زاد المسير في
علم التفسير يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي
مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ
فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ
مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا
نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ
بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ
قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ
الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ
مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ
إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا
مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ
عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
سورة التّحريم
وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ
لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ
وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ
أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا
نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ
بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ
قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ
الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ
مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً
خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ
عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
قوله عزّ وجلّ: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ في سبب
نزولها قولان:
(1465) أحدهما: أن حفصة ذهبتْ إلى أبيها تتحدّث عنده، فأرسل
النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى جاريته، فظلّت
__________
ورد من وجوه متعددة بألفاظ متقاربة منها:
حديث ابن عباس: أخرجه الطبري 34392 وإسناده واه لأجل عطية
العوفي. وورد من وجه آخر بنحوه، أخرجه الطبري 34397، ورجاله
ثقات، لكن فيه عنعنة ابن إسحاق. وورد من وجه آخر، أخرجه الهيثم
بن كليب في «مسنده» كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 456 وقال ابن
كثير: إسناده صحيح.
2- مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 34389.
3- مرسل عبد الرحمن بن زيد، أخرجه الطبري 34388.
4- مرسل الشعبي، أخرجه الطبري 34390.
5- مرسل أبي عثمان، أخرجه الطبري 34394.
6- مرسل قتادة والحسن، أخرجه الطبري 34395.
7- مرسل زيد بن أسلم، أخرجه الطبري 34382.
8- مرسل مسروق، أخرجه الطبري 34383.
9- حديث أنس، وهو مختصر، أخرجه النسائي في «التفسير» 627
والحاكم 2/ 493 وإسناده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وله
شواهد أخرى، انظر «الكشاف» 1207 بتخريجي.
الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وانظر «أحكام
القرآن» 2156 بتخريجنا.
(4/304)
معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه
عائشة، فرجعت حفصة، فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها،
وغارت غَيْرةً شديدةً. فلما دخلت حفصة قالت: قد رأيت من كان
عندك. والله لقد سُؤْتَني، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم
«والله لأُرْضِيَنَّك، وَإني مُسِرٌّ إليك سراً فاحفظيه» ،
قالت: وما هو؟ قال: «إِني أشهدكِ أن سِرِّيَّتي هذه عليَّ حرام
رضىً لَكِ» ، وكانت عائشة وحفصة متظاهرتين على نساء النبيّ
صلّى الله عليه وسلم، فانطلقت حفصة إلى عائشة، فقالت لها:
أبشري، إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قد حرَّم عليه فتاته.
فنزلت هذه الآية رواه العوفي عن ابن عباس.
(1466) وقد روي عن عمر نحو هذا المعنى، وقال فيه: فقالت حفصة:
كيف تحرّمها، عليك،؟! فحلف لها أن لا يقربها، فقال لها: «لا
تذكريه لأحد» فذكرته لعائشة، فآلى أن لا يدخل على نسائه شهراً،
فنزلت هذه الآية.
(1467) وقال الضحاك: قال لها: «لا تذكري لعائشة ما رأيت»
فذكرته، فغضبت عائشة، ولم تزل بنبي الله حتى حلف أن لا يقربها،
فنزلت هذه الآية، وإلى هذا المعنى: ذهب سعيد بن جبير، ومجاهد،
وعطاء، والشعبي، ومسروق، ومقاتل، والأكثرون.
(1468) والثاني: ما روى عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله
صلّى الله عليه وسلم يحب الحَلْواء والعسل، وكان إِذا انصرف من
صلاة العصر دخل على نسائه، فدخل على حَفصَة بنت عمر، واحتبس
عندها، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها
عُكَّةً من عسل «1» ، فسقت رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
فقلت: أما والله لنحتالَنَّ له، فقلت لسودة: إنه سيدنو منكِ
إذا دخل عليك، فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير، فإنه سيقول
لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي: جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ
«2» وسأقول ذلك وقولي أنت يا صفيّة ذلك، فلمّا دنا من سودة
قالت له ذلك ولمّا دخل عليّ قلت له مثل ذلك فلما دار إلى صفيّة
قالت له مثل ذلك فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله
أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي فيه. قالت: تقول سودة: سبحان الله،
والله لقد حَرَمْنَاه. قلت لها: اسكتي. أخرجه البخاري ومسلم في
«الصحيحين» .
(1469) وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس: أن التي شرب
عندها العسل سودة، فقالت له
__________
أخرجه الطبري 34397 بهذا اللفظ عن ابن عباس عن عمر. وفيه محمد
بن إسحاق مدلس، وقد عنعن، وهو في الصحيح بغير هذا السياق، انظر
«صحيح البخاري» 4913، 4914، 4915 ومسلم 1479 عن ابن عباس عن
عمر مطولا. وانظر «فتح القدير» 2548 بتخريجنا.
