زاد المسير في علم التفسير

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)

سورة القمر
وهي مكيَّة بإجماعهم، وقال مقاتل: مكِّيَّة غير آية سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ «1» ، وحكي عنه أنه قال: إلاّ ثلاث آيات، أوّلها: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ إلى قوله: وَأَمَرُّ «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5)
(1373) قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت صادقاً فشُقَّ لنا القمر فرقتين، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن فعلتُ تؤمنون؟» قالوا: نعم، فسأل رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم ربَّه أن يُعطيَه ما قالوا، فانشقَّ القمر فرقتين، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ينادي: «يا فلان يا فلان اشْهَدوا» ، وذلك بمكة قبل الهجرة.
(1374) وقد روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث ابن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم شقّتين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اشْهَدوا» . وقد روى حديث الانشقاق جماعةٌ منهم: عبد الله بن عمر وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عباس وأنس بن مالك.
__________
أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 209 من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس بهذا اللفظ، وفي الطريق عن عطاء، ابن جريج، وهو مدلس، وقد عنعن، وفي الطريق عن الضحاك مقاتل. وقد ذكره السيوطي في «الدر» 6/ 177 فقال: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس بهذا اللفظ، ولم أره في «الحلية» . وضعفه الحافظ في «الفتح» 8/ 181. لكن أصل الحديث صحيح، انظر الآتي. وانظر «تفسير القرطبي» 5736 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 4864 عن مسدد به، من حديث ابن مسعود. وأخرجه البخاري 3869 و 3871 ومسلم 2800 ح 44 والترمذي 3285 وأحمد 1/ 447 والطبري 32694 وابن حبان 6495 والطبراني 9996 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 265 من طرق عن الأعمش به. وأخرجه البخاري 3636 و 4865 والترمذي 3287 وأبو يعلى 4968 وأحمد 1/ 377 وأبو يعلى 4968 والبيهقي 2/ 264 والواحدي في «الوسيط» 4/ 206 من طريق ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر به. وورد من حديث جبير بن مطعم أخرجه أحمد 4/ 81- 82 وابن حبان 6497 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 268 والطبري 32705. وورد من حديث ابن عمر أخرجه مسلم
__________
(1) القمر: 45.
(2) القمر: 44- 46.

(4/196)


وعلى هذا جميع المفسرين، إلاّ أن قوماً شذُّوا فقالوا: سيَنْشَقُّ يوم القيامة. وقد روى عثمان بن عطاء عن أبيه نحو ذلك، وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع، ولأن قوله: وَانْشَقَّ لفظ ماض، وحَمْلُ لفظ الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله ودليل، وليس ذلك موجوداً. وفي قوله: «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا» دليل على أنه قد كان ذلك. ومعنى اقْتَرَبَتِ: دنت والسَّاعَةُ القيامة. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، تقديره: انشقَّ القمر واقتربت الساعة. وقال مجاهد: انشقَّ القمر فصار فِرقتين، فثبتت فِرقة، وذهبت فِرقة وراء الجبل. وقال ابن زيد: لمّا انشقَّ القمر كان يُرى نصفُه على قُعيَقِعَانَ، والنصف الآخر على أبي قُبيس.
(1375) قال ابن مسعود: لمّا انشقَّ القمر قالت قريش: سحركم ابن أَبي كبشة، فاسألوا السُّفَّار، فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه، فأنزل الله عزّ وجلّ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً أي: آية تدُلُّهم على صدق الرسول، والمراد بها هاهنا: انشقاق القمر يُعْرِضُوا عن التصديق وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ فيه ثلاثة أَقوال: أحدها: ذاهبٌ، من قولهم: مَرَّ الشيءُ واستمرَّ: إذا ذهب، قاله مجاهد وقتادة والكسائي والفراء فعلى هذا يكون المعنى: هذا سِحر، والسِّحر يذهب ولا يثبت. والثاني: شديدٌ قويٌّ، قاله أبو العالية والضحاك وابن قتيبة، قال: وهو مأخوذ من المِرَّة، والمِرَّة: الفَتْل. والثالث: دائمٌ، حكاه الزجّاج.
قوله تعالى: وَكَذَّبُوا يعني كذّبوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم وما عاينوا من قُدرة الله تعالى وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ما زيَّن لهم الشيطانُ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن كُلَّ أمْر مستقِرٌّ بأهله، فالخير يستقِرُّ بأهل الخير، والشر يستقِرُّ بأهل الشر، قاله قتادة. والثاني: لكل حديثٍ مُنتهىً وحقيقةٌ، قاله مقاتل.
والثالث: أن قرار تكذيبهم مستقِرّ، وقرار تصديق المصدِّقين مستقِرّ حتى يعلموا حقيقته بالثواب والعقاب، قاله الفراء.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعني أهل مكة مِنَ الْأَنْباءِ أي: من أخبار الأُمم المكذِّبة في القرآن ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ قال ابن قتيبة: أي: مُتَّعَظٌ ومُنتهىً.
قوله تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ قال الزجّاج: هي مرفوعة لأنها بدل من «ما» ، فالمعنى: ولقد جاءهم حكمةٌ بالغةٌ. وإن شئت رفعتهما بإضمار: هو حكمة بالغة. و «ما» في قوله فَما تُغْنِ النُّذُرُ
__________
2801 والترمذي 3288 والطيالسي 1891 وابن حبان 6498 والطبراني 13473. ومن حديث حذيفة: أخرجه الحاكم 4/ 609 والطبري 32703، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. ومن حديث ابن عباس. أخرجه البخاري 4866 ومسلم 2803 عن ابن عباس: إن القمر انشق على زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومن حديث أنس بن مالك:
أخرجه البخاري 3868 عن عبد الله بن عبد الوهاب به. وأخرجه البخاري 3637 وأحمد 3/ 220 والطبري 32693 من طرق عن سعيد بن أبي عروبة به. وأخرجه مسلم 2802 والترمذي 3282 وأحمد 3/ 165 من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة به وأخرجه البخاري 4868 ومسلم 2802 ح 47 وأحمد 3/ 275 والطبري 32690 و 32692 وأبو يعلى 2929 والطيالسي 2449 من طرق عن شعبة عن قتادة به. وأخرجه البخاري 3637 و 4867 ومسلم 2802 وأحمد 3/ 207 وأبو يعلى 3113 من طرق عن شيبان عن قتادة به.
صحيح. أخرجه الطبري 32699 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 266 والواحدي في «الأسباب» 774 من طريق المغيرة عن أبي الضحى به وإسناده على شرط الصحيح.

(4/197)


فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

جائز أن يكون استفهاماً بمعنى التوبيخ، فيكون المعنى: أيّ شيء تُغْني النُّذُر؟! وجائز أن يكون نفياً، على معنى، فليست تُغْني النُّذُر. قال المفسرون: والمعنى: جاءهم القرآن وهو حِكْمة تامَّة قد بلغت الغاية، فما تُغُني النُّذُر إذا لم يؤمنوا؟!

[سورة القمر (54) : الآيات 6 الى 8]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ قال الزجّاج: هذا وقف التمام، ويَوْمَ منصوب بقوله: «يخرُجون من الأجداث» .
وقال مقاتل: فتولَّ عنهم إلى يوم يَدْعُ الدّاعي أثبت هذه الياء في الحالين يعقوب وافقه أبو جعفر، وأبو عمرو في الوصل، وحذفها الأكثرون في الحالين. و «الداعي» : إِسرافيل ينفُخ النفخة الثانية إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ وقرأ ابن كثير: «نُكْرٍ» خفيفة أي: إلى أمر فظيع. وقال مقاتل: «النُّكُر» بمعنى المُنْكَر، وهو القيامة، وإنما يُنْكِرونه إعظاماً له. والتَّولِّي المذكور في الآية منسوخ عند المفسرين بآية السيف.
قوله تعالى: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ قرأ أهل الحجاز، وابن عامر، وعاصم: «خُشَّعاً» بضم الخاء وتشديد الشين من غير ألف. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «خاشِعاً» بفتح الخاء وألف بعدها وتخفيف الشين. قال الزجاج: المعنى: يخرُجون خُشَّعاً، و «خاشعاً» منصوب على الحال، وقرأ ابن مسعود: «خاشعةً» ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدَّمت على الجماعة التوحيد والتأنيث والجمع تقول: مررت بشُبّانٍ حَسَنٍ أوجُههم، وحِسانٍ أوجُههم، وحَسَنةٍ أوجُههم، قال الشاعر:
وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إِياد بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ «1»
قال المفسرون: والمعنى أن أبصارهم ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب. والأجداث: القبور، وإنما شبَّههم بالجراد المنتشِر، لأن الجراد لا جِهةَ له يَقْصِدها، فهو أبداً مختلف بعضه في بعض، فهم يخرُجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يَقْصِدها. والدّاعي: إِسرافيل. وقد أثبت ياء «الدّاعي» في الحالين ابن كثير، ويعقوب تابعهما في الوصل نافع، وأبو عمرو والباقون بحذفها في الحالين. وقد بيَّنّا معنى «مُهْطِعين» في سورة إبراهيم «2» . والعَسِر: الصَّعب الشَّديد.

[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 22]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
__________
(1) البيت للحارث بن دوس الإيادي كما في «تفسير القرطبي» 17/ 115.
(2) إبراهيم: 43.

