قومُه، فلذلك ذُكر قومه ولم يُذكر. وذكر بعض المفسرين أنه كان يعبدُ النار، فأسلم ودعا قومَه- وهم حِمْيَر- إِلى الإِسلام، فكذَّبوه. فأمّا تسميته ب «تُبَّع» فقال أبو عبيدة: كل ملِك من ملوك اليمن كان يسمّى: تُبَّعاً، لأنه يَتْبَع صاحبَه، فموضعُ «تُبَّع» في الجاهلية موضعُ الخليفة في الإِسلام، وقال مقاتل: إنما سمِّي تُبَّعاً لكثرة أتباعه، واسمه: مَلْكَيْكَرِب. وإِنما ذكر قوم تُبَّع، لأنهم كانوا أقربَ في الهلاك إِلى كفار مكة من غيرهم.
وما بعد هذا قد تقدّم «2» إِلى قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ وهو يوم يفصل الله عزّ وجلّ بين العباد مِيقاتُهُمْ أي: ميعادهم أَجْمَعِينَ يأتيه الأوّلون والآخرون. يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً فيه قولان: أحدهما: لا يَنْفَع قريبٌ قريباً، قاله مقاتل. وقال ابن قتيبة: لا يُغْنِي وليٌّ عن وليِّه بالقرابة أو غيرها. والثاني: لا يَنْفَع ابنُ عمٍّ ابنَ عمِّه، قاله أبو عبيدة. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي، لا يُمْنَعون من عذاب الله، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ وهم المؤمنون، فإنه يشفع بعضهم في بعض.

[سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 59]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
__________
صحيح. أخرجه أبو داود 4674 والبيهقي 8/ 329 من طريق عبد الرزاق ثنا معمر عن ابن أبي ذئب المقبري عن أبي هريرة. لكن بلفظ. «ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبيّ هو أم لا؟» . وأخرجه الحاكم 2/ 450 من طريق آخر عن ابن أبي ذئب به، بلفظ أبي داود لكن عنده «ذو القرنين» بدل «عزير» . وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في «الصحيحة» 2217 على شرط البخاري فقط، فإن في إسناده آدم بن أبي إياس لم يرو له مسلم.
__________
(1) في «اللسان» : التّنطّع في الكلام: التعمق فيه مأخوذ منه، وفي الحديث «هلك المتنطعون» المتعمقون المغالون في الكلام، الذين يتكلمون بأقصى حلوقهم تكبرا. [.....]
(2) الأنبياء: 16- الحجر: 85.

(4/93)


إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ قد ذكرناها في الصافات «1» . و «الْأَثِيمِ» : الفاجر وقال مقاتل: هو أبو جهل. وقد ذكرنا معنى «المُهْل» في الكهف «2» .
قوله تعالى: يَغْلِي فِي الْبُطُونِ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «يغلي» بالياء والباقون: بالتاء. فمن قرأ «تغلي» بالتاء، فلتأنيث الشجرة ومن قرأ بالياء، حمله على الطعام، قال أبو علي الفارسي: ولا يجوز أن يُحْمَل الغَلْيُ على المُهْل، لأن المهْل ذُكِر للتشبيه في الذَّوْب، وإٍنما يغلي ما شُبِّه به كَغَلْيِ الْحَمِيمِ وهو الماء الحارُّ إِذا اشْتَدَّ غَلَيانُه.
قوله تعالى: خُذُوهُ أي: يقال للزبانية: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، ويعقوب: بضم التاء وكسرها الباقون قال ابن قتيبة: ومعناه: قُودوه بالعُنف، يقال: جيء بفلان يُعْتَلُ إِلى السلطان، و «سواء الجحيم» : وسط النار. قال مقاتل: الآيات في أبي جهل يضربه الملَك من خُزّان جهنم على رأسه بمقمعة من حديد فتنقُب عن دماغه، فيجري دماغُه على جسده، ثم يصُبُّ الملَك في النَّقْب ماءً حميماً قد انتهى حَرُّه، فيقع في بطنه، ثم يقول له الملَك: ذُقْ العذاب إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ هذا توبيخ له بذلك وكان أبو جهل يقول: أنا أعَزًّ قريش وأكرمُها. وقرأ الكسائي: «ذُقْ أنَّكَ» بفتح الهمزة والباقون: بكسرها. قال أبو علي: من كسرها، فالمعنى: أنت العزيز في زعمك، ومن فتح، فالمعنى: بأنَّكَ.
فإن قيل: كيف سُمِّي بالعزيز وليس به؟! فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قيل ذلك استهزاءً به، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. والثاني: أنت العزيز الكريم عند نَفْسك، قاله قتادة. والثالث: أنت العزيز في قومك، الكريم على أهلك، حكاه الماوردي.
ويقول الخزّان لأهل النار: إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي: تَشُكُّون في كونه. ثم ذكر مستقَرَّ المُتَّقِين فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ قرأ نافع وابن عامر: «في مُقام» بضم الميم والباقون:
بفتحها. قال الفراء: المَقام، بفتح الميم: المكان، وبضمها: الإِقامة. قوله تعالى: أَمِينٍ أي: أمِنوا فيه الغِيَر والحوادث. وقد ذكرنا «الجنّات» في البقرة «3» ، وذكرنا معنى «العُيون» ومعنى «متقابِلين» في الحجر «4» ، وذكرنا «السُّندُس والإِستبرق» في الكهف «5» .
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: الأمر كما وَصَفْنا وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ قال المفسرون: المعنى:
قَرَنّاهم بِهِنّ، وليس من عقد التزويج. قال أبو عبيدة: المعنى: جَعَلْنا ذكور أهل الجنة أزواجاً بِحُورٍ عِينٍ من النساء، تقول للرجل: زوِّج هذه النَّعل الفرد بالنَّعل الفرد، أي: اجعلهما زَوْجاً، والمعنى:
جَعَلْناهم اثنين اثنين. وقال يونس: العرب لا تقول: تزوَّج بها، إِنما يقولون: تزوجَّها. ومعنى وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ: قَرَنّاهم. وقال ابن قتيبة: يقال: زوّجته امرأة، وزوّجته بامرأة. وقال أبو عليّ الفارسي: والتنزيل على ما قال يونس، وهو قوله تعالى: زَوَّجْناكَها «6» ، وما قال: زَوَّجْناك بها. فأمّا الحُور، فقال مجاهد: الحُور: النساء النقيّات البياض. وقال الفراء: الحَوْراء: البيضاء من الإِبل قال:
وفي «الحُور العِين» لغتان: حُور عِين، وحِير عين، وأنشد:
__________
(1) الصافات: 62.
(2) الكهف: 29.
(3) البقرة: 25.
(4) الحجر: 45- 47.
(5) الكهف: 31.
(6) الأحزاب: 37.

(4/94)


أزمانَ عيناء سرور المسير ... وحَوْراء عيناء مِنَ العِين الحِير
وقال أبو عبيدة: الحوراء: الشديدة بياض بياض العَيْن، الشديدة سواد سوادها. وقد بيَّنّا معنى «العِين» في الصافات «1» .
قوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ فيه قولان: أحدهما: آمنين من انقطاعها في بعض الأزمنة. والثاني: آمنين من التُّخَم والأسقام والآفات. قوله تعالى: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «سوى» ، فتقدير الكلام: لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا ومثله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «2» ، وقوله:
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «3» أي: سوى ما شاء لهم ربُّك من الزيادة على مقدار الدنيا، هذا قول الفراء، والزجاج. والثاني: أن السُّعداء حين يموتون يصيرون إِلى الرَّوح والرَّيحان وأسباب من الجنة يَرَوْنَ منازلهم منها، وإِذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنّة، لاتّصالهم بأسبابها، ومشاهدتهم إيّاها، قاله ابن قتيبة. والثالث: أن «إلاّ» بمعنى «بَعْد» ، كما ذكرنا في أحد الوجوه في قوله: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «4» ، وهذا قول ابن جرير. قوله تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي: فعل اللهُ ذلك بهم فَضْلاً منه. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي: سهَّلْناه، والكناية عن القرآن بِلِسانِكَ أي: بِلُغة العرب لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: لكي يتَّعِظوا فيُؤْمِنوا، فَارْتَقِبْ أي: انْتَظِرْ بهم العذاب إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ هلاكك وهذه عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح.
__________
(1) الصافات: 48.
(2) النساء: 22.
(3) هود: 107.
(4) النساء: 22.

