زاد المسير في علم التفسير

سورة المنافقون
وهي مدنيّة بإجماعهم (1451) وذكر أهل التفسير أنها نزلت في عبد الله بن أبي ونظرائه. وكان السبب أنّ عبد الله خرج مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم في خلق كثير من المنافقين إلى المريسيع، وهو ماء لبني المصطلق طلبا للغنيمة، لا للرغبة في الجهاد، لأن السفر كان قريبا. فلمّا قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم غزاته، أقبل رجل من جهينة، يقال له: سنان، وهو حليف لعبد الله بن أبيّ، ورجل من بني غفار يقال له: جهجاه بن سعيد، وهو أجير لعمر بن الخطّاب لاستقاء الماء، فدار بينهما كلام، فرفع الغفاريّ يده فلطم الجهنيّ، فأدماه، فنادى الجهنيّ: يا آل الخزرج، فأقبلوا، ونادى الغفاريّ: يا آل قريش، فأقبلوا، فأصلح الأمر قوم من المهاجرين. فبلغ الخبر عبد الله بن أبيّ، فقال وعنده جماعة من المنافقين: والله ما مثلكم ومثل هؤلاء الرّهط من قريش إلّا مثل ما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك، ولكن هذا فعلكم بأنفسكم، آويتموهم في منازلكم، وأنفقتم عليهم أموالكم، فقووا وضعفتم. وايم الله: لو أمسكتم أيديكم لتفرّقت عن هذا جموعه، ولئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذل، وكان في القوم زيد بن أرقم، وهو غلام يومئذ لا يؤبه له، فقال لعبد الله: أنت والله الذّليل القليل، فقال: إنما كنت ألعب، فأقبل زيد بالخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال عمر: دعني أضرب عنقه. فقال: إذن ترعد له آنف كبيرة، قال: فإن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين، فمر سعد بن عبادة، أو محمّد بن مسلمة، أو عبّاد بن بشر فيقتله، فقال:
إذن يتحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيّ، فأتاه، فقال:
أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال: والذي أنزل عليك ما قلت شيئا من هذا، وإنّ زيدا لكذّاب، فقال من حضر: لا يصدق عليه كلام غلام، عسى الله أن يكون قد وهم، فعذره رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفشت الملامة في الأنصار لزيد، وكذّبوه، وقال له عمّه: ما أردت إلّا أن كذّبك رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون، ومقتوك!
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بإثر 821 نقلا عن أهل التفسير، وأصحاب السير. وأخرجه الطبري 34178 من طريق محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن قتادة عن عبد الله بن أبي بكر، وعن محمد بن يحيى بن حيان قال: كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق قالوا: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له ... فذكره مع اختلاف يسير. وأصل الخبر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم. أخرجه البخاري 4900 و 494 ومسلم 2772 والترمذي 2312 و 2313 والنسائي في «التفسير» 617 والواحدي في «أسباب النزول» 821 و «الوسيط» 4/ 303- 304. أما عجزه فقد أخرجه الطبري 34159 عن بشير بن مسلم ... فذكره بأحضر منه.
الخلاصة: عامة هذا السياق محفوظ بطرقه وشواهده.

(4/286)


إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

فاستحيا زيد، وجلس في بيته. فبلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ، لما بلغك عنه. فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فإني أخشى أن يقتله غيري، فلا تدعني نفسي حتى أقتل قاتله، فأدخل النار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بل تحسن صحبته ما بقي معنا» ، وأنزل الله سورة المنافقين في تصديق زيد، وتكذيب عبد الله، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى زيد فقرأها عليه، وقال: إنّ الله قد صدّقك. ولمّا أراد عبد الله بن أبيّ أن يدخل المدينة جاء ابنه، فقال: ما وراءك، قال: ما لك ويلك؟ قال: لا والله لا تدخلها أبدا إلّا بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتعلم اليوم من الأعزّ، ومن الأذلّ. فشكا عبد الله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما صنع ابنه، فأرسل إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن خلّ عنه حتى يدخل، فلمّا نزلت السّورة وبان كذبه قيل له: يا أبا حباب:
إنه قد نزلت فيك آيات شداد، فاذهب إلى رسول الله ليستغفر لك، فلوى به رأسه، فلذلك قوله عزّ وجلّ: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وقيل: إنّ الذي قال له هذا عبادة بن الصّامت.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
قوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ يعني: عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وهاهنا تم الخبر عنهم. ثم ابتدأ فقال عزّ وجلّ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ وإنما جعلهم كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا «1» . قال الفراء: إنما كذب ضميرهم.
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قد ذكرناه في المجادلة «2» . قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أن قول القائل: «أشهد» يمين. لأنهم قالوا: «نشهد» فجعله يمينا بقوله عزّ وجلّ: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً وقد قال أحمد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة: أَشْهَدُ، وأُقْسِمُ، وأَعْزِمُ، وأَحْلِفُ، كُلُّها أَيْمان. وقال الشافعي: «أُقسم» ليس بيمين. وإنما قوله: «أقسم بالله» يمين إذا أراد اليمين.
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 256: الشهادة تكون بالقلب، وتكون باللسان، وتكون بالجوارح، فأما شهادة القلب فهو الاعتقاد أو العلم على رأي قوم، والعلم على رأي آخرين، والصحيح عندي أنه الاعتقاد والعلم. وأما شهادة اللسان فبالكلام، وهو الركن الظاهر من أركانها، وعليه تنبني الأحكام، وتترتب الأعذار والاعتصام. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» متفق عليه.
وقال ابن العربي في «الأحكام» 4/ 257: قال بعض الشافعية: إن قول الشافعي: إن الرجل إذا قال في يمينه- أشهد بالله يكون يمينا بنية اليمين، ورأى أبو حنيفة ومالك أنه دون النية يمين، ولا أرى المسألة إلا هكذا في أصلها. وقد قال مالك، إذا قال الرجل: أشهد: إنه يمين إذا أراد بالله.
(2) المجادلة: 16.