انظر الحديث المتقدم 1465.
صحيح. أخرجه البخاري 6972 عن عبيد بن إسماعيل بن عن عائشة.
وأخرجه مسلم 1474 ح 21 وأبو داود 3715 وأبو يعلى 4896 من طرق
عن أبي أسامة به. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 832 من
طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة به.
أخرجه الطبراني 1226 من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في
«المجمع» 11426: رجاله رجال
__________
(1) العكة: آنية السمن، أو القربة الصغيرة.
(2) جرست: أكلت، والعرفط: شجر ينضح الصمغ المعروف بالمنافير.
(4/305)
عائشة: إِني لأجد منك ريحاً، ثم دخل على
حفصة، فقالت: إني أجد منك ريحاً، فقال: إني أراه من شراب شربته
عند سودة، والله لا أشربه، فنزلت هذه الآية.
(1470) وفي حديث عبيد بن عمير عن عائشة أن التي شرب عندها
العسل زينب بنت جحش، فتواطأت حفصة وعائشة أن تقولا له ذلك
القول. قال أبو عبيدة: المغافير: شيء شبيه بالصمغ فيه حلاوة.
وخرج الناس يتمغفرون: إذا خرجوا يجتنونه. ويقال: المغاثير
بالثاء، مثل جدث، وجدف.
وقال الزجاج: المغافير: صمغ متغير الرائحة. فخرج في المراد
بالذي أحلَّ الله له قولان «1» : أحدهما:
أنه جاريته. والثاني: العسل.
قوله عزّ وجلّ: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ أي: تطلب رضاهن
بتحريم ذلك. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
__________
الصحيح، وصححه السيوطي في «الدر» 6/ 266. وفي ذلك نظر فهو
معارض بحديث عائشة المتقدم، وأنه عليه الصلاة والسلام شرب ذلك
عند زينب. وانظر «تفسير الشوكاني» 2545 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 5267 والبغوي في «شرح السنة» عن الحسن بن
محمد به. وأخرجه البخاري 6691 ومسلم 1474 وأبو داود 3714
والنسائي 6/ 151 و 7/ 13 و 71 وأحمد 6/ 221 من طرق عن الحجاج
به وأخرجه البخاري 4912 من طريق هشام بن يوسف عن ابن جريج به.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 150: والصواب من
القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرّمه النبي صلّى الله عليه
وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحلّه له، فعاتبه الله على
تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله، وبين له تحلة يمينه في
يمين كان حلف بها مع تحريمه ما حرّم على نفسه. وقال القرطبي
رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 159: أصح الأقوال- ما
ثبت في الصحيحين فيما ورد عن العسل- وأما من روى أنه حرّم
مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى، لكنه لم
يدوّن في الصحيح، وروي مرسلا. وقوله تعالى: لِمَ تُحَرِّمُ إن
كان النبي صلّى الله عليه وسلم حرّم ولم يحلف فليس ذلك بيمين
عندنا. ولا يحرّم قول الرجل: «هذا عليّ حرام» شيئا حاشا
الزوجة. وقال أبو حنيفة: إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب
دون الملبوس، وكانت يمينا توجب الكفارة. وقال زفر: هو يمين في
الكل حتى في الحركة والكون. وعوّل المخالف على أن النبي صلّى
الله عليه وسلم حرّم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله
تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ
فسماه يمينا ودليلنا قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
وَلا تَعْتَدُوا [المائدة: 87] وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ
ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ
حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى
اللَّهِ تَفْتَرُونَ
[يونس: 59] فذم الله المحرّم للحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال
الزجاج: ليس لأحد أن يحرّم ما أحل الله ولم يجعل لنبيه صلّى
الله عليه وسلم أن يحرّم إلا ما حرّم الله عليه. فمن قال
لزوجته أو أمته: أنت عليّ حرام، ولم ينو طلاقا ولا ظهارا فهذا
اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات
والإماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرّم على نفسه طعاما أو شيئا
آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك وتجب بذلك كفارة
عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة. وجاء في «الجامع لأحكام
القرآن» 18/ 163: قوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ تحليل اليمين كفارتها. أي إذا أحببتم
استباحة المحلوف عليه، ويتحصل من هذا أن من حرّم شيئا من
المأكول والمشروب لم يحرم عليه عندنا، لأن الكفارة لليمين لا
للتحريم على ما بيناه. وأبو حنيفة يراه يمينا في كل شيء،
ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه. فإذا حرم طعاما فقد حلف
على أكله، أو أمه فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا
لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فبائن.