(4/95)


حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)

سورة الجاثية
وتسمّى: سورة الشريعة. روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكّيّة، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور. وقال مقاتل: هي مكّيّة كلّها. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: هي مكّيّة إلّا آية، وهي قوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9)
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
قوله تعالى: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ قد شرحناه في أول المؤمن.
قوله تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ أي: من تراب ثم من نُطْفة إِلى أن يتكامل خَلْق الإِِنسان وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ أي: وما يُفرِّق في الأرض من جميع ما خلق على اختلاف ذلك في الخَلْق والصُّوَر آياتٌ تدُلُّ على وحدانيَّته. قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «آياتٌ» رفعاً «وتصريفِ الرِّياحِ آياتٌ» رفعاً أيضاً. وقرأ حمزة، والكسائي: بالكسر فيهما. والرِّزق هاهنا بمعنى المطر. قوله تعالى:
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ أي: هذه حُجج الله نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ أي: بعد حديثه وَآياتِهِ يؤمن هؤلاء المشركون؟!
__________
(1) الجاثية: 14.

(4/96)


قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)

قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ روى أبو صالح عن ابن عباس أنها نزلت في النضر بن الحارث.
وقد بيَّنّا معناها في الشعراء «1» ، والآية التي تليها مفسَّرة في لقمان «2» .
قوله تعالى: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً قال مقاتل: معناه: إِذا سمع. وقرأ ابن مسعود: «وِإذا عُلِّمَ» برفع العين وكسر اللام وتشديدها. قوله تعالى: اتَّخَذَها هُزُواً أي: سَخِر منها، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ «3» فدعا بتمر وزُبْد، وقال: تَزَقَّموا فما يَعِدُكم محمد إِلاَّ هذا، وإِنما قال: أُولئِكَ لأنه ردَّ الكلام إلى معنى «كُلّ» . مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ قد فسَّرناه في إبراهيم «4» وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً من الأموال، ولا ما عبدوا من الآلهة. قوله تعالى: هذا هُدىً يعني القرآن وَالَّذِينَ كَفَرُوا به، لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم:
«أليمٌ» بالرفع على نعت العذاب. وقرأ الباقون: بالكسر على نعت الرِّجز. والرِّجز بمعنى العذاب، وقد شرحناه في الأعراف «5» . قوله تعالى: جَمِيعاً مِنْهُ أي: ذلك التسخير منه لا مِنْ غيره، فهو مِنْ فضله.
وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري: «جميعاً مِنَّةً» بفتح النون وتشديدها وتاء منصوبة منوَّنة. وقرأ سعيد بن جبير: «مَنُّهُ» بفتح الميم ورفع النون والهاء مشددة النون.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 14 الى 22]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)
قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ... الآية، في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أنهم نزلوا في غَزاة بني المصطلق على بئر يقال لها: «المريسيع» ، فأرسل عبدُ الله بن أُبيّ غلامَة ليستقيَ الماء، فأبطأ عليه، فلمّا أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر، ما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقُرَبَ أبي بكر، وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مَثَلُنا ومَثَلُ هؤلاء إِلاّ كما قيل: سمِّن كلبك يأكلك، فبلغ قولُه عمر، فاشتمل سيفَه يريد التوجُّه إِليه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء
__________
(1) الشعراء: 222.
(2) لقمان: 7. [.....]
(3) الدخان: 43- 44.
(4) إبراهيم: 16.
(5) الأعراف: 134.

(4/97)


عن ابن عباس «1» .
(1259) والثاني: أنها لمّا نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «2» قال يهوديُّ بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج ربُّ محمد. فلما سمع بذلك عمر، اشتمل على سيفه وخرج في طلبه، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في طلب عمر، فلمّا جاء، قال: «يا عمر، ضَعْ سيفَك» وتلا عليه الآية، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس.
(1260) والثالث: أنّ ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل مكة كانوا في أذىً شديدٍ من المشركين قبل أن يؤمَروا بالقتال، فشكَوْا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، قاله القرظي، والسدي.
والرابع: أن رجلاً من كفار قريش شتم عمر بن الخطاب، فهمَّ عمر أن يبطش به، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «3» .
ومعنى الآية: قُلْ للذين آمنوا: اغْفِروا، ولكن شبِّه بالشرط والجزاء، كقوله: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ «4» ، وقد مضى بيان هذا. وقوله: لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أي: لا يَخافون وقائع الله في الأُمم الخالية، لأنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه. وقيل: لا يَدْرُون أنْعَمَ اللهُ عليهم، أم لا.
وقد سبق بيان معنى «أيّام الله» في سورة إبراهيم «5» .

