زاد المسير في
علم التفسير قَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى
اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
سورة المجادلة
وهي مدنيّة في قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة وقتادة
والجمهور. وروي عن عطاء أنه قال: العشر الأول منها مدنيّ،
والباقي مكّيّ. وعن ابن السّائب: أنها مدنيّة سوى آية، وهي
قوله عزّ وجلّ: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المجادلة (58) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ
فِي زَوْجِها.
(1397) أما سبب نزولها، فروي عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها
قالت: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، ولقد جاءت المجادلة فكلّمت
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنا في جانب البيت أسمع
كلامها، ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول: يا رسول
الله، أبلى شبابي، ونثرتُ له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع
ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل
جبريل بهذه الآيات.
فأما تفسيرها، فقوله عزّ وجلّ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قال
الزجاج: إدغام الدال في السين حسن لقرب المخرجين لأنهما من
حروف طرف اللسان، وإدغام الدال في السين تقوية للحرف، وإظهار
الدال جائز
__________
صحيح. أخرجه النسائي 6/ 46 وفي «الكبرى» 11570 و «التفسير» 590
وابن ماجة 188 و 2063 وأحمد 6/ 46 وعبد الرزاق في «التفسير»
1118 والحاكم 2/ 481 والطبري 33725 و 33726 والواحدي في
«الأسباب» 788 والبيهقي 7/ 382 من طرق عن الأعمش عن تميم بن
سلمة عن عروة عن عائشة. وإسناده صحيح، رجاله ثقات رجال البخاري
ومسلم غير تميم، فإنه من رجال مسلم، وصححه الحاكم ووافقه
الذهبي. وله شاهد من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام عن خولة
بنت ثعلبة. أخرجه أحمد 6/ 410 وأبو داود 2214 والبيهقي 7/ 389
والطبري 33714 وابن حبان 4279 والواحدي في «الأسباب» 791 من
طريق محمد بن إسحاق حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف
به. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 2463 و «أحكام القرآن» لابن
العربي 2045 و 2047 و «الجامع لأحكام القرآن» 5838 وهي جميعا
بتخريجنا، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) المجادلة: 7.
(4/241)
الَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ
أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي
وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ
الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ
لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
لأنه وإِن قرب من مخرج السين فله حيّز على
حدة، ومن موضع الدال الطاء والتاء، فهذه الأحرف الثلاثة موضعها
واحد، والسين والزاي والصاد من موضع واحد، وهي تسمى حروف
الصفير. وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال: أحدها:
خولة بنت ثعلبة، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال عكرمة وقتادة
والقرظي. والثاني: خولة بنت خويلد، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثالث: خولة بنت الصامت، رواه العوفي عن ابن عباس. والرابع:
خولة بنت الدليج، قاله أبو العالية، واسم زوجها:
أوس بن الصامت، وكانا من الأنصار.
(1398) قال ابن عباس: كان الرجل إِذا قال لامرأته في الجاهلية:
أنتِ عليَّ كظهر أمي، حرُمَتْ عليه، فكان أول من ظاهر في
الإسلام أوس، ثم ندم، وقال لامرأته: انطلقي إلى رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات. فأما مجادلتها
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه كان كلمَّا قال لها: قد
حرمتِ عليه، تقول:
والله ما ذكر طلاقاً، فقال: ما أُوحي إليَّ في هذا شيء، فجعلت
تشتكي إلى الله. وتشتكي بمعنى تشكو.
يقال: اشتكيت ما بي وشكوته، بمعنى شكوى شاك أي أشكيته. وقالت:
إن لي صبية صغاراً، إِن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ
جاعوا. فأما التحاور، فهو مراجعة الكلام. قال عنترة في فرسه:
لو كان يدْري ما المُحاورَةُ اشْتكى ... ولكان لو علم الكلام
مكلّمي
[سورة المجادلة (58) : الآيات 2 الى 4]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ
أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي
وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ
الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
قوله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ
نِسائِهِمْ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «يظَّهَّرون» بفتح
الياء وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف. وقرأ أبو جعفر
وابن عامر وحمزة والكسائي: بفتح الياء وتشديد الظاء وبألف
وتخفيف الهاء. وقرأ عاصم «يُظاهِرون» بضم الياء وتخفيف الظاء
والهاء وكسر الهاء في الموضعين مع إِثبات الألف. وقرأ ابن
مسعود «يتظاهرون» بياءٍ وتاءٍ وألف. وقرأ أبي بن كعب
«يتظَهَّرون» بياءٍ وتاء وتخفيف الظاء وتشديد الهاء من غير
ألف. وقرأ الحسن وقتادة والضحاك «يظهرون» بفتح الياء وفتح
الظاء مخففة، مكسورة الهاء مشددة. والمعنى: تقولون لهن: أنتن
كظهور أمهاتنا ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ قرأ الأكثرون بكسر
التاء. وروى المفضل عن عاصم رفعها. والمعنى ما اللواتي تجعلن
كالأمهات بأمهات لهم إِنْ أُمَّهاتُهُمْ أي ما أمهاتهم إِلَّا
اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ قال الفراء: وانتصاب «الأمهات» هاهنا
بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله «ما هنّ بأمهاتهم» ، ومثله:
ما هذا بَشَراً «1» ، المعنى:
__________
أخرجه البيهقي 7/ 382- 383 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف
لضعف أبي حمزة الثمالي، لكن يشهد لأصله ما تقدم. وانظر «تفسير
الشوكاني» 2462 بتخريجنا.
__________
(1) يوسف: 31.
(4/242)
ما هذا ببشرٍ، فلما أُلقيت الباء أُبقي
أثرها، وهو النصب، وعلى هذا كلام أهلِ الحجاز. فأما أهل نجد
فإنهم إذا ألقوا الباء رفعوا، فقالوا: «ما هن أمهاتُهم» و «ما
هذا بشرٌ» أنشدني بعض العرب:
رِكابُ حُسَيْلٍ آخِرَ الصَّيْفِ بُدَّنٌ ... وَنَاقَةُ
عَمْروٍ مَا يُحَلُّ لَها رَحْلُ
وَيَزْعُمُ حَسْلٌ أَنَّهُ فَرْعُ قَوْمِهِ ... وَمَا أَنْتَ
فرع يا حسيل ولا أصل
قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُمْ يعني: المظاهرون لَيَقُولُونَ
مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ لتشبيههم الزوجات بالأمهات، والأمهات
محرمات على التأبيد، بخلاف الزوجات وَزُوراً أي: كذباً وَإِنَّ
اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إِذ شرع الكفارة لذلك.
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا «1» اللام في
«لما» بمعنى «إلى» ، والمعنى: ثم يعودون إلى تحليل ما حرَّموا
على أنفسهم من وطء الزوجة بالعزم على الوطء، قال الفراء: معنى
الآية: يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا. وقال سعيد بن
جبير: المعنى: يريدون أن يعودوا للجماع الذي قد حرَّموه على
أنفسهم. وقال الحسن، وطاوس، والزهري: العَود: هو الوطء. وهذا
يرجع إلى ما قلناه. وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد الظّهار
مدّة يمكنه طلاقها فيها فلا يطلقها. فإذا وجد هذا، استقرت عليه
الكفارة، لأنه قصد بالظهار تحريمها، فإن وصل إلى ذلك بالطلاق
فقد جرى على ما ابتدأه، وان سكت عن الطلاق، فقد ندم على ما
ابتدأ به، فهو عود إلى ما كان عليه، فحينئذ تجب الكفارة. وقال
داود:
هو إِعادة اللفظ ثانياً، لأن ظاهر قوله عزّ وجلّ: يَعُودُونَ
يدل على تكرير اللفظ. قال الزجاج: وهذا قول من لا يدري اللغة.
وقال أبو علي الفارسي: ليس في هذا كما ادَّعَوا، لأن العود قد
يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبلُ. وسميت الآخرةُ معاداً،
ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها. قال الهذلي:
وعَادَ الفَتَى كالكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ ... سِوى الحَقِّ
شيئاً واسْتَرَاحَ العَواذِلُ
وقد شرحنا هذا في قوله عزّ وجلّ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ «2» . وقال ابن قتيبة: من توَّهم أن الظهار لا يقع
حتى يلفظ به ثانية، فليس بشيء، لأن الناس قد أجمعوا أن الظهار
يقع بلفظ واحد. وإنما تأويل الآية: أن أهل الجاهلية كانوا
يطلِّقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه
عندهم في الجاهلية، وأنزل قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يريد في الجاهلية «ثم يعودون لما
قالوا» في الإسلام، أي: يعودون لما كانوا يقولونه من هذا
الكلام، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ قال
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 192: وهو
حرف مشكل، واختلف الناس فيه قديما وحديثا، وأما القول بأنه
العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا، لا يصح، وإنما يشبه أن
يكون من جهالة داود وأشياعه.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 380: اختلف السلف
والأئمة في المراد بقوله تعالى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا
فقال بعض الناس: العود: هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره وهذا
القول باطل، وهو اختيار ابن حزم وقول داود. وقال الشافعي: هو
أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق.
وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع والعزم على الجماع
أو الإمساك، فلا تحل له حتى يكفّر بهذه الكفارة. وقد حكي عن
مالك أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه: أنه الجماع، وقال
أبو حنيفة: هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه
أمر الجاهلية، فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريما لا
يرفعه إلا الكفارة.
(2) البقرة: 210.
(4/243)
المفسرون: المعنى: فعليهم، أو فكفارتهم
تحرير رقبة «1» ، أي: عتقها. وهل يشترط أن تكون مؤمنة؟
فيه عن أحمد روايتان. قوله عزّ وجلّ: مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا وهو: كناية عن الجماع، على أن العلماء قد اختلفوا
هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة؟ وعن أحمد روايتان.
وقال أبو الحسن الأخفش: تقدير الآية: والذين يظاهرون من نسائهم
فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم.