(4/198)


قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي: قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحاً وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ قال أبو عبيدة: افتُعِل مِن زُجِر. قال المفسرون: زجروه عن مقالته فَدَعا عليهم نوح رَبَّهُ ب أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي: فانتَقِم لي ممَّن كذَّبني. قال الزَّجاج: وقرأ عيسى بن عمر النحوي:
«إنِّي» بكسر الألف، وفسرها سيبويه فقال: هذا على إِرادة القول، فالمعنى: قال: إني مغلوب ومن فتح، وهو الوجه، فالمعنى: دعا ربَّه ب أَنِّي مَغْلُوبٌ.
قوله تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ قرأ ابن عامر «ففَتَّحْنا» بالتشديد. فأما المُنهمِر، فقال ابن قتيبة:
هو الكثير السريع الانصباب، ومنه يُقال: هَمَر الرجلُ: إذا أكثر من الكلام وأسرع. وروى عليّ رضي الله عنه أن أبواب السماء فُتحت بالماء من المَجَرَّة، وهي شَرَجُ السماء. وعلى ما ذكرنا من القصة في هود «1» أن المطر جاءهم، يكون هو المراد بقوله: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ. قال المفسرون: جاءهم الماء من فوقهم أربعين يوماً، وفُجِّرت الأرض من تحتهم عيوناً أربعين يوماً. فَالْتَقَى الْماءُ وقرأ أُبيُّ بن كعب وأبو رجاء وعاصم الجحدري: «المآءان» بهمزة وألف ونون مكسورة. وقرأ ابن مسعود: «المايانِ» بياءٍ وألف ونون مكسورة من غير همز. وقرأ الحسن وأبو عمران: «الماوانِ» بواو وألف وكسر النون.
قال الزجاج: يعني بالماء: ماء السماء وماء الأرض، ويجوز الماءان، لأن اسم الماء اسم يجمع ماء الأرض وماء السماء. قوله تعالى: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ فيه قولان: أحدهما: كان قَدْر ماء السماء كقَدْر ماء الأرض، قاله مقاتل. والثاني: قد قُدر في اللوح المحفوظ، قاله الزجاج. فيكون المعنى: على أمر قد قُضي عليهم، وهو الغرق.
قوله تعالى: وَحَمَلْناهُ يعني نوحاً عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ قال الزجاج. أي: على سفينةٍ ذاتِ ألواحٍ. قال المفسرون: ألواحها: خشباتها العريضة التي منها جُمعت. وفي الدُّسُر أربعة أقوال: أحدها:
أنها المسامير، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والقرظي، وابن زيد. وقال الزجاج: الدُّسُر:
المسامير والشُّرُط التي تُشَدِّ بها الألواح، وكل شيء نحو السَّمْر أو إدخال شيء في شيءٍ بقوَّة وشِدة قَهر فهو دَسْر، يقال: دَسَرْتُ المسمار أدْسُرُه وأَدْسِرُه. والدُّسُر: واحدها دِسار، نحو حِمار، وحُمُر.
والثاني: أنه صَدْر السفينة، سُمِّي بذلك لأنه يَدْسُر الماء، أي: يدفعه، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن وعكرمة ومنه الحديث في العنبر أنه شيء دسره البحر، أي: دفعه. والثالث: أن الدُّسُر:
أضلاع السفينة، قاله مجاهد. والرابع: أن الدُّسُر: طرفاها وأصلها، والألواح: جانباها، قاله الضحاك.
قوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي: بمَنْظَرٍ ومرأىً مِنّا جَزاءً قال الفراء: فعَلْنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثواباً لمن كُفِر به. وفي المراد ب «مَنْ» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الله عزّ وجلّ، وهو مذهب مجاهد، فيكون المعنى: عوقبوا لله ولكُفرهم به. والثاني: أنه نوحٌ كُفِر به وجُحِد أمْرُه، قاله الفراء. والثالث: أن «مَنْ» بمعنى «ما» فالمعنى: جزاءً لِما كان كُفِر من نِعم الله عند الذين أغرقهم، حكاه ابن جرير. وقرأ قتادة: «لِمَنْ كان كَفَر» بفتح الكاف والفاء.
قوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها في المشار إليها قولان: أحدهما: أَنها السفينة، قال قتادة: أبقاها الله على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمة. والثاني: أنها الفَعْلة، فالمعنى: تركنا هذه الفعلة وأمر سفينة
__________
(1) هود: 44.

(4/199)


كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

نوح «آية» ، أي: علامة ليُعتبر بها، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وأصله مُدتكِر، فأبدلت التاء دالاً على ما بيَّنّا في قوله: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «1» . قال ابن قتيبة: أصله: مذْتَكِر، فأْدغمت التاء في الذال ثم قُلبت دالاً مشدَّدة. قال المفسرون: والمعنى: هل من متذكِّر يعتبر بذلك؟ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وفي هذه السورة «ونُذُر» ستة مواضع، أثبت الياء فيهن في الحالين يعقوب، تابعه في الوصل ورش، والباقون بحذفها في الحالين. وقوله: «فكيف كان عذابي» استفهام عن تلك الحالة، ومعناه التعظيم لذلك العذاب. قال ابن قتيبة: والنُّذُر هاهنا جمع نذير، وهو بمعنى الإنذار، ومثله النَّكير بمعنى الإنكار. قال المفسرون: وهذا تخويف لمشركي مكة.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ أي سهَّلْناه لِلذِّكْرِ أي للحِفظ والقراءة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي من ذاكرٍ يذكره ويقرؤه والمعنى: هو الحث على قراءته وتعلُّمه، قال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يُقرأ كُلُّه ظاهراً إلاّ القرآن. وأمّا الرِّيح الصَّرصر، فقد ذكرناها في حم السجدة «2» .
قوله تعالى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ قرأ الحسن: «فِي يَوْمِ» بالتنوين، على أن اليوم منعوت بالنَّحْس. والمُستمِّر: الدائم الشؤم، استمر عليهم بنُحوسه. وقال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بذلك اليوم. وقيل: إنه كان يومَ أربعاء في آخر الشهر. تَنْزِعُ النَّاسَ أي: تقلعهُم من الأرض من تحت أقدامهم فتصرعهم على رقابهم فتدُقّ رقابَهم فتُبِين الرّأسَ عن الجسد، ف كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن السميفع: «أعْجُزُ نَخْلٍ» برفع الجيم من غير ألف بعد الجيم. وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وأبو عمران: «كأنَّهم عُجُز نخل» بضم العين والجيم. ومعنى الكلام: كأنهم أصول نَخلٍ مُنْقَعِرٍ أَي: مُنْقَلِع. وقال الفراء: المُنْقَعِر: المُنْصَرِع من النَّخْل. قال ابن قتيبة: يقال: قَعَرْتُه فانْقَعَر، أي قلعته فسقط. قال أبو عبيدة: والنَّخْل يُذَكَّر ويؤنَّث، فهذه الآية على لغة من ذكَّر، وقوله: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «3» على لغة من أنَّث. وقال مقاتل: شبَّههم حين وقعوا من شِدَّة العذاب بالنَّخْل الساقطة التي لا رؤوس لها، وإنما شبَّههم بالنَّخْل لِطُولهم، وكان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعا.

[سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فيه قولان: أحدهما: أنه جمع نذير. وقد بيَّنّا أن من كذَّب نبيّاً واحداً فقد كذَّب الكُلَّ. والثاني: أن النُّذُر بمعنى الإنذار كما بيَّنّا في قوله: «فكيف كان عذابي ونُذُرِ» فكأنهم كذّبوا الإنذار الذي جاءهم به صالح، فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا قال الزجاج: هو منصوب بفعل مُضْمَر والذي ظهر تفسيره، المعنى: أنتبع بَشَراً مِنّا واحِداً، قال المفسرون: قالوا: هو آدميّ مثلنا، وهو
__________
(1) يوسف: 45.
(2) فصلت: 160.
(3) الحاقة: 7.

(4/200)


كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

واحد فلا نكون له تَبَعاً إِنَّا إِذاً إن فعلنا ذلك لَفِي ضَلالٍ أي: خطأٍ وذهاب عن الصواب وَسُعُرٍ قال ابن عباس: أي: جنون. قال ابن قتيبة: هو من تَسَعَّرتِ النّارُ: إذا التَهبتْ، يقال: ناقةٌ مَسْعُورةٌ، أي: كأنها مجنونة من النشاط. وقال غيره: لَفي شقاءٍ وعَناءٍ لأجل ما يلزمنا من طاعته.
ثم أنْكَروا أن يكون الوحي يأتيه فقالوا: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ أي: أَنَزَل الوحيُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي:
كيف خُصَّ من بيننا بالنُّبوَّة والوحي؟! بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ وفيه قولان: أحدهما: أنه المَرِح المتكبِّر، قاله ابن قتيبة. والثاني: البَطِر، قاله الزجاج.
قوله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً قرأ ابن عامر وحمزة: «ستَعلمون» بالتاء «غداً» فيه قولان:
أحدهما: يوم القيامة، قاله ابن السائب. والثاني: عند نزول العذاب بهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ وذلك أنهم سألوا صالحاً أن يُظْهِر لهم ناقةً من صخرة، فقال الله تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ أي: مُخرجوها كما أرادوا فِتْنَةً لَهُمْ أي: مِحنةً واختباراً فَارْتَقِبْهُمْ أي فانتظر ما هم صانعون وَاصْطَبِرْ على ما يُصيبُك من الأذى، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي: بين ثمود وبين الناقة، يوم لها ويوم لهم، فذلك قوله: كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ يحضُرُهُ صاحبُه ويستحقُّه. قوله تعالى:
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ واسمه قُدار بن سالف فَتَعاطى قال ابن قتيبة: تعاطى عَقْر الناقة فَعَقَرَ أي: قتل وقد بيَّنا هذا في الأعراف «1» .
قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم وقد أشرنا إلى قصتهم في هود «2» فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ قال ابن عباس: هو الرجُل يجعل لغنمه حظيرة بالشَّجر والشوك دون السِّباع، فما سقط من ذلك وداسته الغنمُ، فهو الهَشيم. وقد بيَّنا معنى «الهشيم» في الكهف «3» . وقال الزجَّاج: الهَشيم: ما يَبِس من الورق وتكسَّر وتحطَّم، والمعنى: كانوا كالهَشِيم الذي يجمعه صاحبُ الحظيرة بعد أن بلغ الغاية في الجفاف، هو يُجمع لِيوقد. وقرأ الحسن: «المُحتظَرِ» بفتح الظاء، وهو اسم الحظيرة والمعنى: كهشيم المكان الذي يُحتظَر فيه الهشيم من الحطب. وقال سعيد بن جبير: هو التراب الذي يتناثر من الحيطان. وقال قتادة: كالعظام النَّخِرة المحترقة. والمراد من جميع ذلك: أنهم بادوا وهلكوا حتى صاروا كالشيء المتحطّم.

[سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً قال المفسرون: هي الحجارة التي قُذِفوا بها إِلَّا آلَ لُوطٍ يعني لوط وابنتيه نَجَّيْناهُمْ من ذلك العذاب بِسَحَرٍ قال الفراء: «سَحَرٍ» هاهنا يجري لأنه نكرة، كقوله: نجَّيناهم بِلَيْلٍ، فإذا ألقت العرب منه الباء لم يَجر، لأن لفظهم به بالألف واللام، يقولون: ما
__________
(1) الأعراف: 77.
(2) هود: 61.
(3) الكهف: 45. [.....]

(4/201)


وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)

زال عندنا منذُ السَّحَرِ، لا يكادون يقولون غيره، فإذا حذفت منه الألف واللام لم يُصْرَف. وقال الزجاج: إِذا كان السَّحر نكرة يراد به سَحَرٌ من الأسحار، انصرف، فإذا أردتَ سَحَرَ يومِك، لم ينصرف. قوله تعالى: كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ قال مقاتل: من وحدَّ الله تعالى لم يُعَذَّب مع المشركين.
قوله تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي: طلبوا أن يسلِّم إليهم أضيافه، وهم الملائكة فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ وهو أن جبريل ضرب أعيُنَهم بجَناحه فأذهبها. وقد ذكرنا القصة في سورة هود «1» . وتم الكلام هاهنا، ثم قال: فَذُوقُوا أي: فقلنا لقوم لوط لما جاءهم العذاب: ذوقوا عَذابِي وَنُذُرِ أي: ما أنذركم به لوط، وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أي: أتاهم صباحاً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أي: نازل بهم. قال مقاتل:
استقرَّ بهم العذابُ بُكْرةً. قال الفرّاء: والعرب تُجري «غُدوة» و «بُكرة» ولا تُجريهما، وأكثر الكلام في «غُدوة» ترك الإجراء، وأكثر في «بكرة» أن تُجرى، فمن لم يُجرها جعلها معرفة، لأنها اسم يكون أبداً في وقتٍ واحد بمنزلة «أمسِ» و «غدٍ» ، وأكثر ما تُجري العربُ «غُدوةً» إذا قُرنت بعشيَّةٍ، يقولون: إني لآتيهم غُدوةً وعشيَّةً، وبعضهم يقول: «غُدوة» فلا يُجريها و «عشيةً» فيُجريها، ومنهم من لا يُجري «عشيَّة» لكثرة ما صحبت «غُدوةً» . وقال الزجاج: الغُدوة والبُكرة إذا كانتا نكِرتين نُوِّنتا وصُرِفتا، فإذا أردتَ بهما بُكرة يومك وغداة يومك، لم تصرفهما، والبُكرة هاهنا نكِرة، فالصرف أجود، لأنه لم يثبُت رواية في أنه كان في يوم كذا في شهر كذا.

[سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 46]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ يعني القِبْطَ النُّذُرُ فيهم قولان: أحدهما: أنه جمع نذير، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى. والثاني: أن النُّذُر بمعنى الإنذار وقد بيَّناه آنفاً، فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب أَخْذَ عَزِيزٍ أي: غالبٍ في انتقامه مُقْتَدِرٍ قادر على هلاكهم. ثم خوَّف أهل مكة فقال:
أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب خَيْرٌ أي: أشدُّ وأقوى مِنْ أُولئِكُمْ وهذا استفهام معناه الإنكار والمعنى: ليسوا بأقوى من قوم نوح وعاد وثمود، وقد أهلَكْناهم أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ من العذاب أنه لا يصيبكم ما أصابهم فِي الزُّبُرِ أي: في الكُتب المتقدِّمة، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ المعنى: أيقولون:
نحن يدٌ واحدةٌ على مَنْ خالفنا فننتصر منهم؟ وإنما وحَّد المُنْتَصِر للفظ الجميع، فإنه على لفظ «واحد» وإن كان اسماً للجماعة سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وروى أبو حاتم بن يعقوب: «سنهزم» بالنون، «الجمعَ» بالنصب، «وتوّلون» بالتاء، ويعني بالجمع: جمع كفار مكة وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ولم يقل: الأدبار، وكلاهما جائز قال الفراء: مِثلُه أن يقول: إن فلانا لكثير الدِّينار والدِّرهم. وهذا مما أخبر اللهُ به نبيَّه من عِلم الغَيب، فكانت الهزيمة يومَ بدر.
قوله تعالى: وَالسَّاعَةُ أَدْهى قال مقاتل: هي أفظع وَأَمَرُّ من القتل. قال الزجاج: ومعنى الدّاهية: الأمر الشديد الذي لا يُهتدى لدوائه ومعنى «أمَرُّ» : أشَدُّ مرارةً من القَتْل والأسر.
__________
(1) هود: 81.

(4/202)


إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

[سورة القمر (54) : الآيات 47 الى 55]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ في سبب نزولها قولان:
(1376) أحدهما: أن مشركي مكّة جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يُخاصِمونَ في القدَرَ، فنزلت هذه الآية إلى قوله: خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، انفرد بإخراجه مسلم من حديث أبي هريرة.
(1377) وروى أبو أُمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الآية نزلت في القَدَريَّة» .
(1378) والثاني: أن أُسْقُف نَجران جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا محمد تزعُم أن المعاصي بقَدر، وليس كذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنتم خُصَماءُ الله» ، فنزلت: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلى قوله: بِقَدَرٍ، قاله عطاء.
قوله تعالى: وَسُعُرٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الجنون. والثاني: العَناء، وقد ذكرناهما في صدر السورة. والثالث: أنه نار تَسْتَعِرُ عليهم، قاله الضحاك. فأمّا سَقَرَ فقال الزجّاج: هي اسم من أسماء جهنَّم لا ينصرف لأنها معرفة، وهي مؤنَّثة. وقرأت على شيخنا أبي منصور قال: سَقَر: اسم لنار الأخرة أعجميّ، ويقال: بل هو عربيّ، من قولهم: سَقَرَتْه الشمس: إذا أذابته، سمِّيتْ بذلك لأنها تُذيب الأجسام. وروى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
(1379) «إذا جَمَع اللهُ الخلائق يوم القيامة أمر منادياً فنادى نداءً يسمعُه الأوَّلون والآخرون: أين خُصَماءُ اللهِ؟ فتقوم القَدريَّة، فيؤمر بهم إلى النار، يقول الله تعالى: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
وإنما قيل لهم: «خُصَماء الله» لأنهم يُخاصمون في أنه لا يجوز أن يُقَدِّر المعصية على العَبْد ثم يعذِّبه عليها. وروى هشام بن حسان عن الحسن قال: واللهِ لو أنِّ قدريّاً صام حتى يصير كالحَبْل، ثم صلَّى حتى يصير كالوتر، ثم أخذ ظلماً وزُوراً حتى ذُبح بين الرُّكْن والمقام لكَبَّه اللهُ على وجهه في سقر
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2656 والترمذي 2157 و 3290 وابن ماجة 83 والطبري 32834 والبغوي في «شرح السنة» 80 من طرق عن سفيان الثوري من حديث أبي هريرة. وأخرجه الطبري 32833 والواحدي في «الأسباب» 775 من طريقين عن سفيان الثوري به.
ضعيف جدا، أخرجه الواحدي في «الأسباب» 776 من حديث أبي أمامة، وإسناده ضعيف جدا، لأجل عفير بن معدان، فإنه متروك.
باطل، أخرجه الواحدي 777 في «أسبابه» عن بحر السقاء عن شيخ من قريش عن عطاء مرسلا، وهو ضعيف جدا. بحر السقاء واه، وفيه شيخ لم يسمّ، وهو مرسل أيضا والمتن باطل، فالسورة مكية بإجماع، وأخبار اليهود والنصارى وسؤالاتهم مدنية.
لم أقف عليه، وأمارة الوضع لائحة عليه. وورد مختصرا من حديث عمر دون ذكر الآية، أخرجه ابن الجوزي في «العلل» 219 وفيه عنعنة بقية بن الوليد، فهذه علة وفي الإسناد من لم يسمّ.