(4/287)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)

قوله تعالى: ذلِكَ أي: ذلك الكذب بِأَنَّهُمْ آمَنُوا باللسان ثُمَّ كَفَرُوا في السِّرِّ فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ الإِيمان والقرآن وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ يعني: أن لهم أجساماً ومناظر.
(1452) قال ابن عباس: كان عبد الله بن أُبَيّ جسيماً فصيحاً، ذَلْقَ «1» اللسان، فإذا قال، سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلم قوله. وقال غيره: المعنى: يصغي إلى قولهم، فيحسب أنه حق كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: وحمزة: «خُشُبٌ» بضم الخاء، والشين جميعاً، وهو جمع خشبة. مثل ثمرة، وثمر. وقرأ الكسائيّ: خشب بضم الخاء، وتسكين الشين، مثل: بَدَنَةٍ، وبُدْنٍ، وأَكَمَةٍ، وأُكْمِ. وعن ابن كثير، وأبي عمرو، مثله. وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة، وابن سيرين:
«خَشَبٌ» بفتح الخاء، والشين جميعاً. وقرأ أبو نهيك، وأبو المتوكّل، وأبو عمران خشب بفتح الخاء، وإسكان الشين، فوصفهم الله بحسن الصّور، وإبانة النّطق، ثم أعلم أنهم في ترك التفهُّم والاستبصار بمنزلة الخُشُب. والمُسَنَّدة: الممالة إلى الجدار. والمراد: أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي، بل هي خُشُبٌ مُسَنَّدةٌ إلى حائط. ثم عابهم بالجبن فقال عزّ وجلّ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أي: لا يسمعون صوتاً إلا ظنوا أنهم قد أُتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم، وهذه مبالغة في وصفهم بالجبن. وأنشدوا في هذا المعنى:
وَلَوْ أَنَّها عُصْفُورَةٌ لحَسِبْتَها ... مُسَوَّمةً تدعو عُبيْداً وَأَزْنَما «2»
أي: لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلاً تدعو هاتين القبيلتين.
قوله عزّ وجلّ: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ أن تأمنهم: ولا تأمنهم على سِرِّك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار. قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ مفسر في براءة «3» .

[سورة المنافقون (63) : الآيات 5 الى 8]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
قوله عزّ وجلّ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ قد بيَّنَّا سببه في نزول السورة «4» لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وقرأ نافع، والمفضل عن عاصم، ويعقوب: «لَوَوْا» بالتخفيف. واختار أبو عبيد التشديد.
__________
هو بعض حديث، أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» 6/ 336 عن ابن عباس بنحوه. ولم أقف على إسناده، لكن لا ريب أن ابن سلول هو أحد المرادين بهذه الآية.
__________
(1) ذلق اللسان: طلق اللسان.
(2) البيت للعوام بن شوذب الشيباني وهو في «معجم الشعراء» 300 و «اللسان» - زنم- وأزنم: بطن من بني يربوع.
(3) التوبة: 30.
(4) انظر الحديث المتقدم 1451.

(4/288)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)

وقال: لأنهم فعلوا ذلك مرَّة بعد مرَّة. قال مجاهد: لما قيل لعبد الله بن أُبَيٍّ: تعال يستغفر لك رسول الله لوّى رأسه، وقال: ماذا قلتَ؟ وقال مقاتل: عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار. وقال الفراء:
حَرَّكوها استهزاءً بالنبي وبدعائه.
قوله عزّ وجلّ: وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ أي: يعرضون عن الاستغفار. وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي:
متكبِّرون عن ذلك. ثم ذكر أنّ استغفاره لهم لا ينفعهم، ب قوله عزّ وجلّ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ وقرأ أبو جعفر: «آستغفرت» بالمدّ.
قوله عزّ وجلّ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ قد بيَّنَّا أنه قول ابن أُبَيٍّ.
ويَنْفَضُّوا بمعنى: يتفرَّقوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال المفسرون: خزائن السموات: المطر، وخزائن الأرض: النبات. والمعنى: أنه هو الرَّزَّاق لهؤلاء المهاجرين، لا أولئك، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أي: لا يعلمون أن الله رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا أي من هذه الغزوة. وقد تقدم ذكرها وهذا قول ابن أُبَيّ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ يعني: نفسه، وعنى ب الْأَذَلَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقرأ الحسن: «لنُخرِجنَّ» بالنون مضمومة وكسر الراء «الأعزَّ» بنصب الزاي والأذل منصوب على الحال بناءً على جواز تعريف الحال. أو زيادة «أل» فيه أو بتقدير «مثل» المعنى: لنخرجنَّه ذليلاً على أيِّ حال ذلّ. والكل نصبوا «الأذلّ» فردّ الله عزّ وجلّ عليه فقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وهي:
المَنَعة والقوّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بإعزاز الله ونصره إياهم وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك.

[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
قوله عزّ وجلّ: لا تُلْهِكُمْ أي: لا تشغلكم.
في المراد بذكر الله هاهنا أربعة أقوال: أحدها: طاعة الله في الجهاد، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الصلاة المكتوبة، قاله عطاء، ومقاتل. والثالث: الفرائض من الصلاة، وغيرها، قاله الضحاك. والرابع: أنه على إطلاقه. قال الزجاج: حضَّهم بهذا على إدامة الذكر.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ في هذه النفقة ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه زكاة الأموال، قاله ابن عباس. والثاني: أنها النفقة في الحقوق الواجبة بالمال، كالزكاة والحجّ، ونحو ذلك، وهذا
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 259: أخذ ابن عباس بعموم الآية في الإنفاق الواجب خاصة دون النفل. وهو الصحيح. لأن الوعيد إنما يتعلق بالواجب دون النفل. وأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما، وأما القول في الحج على الفور ففيه إشكال، لأنا إن قلنا: إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل أدائه خلاف بين العلماء، لا تخرّج الآية عليه.
- وإن قلنا: إن الحج على الفور فالآية على العموم صحيح، لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات.

(4/289)


المعنى مروي عن الضحاك. والثالث: أنه صدقة التطوّع، ذكره الماوردي. فعلى هذا يكون الأمر ندباً، وعلى ما قبله يكون أمر وجوب.
قوله عزّ وجلّ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال الزجاج: أي: من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميّت.
قوله عزّ وجلّ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي أي: هلاَّ أخرتني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني بذلك الاستزادة في أجله ليتصدَّق ويزكّي، وهو قوله عزّ وجلّ: فَأَصَّدَّقَ قال أبو عبيدة: «فأصدق» نصب، لأن كل جواب بالفاء للاستفهام منصوب. تقول: مَنْ عندك فآتيَك. هلاَّ فعلت كذا فأفعَل كذا، ثم تبعتْها وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بغير واو. وقال أبو عمرو: إنما هي، وأكون، فذهبت الواو من الخط. كما يكتب أبو جاد، أبجد، هجاءً، وهكذا يقرؤها أبو عمرو «وأكونَ» بالواو، ونصب النون. والباقون يقرءون «وأكن» بغير واو. قال الزجاج: من قرأ «وأكونَ» فهو على لفظ فأصَّدَّقَ. ومن جزم «أكنْ» فهو على موضع «فأصدق» لأن المعنى: إن أخرتني أصدق وأكن. وروى أبو صالح عن ابن عباس «فأصَّدَّق» أي: أُزكي مالي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: أَحُجّ مع المؤمنين، وقال في قوله عزّ وجلّ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ والمعنى: بما تعملون، وقرأ أبو بكر عن عاصم يعملون بالياء والباقون بالتاء، من التكذيب بالصدقة.
قال مقاتل: يعني: المنافقين. وروى الضحاك عن ابن عباس، ما من أحد يموت، قد كان له مال لم يزكّه، وأطاق الحج فلم يحج، إلا سأل الله الرجعة عند الموت، فقالوا له: إنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: أنا أتلو عليكم به قرآنا، ثم قرأ هذه الآية.