فصل: إذا وطئ المظَاهِرُ قبل أن يكفِّر أَثِمَ، واستقرَّت
الكفارة، وقال أبو حنيفة: يسقط الظهار والكفارة. واختلف
العلماء فيما يجب عليه إِذا فعل ذلك، فقال الحسن، وسعيد بن
المسيّب، وطاوس، ومجاهد وإبراهيم، وابن سيرين: عليه كفارة
واحدة، وقال الزهري، وقتادة في آخرين: عليه كفارتان.
فإن قال: أنت عليَّ كظهر أمي اليوم، بطل الظهار بمضيِّ اليوم،
هذا قول أصحابنا وأبي حنيفة، والثوري، والشافعي، وقال ابن أبي
ليلى، ومالك، والحسن بن صالح: هو مظاهر أبداً. واختلفوا في
الظهار من الأمة، فقال ابن عباس: ليس من الأمة ظهار، وبه قال
سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وقال
سعيد بن جبير، وطاوس، وعطاء، والأوزاعي، والثوري، ومالك: هو
ظهار. ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: لا يكون مظاهرا من أمته،
ولكن يلزمه كفارة الظهار، كما قال في المرأة إِذا ظاهرت من
زوجها لم تكن مظاهرة، وتلزمها كفّارة الظّهار. واختلفوا فيمن
قال: أنت عليّ كظهر أبي، فقال مالك: هو مظاهر، وهو قول
أصحابنا، وقال أبو حنيفة والشّافعيّ: لا يكون مظاهرا. واختلفوا
فيمن ظاهر مراراً، فقال أبو حنيفة، والشافعي: إن كان في مجالس،
فكفارات، وإن كان في مجلس واحد، فكفارة: قال القاضي أبو يعلى:
وعلى قول أصحابنا يلزمه كفارة واحدة، سواء كان في مجلس واحد،
أو في مجالس، ما لم يكفِّر، وهذا قول مالك.
قوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ قال الزجاج: ذلكم
التغليظ توعظون به. والمعنى: أن غِلَظَ الكفارة وَعْظٌ لكم حتى
تتركوا الظّهار. قوله عزّ وجلّ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ يعني:
الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي: فعليه صيام شهرين «2»
مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ الصيام فكفّارته إطعام سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ
أي: الفرض ذلك الذي وصفنا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
أي: تصدِّقوا بأنَّ الله أمر بذلك، وتصدِّقوا بما أتى به
الرسولُ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني: ما وصفه الله من
الكفَّارات في الظِّهار وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ قال
ابن عباس: لمن جحد هذا وكذّب به.
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 105: وظاهر
قوله تعالى، يرتبط الوجوب بالعود، وفيه يرتبط كيفما كانت حالة
الارتباط، بيد أنه للمسألة حرف جرى في ألسنة علمائنا من غير
قصد، وهو مقصود المسألة، وذلك أن المعتبر في الكفارة صفة
العبادة أو صفة العقوبة. والشافعي اعتبر صفة العقوبة، ونحن
اعتبرنا صفة القربة، والقرب إنما يعتبر في حال الإجراء خاصة
بحال الأداء، كالطهارة والصلاة، والذي يعتبر فيه حالة الوجوب
هي الحدود، والطهارة ليست مقصودة لنفسها، وإنما تراد للصلاة،
فاعتبر حال فعل الصلاة فيها.
قلنا: وكذلك الكفارة ليست مقصودة لنفسها، وإنما تراد لحل
المسيس، فإذا احتيج إلى المسيس اعتبرت الحالة المذكورة فيها.
(2) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 197: يقتضي
أن الوطء للزوجة في ليل الظهار يبطل الكفارة، لأن الله سبحانه
شرط في كفارة الظهار فعلها قبل التماس.
(4/244)
إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا
أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى
ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ
سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا
هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا
عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ
النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ
وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ
الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ
بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا
يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا
بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ
لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ (10)
[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا
كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا
آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا
أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى
ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ
سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ
مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا
يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ قد ذكرنا معنى المحادَّة في التوبة «1» ، ومعنى
«كُبتوا» في آل عمران عند قوله عزّ وجلّ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ
«2» ، وقال ابن عباس: أُخزوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي
الذين من قبلهم ممن قاتل الرّسل. قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أي: من قبورهم فَيُنَبِّئُهُمْ
بِما عَمِلُوا من معاصيه، وتضييع فرائضه أَحْصاهُ اللَّهُ أي:
حفظه الله عليهم وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من
أعمالهم في السِّر والعلانية شَهِيدٌ. أَلَمْ تَرَ أي: ألم
تعلم. قوله عزّ وجلّ: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ وقرأ
أبو جعفر «ما تكون» بالتاء. قال ابن قتيبة: النجوى: السرار.
وقال الزجاج: ما يكون من خلوة ثلاثة يسرِّون شيئاً، ويتناجَوْن
به إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي: عالم به. و «نجوى» الزجاج: ما
يكون من خلوة ثلاثة يسرِّون شيئاً، ويتناجَوْن به إِلَّا هُوَ
رابِعُهُمْ أي: عالم به. و «نجوى» مشتق من النجوة، وهو ما
ارتفع. وقرأ يعقوب «ولا أكثرُ» بالرفع. وقال الضحاك: «إلا هو
معهم» أي:
علمه معهم.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ
يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا
تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ
الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى
مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ
بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ
النَّجْوى في سبب نزولها قولان:
(1399) أحدهما: نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم كانوا
يتناجَوْن فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين،
ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم
إلا قد بلغهم عن أقربائنا وإِخواننا الذين خرجوا في السرايا،
قتل أو موت، أو مصيبة، فيقع ذلك في قلوبهم، ويحزنهم، فلا
يزالون كذلك حتى تقدَّم أصحابهم. فلما طال ذلك وكثر، شكا
المؤمنون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا
يتناجَوْا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، فنزلت هذه الآية،
قاله ابن عباس.
__________
لم أره مسندا. وذكره الواحدي في «الأسباب» 792 عن ابن عباس
ومجاهد بدون إسناد، فهو لا شيء.
__________
(1) التوبة: 63.
(2) آل عمران: 127.
(4/245)
والثاني: أنها نزلت في اليهود، قاله مجاهد
«1» .
(1400) قال مقاتل: وكان بين اليهود وبين رسول الله موادعة،
فإذا رأوا رجلاً من المسلمين وحده تناجَوْا بينهم فيظن المسلم
أنهم يتناجَوْن بقتله أو بما يكره فيترك الطريق من المخافة،
فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى فلم
ينتهوا وعادوا إليها، فنزلت هذه الآية. وقال ابن السائب: نزلت
في المنافقين «2» . والنجوى: بمعنى المناجاة ثُمَّ يَعُودُونَ
إلى المناجاة التي نهوا عنها وَيَتَناجَوْنَ قرأ حمزة، ويعقوب
إلا زيداً، ورَوحاً «ويتنجَّون» وقرأ الباقون «ويتناجون» بألف.
وفي معنى تناجيهم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وجهان: أحدهما:
يتناجون بما يسوء المسلمين، فذلك الإثم والعدوان، ويوصي بعضهم
بعضاً بمعصية الرّسول. والثاني: يتناجون بعد نهي الرسول لهم،
ذلك هو الإثم والعدوان ومعصية الرسول.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ
بِهِ اللَّهُ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
(1401) أحدهما: أنها نزلت في اليهود. قالت عائشة رضي الله
عنها: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل
الله بكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: مه يا عائشة،
فإن الله لا يحب الفحش، ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله، ترى
ما يقولون؟
فقال: ألست ترين أردُّ عليهم ما يقولون، وأقول: وعليكم، قالت:
فنزلت هذه الآية في ذلك. قال الزجاج: والسام: الموت.
والثاني: أنها نزلت في المنافقين، رواه عطية عن ابن عباس.
قال المفسرون: ومعنى «حيَّوك» سَلَّموا عليك بغير سلام الله
عليك، وكانوا يقولون: السّام عليك. فإذا خرجوا يقولون في
أنفسهم، أو يقول بعضهم لبعض: لو كان نبياً عذّبنا بقولنا له ما
نقول.
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
تَناجَيْتُمْ فيها قولان: أحدهما: نزلت في المنافقين، فالمعنى:
يا أيها الذين آمنوا بزعمهم، وهذا قول عطاء ومقاتل. والثاني:
أنها في المؤمنين، والمعنى:
أنه نهاهم عن فعل المنافقين واليهود، وهذا مذهب جماعة، منهم
الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: فَلا تَتَناجَوْا هكذا قرأ الجماعة بألف. وقرأ
يعقوب وحده «فلا تتنجَّوا» . فأما «البِرُّ» فقال مقاتل: هو
الطاعة، و «التقوى» ترك المعصية. وقال أبو سليمان الدّمشقي:
«البرّ» الصدق،
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية كذبه غير واحد.
صحيح. أخرجه البخاري 6401 والبغوي في «شرح السنة» 3206 عن
قتيبة بن سعيد به. وأخرجه البخاري 2935 و 6030 وفي «الأدب
المفرد» 311 من طريق أيوب عن ابن مليكة به. وأخرجه مسلم 2165 ح
11 والواحدي في «الوسيط» 4/ 262 من طريق مسروق عن عائشة به.
وأخرجه البخاري 6024 و 6256 و 6395 ومسلم 2165 والترمذي 2701
وأحمد 6/ 37 و 199 وعبد الرزاق 1946 وابن حبان 6441 والبيهقي
في «السنن» 9/ 203 وفي «الآداب» 286 من طرق عن الزهري عن عروة
عن عائشة به.
__________
(1) انظر الأثر المتقدم.
(2) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو متروك متهم.
- وورد مختصرا في ذكر المنافقين فحسب، من مرسل قتادة، أخرجه
الطبري 3770. [.....]
(4/246)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي
الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا
قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
و «التقوى» ترك الكذب. ثم ذكر أن ما يفعله
اليهود والمنافقون، من الشيطان، فقال عزّ وجلّ: إِنَّمَا
النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ أي: من تزيينه، والمعنى: إنما
يزيِّن لهم ذلك لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وقد بيّنّا آنفا
ما كان يحزن المؤمنين من هذه النجوى وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ
شَيْئاً أي: وليس الشيطان بضارِّ المؤمنين شيئاً إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بإرادته وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ أي: فليكلوا أُمورهم إليه.
