زاد المسير في
علم التفسير حم (1) تَنْزِيلُ
الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا
خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا
بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا
أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ
أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ
مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (4)
سورة الأحقاف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ
كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ
الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي
بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
فصل في نزولها «1» : روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس
أنها مكِّيَّة، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة،
والجمهور. وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: فيها آية
مدنيّة، وهي قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ «2» . وقال مقاتل: نزلت بمكة غير آيتين: قوله: قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وقوله: فَاصْبِرْ
كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «3» . نزلتا
بالمدينة.
وقد تقدّم تفسير فاتحتها «4» إلى قوله: وَأَجَلٍ مُسَمًّى وهو
أجَل فَناء السموات والأرض، وهو يوم القيامة. قوله تعالى: قُلْ
أَرَأَيْتُمْ مفسَّر في فاطر «5» إلى قوله: ائْتُونِي بِكِتابٍ
«6» ، وفي الآية اختصار، تقديره: فإن ادَّعَواْ أن شيئاً من
المخلوقات صنعةُ آلهتهم، فقل لهم: ائتوني بكتاب مِنْ قَبْلِ
هذا أي: مِنْ قَبْلِ القرآن فيه برهانُ ما تدَّعون من أن
الأصنام شركاءُ الله، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ وفيه ثلاثة
أقوال «7» : أحدها: أنه الشيء يثيره مستخرجه، قاله الحسن.
والثاني: بقيَّة مِنْ عِلْمٍ تؤثر عن
__________
(1) سورة الأحقاف مكية في قول جميعهم، كما في «تفسير القرطبي»
16/ 154 و «تفسير ابن كثير» 4/ 182، و «تفسير الشوكاني» 5/ 16.
(2) الأحقاف: 10.
(3) الأحقاف: 35.
(4) المؤمن: 1- 2.
(5) فاطر: 40.
(6) قال ابن العربي في «أحكام القرآن» 4/ 124: وهي أشرف آية في
القرآن، فإنها استوفت أدلة الشرع عقليها وسمعيّها، لقوله
تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
السَّماواتِ فهذه بيان لأدلة العقل المتعلقة بالتوحيد، وحدوث
العالم، وانفراد الباري سبحانه بالقدرة والعلم والوجود والخلق،
ثم قال: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا على ما تقولون
وهذه بيان لأدلة السمع فإن مدرك الحقّ إنما يكون بدليل العقل
أو بدليل الشرع حسبما بيناه من مراتب الأدلة في كتب الأصول.
[.....]
(7) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 273: وأولى الأقوال
في ذلك بالصواب قول من قال: الأثارة: البقية من علم، لأن ذلك
هو المعروف من كلام العرب. وقد ذكر عن بعضهم أنه قرأه «أو
أثرة» بسكون الثاء، وإذا وجه ذلك إلى ما قلنا فيه من أنه بقية
من علم، جاز أن تكون تلك البقية من علم الخط، ومن علم استثير
من كتب الأولين ومن خاصة علم أوثروا به.
(4/102)
وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ
(5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً
وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا
تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا
تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا
مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا
نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
الأوَّلِين، قاله ابن قتيبة، وإِلى نحوه
ذهب الفراء، وأبو عبيدة. والثالث: علامة مِنْ عِلْم، قاله
الزجاج.
وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأيوب السختياني، ويعقوب:
«أثَرَةٍ» بفتح الثاء، مثل شجرة. ثم ذكروا في معناها ثلاثة
أقوال: أحدها: أنه الخَطُّ، قاله ابن عباس وقال: هو خَط كانت
العرب تخُطُّه في الأرض، قال أبو بكر بن عيّاش: الخَطُّ هو
العِيافة. والثاني: أو عِلْم تأثُرونه عن غيركم، قاله مجاهد.
والثالث: خاصَّة مِنْ عِلْم، قاله قتادة. وقرأ أُبيُّ بن كعب،
وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والضحاك، وابن يعمر:
«أثْرَةٍ» بسكون الثاء من غير ألف بوزن نَظْرَةٍ. وقال الفراء:
قرئت «أثارةٍ» و «أثَرَةٍ» ، وهي لغات، ومعنى الكل: بقيَّة
مِنْ عِلْم، ويقال: أو شيء مأثور من كتب الأولين، فمن قرأ
«أثارةٍ» فهو المصدر، مثل قولك: السماحة والشجاعة، ومن قرأ
«أثَرَةٍ» فإنه بناه على الأثَر، كما قيل:
قَتَرة، ومن قرأ «أثرة» فكأنه أراد قوله: «الخطفة» «1» و
«الرّجفة» «2» . وقال اليزيدي: الأثارة: البقيَّة والأثَرَة،
مصدر أثَرَه يأثُرُه، أي: يذكُره ويَرويه، ومنه: حديثٌ مأثور.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 5 الى 8]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ
دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا
لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ
يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا
تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما
تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
قوله تعالى: مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ يعني الأصنام وَهُمْ
عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ لأنها جماد لا تَسمع، فإذا قامت
القيامة صارت الآلهة أعداءً لعابديها في الدنيا. ثم ذكر بما
بعد هذا أنهم يسمُّون القرآن سِحْراً وأن محمداً افتراه. قوله
تعالى: فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لا
تقدِرون على أن ترُدُّوا عني عذابَه، أي: فكيف أفتري مِنْ
أجِلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عذابه عنِّي؟! هُوَ أَعْلَمُ
بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي: بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه
من التكذيب والقول بأنه سِحْر كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ أن القرآن جاء مِنْ عندِ الله وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ في تأخير العذاب عنكم. وقال الزجاج: إنما ذكر هاهنا
الغُفران والرَّحمة ليُعْلِمَهم أنَّ من أتى ما أَتَيْتُم ثم
تاب فإن الله تعالى غفور له رحيم به.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 9 الى 10]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى
إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (10)
قوله تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي: ما أنا
بأوَّل رسولٍ. والبِدْع والبديع من كل شيء:
المبتدأ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وقرأ ابن
يعمر، وابن أبي عبلة: «ما يَفْعَلُ» بفتح الياء ثم فيه
__________
(1) الصافات: 10.
(2) الأعراف: 78.
(4/103)
قولان: أحدهما: أنه أراد بذلك ما يكون في
الدنيا. ثم فيه قولان «1» :
(1262) أحدهما: أنه لمّا اشتدّ البلاء بأصحاب رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم، رأى في المنام أنه هاجر إلى أرضٍ ذاتِ نخلٍ
وشجرٍ وماءٍ، فقصَّها على أصحابه، فاستبشَروا بذلك لما يلقَون
من أذى المشركين. ثم إِنهم مكثوا بُرهة لا يرَوْن ذلك، فقالوا:
يا رسول الله متى تُهاجِر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى: وَما أَدْرِي ما
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ يعني لا أدري، أخرُجُ إِلى الموضع
الذي رأيتُه في منامي أم لا؟ ثم قال: إِنما هو شيء رأيتُه في
منامي، وما أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، رواه أبو صالح
عن ابن عباس. وكذلك قال عطية: ما أدري هل يتركني بمكة أو
يُخرجني منها.
والثاني: ما أدري هل أُخْرَج كما أُخْرج الأنبياءُ قَبْلي، أو
أُقْتَل كما قُتِلوا، ولا أدري ما يُفْعَل بكم، أتعذَّبونَ أم
تؤخَّرونَ؟ أتُصدَّقونَ أم تُكذَّبونَ؟ قاله الحسن.
والقول الثاني: أنه أراد ما يكون في الآخرة.
(1263) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لمّا نزلتْ هذه
الآية، نزل بعدها لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «2» وقال: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ... الآية «3» ، فأُعلم ما يُفْعَل
به وبالمؤمنين. وقيل: إن المشركين فرحوا عند نزول هذه الآية
وقالوا: ما أمْرُنا وأمْرُ محمد إلاّ واحد، ولولا أنه ابتدع ما
يقوله لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزل قوله: لِيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ ... الآية، فقال الصحابة: هنيئاً لك يا رسول
الله، فماذا يُفْعَل بنا؟ فنزلت: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ... الآية وممن ذهب إِلى هذا القول
أنس وعكرمة وقتادة. وروي عن الحسن ذلك.
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
يعني القرآن وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ وفيه قولان «4» : أحدهما: أنه عبد الله بن سلام،
رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال
__________
واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 744 معلقا عن الكلبي
عن أبي صالح عن ابن عباس وهذا ساقط، الكلبي متروك كذاب، والخبر
واه بمرة ليس بشيء.
أخرجه الطبري 31239 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مختصرا،
وفيه إرسال بينهما.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 11/ 277: وأولى الأقوال في ذلك
بالصحة وأشبهها بما دل عليه التنزيل، القول الذي قاله الحسن
البصري. ومحال أن يقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قل
للمشركين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، وآيات كتاب
الله عز وجل في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في
النار مخلدون، والمؤمنون في الجنان منعمون، وبذلك يرهبهم مرة،
ويرغبهم أخرى، ولو قال لهم ذلك، لقالوا له: فعلام نتبعك إذن
وأنت لا تدري إلى أي حال تصير غدا في القيامة. وقال ابن كثير
في «تفسره» 4/ 184: وهذا القول الذي عوّل عليه ابن جرير وأنه
لا يجوز غيره، ولا شك في أن هذا هو اللائق به صلوات الله
وسلامه عليه فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة
هو ومن اتبعه، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره،
وأمر مشركي قريش إلى ماذا؟ أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون
فيستأصلون بكفرهم؟
(2) الفتح: 2.
(3) الفتح: 5.
(4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 281: والصواب من
القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق: هو موسى والتوراة، لا
ابن سلام، لأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية، في تأويل ذلك أشبه
بظاهر التنزيل، لأن الآية في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي
قريش، واحتجاجا عليهم لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الآية
نظير سائر الآيات قبلها ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل
ذلك ذكر، فتوجه الآية إلى أنها فيهم نزلت، غير أن الأخبار قد
وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن
ذلك عني به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل، وهم
كانوا أعلم بمعاني القرآن والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به.
- وقال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 16/ 162:
ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وتوضع في سورة مكية، فإن
الآية كانت تنزل فيقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ضعوها في
سورة كذا، والآية في محاجة المشركين، ووجه الحجة أنهم كانوا
يراجعون اليهود في أشياء، أي شهادتهم لهم وشهادة نبيهم هي من
أوضح الحجج، ولا يبعد أن تكون السورة في محاجة اليهود.
