زاد المسير في
علم التفسير يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ
كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا
أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ
يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ
يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ
وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
سورة الممتحنة
وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ
وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ
مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا
أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ
يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ
يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ
وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ
بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ.
(1425) ذكر أهل التفسير أنها نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَة،
وذلك أن سارة مولاة عمرو بن صَيْفيّ بن هاشم أتت رسول الله
صلّى الله عليه وسلم من مكّة إلى المدينة، ورسول الله صلّى
الله عليه وسلم يتجهَّزُ لفتح مكة، فقال لها:
«أمسلمةً جئتِ؟» قالتْ: لا، قال: «فما جاء بكِ؟» قالت: أنتم
الأهل والعشيرة والموالي، وقد احتجت حاجةً شديدة، فقدمت عليكم
لتعطوني. قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فأين أنتِ
من شباب أهل مكة؟» وكانت مغنية، فقالت: ما طُلِبَ مني شيءٌ بعد
وقعة بدر، فحثّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني عبد المطّلب
وبني المطلب، فَكَسَوْها، وحملوها، وأعطَوها، فأتاها حاطب بن
أبي بلتعة، فكتب معها كتاباً إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير
على أن توصل الكتاب إِلى أهل مكة: وكتب في الكتاب مِن حاطب إلى
أهل مكة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا
حذركم، فخرجت به سارة، ونزل جبريل فأخبر رسول الله صلّى الله
عليه وسلم بما فعل حاطب، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم
علياً، وعماراً، والزبير، وطلحة، والمقداد، وأبا مَرْثَدٍ،
وقال:
«انطلقوا حتى تأتوا «روضة خاخ» ، فإن فيها ظعينةً معها كتاب من
حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، وخَلُّوا سبيلها، فإن لم تدفعه
إليكم فاضربوا عنقها» فخرجوا حتى أدركوها، فقالوا لها: أين
الكتاب؟
فحلفت بالله ما معها من كتاب، ففتشوا متاعها فلم يجدوا شيئاً،
فهمُّوا بالرجوع، فقال عليٌّ: والله ما
__________
ذكره المصنف نقلا عن المفسرين، وكذا الواحدي في «أسباب النزول»
811 وما أخرجاه في الصحيحين يغني عنه. انظر الحديث الآتي.
(4/266)
كذبنا ولا كذّبنا. وسلّ سيفه، وقال: أخرجي
الكِتابَ، وإلا ضربت عنقكِ، فلما رأت الجِدِّ أخرجته من
ذؤابتها، فخلَّوا سبيلها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فأرسل إلى حاطب، فأتاه، فقال له: «هل تعرف هذا
الكتاب؟» قال: نعم. قال: «فما حملك على ما صنعت؟» فقال: يا
رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا
أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلاَّ
وَلَه بمكة من يمنع عشيرته، وكنت غريباً فيهم، وكان أهلي بين
ظهرانَيْهم، فخشيتُ على أهلي، فأردت أن أَتَّخِذَ عندهم يداً،
وقد علمتُ أن الله ينزل بهم بأسه، وكتابي لا يغني عنهم شيئا،
فصدّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَعذَرَهُ، ونزلت هذه
السورة تنهى حاطباً عما فعل، وتنهى المؤمنين أن يفعلوا كفعله،
فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا
المنافق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وما يدريك يا
عمر لعل الله اطَّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد
غفرت لكم» .
(1426) وقد أخرج هذا الحديث في «الصحيحين» مختصراً، وفيه ذكر
عليّ، والزّبير، وأبي مرثد فقط.
قوله عزّ وجلّ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وفيه
قولان: أحدهما: أن الباء زائدة، والمعنى: تلقون إليهم
المودَّة، ومثله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ «1»
، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، وابن قتيبة، والجمهور. والثاني:
تلقون إليهم أخبار النبيّ صلّى الله عليه وسلم وسيره بالمودة
التي بينكم وبينه، قاله الزجاج.
قوله عزّ وجلّ: وَقَدْ كَفَرُوا الواو للحال والمعنى، وحالهم
أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وهو القرآن، يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا أي تفعلوا ذلك
لإيمانكم بالله
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4274 والبغوي في «التفسير» 2174 عن قتيبة
بن سعيد به.
وأخرجه البخاري 3007 و 4890 ومسلم 2494 وأبو داود 2650
والترمذي 3305 والحميدي 49 وأحمد 1/ 79 وأبو يعلى 394 و 398
وابن حبان 6499 والبيهقي 9/ 146 وفي «دلائل النبوة» 5/ 17
والبغوي في «شرح السنة» 2704 والواحدي في «الأسباب» 812 وفي
«الوسيط» 4/ 281- 282 من طرق عن سفيان به كلهم من حديث علي.
ولفظ البخاري: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا
والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها
ظعينة معها كتاب فخذوا منها» قال: فانطلقنا تعادي بنا خيلنا
حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة قلنا لها أخرجي الكتاب.
قالت: ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب،
قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين
يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: «يا حاطب ما هذا؟» قال: يا رسول الله لا
تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصقا في قريش- يقول: كنا حليفا ولم
أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون
أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ
عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا
بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنه
قد صدقكم» . فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا
المنافق. فقال: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطّلع
على من شهد بدرا، قال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فأنزل الله السورة يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ
كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ إلى قوله: فَقَدْ ضَلَّ
سَواءَ السَّبِيلِ.
__________
(1) الحج: 25.
(4/267)
كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ هذا شرط، جوابه
متقدّم، وفي الكلام تقديم وتأخير. قال الزجاج: معنى الآية: إن
كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي
وعدوكم أولياء.
قوله عزّ وجلّ: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ الباء في
«المودّة» حكمها حكم الأولى. قال المفسرون:
والمعنى: تُسِرُّون إليهم النصيحة وَأَنَا أَعْلَمُ بِما
أَخْفَيْتُمْ من المودَّة للكفار وَما أَعْلَنْتُمْ أي: أظهرتم
بألسنتكم. وقال ابن قتيبة: المعنى: كيف تستترون بمودتكم لهم
مني وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟! قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ
يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ يعني: الإسرار والإلقاء إليهم فَقَدْ
ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي:
أخطأ طريق الهدى. ثم أخبر بعداوة الكفّار فقال عزّ وجلّ: إِنْ
يَثْقَفُوكُمْ أي: يظفروا بكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً لا
موالين وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالضرب والقتل
وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وهو: الشتم وَوَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ فترجعون إلى دينهم. والمعنى: أنه لا ينفعكم
التقرُّب إليهم بنقل أخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قوله عزّ وجلّ: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي: قراباتكم.
والمعنى: ذوو أرحامكم، أراد: لن ينفعَكم الذين عصيتم الله
لأجلهم، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ قرأ ابن كثير،
وأبو عمرو: «يُفصَل» برفع الياء، وتسكين الفاء، ونصب الصاد.
وقرأ ابن عامر: «يُفصَّل بينكم» برفع الياء، والتشديد، وفتح
الصاد، وافقه حمزة، والكسائي، وخلف، إلا أنهم كسروا الصاد.
وقرأ عاصم، غير المفضل، ويعقوب، بفتح الياء وسكون الفاء وكسر
الصاد، وتخفيفها. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو العالية:
«نُفصِّل» بنون مرفوعة، وفتح الفاء، مكسورة الصاد مشددة، وقرأ
أبو رزين، وعكرمة، والضحاك: «نَفصِل» بنون مفتوحة، ساكنة
الفاء، مكسورة الصاد خفيفة، أي: نفصل بين المؤمن والكافر وإن
كان ولده. قال القاضي أبو يعلى «1» : في هذه القصة دلالة على
أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إِظهار الكفر،
كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض
الهجرة، ولم يعذرهم في التخلُّف لأجل أموالهم وأولادهم. وإنما
ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده كما يجوز له أن يدفع
عن نفسه بمثل ذلك عند التقيَّة، وإِنما قال عمر: دعني أضرب عنق
هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 409: فقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ
وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يعني المشركين
والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع
الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتّخذوا أولياء وأصدقاء
وأخلاء، كما قال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وهذا تهديد شديد،
ووعيد أكيد، وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ وقال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ،
ولهذا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عذر حاطب لما ذكر أنه
إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال
والأولاد.