[سورة المجادلة (58) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا
فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا
قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
قوله عزّ وجلّ: إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ
وقرأ عاصم «في المجالس» على الجمع، وذلك أنّ كل جالس له مجلس،
فالمعنى: ليفسح كل رجل منكم في مجلسه «1» .
(1402) قال المفسرون: نزلت في نفر من المؤمنين كانوا يسابقون
إلى مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا أقبل المهاجرون
وأهل السابقة، لم يجدوا موضعا، وكان رسول الله صلّى الله عليه
وسلم يحب أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه، فبينما رسول الله
صلّى الله عليه وسلم يوم جمعة جالس في صُفَّةٍ ضيِّقةٍ في
المسجد، جاء نفر من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس،
فسلَّموا وانتظروا أن يوسّعوا لهم، فأوسعوا لبعضهم، وبقي
بعضهم، فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: قم
يا فلان، قم يا فلان، حتى أقام من المجلس على عدة من هو قائم
من أهل السابقة، فرأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في وجوه
من أقامهم الكراهة، وتكلَّم المنافقون في ذلك وقالوا: والله ما
عدل، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، فإذا أقبل مقبل ضَنّوا بمجلسهم، فأمرهم الله أن يفسح
بعضهم لبعض. قال المفسرون: ومعنى «تفسّحوا» توسّعوا وذلك أنهم
كانوا يجلسون متصافّين حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلا
يجد غيرهم مجلساً عنده، فأمرهم أن يوسِّعوا لغيرهم ليتساوى
الناس في الحظِّ منه، ويظهر فضيلة المقرَّبين إليه من أهل بدر
وغيرهم.
وفي المراد «بالمجلس» هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مجلس
الحرب ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في الصفِّ، فيقول
لهم: توسَّعوا، فيأبَوْن عليه لحرصهم على القتال، وهذا قول ابن
عباس والحسن وأبي العالية والقرظي. والثاني: أنه مجلس رسول
الله صلّى الله عليه وسلم، قاله مجاهد. وقال قتادة: كان هذا
للنبي صلّى الله عليه وسلم ومن حوله خاصة. والثالث: مجالس
الذكر كلِّها، روي عن قتادة أيضا. وقرأ عليّ بن أبي طالب عليه
السلام وأبو رزين وأبو عبد الرحمن ومجاهد والحسن وعكرمة وقتادة
وابن أبي عبلة والأعمش: «تفسحوا في المجالس» بألف على الجمع.
قوله عزّ وجلّ: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي: يوسّع الله لكم
الجنّة، والمجالس فيها.
__________
عزاه ابن كثير 4/ 383- 384 لابن أبي حاتم عن مقاتل، وهذا مرسل،
ومقاتل ذو مناكير، وهذا منها.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 18: والصواب من
القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن
يتفسحوا في المجلس، ولم يخصص بذلك مجلس النبي صلّى الله عليه
وسلم دون مجلس القتال، وكلا الموضعين يقال له مجلس، فذلك على
جميع المجالس من مجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومجالس
القتال.
(4/247)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ (13)
وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا قرأ نافع، وابن
عامر، وحفص عن عاصم «انشُزوا فانشُزوا» برفع الشين فيهما. وقرأ
ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بكسر الشين فيهما.
ومعنى «انشزوا» قوموا. قال الفراء: وهما لغتان.
وفي المراد بهذا القيام خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه القيام
إلى الصلاة، وكان رجال يتثاقلون عنها، فقيل لهم: إِذا نودي
للصلاة فانهضوا، هذا قول عكرمة، والضحاك. والثاني: أنه القيام
إلى قتال العدو، قاله الحسن. والثالث: أنه القيام إلى كل خير،
من قتال، أو أمر بمعروف، ونحو ذلك، قاله مجاهد.
(1403) والرابع: أنه الخروج من بيت رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، وذلك أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلّى الله
عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم آخرهم عهداً به، فأُمروا
أن ينشُزوا إذا قيل لهم: انشزوا، قاله ابن زيد. والخامس: أن
المعنى: قوموا وتحرَّكوا وتوسَّعوا لإخوانكم، قاله الثعلبي.
قوله عزّ وجلّ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
أي: يرفعهم بإيمانهم على من ليس بمنزلتهم من أهل الإيمان
وَيرفع الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ على مَن ليس بعالم. وهل
هذا الرفع في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه
إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنة. والثاني: أنه ارتفاع
مجالسهم في الدنيا، فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في
الدِّين والعلم. وكان ابن مسعود يقول: أيها الناس:
افهموا هذه الآية ولْتُرغِّبْكم في العلم، فإن الله يرفع
المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 12 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ (13)
قوله عزّ وجلّ: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ في سبب نزولها
قولان.
(1404) أحدهما: أنّ الناس سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم
حتى شقُّوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيّه،
__________
باطل، أخرجه الطبري 33785 عن عبد الرحمن بن زيد، وهذا معضل،
وابن زيد واه، والمتن باطل.
ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» للسيوطي 1083
من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لانقطاعه
بينهما.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 384: وقد اختلف
الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال:
فمنهم من رخّص في ذلك محتجا بحديث: «قوموا إلى سيدكم» اه.
والأولى ترك القيام لما فيه من مخالفات وذرائع ينبغي سدّها
ذلك، وكثير من أهل العلم يجعلونه حتما لازما على الطالب وإن
كانوا لا يقولونه صريحا.
فإنهم يؤكدون ذلك على أنه من باب احترام وإجلال العلم، والصواب
أن نفوسهم هي التي تطلب ذلك. وقد شاهدت حادثة أذكرها ليتبين
ويظهر الأمر جليا في ذلك. كنا في صف وعلى مقاعد الدراسة، وكان
حصة القرآن الكريم الطالب يتلو والشيخ يسمع. إذ دخل شيخ آخر
كبير وبدل أن يبقى الجميع على ما هم عليه قام الجميع على حين
غفلة احتراما للشيخ وكما تعلم هؤلاء الطلبة مما أدى إلى وقوع
كتاب الله عز وجل على الأرض وأخذه الطالب وكأن شيئا لم يحصل
فهذا القيام وفي مثل هذه الحال غير جائز بالإجماع والعالم الذي
يرى الطالب، وقد قام له أثناء تلاوة القرآن عليه أن ينهاه عن
ذلك وإلا فهو آثم عند جميع الفقهاء وأهل العلم.
وقد أجمع أهل الحديث وعلم المصطلح على كراهة القيام لأحد أثناء
تلاوة الحديث فكيف أثناء تلاوة القرآن؟!!. نسأل الله أن يبصرنا
بعيوبنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع مجيب والحمد لله رب
العالمين.
(4/248)
فأنزل هذه الآية، قاله ابن عباس.
(1405) والثاني: أنها نزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا
يكثرون مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويغلبون الفقراء
على المجالس، حتى كره رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك،
فنزلت هذه الآية، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئاً، وأما أهل
الميسرة فبخلوا، واشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله
عليه وسلم، فنزلت الرخصة، قاله مقاتل بن حيَّان.
(1406) وإلى نحوه ذهب مقاتل بن سليمان، إلا أنه قال: فقدر
الفقراء حينئذ على مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم
يقدِّمْ أحدٌ من أهل الميسرة صدقة غير عليّ بن أبي طالب رضي
الله عنه.
(1407) وروى مجاهد عن عليّ رضي الله عنه قال: آية في كتاب الله
لم يعمل بها أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى. كان
لي دينار، فبعته بعشرة دراهم، فكلما أردت أن أناجي رسول الله
صلّى الله عليه وسلم قدَّمت درهماً، فنسختها الآية الأخرى
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا الآية.
قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي: تقديم
الصدقة على المناجاة خير لكم، لما فيه من
__________
ضعيف، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 6/ 272 عن مقاتل بن
حيان، وهذا مرسل، فهو ضعيف.
عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهو ممن يصنع الحديث، فخبره لا
شيء.
ضعيف. أخرجه الطبري 33788 عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم
الضعيف. وروي عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية،
دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: أما ترى دينارا؟
قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟
قلت: حبة أو شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت: أَأَشْفَقْتُمْ
أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ قال علي:
فبي قد خفف الله عن هذه الأمة. أخرجه الترمذي 3300 وابن أبي
شيبة 12/ 81- 82 وأبو يعلى 400 وابن حبان 6941 والعقيلي في
«الضعفاء» 3/ 243 من طريق عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن عثمان
بن المغيرة الثقفي عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة
الأنماري عن علي بن أبي بن أبي طالب به. وأخرجه الطبري 33796
وابن حبان 6942 والنسائي في «الخصائص» 152 عن سفيان الثوري
بالإسناد المذكور. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» 5/ 204 من طريق
شريك عن عثمان المغيرة به. وفي إسناده علي بن علقمة. قال
العقيلي:
قال البخاري في حديثه نظر. وفي «الميزان» 5893: وقال ابن
المديني: لا أعلم له راويا غير سالم اه. وفي هذه إشارة إلى أنه
مجهول. وقال عنه ابن حبان في «المجروحين» 2/ 109 منكر الحديث
يروي عن علي بما لا يشبه حديثه، فلا أدري سمع منه، أو أخذ ما
يروي عنه عن غيره. والذي عندي ترك الاحتجاج به إلا حين وافق
الثقات من أصحاب علي اه. وتابعه ابن أبي ليلى عند الحاكم 2/
481- 482 وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! والصواب أن
فيه يحيى بن المغيرة السعدي، وهو لم يرو له الشيخان، ولا
أحدهما لكن وثقه أبو حاتم وابن حبان، وللحديث علة أخرى، وهي
الإرسال، حيث رواه ابن أبي ليلى بصيغة الإرسال، وهو كثير
الإرسال، ثم وقع تخليط في هذه الرواية فقد جعله من كلام النبي
صلّى الله عليه وسلم بدل كونه من كلام علي، وهذا دليل على أنها
رواية واهية ليست بشيء. وأخرج عبد الرزاق في «التفسير» 3178
والطبري 33789 و 33791 والواحدي في «الوسيط» 4، 266 من طريق
مجاهد عن علي بن أبي طالب قال: آية في كتاب الله لم يعمل بها
أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد غيري، آية النجوى: كان لي دينار
فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول الله قدمت درهما،
فنسخت بالآية الأخرى أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية. وإسناده ضعيف لانقطاعه بين
مجاهد وعلي.