(4/104)
وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا
سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ
لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى
لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى
وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي
فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ
أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي
أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا
يُوعَدُونَ (16)
الحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد.
والثاني: أنه موسى بن عمران عليه السلام، قاله الشعبي، ومسروق.
فعلى القول الأول يكون ذكر المثل صلة، فيكون المعنى: وشهد شاهد
من بني إِسرائيل عليه، أي: على أنه من عند الله، فَآمَنَ
الشاهد، وهو ابن سلام وَاسْتَكْبَرْتُمْ يا معشر اليهود. وعلى
الثاني يكون المعنى: وشَهِد موسى على التوراة التي هي مِثْل
القرآن أنها من عند الله، كما شهد محمد على القرآن أنه كلام
الله، «فآمن» مَنْ آمن بموسى والتوراة «واستَكْبرتُم» أنتم يا
معشر العرب أن تؤمِنوا بمحمد والقرآن.
فإن قيل: أين جواب «إِنْ» قيل: هو مُضْمَر وفي تقديره ستة
أقوال: أحدها: أن جوابه: فَمنْ أَضَلُّ منكم، قاله الحسن.
والثاني: أن تقدير الكلام: وشَهِدَ شاهدٌ من بني إِسرائيل على
مثله فآمن، أتؤمِنون؟ قاله الزجاج. والثالث: أن تقديره:
أتأمنون عقوبة الله؟ قاله أبو علي الفارسي. والرابع: أن
تقديره: أفما تهلكون؟ ذكره الماوردي. والخامس: مَن المُحِقُّ
مِنّا ومِنكم ومَن المُبْطِل؟ ذكره الثعلبي.
والسادس: أن تقديره: أليس قد ظَلَمْتُمْ؟ ويدُلُّ على هذا
المحذوف قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ، ذكره الواحدي.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 الى 16]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ
خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ
لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى
لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ
ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ
فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ
شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ
سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ
صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي
تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا
وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ
وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا
الآية، في سبب نزولها خمسة أقوال «1» : أحدها:
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 185: وقوله تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ
خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي: قالوا عن المؤمنين بالقرآن:
لو كان القرآن خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه، يعنون المستضعفين
والعبيد والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم
عند الله وجاهة وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا،
وأخطئوا خطأ بينا، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أي: يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا
ولهذا قالوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ، وأما
أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن
الصحابة: هو بدعة، لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه، لأنهم لم
يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.
(4/105)
أن الكفار قالوا: لو كان دين محمد خيراً ما
سبقَنا إِليه اليهودُ، فنزلت هذه الآية، قاله مسروق «1» .
والثاني: أن امرأة ضعيفة البصر أسلمت، وكان الأشراف من قريش
يهزئون بها ويقولون: واللهِ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما
سبقتْنا هذه إِليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الزناد «2» .
والثالث: أن أبا ذر الغفاري أسلم واستجاب به قومه إِلى
الإِسلام، فقالت قريش: لو كان خيراً ما سبقونا إِليه، فنزلت
هذه الآية، قاله أبو المتوكل «3» . والرابع: أنه لمّا اهتدت
مُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةُ وأسلمتْ، قالت أسَد وغَطَفان: لو كان
خيراً ما سبقنا إِليه رِعاءُ الشَّاء، يعنون مُزَيْنَةَ
وجُهَيْنَةَ، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب «4» .
والخامس: أن اليهود قالوا: لو كان دين محمد خيراً ما سبقتْمونا
إِليه، لأنه لا عِلْمَ لكم بذلك، ولو كان حَقّاً لدخَلْنا فيه،
ذكره أبو سليمان الدمشقي وقال: هو قول مَنْ يقول: إِن الآية
نزلت بالمدينة ومن قال: هي مكية، قال: هو قول المشركين. فقد
خرج في «الذين كفروا» قولان: أحدهما: أنهم المشركون. والثاني:
اليهود.
وقوله: لَوْ كانَ خَيْراً أي: لو كان دين محمد خيراً ما
سَبَقُونا إِلَيْهِ. فمن قال: هم المشركون، قال: أرادوا: إنّا
أعَزُّ وأفضل ومن قال: هم اليهود، قال: أرادوا: لأنّا أعلم.
قوله تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي: بالقرآن
فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي: كذب متقدِّم، يعنون
أساطير الأولين. وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي: من قَبْلِ
القرآن التوراةُ. وفي الكلام محذوف، تقديره: فلَمْ يهتدوا، لأن
المشركين لم يهتدوا بالتوراة. إِماماً قال الزجاج: هو منصوب
على الحال وَرَحْمَةً عطف عليه وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ المعنى:
مصدِّقُ للتوراة لِساناً عَرَبِيًّا منصوب على الحال المعنى:
مصدِّقُ لما بين يديه عربيّاً وذكر «لساناً» توكيداً، كما
تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً، تريد: جاءني زيدٌ صالحاً.
قوله تعالى: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قرأ عاصم وأبو عمرو
وحمزة والكسائي: «لِيُنْذِرَ» بالياء. وقرأ نافع وابن عامر
ويعقوب: «لِتُنْذِرَ» بالتاء. وعن ابن كثير كالقراءتين.
«والذين ظلموا» المشركون وَبُشْرى أي وهو بُشرى
لِلْمُحْسِنِينَ وهم الموحِّدون يبشِّرهم بالجنة.
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره «5» إلى قوله: بِوالِدَيْهِ
حُسْناً وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ:
__________
(1) عزاه المصنف لمسروق: ولم أقف على إسناده، وهو مرسل.
- وأخرج الطبري 31261 عن قتادة نحوه وليس فيه ذكر اليهود وإنما
بنو فلان.
(2) قال السيوطي في «الدر» 6/ 8: أخرج ابن المنذر عن عون بن
شداد قال كان لعمر أمة أسلمت قبله، يقال لها زيزة ... فذكره
بنحوه وعزاه المصنف لأبي الزناد، ولم أقف عليه.
(3) عزاه المصنف لأبي المتوكل، واسمه علي بن دؤاد، وهو في عداد
التابعين، فالخبر مرسل، ولم أقف على إسناده.
(4) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو متروك متهم بالكذب.
(5) فصلت: 30.
(4/106)
إِحْساناً بألف. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «كَرْهاً» بفتح
الكاف، وقرأ الباقون بضمها. قال الفراء: والنحويُّون يستحبُّون
الضَّمَّ هاهنا، ويكرهون الفتح، للعلَّة التي بيَّنّاها عند
قوله: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ «1» ، قال الزجاج: والمعنى: حملته
على مشقَّة وَوَضَعَتْهُ على مشقَّة.
وَفِصالُهُ أي: فِطامُه. وقرأ يعقوب: «وفصله» بفتح الفاء وسكون
الصاد من غير ألف ثَلاثُونَ شَهْراً. قال ابن عباس: «ووضعتْه
كُرْهاً» يريد به شِدَّةَ الطَّلْق. واعلم أن هذه المُدَّة
قُدِّرتْ لأقلِّ الحَمْل وأكثرِ الرَّضاع فأمّا الأشُدّ، ففيه
أقوال قد تقدَّمت واختار الزجاج أنه بلوغ ثلاث وثلاثين سنة،
لأنه وقت كمال الإِنسان في بدنه وقوَّته واستحكام شأنه
وتمييزه. وقال ابن قتيبة: أشُدُّ الرجُل غير أشُدِّ اليتيم،
لأن أشُدَّ الرجُل: الاكتهال والحُنْكَةُ وأن يشتدَّ رأيُه
وعقلُه، وذلك ثلاثون سنة، ويقال: ثمان وثلاثون سنة، وأشُدُّ
الغُلام: أن يشتدَّ خَلْقُه ويتناهى نَبَاتُه. وقد ذكرنا بيان
الأَشُد في الانعام «2» وفي يوسف «3» وهذا تحقيقه. واختلفوا
فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال:
(1264) أحدها: أنها نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه،
وذلك أنه صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمان
عشرة سنة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عشرين سنة وهم
يريدون الشام في تجارة، فنزلوا منزلاً فيه سِدْرَة، فقعد رسولُ
الله صلّى الله عليه وسلّم في ظِلِّها، ومضى أبو بكر إلى راهب
هناك يسأله عن الدين، فقال له: مَن الرَّجُل الذي في ظِلِّ
السِّدْرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال:
هذا واللهِ نبيٌّ، وما استَظَلَّ تحتَها أحدٌ بعد عيسى إِلاّ
محمدٌ نبيُّ الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان
لا يفارق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أسفاره وحضره،
فلمّا نبّئ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وهو ابن أربعين
سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة- صدّق رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم، فلمّا بلغ أربعين سنة قال: رب أَوْزِعْني أن
أشكُرََ نِعمتَكَ التي أنعمت عليَّ، رواه عطاء عن ابن عباس،
وبه قال الأكثرون: قالوا: فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة، دعا
الله عزّ وجلّ بما ذكره في هذه الآية، فأجابه الله، فأسلم
والداه وأولاده ذكورُهم وإناثُهم، ولم يجتمع ذلك لغيره من
الصحابة.
والقول الثاني: أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد شرحنا قصته
في العنكبوت «4» ، وهذا مذهب الضحاك، والسدي. والثالث: أنها
نزلت على العموم، قاله الحسن.
وقد شرحنا في سورة النمل «5» معنى قوله: أَوْزِعْنِي.
قوله تعالى: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ قال ابن عباس:
أجابه الله- يعني أبا بكر- فأعتق تسعةً من المؤمنين كانوا
يُعذَّبون في الله عزّ وجلّ، ولم يُرِدْ شيئاً من الخير إِلاّ
أعانه اللهُ عليه، واستجاب له في ذُرِّيته فآمنوا، إِنِّي
تُبْتُ إِلَيْكَ أي: رَجَعْتَ إِلى كل ما تحبّ.
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 745 عن ابن عباس من رواية عطاء
بدون إسناد، ولم أقف عليه، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد، وعزاه
السيوطي في «الدر» 6/ 10 لابن مردويه لكن ساقه مختصرا، وتفرد
ابن مردويه به دليل وهنه.