(4/290)


يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)

سورة التغابن
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله الجمهور، منهم ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة. والثاني: أنها مكيّة، قاله الضّحّاك، وقال عطاء بن يسار: هي مكيّة إلّا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ واللّتان بعدها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
وقد سبق تفسير فاتحتها إلى قوله عزّ وجلّ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وفيه قولان «1» :
أحدهما: أن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، رواه الوالبي عن ابن عباس. والأحاديث تعضد هذا القول.
(1453) كقوله صلّى الله عليه وسلم: «خلق فرعون في بطن أمه كافراً، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً» .
(1454) وقوله: «فيؤمر الملك بأربع كلمات: بكتبِ رزقِهِ، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد» .
__________
أخرجه اللالكائي في «السنة» 130/ 1- 2 وأبو نعيم في «أخبار أصفهان» 2/ 190 من حديث ابن مسعود، وفيه نصر بن طريف، وهو متروك. وأخرجه ابن عدي 1/ 304 والطبراني 10543 من وجه آخر، وفيه أبو هلال الراسبي، وهو غير قوي والحديث بهذا اللفظ غير قوي.
صحيح. وهو قطعة من حديث طويل عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه البخاري 6594 و 7454 ومسلم 2643، وأبو داود 4708 والترمذي 2137 وابن ماجة 76 وابن حبان 6174 وأحمد 1/ 414 و 430.
وانظر «تفسير القرطبي» 5995 بتخريجنا.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 120: وقال الزجاج: - وهو أحسن الأقوال، والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة-: إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أنّ الله خالق الكفر، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان.

(4/291)


زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

والثاني: أنّ تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ: خَلَقَكُمْ ثم وصفهم، فقال عزّ وجلّ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، واختلف أرباب هذا القول فيه على أربعة أقوال: أحدها: فمنكم كافر يؤمن، ومنكم مؤمن يكفر، قاله أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثاني: فمنكم كافر في حياته مؤمن في العاقبة، ومنكم مؤمن في حياته كافر في العاقبة، قاله أبو سعيد الخدري. والثالث: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكوكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكوكب، قاله عطاء بن أبي رباح، وعنى بذلك شأن الأنواء.
والرابع: فمنكم كافر بالله خلقه، ومؤمن بالله خلقه، حكاه الزجاج، والكفر بالخلق مذهب الدهرية، وأهل الطبائع. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزّ وجلّ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ قال الزجاج:
أي: خلقكم أحسن الحيوان كلِّه. وقرأ الأعمش «صوركم» بكسر الصاد. ويقال في جمع الصورة:
صور، وصور، وصِور، كما يقال في جمع لحية: لِحىّ، ولُحىّ. وذكر ابن السائب أن معنى فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أحكمها. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ روى المفضل عن عاصم «يسرُّون» و «يعلنون» بالياء فيهما أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ هذا خطاب لأهل مكة خوفهم ما نزل بالكفّار قبلهم، فذلك قوله عزّ وجلّ: فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي: جزاء أعمالهم، وهو ما أصابهم من العذاب في الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة ذلِكَ الذي أصابهم بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فينكرون ذلك، ويقولون: أَبَشَرٌ أي: ناس مثلنا يَهْدُونَنا والبشر اسم جنس معناه الجمع، وإن كان لفظه واحداً فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا أي: أعرضوا عن الإيمان وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عن إيمانهم وعبادتهم.

[سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 18]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قوله عزّ وجلّ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا كان ابن عمر يقول: «زعموا» كناية الكذب. وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل: زعم فلان.
قوله عزّ وجلّ: وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعني: البعث وَالنُّورِ هو القرآن، وفيه بيان أمر البعث والحساب والجزاء.

(4/292)


قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ هو منصوب بقوله تعالى: لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ وهو يوم القيامة. وسمي بذلك لأن الله تعالى يجمع فيه الجن والإنس، وأهل السماء، وأهل الأرض. قوله: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ تفاعل من الغبن، وهو فوت الحظ. والمراد في تسميته يوم القيامة بيوم التغابن فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه ليس من كافر إلا وله منزل وأهل في الجنة، فيرث ذلك المؤمن، فيغبن حينئذ الكافر، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: غبن أهل الجنة أهل النار، قاله مجاهد، والقرظي. والثالث: أنه يوم غبن المظلوم الظالم، لأن المظلوم كان في الدنيا مغبوناً، فصار في الآخرة غابناً، ذكره الماوردي. والرابع: أنه يوم يظهر فيه غبن الكافر بتركه للإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، ذكره الثعلبي. قال الزجاج: وإنما ذكر ذلك مثلا للبيع والشراء، كقوله عزّ وجلّ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «1» ، وقوله عزّ وجلّ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ «2» وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ قرأ نافع، وابن عامر، والمفضل عن عاصم «نكفر» «وندخله» بالنون فيهما. والباقون: بالياء ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قال ابن عباس: بعلمه وقضائه.
قوله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ فيه ستة أقوال: أحدها: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من قبل الله تعالى، فيسلم، ويرضى. والثاني: يهد قلبه للاسترجاع، وهو أن يقول: إنا لله، وإنا إليه راجعون، قاله مقاتل. والثالث: أنه إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر، قاله ابن السائب، وابن قتيبة. والرابع: يهد قلبه، أي: يجعله مهتدياً، قاله الزجاج.
والخامس: يهد وليَّه بالصبر والرضى، قاله أبو بكر الورَّاق. والسادس: يهد قلبه لاتباع السنة إِذا صح إيمانه، قاله أبو عثمان الحيري. وقرأ أبو بكر الصديق، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: «يَهْدَ» بياءٍ مفتوحة. ونصب الدال «قَلْبُهُ» بالرفع. قال الزجاج: هذا من هدأ يهدأ: إذا سكن. فالمعنى: إذا سلَّم لأمر الله سَكَنَ قلبُه. وقرأ عثمان بن عفان، والضحاك، وطلحة بن مصرف، والأزرق عن حمزة: «نَهْد» بالنون. وقرأ علي بن أبي طالب، عليه السلام وأبو عبد الرّحمن: «يهد قلبه» بضم الياء، وفتح الدال «قَلْبُهُ» بالرفع. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ.
(1455) سبب نزولها أن الرجل كان يسلم. فإِذا أراد الهجرة منعه أهله، وولده، وقالوا: نَنْشُدُك الله أن تذهب وتَدَعَ أهلك وعشيرتك وتصير إِلى المدينة بلا أهل ولا مال. فمنهم من يَرِقُّ لهم، ويقيم فلا يهاجر، فنزلت هذه الآية. فلما هاجر أولئك، ورأوا الناس فقد فقهوا في الدّين همّوا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا إلى آخر الآية، هذا قول ابن عباس.
وقال الزجاج: لما أرادوا الهجرة قال لهم أزواجهم، وأولادهم: قد صبرنا لكم على مفارقة الدّين ولا
__________
حسن. أخرجه الترمذي 3317 والحاكم 2/ 490 والطبري 34198 من حديث ابن عباس، صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح. مع أنه من رواية سماك عن عكرمة وفيه ضعف، وورد من وجه آخر، أخرجه الطبري 34200، وفيه عطية العوفي واه. وانظر تفسير القرطبي 6001 بتخريجنا. وانظر أيضا «أحكام القرآن» 2131 فقد استوفيت فيه الكلام عليه.
__________
(1) البقرة: 16.
(2) الصف: 10.