الخلاصة: هو خبر ضعيف ولا يحتج بمثل هذه الأخبار في هذه
المواضع، فلا يثبت بمثل ذلك سبب نزول آية ولا كونها خاصة.
وانظر «أحكام القرآن» 2056 و 2057 بتخريجنا.
(4/249)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا
هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ
كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى
شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ
أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ
(20)
طاعة الله، وأطهر لذنوبكم فَإِنْ لَمْ
تَجِدُوا يعني: الفقراء فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إذ
عفا عمّن لا يجد.
قوله عزّ وجلّ: أَأَشْفَقْتُمْ أي: خِفتم بالصدقة الفاقةَ
وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي: فتجاوز عنكم، وخَفَّف بنسخ
إيجاب الصدقة. قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال. قال
قتادة: ما كان إلّا ساعة من نهار.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 20]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ
وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً
فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ
اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ
اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ
(20)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا
قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نزلت في المنافقين الذين
تولَّوا اليهود، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين.
(1408) وقال السدي، ومقاتل: نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق،
وذلك أنه كان يجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويرفع
حديثه إلى اليهود، فدخل عليه يوماً، وكان أزرق، فقال له رسول
الله صلّى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف
بالله ما فعل، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «فعلت»
فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله هذه
الآيات.
(1409) وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث ابن عباس،
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان في ظل حُجرة من حجره،
وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنه سيأتيكم إِنسان ينظر إِليكم
بعيني شيطان، فإذا أتاكم فلا تُكلِّموه، فجاء رجل أزرق، فدعاه
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: علام تشتمني أنت وفلان
وفلان؟ فانطلق الرجل فدعاهم، فحلفوا بالله واعتذروا إليه،
فأنزل الله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
فَيَحْلِفُونَ الآية.
فأما التفسير، فالذين تولَّوا: هم المنافقون، والمغضوب عليهم:
هم اليهود ما هُمْ مِنْكُمْ يعني:
المنافقين ليسوا من المسلمين، ولا من اليهود وَيَحْلِفُونَ
عَلَى الْكَذِبِ وهو ما ذكرنا في سبب نزولها.
وقال بعضهم: حلفوا أنهم ما سبّوا رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، ولا تولَّوْا اليهود وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كَذَبة
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أي: سترة يَتَّقُون بها
القتل. قال ابن قتيبة: المعنى: استتروا بالحلف، فكلما ظهر لهم
شيء يوجب معاقبتهم حلفوا كاذبين. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: صَدُّوا النَّاس عن دين الإسلام،
قاله السّدّيّ. والثاني: صدّوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ
مالهم. قوله عزّ وجلّ:
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 798 عن السدي ومقاتل بدون
إسناد، وهذا مرسل.
وله شاهد من حديث ابن عباس وهو الآتي.
حسن، أخرجه أحمد 1/ 2401 والحاكم 2/ 482 والطبري 33805
والواحدي 799. صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وقال
الهيثمي في «المجمع» 7/ 122 رجال أحمد رجال الصحيح اه.
(4/250)
كَتَبَ اللَّهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
(21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ
كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ
أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ
حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (22)
فَيَحْلِفُونَ لَهُ قال مقاتل، وقتادة:
يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين، كما حلفوا لأوليائه
في الدنيا وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من أَيمانهم
الكاذبة أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ في قولهم وأيمانهم.
قوله عزّ وجلّ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ قال أبو
عبيدة: غلب عليهم، وحاذهم، وقد بينا هذا في سورة النّساء عند
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ «1» ، وما بعد
هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ:
أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي: في المغلوبين، فلهم في الدنيا
ذلّ، وفي الآخرة خزي.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 21 الى 22]
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ
قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ
إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ
وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (22)
قوله عزّ وجلّ: كَتَبَ اللَّهُ أي: قضى الله لَأَغْلِبَنَّ
أَنَا وَرُسُلِي وفتح الياء نافع، وابن عامر.
قال المفسرون: من بُعث من الرسل بالحرب، فعاقبة الأمر له، ومن
لم يبعث بالحرب، فهو غالب بالحجة إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ أي: مانع حزبه من أن يذلّ.
قوله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْماً الآية. اختلفوا فيمن نزلت على
أربعة أقوال:
(1410) أحدها: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه يوم
أُحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، فقال: يا رسول
الله دعني أكون في الرَّعلة الأولى، فقال: متِّعنا بنفسك يا
أبا بكر، وفي مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد،
وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي علي وحمزة قتلا
عتبة وشيبة يوم بدر، قاله ابن مسعود.
(1411) والثاني: أنها نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه
وذلك أن أبا قحافة سَبَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فصكّه
أبو بكر صَكَّةً شديدةً سقط منها، ثم ذكر ذلك لرسول الله صلّى
الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أو
فَعلته» ؟ قال: نعم. قال: فلا تعُد إِليه، فقال أبو بكر: والله
لو كان السيف قريباً مني لقتلته، فنزلت هذه الآية، قاله ابن
جريج.
(1412) والثالث: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ، وذلك
أنه كان جالساً إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فشرب
رسول الله صلّى الله عليه وسلم ماءً، فقال عبد الله: يا رسول
الله أبق فضلة من شرابك، قال: وما تصنع
__________
ضعيف، عزاه البغوي في «التفسير» 4/ 312/ 2154 لمقاتل بن حيان
عن مرة الهمداني عن ابن مسعود قوله:
ومقاتل ذو مناكر، وهو غير حجة.
باطل، أخرجه ابن المنذر كما في «أسباب النزول» 1089 عن ابن
جريج، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 800 عن ابن جريج
تعليقا، وهذا واه ابن جريح مدلس، لم يذكر من حدثه، ومع ذلك هو
معضل، فالخبر شبه موضوع، قال الإمام أحمد: هذه المراسيل التي
يرسلها ابن جريج كأنها موضوعة.
- راجع «الميزان» في ترجمة ابن جريج واسمه عبد الملك بن عبد
العزيز.
عزاه المصنف للسدي، ولم أقف عليه، وهو مرسل بكل حال فهو واه.
__________
(1) النساء: 141.
(4/251)
بها؟ فقال: أسقيها أبي، لعل الله سبحانه
يطهر قلبه، ففعل، فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟ قال: فضلة من
شراب رسول الله جئتك بها لتشربها، لعل الله يطهر قلبك، فقال:
هلا جئتني ببول أُمِّكَ! فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في قتل أبي، فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: ارفق به، وأحسن إليه، فنزلت هذه الآية،
قاله السدي.
(1413) والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ حين كتب
إلى أهل مكّة يخبرهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد عزم
على قصدهم، قاله مقاتل، واختاره الفراء، والزجاج.
وهذه الآية قد بَيَّنتْ أن مودَّة الكفار تقدح في صحة الإيمان،
وأن من كان مؤمناً لم يوالِ كافراً وإِن كان أباه أو ابنه أو
أحداً من عشيرته.
قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ، يعني: الذين لا يوادُّون من حادَّ
الله ورسوله كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وقرأ المفضل عن
عاصم «كُتِبَ» برفع الكاف والنون من «الإيمان» . وفي معنى
«كتب» خمسة أقوال: أحدها: أثبت في قلوبهم الإيمان، قاله الربيع
بن أنس. والثاني: جعل، قاله مقاتل. والثالث:
كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان، حكاه الماوردي.
والرابع: حكم لهم بالإيمان. وإنما ذكر القلوب، لأنها موضع
الإيمان، ذكره الثعلبي. والخامس: جمع في قلوبهم الإيمان حتى
استكملوه، قاله الواحدي. قوله عزّ وجلّ: وَأَيَّدَهُمْ أي
قوّاهم بِرُوحٍ مِنْهُ في المراد «بالروح» هاهنا خمسة أقوال:
أحدها: أنه النصر، قاله ابن عباس والحسن. فعلى هذا سمي النصر
روحاً لأن أمرهم يحيا به. والثاني: الإيمان، قاله السدي.
والثالث: القرآن، قاله الربيع. والرابع: الرحمة، قاله مقاتل.
والخامس: جبريل عليه السلام أيَّدهم به يوم بدر، ذكره
الماوردي. فأما حِزْبُ اللَّهِ فقال الزجاج: هم الدّاخلون في
الجمع الذين اصطفاهم الله وارتضاهم، و «ألا» كلمة تنبيه وتوكيد
للقصة.
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية متهم بالكذب، وخبر حاطب
في «الصحيحين» وليس فيه ذكر نزول هذه الآية.
(4/252)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا
ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ
لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ
لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ
النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
(4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا
قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ
الْفَاسِقِينَ (5)
سورة الحشر
وهي مدنية كلها بإجماعهم، وذكر المفسّرون أنّ جميعها نزل في
بني النّضير. وكان ابن عباس يسمّي هذه السّورة «سورة بني
النّضير» وهذه الإِشارة إِلى قصتهم.