__________
(1) البقرة: 216. [.....]
(2) الأنعام: 153.
(3) يوسف: 22.
(4) العنكبوت: 8.
(5) النمل: 19.
(4/107)
وَالَّذِي قَالَ
لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ
وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ
اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ
مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ
الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا
خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ
أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ
الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ
سَيِّئاتِهِمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر،
وأبو بكر عن عاصم: «يُتَقَبَّلُ» «ويُتَجَاوَزُ» بالياء
المضمومة فيهما. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف:
«نَتَقَبَّلُ» و «نَتَجَاوَزُ» بالنون فيهما، وقرأ أبو
المتوكل، وأبو رجاء، وأبو عمران الجوني: «يتقبّل» «ويتجاوز»
بياء مفتوحة فيهما، يعني أهل هذا القول، والأحسن بمعنى
الحَسَن. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي: في جملة من يُتجاوز
عنهم، وهم أصحاب الجنة. وقيل: «في» بمعنى «مع» . وَعْدَ
الصِّدْقِ قال الزجاج: هو منصوب، لأنه مصدر مؤكِّد لِمَا
قَبْله، لأن قوله: «أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عنهم» بمعنى
الوعد، لأنه وعدهم القبول بقوله: «وعد الصّدق» ، يؤكّد ذلك
قوله: الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي: على ألسنة الرُّسل في
الدنيا.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 20]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ
أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما
يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ
حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا
عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى
النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ
الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما «1» قرأ
أبو عمرو، وحمزة، والكسائي. وأبو بكر عن عاصم: «أُفِّ لكما»
بالخفض من غير تنوين. وقرأ ابن كثير، وابن عامر: بفتح الفاء.
وقرأ نافع، وحفص عن عاصم: «أُفٍّ» بالخفض والتنوين. وقرأ ابن
يعمر: «أُفٌّ» بتشديد الفاء مرفوعة منوَّنة. وقرأ حميد،
والجحدري: «أُفّاً» بتشديد الفاء وبالنصب والتنوين. وقرأ عمرو
بن دينار: «أُفُّ» بتشديد الفاء وبالرفع من غير تنوين. وقرأ
أبو المتوكل، وعكرمة، وأبو رجاء: «أُفْ لكما» باسكان الفاء
خفيفة. وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: «أُفِّيْ» بتشديد الفاء
وياءٍ ساكنة مُمالة.
(1265) وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر
قَبْلَ إِسلامه، كان أبواه يدعُوانه إِلى الإِسلام، وهو يأبى،
وعلى هذا جمهور المفسرين.
(1266) وقد روي عن عائشة أنها كانت تُنْكِر أن تكون الآية نزلت
في عبد الرّحمن، وتخلف
__________
أخرجه الطبري 31275 عن ابن عباس برواية عطية العوفي، قال: هذا
ابن لأبي بكر. ولا يصح هذا، فإن رواية عطية العوفي ضعيف، وعنه
من لا يعرف.
أخرجه النسائي في «التفسير» 511 والحاكم 4/ 481 والخطابي في
«غريب الحديث» 2/ 517 عن محمد بن زياد عن عائشة، وهذا منقطع،
وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وتعقبه الذهبي بقوله: محمد لم
يسمع من عائشة. وللقصة طريق أخرى عند البزار 1624 «كشف» وفيه
عبد الله البهي، وثقه قوم، وضعفه أبو حاتم الرازي، وقال
الهيثمي في «المجمع» 5/ 241 إسناد البزار حسن. وقال ابن كثير
في «البداية والنهاية» 8/ 89:
لا يصح هذا عن عائشة. قلت: الذي صح في ذلك هو ما أخرجه البخاري
4827 عن يوسف بن ماهيك.
قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر
يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن
أبي بكر شيئا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه،
فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قالَ
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي فقالت عائشة من وراء
الحجاب: «ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل
عذري» .
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «جامع البيان» 11/ 287: وهذا نعت
من الله تعالى ذكره، نعت ضال به كافر، وبوالديه عاق، وهما
مجتهدان في نصيحته ودعائه إلى الله، فلا يزيده دعاؤهما إياه
إلى الحقّ ونصيحتهما له إلا عتوا وتمردا على الله، وتماديا في
جهله.
(4/108)
على ذلك وتقول: لو شئت لسمَّيتُ الذي نزلتْ
فيه.
قال الزجاج: وقول من قال: إِنها نزلت في عبد الرحمن، باطل
بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فأعلَمَ
اللهُ أن هؤلاء لا يؤمِنون، وعبد الرحمن مؤمن، والتفسير
الصّحيح أنها نزلت في الكافر العاقِّ. وروي عن مجاهد أنها نزلت
في عبد الله بن أبي بكر، وعن الحسن أنها نزلت في جماعة من كفار
قريش قالوا ذلك لآبائهم.
قوله تعالى: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فيه قولان:
أحدهما: مضت القُرون فلم يرجع منهم أحد، قاله مقاتل. والثاني:
مضت القُرون مكذِّبة بهذا، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي: يَدعُوَان اللهَ
له بالهدى ويقولان له: وَيْلَكَ آمِنْ أي:
صدِّق بالبعث، فَيَقُولُ ما هذا الذي تقولان إِلَّا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ وقد سبق شرحها.
قوله تعالى: أُولئِكَ يعني الكفار الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ أي: وجب عليهم قضاء الله أنهم من أهل النار فِي
أُمَمٍ أي: مع أُمم. فذكر الله تعالى في الآيتين قَبْلَ هذه
مَنْ بَرَّ والدَيْه وعَمِل بوصيَّة الله عزّ وجلّ، ثم ذكر
مَنْ لم يَعْمَل بالوصيَّة ولم يُطِعْ ربَّه ولا والدَيْه،
إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران:
«أنَّهم» بفتح الهمزة. ثم قال: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا
عَمِلُوا أي: منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إِيمان وكفر،
فيتفاضل أهلُ الجنة في الكرامة، وأهل النار في العذاب
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو
عمرو: «ولِيُوَفِّيَهُمْ» بالياء، وقرأ الباقون: بالنون أي:
جزاء أعمالهم.
قوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ المعنى: واذكُرْ لهم يومَ
يُعْرَض الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ أي:
ويقال لهم: أذهبتم، قرأ ابن كثير: «آذْهَبْتُمْ» بهمزة
مطوَّلة. وقرأ ابن عامر: «أأذْهَبْتُمْ» بهمزتين. وقرأ نافع،
وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «أذْهَبْتُمْ» على الخبر،
وهو توبيخ لهم. قال الفراء والزجاج: العرب توبِّخ بالألف وبغير
الألف، فتقول: أذَهَبْتَ وفعلت كذا؟! وذهبتَ ففعلت؟! قال
المفسرون: والمراد بطيِّباتهم: ما كانوا فيه من اللذَّات
مشتغلين بها عن الآخرة مُعرِضين عن شُكرها.
ولمّا وبَّخهم اللهُ بذلك، آثر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم
وأصحابه والصالحون بعدهم اجتنابَ نعيم العيش ولذَّته ليتكامل
أجرُهم ولئلا يُلهيَهم عن مَعادهم.
(1267) وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه دخل على رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم وهو مضطجع على خَصَفة وبعضُه على التراب وتحت
رأسه وسادة محشوَّة ليفاً، فقال: يا رسول الله، أنتَ نبيُّ
الله وصفوتُه، وكسرى وقيصر على سُرُر الذَّهب وفُرُش الدِّيباج
والحرير؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمر، إنّ أولئك قوم
عجّلت
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2468 ومسلم 1479 والترمذي 3318 وابن حبان
4268 من حديث ابن عباس في خبر مطوّل. وانظر «تفسير القرطبي»
5497.
(4/109)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ
النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ
آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ
وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ
قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا
مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ
مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا
عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ
رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ
كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
لهم طيِّباتُهم، وهي وشيكة الانقطاع،
وإِنّا أُخِّرتْ لنا طيِّباتُنا» .
وروى جابر بن عبد الله قال: رأى عمر بن الخطاب لحماُ معلَّقاً
في يدي، فقال: ما هذا يا جابر؟
فقلت: اشتهيت لحماً فاشتريتُه، فقال: أوَ كلمَّا اشتّهيت
اشتريت يا جابر؟! أما تخاف هذه الآية:
أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا. وروي عن
عمر أنه قيل له: لو أمرتَ أن نصنع لك طعاما ألين من هذا، فقال:
إني سمعت الله عيَّر أقواما فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ
فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا.
قوله تعالى: تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ أي: تتكبَّرون عن
عبادة الله والإيمان به.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 25]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ
وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا
عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ
وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ
قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً
مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ
أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها
فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي
الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هوداً إِذْ أَنْذَرَ
قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ قال الخليل: الأحقاف: الرِّمال
العِظام، وقال ابن قتيبة: واحد الأحقاف: حِقْف، وهو من
الرَّمْل: ما أشرَفَ من كُثبانه واستطال وانحنى. وقال ابن
جرير: هو ما استطال من الرَّمْل ولم يبلُغ أن يكون جَبَلاً.
واختلفوا في المكان الذي سمَّي بهذا الاسم على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جبل بالشام، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: أنه
وادٍ، ذكره عطية. وقال مجاهد: هي أرض. وحكى ابن جرير أنه وادٍ
بين عُمان ومَهْرة. وقال ابن إِسحاق: كانوا ينزِلون ما بين
عمان وحضر موت، واليمن كلُّه. والثالث: أن الأحقاف: رمال
مشرِفة على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر، قاله قتادة.
قوله تعالى: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي: قد مضت الُّرُّسل
مِنْ قَبْلِ هود ومِنْ بَعده بإنذار أُممها أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللَّهَ والمعنى: لم يُبعَث رسولٌ قَبْلَ هود ولا بعده
إِلاّ بالأمر بعبادة الله وحده. وهذا كلام اعترض بين إِنذار
هود وكلامه لقومه، ثم عاد إِلى كلام هود فقال إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ.
قوله تعالى: لِتَأْفِكَنا أي: لِتَصْرِفَنا عن عبادة آلهتنا
بالإِفك.
قوله تعالى: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي: هو يَعْلَم
متى يأتيكم العذاب. فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني ما يوعَدون في
قوله: «بما تَعِدُنا» عارِضاً أي: سحاب يعرُض من ناحية السماء.