(4/293)


نصبر لكم على مفارقتكم، ومفارقة الأموال، والمساكن، فأعلم الله عزّ وجلّ أن من كان بهذه الصورة، فهو عدوٌّ، وإِن كان ولداً، أو كانت زوجة. وقال مجاهد: كان حب الرجل ولده وزوجته يحمله على قطيعة رحمه ومعصية ربه. وقال قتادة: كان من أزواجهم، وأولادهم من ينهاهم عن الإسلام، ويثبّطهم عنه، فخرج في قوله عزّ وجلّ: عَدُوًّا لَكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: بمنعهم من الهجرة، وهذا على قول ابن عباس. والثاني: بكونهم سببا للمعاصي، وهذا على قول مجاهد. والثالث: بنهيهم عن الإسلام، وهذا على قول قتادة.
قوله عزّ وجلّ: فَاحْذَرُوهُمْ قال الفراء: لا تطيعوهم في التخلُّف.
قوله عزّ وجلّ: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي: بلاء وشغل عن الآخرة. فالمال والأولاد يوقعان في العظائم إلا من عصمه الله. وقال ابن قتيبة: أي: إغرام. يقال: فتن فلان بالمرأة، وشغف بها، أي: أغرم بها. وقال أهل المعاني: إنما دخل «من» في قوله عزّ وجلّ: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ لأنه ليس كل الأزواج، والأولاد أعداءً. ولم يذكر «من» في قوله عزّ وجلّ: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
لأنها لا تخلو من الفتنة، واشتغال القلب بها.
(1456) وقد روى بريدة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه كان يخطب، فجاء الحسن، والحسين، عليهما السلام، عليهما قميصان أحمران يمشيان، ويعثران، فنزل من المنبر، فحملهما، فوضعهما بين يديه ثم قال: «صدق الله عزّ وجلّ: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
نظرت إِلى هذين الصبيين يمشيان، ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي، ورفعتهما» .
قوله عزّ وجلّ: اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
أي: ثواب جزيل، وهو الجنة. والمعنى: لا تعصوه بسبب الأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي: ما أطقتم وَاسْمَعُوا ما تُؤمَرُون به وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وفي هذه النفقة ثلاثة أقوال: أحدها:
الصَّدقة، قاله ابن عباس. والثاني: نفقة المؤمن على نفسه، قاله الحسن. والثالث: النفقة في الجهاد، قاله الضحاك. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ حتى يعطيَ حق الله في ماله. وقد تقدّم بيان هذا في سورة الحشر وما بعده سبق بيانه إلى آخر السّورة «1» .
__________
حسن. أخرجه الترمذي 3774 والحاكم 1/ 287 وابن حبان 6039 والبيهقي 3/ 218 من طرق عن علي بن الحسين بن واقد به. عن بريدة مرفوعا. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، مع أن علي بن الحسين روى له مسلم في المقدمة فقط لكنه توبع. وأخرجه أبو داود 1109 والنسائي 3/ 108 و 192 وابن ماجة 3600 وابن أبي شيبة 8/ 368 و 12/ 299- 300 وأحمد 5/ 354 وابن خزيمة 1082 وابن حبان 6038 والبيهقي 6/ 165 من حديث بريدة.
وانظر «أحكام القرآن» و «الجامع لأحكام القرآن» 6005.
__________
(1) البقرة: 245، والحديد: 11- 18، والحشر: 23- 24.

(4/294)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)

سورة الطّلاق
وتسمّى سورة النّساء القصرى، وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الطلاق (65) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ قال الزّجّاج: هذا خطاب للنبيّ عليه السلام.
والمؤمنون داخلون معه فيه. ومعناه: إذا أردتم طلاق النّساء، كقوله عزّ وجلّ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «1» . وفي سبب نزول هذه الآية قولان:
(1457) أحدهما: أنها نزلت حين طلّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم حفصة، وقيل له: راجعها، فإنّها صوّامة
__________
ذكر نزول هذه الآية ضعيف، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة صحيح، وباقيه حسن صحيح. أخرجه الطبري 34244 عن قتادة مرسلا بهذا السياق. ووصله ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 445 بذكر أنس، وفي إسناده أسباط بن محمد، غير قوي، والمرسل أصح. فقد أخرجه ابن سعد 8/ 67 عن قتادة مرسلا، وليس فيه ذكر نزول الآية.
وللحديث شواهد دون ذكر نزول الآية منها:
1- مرسل قيس بن زيد، أخرجه ابن سعد 8/ 67 ورجاله ثقات.
2- مرسل مخرمة بن بكير عن أبيه، أخرجه ابن سعد 8/ 67 وفيه الواقدي واه.
3- مرسل ابن سيرين، أخرجه ابن سعد 8/ 68 وفيه الواقدي.
4- حديث أنس ولفظه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما طلق حفصة أمر أن يراجعها» ، أخرجه ابن سعد 8/ 67 وإسناده على شرط الشيخين.
5- حديث ابن عباس عن عمر ولفظه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها» .
أخرجه ابن سعد 8/ 67 وأبو داود 2283 والنسائي 6/ 313 وإسناده حسن.
الخلاصة: كونه صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة صحيح، وأما نزول الآية في ذلك، فضعيف، وأما عجزه، فهو حسن صحيح. والله تعالى أعلم. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 2138 و «فتح القدير» للشوكاني 2532.
__________
(1) المائدة: 6.