(1414) ذكر أهل العِلْم بالتفسير والسّير: أنّ رسول الله صلّى
الله عليه وسلم خرج إلى مسجد قباء، ومعه نفر من أصحابه، فصلّى
فيه، ثم أتى بني النّضير، فكلّمهم أن يعينوه في دية رجلين كان
قد آمنهما، فقتلهما عمرو بن أميّة الضّمريّ وهو لا يعلم،
فقالوا: نفعل، وهمّوا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر
على البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال سلّام بن مشكم: لا تفعلوا،
والله ليخبرن بما هممتم به، وجاء رسول الله صلّى الله عليه
وسلم الخبر، فنهض سريعا، فتوجّه إلى المدينة، فلحقه أصحابه،
فقالوا: قمت ولم نشعر؟! فقال: همّت يهود بالغدر، فأخبرني الله
بذلك، فقمت، وبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم محمّد
بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدتي، فلا تساكنوني، وقد هممتم بما
هممتم به، وقد أجّلتكم عشرا. فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه،
فمكثوا أياما يتجهّزون، فأرسل إليهم ابن أبيّ: لا تخرجوا، فإنّ
معي ألفين من قومي وغيرهم، وتمدّكم قريظة، وحلفاؤكم من غطفان،
وطمع حييّ فيما قال ابن أبيّ، فأرسل إلى رسول الله صلّى الله
عليه وسلم: إنّا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك، فكبّر رسول الله
صلّى الله عليه وسلم، فكبّر المسلمون لتكبيره، وقال:
حاربت يهود، ثم سار إليهم في أصحابه، فلمّا رأوه، قاموا على
حصونهم معهم النّبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخذلهم ابن
أبيّ وحلفاؤهم من غطفان، وكان رئيسهم كعب بن الأشرف قد خرج إلى
مكّة فعاقد المشركين على التظاهر على رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، فأخبر الله نبيّه بذلك، فبعث محمّد بن مسلمة فاغترّه
فقتله، وحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقطع نخلهم،
فقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فأجلاهم عن المدينة، فمضى بعضهم
إلى الشّام، وبعضهم إلى خيبر، وقبض أموالهم وسلاحهم، فوجد
خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا.
فأمّا التفسير فقد ذكرنا فاتحة هذه السّورة في أوّل الحديد.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ
الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ
لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ
النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
(4)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى
أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
__________
عزاه المصنف لأهل التفسير والسير، ولم أره بهذا اللفظ، والظاهر
أنه ساقه بمعناه. وانظر «السيرة النبوية» 3/ 151 و «تفسير ابن
كثير» 4/ 391 و «الدر المنثور» 6/ 277 و «أسباب النزول» 802.
(4/253)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: يهود بني
النضير مِنْ دِيارِهِمْ أي: من منازلهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ
فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم أول من حُشر وأُخرج من داره،
قاله ابن عباس. وقال ابن السائب: هم أول من نفي من أهل الكتاب.
والثاني: أن هذا كان أول حشرهم، والحشر الثاني: إلى أرض المحشر
يوم القيامة، قاله الحسن.
(1415) قال عكرمة: من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه
الآية، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال لهم يومئذ:
اخرجوا، فقالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر.
والثالث: أن هذا كان أول حشرهم وأن الحشر الثاني: نار تحشرهم
من المشرق إلى المغرب، قاله قتادة. والرابع: هذا كان أول حشرهم
من المدينة، والحشر الثاني: من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى
أذرعات وأريحا من أرض الشام في أيام عمر بن الخطّاب، رضي الله
عنه، قاله مرّة الهمداني.
قوله عزّ وجلّ: ما ظَنَنْتُمْ يخاطب المؤمنين أَنْ يَخْرُجُوا
من ديارهم لعزِّهم، ومَنَعَتِهم، وحُصُونهم وَظَنُّوا: يعني:
بني النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله فَأَتاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وذلك أنّه أمر نبيّه صلّى الله
عليه وسلم بقتالهم وإِجلائهم، ولم يكونوا يظنون أن ذلك يكون،
ولا يحسبونه وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ لخوفهم من
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقيل: لقتل سيدهم كعب بن
الأشرف يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ قرأ أبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد. وقرأ الباقون
«يخربون» بالتخفيف وهل بينهما فرق، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما:
أن المشددة معناها: النقض والهدم. والمخففة معناها:
يخرجون منها ويتركونها خراباً معطَّلة، حكاه ابن جرير. وروي عن
أبي عمرو أنه قال: إنما اخترت التشديد، لأن بني النضير نقضوا
منازلهم، ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة. والثاني: أن القراءتين
بمعنى واحد. والتخريب والإخراب لغتان بمعنى، حكاه ابن جرير عن
أهل اللغة. وللمفسرين فيما فعلوا بمنازلهم أربعة أقوال: أحدها:
أنه كان المسلمون كلما ظهروا على دارٍ من دُورهم هدموها ليتسع
لهم مكان القتال، وكانوا هم ينقبون دورهم، فيخرجون إِلى ما
يليها، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كان المسلمون كلما هدموا
شيئا من حصونهم نقضوا هم ما يبنون به الذي خربه المسلمون، قاله
الضحاك.
والثالث: أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم، أو العمود،
أو الباب، يستحسنونه، فيهدمون
__________
هو مرسل وورد موصولا. أخرجه البزار 3426 «كشف» من طريق أبي سعد
البقال عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف أبي سعد
البقال. وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 8355: فيه أبو سعيد
البقال، والغالب على حديثه الضعف. قلت: وكون المحشر في الشام،
ورد في أحاديث أخرى. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي
5873 بتخريجنا.
(4/254)
البيوت، وينزعون ذلك منها، ويحملونه معهم،
ويخرب المؤمنون باقيها، قاله الزهري. والرابع: أنهم كانوا
يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون، حسداً منهم، وبغياً، قاله ابن
زيد.
قوله عزّ وجلّ: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ الاعتبار:
النظر في الأمور، ليعرف بها شيء آخر من جنسها، و «الأبصار»
العقول. والمعنى: تدبَّروا ما نزل بهم وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ
اللَّهُ أي: قضى عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ وهو خروجهم من أوطانهم.
وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين: أحدهما: أن الجلاء:
ما كان مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل
والولد. والثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة. والإخراج: قد
يكون لواحد ولجماعة. والمعنى: لولا أن الله قضى عليهم بالخروج
لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي، كما فعل بقريظة
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مع ما حلَّ بهم في الدنيا عَذابُ
النَّارِ (3) ذلِكَ الذي أصابهم بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
وقد سبق بيان الآية «1» . قال القاضي أبو يعلى:
فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من
ديارهم من غير سبي ولا استرقاق، ولا جزية، ولا دخول في ذمة،
وهذا حكم منسوخ إِذا كان في المسلمين قوة على قتالهم، لأن الله
تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا، أو يُؤدُّوا الجزية.
وإِنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم
يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذمة، فيجوز لهم حينئذ
مصالحتهم على الجلاء من بلادهم. وفي هذه القصة دلالة على جواز
مصالحتهم على مجهول من المال.
(1416) لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم صالحهم على أرضهم،
وعلى الحلقة «2» ، وترك لهم ما أقلّت الإبل، وذلك مجهول.
وقوله عزّ وجلّ: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ.
(1417) سبب نزولها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حرق نخل
بني النضير وقطع، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم من
حديث ابن عمر.
(1418) وذكر المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصَّنوا في
حصونهم، فأمر بقطع نخيلهم،
__________
صحيح. أخرجه أبو داود 3004 مطولا عن الزهري عن عبد الرحمن بن
كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم،
وإسناده على شرط البخاري ومسلم، وجهالة الصحابي لا تضر.
وأخرجه الطبري 33825 عن الزهري مرسلا. وله شواهد كثيرة.
صحيح. أخرجه البخاري 4031 والبغوي 3676 عن آدم به من حديث ابن
عمر. وأخرجه البخاري 4884 ومسلم 1746 وأبو داود 1615 والترمذي
3298 وابن ماجة 2844 والواحدي في «أسباب النزول» 805 وأحمد 2/
123 من طرق عن الليث به. وأخرجه مسلم 1746 ح 31 وابن ماجة 2845
والدارمي 2/ 222 من طريق عبيد الله عن نافع به. وأخرجه البخاري
3021 ومسلم 1746 وأحمد 2/ 7- 8 و 52 و 80 والطبري 33853
والواحدي 806 والبيهقي 9/ 83 والبغوي في «شرح السنة» 3675 من
طرق عن جويرية عن نافع به.
وأخرجه البيهقي 9/ 83 من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن نافع.
ذكره الواحدي في «الأسباب» 804 من غير عزو لقائل. وورد من مرسل
قتادة، أخرجه الطبري 33851.
وورد من مرسل يزيد بن رومان، أخرجه الطبري 33850.
__________
(1) الأنفال: 13، ومحمد: 32.
(2) أي السلاح.
(4/255)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً
بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا
غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
(10)
وإحراقها، فجزعوا، وقالوا: يا محمد زعمتَ
أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل؟ وهل وجدت
فيما أُنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلّى
الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم. واختلف
المسلمون، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا.
وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها، فنزلت الآية بتصديق من نهى عن
قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله
تعالى.
وفي المراد «باللينة» ستة أقوال «1» : أحدها: أنه النخل كلُّه
ما خلا العجوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وبه قال عكرمة،
وقتادة، والفراء. والثاني: أنها النخل والشجر، رواه عطاء عن
ابن عباس.
والثالث: أنها ألوان النخل كلّها إلا العجوة، والبرنية، قاله
الزهري، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقال الزجاج:
أهل المدينة يسمون جميع النخيل: الألوان، ما خلا البرني،
والعجوة. وأصل «لينة» لِوْنة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما
قبلها. والرابع: أنها النخل كلُّه، قاله مجاهد وعطية، وابن
زيد. قال ابن جرير: معنى الآية: ما قطعتم من ألوان النخيل.
والخامس: أنها كرام النخل، قاله سفيان. والسادس: أنها ضرب من
النخل يقال لتمرها: اللون، وهي شديدة الصُّفْرة، ترى نواه من
خارج، وكان أعجب تمرهم إليهم، قاله مقاتل. وفي عدد ما قطع
المسلمون ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قطعوا وأحرقوا ستة نخلات،
قاله الضحاك. والثاني:
أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة، قاله ابن إسحاق. والثالث: قطعوا أربع
نخلات، قاله مقاتل.
قوله عزّ وجلّ فَبِإِذْنِ اللَّهِ قال يزيد بن رومان ومقاتل:
بأمر الله. قوله عزّ وجلّ: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يعني
اليهود. وخزيهم: أن يُريَهم أموالهم يتحكَّم فيها المؤمنون كيف
أحبُّوا. والمعنى:
وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله: فَبِإِذْنِ
اللَّهِ.
[سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ
اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ
مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ
لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما
آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ
مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً
مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ
بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 33: والصواب من
القول في ذلك قول من قال: اللينة: النخلة، وهي من ألوان النخل
ما لم تكن عجوة. ووافقه القرطبي، وقال ابن العربي: والصحيح ما
قاله الزهري ومالك لوجهين- وهو اختيار الطبري-: أنهما أعرف
ببلدهما وأشجارهما. والثاني: أن الاشتقاق يعضده، وأهل اللغة
يصححونه، فإن اللينة وزنها لونه، واعتلت على أصولهم فآلت إلى
لينة فهي لون.