قال ابن قتيبة:
العارض: السحاب. قال المفسرون: كان المطر قد حُبِس عن عاد،
فساق اللهُ إِليهم سحابةً سوداء، فلمّا رأوها فرحوا وقالُوا
هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا فقال لهم هود: بَلْ هُوَ مَا
اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، ثم بيَّن ما هو فقال:
رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ، فنشأت الرِّيح من تلك السحابة،
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ أي: تُهٍلِك كلَّ شيءٍ مَرَّت به من
الناس والدوابّ والأموال. قال عمرو بن ميمون: لقد كانت الرِّيح
تحتمل الظّعينة فترفعُها حتى تُرى كأنها جرادة، فَأَصْبَحُوا
يعني عاداً لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ قرأ عاصم، وحمزة: «لا
يُرَى» برفع الياء «إِلاَّ مَسَاكِنُهم» برفع النون. وقرأ علي،
وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والجحدري: «لا
(4/110)
وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا
لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ
مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى
وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ
وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ
نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا
حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى
قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا
سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ
مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ
وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ
مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ
فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
تُرَى» بتاء مضمومة. وقرأ أبو عمران، وابن
السميفع: «لا تَرَى» بتاء مفتوحة «إلاّ مسكنهم» على التوحيد.
وهذا لأن السُّكّان هلكوا، فقيل: أصبحوا وقد غطتَّهم الرِّيح
بالرَّمْل فلا يُرَوْن.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 26 الى 28]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ
وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما
أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا
أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ
اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا
الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً
بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا
يَفْتَرُونَ (28)
ثم خوّف كفّار مكّة، فقال عزّ وجلّ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ
فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ في «إِنْ» قولان:
أحدهما: أنها بمعنى «لَمْ» فتقديره: فيما لم نمكِّنْكم فيه،
قاله ابن عباس، وابن قتيبة. وقال الفراء: هي بمنزلة «ما» في
الجحد، فتقدير الكلام: في الذي لم نمكِّنْكم فيه. والثاني:
أنها زائدة والمعنى: فيما مكَّنّاكم فيه، وحكاه ابن قتيبة
أيضاً.
ثم أخبر أنه جعل لهم آلات الفهم، فلم يتدبَّروا بها، ولم
يتفكّروا فيما يدلُّهم على التوحيد، قال المفسرون: والمراد
بالأفئدة: القلوب وهذه الآلات لم ترُدَّ عنهم عذابَ الله.
ثم زاد كفَّارَ مكة في التخويف، فقال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما
حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى كديار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من
الأُمم المُهْلَكة وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أي: بيَّنّاها
لَعَلَّهُمْ يعني أهل القُرى يَرْجِعُونَ عن كفرهم. وهاهنا
محذوف، تقديره: فما رَجَعوا عن كفرهم. فَلَوْلا أي: فهلاّ
نَصَرَهُمُ أي: منعهم من عذاب الله الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً يعني الأصنام التي تقرَّبوا
بعبادتها إِلى الله على زعمهم وهذا استفهام إِنكار، معناه: لم
ينصروهم بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي: لم ينفعوهم عند نزول العذاب
وَذلِكَ يعني دعاءَهم الآلهةَ إِفْكُهُمْ أي: كذبهم، وقرأ سعد
بن أبي وقاص وابن يعمر وأبو عمران: «وذلك أفَّكَهم» بفتح
الهمزة وقصرها وفتح الفاء وتشديدها ونصب الكاف. وقرأ أًبيُّ بن
كعب وابن عباس وأبو رزين والشعبي وأبو العالية والجحدري:
«أفَكَهم» بفتح الهمزة وقصرها ونصب الكاف والفاء وتخفيفها. قال
ابن جرير: أي: أضلَّهم. وقال الزجاج: معناها: صَرَفهم عن الحق
فجعلهم ضُلاّلاً. وقرأ ابن مسعود وأبو المتوكل: «آفِكُهم» بفتح
الهمزة ومدِّها وكسر الفاء وتخفيفها ورفع الكاف، أي: مضلّهم.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا
قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا
قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ
اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ
داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ
لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(32)
قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ
وبّخ الله عزّ وجلّ بهذه الآية كُفّارَ قريش بما آمنتْ به
(4/111)
الجنّ. وفي سبب صرفهم إلى النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم صُرِفوا إِليه بسبب ما
حدث من رجمهم بالشُّهُب. روى البخاري ومسلم في الصحيحين من
حديث ابن عباس قال:
(1268) انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من
أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر
السماء، وأُرسلتْ عليهم الشُّهُب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما
لكم؟ قالوا: حِيل بيننا وبين خبر السماء وأُرسلْت علينا
الشُّهُب، قالوا: ما ذاك إِلاّ من شيءٍ حدث، فاضرِبوا مشارق
الأرض ومغاربَها فانظروا ما هذا الأمر، فمرَّ النَّفرُ الذين
توجّهوا نحو تهامة بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو ب
«نَخْلةَ» وهو يصلِّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن
تسمَّعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء،
فهنالك رجَعوا إِلى قومهم فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً
عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ «1» ، فأنزل اللهُ على نبيِّه
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ
«2» .
(1269) وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم على الجن، ولا رآهم، وإِنما أتَوْه وهو ب
«نخلة» فسمعوا القرآن.
والثاني: أنهم صُرِفوا إِليه لِيُنْذِرهم وأمر أن يقرأ عليهم
القرآن هذا مذهب جماعة، منهم قتادة.
(1270) وفي أفراد مسلم من حديث علقمة قال: قلت لعبد الله: من
كان منكم مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلةَ الجن؟ فقال: ما
كان منَّا معه أحد، فقدْناه ذاتَ ليلة ونحن بمكة، فقلنا: اغتيل
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو استُطير، فانطلقْنا نطلبه
في الشِّعاب، فلقِيناهُ مُقْبِلاً من نحو حِراء، فقلنا: يا
رسول الله، أين كنتَ؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بِتْنا
الليلةَ بِشَرِّ ليلةٍ بات بها قوم حين فَقَدْناكَ، فقال:
«إِنه أتاني داعي الجن، فذهبت أُقْرِئهم القرآن» ، فذهبَ بنا،
فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.
(1271) وقال قتادة: ذُكِر لنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم قال: «إنِّي أُمِرْتُ أن أقرأ على الجن، فأيُّكم
يَتبعُني؟» فاطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثةَ
فأطرقوا، فأتبعه عبد الله بن مسعود، فدخل
__________
صحيح. أخرجه البخاري 773 عن مسدد ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وأخرجه البخاري 3320 ومسلم 449 والترمذي 3320 وأحمد 1/ 252 و
270 وأبو يعلى 2369 من طرق عن أبي عوانة به. وأخرجه أحمد 1/
274 وأبو يعلى 2502 من طريق أبي إسحاق عن سعيد به.
هو صدر الحديث المتقدم.
صحيح. أخرجه مسلم 450 عن محمد بن المثنى ثنا عبد الأعلى ثنا
داود قال سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن
مسعود.
وأخرجه أبو داود 85 مختصرا والترمذي 18 و 4258 وابن أبي شيبة
1/ 155 وابن خزيمة 82 وأبو عوانة 1/ 219 وابن حبان 1432
والبيهقي 1/ 108- 109 وفي «دلائل النبوة» 2/ 229 والبغوي في
«شرح السنة» 178 مختصرا من طرق عن داود بن أبي هند به.
هذا الخبر هو عند الطبري منجما 31315 من طريق سعيد عن قتادة
مرسلا. و 31316 من طريق معمر عن قتادة و 31317 من طريق عبد
الله بن عمرو بن غيلان عن ابن مسعود و 31318 من طريق عن أبي
عثمان بن شبة الخزاعي عن ابن مسعود. فهذه الروايات تتأيد
بمجموعها من جهة الإسناد، لكن هي معارضة بالحديث الصحيح
المتقدم.
__________
(1) الجن: 1- 2.
(2) الجن: 1.
(4/112)
أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ
الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ
هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا
صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ
لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ
يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ
يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم شِعْباً
يقال له: «شِعْبُ الحَجون» ، وخطَّ على عبد الله خطّاً ليُثبته
به، قال: فسمعت لغطاً شديداً حتى خِفْتُ على نبيِّ الله صلّى
الله عليه وسلّم، فلمّا رجَع قلت: يا نبي الله، ما اللغط الذي
سمعتُ؟ قال:
«اجتَمعوا إِليَّ في قتيل كان بينهم، فقضيت بينهم بالحق» .
والثالث: أنهم مَرُّوا به وهو يقرأ، فسمعوا القرآن.
(1272) فذكر بعض المفسرين أنه لمّا يئس من أهل مكة أن يجيبوه،
خرج إِلى الطائف ليدعوَهم إِلى الإِسلام- وقيل: ليلتمس نصرهم-
وذلك بعد موت أبي طالب، فلمّا كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن
في صلاة الفجر، فمرَّ به نفرٌ من أشراف جِنِّ نصيبين، فاستمعوا
القرآن.
فعلى هذا القول والقول الأول، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله
تعالى وعلى القول الثاني:
عَلِمَ بهم حين جاءوا. وفي المكان الذي سمِعوا فيه تلاوةَ
النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قولان: أحدهما: الحَجون، وقد
ذكرناه عن ابن مسعود، وبه قال قتادة. والثاني: بطن نخلة، وقد
ذكرناه عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. وأما النَّفَر، فقال ابن
قتيبة: يقال: إِنَّ النَّفَر ما بين الثلاثة إِلى العشرة.
وللمفسرين في عدد هؤلاء النَّفَر ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم
كانوا سبعة، قاله ابن مسعود وزِرُّ بن حبيش ومجاهد، ورواه
عكرمة عن ابن عباس. والثاني: تسعةً، رواه أبو صالح عن ابن
عباس. والثالث: اثني عشر ألفاً، روي عن عكرمة، ولا يصح، لأن
النَّفَر لا يُطلَق على الكثير.
قوله تعالى: فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي: حضروا استماعه، وقُضِيَ
يعني: فُرِغَ من تلاوته وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ
أي: محذّرين عذاب الله عزّ وجلّ إن لم يؤمِنوا. وهل أنذَروا
قومَهم مِنْ قبل أنفسهم، أم جعلهم رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم رسُلاً إِلى قومهم؟ فيه قولان.