وإن قال نويت الكذب، دين فيما بينه وبين الله تعالى. ولا يراه
الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن. وإن نوى
الطلاق فهو رجعي عنده. فإن حلف ألا يأكله حنث ويبر بالكفارة.
(4/306)
غفر الله لك التحريم قَدْ فَرَضَ اللَّهُ
لَكُمْ قال مقاتل: قد بيّن لكم تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي:
كفارة أيمانكم، وذلك البيان في المائدة «1» قال المفسرون: وأصل
«تَحِلَّة» تَحْلِلَه على وزن تَفْعِلَة، فأدغمت، والمعنى:
قد بين الله لكم تحليل أيمانكم بالكفَّارة، فأمره الله أن
يكفِّر يمينه، فأعتق رقبة. واختلفوا هل حرّم مارية على نفسه
بيمين، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه حرَّمها من غير ذكر
يمين، فكان التحريم موجباً لكفارة اليمين، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه حلف يميناً حرَّمها بها، قاله الحسن. والشعبي،
وقتادة، وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ أي: وليُّكم وناصركم.
قوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ
حَدِيثاً يعني: حفصة من غير خلاف علمناه.
وفي هذا السِّرِّ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قال لها: إني
مُسِرٌّ إِليك سِرَّاً فاحفظيه، سرّيتي هذه عليَّ حرام، رواه
العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، والشعبي، والضحاك، وقتادة،
وزيد بن أسلم، وابنه، والسدي «2» .
(1471) والثاني: أنه قال لها: أبوك، وأبو عائشة، والِيا الناس
من بعدي، فإياك أن تخبري أحدا، ورواه سعيد بن جبير عن ابن
عباس.
والثالث: أنه أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي، قاله ميمون
بن مهران «3» .
قوله عزّ وجلّ: فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي: أخبرت به عائشة
وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي: أطلع الله نبيه على قول
حفصة لعائشة، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم غضباً
شديداً، لأنه استكتم حفصة ذلك، ثم دعاها، فأخبرها ببعض ما
قالت، فذلك قوله عزّ وجلّ: عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ
بَعْضٍ وفي الذي عرَّفها إياه قولان:
(1472) أحدهما: أنه حدَّثها ما حدثتها عائشة من شأن أبي بكر
وعمر، وسكت عمّا أخبرت
__________
باطل لا أصل له، أخرجه ابن عدي 3/ 436 عن سيف بن عمر عن عطية
بن الحارث عن أبي أيوب عن علي. وعن الضحاك عن ابن عباس. وعن
عمرو بن محمد عن الشعبي وسعيد بن جبير عن ابن عباس به.
وإسناده ضعيف جدا. مداره على سيف بن عمر وهو متروك متهم، وبه
أعله ابن عدي. ثم إن المتن موضوع.
فلو كان هذا الحديث عند علي لما تأخر ستة أشهر عن بيعة الصديق.
وكذا تأخر بنو هاشم، ومنهم ابن عباس عن البيعة، فهذا خبر باطل
والنبيّ صلّى الله عليه وسلم لم يصرح باسم الخليفة من بعده،
باتفاق العلماء، وإنما هناك إشارات إلى إمارة أبي بكر، منها
أمره صلّى الله عليه وسلم بأن يؤم الناس، وذلك في مرضه الأخير.
وورد من وجه آخر أخرجه الدارقطني في «سننه» 4/ 153 و 154 وفيه
الكلبي، وهو محمد بن السائب، متهم بالكذب، وشيخه أبو صالح أقرّ
بأنه حدث عن ابن عباس بأشياء كذب. راجع الميزان للذهبي. ثم إن
المتن منكر كما تقدم. وورد من وجه آخر أخرجه الطبراني في
«الكبير» 12640 من حديث ابن عباس وله ثلاث علل: 1- إسماعيل بن
عمرو البجلي، وهو ضعيف. 2- وفيه أيضا أبو سنان سعيد بن سنان
فيه ضعف. 3-
الضحاك لم يلق ابن عباس. انظر «تفسير ابن كثير» 4/ 460 بتخريجي
عند هذه الآية. وانظر أيضا «تفسير الشوكاني» 2551 بتخريجي ولله
الحمد والمنة.
لا أصل له، وهو بعض المتقدم.
__________
(1) المائدة: 89. [.....]
(2) انظر الحديث المتقدم 1465.
(3) انظر الحديث المتقدم 1471.