(4/256)
قوله عزّ وجلّ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى
رَسُولِهِ أي: ما ردَّ عليهم مِنْهُمْ يعني: من بني النضير
فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ قال أبو
عبيدة: الإيجاف: الإيضاع، والركاب: الإبل. قال ابن قتيبة:
يقال: وجف الفرس والبعير، وأوجفته، ومثله: الإيضاع، وهو
الإسراع في السير. وقال الزجاج: معنى الآية: أنه لا شيء لكم في
هذا، إنما هو لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة.
قال المفسرون: طلب المسلمون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أن يخمِّسَ أموال بني النضير لما أُجْلُوا، فنزلت هذه الآية
تبيّن أنها فيء لم تحصل لهم بمحاربتهم، وإنما هو بتسليط رسول
الله صلّى الله عليه وسلم، فهو له خاصة، يفعل فيه ما يشاء.
(1419) فقسمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين المهاجرين،
ولم يعط الأنصار منه شيئاً، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم:
أبو دُجَانة، وسهل بن حُنيف، والحارث بن الصّمّة.
ثم ذكر حكم الفيء فقال عزّ وجلّ: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي: من أموال كفار أهل القرى
فَلِلَّهِ أي: يأمركم فيه بما أحبّ، وَلِلرَّسُولِ بتحليل الله
إياه. وقد ذكرنا «ذوي القربى واليتامى» في الأنفال «1» وذكرنا
هناك الفرق بين الفيء والغنيمة.
فصل «2» :
واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فذهب قوم إلى أنّ المراد
بالفيء هاهنا:
الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة، وكانت
في بدوِّ الإسلام للذين سمّاهم الله هاهنا دون الغانمين
الموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال:
__________
ذكره البغوي في «تفسيره» 4/ 292 بدون إسناد، وقال الحافظ في
«تخريج الكشاف» 4/ 505 ذكره الثعلبي بغير سند، وروى الواقدي عن
معمر عن الزهري عن خارجة بن زيد أم العلاء قالت: «لما غنم رسول
الله صلّى الله عليه وسلم بني النضير قال لثابت بن قيس بن
شماس: ادع لي الأنصار كلهم فقال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين
المهاجرين، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم، فقال السعدان:
بل تقسمه للمهاجرين ويكونوا في دورنا، فرضيت الأنصار، فأعطى
المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا رجلين محتاجين سهل بن حنيف،
وأبا دجانة، ونفل ابن الحقيق. سعد بن معاذ «وكان له ذكر عندهم
... اه وانظر «سنن أبي داود» 3004 حديث عبد الرحمن بن كعب بن
مالك عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) الأنفال: 41.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 396: يقول تعالى:
مبينا لمال الفيء، وما صفته؟ وما حكمه؟ فالفيء:
كل مال أخذ من الكفار بغير قتال ولا إيجاف خيل، ولا ركاب
كأموال بني النضير هذه، فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل
ولا ركاب، أي: لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة بل
نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول
الله صلّى الله عليه وسلم- فأفاءه الله على رسوله، ولهذا تصرف
فيه كما شاء، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي
ذكرها الله تعالى في هذه الآيات، فقال: وَما أَفاءَ اللَّهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أي: من بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ
عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ يعني الإبل، وَلكِنَّ
اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: هو قدير لا يغالب ولا يمانع، بل هو
القاهر لكل شيء. ثم قال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ
مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي جميع البلدان التي تفتح هكذا، فحكمها
حكم أموال بني النضير.
ولهذا قال: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ إلى آخرها والتي بعدها. فهذه مصارف
أموال الفيء ووجوهه.
(4/257)
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ الآية «1» ، هذا قول قتادة ويزيد بن رومان. وذهب قوم
إلى أنّ هذا الفيء: ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف عليه
من خيل ولا ركاب، كالصلح، والجزية، والعشور، ومال من مات منهم
في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله
صلّى الله عليه وسلم خمسة أخماس، فأربعة لرسول الله صلّى الله
عليه وسلم يفعل بها ما يشاء، والخمس الباقي للمذكورين في هذه
الآية.
واختلف العلماء فيما يصنع بسهم الرسول بعد موته على ما بيّنّاه
في الأنفال، فعلى هذا تكون هذه الآية مبيّنة لحكم الفيء، والتي
في الأنفال «2» مبيّنة لحكم الغنيمة، فلا يتوجه النسخ.
قوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ يعني الفيء دُولَةً وهو اسم للشيء
يتداوله القوم. والمعنى: لئلّا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبون
الفقراء عليه. قال الزجاج: الدُّولة: اسم الشيء يتداول.
والدَّولة، بالفتح:
الفعل والانتقال من حال إلى حال وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ من
الفيء فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عن أخذه فَانْتَهُوا وهذا نزل
في أمر الفيء، وهو عام في كل ما أمر به، ونهى عنه. قال الزجاج:
ثم بين مَن المساكين الذين لهم الحقّ، فقال عزّ وجلّ:
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ قال المفسرون:
يعني بهم المهاجرين يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أي:
رزقاً يأتيهم وَرِضْواناً رضى ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة
أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إِيمانهم. ثم مدح الأنصار حين
طابت نفوسهم عن الفيء، فقال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا
الدَّارَ يعني: دار الهجرة، وهي المدينة وَالْإِيمانَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فيها تقديم وتأخير، تقديره: والذين تبوءوا الدار من
قبلهم، أي: من قبل المهاجرين، والإيمان عطف على «الدار» في
الظاهر، لا في المعنى، لأن «الإيمان» ليس بمكان يُتَبَوَّأُ،
وإنما تقديره: وآثروا الإيمان، وإِسلام المهاجرين قبل الأنصار،
وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين. وقيل: الكلام على ظاهره،
والمعنى: تبوّءوا الدار والإيمان قبل الهجرة يُحِبُّونَ مَنْ
هاجَرَ إِلَيْهِمْ وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم، وأموالهم
وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً أي: حسداً وغيظاً مما
أوتي المهاجرون. وفيما أوتوه قولان: أحدهما: مال الفيء، قاله
الحسن. وقد ذكرنا آنفا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قسم
أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة
نفر. والثاني: الفضل والتقدّم، ذكره الماورديّ.
قوله عزّ وجلّ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ يعني الأنصار
يؤثرون المهاجرين على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم وَلَوْ كانَ
بِهِمْ خَصاصَةٌ أي فقر وحاجة، فبيّن الله عزّ وجلّ أن إيثارهم
لم يكن عن غنى. وفي سبب نزول هذا الكلام قولان:
(1420) أحدهما: أن رجلا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
وقد أصابه الجهد، فقال: يا رسول الله، إني جائع فأطعمني، فبعث
رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أزواجه: هل عندكنَّ شيء؟
فكلُّهن قلن: والذي بعثك بالحقّ
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3798 والبغوي في «التفسير» 2165 من حديث
أبي هريرة. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 809 من طريق نصر
بن علي الجهضمي عن عبد الله بن داود به. وأخرجه البخاري 4889
ومسلم 2054 والترمذي 3304 والنسائي في «التفسير» 602 وابن حبان
5286 والبيهقي 4/ 185 وفي «الأسماء والصفات» 979 والواحدي في
الوسيط» 4/ 273 من طرق عن فضل بن غزوان به.
__________
(1) الأنفال: 41.
(2) الأنفال: 41.
(4/258)
ما عهدنا إِلا الماء، فقال: ما عند رسول
الله صلّى الله عليه وسلم ما يطعمكَ هذه الليلة. ثم قال: «من
يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله؟» فقام رجل فقال: أنا يا رسول
الله، فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلّى الله
عليه وسلم، فأكرميه ولا تدَّخري عنه شيئاً، فقالت: ما عندنا
إلا قوت الصبية، فقال: قومي فعلِّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا
يطعموا شيئاً، ثم أصبحي سراجِك فإذا أخذ الضيف ليأكل، فقومي
كأنك تصلحين السراج، فأطفئيه، وتعالَيْ نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف
رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى يشبع، ففعلت ذلك، فظنّ
الضيف أنهما يأكلان معه، فشبع هو، وباتا طاويَين، فلما أصبحا
غَدَوَا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما نظر اليهما
تبسَّم، ثم قال: ضحك الله الليلة، أو عجب من فَعالكما، فأنزل
الله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية. خرجه البخاري
ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة، وفي بعض الألفاظ عن
أبي هريرة. أن الضيف كان من أهل الصُّفَّة، والمضيف كان من
الأنصار، وأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لقد عجب من
فعالكما أهلُ السماء» .
(1421) والثاني: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه
وسلم أُهْدِيَ له رأسُ شاةٍ، فقال: إِن أخي فلانا وعياله أحوج
إلى هذا، فبعث به إِليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى
تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية،
قاله ابن عمر.
(1422) وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أُهدي لبعض
الصحابة رأسُ شاةٍ مشويّ، وكان مجهوداً، فوجَّه به إلى جارٍ له
فتناوله تسعةُ أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية.
قوله عزّ وجل: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ قرأ ابن السميفع،
وأبو رجاء «ومن يُوَقَّ» بتشديد القاف.
قال المفسرون: هو أن لا يأخذ مما نهاه الله عنه، ولا يمنع
شيئاً أمره الله بأدائه. والمعنى: أن الأنصار ممن وُقِيَ شُحَّ
نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيء للمهاجرين.
فصل:
وقد اختلف العلماء في الشح والبخل، هل بينهما فرق، أم لا؟ فقال
ابن جرير: الشُّحُّ في كلام العرب: هو منع الفضل من المال.