فصل:
وجمهور المفسرين على أن هذه الآية منسوخة، لأنها تضمَّنت الأمر بالإِعراض عن المشركين. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «6» ، رواه معمر عن قتادة. والثاني: أنه قوله في الأنفال: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ «7» ، وقوله في براءة: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «8» ، رواه سعيد عن قتادة. والثالث: أنه قوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا «9» ، قاله أبو صالح.
قوله تعالى: لِيَجْزِيَ قَوْماً وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: «لِنَجْزِيَ» بالنون «قوماً» يعني الكفار، فكأنه قال: لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن. وما بعد هذا قد سبق «10» إلى قوله:
__________
ضعيف جدا، أخرجه الواحدي 743 م في «أسباب النزول» عن ميمون عن ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا محمد بن زياد اليشكري متروك متهم.
عزاه المصنف للقرظي وهو محمد بن كعب، وللسدي، ولم أقف على إسناده، وكلاهما مرسل.
وأخرج الطبري 31185 بسند فيه مجاهيل عن ابن عباس نحوه. وهذا القول أقرب للصواب، وإن لم يصح بوجه من الوجوه. وكون السورة نزلت في عمر، واه بمرة.
__________
(1) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 743 بدون إسناد، فهو لا شيء.
(2) البقرة: 245.
(3) عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم بالكذب، فالخبر لا شيء.
(4) إبراهيم: 31.
(5) إبراهيم: 5.
(6) التوبة: 5.
(7) الأنفال: 57.
(8) التوبة: 36.
(9) الحج: 39.
(10) الإسراء: 7.

(4/98)


أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)

وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ يعني التوراة وَالْحُكْمَ وهو الفَهْم في الكتاب، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني المَنَّ والسَّلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي: عالَمي زمانهم. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فيه قولان:
أحدهما: بيان الحلال والحرام، قاله السّدّيّ. والثاني: العلم بمبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وشواهد نبوَّته، ذكره الماوردي. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «1» إِلى قوله: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ «2» سبب نزولها أن رؤساء قريش دعَوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلى مِلَّة آبائه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
فأمّا قوله: عَلى شَرِيعَةٍ فقال ابن قتيبة: أي على مِلَّة ومذهب، ومنه يقال: شَرَعَ فلان في كذا: إِذا أخَذ فيه، ومنه «مَشارِعُ الماء» وهي الفُرَض التي شرع فيها الوارد. قال المفسرون: ثم جعلناك بعد موسى على طريقة من الأمر، أي: من الدّين فَاتَّبِعْها. والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ كفار قريش. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ أي: لن يَدْفَعوا عنك عذاب الله إِن اتبَّعتَهم، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يعني المشركين. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الشرك. والآية التي بعدها مفَّسرة في آخر الأعراف «3» . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للمؤمنين: إنّا نُعطى في الآخرة مثلما تُعْطَون من الأجر، قاله مقاتل «4» .
والاستفهام هاهنا استفهام إِنكار. و «اجترحوا» بمعنى اكتسبوا. سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وزيد عن يعقوب: «سواءً» نصباً وقرأ الباقون: بالرفع. فمن رفع، فعلى الابتداء ومن نصب، جعله مفعولاً ثانياً، على تقدير: أن نجعل مَحياهم ومماتَهم سواءً والمعنى: إِن هؤلاء يَحْيَون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وهؤلاء يَحْيَون كافرين ويموتون كافرين وشتّان ما هم في الحال والمآل ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي: بئس ما يَقْضُون. ثم ذكر بالآية التي تلي هذه أنه خلق السموات والأرض بالحق، أي: للحق والجزاء بالعدل، لئلاّ يظُن الكافرُ أنه لا يجزى بكفره.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 31]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31)
__________
(1) آل عمران: 19. [.....]
(2) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 123: ظن بعض من تكلم في العلم أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، ولا ننكر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء والعظة هل يلزم اتباعه أم لا؟ ولا إشكال في لزوم ذلك، ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينها في الفروع بحسب ما علمه سبحانه.
(3) الأعراف: 203.
(4) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، لا حجة فيه البتة.

(4/99)


قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قد شرحناه في الفرقان «1» . وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السهمي. قوله تعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي: على عِلْمه السابق فيه أنه لا يَهتدي وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ أي: طَبَع عليه فلم يسمع الهدى وَعلى قَلْبِهِ فلم يَعْقِل الهُدى، وقد ذكرنا الغِشاوة والخَتْم في (البقرة) «2» . فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي: مِنْ بَعْدِ إِضلاله إِيّاه أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتَعْرِفوا قُدرته على ما يشاء؟!. وما بعد هذا مفسَّر في سورة المؤمنون «3» إلى قوله: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي:
اختلاف الليل والنهار وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي: ما قالوه عن عِلْم، إِنَّما قالوه شاكِّين فيه. ومن أجل هذا قال نبيُّنا عليه الصلاة والسلام:
(1261) «لا تَسُبُّوا الدَّهْر فإنَّ الله هو الدَّهْر» ، أي: هو الذي يهلككم، لا ما تتوهّمونه من مرور الزمان.
وما بعد هذا ظاهر، وقد تقدّم بيانه «4» إِلى قوله: يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ يعني المكذِّبين الكافرين أصحابَ الأباطيل والمعنى: يظهر خسرانُهم يومئذ. وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ قال الفراء ترى أهل كل دين جاثِيَةً قال الزجاج: أي: جالسة على الرُّكَب، يقال: قد جثا فلان جُثُواً: إِذا جلس على ركبتيه، ومِثْلُه: جَذا يَجْذو. والجُذُوُّ أشد استيفازاً من الجُثُوِّ، لأن الجُذُوَّ: أن يجلس صاحبه على أطراف أصابعه. قال ابن قتيبة: والمعنى أنها غير مطمئنَّة.
قوله تعالى: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كتابها الذي فيه حسناتها وسيِّئاتها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه حسابها، قاله الشعبي، والفراء، وابن قتيبة.
والثالث: كتابها الذي أنزل على رسوله، حكاه الماوردي. ويقال لهم: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كتاب الأعمال الذي تكتبه الحَفَظة، قاله ابن السائب. والثاني:
اللوح المحفوظ، قاله مقاتل. والثالث: القرآن، والمعنى أنهم يقرءونه فيَدُلُّهم ويُذكِّرُهم، فكأنه يَنْطِق عليهم، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي بكَتْبها وإِثباتها. وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ، من اللوح المحفوظ، تَسْتَنْسِخُ الملائكةُ كلّ عام ما
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4826 و 7491 ومسلم 2246 والحميدي 1096 وأبو داود 5274 وأحمد 2/ 238 وابن حبان 5715 والبغوي 3389 والبيهقي في «السنن 3/ 365 والطبري 31207 كلهم من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم ورواه البخاري بمعناه. قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 179: كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة، قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله فكأنهم إنما سبّوا الله عز وجل لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار، لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال. هذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدّهم الدهر من الأسماء الحسنى، أخذا من هذا الحديث.
__________
(1) الفرقان: 43.
(2) البقرة: 7.
(3) المؤمنون: 37.
(4) البقرة: 28، الشورى: 7.

(4/100)


وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقاً ما يعملونه. قالوا: والاستنساخ لا يكون إِلاّ مِنْ أصلٍ.
قال الفراء: يرفع الملَكان العملَ كلَّه، فيُثْبِتُ اللهُ منه ما فيه ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللَّغو. وقال الزجاج: نستنسخ ما تكتبه الحَفَظة، ويثبت عند الله عزّ وجلّ.
قوله تعالى: فِي رَحْمَتِهِ قال مقاتل: في جنَتَّه.
قوله تعالى: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي فيه إضمار، تقديره: فيقال لهم ألم تكن آياتي، يعني آيات القرآن تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإِيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ قال ابن عباس: كافرين.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 32 الى 37]
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36)
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ أي: كائن وَالسَّاعَةُ قرأ حمزة: «والساعةَ» بالنصب لا رَيْبَ فِيها أي: كائنة بلا شك قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي أنكرتموها إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أي:
ما نعلم ذلك إلا ظنّاً وحَدْساً، ولا نَسْتْيِقنُ كونَها.
وما بعد هذا قد تقدم «1» إِلى قوله: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ أي: نتركُكم في النار كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي: كما تَركتُم الإِيمانَ والعملَ للقاء هذا اليوم. ذلِكُمْ الذي فَعَلْنا بكم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً أي: مهزوءاً بها وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا حتى قلتم: إِنه لا بَعْثَ ولا حساب فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ وقرأ حمزة، والكسائي: «لا يَخْرُجُونَ» بفتح الياء وضم الراء. وقرأ الباقون: «لا يُخْرَجُونَ» بضم الياء وفتح الراء مِنْها أي: من النار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: لا يُطلب منهم أن يَرْجِعوا إلى طاعة الله عزّ وجلّ، لأنه ليس بحين توبة ولا اعتذار.
قوله تعالى: وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: السُّلطان، قاله مجاهد. والثاني: الشَّرَف، قاله ابن زيد. والثالث: العَظَمة، قاله يحيى بن سلام، والزّجّاج.
__________
(1) الزمر: 48.

(4/101)