(4/268)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ
قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ
إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ
لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا
وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا
رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ
مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ
تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (9)
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 9]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا
مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا
بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ
وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ
وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ
لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ
كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ
مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا
يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (8)
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى
إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
قوله عزّ وجلّ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي
إِبْراهِيمَ وقرأ عاصم: «أُسوة» بضم الألف، وهما لغتان، أي:
اقتداءٌ حَسَن به وبمن معه. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم
الأنبياء. والثاني: المؤمنون إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا
بُرَآؤُا مِنْكُمْ قال الفرّاء: تقول أفلا تَأَسَّيْتَ يا حاطب
بإبراهيم وقومه فتبرَّأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم؟!.
قوله عز وجل: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ قال
المفسرون: والمعنى: تأسّوا بإبراهيم إلّا في استغفاره لأبيه
فلا تأسَّوا به في ذلك، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه وَما
أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي: ما أدفع عنك عذاب
الله إِن أشركت به، وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه: رَبَّنا
عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا إلى قوله عزّ وجلّ:
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال الفراء: قولوا أنتم: ربنا عليك
توكّلنا. وقد بيّنّا معنى قوله عزّ وجلّ: لا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا في يونس «1» . ثم أعاد الكلام في
ذكر الأُسوة فقال عزّ وجلّ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أي: في
إبراهيم ومن معه، وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله.
قوله عزّ وجلّ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل من قوله عزّ
وجلّ: لَكُمْ وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخشى عقاب
الآخرة.
قوله عز وجل: وَمَنْ يَتَوَلَّ أي: يعرض عن الإيمان ويوال
الكفار فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقه الْحَمِيدُ
إلى أوليائه. فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادَوْا
أقرباءهم. فأنزل الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي: من
كفار مكة مَوَدَّةً ففعل ذلك، بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح،
وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان،
فانكسر أبو سفيان عن كثير مما كان عليه حتى هداه الله للإسلام
وَاللَّهُ قَدِيرٌ على جعل المودّة وَاللَّهُ غَفُورٌ لهم
رَحِيمٌ بهم بعد ما أسلموا.
قوله عزّ وجلّ: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال
«2» :
__________
(1) يونس: 85.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 63: وأولى الأقوال
في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين
لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم
وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، لأن الله عز وجل عمّ بقوله جميع من
كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من
قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه
قرابة أو نسب، أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب غير محرّم ولا
منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة
لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح.
(4/269)
(1427) أحدها: أنها في أسماء بنت أبي بكر،
وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العُزىَّ، قَدِمَت عليها المدينة
بهدايا، فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها منزلها، فسألت لها عائشة
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فأمرها رسول
الله صلّى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها، وتقبل هديتها،
وتكرمها، وتحسن إليها، قاله عبد الله بن الزبير.
(1428) والثاني: أنها نزلت في خزاعة وبني مدلج، وكانوا صالحوا
رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا
عليه أحداً، قاله ابن عباس. وروي عن الحسن البصري أنها نزلت في
خزاعة، وبني الحارث بن عبد مناف، وكان بينهم وبين رسول الله
صلّى الله عليه وسلم عهد، فداموا على الوفاء به.
(1429) والثالث: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس، قاله
عطيّة العوفيّ ومرّة الهمدانيّ.
والرابع: أنها عامة في جميع الكفار، وهي منسوخة بقوله عزّ
وجلّ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1»
، قاله قتادة. والخامس: نزلت في النساء والصبيان، حكاه الزجاج.
قال المفسرون:
وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز
برّهم، وإن كانت الموالاة منقطعة.
قوله عزّ وجلّ: وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي: من
مكة أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي: تعاملوهم
بالعدل فيما بينكم وبينهم.
قوله عزّ وجلّ: وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أي: أعانوا على
ذلك أَنْ تَوَلَّوْهُمْ والمعنى: إنما ينهاكم عن أن تَولّوا
هؤلاء، لأن مكاتبتهم بإظهار ما أسرّه رسول الله صلّى الله عليه
وسلم موالاة. وذكر بعض المفسّرين أنّ معنى
__________
صحيح دون ذكر نزول الآية، أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 8/ 198
وأحمد 4/ 4 والطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» 6750
والحاكم 2/ 485 والطبري 33952 و 33953 والواحدي في «الأسباب»
813 من حديث عبد الله بن الزبير. صححه الحاكم، ووافقه الذهبي!
مع أن في إسناده مصعب بن ثابت ضعفه أحمد وغيره، ووثقه ابن
حبان. قلت: هو غير حجة بما ينفرد به، وقد تفرد بذكر نزول
الآية. وذكره الهيثمي في «المجمع» 11411 وزاد نسبته للبزار
وقال: وفيه مصعب بن ثابت وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية
رجاله رجال الصحيح. وأصل الحديث في الصحيحين دون نزول الآية.
أخرجه البخاري 2620 و 3183 ومسلم 1003 وأبو داود 1668 وأحمد 6/
347 من حديث أسماء بنت أبي بكر، وليس فيه ذكر نزول الآية.
والأشبه في نزول الآية أنه مدرج من كلام أحد الرواة والله
أعلم، ويؤيد ذلك هو أن البخاري أخرج حديث أسماء من طريق ابن
عيينة، برقم 5978 وقال في آخره: قال ابن عيينة: فأنزل الله هذه
الآية.
وانظر «أحكام القرآن» 2083 بتخريجنا.
لم أره مسندا، عزاه المصنف لابن عباس وكذا البغوي في «التفسير»
4/ 331 ساقه بدون إسناد، فالخبر ساقط، لا حجة فيه.
عزاه المصنف لعطية العوفي، وهو واه إن وصل الحديث، فكيف إذا
أرسله؟! وعزاه أيضا لمرّة الهمداني، ولم أقف عليه، وهو تابعي
فهو مرسل.
__________
(1) التوبة: 5.
(4/270)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ
وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ
الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا
أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا
الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
هذه الآية والتي قبلها منسوخ بآية السيف.
قال ابن جرير: لا وجه لادِّعاء النسخ، لأن بِرَّ المؤمنين
للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة، غير محرم إذا لم يكن
في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح، أو دلالة لهم على
عورة أهل الإسلام. ويدل على ذلك حديث أسماء وأمّها الذي سبق
«1» .
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ
مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ
فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى
الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ
لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ
وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ
فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ
الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ.
(1430) قال ابن عباس: إنّ مشركي مكّة صالحوا رسول الله صلّى
الله عليه وسلم عام الحُديبية على أنَّ من أتاه من أهل مكة
ردَّه إليهم. ومن أتى أهل مكة من أصحابه، فهو لهم، وكتبوا بذلك
الكتاب، وختموه، فجاءت سُبَيْعَة بنت الحارث الأسلمية بعد
الفراغ من الكتاب والنبي بالحُديبية، فأقبل زوجها وكان كافراً،
فقال: يا محمد اردد عليَّ امرأتي فإِنك قد شرطت لنا أن تردَّ
علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تَجِفَّ بعدُ، فنزلت
هذه الآية.