قال عطاء: كان دِينُ أولئك الجِنِّ اليهوديةَ، فلذلك قالوا:
مِنْ بَعْدِ مُوسى.
قوله تعالى: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ يعنون محمّدا صلّى الله
عليه وسلّم. وهذا يدُلُّ على أنه أُرسِلَ إِلى الجن والإِنس.
قوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ «مِنْ» هاهنا
صلة.
قوله تعالى: فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي لا يُعْجِزُ
اللهَ تعالى وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أي أنصار
يمنعونه من عذاب الله تعالى أُولئِكَ الذين لا يجيبون الرّسل
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 35]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ
أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا
الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما
صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ
لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ
يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ
إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
ثم احتج على إحياء الموتى بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا ... إِلى
آخر الآية. والرُّؤية هاهنا بمعنى العِلْم.
وَلَمْ يَعْيَ أي: لم يَعْجَزْ عن ذلك يقال: عَيَّ فلانٌ
بأمره، إِذا لم يَهتد له ولم يَقدر عليه. قال الزجاج: يقال:
عَيِيتُ بالأمر، إِذا لم تعرف وجهه، وأعييت، إذا تعبت.
__________
ضعيف. رواه ابن هشام في «السيرة» 2/ 21- 23 من طريق ابن إسحاق
حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي ... فذكره. وهذا
مرسل، فهو ضعيف، ويزيد غير قوي.
(4/113)
قوله تعالى: بِقادِرٍ قال أبو عبيدة
والأخفش: الباء زائدة مؤكِّدة. وقال الفراء: العرب تُدخل
الباءَ مع الجحد، مثل قولك: ما أظُنُّك بقائم، وهذا قول
الكسائي، والزجاج: وقرأ يعقوب: «يَقْدْرُ» بياء مفتوحة مكان
الباء وسكون القاف ورفع الراء من غير ألف. وما بعد هذا ظاهر
إِلى قوله: كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ أي: ذَوو الحَزْم
والصَّبْر وفيهم عشرة أقوال «1» :
أحدها: أنهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّد صلّى الله
عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة،
وعطاء الخراساني، وابن السائب. والثاني: نوح، وهود، وإبراهيم،
ومحمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو العالية الرياحي. والثالث:
أنهم الذين لم تُصِبْهم فتنةٌ من الأنبياء، قاله الحسن.
والرابع: أنهم العرب من الأنبياء، قاله مجاهد، والشعبي.
والخامس: أنهم إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمّد
صلّى الله عليه وسلم، قاله السدي. والسادس: أن منهم إِسماعيل،
ويعقوب وأيُّوب، وليس منهم آدم، ولا يونس، ولا سليمان، قاله
ابن جريج. والسابع: أنهم الذين أُمروا بالجهاد والقتال، قاله
ابن السائب، وحكي عن السدي. والثامن: أنهم جميع الرُّسل، فإن
الله لم يَبْعَثْ رسولاً إِلاّ كان من أُولي العزم، قاله ابن
زيد، واختاره ابن الأنباري، وقال: «مِنْ» دخلتْ للتجنيس لا
للتبعيض، كما تقول: قد رأيتُ الثياب من الخَزِّ والجِباب من
القَزِّ. والتاسع: أنهم الأنبياء الثمانية عشر المذكورون في
سورة (الأنعام) ، قاله الحسين بن الفضل. العاشر: أنهم جميع
الأنبياء إِلاّ يونس، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ يعني العذاب، قال بعض
المفسّرين: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضَجِر بعض
الضَّجَر، وأحبَّ أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه، فأُمر
بالصَّبر.
قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ أي: من
العذاب لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ
لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلاً. وقيل: لأن مقدار
مَكْثهم في الدُّنيا قليلٌ في جَنْبِ مَكْثهم في عذاب الآخرة.
وهاهنا تم الكلام. ثم قال: بَلاغٌ أي: هذا القرآن وما فيه من
البيان بلاغٌ عن الله إِليكم. وفي معنى وَصْفِ القرآنِ بالبلاغ
قولان: أحدهما: أن البلاغ بمعنى التبليغ. والثاني: أن معناه:
الكفاية، فيكون المعنى: ما أخبرناهم به لهم فيه كفايةٌ وغِنىً.
وذكر ابن جرير وجهاً آخر، وهو أن المعنى: لَمْ يَلْبَثُوا
إِلاّ ساعةً من نهار، ذلك لُبْث بلاغ، أي:
ذلك بلاغ لهم في الدنيا إِلى آجالهم، ثُمَّ حُذفتْ «ذلك لُبْث»
اكتفاءً بدلالة ما ذُكِر في الكلام عليها. وقرأ أبو العالية،
وأبو عمران: «بَلِّغْ» بكسر اللام وتشديدها وسكون الغين من غير
ألف.
قوله تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ وقرأ أبو رزين وأبو المتوكل وابن
محيصن: «يَهْلِكُ» بفتح الياء وكسر اللام، أي عند رؤية العذاب
إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن أمر الله عزّ
وجلّ؟!.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 302: يقول الله
تعالى لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم مثبته على المضي لما
قلّده من عبء الرسالة، وثقل أحمال النبوة صلّى الله عليه
وسلّم، وآمره بالائتساء في العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم
من قبله من رسله الذين صبروا على عظيم ما لقوا من قومهم من
المكاره، ونالهم فيه من الأذى والشدائد (فاصبر) يا محمد على ما
أصابك في الله من أذى مكذبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم
بالإنذار (كما صبر أولو العزم) على القيام بأمر الله والانتهاء
إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن النفوذ لأمره ما نالهم
فيه من شدة. وقيل: إن أولي العزم منهم، كانوا الذين امتحنوا في
ذات الله في الدنيا بالمحن، فلم تزدهم المحن إلا جدّا في أمر
الله، كنوح وإبراهيم وموسى ومن أشبههم.
(4/114)
الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا
نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ
وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ
حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ
مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
(4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
سورة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله الأكثرون، منهم مجاهد،
ومقاتل، وحكي عن ابن عباس وقتادة أنها مدنيّة، إلّا آية منها
نزلت عليه بعد حجّه حين خرج من مكّة وجعل ينظر إلى البيت، وهي
قوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ
قَرْيَتِكَ «1» . والثاني: أنّها مكّيّة، قاله الضّحّاك،
والسّدّيّ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ
أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ
(2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ
وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ
وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ
وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ
لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)
قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا أي: بتوحيد الله وَصَدُّوا
الناس عن الإِيمان به، وهم مشركو قريش، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ
أي: أبطلها، ولم يجعل لها ثواباً، فكأنَّها لم تكن، وقد كانوا
يُطْعِمُون الطَّعامَ، ويَصِلون الأرحام، ويتصدّقون، ويفعلون
ما يعتقدونه قُرْبَةً. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ يعني أصحاب محمّد رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم. وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وقرأ ابن مسعود:
«نَزَّلَ» بفتح النون والزَّاي وتشديدها. وقرأ أبيّ بن كعب
ومعاذ القارئ: «أُنْزِلَ» بهمزة مضمومة مكسورة الزَّاي. وقرأ
أبو رزين وأبو الجوزاء وأبو عمران: «نَزَلَ» بفتح النون والزاي
وتخفيفها، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي غفرها لهم
وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي حالَهم، قاله قتادة، والمبرِّد.
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: معناه: الأمرُ ذلك، وجائز أن
يكون: ذلك الإِضلال، لاتِّباعهم الباطل، وتلك الهداية
والكفّارات باتِّباع المؤمنين الحقَّ، كَذلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي:
كذلك يبيِّن أمثال حسنات المؤمنين وسيِّئات الكافرين كهذا
البيان. قوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ إغراء،
__________
(1) محمد: 13.
(4/115)
والمعنى: فاقتُلوهم «1» ، لأن الأغلب في
موضع القتل ضربُ العُنق حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي:
أكثرتُم فيهم القتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ يعني في الأسر وإِنما
يكون الأسر بعد المبالغة في القتل. و «الوَثاق» اسم من
الإِيثاق تقول: أوثقتُه إِيثاقاً ووَثاقاً، إِذا شددتَ أسره
لئلا يُفْلِت فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ قال أبو عبيدة: إِمّا أن
تُمنُّوا، وإِمّا أن تفادوا، ومثلُه: سَقْياً، ورَعْياً،
وإِنما هو سُقِيتَ ورُعِيتَ. وقال الزجاج: إِمَّا منَنَتُم
عليهم بعد أن تأسِروهم مَنّاً، وإِمّا أطلقتُموهم بِفِداء.
فصل:
وهذه الآية محكَمة عند عامَّة العلماء. وممَّن ذهب إِلى أنَّ
حُكم المَنِّ والفداء باقٍ لم يُنْسَخ ابنُ عمر، ومجاهدٌ،
والحسنُ، وابنُ سيرين، وأحمدُ، والشافعيُّ. وذهب قوم إلى نسخ
المَنِّ والفداء بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ «2» ، وممن ذهب إلى هذا ابن جريح، والسدي،
وأبو حنيفة وقد أشرنا إِلى القولين في براءة.
قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها قال ابن عباس:
حتى لا يبقى أحد من المشركين. وقال مجاهد: حتى لا يكون دِينُ
إِلاّ دين الإِسلام. وقال سعيد بن جبير: حتى يخرُج المسيح.
وقال الفراء:
حتى لا يبقى إلاّ مُسْلِم أو مُسالِم. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: حتى يضعَ أهلُ الحرب سلاحَهم قال الأعشى:
وَأًَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا: ... رِمَاحاً طِوَالاً
وَخَيْلاً ذُكُوراَ
وأصل «الوِزْرِ» ما حملته، فسمّى السلاح «أوزاراً» لأنه
يُحْمل، هذا قول ابن قتيبة.
والثاني: حتى تضعَ حربُكم وقتالكم أوزارَ المشركين وقبائح
أعمالهم بأن يُسْلِموا ولا يعبُدوا إِلاَّ الله، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك الذي ذَكَرْنا وَلَوْ يَشاءُ
اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ بإهلاكهم أو تعذيبهم بما شاء
وَلكِنْ أمركم بالحرب لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ فيُثيب
المؤمن ويُكرمه بالشهادة، ويُخزي الكافر بالقتل والعذاب. قوله
تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا قرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم:
«قٌتِلُوا» بضم القاف وكسر التاء والباقون: «قاتَلُوا» بألف.
قوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها:
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 131: اعلموا
وفقكم الله أن هذه الآية من أمهات الآيات ومحكماتها، أمر الله
سبحانه فيها بالقتال، وبين كيفيته كما في قوله تعالى:
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ
بَنانٍ فإذا تمكّن المسلم من عنق الكافر أجهز عليه، وإذا تمكن
من ضرب يده التي يدفع بها عن نفسه ويتناول قتال غيره فعل ذلك
به، فإن لم يتمكن إلا ضرب فرسه التي يتوصل بها إلى مراده فيصير
حينئذ راجلا مثله أو دونه، والمآل إعلاء كلمة الله تعالى، وذلك
لأن الله سبحانه لما أمر بالقتال أولا، وعلم أن ستبلغ إلى
الإثخان والغلبة بيّن سبحانه حكم الغلبة بشدّ الوثاق، فيتخير
حينئذ المسلمون بين المن والفداء وبه قال الشافعي. وقال أبو
حنيفة: إنما لهم القتل والاسترقاق، وهذه الآية عنده منسوخة.
والصحيح إحكامها، فإن شروط النسخ معدومة فيها من المعارضة،
وتحصيل المتقدم من المتأخر. وقد عضدت السنة ذلك كله، فروى مسلم
أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذ من سلمة بن الأكوع جارية
ففدى بها ناسا من المسلمين، وقد هبط على النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم من أهل مكة قوم، فأخذهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
ومنّ عليهم. وقال الحسن وعطاء: المعنى فضرب الرقاب حتى تضع
الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، وليس للإمام أن
يقتل الأسير.
(2) التوبة: 5.
(4/116)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا
لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا
مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ
وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى
لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً
مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا
نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا
أَهْوَاءَهُمْ (14)
يَهديهم إِلى أرشد الأمور، قاله ابن عباس.
والثاني: يحقق لهم الهداية، قاله الحسن. والثالث: إِلى
مُحاجَّة منكَر ونكير. والرابع: إِلى طريق الجنة، حكاهما
الماوردي. وفي قوله: عَرَّفَها لَهُمْ قولان:
أحدهما: عرَّفهم منازلهم فيها فلا يستدِلُّون عليها ولا
يُخطِئونها، هذا قول الجمهور، منهم مجاهد وقتادة واختاره
الفراء، وأبو عبيدة. والثاني: طيَّبها لهم، رواه عطاء عن ابن
عباس. قال ابن قتيبة: وهو قول أصحاب اللغة، يقال: طعامٌ
معرَّف، أي مطيَّب. وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء وابن محيصن:
«عَرَفَها لهم» بتخفيف الراء.
[سورة محمد (47) : الآيات 7 الى 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ
يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ
أَعْمالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ
الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما
تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ
قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ
لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
قوله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي: تنصُروا دينه ورسوله
يَنْصُرْكُمْ على عدوِّكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ عند
القتال. وروى المفضل عن عاصم: «ويُثْبِتْ» بالتخفيف.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ قال الفراء:
المعنى: فأتْعَسَهم اللهُ، والدُّعاء قد يجري مَجرى الأمر
والنهي. قال ابن قتيبة: هو من قولك: تَعَسْتُ، أي: عَثَرْتُ
وسَقَطْتُ. وقال الزجاج: التَّعْسُ في اللغة: الانحطاط
والعُثُور. وما بعد هذا قد سبق بيانه «1» إلى قوله: دَمَّرَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: أهلكهم اللهُ وَلِلْكافِرِينَ
أَمْثالُها أي: أمثالُ تلك العاقبة. ذلِكَ الذي فعله بالمؤمنين
من النصر، وبالكافرين من الدَّمار بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى
الَّذِينَ آمَنُوا أي: ولِيُّهم. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله:
وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ أي: إِن الأنعام
تأكُل وتشرب، ولا تَدري ما في غدٍ، فكذلك الكفار لا يلتفتون
إِلى الآخرة. و «المثوى» : المَنْزِل. وَكَأَيِّنْ مشروح في آل
عمران «2» .
والمراد بقريته: مكة وأضاف القوة والإخراج إِليها، والمراد
أهلُها ولذلك قال: أَهْلَكْناهُمْ. قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ
عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فيه قولان: أحدهما: أنه رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم قاله أبو العالية.
والثاني: أنه المؤمن، قاله الحسن. وفي «البيِّنة» قولان:
أحدهما: القرآن، قاله ابن زيد. والثاني:
الدِّين، قاله ابن السائب. كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
يعني عبادة الأوثان، وهو الكافر وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ
بعبادتها.
__________
(1) الكهف: 105، يوسف: 109.
(2) آل عمران: 146.
(4/117)
مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ
غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ
طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ
فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ
(15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا
خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا
جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
[سورة محمد (47) : آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها
أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ
يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ
فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ
كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً
فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي: صِفَتُها،
وقد شرحناه في الرعد «1» . و «المتَّقون» عند المفسرين: الذين
يَتَّقون الشِّرك. و «الآسِن» المتغيِّر الرِّيح، قاله أبو
عبيدة، والزجاج. وقال ابن قتيبة:
هو المتغير الرِّيح والطَّعم، و «الآجِن» نحوه. وقرأ ابن كثير:
«غيرِ أسِنٍ» بغير مد. وقد شرحنا قوله:
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ في الصافات «2» : قوله تعالى: مِنْ
عَسَلٍ مُصَفًّى أي: من عسل ليس فيه عكر ولا كدر كعسل أهل
الدنيا. قوله تعالى: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ قال
الفراء: أراد: مَنْ كان في هذا النعيم، كمن هو خالد في
النار؟!. قوله تعالى: ماءً حَمِيماً أي: حارا شديد الحرارة. و
«الأمعاء» جميع ما في البطن من الحوايا.
[سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 18]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا
مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ
آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ
وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا
زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ
أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يعني
المنافقين. وفيما يستمعون قولان: أحدهما: أنه سماع خطبة رسول
صلّى الله عليه وسلّم يومَ الجمعة. والثاني: سماع قوله على
عموم الأوقات. فأمّا الذين أُوتُوا الْعِلْمَ، فالمراد بهم:
علماء الصحابة.
قوله تعالى: ماذا قالَ آنِفاً قال الزجاج: أي: ماذا قال
الساعة، وهو من قولك: استأنفتُ الشيء: إذا ابتدأتَه، وروضة
أنف: لم تُرْعَ، أي: لها أوَّل يُرْعى فالمعنى: ماذا قال في
أوَّل وقت يَقْرُبُ مِنّا. وحُدِّثْنا عن أبي عمر غلامِ ثعلب
أنه قال: «آنفاً» مُذْ ساعة. وقرأ ابن كثير، في بعض الروايات
عنه:
«أَنِفاً» بالقصر، وهذه قراءة عكرمة، وحميد، وابن محيصن. قال
أبو علي: يجوز أن يكون ابن كثير توهَّم، مثل حاذِر وحَذِر،
وفاكِه وفَكِه. وفي استفهامهم قولان: أحدهما: لأنهم لم
يَعْقِلوا ما يقول، ويدُلُّ عليه باقي الآية. والثاني: أنهم
قالوه استهزاءً.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا فيهم قولان: أحدهما: أنهم
المسلمون، قاله الجمهور. والثاني:
قومٌ من أهل الكتاب كانوا على الإِيمان بأنبيائهم وبمحمد صلّى
الله عليه وسلّم، فلمّا بعث محمّد صلّى الله عليه وسلّم آمَنوا
به، قاله عكرمة. وفي الذي زادهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الله
عزّ وجلّ. والثاني: قول الرسول. والثالث:
استهزاء المنافقين زاد المؤمنين هُدىً، ذكرهن الزجاج. وفي معنى
الهُدى قولان: أحدهما: أنه العِلْم.
والثاني: البصيرة. وفي قوله: وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ثلاثة
أقوال: أحدها: ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي. والثاني:
اتِّقاء المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية. والثالث: أعطاهم
التقوى مع الهُدى، فاتَّقَوْا معصيته خوفاً من عقوبته، قاله
أبو سليمان الدّمشقي. ويَنْظُرُونَ بمعنى ينتظِرون، أَنْ
تَأْتِيَهُمْ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو الأشهب، وحميد: «إِنْ
تَأْتِهم» بكسر الهمزة من غير ياء بعد التاء. والأشراط:
العلامات قال أبو عبيدة: الأشراط: الأعلام، وإِنما سمِّي
الشُّرط- فيما تَرى- لأنهم أعلموا أنفُسهم.
قال المفسّرون: ظهور النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أشراط
الساعة، وانشقاقُ القمر والدخانُ وغير ذلك. فَأَنَّى لَهُمْ
__________
(1) الرعد: 35. [.....]
(2) الصافات: 46.
(4/118)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ
مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ
عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ
وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا
اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
أي: فمِن أين لهم إِذا جاءَتْهُمْ الساعة
ذِكْراهُمْ؟! قال قتادة: أنَّى لهم أن يَذَّكَّروا ويتوبوا إذا
جاءت؟!
[سورة محمد (47) : الآيات 19 الى 21]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) وَيَقُولُ
الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ
الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20)
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ
صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21)
قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ قال
بعضهم: اثْبُتْ على عِلْمك، وقال قوم: المراد بهذا الخطاب غيره
وقد شرحنا هذا في فاتحة الأحزاب. وقيل: إِنه كان يَضيق صدرُه
بما يقولون، فقيل له:
اعْلَمْ أنه لا كاشفِ لما بِكَ إِلاّ اللهُ.
