زاد المسير في
علم التفسير إِذَا وَقَعَتِ
الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا
(6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ
الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
(11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
سورة الواقعة
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، قاله الأكثرون، منهم ابن
عباس، والحسن، وعطاء وعكرمة، وقتادة، وجابر، ومقاتل، وحكي عن
ابن عباس أنّ فيها آية مدنيّة وهي قوله: وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) . والثاني: أنها
مدنيّة، رواه عطيّة عن ابن عباس.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ
(2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا
(6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
(11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
قوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ قال أبو سليمان
الدمشقي: لمّا قال المشركون: متى هذا الوعد، متى هذا الفتح؟!
نزل قوله: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، قال أبو سليمان الدّمشقي
فالمعنى: يكون إذا وقعت.
قال المفسرون: والواقعة: القيامة، وكل آتٍ يتوقع يقال له إذا
كان: قد وقع، والمراد بها هاهنا: النَّفخة في الصُّور لقيام
الساعة. لَيْسَ لِوَقْعَتِها أي لمجيئها وظهورها كاذِبَةٌ أي:
كذب، كقوله عزّ وجلّ:
لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً «1» أي: لغواً. قال الزجاج: و
«كاذبة» مصدر، كقولك عافاه الله عافية، وكذب كذبة، فهذه أسماء
في موضع المصدر. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: لا رجعةَ لها
ولا ارتداد، قاله قتادة. والثاني: ليس الإخبار عن وقوعها كذبا،
حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: خافِضَةٌ أي: هي خافضة رافِعَةٌ وقرأ أبو رزين،
وأبو عبد الرحمن، وأبو العالية، والحسن، وابن أبي عبلة، وأبو
حيوة، واليزيدي في اختياره: «خافضةً رافعةً» بالنصب فيهما.
وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أنها خفضتْ فأسمعتِ القريبَ،
ورفعتْ فأسمعتِ البعيدَ، رواه العوفي عن ابن عباس، وهذا يدل
على أن الواقعة صيحة القيامة. والثاني: أنها خفضت ناساً، ورفعت
آخرين، رواه عكرمة عن ابن عباس. قال المفسرون: تخفض أقواماً
إلى أسفل السافلين في النار، وترفع أقواماً إِلى عِلِّيِّين في
الجنة.
__________
(1) الغاشية: 11. [.....]
(4/218)
قوله عزّ وجلّ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ
رَجًّا أي: حُرِّكتْ حركةً شديدة وزلزلت، وذلك أنها ترتجّ حتى
يتهدّم ما عليها من بناءٍ، ويتفتَّت ما عليها من جبل. وفي
ارتجاجها قولان: أحدهما: أنه لإماتة من عليها من الأحياء.
الثاني: لإخراج من في بطنها من الموتى.
قوله عزّ وجلّ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فيه قولان: أحدهما:
فُتِّتت فَتّاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال
مجاهد. قال ابن قتيبة: فتّت حتى صارت كالدَّقيق والسَّويق
المبسوس. والثاني: لُتَّتْ، قاله قتادة: وقال الزجاج: خُلِطتْ
ولُتَّت. قال الشاعر:
لا تخبزن خبزا وبسّ بَسَّا
وفي «الهَباء» أقوال قد ذكرناها في الفرقان «1» . وذكر ابن
قتيبة أن الهَباء المُنْبَثّ: ما سطع من سنابك الخيل، وهو من
«الهبوة» ، والهبة: الغبار. والمعنى: كانت ترابا منتشرا.
قوله عزّ وجلّ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً أي: أصنافاً ثَلاثَةً.
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وفيهم ثمانية أقوال «2» :
أحدها: أنهم الذين كانوا على يمين آدم حين أُخرجت ذُرِّيَّتهُ
مِنْ صُلبه، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الذين يُعْطَون
كتبهم بأيمانهم، قاله الضحاك والقرظي. والثالث: أنهم الذين
كانوا ميامين على أنفُسهم، أي: مبارَكين، قاله الحسن والربيع.
والرابع: أنهم الذين أُخذوا من شِقِّ آدم الأيمن، قاله زيد بن
أسلم.
والخامس: أنهم الذين منزلتهم عن اليمين، قاله ميمون بن مهران.
والسادس: أنهم أهل الجنة، قاله السدي. والسابع: أنهم أصحاب
المنزلة الرفيعة، قاله الزجاج. والثامن: أنهم الذين يؤخذ بهم
ذاتَ اليمين إلى الجنة، ذكره علي بن أحمد النّيسابوري. قوله
عزّ وجلّ: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ قال الفراء:
عجَّب نبيَّه صلّى الله عليه وسلم منهم والمعنى: أيُّ شيء
هُمْ؟! قال الزجاج: وهذا اللفظ في العربية مجراه مجرى التعجب،
ومجراه من الله عزّ وجلّ في مخاطبة العباد ما يعظم به الشأن
عندهم، ومثله: مَا الْحَاقَّةُ «3» ، مَا الْقارِعَةُ «4» قال
ابن قتيبة: ومثله أن تقول: زيد ما زيد أيّ رجل هو! وَأَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أي: أصحاب الشمال،
والعرب تسمِّي اليدَ اليسرى: الشُّؤمَى، والجانبَ الأيسر
الأشأم، ومنه قيل: اليُمْن والشُّؤم، فاليُمْن: كأنه ما جاء عن
اليمين، والشؤم ما جاء عن الشمال، ومنه سمِّيت اليَمَن و
«الشّأم» لأنها عن يمين الكعبة وشمالها. قال المفسرون: أصحاب
الميمنة: هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين، ويعطَون كتبهم
بأيمانهم وتفسير أصحاب المشأمة على ضد تفسير أصحاب الميمنة
سواء،
__________
(1) الفرقان: 23.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 335: وقوله:
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً أي: ينقسم الناس يوم القيامة
إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق
آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ويؤخذ بهم ذات اليمين.
وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر،
ويؤتون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال. وهم عامّة أهل
النار- عياذا بالله من صنيعهم- وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص
وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم فيهم الرسل
والأنبياء والصديقون والشهداء وهم أقل عددا من أصحاب اليمين
وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت
احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ
بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ وذلك على أحد القولين في
الظالم لنفسه. اه.
(3) الحاقة: 2.
(4) القارعة: 2.
(4/219)
ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى
سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا
مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ
مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ
مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا
تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
والمعنى: أيُّ قوم هم؟! ماذا أُعِدَّ لهم
من العذاب؟! قوله عزّ وجلّ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ
فيهم خمسة أقوال: أحدها: أنهم السابقون إلى الإيمان من كل
أُمَّة، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: أنهم الذين صلّوا إلى
القِبلتين، قاله ابن سيرين. والثالث: أهل القرآن، قاله كعب.
والرابع: الأنبياء، قاله محمد بن كعب. والخامس: السابقون إلى
المساجد وإلى الخروج في سبيل الله، قاله عثمان بن أبي سودة.
وفي إِعادة ذِكْرهم قولان: أحدهما: أن ذلك للتوكيد.
والثاني: أن المعنى: السابقون إلى طاعة الله تعالى هم السابقون
إلى رحمة الله، ذكرهما الزجاج. قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ قال أبو سليمان الدمشقي: يعني عند الله في ظلّ
عرشه وجواره.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 26]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ
(14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها
مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ
(17)
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا
يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا
يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
وَحُورٌ عِينٌ (22)
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا
تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) الثُلَّة:
الجماعة غير محصورة العدد. وفي الأوَّلين والآخِرين هاهنا
ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأوَّلين: الذين كانوا من زمن آدم إلى
زمن نبيّنا صلّى الله عليه وسلم، والآخرين: هذه الأمة.
والثاني: أن الأولين: أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
والآخرين: التابعون. والثالث: أن الأولين والآخِرين: من أصحاب
نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم. فعلى الأول يكون المعنى:
إنّ السابقين جماعة من الأُمم المتقدِّمة الذين سبقوا بالتصديق
لأنبيائهم مَنْ جاء بعدهم مؤمناً، وقليلٌ من أمّة محمّد صلّى
الله عليه وسلم، لأن الذين عاينوا الأنبياء أجمعين وصدَّقوا
بهم أكثر ممّن عاين نبيِّنا وصدَّق به. وعلى الثاني: أن
السابقين: جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهم
الأوَّلون من المهاجرين والأنصار، وقليل من التابعين وهم الذين
اتَّبعوهم باحسان. وعلى الثالث: أن السابقين: الأوَّلون من
المهاجرين والأنصار، وقليل ممَّن جاء بعدهم لعجز المتأخِّرين
أن يلحقوا الأوَّلين، فقليل منهم من يقاربهم في السَّبق. وأمّا
«الموضونة» ، فقال ابن قتيبة هي المنسوجة، كأن بعضها أُدخِلَ
في بعض، أو نُضِّد بعضُها على بعض، ومنه قيل للدِّرع:
مَوْضونة، ومنه قيل: وَضِينُ النّاقة، وهو بِطان ٌمن سُيور
يُدْخَل بعضُه في بعض. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول:
الآجُرُّ موضونٌ بعضُه على بعض، أي: مسروح، وللمفسرين في معنى
«مَوْضُونةٍ» قولان: أحدهما: مرمولة بالذهب رواه مجاهد عن ابن
عباس، وقال عكرمة: مشبَّكة بالدُّرِّ والياقوت، وهذا مَعنى ما
ذكرناه عن ابن قتيبة، وبه قال الأكثرون. والثاني: مصفوفة، رواه
ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وما بعد هذا ما تقدّم بيانه «1» إلى
قوله: وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ الوِلْدان: الغِلْمان. وقال الحسن
البصري: هؤلاء أطفال لم يكن لهم حسنات فيُجْزَون بها، ولا
سيِّئات فيعاقبون عليها، فوضُعوا بهذا الموضع. وفي المخلَّدين
قولان: أحدهما: أنه من الخلد، والمعنى: أنهم مخلّدون للبقاء لا
يتغيَّرون، وهم على سنٍّ واحد. قال الفراء: والعرب تقول
للإنسان إِذا كَبِر ولم يَشْمَط «2» ، أو لم تذهب أسنانه عن
__________
(1) الكهف: 30.