(1431) وذكر جماعة من العلماء منهم محمّد بن سعد كاتب الواقدي
أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول
من هاجر من النساء إلى المدينة بعد هجرة رسول الله صلّى الله
عليه وسلم، فَقَدِمَتْ المدينة في هدنة الحديبية، فخرج في
أثرها أخواها الوليد وُعمارة ابنا عقبة، فقالا: يا محمّد أوف
لنا بشروطنا، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله أنا امرأة، وحال
النساء إلى الضعف ما قد علمت، فتردّني إلى الكفار يفتنوني عن
ديني، ولا صبر لي؟! فنقض الله العهد في النِّساء، وأنزل فيهن
المحنة، وحكم فيهنَّ بحكم رضوه كلّهم، ونزل في أم كلثوم:
فَامْتَحِنُوهُنَّ فامتحنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
وامتحن النساء بعدها يقول: والله ما أخرجكنَّ الا حبُّ الله
ورسولهِ، وما خرجتنَّ لزوج ولا مال؟ فإذا قلن ذلك تركن، فلم
يرددن إلى أهليهن.
وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سبباً لنزول هذه الآية
على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها
__________
ذكره المصنف هاهنا عن ابن عباس معلقا، وكذا ذكره الواحدي في
«أسباب النزول» 814 والبغوي في «تفسيره» 4/ 303 عن ابن عباس
بدون إسناد، فهذا لا شيء لخلوه عن الإسناد. وورد في «الإصابة»
4/ 524- 525: أن سبيعة بنت الحارث أول امرأة أسلمت بعد صلح
الحديبية إثر العقد وطي الكتاب، ولم تخف فنزلت آية الامتحان.
وانظر «أحكام القرآن» 2084 وما بعده بتخريجنا.
ذكره ابن سعد في «الطبقات» 8/ 183- 184 هكذا بدون عزو لأحد.
وذكر أم كلثوم صح عند البخاري 2711 و 2712 في أثناء حديث مطول.
__________
(1) تقدم أن الحديث متفق عليه، دون ذكر نزول الآية.
(4/271)
سبيعة، وقد ذكرناه عن ابن عباس: والثاني:
أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل
العلم، وهو المشهور. والثالث: أُميمة بنت بشر من بني عمرو بن
عوف، ذكره أبو نعيم الأصبهاني، قال الماوردي: وقد اختلف أهل
العلم هل دخل ردُّ النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً؟
فقالت طائفة: قد كان شرط ردّهنّ في عقد الهدنة لفظاً صريحاً،
فنسخ الله تعالى ردَّهن من العقد، ومنع منه، وأبقاه في الرجال
على ما كان. وقالت طائفة من العلماء: لم يشترط ردُّهن في العقد
صريحاً، وإنما أطلق العقد، وكان ظاهر العموم اشتماله مع
الرجال، فبين الله عزّ وجلّ خروجهنَّ عن عمومه، وفرق بينهن
وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهنّ ذوات فروج فحرّمن عليهم.
والثاني: أنهن أرقُّ قلوباً، وأسرع تقلُّباً منهم فأما المقيمة
على شركها فمردودة عليهم. وقال القاضي أبو يعلى: وإنما لم
يردَّ النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكين من الفعل وإِن
لم يقع الفعل.
قال المفسّرون: والمراد بقوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه هو الذي تولَّى
امتحانهن، ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلّى الله عليه
وسلم. قال ابن زيد: وإنما أمرنا بامتحانهن، لأن المرأة كانت
إذا غضبت على زوجها بمكة، قالت: لألحقنّ بمحمّد صلّى الله عليه
وسلم وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال:
(1432) أحدها: أنه كان يمتحنهن ب «شهادة أن لا إله إلا الله،
وأن محمداً عبده ورسوله» رواه العوفي عن ابن عباس.
(1433) والثاني: أنه كان يستحلف المرأة بالله: ما خرجتِ من بغض
زوج، ولا رغبةً عن أرض إِلى أرض، ولا التماس دنيا، ما خرجتِ
إلا حباً لله ولرسوله، روي عن ابن عباس أيضاً.
(1434) والثالث: أنه كان يمتحنهن بقوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ
الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ فمن أقرت بهذا الشرط قالت: قد
بايعتك، هذا قول عائشة عليها السّلام.
قوله عزّ وجلّ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي: إن هذا
الامتحان لكم، والله أعلم بهن، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِناتٍ وذلك يعلم من إقرارهنّ، فحينئذ لا يحل ردُّهن إِلَى
الْكُفَّارِ لأن الله تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك وَآتُوهُمْ
يعني أزواجهن الكفار ما أَنْفَقُوا يعني: المهر. قال مقاتل:
هذا إذا تزوجها مسلم. فإن لم يتزوجها أحد، فليس لزوجها الكافر
شيء وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وهي المهور.
فصل:
عندنا إذا هاجرت الحربيّة بعد دخول زوجها بها، وقعت الفرقة على
انقضاء عدتها. فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدّتها فهي امرأته،
وهذا قول الأوزاعي، ومالك والشّافعي. وقال أبو حنيفة:
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 3391 عن ابن عباس، وفيه عطية العوفي واه.
والصحيح ما يأتي عن عائشة.
أخرجه الحارث بن أبي أسامة كما في «المطالب العالية» 3777 عن
أبي نصر الأسدي عن ابن عباس به، وهو معلول. سكت عليه الحافظ،
وكذا البوصيري في «الإتحاف» وقال البخاري في ترجمة أبي نصر: لم
يعرف له سماع من ابن عباس «الميزان» 4/ 579. وأخرجه الطبري
33957 و 33958 من طريق أبي نصر عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، فيه
قيس بن الربيع ضعفه الجمهور. وانظر «أحكام ابن العربي» 2085
بتخريجنا.
والصحيح ما بعده.
صحيح. أخرجه البخاري 4891 ومسلم 1866 والترمذي 3306 والنسائي
في «التفسير» 606 وابن ماجة 2875 من حديث عائشة. وانظر «أحكام
القرآن» 2086 بتخريجنا
(4/272)
تقع الفرقة باختلاف الدّارين.
قوله عزّ وجلّ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ قرأ ابن
كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «تُمسِكوا»
بضم التاء، والتخفيف، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب: «تُمسِّكوا» بضم
التاء، وبالتشديد، وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وابن يعمر،
وأبو حيوة: «تَمسَّكوا» بفتح التاء، والميم، والسين مشددة. و
«الكوافر» جمع كافرة، والمعنى: إن الله تعالى نهى المؤمنين عن
المقام على نكاح الكوافر، وأمرهم بفراقهنّ. وقال الزّجّاج:
المعنى: أنها كفرت، فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن، أي: قد
انبت عَقْدُ النكاح. وأصل العصمة: الحبل، وكلُّ ما أمسك شيئاً
فقد عصمه.
قوله عزّ وجلّ: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ أي: إن لحقت امرأة
منكم بأهل العهد من الكفار مرتدَّة، فاسألوهم ما أنفقتم من
المهر إذا لم يدفعوها إليكم وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا
يعني: المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم،
فليسأل أزواجهن الكفّار من تزوّجهنّ منكم «ما أنفقوا» وهو
المهر. والمعنى: عليكم أن تغرموا لهم الصداق كما يغرمون لكم.
قال أهل السِّيَر: وكانت أم كلثوم حين هاجرت عاتقا «1» لم يكن
لها زوج فبعثت إليه قدر مهرها، فلما هاجرت تزوجت زيد بن حارثة
«2» .
قوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يعني ما ذكر في هذه
الآية.
فصل:
وذكر بعضهم في قوله عزّ وجلّ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ
الْكَوافِرِ أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله عزّ وجلّ:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «3» ، وهذا
تخصيص لا نسخ.
قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى
الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ قال الزجاج: أي: أصبتموهم في القتال
بعقوبة حتى غنمتم. وقرأ ابن مسعود، والأزهري، والنخعي:
«فعَقَبتم» بغير ألف، وبفتح العين والقاف، وبتخفيفها. وقرأ ابن
عباس، وعائشة والحسن وحميد، والأعمش «فعقّبتم» مثل ذلك، إلا أن
القاف مشددة. قال الزجاج: المعنى في التشديد والتخفيف واحد،
فكانت العقبى لكم بأن غلبتم. وقرأ أُبي بن كعب، وعكرمة،
ومجاهد: «فأعقبتم» بهمزة ساكنة العين، مفتوحة القاف خفيفة.
وقرأ معاذ القارئ، وأبو عمران الجوني: «فعَقِبتم» بفتح العين،
وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ
أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي: أعطُوا الأزواج من رأس
الغنيمة ما أنفقوا من المهر.
(1435) وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في عياض بن غنم،
كانت زوجته مسلمة، وهي أم الحكم بنت أبي سفيان، فارتدَّتْ،
فلحقت بمكة، فأمر الله المسلمين أن يعطُوا زوجها من الغنيمة
بقدر ما ساق إِليها من المهر، ثم نسخ ذلك بقوله عزّ وجلّ:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «4» إلى رأس الخمس ...
__________
ضعيف جدا. أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن كما في «الدر» 6/ 310
وهذا مرسل، ومراسيل الحسن واهية.
__________
(1) العاتق: الشابة أول ما تدرك. انظر «النهاية» 3/ 178.
[.....]
(2) انظر الحديث المتقدم 1431.
(3) المائدة: 5.
(4) التوبة: 1.
(4/273)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى
أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا
يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ
بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
فصل:
قال القاضي أبو يعلى: وهذه الأحكام في أداء المهر، وأخذه من
الكفار، وتعويض الزّوج من الغنيمة، أو من صداق قد وجب ردُّه
على أهل الحرب، منسوخة عند جماعة من أهل العلم. وقد نصّ الإمام
أحمد رضي الله عنه على هذا. قلت: وكذا قال مقاتل: كل هؤلاء
الآيات نسختها آية السيف.
[سورة الممتحنة (60) : آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ
يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا
يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا
يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(12)
قوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ.
(1436) قال المفسرون: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم
مكة جاءته النساء يبايعنه، فنزلت هذه الآية، وشرط في مبايعتهنّ
هذه الشرائط المذكورة في الآية، فبايَعهن وهو على الصفا، فلما
قال: ولا يزنين، قالت هند: أو تزني الحرة؟ فقال: ولا يقتلن
أولادهن، فقالت: ربَّيناهم صغاراً فقتلتموهم كباراً، فأنتم وهم
أعلم.
(1437) وقد صحّ في الحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم لم
يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن بالكلام.
وقد سمَّينا من أحصينا من المبايِعات في كتاب «التلقيح» على
حروف المعجم، وهن أربعمائة وسبع وخمسين امرأة، والله الموفّق.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قال المفسرون:
هو الوأد الذي كانت الجاهلية تفعله.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ
بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم، قاله ابن عباس، والجمهور، وذلك
أن المرأة كانت تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك،
وذلك البهتان المفترى. وإِنما قال: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ لأنّ الولد إذا وضعته الأمّ يسقط بين يديها
ورجليها. وقيل: معنى يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ: ما
أخذته لقيطا وَأَرْجُلِهِنَّ ما ولدنه من زنا. والثاني: أنه
السحر. والثالث: المشي بالنميمة، والسعي في الفساد، ذكرهما
الماورديّ.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فيه ثلاثة
أقوال:
(1438) أحدها: أنه النَّوح، قاله ابن عباس: وروي مرفوعا عن
النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
__________
ذكره الواحدي في «الوسيط» 4/ 286- 287 هكذا بدون إسناد. وأخرجه
الطبري 34013 من حديث ابن عباس بنحوه وأتم. وأخرج ابن سعد في
«الطبقات» 8/ 6 طرفا منه عن الشعبي مرسلا. وقال الحافظ في
«تخريج الكشاف» 4/ 520: وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن
حيان، وفيه قول هند: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا، فضحك عمر
بن الخطاب رضي الله عنه حتى استلقى اه.
الخلاصة: أصل الخبر صحيح بطرقه وشواهده. وانظر «الكشاف» 1164 و
«الجامع لأحكام القرآن» 5909 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 4891 ومسلم 1866 من حديث عائشة. وانظر
«تفسير ابن العربي» 2090 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 4892 والبغوي 2184 في «معالم التنزيل»
بترقيمنا عن أبي معمر به.
(4/274)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
(1439) والثاني: أنه لا يَدْعين ويلاً، ولا
يَخْدِشْنَ وجهاً ولا يَنْشُرنَ شعراً، ولا يَشْقُقْنَ ثوباً،
قاله زيد بن أسلم.
والثالث: أنه جميع ما يأمرهنّ به رسول الله صلّى الله عليه
وسلم من شرائع الإسلام، وآدابه، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي
هذه الآية دليل على أن طاعة الولاة إِنما تلزم في المباح دون
المحظور.
قوله عزّ وجلّ: فَبايِعْهُنَّ المعنى: إذا بايعنك على هذه
الشرائط فبايعهنّ.
[سورة الممتحنة (60) : آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا
قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهم اليهود.
(1440) وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود
أخبار المسلمين، يتقرَّبون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم
وطعامهم، فنزلت هذه الآية.
قوله عزّ وجلّ: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ وذلك أن اليهود
بتكذيبهم محمداً، وهم يعرفون صدقه قد يئسوا من أن يكون لهم في
الآخرة خير، والمعنى: قد يئسوا من ثواب الآخرة، هذا قول
الجمهور، وهو الصحيح.
وقال قتادة: قد يئسوا أن يبعثوا، كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ فيه
قولان: أحدهما: كما يئس الكفار، مِن بعث مَن في القبور، قاله
ابن عباس. والثاني: كما يئس الكفار الذين ماتوا من ثواب
الآخرة، لأنهم أيقنوا بالعذاب، قاله مجاهد.
__________
وأخرجه البخاري 7215 والطبراني 25/ (133) والبيهقي 4/ 62 من
طريق عبد الوارث بهذا الإسناد.
وأخرجه مسلم 936 ح 33 وأحمد 6/ 407 وابن أبي شيبة 3/ 389
والحاكم 1/ 383 وابن حبان 3145 والطبراني 25/ (136) والبيهقي
4/ 62 من طرق عن أبي معاوية عن عاصم عن حفصة به. وأخرجه
النسائي 7/ 148- 149 وأحمد 6/ 408 والطبري 34020 من طريق عن
محمد بن سيرين عن أم عطية بنحوه.
مرسل. أخرجه ابن أبي شيبة كما في «الدر» 6/ 315 عن زيد بن أسلم
مرسلا.
وورد من مرسل الضحاك بنحوه، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر»
6/ 314.
ذكره الواحدي في «الأسباب» 816 بدون إسناد ولا عزو لأحد، فهو
لا شيء، وليس له أصل.
(4/275)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ
اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا
كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
سورة الصّف
ويقال لها: سورة الحواريين وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة،
قاله ابن عباس: والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور.
والثاني: مكيّة، قاله ابن يسار.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ
اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا
كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
قوله عزّ وجلّ: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ في سبب
نزولها خمسة أقوال «1» :
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 80: وأولى الأقوال
بتأويل الآية قول من قال: عني بها الذين قالوا: لو عرفنا أحب
الأعمال إلى الله لعملنا به، ثم قصروا بالعمل بعد ما عرفوا.