وقال أبو سليمان الخطابي: الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما
الشُّحُّ بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال في
البخل إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو
كالوصف اللازم للإنسان من قِبَل الطَّبع والجِبِلَّة. وحكى
الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يَضِنَّ بماله، والشح: أن
يبخل بماله ومعروفه. وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن
مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال:
أسمع الله يقول: «ومن يوق شح نفسه» وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج
من يديّ شيء، فقال: ليس ذاك بالشح الذي ذكره الله في القرآن،
الشُّحُّ: أن تأكل مال أخيك ظلما، إنما البخل، وبئس الشيء
البخيل.
__________
ضعيف. أخرجه الحاكم 2/ 484 وصححه! وتعقبه الذهبي بقوله: عبيد
الله ضعفوه. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 810 من طريق
عبيد الله بن الوليد به. وعزاه السيوطي في «الدر» 6/ 289
للحاكم وابن مردويه.
عزاه القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 25- بتخريجنا
للثعلبي عن أنس، والثعلبي يروي الواهيات والموضوعات فهذا خبر
لا شيء لخلوه عن كتب الحديث والأثر.
(4/259)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا
وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا
يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ
وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا
يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ
مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ
أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ
لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ
فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
(1423) وروى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى
الله عليه وسلم قال: «برىء من الشُّحِّ من أدَّى الزكاة، وقرى
الضّيف، وأعطى في النّائبة» .
قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني
التابعين إلى يوم القيامة. قال الزّجّاج: إنّ المعنى: ما أفاء
الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين، وللذين يجيئون
من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله
صلّى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ
جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: الذين جاءوا في حال قولهم: رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا فمن ترحّم على أصحاب رسول الله
صلّى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم، فله حظّ من
فيء المسلمين، ومن شتمهم ولم يترحّم عليهم، أو كان في قلبه
غِلٌّ لهم، فما جعل الله له حقّا في شيء من فيء المسلمين بنص
الكتاب. وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال: من
تنقص أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه
عليهم غِلٌّ، فليس له حقّ في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآيات
«1» .
[سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ
لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ
فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ
أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا
يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ
الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ
رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً
إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ
(14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا
وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا
كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ
رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي
النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يعني:
عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ في
الدِّين، لأنهم كفَّار مثلهم، وهم اليهود لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أي:
في خذلانكم أَحَداً أَبَداً فكذَّبهم الله تعالى في ذلك بقوله:
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ثم ذكر أنهم
يُخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي تلي هذه،
فكان الأمر على ما ذكر الله تعالى، لأنهم أُخرجوا فلم يخرج
معهم المنافقون، وقُوتلوا فلم ينصروهم، ومعنى وَلَئِنْ
نَصَرُوهُمْ: لئن قُدِّر وجودُ نصرهم، لأن الله نفى نصرهم، فلا
يجوز وجوده. وقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ يعني: بني
النضير.
قوله عز وجل: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ يعني: المؤمنين أشد رَهْبَةً
فِي صُدُورِهِمْ وفيهم قولان:
__________
أخرجه الطبري 33883 والبيهقي في «الشعب» 10842 من حديث أنس،
وإسناده ضعيف فيه سليمان بن عبد الرحمن روى مناكير، وإسماعيل
بن عياش روايته ضعيفة عن غير الشاميين، وشيخه هنا مدني.
__________
(1) انظر «تفسير القرطبي» 18/ 31.
(4/260)
أحدهما: أنهم المنافقون، قاله مقاتل.
والثاني: بنو النّضير، قاله الفرّاء.
قوله عزّ وجلّ: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً فيهم قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون.
والثاني: اليهود والمنافقون، قاله ابو سليمان الدمشقي.
والمعنى: أنهم لا يبرزون لحربكم، إنما يقاتلون مُتَحَصِّنين
فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ وقرأ ابن كثير،
وأبو عمرو، وأبان «من وراء جدار» بألف.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي «جُدُر» بضم
الجيم والدَّال. وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن أبي عبلة
«جَدَر» بفتح الجيم والدال جميعاً، وقرأ عمر بن الخطاب،
ومعاوية، وعاصم الجحدري «جَدْر» بفتح الجيم وسكون الدال. وقرأ
علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والحسن،
وابن سيرين، وابن يعمر «جُدْر» بضم الجيم وإِسكان الدال
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ وفيه قولان: أحدهما: عداوة
بعضهم لبعض شديدة. والثاني: أنّ بأسهم بينهم فيما وراء الحصون
شديد، وإذا خرجوا إِليكم فهم أجبن خلق الله.
قوله عزّ وجلّ: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً فيهم قولان: أحدهما:
أنهم اليهود والمنافقون، قاله مقاتل.
والثاني: بنو النضير، قاله الفرّاء. قوله عزّ وجلّ:
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قال الزجاج: أي هم مختلفون لا تستوي
قلوبهم، ولا يتعاونون بنيِّات مجتمعة، لأن الله تعالى ناصر
حزبه، وخاذل أعدائه. قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ يعني ذلك الاختلاف
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما فيه الحظُّ لهم.
ثم ضرب لليهود مثلا، فقال عزّ وجلّ: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ قَرِيباً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم بنو قينقاع. وقال ابن عباس: كانوا بنو قينقاع يهودا،
وكانوا وادعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم غدروا،
فحصرهم، ثم نزلوا على حكمه أن له أموالهم، ولهم النساء
والذُّرِّية. فالمعنى: مثل بني النضير فيما فعل بهم كبني
قينقاع. والثاني: أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد.
والمعنى: مَثَلُ هؤلاء اليهود كمثلِ المشركين الذين كانوا من
قبلهم قريباً، وذلك لقرب غزوة بني النضير من غزاة بدر.
والثالث: أنهم بنو قريظة، فالمعنى: مَثَلُ بني النضير كبني
قريظة ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ بأن قُتلت مقاتلتهم، وسُبِيَتْ
ذراريهم، وهؤلاء أُجلوا عن ديارهم فذاقوا وبال أمرهم وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا فقال
عزّ وجلّ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ. والمعنى: مثل المنافقين في
غرورهم بني النضير، وقولهم: لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم، ولئن
قوتلتم لننصرنكم، كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ
وفيه قولان «1» : أحدهما: أنه مَثَلٌ ضربه الله تعالى للكافر
في طاعة الشيطان، وهو عام في جميع الناس، قاله مجاهد. والثاني:
أنه مثل ضربه الله تعالى لشخص معين، وعلى هذا جمهور المفسرين،
وهذا شرح قصته:
ذكر أهل التفسير أن عابداً من بني إسرائيل كان يقال له: برصيصا
تعبَّد في صومعةٍ له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان، فجمع
إبليس يوماً مردة الشياطين، فقال: ألا أحدٌ منكم يكفيني
برصيصا، فقال
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 402: وقد ذكر بعضهم
هاهنا- قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثال، لا
أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع
المشاكلة لها.
- وقال الشوكاني رحمه الله في «تفسيره» 5/ 245: وهذا لا يدل
على أن هذا الإنسان- المذكور في القصة الآتية- هو المقصود
بالآية بل يدل على أنه من جملة من تصدق عليه.
(4/261)
الأبيض، وهو صاحب الأنبياء: أنا أكفيكه،
فانطلق على صفة الرّهبان، فأتى صومعته، فناداه فلم يجبه، وكان
لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في كل
عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل
صومعته، فلما انفتل برصيصا، اطَّلع فرآه منتصباً يصلي على هيئة
حسنة، فناداه: ما حاجتك؟ فقال: إِني أحببت أن أكون معك، أقتبس
من عملك، وأتأدَّب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا:
إني لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم
يُقْبِلْ إليه برصيصا أربعين يوماً، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما
رأى شدة اجتهاده قال: ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول، فأذن له،
فصعِد إليه، فأقام معه حولاً لا يفطر إِلا كل أربعين يوماً،
ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوماً، وربما زاد على
ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إِليه نفسه،
فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي
صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما أرى، وكان يبلغنا عنك
غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا، وكره مفارقته، فلما
ودَّعه قال له الأبيض: إِن عندي دَعَوَاتٍ أعلمكها، يشفي الله
بها السقيم، ويعافي بها المبتلي، فقال برصيصا: إِني أكره هذه
المنزلة، لأن لي في نفسي شغلاً، فأخاف أن يعلم الناس بهذا،
فيشغلوني عن العبادة. فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى
إِبليس فقال: قد والله أهلكتُ الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرَّض
لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبِّب، فقال لأهله: إن
بصاحبكم جنوناً فأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إِني لا أقوى
على جنِّيِّه، ولكن سأرشدكم إِلى من يدعو له فيعافى فقالوا له:
دلّنا. فقال:
انطلقوا إِلى برصيصا العابد فإن عنده اسم الله الأعظم،
فانطلقوا إليه فسألوه فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنه الشيطان،
وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا،
فيُعافَوْن، فلما طال ذلك عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك
إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة
متطبِّب، فقال: أعالجها؟ قالوا: نعم. قال: إِن الذي عرض لها
مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تَدَعونها عنده، فإذا جاء
شيطانها دعا لها، قالوا: ومن هو؟ قال: برصيصا، قالوا: وكيف لنا
أن يقبلها منَّا، وهو أعظم شأناً من ذلك؟! قال: إن قبلها، وإلا
فضعوها في صومعته، وقولوا له: هي أمانة عندك، فانطلقوا اليه،
فأبى عليهم، فوضعوها عنده. وفي بعض الروايات أنه قال: ضعوها في
ذلك الغار، وهو غار إلى جنب صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان
فقال له: انزل إِليها فامسحها بيدك تعافى، وتنصرف إلى أهلها،
فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي تركض،
فسقطت عنها ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسناً
وجمالاً، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على أذنه، فجعل يختلف
اليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد
افتُضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فإن سألوك عنها قلت: جاء
شيطانها، فذهب بها، فلم يزل به حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى
صومعته، فأقبل على صلاته إِذ جاء إخوتها يسألون عنها، فقالوا:
يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها، ولم
أطقه، فصدَّقوه، وانصرفوا. وفي بعض الروايات أنه قال: دعوت
لها، فعافاها الله، ورجعتْ اليكم، فتفرَّقوا ينظرون لها أثراً،
فلما أمسَوْا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال: ويحك:
إِن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا من جبل
كذا، فقال: هذا حلم، وبرصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث
ليال، وهو لا يكترث، فانطلق إِلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر،
بمثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا
(4/262)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا
اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ
وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى
جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ
الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ
الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
وكذا، فقال الأوسط: وأنا والله، فقال
الأكبر: وأنا والله، فأتوا برصيصا، فسألوه عنها، فقال: قد
أعلمتكم بحالها، فكأنكم اتّهمتموني، فقالوا: لا والله
واستحيَوْا، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال:
ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا، وإن إِزارها لخارج من
التراب، فانطلقوا، فحفروا عنها، فرأوها، فقالوا: يا عدوَّ الله
لم قتلتها؟ اهبط، فهدموا صومعته، ثم أوثقوه، وجعلوا في عنقه
حبلاً، ثم قادوه إلى الملك فأقرّ على نفسه، وذلك أنّ الشيطان
عرض له، فقال: تقتلها ثم تكابر، فاعترف، فأمر الملك بِقَتْلِهِ
وصَلْبِهِ، فعرض له الأبيض، فقال: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا
صاحبك الذي علَّمتك الدعوات، ويحك ما اتَّقيت الله في أمانة
خنت أهلها، أما استحيَيْتَ من الله؟! ألم يكفك ذلك حتى أقررت
ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن مِتَّ على هذه الحالة لم
تفلح، ولا أحدٌ من نظرائك، قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في
خصلة حتى أُنجيك، وآخذ بأعينهم، وأُخرجك من مكانك، قال: ما هي؟
قال: تسجد لي، فسجد له، فقال: هذا الذي أردت منك، صارت عاقبة
أمرك أن كفرت إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ثم قتل. فضرب الله هذا
المثل لليهود حتى غرّهم المنافقون، ثم أسلموهم «1» .