(2) في «القاموس» : الشّمط: الشيب.
(4/220)
الكِبَر: إنه لمخلَّد، هذا قول الجمهور.
والثاني: أنهم المُقَرَّطُون، ويقال: المُسَوَّرون، ذكره
الفراء، وابن قتيبة، وانشدوا في ذلك:
ومُخْلَّداتٌ باللُّجَيْنِ كأنَّما ... أعجازهنّ أقاوز الكثبان
«1»
قوله عزّ وجلّ: بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ الكوب: إناء لا عروة له
ولا خُرطوم، وقد ذكرناه في الزخرف «2» ، والأباريق: آنية لها
عُرىً وخراطيم وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: الإبريق:
فارسيّ معرَّب، وترجمتُه من الفارسية أحدُ شيئين إمّا أن يكون:
طريقَ الماء، أو: صبَّ الماءِ على هينة، وقد تكلمتْ به العربُ
قديماً، قال عديُّ بن زيد:
ودَعَا بالصَّبُوحِ يوماً فجاءتْ ... قينة في يمينها إبريق
وباقي الآية في «الصّافّات» «3» .
قوله عزّ وجلّ لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ فيه
قولان: أحدهما: لا يَلْحَقُهم الصُّداع الذي يلحق شاربي خمر
الدنيا. و «عنها» كناية عن الكأس المذكورة، والمراد بها:
الخمر، وهذا قول الجمهور.
والثاني: لا يتفرَّقون عنها، من قولك: صدَّعْتُه فانْصَدَع،
حكاه ابن قتيبة. قوله «ولا ينزفون» مفسّر في «الصّافّات» «4» .
قوله عزّ وجلّ: مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي: يختارون، تقول:
تخيَّرتُ الشيءَ: إذا أخذت خيره.
قوله عزّ وجلّ: وَلَحْمِ طَيْرٍ قال ابن عباس: يخطُر على قلبه
الطير، فيصير ممثَّلاً بين يديه على ما اشتهي. وقال مغيث بن
سميّ: يقع على أغصان شجرة طوبى كأمثال البُخْت. فإذا اشتهى
الرجل طيراً دعاه، فيجيء حتى يقع على خوانه، فيأكل من أحد
جانبيه قديداً والآخرِ شِواءً، ثم يعود طيرا فيطير فيذهب.
قوله عزّ وجلّ: وَحُورٌ عِينٌ قرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو
عمرو وابن عامر: «وُحورٌ عِينٌ» بالرفع فيهما. وقرأ أبو جعفر
وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم: بالخفض فيهما. وقرأ أُبيُّ بن
كعب وعائشة وأبو العالية وعاصم الجحدري: «وحُوراً عِيناً»
بالنصب فيهما. قال الزجاج: والذين رفعوا كرهوا الخفض، لأنه
معطوف على قوله: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ، قالوا: والحُور ليس ممّا
يطاف به، ولكنه مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء لأن المعنى:
يطوف عليهم ولدانٌ مخلَّدون بأكواب ينعّمون بها، فكذلك ينعّمون
بلحم طير، وكذلك ينعّمون بحور عين، والرفع أحسن، والمعنى فلهم
حُورٌ عِينٌ، ومن قرأ «وحُوراً عِيناً» حمله على المعنى، لأن
المعنى: يُعطَون هذه الأشياء ويُعطَون حُوراً عِيناً، إلاّ
أنها تُخالِف المصحف فيكره. ومعنى كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ أي:
صفاؤهنّ وتلألؤهنّ شديد كصفاء اللُّؤلؤ وتلألئه. والمكنون:
الذي لم يغيِّره الزمان واختلاف أحوال في الاستعمال، فهُنَّ
كاللؤلؤ حين يخرج من صدفه. جَزاءً منصوب مفعول له والمعنى:
يُفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم، وجوّز أن يكون منصوباً على أنه
مصدر لأن معنى «يطوف عليهم ولِدانٌ مخلَّدون» : يُجازَون جزاءً
بأعمالهم وأكثر النّحويّين على هذا الوجه.
__________
(1) في «القاموس» القوز: المستدير من الرمل والكثيب المشرف.
(2) الزخرف: 72.
(3) الصافات: 46.
(4) الصافات: 47.
(4/221)
وَأَصْحَابُ
الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ
مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ
(30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا
مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ
أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ
الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ
مِنَ الْآخِرِينَ (40)
قوله عزّ وجلّ: لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً قد فسرنا معنى اللَّغو والسلام في سورة مريم «1» ومعنى
التأثيم في الطور «2» ومعنى «ما أصحابُ اليمين» في أول هذه
السّورة «3» .
فإن قيل: التأثيم لا يُسمع فكيف ذكره مع المسموع؟. فالجواب: أن
العرب يُتْبِعون آخرَ الكلام أوَّلَه، وإن لم يحسُن في أحدهما
ما يحسُن في الآخر، فيقولون: أكلتُ خبزاً ولبَناً، واللَّبَن
لا يؤكل، إنما حَسُن هذا لأنه كان مع ما يؤكل، قال الفراء:
أنشدني بعض العرب:
إذا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يَوْماً ... وَزَجَّجْنَ
الْحَواجِبَ والعُيُونا
قال: والعَيْنُ لا تُزَجَّج إنما تُكَحَّل، فردَّها على الحاجب
لأن المعنى يعرف، وأنشد آخر:
ولَقِيتُ زَوْجَكِ في الوغى ... متقلَّداً سَيْفاً ورمحا
وأنشدني:
عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً
والماء لا يُعْلَف وإِنما يُشْرَب، فجعله تابعاً للتِّبن، قال
الفراء: وهذا هو وجه قراءة من قرأ، «وحُورٍ عِينٍ» بالخفض،
لإتباع آخر الكلام أوَّله، وهو وجه العربيّة.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ
مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ
(30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ
(33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ
إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ
مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
وقد شرحنا معنى قوله: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ في قوله:
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ «4» . وقد روي عن عليّ رضي الله عنه
أنه قال: أصحاب اليمين: أطفال المؤمنين.
قوله عزّ وجلّ: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ.
(1389) سبب نزولها أن المسلمين نظروا إلى وجّ، وهو واد
بالطّائف مخضب، فأعجبهم سدره.
قالوا: يا ليت لنا مثل هذا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أبو
العالية، والضحاك.
وفي المخضود ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذي لا شَوْكَ فيه، رواه
ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقسامة بن زهير.
وقال ابن قتيبة: كأنه خُضِدَ شوكُه. أي: قلع.
(1390) ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم في المدينة: «لا
يخضد شوكها» .
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 780 وعزاه لأبي العالية
والضحاك وهو منكر جدا، وأمارة الوضع عليه.
ضعيف. في إسناده موسى بن عبيدة واه، ويزيد منكر الحديث، وله
شواهد لا تقوم بها حجة.
أخرجه الطبري 33394 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 390 والبيهقي في
«البعث» 380 من طرق عن سفيان الثوري به. وأخرجه الترمذي 3296
والطبري 33396 و 33397 وأبو نعيم 390 من طرق عن موسى بن عبيدة
به. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث
موسى بن عبيدة، ويزيد بن أبان-
__________
(1) مريم: 62.
(2) الطور: 23.
(3) الواقعة: 8.
(4) الواقعة: 8. [.....]
(4/222)
والثاني: أنه المُوقَر حملاً، رواه العوفي
عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك. والثالث:
أنه المُوقَر الذي لا شوك فيه، ذكره قتادة.
وفي الطَّلْح قولان: أحدهما: أنه الموز، قاله عليّ، وابن عباس،
وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، والحسن، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد،
وقتادة. والثاني: أنه شجر عظام كبار الشوك، قال أبو عبيدة: هذا
هو الطَّلْح عند العرب، قال الحادي:
بَشَّرَها دليلُها وقالا ... غَداً تَرَيْنَ الطَّلْحَ
والجِبالا
فإن قيل: ما الفائدة في الطَّلْح؟ فالجواب أن له نَوْراً
وريحاً طيِّبة، فقد وعدهم ما يعرفون ويميلون إليه، وإن لم يقع
التساوي بينه وبين ما في الدنيا، وقال مجاهد: كانوا يُعْجَبون
ب «وَجٍّ» وظِلاله من طلحه وسدره، فأمّا المنضود، فقال ابن
قتيبة: هو الذي قد نُضِدَ بالحَمْل أو بالورق والحَمْل من
أوَّله إلى آخره، فليس له ساق بارزة، وقال مسروق: شجر الجنّة
نضد من أسفلها إلى أعلاها.