(4/295)


قَوَّامةٌ، وهي من إحدى زوجاتك في الجنة، قاله أنس بن مالك.
(1458) والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن عمر، وذلك أنه طلّق امرأته حائضا، فأمره النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، قاله السّدّيّ.
قوله عزّ وجلّ: لِعِدَّتِهِنَّ أي: لزمان عِدَّتهن، وهو الطهر. وهذا للمدخول بها، لأن غير المدخول بها لا عدَّة عليها. والطلاق على ضربين «1» : سُنِّيٌّ، وبِدْعيٌّ.
فالسُّنِّيُّ: أن يطلِّقها في طهر لم يجامعها فيه، فذلك هو الطلاق لِلْعِدَّة، لأنها تعتدُّ بذلك الطهر من عدّتها، وتقع في العدة عقيب الطلاق، فلا يطول عليها زمان العدة.
والطلاق البدعي: أن يقع في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، فهو واقع، وصاحبه آثم.
__________
لا أصل له، وحديث ابن عمر متفق عليه كما سيأتي، وليس فيه أن الآية نزلت فيه.
وحديث ابن عمر دون ذكر نزول الآية صحيح. أخرجه البخاري 4908 و 5251 و 5252 و 5333 و 7160 ومسلم 1471 وأبو داود 2179 و 2181 والترمذي 1176 والنسائي 6/ 212- 213 ومالك 2/ 576 والشافعي 2/ 32- 33 والطيالسي 1853 وابن أبي شيبة 5/ 2- 3 وأحمد 2/ 63 وابن حبان 4263 وابن الجارود 734 والدارقطني 4/ 7 والبغوي 2220 والبيهقي 7/ 424 من طرق من حديث ابن عمر.
وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 2139 بتخريجنا ولله الحمد والمنة.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 135: من طلق في طهر لم يجامع فيه نفذ طلاقه وأصاب السنة، وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ السنة، وقال سعيد بن المسيب في أخرى: لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة. وإليه ذهبت الشيعة وفي «الصحيحين» حديث ابن عمر المتقدم: وكان ابن عمر طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رواية عن ابن عمر أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال: «هي واحدة» . وهذا نص. وهو يرد على الشيعة قال علماؤنا: طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض، طاهرا لم يمسها في ذلك الظهر، ولا تقدمه طلاق في حيض، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض. وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم. وقال الشافعي:
طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر خاصة، ولو طلقها ثلاثا لم يكن بدعة. وقال أبو حنيفة: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر طلقة، قال الشعبي: يجوز أن يطلقها في طهر جامعها فيه. فعلماؤنا قالوا: يطلقها واحدة في طهر لم يمس فيه، ولا تبعه طلاق في عدة، ولا يكون الطهر تاليا لحيض وقع فيه الطلاق. للحديث المتقدم. وتمسك الإمام الشافعي بظاهر قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وهذا عام في كل طلاق كان واحدة أو اثنتين أو أكثر. وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية ولم يعتبر العدد. وكذلك حديث ابن عمر لأن النبي صلّى الله عليه وسلم علّمه الوقت لا العدد. قال ابن العربي: «وهذه غفلة عن الحديث الصحيح» ، فإنه قال: «مره فليراجعها» وهذا يدفع الثلاث. وفي الحديث أنه قال: أرأيت لو طلقها ثلاثا؟ قال: حرمت عليك وبانت منك بمعصية. وقال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحدة سواء. وهو مذهب الشافعي لولا قوله بعد ذلك: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية. وكذلك قال أكثر العلماء، وهو بديع لهم. وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية كما قالوا، ولكن الحديث فسرها كما قلنا. وأما قول الشعبي: إنه يجوز طلاق في طهر جامعها فيه، فيرده حديث ابن عمر بنصه ومعناه. فلأنه إذا منع من طلاق الحائض لعدم الاعتداد به مخافة شغل الرحم وبالحيض التالي له.
قلت: وقد احتج الشافعي في طلاق الثلاث بكلمة واحدة بما رواه الدارقطني أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية ثلاث تطليقات في كلمة واحدة، فلم يبلغنا أن أحدا من أصحابه عاب عليه ذلك. [.....]

(4/296)


فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)

فإن جمع الطلاق الثلاث في طهر واحد، فالمنصوص من مذهبنا أنه بدعة.
قوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي: زمان العدّة. وفي إحصائه فوائد. منها: مراعاة زمان الرجعة، وأوان النفقة، والسّكنى، وتوزيع الطّلاق على الإقراء إذا أراد أن يطلِّق ثلاثاً، ولِيَعْلَمَ أنها قد بانت، فيتزوّج بأختها، وأربع سواها.
قوله عزّ وجلّ: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أي: فلا تعصوه فيما أمركم به. لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فيه دليل على وجوب السكنى. ونسب البيوت إليهن، لسكناهن قبل الطلاق فيهن، ولا يجوز لها أن تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة. فإن خرجت أثِمتْ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ وفيها أربعة أقوال «1» :
أحدها: أنّ المعنى: إلا أن يخرجن قبل انقضاء المدة، فخروجهن هو الفاحشة المبّينة، وهذا قول عبد الله بن عمر، والسدي، وابن السائب. والثاني: أن الفاحشة: الزنا، رواه مجاهد، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، والضحاك. فعلى هذا يكون المعنى: إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحدّ عليهنّ. والثالث: أنّ الفاحشة: أن تبدو على أهله، فيحلُّ لهم إخراجها، رواه محمد بن إبراهيم عن ابن عباس. والرابع: أنها إصابة حدٍّ، فتخرج لإقامة الحدّ عليها، قاله سعيد بن المسيّب.
قوله عزّ وجلّ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني: ما ذكر من الأحكام وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ التي بيَّنها، وأمر بها فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي: أثم فيما بينه وبين الله تعالى لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أي: يُوقع في قلب الزوج المحبَّة لرجعتها بعد الطَّلْقة والطلقتين. وهذا يدل على أن المستحب في الطلاق تفريقه، وأن لا يجمع الثلاث.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 2 الى 3]
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: قاربن انقضاء العدة فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وهذا مبيَّن في البقرة «2» وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قال المفسرون: أشهدوا على الطلاق، أو المراجعة. واختلف العلماء: هل الإشهاد على المراجعة واجب، أم مستحب؟ وفيه عن أحمد روايتان، وعن الشافعي قولان، ثم قال للشهداء: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي: اشهدوا بالحق، وأدّوها على الصحة، طلبا لمرضاة الله تعالى، وقياماً بوصيَّته. وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 446: وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة فتخرج من المنزل، قال: الفاحشة المبينة، تشمل الزنا كما قاله ابن مسعود وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن، وابن سيرين ومجاهد وعكرمة، وغيرهم. قال:
وتشمل ما إذا نشزت المرأة، أو بذؤت على أهل الرجل، وآذتهم في الكلام والفعال، كما قاله أبيّ بن كعب وابن عباس وغيرهم.
(2) البقرة: 232.