قوله عزّ وجلّ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ ونصب ابن كثير، ونافع،
وأبو عمرو ياء «إِنيَ» وأسكنها الباقون. وقد بيَّنا المعنى في
الأنفال «2» فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني: الشيطان وذلك الكافر.
[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 20]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ
نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ
الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
قوله عزّ وجلّ: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي:
لينظر أحدكم أيّ شيء قدّم؟ عملا صالحا ينجيه؟ أم شيئا
يُوبِقُه؟ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي:
تركوا أمره فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أي: أنساهم حظوظ أنفسهم-
فلم يعملوا بالطاعة، ولم يقدِّموا خيراً. قال ابن عباس: يريد
قريظة، والنضير، وبني قينقاع.
[سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 24]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ
خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ
الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
(21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ
اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ
السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ
اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ
الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
__________
(1) ورد عن ابن عباس موقوفا: أخرجه الطبري 33904 وإسناده واه،
فيه مجاهيل: وعطية العوفي واه. وورد عن علي، أخرجه الطبري
33902 وإسناده حسن. وورد عن ابن مسعود، أخرجه الطبري 33903
وإسناده ضعيف. وورد من وجوه متعددة، ومصدر ذلك كله كتب
الأقدمين، والله تعالى أعلم.
(2) الأنفال: 48. [.....]
(4/263)
قوله عز وجل: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا
الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ أخبر الله تعالى بهذا عن تعظيم شأن هذا
القرآن، وأنه لو جعل في جبل- على قساوته وصلابته- تمييزاً، كما
جعل في بني آدم، ثم أنزل عليه القرآن لتشقّق خشية من الله،
وخوفاً أن لا يؤدِّيَ حق الله في تعظيم القرآن. و «الخاشع» :
المتطأطئ الخاضع، و «المتصدِّع» : المتشقِّق. وهذا توبيخ لمن
لا يحترم القرآن، ولا يؤثِّر في قلبه مع الفهم والعقل،
وَيَدُلُّك على هذا المثل قوله عزّ وجلّ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ثم أخبر بعظمته وربوبيّته، فقال عزّ
وجلّ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قال
الزّجّاج: قوله عزّ وجلّ: هُوَ اللَّهُ ردّ على قوله عزّ وجلّ
في أول السورة سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فأما هذه الأسماء، فقد سبق ذكر «الله» و «الرحمن» و «الرحيم»
في الفاتحة، وذكرنا معنى «عالم الغيب والشهادة» في الأنعام «1»
. و «الملك» في سورة المؤمنين «2» .
فأما «القدوس» فقرأ أبو الأشهب، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بفتح
القاف. قال أبو سليمان الخطابي: «القدوس» : الطاهر من العيوب،
المنزَّه عن الأنداد والأولاد. و «القدس» : الطاهر. ومنه سمي:
بيت المقدس، ومعناه: المكان الذي يُتَطَهَّرُ فيه من الذنوب.
وقيل للجنة: حظيرة القدس، لطهارتها من آفات الدنيا. والقدس:
السطل الذي يتطهر فيه، ولم يأت من الأسماء على فُعُّول بضم
الفاء الا «قُدُّوس» و «سُبُّوح» وقد يقال أيضاً: قَدُّوس،
وسَبُّوح بالفتح فيهما، وهو القياس في الأسماء، كقولهم:
سَفَّود، وكَلُّوب.
فأما «السلام» فقال ابن قتيبة: سمى نفسه سلاماً، لسلامته مما
يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء. وقال الخطابي: معناه ذو
السّلام. والسّلام في صفة الله سبحانه وتعالى: هو الذي سلم من
كلّ عيب، وبرئ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين. قال: وقد قيل:
هو الذي سَلِمَ الخلقُ من ظلمه.
فأما «المؤمن» ، ففيه ستة أقوال: أحدها: أنه الذي أَمِنَ
الناسُ ظلمَهُ، وأَمِنَ مَنْ آمَنَ به عذابَهُ، قاله ابن عباس
ومقاتل. والثاني: أنه المجير، قاله القرظي. والثالث: الذي
يصدِّق المؤمنين إذا وحَّدوه، قاله ابن زيد. والرابع: أنه الذي
وحّد نفسه، لقوله عزّ وجلّ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ، ذكره الزجاج. والخامس: أنه الذي يُصدِّق عباده
وعده، قاله ابن قتيبة. والسادس: أنه يصدِّق ظنون عباده
المؤمنين، ولا يُخيِّب آمالَهم.
(1424) كقول النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربّه عزّ
وجلّ: «أنا عند ظن عبدي بي» ، حكاه الخطابي.
فأما «المهيمن» ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن
عباس ومجاهد وقتادة والكسائي.
قال الخطّابي: ومنه قوله عزّ وجلّ: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ «3»
، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل.
والثاني: الأمين، قاله الضّحّاك، قال الخطّابي: أصله: مؤيمن،
فقلبت الهمزة هاء، لأنّ الهاء
__________
صحيح. أخرجه البخاري 7505 ومسلم 2675 وابن حبان 639 من حديث
أبي هريرة، وله شواهد كثيرة.
وتقدم بعضها.
__________
(1) الأنعام: 73.
(2) المؤمنون: 116.
(3) المائدة: 48.
(4/264)
أخَفُّ عليهم من الهمزة. ولم يأت
مُفَيْعِلٌ في غير التصغير، إلا في ثلاثة أحرف «مسيطر» و
«مُبيطر» و «مهيمن» وقد ذكرنا في سورة الطور «1» عن أبي عبيدة،
أنها خمسة أحرف. والثالث: المصدِّق فيما أخبر، قاله ابن زيد.
والرابع: أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له، قاله الخليل. قال
الخطابي: وقال بعض أهل اللغة. الهيمنة: القيام على الشيء،
والرعاية له، وأنشد:
أَلاَ إنَّ خَيْرَ الْنَّاس بَعْدَ نَبِيِّهِ ... مُهَيْمِنهُ
الْتاليه في الْعُرْفِ والْنُّكْرِ
يريد القائم على الناس بعد بالرِّعاية لهم. وقد زدنا هذا شرحاً
في المائدة «2» ، وبيَّنَّا معنى «العزيز» في البقرة «3» .
فأما «الجبار» ، ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنه العظيم، قاله
ابن عباس. والثاني: أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد،
قاله القرظي والسدي. وقال قتادة: جبر خلقه على ما شاء. وحكى
الخطابي: أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه، يقال:
جبره السلطان وأجبره. والثالث:
أنه الذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب المعاش والرزق.
والرابع: أنه العالي فوق خلقه، من قولهم: تجبر النبات: إِذا
طال وعلا، ذكر القولين الخطابي.
فأما «المتكبر» ففيه خمسة أقوال: أحدها: أنه الذي تكبَّر عن كل
سوءٍ، قاله قتادة. والثاني: أنه الذي تكبَّر عن ظلم عباده،
قاله الزجاج. والثالث: أنه ذو الكبرياء، وهو الملك، قاله ابن
الأنباري.
والرابع: أنه المتعالي عن صفات الخلق. والخامس: أنه الذي
يتكبَّر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة، فيقصمهم، ذكرهما
الخطابي، قال: والتاء في «المتكبر» تاء التفرّد، والتخصّص، لا
تاء التعاطي والتكلّف، والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين،
وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل. وقيل: إن المتكبر من الكبرياء
الذي هو عظمة الله، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق.
وأما «الخالق» فقال الخطابي: هو المبتدئ للخلق المخترع له على
غير مثال سبق، فأما في نعوت الآدميين، فمعنى الخلق التقدير:
كقول زهير:
ولأنت تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبعض ... الْقَوْم يَخْلُقُ ثم لاَ
يَفْرِي
يقول: إذا قدرت شيئاً قطعته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، أي:
يتمنّى ما لا يبلغه.
والبارئ: الخالق. يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم. و «المصوّر» :
هو الذي أنشأ خلقه على صُوَرٍ مختلفةٍ ليتعارفوا بها. ومعنى:
التصوير: التخطيط والتشكيل. وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء، وأبو
عمران، وابن السّميفع «البارئ المصوّر» بفتح الواو والراء
جميعا، يعنون: آدم عليه السلام. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «4»
إلى آخر السّورة.
__________
(1) الطور: 37.
(2) المائدة: 48.
(3) البقرة: 129.
(4) الأعراف: 180 والإسراء: 110.
(4/265)
|