قوله عزّ وجلّ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي: دائم لا تنسخه الشمس.
وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي: جارٍ غير منقطع.
قوله عزّ وجلّ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ فيه ثلاثة
أقوال: أحدها: لا مقطوعة في حين دون حين، ولا ممنوعة بالحيطان
والنواطير إنما هي مُطْلَقة لمن أرادها، هذا قول ابن عباس،
والحسن، ومجاهد، وقتادة، ولخصه بعضهم فقال: لا مقطوعة
بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان. والثاني: لا تنقطع إذا
جُنِيَتْ، ولا تُمْنع من أحد إِذا أريدت، روي عن ابن عباس.
والثالث: لا مقطوعة بالفَناء، ولا ممنوعة بالفساد، ذكره
الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ فيها قولان: أحدهما: أنها
الحشايا المفروشة للجلوس والنوم.
وفي رفعها قولان: أحدهما: أنها مرفوعة فوق السُّرر. والثاني:
أن رفعها: زيادة حشوها ليطيب الاستمتاع بها.. والثاني: أن
المراد بالفرش: النساء والعرب تسمِّي المرأة: فِراشاً وإزاراً
ولباساً وفي معنى رفعهن ثلاثة أقوال: أحدها: أنهن رُفِعْن
بالجمال على نساء أهل الدنيا، والثاني: رفعن عن الأدناس،
والثالث: رفعن في القلوب لشِدَّة الميل إليهن.
قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً يعني النساء. قال
ابن قتيبة: اكتفى بذِكْر الفُرُش لأنها محل النساء عن ذكرهن.
وفي المشار إِليهن قولان: أحدهما: أنهن نساء أهل الدنيا
المؤمنات ثم في إنشائهن قولان: أحدهما: أنه إنشاؤهن من القبور،
قاله ابن عباس. والثاني: إعادتهن بعد الشَّمَط والكبر صغاراً،
قاله الضحاك. والثاني: أنهن الحُور العين، وإنشاؤهن: إيجادهن
عن غير ولادة، قاله الزجاج:
والصواب أن يقال: إن الإنشاء عمَّهُنَّ كُلَّهن، فالحُور
أُنشئن ابتداءً، والمؤمنات أُنشئن بالإعادة وتغيير الصفات وقد
روى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
__________
وموسى يضعّفان في الحديث. وورد من حديث أم سلمة، أخرجه الطبري
33402، وإسناده واه، فيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه غير واحد،
والحسن لم يسمع من أم سلمة. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 3165
عن الحسن عن أمه عن أم سلمة، وفيه سليمان أيضا، وهو ضعيف كما
تقدم.
(4/223)
وَأَصْحَابُ
الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ
وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا
كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ
(45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا
وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ
(49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ
مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ
الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا
نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
(1391) «إِنَّ من المنشَآت اللاّتي كُنَّ
في الدنيا عجائز عمشا رمصا» .
قوله عزّ وجلّ: فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً أي: عذارى. قال ابن
عباس: لا يأتيها زوجها إِلاّ وجدها بكرا.
قوله عزّ وجلّ: عُرُباً قرأ الجمهور: بضم الراء. وقرأ حمزة،
وخلف: بإسكان الراء قال ابن جرير هي لغة تميم وبكر. وللمفسرين
في معنى «عُرُباً» خمسة أقوال: أحدها: أنهن المتحبِّبات إلى
أزواجهن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وابن
قتيبة، والزجاج. والثاني: أنهن العواشق، رواه علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس. وبه قال الحسن، وقتادة، ومقاتل، والمبرّد، وعن
مجاهد كالقولين.
والثالث: الحسنة التبعُّل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال
أبو عبيدة. والرابع: المغنّجات، قاله عكرمة. والخامس: الحسنة
الكلام، قاله ابن زيد. فأمّا الأتراب فقد ذكرناهنّ في ص «1» .
قوله عزّ وجلّ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ
مِنَ الْآخِرِينَ هذا من نعت أصحاب اليمين. وفي الأولين
والآخرين خلاف، قد سبق شرحه «2» . وقد زعم أنه لمّا أنزلت
الآية الأولى، وهي قوله: «وقليلٌ من الآخِرِين» وجد المؤمنون
من ذلك وَجْداً شديداً حتى أُنزلت «وثُلَّةٌ من الآخِرِين»
فنسختهْا. وروي عن عروة بن رُويم نحو هذا المعنى.
قلت: وادِّعاء النَّسخ هاهنا لا وجه له لثلاثة أوجه: أحدها: أن
علماء الناسخ والمنسوخ لم يوافقوا على هذا. والثاني: أن الكلام
في الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ. فهو هاهنا لا وجه له.
والثالث: أن الثُّلَّة بمعنى الفِرْقة والفئة قال الزجاج:
اشتقاقهما من القِطعة، والثَّلُّ: الكسر والقطع.
فعلى هذا قد يجوز أن تكون الثُّلَّة في معنى القليل.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ
وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا
كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا
يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ
إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى
مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا
الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
قوله عزّ وجلّ: ما أَصْحابُ الشِّمالِ قد بيَّنّا أنه بمعنى
التعجُّب من حالهم والمعنى: ما لهم، وما أعدّ لهم من الشّرّ؟!
ثم بيّن سوء مُنْقَلَبهم فقال: فِي سَمُومٍ قال ابن قتيبة: هو
حرّ النّار. قوله عزّ وجلّ:
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ قال ابن عباس: ظِلّ من دخان: قال
الفراء: اليَحْموم: الدُّخان الأسود، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ
فوجه الكلام الخفض تبعاً لما قبله، ومثله زَيْتُونَةٍ لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ «3» ، وكذلك قوله:
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ،
ولو رفعت ما بعد «لا» لكان صوابا، والعرب تجعل الكريم
__________
ضعيف. أخرجه الترمذي 3296 والطبري 33394 و 33397 والبيهقي في
«البعث» 380 من حديث أنس، وإسناده واه. فيه موسى بن عبيدة عن
يزيد الرقاشي، وهما ضعيفان.
__________
(1) ص: 52.
(2) الواقعة: 13.
(3) النور: 35.
(4/224)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ
فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ
(58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ
وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
تابعاً لكل شيء نفت عنه فعلاً يُنوي به
الذم، فتقول: ما هذه الدار بواسعة ولا كريمة، وما هذا بسمين
ولا كريم. قال ابن عباس: لا بارد المدخل ولا كريم المنظر. قوله
عزّ وجلّ: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي:
في الدنيا مُتْرَفِينَ أي: متنعِّمين في ترك أمر الله، فشغلهم
تَرفُهم عن الاعتبار والتعبُّد. وَكانُوا يُصِرُّونَ أي:
يُقيمون عَلَى الْحِنْثِ وفيه أربعة أقوال: أحدها: أنه
الشِّرك، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك وابن زيد. والثاني:
الذَّنْب العظيم الذي لا يتوبون منه، قاله مجاهد. وعن قتادة
كالقولين. والثالث: أنه اليمين الغموس، قاله الشعبي. والرابع:
الشِّرك والكفر بالبعث، قاله الزجاج. قوله عزّ وجلّ:
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قال أبو عبيدة: الواو متحركة لأنها
ليست بواو إنما هي «وآباؤنا» ، فدخلت عليها ألف الاستفهام
فتُركتْ مفتوحة. وقرأ أهل المدينة، وابن عامر،: «أَوْ آباؤنا»
بإسكان الواو. وقد سبق بيان ما لم نذكره هاهنا «1» إلى قوله:
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ قرأ أهل المدينة، وعاصم، وحمزة:
«شرب الهيم» بضمّ الشين والباقون بفتحها.. وأكثر أهل نجد
يقولون: شَرْباً بالفتح، أنشدني عامَّتهم:
تَكْفيهِ حَزَّةُ فِلْذٍ إِنْ أَلمَّ بها ... من الشِّواءِ
ويَكْفِي شَرْبَهُ الغُمَرُ «2»
وزعم الكسائي أن قوماً من بني سعد بن تميم يقولون: «شِرْبَ
الهِيم» بالكسر. وقال الزجاج:
«الشَّرْب» المصدر، و «الشُّرْب» بالضم: الاسم. قال: وقد قيل:
إنه مصدر أيضاً. وفي «الهِيم» قولان:
أحدهما: الإبل العِطاش، رواه ابن أبي طلحة والعوفي عن ابن
عباس، وبه قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة. قال ابن
قتيبة: هي الإبل يُصيبها داءٌ فلا تَرْوَى من الماء، يقال:
بعيرٌ أَهْيَمُ، وناقةٌ هَيْماءُ. والثاني: أنها الأرض
الرَّملة التي لا تَرْوَى من الماء، وهو مروي عن ابن عباس
أيضاً. قال أبو عبيدة: الهِيم: ما لا يَرْوَى من رمل أو بعير.