(4/297)


وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)

(1459) فذكر أكثر المفسرين أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر العدوُّ ابناً له، فذكر ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وسلم، وشكا إليه الفاقة، فقال: اتق الله واصبر، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ففعل الرجل ذلك، فغفل العدوُّ عن ابنه، فساق غنمهم، وجاء بها إلى المدينة، وهي أربعة آلاف شاة، فنزلت هذه الآية.
وفي معناها للمفسرين خمسة أقوال: أحدها: ومن يتق الله يُنجِه من كل كرب في الدنيا والآخرة، قاله ابن عباس. والثاني: أنّ مَخْرَجَه: علمُه بأن ما أصابه من عطَاءٍ أو مَنْع، من قِبَل الله، وهو معنى قول ابن مسعود. والثالث: ومن يتق الله، فيطلق للسُّنَّةِ، ويراجع للسُّنَّةِ، يَجْعَلْ له مخرجاً، قاله السدي.
والرابع: ومن يتَّق الله بالصبر عند المصيبة، يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة، قاله ابن السائب.
والخامس: يجعل له مخرجاً من الحرام إلى الحلال، قاله الزجاج. والصحيح أن هذا عام، فإن الله تعالى يجعل للتقي مخرجاً من كل ما يضيق عليه. ومن لا يتقي، يقع في كل شدة. قال الربيع بن خُثَيْم:
يجعل له مخرجاً من كل ما يضيق على الناس وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أي: من حيث لا يأمل، ولا يرجو. قال الزجاج: ويجوز أن يكون: إذا اتقى الله في طلاقه، وجرى في ذلك على السُّنَّة، رزقه الله أهلا بدل أهله. قوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي: مَنْ وَثِقَ به فيما نابه، كفاه الله ما أهمّه إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ وروى حفص، والمفضل عن عاصم «بالغُ أمرِه» مضاف. والمعنى: يقضي ما يريد، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي: أجلاً ومنتهىً ينتهي إليه، قدَّر الله ذلك كلَّه، فلا يقدَّم ولا يؤخر.
قال مقاتل: قد جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء قدراً، فقدَّر متى يكون هذا الغني فقيراً، وهذا الفقير غنيا.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أنها لمّا نزلت عدّة
__________
أخرجه الثعلبي كما في «تخريج الكشاف» 4/ 556 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي فذكره نحوه، ولم يسم الابن. قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 556: والكلبي متروك متهم، وهذا الإسناد واه بمرة، وأبو صالح ضعفه غير واحد. وله شاهد من حديث أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود عن أبيه نحوه، أخرجه البيهقي في «الدلائل» 6/ 106 وإسناده منقطع فإن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ابن مسعود. وكرره البيهقي 6/ 107 عن أبي عبيدة مرسلا، وسنده قوي. وله شاهد آخر من حديث جابر أخرجه الحاكم 2/ 492 وصححه! وتعقبه الذهبي بقوله: بل منكر، وعباد رافضي جبل، وعبيد متروك قاله الأزدي اه. وورد عن سالم بن أبي الجعد مرسلا أخرجه الطبري 34288. وكرره عن السدي مرسلا 34287.
الخلاصة: هو حديث حسن أو يقرب من الحسن وأحسن ما روي فيه حديث ابن مسعود، ليس له علة إلا الانقطاع، فهو ضعيف فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، وإذا انضم إليه مرسل سالم ومرسل السدي، صار حسنا كما هو مقرر في هذا النص لكن في المتن بعض الاضطراب، لذا قلت: حسن أو يشبه الحسن. وانظر «فتح القدير» للشوكاني 2536 بتخريجنا.

(4/298)


المطلَّقة، والمتوفَّى عنها زوجُها في البقرة «1» .
(1460) قال أُبَيُّ بن كعب: يا رسول الله: إن نساء من أهل المدينة يقلن: قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء. قال: «وما هو؟» قال: الصغار والكبار، وذوات الحمل، فنزلت هذه الآية، قاله عمرو بن سالم.
(1461) والثاني: لمّا نزل قوله عزّ وجلّ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الآية «2» قال خلاَّد بن النعمان الأنصاري: يا رسول الله، فما عِدَّة التي لا تحيض، وعدَّة التي لم تحض، وعدة الحُبلى؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الآية: إِنِ ارْتَبْتُمْ، أي: شككتم فلم تَدْرُوا ما عِدتَّهن فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ كذلك.

فصل «3» :
قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالارتياب هاهنا: ارتياب المخاطبين في مقدار عدّة
__________
أخرجه الحاكم 2/ 492 و 493 والواحدي في «أسبابه» 830 والبيهقي 7/ 414 من حديث أبيّ بن كعب، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، مع أن إسناده منقطع عمرو بن سالم لم يسمع أبيّ بن كعب كما في «تهذيب التهذيب» لابن حجر، وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6024 بتخريجنا، وانظر «الدر» 6/ 357.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم، فالخبر لا شيء.
__________
(1) البقرة: 227- 232.
(2) البقرة: 228.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 134: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال عني بذلك: إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم فيهن. فإن حكم عددهن إذا طلقن، وهن ممن دخل بهن أزواجهن، فعدتهن ثلاثة أشهر، وكذلك عدد اللائي لم يحضن من الجواري الصغار إذا طلقهن أزواجهن بعد الدخول.
وقال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 146: المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة. وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها: إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها، منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة، فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلت للأزواج. هذا قول الشافعي بالعراق. فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد تسعة أشهر، أربعة أشهر وعشرا. فإن كانت المرأة شابة، استؤني بها هل هي حامل أم لا، فإن استبان حملها فإن أجلها وصفه. وإن لم يستبن فقال مالك: عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة. وبه قال أحمد وإسحاق ورووه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. وأهل العراق يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها، وإن مكثت عشرين سنة، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر قال الثعلبي: وهذا الأصح في مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء. وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه وأما من تأخر حيضها لمرض، فقال مالك وابن القاسم وعبد الله بن أصبغ: تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة. ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة، على ما ذكرناه، فتحل ما لم ترتب بحمل، فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام، وقال أشهب: لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة، قال ابن العربي: وهو الصحيح. وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال: قال ابن المسيب: تعتد سنة وهو قول الليث، وهو مشهور قول علمائنا. سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها، وميزت ذلك أو لم تميزه. عدتها في ذلك كله عند مالك في تحصيل مذهبه سنة. وقال الشافعي في أحد أقواله: عدتها ثلاثة أشهر. وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين. قال ابن العربي: وهو الصحيح عندي. وقال أبو عمر: المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلمت إقبال حيضتها أو إدبارها اعتدت ثلاثة قروء. وهذا أصح في النظر، وأثبت في القياس والأثر.