(4/203)


إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
(1380) وروى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كُلُّ شيء بقدرٍ حتى العَجْزُ والكَيْسُ» .
وقال ابن عباس: كل شيء بقدرٍ حتى وضعُ يدك على خدِّك. وقال الزجّاج: معنى «بقَدَرٍ» أي:
كل شيء خلقناه بقدرٍ مكتوبٍ في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، ونصب «كُلَّ شيءٍ» بفعل مضمر المعنى: إنّا خلقنا كلَّ شيء خلقناه بقَدرٍ.
قوله تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ قال الفراء: أي: إلاّ مرَّة واحدة، وكذلك قال مقاتل: مرَّة واحدة لا مثنوّية لها. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد: إِن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. وقال ابن السائب: المعنى: وما أمرنا بمجيء الساعة في السُّرعة إلاّ كلَمْح البصر. ومعنى اللَّمْح بالبصر: النَّظر بسرعة. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي: أشباهكم ونُظَراءكم في الكُفر من الأمم الماضية فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي مُتَّعظ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ يعني الأمم. وفي الزُّبُرِ قولان: أحدهما: أنه كُتُب الحَفَظة. والثاني: اللَّوح المحفوظ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أي: من الأعمال المتقدِّمة مُسْتَطَرٌ أي:
مكتوب، قال ابن قتيبة: هو «مُفْتَعَلٍ من «سَطَرْتُ» : إذا كتبت، وهو مثل «مَسْطُور» . قوله تعالى: فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ قال الزجّاج: المعنى: في جنّات وأنهار، والاسم الواحد يَدلُّ على الجميع، فيجتزأ به من الجميع. أنشد سيبويه والخليل:
بِها جِيَفُ الْحَسْرَى، فأَمّا عِظامُها ... فَبِيضٌ وأَمّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
يريد: وأمّا جلودها، ومثله:
في حَلْقِكُم عَظْمٌ وقد شجينا
ومثله:
كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُمُ تَعِيشُوا
وحكى ابن قتيبة عن الفراء أنه وُحِّد لأنه رأسُ آية، فقابل بالتوحيد رؤوس الآي، قال: ويقال:
النَّهَر: الضِّياء والسَّعة، من قولك: أنْهَرْتُ الطعنة: إِذا وسَّعْتَها، قال قيس بن الخَطِيم يصف طعنة:
مَلَكْتُ بها كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قائمٌ مِنْ دُونِها ما وراءَها
أي: أوسعتُ فَتْقَها. قلت: وهذا قول الضحاك. وقرأ الأعمش «ونُهُرٍ» .
قوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي: مَجلِس حسن وقد نبَّهْنا على هذا المعنى في قوله: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ «1» . فأمّا المَلِيك، فقال الخطابي: المَلِيك: هو المالك، وبناء فَعِيل للمُبالغة في الوصف، ويكون المَلِيك بمعنى المَلِك، ومنه هذه الآية. والمُقْتَدِر مشروح في الكهف «2» .
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2655 والبخاري في «خلق أفعال العباد» 73 وأحمد 2/ 110 وابن حبان 6149 من طرق عن مالك به من حديث ابن عمر. وأخرجه مالك 2/ 899 في «الموطأ» عن زياد بن سعد به. وأخرجه البغوي في «شرح السنة» 72 عن أبي مصعب عن مالك به.
__________
(1) يونس: 2.
(2) الكهف: 45.

(4/204)


الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

سورة الرّحمن
وفي نزولها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن وعطاء ومقاتل والجمهور، إلّا أنّ ابن عباس قال: سوى آية، وهي قوله: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» . والثاني: أنها مدنيّة، رواه عطية عن ابن عباس. وبه قال ابن مسعود.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
قوله عزّ وجلّ: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ. قال مقاتل:
(1381) لمّا نزل قوله: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ «2» ، قال كُفّار مكَّةَ: وما الرَّحْمنُ؟! فأَنكروه وقالوا: لا نَعرِفُ الرحْمنَ، فقال تعالى: «الرَّحْمنُ» الذي أَنكروه هو الذي «علَّم القُرآنَ» .
وفي قوله: عَلَّمَ الْقُرْآنَ قولان «3» : أحدهما: علّمه محمّدا، وعلّمه محمدٌ أُمَّته، قاله ابن السائب. والثاني: يسَّر القرآن، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: خَلَقَ الْإِنْسانَ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اسم جنس، فالمعنى: خلق الإنسان جميعاً، قاله الأكثرون. فعلى هذا، في «البيان» ستة أقوال: أحدها: النُّطق والتَّمييز، قاله الحسن. والثاني: الحلال والحرام، قاله قتادة. والثالث: ما يقول وما يُقال له، قاله محمد بن كعب. والرابع: الخير والشر، قاله الضحاك. والخامس: طرق
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، والخبر منكر جدا، أمارة الوضع لائحة عليه.
__________
(1) الرحمن: 29.
(2) الفرقان: 60.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 572: يقول تعالى ذكره: الرحمن أيها الناس برحمته إياكم علمكم القرآن، فأنعم بذلك عليكم إذ بصّركم به ما فيه رضا ربكم، وعرّفكم ما فيه سخطه، لتطيعوه باتباعكم ما يرضيه عنكم، وعملكم بما أمركم به، وبتجنبكم ما يسخطه عليكم، فتستوجبوا بذلك جزيل ثوابه، وتنجوا من أليم عقابه.

(4/205)


الهُدى، قاله ابن جريج. والسادس: الكتابة والخط، قاله يمان.
والثاني: أنه آدم، قاله ابن عباس، وقتادة. فعلى هذا في «البيان» ثلاثة أقوال: أحدها: أسماء كل شيء. والثاني: بيان كل شيء. والثالث: اللّغات.
والقول الثالث: أنه محمّد صلّى الله عليه وسلم، علّمه بيان كلّ شيء ما كان وما يكون، قاله ابن كيسان.
قوله عزّ وجلّ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي: بحساب ومنازل، لا يعدوانها، قاله ابن عباس وقتادة وأبو مالك وقد كشَفْنا هذا المعنى في الأنعام «1» . قال الأخفش: أضمر الخبر، وأظُنُّه- والله أعلَمُ- أراد: يَجريان بحُسبان. قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ في النَّجْم قولان: أحدهما: أنه كُلُّ نَبْتٍ ليس له ساق، وهو مذهب ابن عباس، والسدي، ومقاتل، واللُّغويين. والثاني: أنه نَجْم السَّماء، والمُراد به: جميعُ النُّجوم، قاله مجاهد. فأمّا الشّجر: فكلّ ماله ساق. قال الفراء: سُجودهما:
أنَّهما يستقبِلان الشمسَ إذا أشرقت، ثم يَميلان معها حتى ينكسر الفيء. وقد أشرت في النحل «2» إلى معنى سُجود ما لا يَعْقِل. قال أبو عبيدة: وإنّما ثني فعلهما على لفظهما.
قوله عزّ وجلّ: وَالسَّماءَ رَفَعَها وإنما فعل ذلك ليحيا الحيوان وتمتدّ الأنفاس بينها وبين الأرض، وأجرى الرِّيح بينها وبين الأرض، كيما يتروحَ الخَلق. ولولا ذلك لماتت الخلائق كَرْباً..
قوله عزّ وجلّ: وَوَضَعَ الْمِيزانَ فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه العَدْل، قاله الأكثرون، منهم مجاهد والسدي واللغويون. قال الزجّاج: وهذا لأن المعادلة: مُوازَنة الأشياء. والثاني: أنه الميزان المعروف، ليتناصف الناس في الحقوق، قاله الحسن، وقتادة، والضحاك. والثالث: أنه القرآن، قاله الحسن بن الفضل.
قوله عزّ وجلّ: أَلَّا تَطْغَوْا ذكر الزجّاج في «أنْ» وجهين: أحدهما: أنها بمعنى اللام والمعنى: لئلاّ تَطْغَوْا. والثاني: أنها للتفسير، فتكون «لا» للنهي والمعنى أي لا تطغوا، أي لا تجاوزوا العدل. قوله عزّ وجلّ: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ قال ابن قتيبة، أي: لا تنقصوا الوزن.
فأمّا الأنام، ففيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الناس، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: كل ذي رُوح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدي، والفراء.
والثالث: الإنس والجن، قاله الحسن، والزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: فِيها فاكِهَةٌ أي: ما يُتفكَّه به من ألوان الثمار وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ والأكمام: الأوعية والغُلُف وقد استوفينا شرح هذا في حم السّجدة «3» .
قوله عزّ وجلّ وَالْحَبُّ يريد: جميع الحبوب، كالبُر والشعير وغير ذلك. وقرأ ابن عامر:
«والحَبَّ» بنصب الباء «ذا العصف» بالألف «والرَّيْحانَ» بنصب النون. وقرأ حمزة، والكسائي إلاّ ابن أبي سُريج، وخلف: «والحَبُّ ذو العَصْفِ والرَّيْحانِ» بخفض النون وقرأ الباقون بضم النون.
وفي «العَصفْ» قولان: أحدهما: أنه تِبن الزَّرع وورقه الذي تعصفه الرِّياح، قاله ابن عباس.
__________
(1) الأنعام: 96.
(2) النحل: 49.
(3) فصلت: 47.

(4/206)


خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)