قوله عزّ وجلّ: هذا نُزُلُهُمْ أي: رزقهم، وروى عباس عن أبي
عمرو: «نُزْلُهم» بسكون الزاي، أي رزقهم وطعامهم. وفى
«الدِّين» قولان قد ذكرناهما في الفاتحة «3» .
[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 62]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57)
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ
أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ
الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ
نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
(61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا
تَذَكَّرُونَ (62)
قوله عزّ وجلّ: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ أي أوجدناكم ولم تكونوا
شيئاً، وأنتم تُقِرُّونَ بهذا فَلَوْلا أي:
فهلاّ تُصَدِّقُونَ بالبعث؟! ثم احتجّ على بعضهم بالقدرة على
ابتدائهم فقال: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ قال الزجاج: أي:
ما يكون منكم من المَنِيِّ، يقال: أمنى الرجل يُمْني، ومَنى
يَمني، فيجوز على هذا «تَمْنونَ» بفتح التاء إن ثبتت به رواية.
قوله عزّ وجلّ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الْخالِقُونَ أي تخلُقون ما تُمنون بَشَراً؟! وفيه تنبيه على
شيئين: أحدهما: الامتهان: إذ خلق من الماء المَهين بَشَراً
سوياً. والثاني:
__________
(1) هود: 103 والصافات: 62 والأنعام: 70.
(2) البيت لأعشى باهلة، كما في «جمهرة أشعار العرب» 254، وفي
«القاموس» : الحزة: ما قطع من اللحم طولا. والفلذ: كبد البعير.
والغمور: قدح صغير والغمر: الماء الكثير.
(3) الفاتحة: 3.
(4/225)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا
تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ
نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي
تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ
أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ
أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ
الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا
أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا
تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
أن من قَدَر على خَلْق ما شاهدتموه من أصل
وجودكم كان أقدَرَ على خَلْق ما غاب عنكم من إعادتكم.
قوله عزّ وجلّ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وقرأ
ابن كثير: «قَدَرْنا» بتخفيف الدال. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: قضينا عليكم بالموت. والثاني: سوّينا بينكم في الموت.
وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثالَكُمْ قال الزجاج: المعنى: إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم
لا يسبقنا سابق، ولا يفوتنا ذلك.
قال ابن قتيبة: لسنا مغلوبين على أن لم نستبدل بكم أمثالكم.
قوله عزّ وجلّ: وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
وفيه أربعة أقوال: أحدها: نبدِّل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير
كما فعلنا بمن كان قبلكم.
قاله الحسن. والثاني: ننشئكم في حواصل طير سود تكون ب «برهوت»
كأنها الخطاطيف، قاله سعيد بن المسيب. والثالث: نخلقكم في أيّ
خَلْق شئنا، قاله مجاهد. والرابع: نخلقكم في سوى خلقكم، قاله
السدي. قال مقاتل: نخلقكم سوى خلقكم في ما لا تعلمون من
الصّور. قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ
الْأُولى وهي ابتداء خَلقكم من نُطفة وعَلَقة فَلَوْلا
تَذَكَّرُونَ أي: فهلاّ تعتبرون فتعلموا قدرة الله فتقرّوا
بالبعث.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 63 الى 74]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ
أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ
حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ
(66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ
(69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ
(70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ
(72)
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
قوله عزّ وجلّ: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أي: ما تعملون
في الأرض من إثارتها، وإلقاء البذر فيها، أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أي: تُنبِتونه؟! وقد نبَّه هذا الكلام على أشياء
منها إحياء الموتى، ومنها الامتنان بإخراج القُوت، ومنها
القدرة العظيمة الدالة على التوحيد.
قوله عزّ وجلّ: لَجَعَلْناهُ يعني الزرع حُطاماً قال عطاء:
تبناً لا قمح فيه. وقال الزجاج:
أبطلْناه حتى يكون منحطما لا حنطة فيه، ولا شيء. قوله عزّ
وجلّ: فَظَلْتُمْ وقرأ الشعبي وابو العالية وابن أبي عبلة:
«فظِلْتُم» بكسر الظاء وقد بيناه في قوله: ظَلْتَ عَلَيْهِ
عاكِفاً «1» . قوله عزّ وجلّ:
تَفَكَّهُونَ قرأ أُبيُّ بن كعب وابن السميفع والقاسم بن محمد
وعروة: «تَفَكَّنونَ» بالنون. وفي المعنى أربعة أقوال: أحدها:
تعجّبون، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء ومقاتل. قال الفراء:
تتعجَّبون ممّا نَزَل بكم في زرعكم. والثاني: تَنَدَّمون، قاله
الحسن والزجاج. وعن قتادة كالقولين. قال ابن قتيبة: يقال
«تفكَّهون» : تَنَدَّمون، ومثلها: تفكّنون، وهي لغة لعكل.
والثالث: تلاومون، قاله عكرمة. والرابع:
تتفجَّعون، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ قال الزجاج: أي: تقولون:
قد غَرِمْنا وذهب زرعنا. وقال ابن قتيبة: «لَمُغْرَمونَ» أي:
لمعذّبون. قوله عزّ وجلّ: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي:
حُرِمْنا ما كنّا نطلب من الرّيع في الزرع. وقد نبَّه بهذا على
أمرين: أحدهما: إنعامه عليهم إذ لم يجعل زرعهم حطاما. والثاني:
قدرته
__________
(1) طه: 97.
(4/226)
فَلَا أُقْسِمُ
بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي
كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ
(79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا
الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
على إهلاكهم كما قدر على إهلاك الزرع.
فأمّا المُزْن، فهي السَّحاب، واحدتها: مُزْنة. وما بعد هذا
ظاهر إلى قوله: الَّتِي تُورُونَ قال أبو عبيدة: أي تستخرجون،
من أَوْرَيت، وأكثر ما يقال: وَرَيت.
وقال ابن قتيبة: «تورون» أي: تقدحون، تقول: أَوريتُ النّار:
إذا قدحتها.
قوله عزّ وجلّ: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها في المراد
بشجَرَتها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحديد، رواه أبو صالح عن
ابن عباس. والثاني: أنها الشجرة التي تتّخد منها الزُّنود، وهو
خشب يُحَكُّ بعضُه ببعض فتخرج منه النار، هذا قول ابن قتيبة،
والزجاج. والثالث: أن شجرتها: أصلُها، ذكره الماوردي. قوله عزّ
وجلّ: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً قال المفسرون: إذا رآها
الرّائي ذكر نار جهنّم، وما يخافه من عذابها، فاستجار بالله
منها وَمَتاعاً أي: منفعة لِلْمُقْوِينَ وفيهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم المسافرون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. قال
ابن قتيبة: سمّوا بذلك لنزولهم القَوَى، وهو القفر. وقال بعض
العلماء: المسافرون أكثر حاجة إِليها من المقيمين، لأنهم إِذا
أوقدوها هربت منهم السّباع واهتدى بها الضال. والثاني: أنهم
المسافرون والحاضرون، قاله مجاهد. والثالث: أنهم الجائعون.،
قال ابن زيد:
المقوي: الجائع في كلام العرب. والرابع: أنهم الذين لا زاد
معهم ولا مال لهم، قاله أبو عبيدة.
قوله عزّ وجلّ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال
الزجاج: لما ذكر ما يدل على توحيده، وقدرته، وإنعامه، قال:
«فسبّح باسم ربك» أي: برّئ الله ونزّهه عما يقولون في وصفه.
وقال الضحاك: معناه:
فصل باسم ربك، أي: استفتح الصلاة بالتكبير. وقال ابن جرير: سبح
بذكر ربك وتسميته. وقيل: الباء زائدة. والاسم يكون بمعنى
الذات، والمعنى: فسبّح ربّك.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 82]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)
فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ
الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ
أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ (82)
قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ في «لا» قولان: أحدهما: أنها
دخلت توكيداً. والمعنى:
فأقسم، ومثله لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «1» ، قاله
الزجاج، وهو مذهب سعيد بن جبير. والثاني: أنها على أصلها. ثم
في معناها قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى ما تقدّم، ومعناه:
النهي، تقدير الكلام: فلا تكذبوا، ولا تجحدوا ما ذكرته من
النعم والحجج، قاله الماوردي. والثاني: أنّ «لا» ردّا لما
تقوله الكفار في القرآن: إنه سحر، وشعر، وكهانة، ثم استأنف
القسم على أنه قرآن كريم، قاله علي بن أحمد النيسابوري. وقرأ
الحسن: فلأقسم بغير ألف بين اللام والهمزة.
قوله عزّ وجلّ: بِمَواقِعِ وقرأ حمزة، والكسائي: «بموقع» على
التوحيد. قال أبو علي:
مواقعها: مساقطها. ومَنْ أَفْرَدَ، فلأنه اسم جنس. ومَنْ
جَمَعَ فلاختلاف ذلك. وفي «النجوم» قولان:
أحدهما: نجوم السماء، قاله الأكثرون. فعلى هذا في مواقعها
ثلاثة أقوال: أحدها: انكدارها وانتثارها يوم القيامة، قاله
الحسن. والثاني: منازلها، قاله عطاء، وقتادة. والثالث: مغيبها
في
__________
(1) الحشر: 29.