فأمّا قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فإنه كان يَستغفر في
اليوم مائة مرة، وأُمر أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات إِكراماً
لهم لأنه شفيعٌ مُجابٌ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
وَمَثْواكُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
مُتقلَّبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة، وهو معنى قول ابن
عباس. والثاني: مُتقلَّبكم في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء،
ومقامكم في القبور، قاله عكرمة. والثالث: «مُتقلَّبكم» بالنهار
و «مثواكم» أي: مأواكم بالليل، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ
سُورَةٌ قال المفسرون: سألوا ربَّهم أن يُنزل سُورةً فيها ثواب
القتال في سبيل الله، اشتياقاً منهم إلى الوحي وحِرصاً على
الجهاد، فقالوا: «لولا» أي: هلا وكان أبو مالك الأشجعي يقول:
«لا» هاهنا صلة، فالمعنى: لو أُنزلتْ سورة، شوقاً منهم إِلى
الزيادة في العِلْم، ورغبةً في الثواب والأجر بالاستكثار من
الفرائض. وفي معنى «مُحكَمة» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها التي يُذْكَر فيها القتال، قاله قتادة. والثاني:
أنها التي يُذْكَر فيها الحلال والحرام. والثالث:
التي لا منسوخ فيها، حكاهما أبو سليمان الدمشقي. ومعنى قوله:
وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي: فُرِضَ فيها الجهاد. وفي المراد
بالمرض قولان: أحدهما: النفاق، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد،
والجمهور. والثاني: الشكّ، قاله مقاتل.
قوله تعالى: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي: يَشْخَصون نحوك بأبصارهم
ينظرون نظراً شديداً كما ينظُر الشاخص ببصره عند الموت، لأنهم
يكرهون القتال، ويخافون إِن قعدوا أن يتبيَّن نفاقُهم.
فَأَوْلى لَهُمْ قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد: «أَوْلَى
لكَ» أي: وَلِيَكَ وقارَبَك ما تَكْره.
وقال ابن قتيبة: هذا وَعِيدُ وتهديد، تقولُ للرجُل- إذا أردتَ
به سوءاً، فَفَاتَكَ- أوْلَى لكَ، ثم ابتدأ، فقال: طاعَةٌ
وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ.... وقال سيبويه والخليل: المعنى: طاعةُ
وقولٌ معروفٌ أمثل. وقال الفراء: الطاعةُ معروفةٌ في كلام
العرب، إِذا قيل لهم: افعلوا كذلك، قالوا: سَمعٌ وطاعةٌ، فوصف
اللهُ قولَهم قبل أن تنزل السُّورة أنهم يقولون: سمعٌ وطاعة،
فإذا نزل الأمر كرهوا. وأخبرني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن
ابن عباس قال: قال الله تعالى: فَأَوْلى، ثم قال: لَهُمْ أي:
للذين آمنوا منهم (طاعةٌ) ، فصارت «أَوْلَى» وعيداً لِمَن
كَرِهها، واستأنف الطاعة ب «لهم» والأول عندنا كلام
(4/119)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ
(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى
أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ
الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ
وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
العرب، وهذا غير مردود، يعني حديث أبي
صالح. وذكر بعض المفسرين أن الكلام متصل بما قبله والمعنى:
فأَوْلَى لهم أن يُطيعوا وأن يقولوا معروفاً بالإِجابة. قوله
تعالى: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ قال الحسن: جَدَّ الأمْرُ.
وقال غيره: جدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابُه في
الجهاد، ولَزِمَ فرضُ القتال، وصار الأمر معروفاً عليه. وجواب
«إذا» محذوف، تقديره: فإذا عَزَمَ الأمْرُ نَكَلُوا يدُلُّ على
المحذوف فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ أي: في إِيمانهم وجهادهم
لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من المعصية والكراهة.
[سورة محمد (47) : الآيات 22 الى 28]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ
أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ
مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ
لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا
لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي
بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا
ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ
أَعْمالَهُمْ (28)
قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ في المخاطَب
بهذا أربعة أقوال: أحدها: المنافقون، وهو الظاهر. والثاني:
منافقو اليهود، قاله مقاتل. والثالث: الخوارج، قاله بكر بن عبد
الله المزني. والرابع:
قريش، حكاه جماعة منهم الماوردي. وفي قوله: تَوَلَّيْتُمْ
قولان «1» : أحدهما: أنه بمعنى الإِعراض. فالمعنى: إِن أعرضتم
عن الإِسلام أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بأن تعودوا إِلى
الجاهلية يقتل بعضكم بعضاً، ويُغِير بعضكم على بعض، ذكره جماعة
من المفسرين. والثاني: أنه من الوِلاية لأُمور الناس، قاله
القرظي. فعلى هذا يكون معنى «أن تُفْسِدوا في الأرض» :
بالجَوْر والظُّلم. وقرأ يعقوب:
«وتَقْطَعوا» بفتح التاء والطاء وتخفيفها وسكون القاف، ثم
ذَمَّ من يريد ذلك بالآية التي بعد هذه. وما بعد هذا قد سبق
«2» إِلى قوله: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «أَمْ» بمعنى
«بَلْ» ، وذِكْر الأقفال استعارة، والمراد أن القَلْب يكون
كالبيت المُقفَل لا يَصِلُ إِليه الهُدى. قال مجاهد: الرّان
أيسرُ من الطَّبْع، والطَّبْع أيسرُ من الإِقفال، والإِقفال
أشَدُّ ذلك كلّه. وقال خالد بن معدان: ما من آدميٍّ إِلاّ وله
أربعُ أعيُنٍ، عَيْنان في رأسه لدُنياه وما يُصْلِحه من
معيشته، وعَيْنان في قَلْبه لِدِينه وما وَعَد اللهُ من
الغَيْب، فإذا أراد اللهُ بعبد خيراً أبصرتْ عيناه اللتان في
قلبه، وإِذا أراد به غير ذلك طمس عليهما، فذلك قوله: «أَمْ على
قُلوب أقفالُها» .
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي:
رجَعوا كُفّاراً وفيهم قولان: أحدهما: أنهم المنافقون، قاله
ابن عباس، والسدي، وابن زيد. والثاني: أنهم اليهود، قاله
قتادة، ومقاتل مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى أي:
مِنْ بَعْدِ ما وَضَحَ لهم الحقُّ. ومن قال: هم اليهود، قال:
مِنْ بعد أن تبيّن لهم
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 211: وهذا نهي عن
الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قل أمر
تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام.
(2) النساء: 82.
(4/120)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ
أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ
وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ
يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ
مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونعته
في كتابهم. وسَوَّلَ بمعنى زيَّن. وَأَمْلى لَهُمْ قرأ أبو
عمرو، وزيد عن يعقوب: «وأُمْلِيَ لهم» بضم الهمزة وكسر اللام
وبعدها ياء مفتوحة. وقرأ يعقوب إِلاّ زيداً، وأبان عن عاصم
كذلك، إِلاّ أنهما أسكنا الياء. وقرأ الباقون بفتح الهمزة
واللام. وقد سبق معنى الإملاء «1» .
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: المعنى: الأَمْرُ ذلك، أي: ذلك
الإِضلال بقولهم: لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ وفي
الكارهِين قولان: أحدهما: أنهم المنافقون، فعلى هذا في معنى
قوله:
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ثلاثة أقوال: أحدها: في
القعود عن نصرة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله السدي.
والثاني: في المَيْل إِليكم والمظاهرة على محمّد صلّى الله
عليه وسلّم والثالث: في الارتداد بعد الإِيمان، حكاهما
الماوردي. والثاني: أنهم اليهود، فعلى هذا في الذي أطاعوهم فيه
قولان: أحدهما: في أن لا يصدّقوا شيئا من مقالة رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم، قاله الضحاك. والثاني: في كَتْم ما عَلِموه
من نُبوَّته، قاله ابن جريج.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف،
وحفص عن عاصم، والوليد عن يعقوب: بكسر الألف على أنه مصدر
أسْرَرْتُ: وقرأ الباقون: بفتحها على أنه جمع سِرٍّ، والمعنى
أنه يَعْلَم ما بين اليهود والمنافقين من السِّرِّ.
قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ؟ أي:
فكيف يكون حالُهم حينئذ؟ وقد بيَّنّا في الأنفال «2» معنى
قوله: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ.
قوله تعالى: وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ أي: كَرِهوا ما فيه
الرِّضوان، وهو الإيمان والطّاعة.
[سورة محمد (47) : الآيات 29 الى 34]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ
يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ
لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً
وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ (33)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
(34)
قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي:
نفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ قال الفراء: أي
لن يُبْدِيَ اللهُ عداوتهم وبغضهم لمحمّد صلّى الله عليه
وسلّم. وقال الزجاج: أي: لن يُبْدِيَ عداوتَهم لرسوله صلّى
الله عليه وسلّم ويُظْهِرَهُ على نفاقهم. وَلَوْ نَشاءُ
لَأَرَيْناكَهُمْ أي: لعرَّفْناكهم، تقول: قد أرَيْتُكَ هذا
الأمر، أي: قد عرَّفْتُك إيّاه، المعنى: لو نشاء لجَعَلْنا على
المنافقين علامة، وهي السّيماء فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ
أي: بتلك العلامة وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
أي: في فحوى القَوْل، فدلَّ بهذا على أن قول القائل وفعله
يدُلُّ على نِيَّته. وقولُ الناس: قد لَحَنَ فلانٌ، تأويله: قد
أَخذ في ناحية عن الصواب، وَعدَلَ عن الصواب إِليها. وقول
الشاعر:
مَنْطِقٌ صائِبٌ وتَلْحَنُ أحيانا ... ، وخير الحديث ما كان
لحنا «3»
__________
(1) آل عمران: 178، والأعراف: 183.
(2) الأنفال: 50.
(3) البيت لمالك بن أسماء بن خارجة الفزازي وهو في «اللسان» -
لحن- قال في «اللسان» : ومعنى صائب: قاصد الصواب وإن لم يصب،
وتلحن أحيانا أي تصيب وتفطن قال: فصار تفسير اللحن في البيت
على ثلاثة أوجه:
الفطنة والفهم، والتعرض، والخطأ في الإعراب.
(4/121)
فَلَا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ
تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا
يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا
فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا
أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا
يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا
غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
تأويله: خير الحديث من مِثْل هذه ما كان لا
يعرفه كلُّ أحد، إِنما يُعْرََفُ قولها في أنحاء قولها.
قال المفسرون: وَلتَعْرِفَنَّهم في فحوى الكلام ومعناه
ومقْصَده، فإنهم يتعرَّضون بتهجين أمرك والاستهزاء بالمسلمين.
قال ابن جرير: ثم عرَّفه اللهُ إيّاهم.
قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي: وَلنُعامِلَنَّكم
معامَلةَ المُخْتَبِر بأن نأمرَكم بالجهاد حَتَّى نَعْلَمَ
العِلْم الذي هو عِلْم وجود، وبه يقع الجزاء وقد شرحنا هذا في
العنكبوت «1» .