وكذلك قال مجاهد: هو ورق الزَّرع. قال ابن قتيبة: العَصْف: ورق الزَّرع، ثم يصير إذا جفَّ ويبِس ودِيس تبناً. والثاني: أن العَصْف: المأكول من الحبِّ، حكاه الفراء.
وفي «الرّيحان» أربعة أقوال: أحدها: أنه الورق، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي. قال الفراء: الرّيحان في كلام العرب: الرّزق، يقولون: خرجنا طلب رَيْحان الله، وأنشد الزجاج للَّنمِر بن تَوْلب:
سلامُ الإلهِ ورَيْحانُه ... ورَحْمَتُه وسَماءٌ دِرَرْ
والثاني: خُضرة الزَّرع، رواه الوالبي عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدمشقي: فعلى هذا سُمِّي رَيْحاناً، لاستراحة النَّفْس بالنظر إِليه. والثالث: أنه رَيحانكم هذا الذي يُشَمُّ، روى العوفي عن ابن عباس قال: «الرَّيْحان» : ما أَنبتت الأرضُ من الرَّيْحان، وهذا مذهب الحسن والضحاك وابن زيد. والرابع: أنه ما لم يؤكل من الحَبّ، والعَصْف: المأكول منه، حكاه الفراء.
قوله عز وجل: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن قيل: كيف خاطب اثنين، وإنما ذكر الإنسان وحده؟ فعنه جوابان ذكرهما الفراء: أحدهما: أن العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين كما بيَّنّا في قوله:
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ «1» . والثاني: أن الذِّكر أريد به: الإنسان والجانّ، فجرى مجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها. قال الزجاج: لمّا ذكر اللهُ تعالى في هذه السورة ما يدُلُّ على وحدانيته من خَلْق الإنسان وتعليم البيان وخَلْق الشمس والقمر والسماء والأرض، خاطب الجنّ والإنس، فقال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي: فبأيِّ نِعَم ربِّكما تُكذِّبان من هذه الأشياء المذكورة، لأنها كلَّها مُنْعَم بها عليكم في دلالتها إيّاكم على وحدانيَّته وفي رزقه إيّاكم ما به قِوامكم. وقال ابن قتيبة: الآلاء: النِّعم، واحدها: ألا، مثل: قفا، وإلا، مثل: معى.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 25]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
قوله عزّ وجلّ: خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني آدم مِنْ صَلْصالٍ قد ذكرنا في الحجر «2» الصَلْصال والجانَّ. فأمّا قوله: كَالْفَخَّارِ فقال أبو عبيدة: خُلق من طينٍ يابس لم يُطْبَخ، فله صوتٌ إذا نُقِر، فهو من يابسه كالفخّار. والفخّار: ما طبخ بالنّار. وأمّا المارِج، فقال ابن عباس: هو لسان النار الذي يكون في طرفها إِذا التهبت. وقال مجاهد: هو المختلِط بعضُه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أُوقِدَتْ. وقال مقاتل: هو لهب النار الصافي من غير دخان. وقال أبو عبيدة: المارج: خَلْط من النار. وقال ابن قتيبة: المارج: لهب النار، من قولك: قد مَرِجَ الشيءُ: إذا اضطرب ولم يستقرّ. وقال الزجاج: هو اللهب المختلط بسواد النّار. وإن قيل قد أخبر الله تعالى عن
__________
(1) ق: 24.
(2) الحجر: 26- 27.

(4/207)


خَلْق آدم عليه السلام بألفاظ مختلفة، فتارة يقول: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ «1» ، وتارة: «مِن صَلْصالٍ» ، وتارة: «مِنْ طِينٍ لازِبٍ» «2» ، وتارة: «كالفخّار» ، وتارة: «من حمأ مسنون» «3» فالجواب: أن الأصل التراب فجُعل طيناً، ثم صار كالحمإِ المسنون، ثم صار صَلصالاً كالفَخّار، فهذه أخبار عن حالات أصله. فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله: «فبأيِّ آلاء ربِّكما تُكذِّبانِ» الجواب أن ذلك التكرير لتقرير النِّعم وتأكيد التذكير بها. قال ابن قتيبة: من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز لأن افتنان المتكلّم والخطيب في الفنون أحسن من اختصاره في المقام على فنٍّ واحدٍ، يقول القائل: واللهِ لا أفعله، ثم واللهِ لا أفعله، إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع مِنْ أنْ يفعله، كما تقول: واللهِ أفعلُه، بإضمار «لا» إذا أراد الاختصار، ويقول القائل للمستعجل: اعْجَل اعْجَل، وللرامي: ارمِ ارمِ، قال الشاعر:
كَمْ نِعْمَةٍ كانَتْ له وَكمْ وَكمْ
وقال الآخر:
هلا سألت جموع كندة ... يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنا «4»
وربَّما جاءت الصِّفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانيةً لأنها كلمة واحدةٌ، فغيَّروا منها حرفاً ثم أتبعوها الأولى، كقولهم، عَطْشَانُ نَطْشَان، وشَيطان لَيْطان، وحَسَنٌ بَسَنٌ. قال ابن دريد: ومن الإتباع: جائع نائع، ومليح قريح، وقبيح شَقِيح، وشَحيح نَحيح، وخبيث نبيث، وكثير نثير، وسيِّغ لَيِّغ، وسائغ لائغ، وحَقير نَقير، وضَئيل بئيل، وخضر مضر، وعقريب نقريب، وثِقَةٌ نِقَةٌ، وكِنٌّ إنٌّ، وواحدٌ فاحدٌ، وحائرٌ بائر، وسمج لمج. قال ابن قتيبة: فلمّا عَدَّد اللهُ تعالى في هذه السورة نعماءَه، وأذكَرَ عِبَادَه آلاءَه، ونبَّههم على قُدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل نِعمتين، ليُفَهِّمهم النِّعم ويُقَرِّرهم بها، كقولك للرجل: أَلم أُبَوِّئْكَ مَنْزِلاً وكنتَ طريداً؟ أفتُنْكِرُ هذا؟ ألم أحُجَّ بك وأنت صَرُورَةٌ؟
أفَتُنْكِرُ هذا؟.
(1382) وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا
__________
ضعيف. أخرجه الترمذي 3291 والحاكم 3766 من طريق عبد الرحمن بن واقد عن الوليد بن مسلم حدثنا زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر به. وإسناده واه، زهير منكر الحديث في رواية أهل الشام عنه، وصححه الحاكم على شرطهما ووافقه الذهبي. وأخرجه الحاكم 3766 وابن عدي 3/ 219 وأبو الشيخ في «العظمة» 1123 والواحدي في «الوسيط» 4/ 219 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 232 من طريق هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم بالإسناد السابق. وأخرجه البيهقي 2/ 232 من طريق مروان بن محمد قال: حدثنا زهير بن محمد به. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد. قال ابن حنبل: كأن زهير بن محمد الذي وقع بالشام ليس هو الذي يروى عنه بالعراق كأنه رجل آخر قلبوا اسمه.
يعني لما يروون عنه من المناكير. وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة اه. وله شاهد من حديث ابن عمر: أخرجه البزار
__________
(1) آل عمران: 59.
(2) الصافات: 11.
(3) الحجر: 29. [.....]
(4) البيت للشاعر عبيد بن الأبرص ديوانه: ص 142 والشعر والشعراء: 1/ 224.

(4/208)


رسول الله صلّى الله عليه وسلم سورة الرّحمن حتى ختمها ثم قال: «ما لي أراكم سكوتاً؟! لَلْجِنُّ كانوا أحسنَ منكم ردّاً، ما قرأتُ عليهم هذه الآية من مَرَّة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إِلاّ قالوا: ولا بشيء من نِعمك ربَّنا نكذِّب فلك الحمد» .
قوله عزّ وجلّ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ قرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة: «ربِّ المشْرِقَيْن وربِّ المَغْرِبَيْن» بالخفض، وهما مَشْرِق الصَّيف ومَشْرِق الشتاء ومَغْرِب الصَّيف ومَغْرِب الشتاء للشمس والقمر جميعاً.
قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي: أرسل العذبَ والمِلْحَ وخلاهما وجعلهما يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي: حاجز من قدرة الله تعالى لا يَبْغِيانِ أي: لا يختلطان. فيبغي أحدهما على الآخر. وقال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كلَّ عام. وقال الحسين: «مَرَجَ البحرين» يعني بحر فارس والروم، بينهما برزخ، يعني الجزائر وقد سبق بيان هذا في الفرقان «1» . قوله عزّ وجلّ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ قال الزجاج: إنما يخرُج من البحر المِلْحِ، وإنما جمعهما، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد أُخرج منهما، ومثله وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «2» . وقال أبو علي الفارسي: أراد: يخرُج من أحدهما، فحذف المضاف. وقال ابن جرير: إنما قال «منهما» لأنه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء. فأمّا اللُّؤلؤ والمرجان، ففيهما قولان: أحدهما: أن المرجان: ما صَغُر من اللُّؤلؤ، واللُّؤلؤ:
العظام، قاله الأكثرون، منهم ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والفراء. وقال الزجاج: اللُّؤلؤ: اسم جامع للحَبِّ الذي يخرج من البحر، والمرجان: صِغاره. والثاني: أن اللُّؤلؤ: الصِّغار، والمرجان:
الكبار، قاله مجاهد، والسدي، ومقاتل. قال ابن عباس: إذا أمطرت السماء، فتحت الأصدافُ أفواهها، فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ وقال ابن جريج. حيث وقعت قطرةٌ كانت لؤلؤة. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللُّغويّ قال: ذكر بعضُ أهل اللُّغة أن المَرجان أعجميّ معرَّب. قال أبو بكر،
__________
2269 من طريق عمرو بن مالك البصري عن يحيى بن سليم الطائفي عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر مرفوعا. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» 4/ 301 والطبري 32928 من طريق محمد بن عباد بن موسى عن يحيى بن سليم الطائفي به. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 118: رواه البزار عن شيخه عمرو بن مالك الراسبي، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. قلت: جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه، وقال الذهبي في «الميزان» 3/ 285 ضعفه أبو يعلى، وقال ابن عدي: يسرق الحديث، وتركه أبو زرعة وذكره ابن حبان في الثقات اه والظاهر أن ابن حبان ما عرفه. وتابعه محمد بن عباد بن موسى عند الطبري والخطيب كما تقدم، ومحمد هذا ضعيف، والظاهر أنه سرقه من عمرو بن مالك. وقال ابن عدي 3/ 219: هذا حديث لا يعرف إلا بهشام بن عمار، وقد سرقه جماعة من الضعفاء ذكر منهم في كتابي هذا، فحدثوا به عن الوليد وهم سليمان بن أحمد الواسطي وعلي بن جميل السرّقي وعمرو بن مالك البصري وبركة بن محمد الحلبي، والحديث، فهشام. أي عن الوليد عن زهير بن محمد وبه يعرف.
تنبيه: ولم يتنبه الألباني إلى هذا الوارد عن ابن عدي، فجعل حديث ابن عمر شاهدا لحديث جابر فحكم بحسنه في «الصحيحة» 2150 والصواب أنه غير شاهد وإنما سرقه عمرو بن مالك وغيره وركبوا له هذا الإسناد عن ابن عمر ولو كان كذلك لرواه الأئمة الثقات، ولكن كل ذلك لم يكن، والمتن منكر فمتى كان الجن أحسن فهما من الصحابة؟!! كما هو مدلول هذا الخبر.
__________
(1) الفرقان: 53.
(2) نوح: 16.