(4/227)
المغرب، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنها
نجوم القرآن، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. فعلى هذا سميت
نجوماً لنزولها متفرقة، ومواقعها: نزولها. قوله: وَإِنَّهُ
لَقَسَمٌ الهاء كناية عن القسم. وفي الكلام تقديم وتأخير،
تقديره: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون عِظَمَهُ. ثم ذكر المقسم
عليه فقال تعالى:
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ والكريم: اسم جامع لما يحمد، وذلك
أن فيه البيان والهدى والحكمة، وهو معظّم عند الله عزّ وجلّ.
قوله عزّ وجلّ: فِي كِتابٍ فيه قولان: أحدهما: أنه اللوح
المحفوظ، قاله ابن عباس. والثاني:
أنه المصحف الذي بأيدينا، قاله مجاهد، وقتادة. وفي «المكنون»
قولان: أحدهما: مستور من الخلق، قاله مقاتل، وهذا على القول
الأول. والثاني: مصون، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من قال:
إنَّه اللوح المحفوظ، فالمطهرون عنده:
الملائكة، وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد وسعيد بن جبير.
فعلى هذا يكون الكلام خبراً.
ومن قال: هو المصحف، ففي المطهرين أربعة أقوال «1» : أحدها:
أنهم المطهرون من الأحداث، قاله الجمهور. فيكون ظاهر الكلام
النفي، ومعناه النهي. والثاني: المطهرون من الشرك، قاله ابن
السائب.
والثالث: المطهرون من الذنوب والخطايا، قاله الربيع بن أنس.
والرابع: أن معنى الكلام: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به،
حكاه الفراء.
قوله عزّ وجلّ: تَنْزِيلٌ أي: هو تنزيل. والمعنى: هو منزل،
فسمّي المنزّل تنزيلا على اتساع اللغة، كما تقول للمقدور: قدر،
وللمخلوق: خلق.
قوله عزّ وجلّ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعني: القرآن أَنْتُمْ
مُدْهِنُونَ فيه قولان: أحدهما: مكذّبون، قاله ابن عباس،
والضحاك، والفراء. والثاني: ممالئون الكفار على الكفر به، قاله
مجاهد. قال أبو عبيدة:
المدهن: المداهن وكذلك قال ابن قتيبة «مدهنون» أي: مداهنون.
يقال: أدهن في دينه، وداهن.
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
(1392) روى مسلم في «صحيحه» من حديث ابن عباس قال: مطر الناس
على عهد رسول
__________
صحيح. أخرجه مسلم 73 والطبراني في «الكبير» 12/ 198 والواحدي
في «أسباب النزول» 782.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 17/ 195: واختلف
العلماء في مس المصحف على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسّه
لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص
وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من
الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة،
فروي عنه أنه يمسّه المحدث وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم
ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما
لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسّه إلا طاهر. ابن العربي:
وهذا إن سلّمه مما يقوي الحجة عليه، لأن حريم الممنوع من
الممنوع. وفيما كتبه النبي صلّى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم
أقوى دليل عليه وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلاقة ولا على
وسادة وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة
أو مسّه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن عليّ أنه لا
بأس بحمله ومسّه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا إلا أن داود
قال: لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي
صلّى الله عليه وسلم إلى قيصر وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه. وفي
مس الصبيان إياه على وجهين:
أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ. والثاني الجواز، لأنه لو منع لم
يحفظ القرآن، لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له
طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لأن النية لا تصح منه فإذا جاز أن
يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا.
(4/228)
فَلَوْلَا إِذَا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ
(84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا
تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
(86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا
إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ
وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ
الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
(91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ
(92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: «أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر» .
قالوا: هذه رحمة آتية وضعها الله حيث شاء. وقال بعضهم: لقد صدق
نوء كذا، وكذا، فنزلت هذه الآية «فلا أقسم بمواقع النجوم» حتى
بلغ «أنكم تكذبون» .
(1393) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث زيد بن خالد
الجهني، قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة
الصّبح بالحديبية على إثْرِ سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف
أقبل على الناس، فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم» ؟ قالوا: الله
ورسوله أعلم. قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما
المؤمن فقال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذاك مؤمن بي، كافر
بالكوكب. وأما من قال:
مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب» .
وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرزق
هاهنا بمعنى الشكر.
(1394) روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلّى الله عليه
وسلم أنه قال: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ قال:
«شكركم» ، وهذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس. وكان علي يقرأ
«وتجعلون شكركم» .
والثاني: أن المعنى: وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم، قاله
الأكثرون. وذلك أنهم كانوا يمطرون، فيقولون: مطرنا بنوء كذا.
والثالث: أن الرزق بمعنى الحظ. فالمعنى: وتجعلون حظكم ونصيبكم
من القرآن أنكم تكذبون، ذكره الثعلبي. وقرأ أبي بن كعب،
والمفضل عن عاصم «وتكذبون» بفتح التاء، وإسكان الكاف، مخفّفة
الذال.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 96]
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ
حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ
غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(87)
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ
وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ
أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ
الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ
الضَّالِّينَ (92)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ
هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ (96)
__________
صحيح. أخرجه البخاري 846 ومسلم 71 ومالك 1/ 192 وأحمد 4/ 117
من حديث زيد بن خالد.
لم أره بهذا اللفظ عن عائشة. وقال السيوطي في «الدر» 6/ 234:
أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» عن عائشة رضي الله عنها قالت: مطر
الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » فذكره بنحو
حديث ابن عباس المتقدم، ولم يذكر فيه تفسير الآية
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ. وورد من حديث علي، أخرجه الترمذي
3295 والطبري 33555 و 33556 وأحمد 1/ 131 وإسناده ضعيف لضعف
عبد الأعلى بن عامر الثعلبي ومع ذلك رواه عنه الثوري موقوفا
على علي، والثوري أحفظ من إسرائيل، والمرفوع ضعفه أحمد شاكر في
«المسند» 1087. وانظر «تفسير الشوكاني» 2438.
(4/229)
قوله عزّ وجلّ: فَلَوْلا أي: فهلاَّ إِذا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ يعني: النَّفْس، فترك ذِكرها لدلالة
الكلام، وأنشدوا من ذلك:
إِذا حَشْرَجَتْ يَوْمَاً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ «1» قوله عزّ
وجلّ: وَأَنْتُمْ يعني أهل الميت تَنْظُرُونَ إلى سلطان الله
وأمره والثاني تنظرون للإنسان في تلك الحالة، ولا تملكون له
شيئاً وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ فيه قولان: أحدهما:
ملك الموت أدنى إليه من أهله وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ الملائكة،
رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: ونحن أقرب إليه منكم
بالعلم والقدرة والرؤية وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ أي: لا تعلمون،
والخطاب للكفار، ذكره الواحدي.
قوله عزّ وجلّ: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ فيه
خمسة أقوال: أحدها: محاسبين، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال
الحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعكرمة. والثاني: موقنين، قاله
مجاهد.
والثالث: مبعوثين، قاله قتادة. والرابع: مجزيين. ومنه يقال:
دنِته، وكما تدين تدان، قاله أبو عبيدة.
والخامس: مملوكين أذَّلاء، من قولك: دِنت له بالطاعة، قاله ابن
قتيبة. قوله عزّ وجلّ: تَرْجِعُونَها أي: تردُّون النَّفْس.
والمعنى: إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم، فهلاَّ
تردُّون هذه النَّفْس؟! فإذا لم يمكنكم ذلك، فاعلموا أن الأمر
لغيركم. قال الفرّاء: وقوله عزّ وجلّ: تَرْجِعُونَها هو جواب
لقوله عزّ وجلّ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ولقوله
عزّ وجلّ: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ فإنهما
أجيبتا بجواب واحد. ومثله قوله عزّ وجلّ: فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «2» .
ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت فقال عزّ وجلّ: فَأَمَّا إِنْ
كانَ يعني: الذي بلغت نَفْسه الحلقوم مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند
الله. قال أبو العالية: هم السابقون فَرَوْحٌ أي: فَلَهُ
رَوْحٌ. والجمهور يفتحون الراء. وفي معناها ستة أقوال «3» :
أحدها: الفرح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني:
الراحة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: المغفرة
والرحمة، رواه العوفي عن ابن عباس.
والرابع: الجنة، قاله مجاهد. والخامس: رَوْحٌ من الغَمّ الذي
كانوا فيه، قاله محمد بن كعب.
والسادس: رَوْح في القبر، أي: طيب نسيم، قاله ابن قتيبة. وقرأ
أبو بكر الصديق، وأبو رزين، والحسن، وعكرمة وابن يعمر، وقتادة،
ورويس عن يعقوب، وابن أبي سُريج عن الكسائي: «فَرُوْحٌ» برفع
الراء. وفي معنى هذه القراءة قولان: أحدهما: أن معناها: فرحمة،
قاله قتادة. والثاني: فحياة وبقاءٌ، قاله ابن قتيبة. وقال
الزجاج: معناه: فحياة دائمة لا موت معها. وفي «الريحان» أربعة
أقوال:
أحدها: أنه الرزق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني:
أنه المستراح، رواه ابن أبي طلحة عن
__________
(1) هو عجز بيت لحاتم الطائي كما في ديوانه 50، وصدره: أماويّ
ما يغني الثراء عن الفتى.