فائدة: قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 422: وقوله: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ
إنكار على من يعد عدّة، أو يقول قولا لا يفي به، ولهذا استدل
بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء
بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه عزم للموعود أم لا، واحتجوا أيضا
من السنة بما ثبت في الصحيحين، أن رسول الله صلّى الله عليه
وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف
وإذا اؤتمن خان» ولهذا أكّد الله تعالى هذا الإنكار عليهم
بقوله: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا
تَفْعَلُونَ.
وقال ابن العربي في «الأحكام» 4/ 241- 242: إن من التزم شيئا
لزمه شرعا، والملتزم على قسمين:
أحدهما: النذر، وهو على قسمين: نذر تقرب مبتدأ، كقوله: لله علي
صوم وصلاة وصدقة، ونحوه من التقرب، فهذا يلزمه الوفاء به
إجماعا. ونذر مباح، وهو ما علّق بشرط رغبة، كقوله: إن قدم
غائبي فعلي صدقة. أو علّق بشرط رهبة، كقوله: إن كفاني الله شر
كذا فعلي صدقة. فاختلف العلماء فيه، فقال مالك وأبو حنيفة
يلزمه الوفاء به. وقال الشافعي في أحد أقواله: إنه لا يلزمه
الوفاء به. وعموم الآية حجة لنا، لأنها بمطلقها تتضمن ذم من
قال ما لا يفعله على أي وجه كان، من مطلق أو مقيد بشرط. وقد
قال أصحابه: إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو
من جنس القربة. هذا وإن كان من جنس القربة، لكنه لم يقصد به
القربة، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو الإقدام على فعل.
قلنا: القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات. وهذا تكلف
في التزام هذه القربة مشقة لجلب نفع أو دفع ضر، فلم يخرج عن
سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب. فإن كان المقول منه وعدا
فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب، كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار،
أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا، فهذا لازم إجماعا من الفقهاء.
وإن كان وعدا مجردا فقيل: يلزم بمطلقه، وتعلّقوا بسبب الآية. -
وهو الحديث الآتي عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام.
(4/276)
(1441) أحدها: ما روى أبو سلمة عن عبد الله
بن سلام، قال: قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عزّ وجلّ
عملناه، فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلى
آخر السورة.
(1442) والثاني: أن الرجل كان يجيء إلى النبيّ صلّى الله عليه
وسلم، فيقول: فعلتُ كذا وكذا، وما فعل، فنزلت لِمَ تَقُولُونَ
ما لا تَفْعَلُونَ رواه عكرمة عن ابن عباس، وكذلك قال الضحاك:
كان الرجل يقول: قاتلتُ، ولم يقاتل، وطعنت، ولم يطعن، وصبرت
ولم يصبر، فنزلت هذه الآية.
(1443) والثالث: أن ناساً من المسلمين كانوا يقولون قبل أن
يفرض الجهاد: وددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إِليه،
فلما نزل الجهاد، كرهه ناس من المؤمنين، فنزلت هذه الآية، رواه
ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
(1444) والرابع: أن صهيباً قتل رجلاً يوم بدر، فجاء رجل فادعى
أنه قتله وأخذ سلبه، فقال صهيب: أنا قتلته يا رسول الله، فأمره
أن يدفع سلبه إلى صهيب، ونزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب
عن صهيب.
(1445) والخامس: أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه: لو
قد خرجتم خرجنا معكم، ونصرناكم. فلما خرج النبي صلّى الله عليه
وسلم نكصوا عنه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ قال الزجاج:
«مقتاً» منصوب على التمييز، والمعنى: كبر
__________
صحيح. أخرجه أحمد 5/ 452 والترمذي 3309 والحاكم 2/ 487 و 229
والدارمي 2/ 200 من حديث عبد الله بن سلام، صححه الحاكم على
شرطهما، ووافقه الذهبي. وهو كما قالا، فقد رووه من طرق عدة،
راجع كلام الترمذي، وقال الحافظ: هو أصح حديث مسلسل. راجع
«الفتح» 8/ 641. وانظر «تفسير الشوكاني» 2502 و «الجامع لأحكام
القرآن» 5922 بتخريجنا.
عزاه المصنف لعكرمة عن ابن عباس، ولم أقف عليه بهذا اللفظ.
وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 6/ 417 عن ابن عباس بنحوه.
وورد عن أبي صالح مرسلا، أخرجه الطبري 34044 وعبد بن حميد كما
في «الدر» 6/ 417، وورد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 34046 وعن
الضحاك 34048.
ضعيف. أخرجه الطبري 34042 عن علي عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف
لانقطاعه بين علي بن أبي طلحة وابن عباس.
قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 522: أخرجه الثعلبي من حديث صهيب
قال: «كان رجل يوم بدر آذى المسلمين، ونكا فيهم فقتله صهيب
فقال رجل: يا رسول الله قتلت فلان، ففرح بذلك رسول الله صلّى
الله عليه وسلم، فقال عمر وعبد الرحمن لصهيب: أخبر النبي صلّى
الله عليه وسلم بذلك الحديث ... اه. قلت: وما ينفرد به الثعلبي
فهو ضعيف أو منكر، حتى الواحدي لم يذكره لا في «أسباب النزول»
ولا في «الوسيط» ، ولا ذكره السيوطي في «الدر» 6/ 317- 318.
باطل. أخرجه الطبري 34049 عن ابن زيد، وهذا معضل، وابن زيد
واه، والمتن باطل لأن الخطاب في الآية للمؤمنين، فهذه علل
ثلاث.
(4/277)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ
أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ
اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ
وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي
إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ
اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
قولُكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله. ثم
أعلم عزّ وجلّ ما الذي يحبّه، فقال عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا
كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي: بنيان لاصق بعضه ببعض،
فأعلم أنه يحب من يثبت في الجهاد، ويلزم مكانه كثبوت البنيان
المرصوص. ويجوز أن يكون عنى أن يستوي ثباتهم في حرب عدوِّهم
حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. وللمفسرين في
المراد ب «المرصوص» قولان: أحدهما: أنه الملتصق بعضه ببعض، فلا
يرى فيه خلل لإحكامه، قاله الأكثرون. والثاني: أنه المبنيُّ
بالرصاص وإلى نحو هذا ذهب الفراء، وكان أبو بحرية يقول: كانوا
يكرهون القتال على الخيل، ويستحبُّون القتال على الأرض لهذه
الآية. اسم أبي بحرية: عبد الله بن قيس التَّراغِمي، يروي عن
معاذ، وكأنه أشار بذلك إلى أن الفرسان لا يصطفّون في الغالب
إنما يصطفّ الرّجّالة.
[سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 9]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي
وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ
(6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ
اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ قالَ مُوسى المعنى: اذكر لمن يؤذيك من
المنافقين ما صنعته بالذين آذَوْا موسى. وقد ذكرنا ما آذَوْا
به موسى في الأحزاب «1» .
قوله عزّ وجلّ: فَلَمَّا زاغُوا أي: مالوا عن الحق أَزاغَ
اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي: أمالها عن الحق جزاءً لما ارتكبوه،
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: يَأْتِي مِنْ بَعْدِي قرأ
ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم «من بعديَ
اسْمُه» بفتح الياء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن
عاصم «من بعديْ اسمه» بإسكان الياء وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم
اليهود، قاله مقاتل. والثاني: النصارى حين قالوا: عيسى ابن
الله، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن مسعود، وعاصم
الجحدري، وطلحة بن مصرّف وهو «يَدَّعِي إِلى الإسلام» بفتح
الياء، والدال، وتشديدها، وبكسر العين، وما بعد هذا في براءة
«2» إلى قوله عزّ وجلّ: مُتِمُّ نُورِهِ قرأ ابن كثير، وحمزة،
والكسائي، وحفص عن عاصم وخلف «مُتِمُّ نُورِه» مضاف. وقرأ
نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «متمّ» رفع
منوّن.