(4/209)


كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

يعني ابن دريد: ولم أسمع فيه بفعل منصرف، وأَحْرِ به أن يكون كذلك. قال ابن مسعود: المرجان:
الخرز الأحمر. وقال الزجاج: المَرجان أبيض شديد البياض. وحكى القاضي أبو يعلى أن المرجان:
ضرب من اللُّؤلؤ كالقضبان.
قوله عزّ وجلّ: وَلَهُ الْجَوارِ يعني السفن الْمُنْشَآتُ قال مجاهد: هو ما قد رُفع قِلْعه من السفن دون ما لم يرفع قلعه، القلع مكسور القاف. وقال ابن قتيبة: هنّ اللواتي أنشئن، أي: ابتدئ بهنَّ فِي الْبَحْرِ، وقرأ حمزة: «المُنْشِئاتُ» ، فجعلهن اللواتي ابتدأن، يقال: أنشأت السحابةُ تُمطر: إذا ابتدأتْ، وأنشأ الشاعُر يقول. والأعلام: الجبال، وقد سبق هذا «1» .

[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 30]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
قوله عزّ وجلّ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ أي: على الأرض، وهي كناية عن غير مذكور، «فانٍ» أي هالكٌ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي: ويبقى ربُّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ قال أبو سليمان الخطابي: الجلال:
مصدر الجليل، يقال: جليل بَيِّن الجلالة والجلال. والإكرام: مصدر أكرمَ يُكْرِم إكراما والمعنى أنه يكرم أهل ولايته وأنّ الله مستحقّ أن يجلّ ويكرم، ولا يجحدونه ولا يكفروا به وقد يحتمل أن يكون المعنى: أنه يُكرم أهلَ ولايته ويرفع درجاتهم وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين- وهو الجلال- مضافاً إلى الله تعالى بمعنى الصفة له، والآخر مضافاً إلى العبد بمعنى الفعل منه، كقوله تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فانصرف أحد الأمرين إلى الله تعالى وهو المغفرة، والآخر إلى العباد وهو التقوى.
قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ المعنى أن الكل يحتاجون إليه فيسألونه وهو غنيٌّ عنهم كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ مثل أن يُحيي ويُميت، ويُعِزّ ويُذِلّ، ويشفي مريضاً، ويُعطي سائلاً، إلى غير ذلك من أفعاله. وقال الحسين بن الفضيل: هو سَوق المقادير إِلى المواقيت.
(1383) قال مقاتل: وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالت: إن الله لا يقضي في يوم السبت شيئاً، فنزلت: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.
(1384) عن عبد الله بن منيب «2» عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لمّا سئل عن ذاك الشأن: «يغفر ذنبا
__________
باطل، عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يصنع الحديث، والمتن باطل. وانظر ما بعده.
أخرجه الطبري 3312 والبزار 2266 «كشف» وأبو الشيخ 1510 من حديث عبد الله بن منيب، وإسناده ضعيف، فيه عمرو بن بكر السكسكي وهو ضعيف متروك. وله شاهد أخرجه ابن ماجة 202 وابن أبي عاصم في «السنة» 301 وابن حبان 689 والبزار 2267 «كشف» وأبو الشيخ 150 والديلمي 4775 والبيهقي في «الصفات» ص 98 وأبو نعيم 5/ 252 من حديث أبي الدرداء. ومداره على الوزير ابن صبيح، وهو لين الحديث ومن وجه آخر أخرجه ابن الجوزي في «العلل» 24 وفيه الوليد بن مسلم وهو مدلس. وقد عنعن.
وصوب الدارقطني الوقف فيما نقل عنه ابن الجوزي. وكذا جعله البخاري من كلام أبي الدرداء. انظر «الفتح» 8/ 490، ومع ذلك صححه الألباني في «تخريج» السنة 301/ 130 فالله أعلم.
__________
(1) الشورى: 32.
(2) تصحف في الأصل «حبيب» .

(4/210)


سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)

ويفرّج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين» .

[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 36]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
قوله عزّ وجلّ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «سنَفْرُغُ» بنون مفتوحة. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وعبد الوارث: «سيَفْرُغُ» بياءٍ مفتوحة. وقرأ ابن السّميفع، وابن يعمر، وأبو عبيدة، وعاصم الجحدري والحلبيّ عن عبد الوارث:
«سيُفْرَغُ» بضم الياء وفتح الراء. قال الفراء: هذا وعيد من الله تعالى، لأنه لا يشغَله شيء عن شيء، تقول للرجل الذي لا شغل له: قد فرغتَ لي، قد فرغت تشتمني؟! أي: قد أخذت في هذا وأقبلت عليه؟ وقال الزجاج: الفراغ في اللغة على ضربين. أحدهما: الفراغ من شغل. والآخر: القصد للشيء، تقول: قد فرغتُ مما كنتُ فيه، أي: قد زال شغلي به، وتقول: سأتفرَّغ لفلان، أي: سأجعله قصدي، ومعنى الآية: سنَقْصُد لحسابكم. فأمّا «الثَّقَلان» فهما الجن والإنس، سُمِّيا بذلك لأنهما ثقل الأرض.
قوله عزّ وجلّ: أَنْ تَنْفُذُوا أي: تخرُجوا يقال: نفذ الشيء من الشيء: إذا خَلَص منه، كالسهم ينفُذ من الرَّمِيَّة والأقطار: النواحي والجوانب وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إِن استطعتم أن تعلَموا ما في السموات والأرض فاعلَموا، قاله ابن عباس. والثاني: إن استطعتم أن تهرُبوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهرُبوا واخرُجوا منها والمراد: أنكم حيثما كنتم أدرككم الموت، هذا قول الضحاك ومقاتل في آخرين. والثالث: إن استطعتم أن تَجُوزوا أطراف السموات والأرض فتُعجِزوا ربَّكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا وإنما يقال لهم هذا يوم القيامة، ذكره ابن جرير. قوله عزّ وجلّ: لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تنفذون إِلا في سلطان الله عزّ وجلّ، لأنه مالك كل شيء، قاله ابن عباس. والثاني: لا تنفذون إِلاّ بحُجَّة، قاله مجاهد.
والثالث: لا تنفُذون إِلا بمُلك، وليس لكم ملك، قاله قتادة.
قوله عزّ وجلّ: يُرْسَلُ عَلَيْكُما فثنَّى على اللفظ. وقد جمع في قوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ على المعنى. فأمّا «الشُّواظ» ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لهب النار، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع من النار. والثاني: الدُّخان، قاله سعيد بن جبير. والثالث: النار المحضة، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: هي النار التي تأجّج لا دخان فيها، ويقال: شواط وشِواظ. وقرأ ابن كثير بكسر الشين وقرأ أيضاً هو وأهل البصرة: «ونُحاسٍ» بالخفض، والباقون برفعها. وفي «النُّحاس» قولان:
أحدهما: أنه دخان النار، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير والفراء وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج، ومنه قول الجعديّ يذكر امرأة:
تضيء كضوء سراج السّليط ... لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فيه نُحاسا
وذكر الفراء في السَّليط ثلاثة أقوال: أحدها: أنه دُهن السَّنام، وليس له دخان إِذا استُصبح به.
والثاني: أنه دهن السّمسم. والثالث: أنه الزّيت. والقول الثاني: أنه الصُّفْر المُذاب يُصَبُّ على

(4/211)


فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

رؤوسهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة. قال مقاتل: والمراد بالآية: كفار الجن والإنس، يرسل عليهما في الآخرة لهب النار والصُّفْر الذائب، وهي خمسة أنهار تجري على رؤوس أهل النّار، ثلاثة أنهار من تحت العرش على مقدار الليل، ونهران على مقدار أنهار الدنيا، فَلا تَنْتَصِرانِ أي: فلا تمتنعان من ذلك «1» .

[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
قوله تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي: انفرجتْ من المجرَّة لنُزول مَنْ فيها يومَ القيامة فَكانَتْ وَرْدَةً وفيها قولان: أحدهما: كلَوْن الفرس الوردة، قاله أبو صالح، والضحاك. وقال الفراء: الفرس الوردة، تكون في الربيع وردة إِلى الصُّفرة، فإذا اشتد الحر كانت وردة حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة، فشبّه تلوّن السماء بتلوّن الوردة من الخيل وكذلك قال الزّجّاج: «فكانت وردة» كلون فرس وردة، والكُميت: الورد يتلوَّن، فيكون لونه في الشتاء خلاف لونه في الصيف، ولونه في الصيف خلاف لونه في الشتاء، والسماء تتلوَّن من الفزع الأكبر. وقال ابن قتيبة: المعنى: فكانت حمراء في لون الفرس الورد. والثاني: أنها وردة النبات وقد تختلف ألوانها، إلا أن الأغلب عليها الحمرة، ذكره الماوردي. وفي الدِّهان قولان: أحدهما: أنه واحد، وهو الأديم الأحمر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه جمع دُهن، والدُّهن تختلف ألوانه بخُضرة وحُمرة وصُفرة، حكاه اليزيدي، وإلى نحوه ذهب مجاهد، وقال الفراء: شبّه تلوُّن السماء بتلوُّن الوردة من الخيل، وشبّه الوردة في اختلاف ألوانها بالدّهن.
قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يسألون ليُعلم حالهم، لأن الله تعالى أعلم منهم بذلك. والثاني: لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله لاشتغال كل واحد منهم بنفسه، روي القولان عن ابن عباس. والثالث: لا يُسألون عن ذنوبهم لأنهم يُعرفون بسيماهم، فالكافر أسود الوجه، والمؤمن أغر الوجه محجَّل من أثر وضوئه، قاله الفراء. قال الزجاج: لا يُسأل أحد عن ذنْبه ليُستفهم، ولكنه يسأل سؤال توبيخ وتقريع.
قوله عزّ وجلّ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ قال الحسن: بسواد الوجوه، وزَرَق الأعيُن فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ فيه قولان: أحدهما: أن خزنة جهنم تجمع بين نواصيهم إلى أقدامهم من وراء ظُهورهم ثم يدفعونهم على وجوههم في النار، قاله مقاتل. والثاني: يؤخذ بالنَّواصي والأقدام فيُسحبون إلى النار، ذكره الثعلبي. وروى مردويه الصائغ، قال: صلّى بنا الإمام صلاة الصبح فقرأ سورة «الرحمن» ومعنا علي بن الفضيل بن عياض، فلمّا قرأ «يُعْرَفُ المُجْرِمون بسِيماهم» خَرَّ عليٌّ مغشيّاً عليه حتى فرغنا من الصلاة، فلمْا كان بعد ذلك قلنا له: أما سمعتَ الإمام يقرأ «حور مقصورات في الخيام» ؟ قال:
__________
(1) هذا الخبر من مناكير مقاتل وأباطيله، وإنما هو التحدي في الدنيا.