(2) البقرة: 38.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 666: وأولى الأقوال
في ذلك بالصواب عندي قول من قال: عني بالرّوح: الفرح والرحمة
والمغفرة، وأصله في قولهم: وجدت روحا: إذا وجد نسيما يستروح
إليه من كرب الحرّ. وأما الريحان، فإنه عندي الريحان الذي
يتلقى به عند الموت، كما قال أبو العالية والحسن لأن ذلك
الأغلب والأظهر من معانيه.
(4/230)
ابن عباس. والثالث: أنه الجنة، قاله مجاهد،
وقتادة. والرابع: أنه الريحان المشموم. وقال أبو العالية:
لا تخرج روح أحد من المقربين من الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان
الجنة، فيشمه، ثم تقبض فيه روحه، وإلى نحو هذا ذهب الحسن. وقال
أبو عمران الجوني: بلغنا أن المؤمن إذا قبض روحه تلقى بضبائر
الريحان من الجنّة، فتجعل روحه فيه.
قوله عزّ وجلّ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فيه
ثلاثة أقوال: أحدها: فسلامة لك من العذاب، قاله أبو صالح عن
ابن عباس. والثاني: تسلِّم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب
اليمين، قاله عطاء. والثالث: أن المعنى: أنك ترى فيهنّ ما تحب
من السلامة، وقد علمت ما أُعدَّ لهم من الجزاء، قاله الزجاج.
قوله عزّ وجلّ: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ أي:
بالبعث الضَّالِّينَ عن الهدى فَنُزُلٌ وقد بيَّناه في هذه
السّورة «1» .
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ هذا يعني ما ذكر في هذه السورة لَهُوَ
حَقُّ الْيَقِينِ أي هو اليقين حقاً، فأضافه إلى نفسه، كقولك:
صلاة الأولى، وصلاة العصر، ومثله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ «2» ،
وقد سبق هذا المعنى، وقال قوم: معناه: وإنه للمتقين حقاً. وقيل
للحق: اليقين.
قوله عزّ وجلّ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قد
ذكرناه في هذه السّورة «3» .
__________
(1) الواقعة: 56.
(2) يوسف: 109. [.....]
(3) الواقعة: 74.
(4/231)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ
مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا
يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ
كَبِيرٌ (7)
سورة الحديد
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، رواه العوفي عن ابن عباس،
وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: أنها مكّيّة، قاله ابن السّائب.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ
وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما
يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ
بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ
النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
قوله عزّ وجلّ: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أمّا تسبيح ما يعقل، فمعلوم، وتسبيح ما لا يعقل،
قد ذكرنا معناه في قوله عزّ وجلّ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «1» . قوله عزّ وجلّ: هُوَ الْأَوَّلُ
قال أبو سليمان الخطّابي: الأول هو السابق للأشياء وَالْآخِرُ
الباقي بعد فناء الخلق وَالظَّاهِرُ بحجّته الباهرة، وبراهينه
النَّيِّرة، وشواهده الدَّالة على صِحَّة وحدانيته. ويكون:
الظاهر فوق كل شيء بقدرته.
وقد يكون الظهور بمعنى العلوِّ، ويكون بمعنى الغلبة. والباطن:
هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يستولي عليه توهُّم
الكيفية، وقد يكون معنى الظهور والبطون: احتجابه عن أبصار
الناظرين، وتجلِّيه لبصائر المتفكِّرين. ويكون معناه: العالم
بما ظهر من الأمور والمطَّلع على ما بطن من الغيوب. قوله:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مفسّر في الأعراف
«2» إلى قوله عزّ وجلّ: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وهو
مفسر في سبأ «3» إلى قوله عزّ وجلّ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما
كُنْتُمْ أي: بعلمه وقدرته. وما بعده ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ:
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قال المفسرون: هذا الخطاب لكفار
قريش وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
يعني: المال الذي كان بأيدي غيرهم، فأهلكهم الله، وأعطى قريشاً
ذلك المال، فكانوا فيه خلفاء من مضى.
__________
(1) الإسراء: 44.
(2) الأعراف: 54.
(3) سبأ: 2.
(4/232)
وَمَا لَكُمْ لَا
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا
بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ
أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ
أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
(11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى
نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ
الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ
آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ
ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ
بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ
وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ
فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ
وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا
يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
(15)
[سورة الحديد (57) : الآيات 8 الى 11]
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ
مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ
رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا
يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ
وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ
أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ
وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
قوله عزّ وجلّ: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ هذا
استفهام إِنكار، والمعنى: أيُّ شيء لكم من الثواب في الآخرة
إذا لم تؤمنوا بالله وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ قرأ أبو عمرو
«أُخذ» بالرفع. وقرأ الباقون «أخذ» بفتح الخاء مِيثاقَكُمْ
بالفتح. والمراد به: حين أُخرجتم من ظهر آدم إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ بالحجج والدلائل. قوله: عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ يعني: محمداً صلّى الله عليه وسلم
آياتٍ بَيِّناتٍ يعني:
القرآن لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ يعني الشرك إلى نور
الإيمان وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حين بعث
الرسول ونصب الأدلة. ثم حثهم على الإنفاق فقال: وَما لَكُمْ
أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: أي شيءٍ لكم في ترك الإنفاق ممّا
يقرّب إلى الله عزّ وجلّ وأنتم ميتون تاركون أموالكم؟! ثم بين
فضل من سبق بالإنفاق فقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ
أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وفيه قولان: أحدهما: أنه فتح
مكة، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنه فتح الحديبية،
قاله الشعبي. والمعنى: لا يستوي من أنفق قبل ذلك وَقاتَلَ ومن
فعل ذلك بعد الفتح. قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر
الصديق. أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً قال ابن عباس: أعظم منزلةً
عند الله. قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل
الفتح في أفضلها. قال الزجاج: لأن المتقدمين كانت بصائرهم،
أنفذ.
ونالهم من المشقة أكثر وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي:
وكلا الفريقين وعده الله الجنة. وقرأ ابن عامر «وكُلٌّ»
بالرفع. قوله عزّ وجلّ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ قرأ ابن كثير، وابن عامر
«فيضعّفه» مشددة العين بغير ألف، إِلا أن ابن كثير يضم الفاء،
وابن عامر يفتحها. وقرأ نافع وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي
«فيضاعفُه» بالألف وضم الفاء، وافقهم عاصم إلا أنه فتح الفاء.
قال أبو علي: يضاعِف ويضعِّف بمعنى واحد، إلا أن الرفع في
«يضاعف» هو الوجه، لأنه محمول على «يُقرض» . أو على الانقطاع
من الأول كأنه قال: فهو يضاعف. ويحمل قول الذي نصب على المعنى،
لأنه إذا قال: من ذا الذي يُقرض اللهَ، معناه: أيقرض اللهَ
أحدٌ قرضاً فيضاعفه. والآية مفسرة في البقرة «1» . والأجر
الكريم: الجنّة.
[سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ
فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ
باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ
الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا
بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ
وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ
اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا
يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
__________
(1) البقرة: 245.
(4/233)
أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ
عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (17)
قوله عزّ وجلّ: يَسْعى نُورُهُمْ قال
المفسرون: يضيء لهم نور عملهم على الصراط على قدر أعمالهم. قال
ابن مسعود: منهم مَن نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا نوره على
إبهامه يطفئ مرة، ويوقد أخرى. وفي قوله عزّ وجلّ:
وَبِأَيْمانِهِمْ قولان: أحدهما: أنه كتبهم يعطَونها بأيمانهم،
قاله الضحاك.
والثاني: أنه نورهم يسعى، أي: يمضي بين أيديهم، وعن أيمانهم،
وعن شمائلهم، والباء بمعنى:
«في» . و «في» بمعنى «عن» ، وهذا قول الفراء.
قوله تعالى: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ هذا قول الملائكة لهم. قوله
تعالى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ وقرأ حمزة:
«أنظِرونا» بقطع الهمزة، وفتحها، وكسر الظاء، قال المفسرون:
تغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة، فيعطَى المؤمنون النور،
فيمشي المنافقون بنور المؤمنين، قالوا: انظرونا نقتبس من
نوركم، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ في القائل لهم قولان:
أحدهما: أنهم المؤمنون، قاله ابن عباس. والثاني: الملائكة،
قاله مقاتل، وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: ارجعوا إلى
المكان الذي قبستم فيه النور، فيرجعون، فلا يرون شيئاً.
والثاني: ارجعوا فاعملوا عملاً يجعله الله لكم نوراً. والثالث:
أن المعنى: لا نور لكم عندنا. قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ قال ابن عباس: هو الأعراف، وهو سُورٌ بين الجنة والنار
باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وهي الجنة وَظاهِرُهُ يعني من وراء
السور مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ وهو جهنم. وقد ذهب قوم إلى أنّ
السور يكون ببيت المقدس في مكان السور الشرقي بين الوادي الذي
يسمى: وادي جهنم، وبين الباب الذي يسمى: باب الرحمة، وإلى نحو
هذا ذهب عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمر، وكعب.