[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ
قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ
الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ
مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ
(14)
__________
(1) الأحزاب: 69.
(2) التوبة: 32.
(4/278)
قوله عزّ وجلّ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى
تِجارَةٍ قال المفسرون: نزلت هذه الآية حين قالوا: لو علمنا أي
الأعمال أحب إلى الله لعملنا به أبداً، فدلَّهم الله على ذلك،
وجعله بمنزلة التجارة لمكان ربحهم فيه «1» .
قوله عزّ وجلّ: تُنْجِيكُمْ قرأ ابن عامر «تنجيِّكم» بالتشديد.
وقرأ الباقون بالتخفيف. ثم بيّن التّجارة، فقال عزّ وجلّ:
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله عزّ وجلّ: يَغْفِرْ لَكُمْ فإن
قيل: كيف قال:
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وقد قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
وقد سبق ذلك الجواب عنه بنحو الجواب عن قوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «2» وقد سبق ذلك. قال
الزجاج: وقوله: «يغفر لكم» جواب قولِه: «تؤمنون» «وتجاهدون» ،
لأن معناه معنى الأمر. والمعنى: آمنوا بالله وجاهدوا، يغفر
لكم، أي: إن فعلتم ذلك، يغفر لكم. وقد غلط بعض النحويين، فقال:
هذا جواب «هل» وهذا غلط بَيِّنٌ، لأنه ليس إذا دلَّهم على ما
ينفعهم غفر لهم، إِنما يغفر لهم إذا عملوا بذلك. ومن قرأ «يغفر
لكم» بإدغام الراء في اللام، فغير جائز عند سيبويه، والخليل،
لأنه لا تدغم الراء في اللام في قولهم. وقد رُوِيَتْ عن أبي
عمرو بن العلاء، وهو إمام عظيم، ولا أحسبه قرأها إِلا وقد
سمعها من العرب. وقد زعم سيبويه والخليل وجميع البصريين، ما
خلا أبا عمرو، أن اللام تدغم في الراء، وأن الراء لا تدغم في
اللام، وحُجَّتهم أن الراء حرف مكرر قوي، فإذا أدغمت في اللام
ذهب التكرير منها. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزّ وجلّ:
وَأُخْرى تُحِبُّونَها قال الفراء: والمعنى: ولكم في العاجل مع
ثواب الآخرة أخرى تحبُّونها، ثم فسّرها فقال عزّ وجلّ نَصْرٌ
مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وفيه قولان:
أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس. والثاني: فتح فارس
والروم، قاله عطاء.
قوله عزّ وجلّ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي: بالنصر في
الدنيا، والجنة في الآخرة. ثم حضَّهم على نصر دينه ب قوله عزّ
وجلّ: كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابو
عمرو كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ
منوَّنة.
وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أنصار الله» مضاف،
ومعنى الآية: دُوموا على ما أنتم عليه، وانصروا دين الله مثل
نُصْرَة الحواريين لمَّا قال لهم عيسى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللَّهِ وحرَّك نافع ياء «مَن أنصاريَ إِلى الله» وقد سبق
تفسير هذا الكلام.
قوله عز وجلّ: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ
بعيسى وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
بعيسى عَلى عَدُوِّهِمْ وهم مخالفو عيسى، كذلك قال ابن عباس،
ومجاهد، والجمهور، وقال مقاتل: تم الكلام عند قوله عزّ وجلّ:
وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد
عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ بمحمد على الأديان،
وقال إبراهيم النخعي: أصبح من آمن بعيسى ظاهرين بتصديق محمّد
صلّى الله عليه وسلم أن عيسى كلمة الله وروحه بتعليم الحجة.
قال ابن قتيبة: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي: غالبين عليهم
بمحمد. من قولك: ظهرت على فلان: إِذا علوتَه، وظهرت على السطح:
إذا صرتَ فوقه.
__________
(1) انظر الحديث المتقدم 1441 وفيه فأنزل الله: سَبَّحَ
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلى آخر السورة وهذه الآية منها.
(2) النساء: 136.
(4/279)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
سورة الجمعة
وهي مدنية كلّها بإجماعهم وقد سبق شرح فاتحتها «1» . وقرأ أبو
الدّرداء، وأبو عبد الرّحمن السّلميّ، وعكرمة، والنّخعيّ،
والوليد عن يعقوب الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
بالرفع فيهن.
فإن قيل: فما الفائدة في إعادة ذكر التسبيح في هذه السورة؟
فالجواب: أنّ ذلك لاستفتاح السّور بتعظيم الله عزّ وجلّ، كما
تستفتح ب «بسم الله الرحمن الرحيم» وإذا جلّ المعنى في تعظيم
الله، حسن الاستفتاح به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي
بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
قوله عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ يعني:
العرب، وكانوا لا يكتبون وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة «2»
رَسُولًا يعني: محمّدا صلّى الله عليه وسلم مِنْهُمْ أي: من
جنسهم ونسبهم.
فإن قيل: فما وجه الامتنان في أنه بعث نبياً أمياً «3» ؟ فعنه
ثلاثة أجوبة: أحدها: لموافقة ما تقدّمت
__________
(1) آل عمران: 52.
(2) البقرة: 78.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 428: الأميون هم
العرب، وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، لكن المنة
عليهم أبلغ وآكد، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ
وَلِقَوْمِكَ وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به، وكذا قوله:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وهذا وأمثاله لا ينافي
قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْكُمْ جَمِيعاً، وقوله لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ
بَلَغَ. وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم، حين
دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. فبعثه الله سبحانه وتعالى على
حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه،
وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل
الكتاب، أي نذرا يسيرا- ممن تمسّك بما بعث الله به عيسى ابن
مريم عليه السلام.
(4/280)
مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ
دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ
الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ
ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
البشارة به في كتب الأنبياء. والثاني:
لمشاكلة حاله لأحوالهم، فيكون أقرب إلى موافقتهم. والثالث:
لئلا يظن به أنه يعلم كتب من قبله. وما بعد هذا في سورة البقرة
«1» إلى قوله عزّ وجلّ: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ، أي: وما
كانوا قبل بعثه إلا في ضَلالٍ مُبِينٍ بَيِّن، وهو الشرك.
قوله عزّ وجلّ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ فيه قولان: أحدهما: وبعث
محمداً في آخرين منهم، أي: من الأميين. والثاني: ويعلم آخرين
منهم، ويزكِّيهم.
وفي المراد بالآخرين أربعة أقوال: أحدها: أنهم العجم، قاله ابن
عمر، وسعيد بن جبير، وهي رواية ليث عن مجاهد. فعلى هذا إِنما
قال: «منهم» ، لأنهم إِذا أسلموا صاروا منهم، إذ المسلمون يد
واحدة، وملَّةٌ واحدة. والثاني: أنهم التابعون، قاله عكرمة،
ومقاتل. والثالث: جميع من دخل في الإسلام إِلى يوم القيامة،
قاله ابن زيد، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد. والرابع: أنهم
الأطفال، حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ: أي: لم يلحقوا بهم.
قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يعني: الإسلام والهدى
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ بإرسال محمّد صلّى الله
عليه وسلم.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ
يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا
أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ
أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ
أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ
مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (8)
ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا، فقال عزّ
وجلّ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي: كُلِّفوا
العمل بما فيها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي: لم يعملوا بموجبها،
ولم يؤدُّوا حقها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وهي
جمع سفر. والسِّفْر: الكتاب، فشبَّههم بالحمار لا يعقل ما
يحمل، إذ لم ينتفعوا بما في التّوراة، وهي دالّة على الإيمان
بمحمّد صلّى الله عليه وسلم وهذا المثل يلحق من لم يعمل
بالقرآن ولم يفهم معانيه بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ ذم مثلهم،
والمراد ذمُّهم، واليهود كذبوا بالقرآن وبالتوراة حين لم
يؤمنوا بمحمد وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
أنفسهم بتكذيب الأنبياء.