(4/299)


أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)

الآيسة والصغيرة كم هو؟ وليس المراد به ارتياب المعتدات في اليأس من المحيض، أو اليأس من الحمل للسبب الذي ذكر في نزول الآية. ولأنه لو أريد بذلك النساء لتوجَّه الخطاب إليهن، فقيل: إن ارتبتنُّ، أو ارتبْنَ، لأن الحيض إنما يعلم من جهتهنَّ.
وقد اختلف في المرأة إذا تأخر حيضها لا لعارض كم تجلس؟ فمذهب أصحابنا أنها تجلس غالب مدة الحمل، وهو تسعة أشهر، ثم ثلاثة. والعدة: هي الثلاثة التي بعد التسعة. فإن حاضت قبل السنة بيوم، استأنفت ثلاث حيض، وإن تَمَّتْ السَّنَةُ من غير حيض، حَلَّت، وبه قال مالك. أبو حنيفة، والشافعي في الجديد: تمكث أبداً حتى يعلم براءة رحمها قطعا، وهو أن تصير في حدّ لا يحيض مثلها، فتعتدّ بعد ذلك ثلاثة أشهر.
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يعني: عدتهن ثلاثة أشهر أيضاً، لأنه كلام لا يستقلُّ بنفسه، فلا بدَّ له من ضمير، وضميره تقدَّم ذكره مظهراً، وهو العدَّة بالشهور. وهذا على قول أصحابنا محمول على من لم يأت عليها زمان الحيض: أنها تعتد ثلاثة أشهر. فأما من أتى عليها زمان الحيض، ولم تحض، فإنها تعتدّ سنة.
قوله عزّ وجلّ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ عامٌّ في المطلقات، والمتوفَّى عنهن أزواجهن، وهذا قول عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وأبي مسعود البدري، وأبي هريرة، وفقهاء الأمصار. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: تعتدُّ آخر الأجلين. ويدل على قولنا عموم الآية. وقول ابن مسعود: من شاء لاعنته، ما نزلت وَأُولاتُ الْأَحْمالِ إِلا بعد آية المتوفَّى عنها زوجها، وقولِ أم سلمة:
(1462) إن سُبَيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تتزوّج.
قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ: فيما أُمِرَ به يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً يُسَهِّلْ عليه أمر الدنيا والآخرة، وهذا قول الأكثرين. وقال الضحاك: ومن يتق الله في طلاق السّنّة، يجعل له من أمره يسراً في الرَّجعة ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بطاعته يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أي: يمح عنه خطاياه وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً في الآخرة.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
__________
صحيح. أخرجه البخاري 5319 و 5320 ومسلم 1484 وأبو داود 2306 والنسائي 6/ 194 و 196 وابن ماجة 2028 ومالك 2/ 590 وأحمد 6/ 432 وابن حبان 4294 وعبد الرزاق 11722 والطبراني 24/ 745- 750 والبيهقي 7/ 428- 429 من طرق عن الزهري به بألفاظ متقاربة.

(4/300)


أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ و «من» صلة، قوله: مِنْ وُجْدِكُمْ قرأ الجمهور بضم الواو. وقرأ أبو هريرة، وأبو عبد الرحمن، وأبو رزين، وقتادة، ورَوْح عن يعقوب بكسر الواو. وقال ابن قتيبة: أي:
بقدر وسعكم. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة: بفتح الواو. والوُجد: المقدرة، والغنى يقال: افتقر فلان بعد وُجْدٍ. قال الفراء: يقول: على ما يجد، فإن كان مُوَسَّعاً عليه، وسَّعَ عليها في المسكن والنَّفَقة، وإن كان مقتَّراً عليه، فعلى قدر ذلك.
قوله عزّ وجلّ: وَلا تُضآرُّوهُنَّ بالتضييق عليهنّ في المسكن، والنفقة، وأنتم تجدون سَعَة. قال القاضي أبو يعلى: والمراد بهذا: المطلقة الرجعية دون المبتوتة، بدليل قوله عزّ وجلّ: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً «1» وقولِه: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ «2» فدل ذلك على أنه أراد الرجعية.
وقد اختلف الفقهاء في المبتوتة «3» : هل لها سكنى، ونفقة في مدة العدة، أم لا؟ فالمشهور عند أصحابنا: أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهو قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة: لها السكنى، والنفقة.
وقال مالك والشافعي: لها السكنى، دون النفقة. وقد رواه الكوسج عن الإمام أحمد رضي الله عنه ويدل على الأول.
(1463) حديث فاطمة بنت قيس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال لها: إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1480 ح 36 وأبو داود 2284 والنسائي 6/ 75- 76 وأحمد 6/ 412 والشافعي 2/ 18- 19 و 54 وابن حبان 4290 وابن الجارود 760 والطبراني 24/ (913) والبيهقي 7/ 135 و 177 و 181 و 471 من طرق عن مالك به. وأخرجه مسلم 1480 ح 38 وأبو داود 2285 و 2286 و 2287 والنسائي 6/ 145 والطبراني 24/ (920) وابن حبان 4253 والبيهقي 7/ 178 من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة به. وأخرجه مسلم 1480 ح 48 والنسائي 6/ 150 والترمذي 1135 وابن ماجة 2035 وأحمد
__________
(1) الطلاق: 1.
(2) الطلاق: 2.
(3) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 148- 149: قال أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل، لقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ فلو كان معها ما قال أسكنوهن. وقال ابن نافع: قال مالك في قول الله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ يعني المطلقات اللاتي بك من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملا. فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة، لأنها بائن منه، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها. وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها. فأما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثون، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ما كن في عهدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لأن ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن، حوامل كن أو غير حوامل إنما أمر الله بالسكنى للائي بن من أزواجهن مع نفقتهن، قال تعالى:
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فجعل الله عز وجل للحوامل اللائي قد بنّ من أزواجهن السكنى والنفقة. قال ابن العربي: وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة. فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها. وهي مسألة عظيمة وهذا مأخذها من القرآن.