قوله عزّ وجلّ: يُنادُونَهُمْ أي: ينادي المنافقون المؤمنين من
وراء السور: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي: على دينكم نصلي
بصلاتكم، ونغزو معكم؟! فيقول لهم المؤمنون: بَلى وَلكِنَّكُمْ
فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ فيه قولان: أحدهما:
تربَّصتم بالتوبة. والثاني: تربَّصتم بمحمد الموتَ، وقلتم:
يوشك أن يموت فنستريح وَارْتَبْتُمْ شككتم في الحق
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ يعني ما كانوا يتمنَّون من نزول
الدوائر بالمؤمنين حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وفيه قولان:
أحدهما: أنه الموت. والثاني: إلقاؤهم في النار وَغَرَّكُمْ
بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي غرّكم الشيطان بحكم الله وإمهاله
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وقرأ أبو جعفر،
وابن عامر، ويعقوب «لا تؤخذ» بالتاء، أي: بدل وعوض عن عذابكم.
وهذا خطاب للمنافقين، ولهذا قال عزّ وجلّ: وَلا مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا.
قوله عزّ وجلّ: هِيَ مَوْلاكُمْ قال أبو عبيدة: أي: أولى بكم.
[سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 17]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ
الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ
(16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (17)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا اختلفوا فيمن
نزلت على قولين:
(4/234)
إِنَّ
الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
(18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ
الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
(1395) أحدهما: أنها نزلت في المؤمنين. قال
ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا، وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا
أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً.
والثاني: أنها نزلت في المنافقين، قاله أبو صالح عن ابن عباس
«1» . قال مقاتل: سأل المنافقون سلمان الفارسي فقالوا: حدِّثنا
عن التوراة، فإن فيها العجائب، فنزلت هذه الآية «2» .
وقال الزجاج: نزلت هذه الآية في طائفة من المؤمنين حَثُّوا على
الرِّقَّة والخشوع. فأما من كان وصفه الله عزّ وجلّ بالخشوع،
والرِّقَّة، فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء. فعلى الأول: يكون
الإيمان حقيقة. وعلى الثاني: يكون المعنى: «ألم يأن للذين
آمنوا» بألسنتهم. قال ابن قتيبة: المعنى: ألم يحن.
تقول: آن الشيء: إذا حان.
قوله عزّ وجلّ: أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ أي تَرِقَّ وتلين
لِذِكْرِ اللَّهِ. المعنى: أنه يجب أن يورثهم الذِّكْر خشوعاً
وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن
عامر وحمزة والكسائي «وما نزَّل» بفتح النون والزاي مع تشديد
الزاي. وقرأ نافع وحفص، والمفضل عن عاصم «نزل» بفتح النون
وتخفيف الزاي. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وابن
يعمر، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم «نُزِّل» برفع
النون وكسر الزاي مع تشديدها. وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «وما
أَنزل» بهمزة مفتوحة وفتح الزاي. وقرأ أبو مجلز، وعمرو بن
دينار مثله إلا أنه بضم الهمزة وكسر الزاي.
و «الحق» القرآن وَلا يَكُونُوا قرأ رويس عن يعقوب «ولا
تكونوا» بالتاء كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود
والنصارى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وهو الزمان. وقال ابن
قتيبة: الأمد: الغاية. والمعنى: أنه بَعُد عهدهم بالأنبياء
والصالحين فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ
وهم الذين لم يؤمنوا بعيسى ومحمد عليهما السّلام اعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي يخرج منها
النبات بعد يبسها، فكذلك يقدر على إحياء الأموات قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على وحدانيته وقدرته
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تتأمّلوا.
[سورة الحديد (57) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا
اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ
كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ قرأ
ابن كثير، وعاصم إلا حفصاً بتخفيف الصاد فيهما على معنى
التصديق. وقرأ الباقون بالتشديد على معنى الصدقة. قوله عزّ
وجلّ: أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ
رَبِّهِمْ اختلفوا في نظم الآية على قولين «3» : أحدهما: أن
تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ:
__________
هذا الأثر صحيح، أخرجه مسلم 3027 والنسائي في «التفسير» 588
واستدركه الحاكم 2/ 479 كلهم عن ابن مسعود. وانظر «تفسير
الشوكاني» 2456.
__________
(1) موضوع. عزاه المصنف لأبي صالح، وهو متهم في ابن عباس، حيث
روى وصاحبه الكلبي تفسير موضوعا عن ابن عباس، وهذا منه، فالآية
المراد بها المؤمنون.
(2) الخبر منكر جدا، أمارة الوضع لائحة عليه، ومقاتل هو ابن
سليمان وهو كذاب.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 684: والذي هو أولى
الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال:
الكلام والخبر عن الذين آمنوا، متناه عند قوله أُولئِكَ هُمُ
الصِّدِّيقُونَ وأن قوله وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ خبر
مبتدأ عن الشهداء.
(4/235)
اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (21)
أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ثم ابتدأ
فقال عزّ وجلّ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ هذا قول ابن
عباس، ومسروق، والفراء في آخرين. والثاني: أنها على نظمها،
والواو في «والشهداء» واو النسق، ثم في معناها قولان:
أحدهما: أن كل مؤمن صِدِّيق شهيد، قاله ابن مسعود ومجاهد.
والثاني: أنها نزلت في قوم مخصوصين، وهم ثمانية نفر سبقوا إِلى
الإسلام: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة بن عبد المطلب،
وطلحة، والزبير، وسعد، وزيد، قاله الضحاك. وفي الشهداء قولان:
أحدهما: أنه جمع شاهد. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم الأنبياء
خاصة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الشاهدون عند ربهم على
أنفسهم بالإيمان بالله، قاله مجاهد. والقول الثاني: أنه جمع
شهيد، قاله الضّحّاك، ومقاتل.
[سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ
وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً
وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ
الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(21)
قوله عزّ وجلّ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا يعني:
الحياة في هذه الدّار لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي: غرور تنقضي عن قليل.
وذهب بعض المفسرين «1» إلى أن المشار بهذا إلى حال الكافر في
دنياه، لأنّ حياته تنقضي على لهو ولعب وتزيين الدنيا، وتفاخر
يفاخر قرناءه وجيرانه، ويكاثرهم بالأموال والأولاد، فيجمع من
غير حلّه، ويتطاول على أولياء الله بماله، وخدمه، وولده، فيفنى
عمره في هذه الأشياء، ولا يلتفت إلى العمل للآخرة. ثم بين لهذه
الحياة شبهاً، فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ يعني: مطراً أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ وهم الزُّرَّاع، وسموا كفاراً، لأن الزارع إذا
ألقى البذر في الأرض كفره، أي: غطاه نَباتُهُ أي ما نبت من ذلك
الغيث ثُمَّ يَهِيجُ أي ييبس فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد خضرته
وَرِيَّه ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي ينحطم، وينكسر بعد يبسه.
وشرح هذا المثل قد تقدم في يونس عند قوله عزّ وجلّ إِنَّما
مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا «2» ، وفي الكهف عند قوله عزّ
وجلّ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا «3» . قوله
عزّ وجلّ: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أي: لأعداء الله
وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ لأوليائه وأهل طاعته.
وما
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 370: هكذا الحياة
الدنيا تكون أولا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزا شوهاء،
والإنسان كذلك يكون في أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريا لين
الأعطاف، بهيّ المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه
وينفد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى قليل
الحركة، يعجزه الشيء اليسير، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ
قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً
يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الروم: 54
ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا
محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حذّر من أمرها ورغّب فيما
فيها من الخبر، فقال:
وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ
الْغُرُورِ أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا
وإما هذا: إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان.
(2) يونس: 24.
(3) الكهف: 45.
(4/236)
مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي
كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ
مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
بعد هذا مذكور في آل عمران «1» ، إلى قوله:
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ فبين أنه لا يدخل الجنّة أحد إلّا بفضل
الله.
[سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ
إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما
فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
قوله عزّ وجلّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ يعني:
قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ
يعني الأمراض، وفقد الأولاد إِلَّا فِي كِتابٍ وهو اللوح
المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أن نخلقها، يعني: الأنفس
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: إنّ إثبات ذلك على
كثرته هيِّن على الله عزّ وجلّ لِكَيْلا تَأْسَوْا أي: تحزنوا
عَلى ما فاتَكُمْ من الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ قرأ
أبو عمرو- الا اختيار اليزيدي- بالقصر على معنى: جاءكم من
الدنيا. وقرأ الباقون بالمدّ على معنى: ما أعطاكم الله منها.
وأعلم أنه من علم أن ما قضي لا بدَّ أن يصيبه قبل حُزنه وفرحه.