قوله عزّ وجلّ: إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ
وذلك أن اليهود، قالوا: نحن ولد إسرائيل الله، ابن ذبيح الله،
ابن خليل الله، ونحن أولى بالله عزّ وجلّ من سائر الناس،
وإِنما تكون النبوة فينا. فقال الله عزّ وجلّ لنبيّه عليه
الصلاة والسلام: قُلْ لهم إن كنتم أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ
دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لأن الآخرة خير لأولياء
الله من الدنيا. وقد بيَّنا هذا وما بعده في البقرة «2» إلى
قوله عزّ وجلّ: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ
مِنْهُ وذلك أنّ اليهود علموا أنهم قد أفسدوا على أنفسهم أمر
الآخرة بتكذيبهم محمداً،
__________
(1) البقرة: 129.
(2) البقرة: 94.
(4/281)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
وكانوا يكرهون الموت، فقيل لهم: لا بد من
نزوله بكم بقوله عزّ وجلّ: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ، قال الفراء:
العرب تدخل الفاء في كل خبر كان اسمه مما يوصل، مثل: «من» و
«الذي» فمن أدخل الفاء هاهنا ذهب «بالذي» إِلى تأويل الجزاء.
وفي قراءة عبد الله «إِن الموت الذي تفرُّون منه ملاقيكم» وهذا
على القياس، لأنك تقول: إن أخاك قائم، ولا تقول: فقائم، ولو
قلت: إن ضاربك فظالم، لجاز، لأن تأويله: إنّ رجلا يضربك فظالم.
وقال الزجاج: إنما جاز دخول الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط
والجزاء. ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ:
«تفرُّون منه» كأنه قيل: إن فررتم من أي موت كان من قتل أو
غيره «فإنه ملاقيكم» وتكون «فإنه» استئنافاً بعد الخبر الأول.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
قوله عزّ وجلّ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ وهذا هو النداء الذي
ينادى به إذا جلس الإمام على المنبر، ولم يكن في عهد رسول الله
صلّى الله عليه وسلم نداء سواه.
(1446) كان إِذا جلس على المنبر أذَّن بلال على باب المسجد،
وكذلك كان على عهد أبي بكر، وعمر، فلما كثر الناس على عهد
عثمان أمر بالتأذين الأول على دارٍ له بالسُّوق، يقال لها:
«الزوراء» وكان إذا جلس أذّن أيضا.
قوله عزّ وجلّ: لِلصَّلاةِ أي: لوقت الصلاة. وفي «الجمعة» ثلاث
لغات. ضم الجيم والميم، وهي قراءة الجمهور. وضم الجيم مع إسكان
الميم، وبها قرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، وعكرمة،
والزهري، وابن أبي ليلى، وابن أبي عبلة، والأعمش. وبضم الجيم
مع فتح الميم، وبها قرأ أبو مجلز، وأبو العالية، والنخعي، وعدي
بن الفضل عن أبي عمرو. وقال الزجاج: من قرأ بتسكين الميم، فهو
تخفيف الجمعة لثقل الضمتين. وأما فتح الميم، فمعناها: الذي
يجمع الناس، كما تقول:
رجل لُعَنَة: يكثر لعنة الناس، وضُحَكَة: يكثر الضحك. وفي
تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه فيه جُمع آدم.
(1447) روى سلمان قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«أتدري ما الجمعة؟» قلت: لا. قال: «فيه جُمع أبوك» ، يعني:
تمام خلقه في يوم الجمعة.
والثاني: لاجتماع الناس فيه للصلاة. والثالث: لاجتماع
المخلوقات فيه، لأنه اليوم الذي فرغ فيه من خلق الأشياء.
__________
ساقه المصنف بمعناه، وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري 1912 و 1913
وأبي داود 1087 و 1088 والترمذي 516 وابن ماجة 1135 وابن حبان
1673 والبيهقي 3/ 192 وأحمد 3/ 450 من حديث السائب بن يزيد.
وانظر «أحكام القرآن» 4/ 247 و «الجامع لأحكام القرآن» 5939
بتخريجنا.
أخرجه أحمد 5/ 439 والحاكم 1/ 277 من حديث سلمان، وإسناده ضعيف
لضعف أبي معشر، واسمه نجيح. ولصدره شاهد في الصحيح، ولباقيه
شواهد كثيرة.
الخلاصة: أصل الحديث صحيح بشواهده. وانظر «الدر المنثور» 6/
323- 324.
(4/282)
وفي أول من سماها بالجمعة قولان: أحدهما:
أنه كعب بن لؤي سماها بذلك، وكان يقال ليوم الجمعة: العَروبة.
قاله أبو سلمة. وقيل: إِنما سماها بذلك لاجتماع قريش فيه.
والثاني: أنّ أول من سماها بذلك الأنصار، قاله ابن سيرين.
قوله عزّ وجلّ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وفي هذا السعي
ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المشي، قاله ابن عباس. وكان ابن مسعود
يقرؤها «فامضوا» ويقول: لو قرأتها «فاسعَوْا» لسعَيت حتى يسقط
ردائي. قال عطاء: هو الذهاب والمشي إلى الصلاة.
والثاني: أن المراد بالسعي: العمل، قاله عكرمة، والقرظي،
والضحاك، فيكون المعنى: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله
بالتفرغ له، والاشتغال بالطهارة ونحوها.
والثالث: أنه النية بالقلب، قاله الحسن. وقال ابن قتيبة: هو
المبادرة بالنية والجدّ.
وفي المراد «بذكر الله» قولان: أحدهما: أنه الصلاة، قاله
الأكثرون. والثاني: موعظة الإمام، قاله سعيد بن المسيب.
قوله عزّ وجلّ: وَذَرُوا الْبَيْعَ أي: دعوا التجارة في ذلك
الوقت. وعندنا: لا يجوز البيع في وقت النداء، ويقع البيع
باطلاً في حق من يلزمه فرض الجمعة، وبه قال مالك خلافاً
للأكثرين.
فصل:
تجب الجمعة على من سمع النداء من المصر، إذا كان المؤذن
صَيِّتاً، والريح ساكنة.
وقد حدَّه مالك بفرسخ، ولم يحدّه الشافعي. وعن أحمد في التحديد
نحوهما. وتجب الجمعة على أهل القرى. وقال أبو حنيفة: لا تجب
إلا على أهل الأمصار. ويجوز لأهل المصر أن يقيموا الجمعة في
الصحراء القريبة من المصر خلافاً للشافعي. ولا تنعقد الجمعة
بأقل من أربعين. وعن أحمد: أقله خمسون. وعنه: أقله ثلاثة. وقال
أبو حنيفة: تنعقد بثلاثة والإمام، والعدد شرط في الخطبة. وقال
أبو حنيفة في إِحدى الروايتين: يصح أن يخطب منفرداً. وهل تجب
الجمعة على العبيد؟ فيه عن أحمد روايتان. وعندنا: تجب على
الأعمى إذا وجد قائداً، خلافاً لأبي حنيفة. ولا تنعقد الجمعة
بالعبيد والمسافرين، خلافاً لأبي حنيفة. وهل تجب الجمعة
والعيدان من غير إِذن سلطان؟ فيه عن أحمد روايتان. وتجوز
الجمعة في موضعين في البلد مع الحاجة. وقال مالك، والشافعي،
وأبو يوسف: لا تجوز إلا في موضع واحد. وتجوز إقامة الجمعة قبل
الزوال خلافاً لأكثرهم، وإذا وقع العيد يوم الجمعة أجزأ حضوره
عن يوم الجمعة، وبه قال الشعبي والنخعي، خلافاً للأكثرين،
والمستحب لأهل الأعذار أن يصلوا الظهر في جماعة. وقال أبو
حنيفة: يكره. ولا يجوز السفر يوم الجمعة بعد الزوال. وقال أبو
حنيفة: يجوز. وهل يجوز السفر بعد طلوع الفجر؟ فيه عن الإمام
أحمد روايتان. ونقل عن أحمد رضي الله عنه أنه لا يجوز الخروج
في الجمعة إلا للجهاد. وقال أبو حنيفة: يجوز لكل سفر. وقال
الشافعي:
لا يجوز أصلاً.