(4/301)


وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)

عليها الرجعة، فإذا لم يكن له عليها الرّجعة، فلا نفقة ولا سكنى. ومن حيث المعنى: إِن النفقة إنما تجب لأجل التمكين من الاستمتاع، بدليل أن الناشز لا نفقة لها.
واختلفوا في الحامل، والمتوفَّى عنها زوجها، فقال ابن مسعود، وابن عمر، وأبو العالية، والشعبي، وشريح، وإبراهيم: نفقتها من جميع المال، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، والثوري. وقال ابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء: نفقتها في مال نفسها، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه. وعن أحمد كالقولين.
قوله عزّ وجلّ: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني: أجرة الرضاع. وفي هذا دلالة على أن الأم إذا رضيت أن ترضعه بأجرة مثله، لم يكن للأب أن يسترضع غيرها وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ، أي: لا تشتطُّ المرأة على الزوج فيما تطلبه من أجرة الرضاع، ولا يقصِّر الزَّوج عن المقدار المستحق وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ في الأجرة، ولم يتراضَ الوالدان على شيء فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى لفظه لفظ الخبر، ومعناه:
الأمر: أي: فليسترضع الوالد غير والدة الصبي. لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أمر أهل التَّوسِعَة أن يوسِّعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سَعَتِهم. وقرأ ابن السميفع «لينفق» بفتح القاف. وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي: ضُيِّق عليه من المطلّقين. وقرأ أبي بن كعب، وحميد «قدر عليه» بضم القاف، وتشديد الدال. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة «قَدّر» بفتح القاف وتشديد الدال «رزقَه» بنصب القاف. فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ على قدر ما أعطاه من المال لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي: على قدر ما أعطاها من المال سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي: بعد ضيق وشدة، غنىً وسَعَةً، وكان الغالب عليهم حينئذ الفقر، فأعلمهم أنه سيفتح عليهم بعد ذلك.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 11]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)
قوله عزّ وجلّ: وَكَأَيِّنْ أي: وكم مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ، أي: عن أمر رسله.
والمعنى: عتا أهلها. قال ابن زيد: عتت، أي: كفرت، وتركت أمر ربها، فلم تقبله.
وفي باقي الآية قولان: أحدهما: أن فيها تقديماً، وتأخيراً. والمعنى: عذَّبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع، والسيف، والبلايا، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة، قاله ابن عباس، والفراء في آخرين. والثاني: أنها على نظمها، والمعنى: حاسبناها بعملها في الدنيا، فجازيناها بالعذاب على مقدار عملها، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَعَذَّبْناها فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة. والحساب الشديد: هو
__________
6/ 411 وابن حبان 4254 والطبراني 24/ (929) والبيهقي 7/ 136 و 473 من طرق عن سفيان عن أبي بكر بن أبي الجهم عن فاطمة بنت قيس به مطوّلا ومختصرا. وأخرجه مالك في «الموطأ» 2/ 580 والبغوي في «شرح السنة» 2378 عن عبد الله بن يزيد به.

(4/302)


اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

الذي لا عفو فيه، والنكر: المنكر فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها أي: جزاء ذنبها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً في الدنيا، والآخرة، وقال ابن قتيبة: الخسر: الهلكة.
قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً أي: قرآنا رَسُولًا أي: وبعث رسولاً، قاله مقاتل.
وإِلى نحوه ذهب السدي. وقال ابن السائب: الرسول هاهنا: جبرائيل، فعلى هذا: يكون الذِّكر والرسول جميعاً منزَّلين. وقال ثعلب: الرسول: هو الذِّكر. وقال غيره: معنى الذكر هاهنا: الشرف.
وما بعده قد تقدَّم «1» إلى قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً يعني: الجنة التي لا ينقطع نعيمها.

[سورة الطلاق (65) : آية 12]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
قوله: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي: وخلق الأرض بعددهنّ. وجاء في الحديث: أنّ كثافة كل سماءٍ مسيرة خمسمائة عام، وما بينها وبين الأخرى كذلك، وكثافة كل أرض خمسمائة عام، وما بينها وبين الأرض الأخرى كذلك.
(1464) وقد روى أبو الضحى عن ابن عباس قال: في كل أرض آدم مثل آدمكم، ونوح مثل نوحكم، وإبراهيم مثل إبراهيمكم، وعيسى كعيسى، فهذا الحديث تارة يرفع إلى ابن عباس، وتارة يوقف على أبي الضحى، وليس له معنى إلا ما حكى أبو سليمان الدمشقي، قال: سمعت أن معناه: إن في كل أرض خلقاً من خلق الله لهم سادة، يقوم كبيرهم ومتقدِّمهم في الخلق مقام آدم فينا، وتقوم ذُرِّيَّتُه في السِّنِّ والقِدَم كمقام نوح. وعلى هذا المثال سائرهم. وقال كعب: ساكن الأرض الثانية: الريح العقيم، وفي الثالثة: حجارة جهنم، والرابعة: كبريت جهنم، والخامسة: حيات جهنم، والسادسة:
عقارب جهنم، والسابعة: فيها إبليس «2» .
قوله عزّ وجلّ: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ، في الأمر قولان: أحدهما: أنه قضاء الله وقدره، قاله الأكثرون. قال قتادة: في كل أرضٍ من أرضهِ وسماءٍ من سمائه خَلْقٌ من خَلْقِهِ، وأمْرٌ من أمْرِهِ، وقَضَاءٌ من قَضَائِهِ. والثاني: أنه الوحي، قاله مقاتل.
قوله عزّ وجلّ: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً المعنى أعلمكم هذا لتعلموا قدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء.
__________
هذا الأثر من الإسرائيليات، وهو باطل لا أصل له. فلا يوجد في باطن الأرض كنبينا ولا غيره، بل وليس في باطن الأرض بشرا، وليست صالحة للحياة أصلا. والإسناد إلى أبي الضحى صحيح كما في «تفسير الطبري» 34371 وأبو الضحى ثقة، وعلى هذا يكون ابن عباس تلقاه عن أهل الكتاب، فقد ثبت أنه روى عن كعب الأحبار وغيره. لا فائدة من هذه الأقوال لأنها إسرائيلية.
__________
(1) البقرة: 257، والأحزاب: 43، والتغابن: 9.
(2) هذا كسابقه من الإسرائيليات التي نقلها كعب وغيره عن كتب الأقدمين. والله أعلم.

(4/303)