وقد روى قتيبة بن سعيد قال: دخلت بعض أحياء العرب، فإذا بفضاء
من الأرض فيه من الإبل ما لا يحصى عدده كلُّها قد مات، فسألت
عجوزاً: لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلٍّ يغزل
الصوف، فقلت له: يا شيخ لك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت باسمي،
قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها، قلت:
فهل قلت في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، قلت:
لا والَّذي أَنَا عَبْدٌ في عِبَادَتِهِ ... والمَرْءُ في
الدَّهْر نصْبَ الرُّزْءِ والحَزَنَ
ما سَرَّني أَنَّ إبْلي في مَبَارِكِها ... وما جرى في قضاء
الله لم يَكُنِ
وما بعد هذا قد ذكرناه في سورة النساء «2» ، والذي قيل في
البخل هناك هو الذي قيل هاهنا إلى قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ أي:
عن الإيمان فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن عباده
الْحَمِيدُ إلى أوليائه. وقد سبق معنى الاسمين في البقرة «3» .
وقرأ نافع وابن عامر «فإن الله الغني الحميد» ليس فيها «هو»
وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة، والشّام.
[سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا
مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ
وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
قوله عزّ وجلّ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي:
بالآيات والحجج وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ ببيان
الشرائع، والأحكام. وفي «الميزان» قولان: أحدهما: أنه العدل،
قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنه الذي يوزن به، قاله ابن زيد ومقاتل. فعلى القول
الأول: يكون المعنى: أمرنا بالعدل.
وعلى الثاني: ووضعنا الميزان، أي: أمرنا به لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ أي: لكي يقوموا بالعدل. قوله عزّ وجلّ:
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فيه قولان: أحدهما: أن الله تعالى
أنزل مع آدم السندان، والكلبتين، والمطرقة، قاله ابن عباس.
والثاني: أن معنى «أنزلنا» : أنشأنا وخلقنا، كقوله عزّ وجلّ:
__________
(1) آل عمران: 185.
(2) النساء: 37.
(3) البقرة: 267. [.....]
(4/237)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ
بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً
ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ
رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا
فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «1» . قوله عزّ وجلّ: فِيهِ بَأْسٌ
شَدِيدٌ قال الزجاج: وذلك أنه يمتنع به، ويحارب به وَمَنافِعُ
لِلنَّاسِ يستعملونه في أدواتهم، وما ينتفعون به من آنية
وغيرها. قوله عزّ وجلّ:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ هذا معطوف على قوله تعالى: لِيَقُومَ
النَّاسُ، والمعنى: ليتعامل الناس بالعدل وليعلم الله مَنْ
يَنْصُرُهُ بالقتال في سبيله، ونصرة دينه، وذلك أنه أمر في
الكتاب الذي أنزل بذلك. وقد سبق معنى قوله عزّ وجلّ:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ في مواضع. وقوله عزّ وجلّ: بِالْغَيْبِ
أي: ولم ير الله، ولا أحكام الآخرة، وإنما يجهد ويثاب من أطاع
بالغيب.
[سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي
ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى
آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها
ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ
فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ
وَالْكِتابَ يعني: الكتب فَمِنْهُمْ يعني: من الذرية مُهْتَدٍ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ فيه قولان: أحدهما: كافرون، قاله
ابن عباس. والثاني: عاصون، قاله مقاتل. قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ
قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي: أَتْبَعْنا على آثار نوح،
وإبراهيم، وذريتهما بِعِيسَى وكان آخر أنبياء بني إِسرائيل،
وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ يعني: الحواريين
وغيرهم من أتباعه على دينه رَأْفَةً وقد سبق بيانها «2»
والمعنى أنهم كانوا متوادّين، كما وصف الله تعالى أصحاب نبينا
عليه السّلام، فقال عزّ وجلّ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «3» .
قوله عزّ وجلّ: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ليس هذا معطوفاً
على ما قبله، وإنما انتصب بفعل مضمر، يدل عليه ما بعده،
تقديره: وابتدعوا رهبانيةً ابتدعوها، أي: جاءوا بها من قِبل
أنفسهم، وهي غلوُّهم في العبادة، وحمل المشاق على أنفسهم في
الامتناعِ عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح، والتعبُّد في
الجبال ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي: ما فرضناها عليهم.
وفي قوله عزّ وجلّ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ قولان:
أحدهما: أنّ الاستثناء يرجع إلى قوله عزّ وجلّ: ابْتَدَعُوها
والمعنى ابتدعوها طلبا لرضوان الله، ولم يكتبها عليهم، وهذا
قول الجمهور. وتقديره: ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها
ابتغاء رضوان الله، ذكره علي بن عيسى والرماني عن قتادة وزيد
بن أسلم.
والثاني: أنه راجع إلى قوله عزّ وجلّ: «ما كتبناها» ثم في معنى
الكلام قولان: أحدهما: ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها
تطوعاً إلا ابتغاء رضوان الله. قال الحسن: تطوّعا بابتداعها ثم
كتبها الله عليهم. وقال الزجاج: لما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع
لزمهم إِتمامه، كما أن الإنسان إِذا جعل على نفسه صوماً لم
يفترض عليه، لزمه أن يتمَّه. قال القاضي أبو يعلى: والابتداع
قد يكون بالقول، وهو ما
__________
(1) الزمر: 6.
(2) النور: 2.
(3) الفتح: 29.
(4/238)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
ينذره ويوجبه على نفسه، وقد يكون بالفعل
بالدخول فيه. وعموم الآية تتضمن الأمرين، فاقتضى ذلك أن كل من
ابتدع قربة، قولاً أو فعلاً، فعليه رعايتها وإِتمامها.
والثاني: أن المعنى: ما أمرناهم منها إِلا بما يرضي الله عزّ
وجلّ، لا غير ذلك، قاله ابن قتيبة.
قوله عزّ وجلّ: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها في المشار
إليهم قولان: أحدهما: أنهم الذين ابتدعوا الرهبانية، قاله
الجمهور. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ما
رَعَوْها لتبديل دينهم وتغييرهم له، قاله عطية العوفي.
والثاني: لتقصيرهم فيما ألزموه أنفسهم. والثالث: لكفرهم برسول
الله صلّى الله عليه وسلم لما بُعث، ذكر القولين الزجاج:
والثاني: أنهم الذين اتبعوا مبتدعي الرهبانية في رهبانيتهم، ما
رَعوها بسلوك طريق أوليهم، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن
عباس.
قوله عزّ وجلّ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ
أَجْرَهُمْ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: الذين آمنوا بمحمّد صلّى
الله عليه وسلم. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين لم
يؤمنوا به. والثاني: أن الذين آمنوا: المؤمنون بعيسى عليه
السّلام والفاسقون: المشركون. والثالث: أن الذين آمنوا: مبتدعو
الرهبانية، والفاسقون: متبعوهم على غير القانون الصحيح.
[سورة الحديد (57) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا
بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ
أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ عامة المفسرين على أن هذا
الخطاب لليهود والنصارى، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى
وعيسى اتقوا الله، وآمنوا برسوله محمد صلّى الله عليه وسلم
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أي نصيبين، وحظَّين مِنْ رَحْمَتِهِ.
قال الزجاج: الكفل: كساء يمنع الراكب أن يسقط، فالمعنى: يؤتكم
نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي. وقد بينا معنى «الكفل» في
سورة النساء. وفي المراد بالكفلين هاهنا قولان: أحدهما: أنّ
أحدهما لإيمانهم بمن تقدَّم من الأنبياء، والآخر لإيمانهم
بمحمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. والثاني: أن
أحدهما: أجر الدنيا. والثاني: أجر الآخرة، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً. فيه أربعة أقوال:
أحدها: القرآن، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: تمشون
به على الصراط، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: الهدى،
قاله مجاهد. والرابع: الإيمان، قاله ابن السّائب.
قوله عزّ وجلّ: لِئَلَّا يَعْلَمَ «لا» زائدة. قال الفراء:
والعرب تجعل «لا» صلة في كل كلام دخل في آخره أو أوله جحد،
فهذا مما جُعل في آخره جحد. والمعنى: ليعلم أَهْلُ الْكِتابِ
الذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم أَلَّا يَقْدِرُونَ
أي: أنهم لا يقدرون عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ والمعنى:
أنه جعل الأجرين لمن آمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلم ليعلم من
لم يؤمن به أنه لا أجر لهم ولا نصيب في فضل الله وَأَنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فآتاه
المؤمنين. هذا تلخيص قول الجمهور في هاتين الآيتين.
(4/239)
(1396) وقد ذهب قوم إلى أنه لما نزل في
مسلمي أهل الكتاب قوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ «1» افتخروا على المسلمين
بزيادة الأجر، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هاتان الآيتان،
وهذا المعنى في رواية أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل.
فعلى هذا يكون الخطاب للمسلمين، ويكون المعنى: يؤتكم أجرين
ليعلم مؤمنو أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله
الذي خصّكم به فإنه فضَّلكم على جميع الخلائق. وقال قتادة: لما
نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ الآية، حسد أهل الكتاب
المسلمين، فأنزل الله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ
الْكِتابِ الآية.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهذه رواية ساقطة، مدارها
على الكلبي، وهو ممن يضع الحديث. وعزاه لمقاتل، وتقدم أنه يضع
الحديث أيضا.
__________
(1) القصص: 54.
(4/240)
|