(4/212)


وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)

شغلني عنها «يُعْرَفُ المُجْرِمون بسِيماهم فيؤخذ بالنَّواصي والأقدام» .
قوله عزّ وجلّ: هذِهِ جَهَنَّمُ أي يقال لهم: هذه جهنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يعني المشركين يَطُوفُونَ بَيْنَها وقرأ أبو العالية وأبو عمران الجوني: «يُطَوِّفون» بياءٍ مضمومة مع تشديد الواو، وقرأ الأعمش مثله إلّا أنه بالتاء. قوله عزّ وجلّ وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ قال ابن قتيبة: الحميم: الماء الحارّ، والآني: الذي قد انتهت شِدَّة حَرِّه. قال المفسرون: المعنى أنهم يسعَون بين عذاب الحميم وبين عذاب الجحيم، إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 53]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53)
قوله عزّ وجلّ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فيه قولان: أحدهما: قيامه بين يدي الله عزّ وجلّ يوم الجزاء. والثاني: قيام الله على عبده بإحصاء ما اكتسبه. وجاء في التفسير، أن العبد يهُمُّ بمعصية فيتركها خوفا من الله عزّ وجلّ فله جنَّتان، وهما بستانان ذَواتا أَفْنانٍ فيه قولان: أحدهما: أنها الأغصان، وهي جمع فَنَن، وهو الغُصن المستقيم طولاً، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعطية، والفراء، والزجاج.
والثاني: أنها الألوان والضّروب من كلّ شيء، وهي جمع فنّ، وهذا قول سعيد بن جبير. وقال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة. وجمع عطاء بين القولين، فقال: في كل غصن فُنون من الفاكهة.
قوله تعالى: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ قال ابن عباس: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: السلسبيل، والأخرى: التسنيم. وقال عطية: إحداهما: من ماءٍ غير آسن، والأخرى: من خمر. وقال أبو بكر الورّاق: فيهما عينان تجريان لِمَن كانت له في الدنيا عينان تَجْرِيان من البكاء.
قوله عزّ وجلّ: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أي: صنفان ونوعان. قال المفسرون: فيهما من كل ما يُتفكَّه به نوعان، رطب ويابس، لا يقصر أحدهما عن الآخر في فضله.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 54 الى 61]
مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
مُتَّكِئِينَ هذا حال المذكورين عَلى فُرُشٍ جمع فِراش بَطائِنُها جمع بِطانة، وهي التي تحت الظِّهارة. وقال أبو هريرة: هذه البطائن، فما ظنُّكم بالظهائر؟! وقال ابن عباس: إنما ترك وصف الظواهر، لأنه ليس أحدٌ يعلم ما هي. وقال قتادة: البطائن: هي الظواهر بلُغة قوم. وكان الفراء يقول:
قد تكون البطانة ظاهرة، والظّهارة باطنة، لأن كل واحد منهما قد يكون وجهاً، والعرب تقول: هذا ظَهْرُ السماءِ، وهذا بَطْنُ السماء، لظاهرها، وهو الذي تراه، وقال ابن الزبير يَعيب قَتَلة عثمان: خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كلّ قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب. يعني هربوا ليلاً فجعلوا ظهور الكواكب بطوناً، وذلك جائز في العربيَّة. وأنكر هذا القول ابن قتيبة جداً، وقال:

(4/213)


إنما أراد الله أن يعرِّفنا- من حيث نَفهم- فضلَ هذه الفُرش وأن ما وليَ الأرض منها إستَبْرَقٌ، وإذا كانت البِطانة كذلك، فالظِّهارةُ أعلى وأشرفُ. وهل يجوز لأحد أن يقول لوجهِ مصَلٍّ: هذا بِطانتُه، ولِما وَلِيَ الأرض منه: هذا بطانته؟! وإنما يجوز هذا في ذي الوجهين المتساويين، تقول لِما وَلِيَك من الحائط:
هذا ظَهْرُ الحائط، ويقول جارك لِما وَلِيَه: هذا ظَهْرُ الحائط، وكذلك السماء ما ولينا منها: ظَهْر، وهي لِمَن فَوْقَها: بَطْن. وقد ذكرنا الإستبرق في سورة الكهف «1» .
قوله عزّ وجلّ: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ قال أبو عبيدة: أي: ما يُجتنى قريبٌ لا يُعَنِّي الجانِيَ.
قوله عزّ وجلّ فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ قد شرحناه في الصافات «2» . وفي قوله: «فِيهِنَّ» قولان:
أحدهما: أنها تعود إلى الجَنَّتَين وغيرهما مما أُعدَّ لصاحب هذه القِصَّة، قاله الزجاج. والثاني: أنها تعود إلى الفُرُش، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ قرأ الكسائي بضم الميم، والباقون بكسرها، وهما لغتان: يَطْمِثُ ويَطْمُثُ، مثل يَعْكِفُ ويعكف. وفي معناه قولان: أحدهما: لم يفتضّهنّ والطَّمْثُ: النِّكاح بالتَّدمية، ومنه قيل للحائض: طامِثٌ، قاله الفراء. والثاني: لَمْ يَمْسَسْهُنَّ يقال: ما طَمَثَ هذا البعيرَ حَبْلٌ قَطٌ، أي: ما مسَّه، قاله أبو عبيدة. قال مقاتل: وذلك لأنهنَّ خُلِقْنَ من الجَنَّة فعلى قوله، هذا صفة الحُور.
وقال الشعبي: هُنَّ من نساء الدنيا لَمْ يَمْسَسْهُنَّ مذ أُنشئن خَلْقٌ. وفي الآية دليل على أن الجِنِّيَّ يَغْشَى المرأة كالإنسيّ.
قوله عزّ وجلّ: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ قال قتادة: هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المَرْجان.
وذكر الزجاج أن أهل التفسير وأهل اللغة قالوا: هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المَرْجان، والمَرْجان:
صِغار اللؤلؤ، وهو أشدُّ بياضاً. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: «الياقوت» فارسيٌّ معرَّب، والجمع «اليواقيت» ، وقد تكلَّمت به العربُ، قال مالكُ بن نُوَيْرَةَ اليَرْبُوعيّ:
لَنْ يُذْهِبَ اللُّؤْمَ تاجٌ قَدْ حُبِيتَ بِهِ ... مِنَ الزَّبَرْجَدِ والياقوتِ والذَّهَبِ
قوله عزّ وجلّ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ قال الزجاج، أي: ما جزاءُ مَنْ أحسنَ في الدُّنيا إلاّ أن يُحسَنَ إِليه في الآخرة. وقال ابن عباس: هل جزاءُ من قال: «لا إِله إِلاّ اللهُ» وعَمِل بما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلم إلاّ الجنة. وروى أنس بن مالك قال:
(1385) قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية، وقال: «هل تدرون ما قال ربُّكم» ؟ قالوا: اللهُ ورسُوله أعلمُ، قال: «فإن ربَّكم يقول: هل جزاءُ مَنْ أنْعَمْنا عليه بالتوحيد إلّا الجنّة» ؟!
__________
ضعيف. أخرجه البغوي 2094 من حديث أنس، وفي إسناده بشر بن الحسين، وهو منكر الحديث كما قال البخاري وغيره، لكن له شاهد أمثل منه إسنادا. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 227 من طريق إسحاق بن إبراهيم بن بهرام بهذا الإسناد. وأخرجه أبو نعيم في «تاريخ أصفهان» 1/ 233 من طريق الحجاج بن يوسف به. وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه البيهقي في «الشعب» 427 وإسناده ضعيف لضعف إبراهيم بن محمد الكوفي، وبه أعلّه البيهقي حيث قال عنه: منكر.
__________
(1) الكهف: 31.
(2) الصافات: 48.