قوله تعالى: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي: نُظْهِرها
وَنكْشِفها باباء من يأبى القتال ولا يَصْبِر على الجهاد.
وقرأ أبو بكر عن عاصم: «وَليَبْلُوَنَّكم» بالياء «حتى
يَعْلَمَ» بالياء «ويبلو» بالياء فيهنّ. وقرأ معاذ القارئ،
وأيوب السختياني: «أخياركم» بالياء جمع «خير» .
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية، اختلفوا فيمن
نزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها في المُطْعِمِين يومَ بدر،
قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في الحارث بن سويد، ووحوح
الأنصاري، أسلما ثم ارتدّا، فتاب الحارث ورجع إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، وأبى صاحبه أن يَرْجِع حتى مات، قاله
السدي «2» . والثالث: أنها في اليهود، قاله مقاتل. والرابع:
أنها في قريظة والنضير، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ اختلفوا في
مُبْطِلها على أربعة أقوال: أحدها: المعاصي والكبائر، قاله
الحسن. والثاني: الشَّكّ والنِّفاق، قاله عطاء. والثالث:
الرِّياء والسُّمعة، قاله ابن السائب. والرابع: بالمَنّ.
(1273) وذلك أن قوماً من الأعراب قَدِموا على رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم فقالوا: أتيناك طائعين، فلنا عليك حق، فنزلت
هذه الآية، ونزل قوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا
«3» ، هذا قول مقاتل. قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدُلُّ على أن
كُلُّ مَنْ دخل في قُرْبَة لم يَجُزْ له الخُروج منها قبل
إِتمامها، وهذا على ظاهره في الحج، فأما في الصلاة والصيام،
فهو على سبيل الاستحباب «4» .
[سورة محمد (47) : الآيات 35 الى 38]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ
أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ
أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ
يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ
أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ
لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ
وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ
الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا
أَمْثالَكُمْ (38)
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم بالكذب.
__________
(1) العنكبوت: 3.
(2) عزاه المصنف للسدي، وهذا مرسل، فهو واه.
(3) الحجرات: 17.
(4) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 133: اختلف
العلماء فيمن افتتح نافلة من صوم أو صلاة، ثم أراد تركها، قال
الشافعي: له ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: ليس له ذلك لأنه إبطال
لعمله الذي انعقد له، وقال الشافعي هو تطوّع فإلزامه إياه
يخرجه عن الطواعية. قلنا: إنما يكون ذلك قبل الشروع في الفعل،
فإذا شرع لزمه كالشروع في المعاملات. ولا تكون عبادة ببعض ركعة
ولا ببعض يوم في صوم، فإذا قطع في بعض الركعة أو في بعض اليوم
إن قال: إنه يعتد به فقد ناقض الإجماع، وإن قال: إنه ليس بشيء
فقد نقض الإلزام.
وذلك مستقصى في مسائل الخلاف.
(4/122)
قوله تعالى: فَلا تَهِنُوا أي: فلا
تَضْعُفوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ قرأ ابن كثير، ونافع،
وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: «إِلى
السَّلْم» بفتح السين وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: بكسر
السين، والمعنى: لا تدعوا الكفّار إلى الصّلح ابتداء. وفي هذا
دلالة على أنه لا يجوز طلب الصّلح من المشركين، ودلالة على أنّ
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يدخل مكة صلحاً، لأنه نهاه عن
الصُّلح. قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي: أنتم أعزُّ
منهم، والحُجَّة لكم، وآخِرُ الأمر لكم وإِن غَلَبوكم في بعض
الأوقات وَاللَّهُ مَعَكُمْ بالعَوْن والنُّصرة وَلَنْ
يَتِرَكُمْ قال ابن قتيبة: أي لن يَنْقُصَكم ولن يَظْلِمَكم،
يقال: وتَرْتَني حَقِّي، أي: بَخسْتَنِيه. قال المفسرون:
المعنى: لن يَنْقُصَكم من ثواب أعمالكم شيئا.
قوله تعالى: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي: لن
يَسألَكُموها كُلَّها.
قوله تعالى: فَيُحْفِكُمْ قال الفراء: يُجْهِدكم. وقال ابن
قتيبة: يُلِحّ عليكم بما يوجبه في أموالكم تَبْخَلُوا، يقال:
أحْفاني بالمسألة وألحْف: إِذا ألحَّ. وقال السدي: إِن يسألْكم
جميعَ ما في أيديكم تبخلوا. وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ وقرأ سعد
بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن يعمر: «ويُخْرَج» بياء مرفوعه
وفتح الراء «أضغانُكم» بالرفع. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رزين،
وعكرمة، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري: «وتَخْرُج» بتاء
مفتوحة ورفع الراء «أضغانُكم» بالرفع. وقرأ ابن مسعود، والوليد
عن يعقوب: «ونُخْرِج» بنون مرفوعة وكسر الراء «أضغانَكم» بنصب
النون، أي: يُظهر بُغضَكم وعداوتَكم لله ولرسوله صلّى الله
عليه وسلّم ولكنه فرض عليكم يسيراً. وفيمن يضاف إِليه هذا
الإخراج وجهان:
أحدهما: إلى الله عزّ وجلّ. والثاني: البخل، حكاهما الفراء.
وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وليس بصحيح
لأنّا قد بيَّنّا أن معنى الآية: إن يسألْكم جميعَ أموالكم،
والزكاة لا تنافي ذلك.
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ يعني ما فرض عليكم في أموالكم فَمِنْكُمْ مَنْ
يَبْخَلُ بما فُرض عليه من الزكاة وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما
يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي: على نفسه بما ينفعٌها في الآخرة
وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عنكم وعن أموالكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ
إليه وإلى ما عنده من الخير والرحمة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عن
طاعته يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أطوعُ له منكم ثُمَّ لا
يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بل خيراً منكم. وفي هؤلاء القوم ثمانية
أقوال:
أحدها: أنهم العجم، قاله الحسن، وفيه حديث يرويه أبو هريرة
قال:
(1274) لمّا نزلت: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً
غَيْرَكُمْ كان سلمان إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
__________
عجزه صحيح، وتأويل الآية بأهل فارس لا يصح، فهو حديث ضعيف، فيه
مسلم بن خالد الزنجي ضعيف أخرجه البغوي في «شرح السنة» 3895.
وأخرجه الطبري 31443 وابن حبان 7123 وأبو نعيم في «تاريخ
أصبهان» 1/ 3 من طرق عن ابن وهب ثنا مسلم بن خالد به. وأخرجه
الطبري 31442 و 3144 وأبو نعيم 1/ 2 و 3 من طرق عن مسلم بن
خالد به. وأخرجه الترمذي 3261 وأبو نعيم 1/ 3 والواحدي 4/ 131
من
(4/123)
فقالوا: يا رسول الله، مَنْ هؤلاء الذين
إذا تولَّينا استُبْدِِلوا بنا؟ فضرب رسولُ الله صلّى الله
عليه وسلّم يدَه على مَنْكِب سلمان، فقال: «هذا وقومُه، والذي
نفسي بيده! لو أن الدِّين معلَّق بالثُّريَّا لتناوله رجال من
فارس» .
والثاني: فارس والروم، قاله عكرمة. والثالث: من يشاء من جميع
الناس، قاله مجاهد. والرابع:
يأتي بخلق جديد غيركم. وهو معنى قول قتادة. والخامس: كندة
والنخع، قاله ابن السائب. والسادس:
أهل اليمن، قاله راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، وشريح بن
عبيد. والسابع: الأنصار، قاله مقاتل. والثامن: أنهم الملائكة،
حكاه الزجاج وقال: فيه بُعْدٌ لأنه لا يقال للملائكة «قَوْمٌ»
إِنما يقال ذلك للآدميين، قال: وقد قيل: إن تولَّى أهلُ مكَّة
استَبْدَلَ اللهُ بهم أهلَ المدينة، وهذا معنى ما ذكَرْنا عن
مقاتل.
__________
طريقين عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن جعفر بن نجيع عن
العلاء به وعبد الله بن جعفر، ضعيف متروك. وأخرجه البيهقي في
«الدلائل» 6/ 334 من طريق أبي الربيع سليمان بن داود الزهراني
عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء به، والظاهر أنه منقطع بين
إسماعيل وسليمان بدليل الواسطة بينهما. وأخرجه الترمذي 3260 من
طريق عبد الرزاق عن شيخ من أهل المدينة عن العلاء به. قال
الترمذي: هذا حديث غريب في إسناده مقال. قلت: هو ضعيف فيه من
لم يسم، ولعل المراد إبراهيم المدني الآتي ذكره. وأخرجه أبو
نعيم في «تاريخ أصبهان» 1/ 3- 4 من طريق عبد الله بن جعفر ومن
طريق إبراهيم بن محمد المدني كلاهما عن سهيل بن أبي صالح عن
أبيه عن أبي هريرة. وعبد الله بن جعفر ضعيف، والمدني أظنه
إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي ذاك المتروك المتهم.
وعجزه دون ذكر الآية. أخرجه مسلم 2546 ح 230 وأحمد 2/ 309 وأبو
نعيم 1/ 4 من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة. ويشهد لعجزه
حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري 4798 ومسلم 2546 ح 231 والنسائي
في «فضائل الصحابة» 173 وأحمد 2/ 417 وابن حبان 7308 من طرق عن
عبد العزيز الدارودي به. ورواية البخاري لعبد العزيز إنما هي
متابعة، فقد تابعه سليمان بن بلال، وأخرجه البخاري 4897
والترمذي 3310 و 3933 من طريق ثور بن يزيد به. وأخرجه الترمذي
3261 وابن حبان 7123 والبيهقي في «الدلائل» 6/ 334 من طريق
العلاء عن أبيه عن أبي هريرة به.
ولفظ البخاري في الرواية 4898 «لناله رجال من هؤلاء» . ولفظ
البخاري في الرواية 4897 «عن أبي هريرة رضي عنه قال: كنا جلوسا
عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزلت عليه سورة الجمعة
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهم قال:
قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا وفينا
سلمان الفارسي وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على
سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال- أو رجل-
من هؤلاء» . وانظر «فتح القدير» 2281 بتخريجنا.
(4/124)
|