والخطبة شرط في الجمعة. وقال داود: هي مستحبة. والطهارة لا
تشترط في الخطبة، خلافا للشّافعي تصحّ في أحد قوليه. والقيام
ليس بشرط في الخطبة، خلافاً للشافعي. ولا تجب القعدة بين
الخطبتين، خلافاً له أيضاً.
ومن شرط الخطبة: التحميد، والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه
وسلم، وقراءة آية، والموعظة. وقال أبو حنيفة:
(4/283)
وَإِذَا رَأَوْا
تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ
قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ
وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
يجوز أن يخطب بتسبيحة.
والخطبتان واجبتان. وأما القراءة في الخطبة الثانية، فهي شرط،
خلافاً للشافعي.
والسُّنَّة للإمام إذا صعِد المنبر، واستقبل الناس: أن يسلِّم،
خلافاً لأبي حنيفة، ومالك. وهل يحرم الكلام في حال سماع
الخطبة؟ فيه عن أحمد روايتان. ويحرم على المستمع دون الخاطب،
خلافاً للأكثرين. ولا يكره الكلام قبل الابتداء بالخطبة، وبعد
الفراغ منها، خلافاً لأبي حنيفة.
ويستحب له أن يصليَ تحية المسجد والإمام يخطب، خلافاً لأبي
حنيفة، ومالك.
وهل يجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر، فيه عن أحمد روايتان.
قوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ أي: إِن كان لكم علم بالأصلح فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ أي: فرغتم منها فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ هذا أمر
إباحة وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ إباحة لطلب الرزق
بالتجارة بعد المنع منها بقوله تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ وقال
الحسن، وسعيد بن جبير: هو طلب العلم.
[سورة الجمعة (62) : آية 11]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها
وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ
اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
(11)
قوله عزّ وجلّ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً.
(1448) سبب نزولها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يخطب
يوم الجمعة، إذ أقبلت عير قد قَدِمَتْ، فخرجوا إليها حتى لم
يبق معه إلا إثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية.
(1449) أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جابر بن عبد
الله، قال الحسن:
وذلك أنهم أصابهم جوع، وغلاء سعر، فلما سمعوا بها خرجوا إليها،
فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو اتبع آخرُهم أوَّلَهم
التهب عليهم الوادي ناراً» .
(1450) قال المفسرون: كان الذي قدم بالتجارة دحية بن خليفة
الكلبي، قال مقاتل: وذلك قبل
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4899 عن حفص بن عمر به من حديث جابر.
وأخرجه مسلم 863 ح 37 من طريق خالد به. وأخرجه البخاري 936 و
3064 و 3308 ومسلم 863 وأبو يعلى 1888 والطبري 3436 و 34144
والدارقطني 2/ 5 والبيهقي 3/ 197 والواحدي في «أسباب النزول»
820 وابن بشكوال في «غوامض الأسماء» 851 من طرق عن حصين به.
وأخرجه البخاري 4899 ومسلم 863. وأخرجه البخاري 4899 ومسلم 863
والترمذي 3308 والطبري 34143 والواحدي 819 من طرق عن حصين عن
أبي سفيان عن جابر به.
عجزه ضعيف. أخرجه الطبري 3437 وعبد الرزاق في «التفسير» 3222
من طريق معمر عن الحسن مرسلا.
وأخرجه الطبري 34134 من طريق سفيان عن إسماعيل السدي عن أبي
مالك مرسلا وليس فيه اللفظ المرفوع.
ذكره الواحدي في «الأسباب» 820 عن المفسرين. وأخرجه البيهقي في
«الشعب» 6495 من طريق بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان مرسلا.
وأخرجه أبو داود في «المراسيل» 59 عن مقاتل بن حيان مرسلا
بنحوه.
وعجزه ضعيف وفيه اللفظ المرفوع فقال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم: «والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأحزم الله
(4/284)
أن يسلم. قالوا: قَدِمَ بها من الشام، وضرب
لها طبل يُؤذن الناس بقدومها. وهذه كانت عادتهم إذا قدمت عير.
قال جابر بن عبد الله: كانت التجارة طعاماً «1» . وقال أبو
مالك: كانت زيتاً «2» . والمراد باللهو: ضرب الطّبل.
وانْفَضُّوا بمعنى: تفرَّقوا عنك، فذهبوا إليها. والضمير
للتجارة. وإنما خصت برد الضمير إِليها، لأنها كانت أهم إليهم،
هذا قول الفراء، والمبرد. وقال الزجاج: المعنى:
وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهواً انفضوا إليه، فحذف خبر
أحدهما، لأن الخبر الثاني يدل على الخبر المحذوف. وقرأ ابن
مسعود، وابن أبي عبلة «انفضوا إليهما» على التثنية. وعن ابن
مسعود، وابن أبي عبلة «انفضوا إليه» على ضمير مذكر وَتَرَكُوكَ
قائِماً وهذا القيام كان في الخطبة قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ من
ثواب الصلاة والثبات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم خَيْرٌ
مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ومن يكفر به
ويجحده، فهو يعطي من سأل، ويبتدئ من لا يسأل، وغيره إنما يرزق
من يرجو منفعته، ويقبل على خدمته.
__________
عليهم الوادي نارا» . لكن لعجزه شاهد من: حديث جابر عند أبي
يعلى 1979 وابن حبان 6877 وفي إسناده زكريا بن يحيى بن زحمويه
ذكره ابن حبان في «الثقات» 8/ 253، وأورده ابن أبي حاتم في
«العلل» 3/ 61 ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، فالرجل مجهول.
وحديث جابر في هذا الشأن رواه الشيخان كما تقدم بغير هذا
السياق، وليس فيه اللفظ المرفوع فهذه زيادة منكرة، وتقدم حديث
جابر. ويشهد لكون دحية الكلبي قدم بالتجارة، ما أخرجه بشكوال
في «غوامض الأسماء» ص 852 والطبري 34135 من طريق سفيان عن
السدي عن مرة مرسلا. وحديث ابن عباس عند البزار 2273، وفي
إسناده عبد الله بن شبيب، وهو ضعيف كما في «المجمع» 7/ 134.
الخلاصة: أصل الحديث يعتضد بشواهده دون اللفظ المرفوع، فإنه
ضعيف لا يصح.
وانظر «أحكام القرآن» 2122.
__________
(1) انظر الحديث 1448 عن جابر بن عبد الله. [.....]
(2) انظر الحديث المتقدم 1449.
تنبيه: قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 537 رواية الاثني عشر هي
المشهورة في «الصحيحين» ولم أقف على رواية أنهم كانوا ثمانية
ولا أحد عشر. ورواية الأربعين أخرجها الدارقطني من طريق علي بن
عاصم عن حصين، وقال: لم يقل أحد من أصحاب حصين: أربعون إلا علي
بن عاصم، والكل قالوا: اثني عشر رجلا.
وكذلك قال أبو سفيان عن جابر كما تقدم اه. قلت: رواية
الدارقطني هي في «السنن» 2/ 4.
وانظر «الكشاف» 4/ 538 بتخريجنا.
(4/285)
|