(4/214)


وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
قوله تعالى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ قال الزجاج: المعنى: ولِمَن خاف مقام ربِّه جنَّتان، وله مِن دونهما جنَّتان. وفي قوله: «ومِنْ دونِهما» قولان: أحدهما: دونهما في الدَّرج، قاله ابن عباس.
والثاني: دونهما في الفضل، كما روى أبو موسى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
(1386) «جنَّتان من ذهب وجنَّتان من فضة» وإلى نحو هذا ذهب ابن زيد، ومقاتل.
قوله تعالى: مُدْهامَّتانِ قال ابن عباس وابن الزبير: خضراوان من الرِّيّ. وقال أبو عبيدة: من خُضرتهما قد اسودَّتا. قال الزجاج: يعني أنهما خضراوان تضرب خضرتُهما إلى السَّواد، وكل نبت أخضر فتمام خُضرته ورِيِّه أن يضرب إلى السّواد. قوله تعالى: ضَّاخَتانِ
قال أبو عبيدة: فوّارتان.
وقال ابن قتيبة: تفوران، و «النَّضْخ» أكثر من «النَّضْح» . وفيما يفوران به أربعة أقوال: أحدهما: بالمسك والكافور، قاله ابن مسعود. والثاني: بالماء، قاله ابن عباس. والثالث: بالخير والبركة، قاله الحسن.
والرابع: بأنواع الفاكهة، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ قال ابن عباس: نَخْلُ الجَنَّة: جذوعها زمرُّد أخضر، وكَرَبُها: ذهبٌ أحمر، وسَعَفها: كُسوة أهل الجنة، منها مُقطَّعاتهم وحُللهم. وقال سعيد بن جبير: نخل الجنة:
جذوعها من ذهب، وعروقها من ذهب، وكرانيفها من زمرُّد، ورُطَبها كالدِّلاء أشد بياضاً من اللَّبَن، وألين من الزُّبد، وأحلى من العسل، ليس له عجم. قال أبو عبيد: الكرانيف: أصول السَّعَف الغلاظ، الواحدة: كرْنافَة. وإنما أُعاد ذِكر النَّخْل والرُّمّان- وقد دخلا في الفاكهة- لبيان فضلهما كما ذكرنا في قوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» ، هذا قول جمهور المفسرين واللُّغويِّين. وحكى الفراء والزجاج أن قوماً قالوا: ليسا من الفاكهة قال الفراء: وقد ذهبوا مذهباً، ولكن العرب تجعلهما فاكهة.
قال الأزهري: ما علمتُ أحداً من العرب قال في النخيل والكروم وثمارها: إنها ليست من الفاكهة،
__________
صحيح. أخرجه البخاري 7444 من حديث أبي موسى. وأخرجه البخاري 4878 و 4880 ومسلم 180 والترمذي 2528 وابن ماجة 186 وابن أبي عاصم في «السنة» 613 وأحمد 4/ 411 والدولابي في «الكنى» 2/ 71 وابن أبي داود في «البعث» 59 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 16 وابن حبان 7386 والبيهقي في «الاعتقاد» ص 130 والبغوي في «شرح السنة» 4275 والذهبي في «تذكرة الحفاظ» 1/ 270 من طرق عن عبد العزيز بن عبد الصمد به. وأخرجه أحمد 4/ 416 وابن أبي شيبة 3/ 148 والدارمي 2/ 333 والطيالسي 529 وابن مندة في «التوحيد» 781 من طريق أبي قدامة الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني به وأتم منه.
__________
(1) البقرة: 98.

(4/215)


وإنما قال من قال، لقِلَّة عِلْمه بكلام العرب، فالعرب تذكرُ أشياء جملة ثم تخُصُّ شيئاً منها بالتسمية تنبيهاً على فضل فيه، كقوله: «وجبريل وميكال» فمن قال: ليسا من الملائكة كفر، ومن قال: ثمر النّخل والرّمان ليس من الفاكهة جهل. قوله تعالى: فِيهِنَّ يعني في الجِنان الأربع خَيْراتٌ يعني الحُور. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: «خَيِّراتٌ» بتشديد الياء. قال اللغويون:
أصله «خَيِّراتٌ» بالتشديد، فخُفِّف، كما قيل: هيّن وهين، وليّن ولين.
(1387) وروت أمّ سلمة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال «خَيْراتُ الأخلاقِ حِسان الوُجوه» .
قوله تعالى: حُورٌ مَقْصُوراتٌ قد بيَّنّا في سورة الدخان «1» معنى الحُور.
وفي المقصورات قولان: أحدهما: المحبوسات في الحِجَال، قاله ابن عباس، وهو مذهب الحسن، وأبي العالية، والقرظي، والضحاك، وأبي صالح. والثاني: المقصورات الطَّرف على أزواجهنّ، فلا يرفعن طَرْفاً إلى غيرهم، قاله الربيع. وعن مجاهد كالقولين. والأول أصح، فإن العرب تقول: امرأة مَقْصُورة وقَصِيرة وقَصُورَة: إذا كانت ملازمة خدرها، قال كُثيِّر:
لَعَمْرِي لقد حبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ ... إليَّ، وما تَدْرِي بذاكَ القَصَائِرُ
عَنَيْتُ قَصيرات الحِجَالِ، ولَمْ أُرِدْ ... قِصارَ الخُطى، شَرُّ النِّساءِ البَحاتِرُ
وبعضهم ينشده: قَصُورَة، وقَصُورات والبحاتر: القِصار.
وفي «الخيام» قولان: أحدهما: أنها البيوت. والثاني: خيام تضاف إلى القصور.
(1388) وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«إن للمؤمن في الجنة لَخيمةً من لؤلؤةٍ واحدةٍ مجوَّفةٍ، طُولها في السماء سِتُّون مِيلاً، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضاً» .
وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس: الخيام: دُرٌّ مُجَوَّف. وقال ابن عباس: الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب.
قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ، وقرأ عثمان بن عفان، وعاصم الجحدري، وابن محيصن:
«على رَفَارفَ» جمع غير مصروف. وقرأ الضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران الجوني مثلهم، إلّا أنهم
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 33172 والواحدي في «الوسيط» 4/ 229 من طريقين عن عمرو بن هاشم عن سليمان بن أبي كريمة، عن هشام بن حسان عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، وإسناده ضعيف لضعف سليمان. أم الحسن اسمها خيرة. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 118- 119 وأعلّه بسليمان بن أبي كريمة، فقال: ضعفه ابن عدي، وأبو حاتم.
صحيح. أخرجه البخاري 4879 والبغوي في «شرح السنة» 4275 عن محمد بن المثنى به. وأخرجه مسلم 2838 ح 24 والترمذي 2528 وأحمد 4/ 411 وابن حبان 7395 من طرق عن عبد العزيز بن عبد الصمد به.
وأخرجه البخاري 3243 ومسلم 3828 وأحمد 4/ 400 و 419 والدارمي 2/ 336 وأبو الشيخ في «العظمة» 606 والواحدي في «الوسيط» 4/ 229 والبيهقي في «البعث» 303 من طرق عن أبي عمران الجوني به.
__________
(1) الدخان: 54.

(4/216)


صرفوا «رفارف» قال ثعلب: إنما لم يقل: أخضر، لأن الرَّفرف جمع، واحدته: رفرفة، كقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارا «1» ولم يقل: الخُضْر، لأن الشجر جمع، تقول: هذا حصىً أبيض، وحصى أسود، قال الشاعر:
أَحَقّاً عِبادَ اللِه أنْ لستُ ماشياً ... بِهِرْجَابَ ما دامَ الأَراكُ به خُضْرا
واختلف المفسرون في المراد بالرَّفرف على ثلاثة أقوال: أحدها: فضول المجالس والبُسُط، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة: هي: الفُرُش والبُسط. وحكى الفراء، وابن قتيبة: أنها المجالس. وقال النّقّاش: الرّفرف: المجالس الخُضْر فوق الفْرُش. والثاني: أنها رياض الجنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير رياض الجنّة: خضراء مخصبة. والثالث: أنها الوسائد، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ فيه قولان: أحدهما: أنها الزَّرابيّ، قاله ابن عباس، وعطاء، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وكذلك قال ابن قتيبة: العبقريّ: الطّنافِس الثِّخان. قال أبو عبيدة: يقال لكل شيء من البُسُط: عبقريّ. والثاني: أنه الدِّيباج الغليظ، قاله مجاهد. قال الزجاج: أصل العبقريّ في اللغة أنه صفة لكل ما بُولِغَ في وصفه، وأصلُه أن عبقر: بلد كان يوشى فيه البُسط وغيرها، فنُسب كل شيء جيِّد إليه، قال زهير:
بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جَدِيرونَ يَوْماً أن يَنالوا فيَسْتَعْلُوا
وقرأ عثمان بن عفان وعاصم الجحدري وابن محيصن: «وعَباقِرِيَّ» بألف مكسورة القاف مفتوحة الياء من غير تنوين قال الزّجّاج: لا وجه لهذه القراءة في العربية، لأن الجمع الذي بعد ألفه حرفان، نحو: مساجد ومصباح، لا يجوز أن يكون فيه مثل عباقِرِي، لأن ما جاوز الثلاثة لا يُجمع بياء النّسب، فلو جمعت «عبقريّ» فإنّ جمعُه «عباقرة» ، كما أنك لو جمعت «مُهلبيّ» كان جمعه «مَهالبة» ، ولم تقل:
«مَهالبيّ» ، قال: فإن قيل «عبقريّ» واحد، و «حِسَان» جمع، فكيف جاز هذا؟ فالأصل أنّ واحدة هذا «عبقرية» والجمع «عبقري» ، كما تقول: ثمرة وثمر، ولَوْزة ولَوْز، ويكون أيضاً «عبقري» اسماً للجنس.
وقرأ الضحاك وأبو العالية وأبو عمران: «وعَباقِرِيٍّ» بألف مع التنوين.
قوله عزّ وجلّ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ فيه قولان: أحدهما: أن ذِكْر «الاسم» صِلَة، والمعنى: تبارك ربُّك. والثاني: أنه أصل، قال ابن الأنباري: المعنى: تفاعل من البركة، أي: البركة تكتب وتنال وتكسب بذِكْر اسمه. وقد بيَّنّا معنى «تبارك» في «الأعراف» «2» ، وذكرنا في هذه السورة معنى ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ «3» ، وكان ابن عامر يقرأ: «ذو الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الشام والباقون: «ذي الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق، وهم متفقون على الموضع الأول أنه «ذو» .
__________
(1) يس: 80.
(2) الأعراف: 54.
(3) الرحمن: 27.

(4/217)