(4/307)
عائشة من تحريم مارية، لأنه لم يبال ما
أظهرت من ذلك، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(1473) والثاني: أن الذي عرَّف: تحريم مارّية، والذي أعرض عنه:
ذِكر الخلافة لئلا ينتشر، قاله الضحاك، وهذا اختيار الزجاج:
قال: ومعنى عَرَّفَ بَعْضَهُ عرَّف حفصة بعضه وقرأ الكسائي
«عَرَفَ» بالتخفيف. قال الزجاج: على هذه القراءة قد عرف كل ما
أسرَّه، غير أن المعنى جارٍ على بعضه، كقوله عزّ وجلّ: وَما
تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ «1» ، أي: يعلمه
ويجازي عليه، وكذلك:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «2» أي: ير
جزاءه. فقيل: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة،
فكان ذلك جزاءها عنده، فأمره الله أن يراجعها.
(1474) وقال مقاتل بن حيَّان: لم يطلقها، وإنما همَّ بطلاقها،
فقال له جبريل: لا تطلّقها، فإنها
__________
عزاه المصنف للضحاك، وقد ساقه بمعناه. وصدره ورد عن الضحاك،
أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» 6/ 370، وهو مرسل، لكن له
شواهد.
وعجزه، أخرجه أبو نعيم في «فضائل الصحابة» كما في «الدر» 6/
370 عن الضحاك، وهو مرسل، فهو ضعيف، والمتن باطل.
أصل الحديث صحيح، لكن قول مقاتل «لم يطلقها» باطل، لم يتابع
عليه. ذكره المنصف هاهنا عن مقاتل بن حيان معلقا، وسنده إليه
في أول الكتاب، وهذا واه بمرة، ليس بشيء، وقد خولف مقاتل.
وأخرج الحاكم 4/ 15 وابن سعد في «الطبقات» 8/ 84 والدارمي 2265
والطحاوي في «المشكل» 4615 من حديث أنس. وأن النبي صلّى الله
عليه وسلم طلق حفصة تطليقة، فأتاه جبريل فقال: «يا محمد طلقت
حفصة تطليقة، وهي صوامة قوامة وهي زوجتك في الدنيا وفي الجنة»
. وأخرج الطحاوي 1614 من طريق موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن
عامر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة، فأتاه جبريل
فقال: راجعها فإنها صوّامة قوّامة» . وأخرج الطبراني 17/ (804)
نحوه من حديث عقبة بلفظ «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلق
حفصة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فوضع التراب على رأسه، وقال: ما
يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعدها، فنزل جبريل عليه السلام على
النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة
رحمة لعمر» .
قال الهيثمي في «المجمع» 4/ 334: وفيه عمرو بن صالح الحضرمي،
ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
أخرج الحاكم 4/ 15 (6753 وابن سعد 8/ 67 والطبراني 18/ (934)
عن قيس بن زيد «أن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر
فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون فبكت وقالت: والله
ما طلقني عن شبع، وجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: قال لي
جبريل عليه السلام: راجع حفصة، فإنها صوّامة قوامة، وإنها
زوجتك في الجنة» .
وسكت عليه الحاكم، وكذا الذهبي، وكذا الحافظ في «تخريج الكشاف»
4/ 563 ورجاله ثقات غير قيس بن زيد فهو تابعي صغير مجهول. وأن
عثمان بن مطعون توفي قبل أحد، وقبل أن يتزوج النبي صلّى الله
عليه وسلم حفصة.
وأخرج أبو داود 2283 والنسائي 6/ 213 وابن ماجة 2016 والدارمي
2264 وأبو يعلى 174 والحاكم 2/ 197 وابن حبان 4275 والطحاوي في
«المشكل» 4611 والبيهقي 7/ 321- 322 من طرق عن يحيى بن زكريا
عن ابن أبي داود عن صالح بن صالح عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن النبي
صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها» .
الخلاصة: قول مقاتل «لم يطلقها» باطل، ليس بشيء، والصحيح أنه
طلقها كما في الروايات المذكورة، وهو خبر حسن صحيح بطرقه
وشواهده لكن بالألفاظ التي أوردتها، وانظر «أحكام القرآن» 2138
بتخريجي.
أخرجه ابن سعد 8/ 149- 150 عن ابن عباس بنحوه، وفيه الواقدي،
وهو متروك. وأخرج الدارقطني 4/
__________
(1) البقرة: 179.
(2) الزلزلة: 7.
(4/308)
صوَّامة قوَّامة. وقال الحسن: ما استقصى
كريم قط، ثم قرأ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ،
وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن السميفع «عُرَّاف» برفع
العين، وتشديد الراء وبألف، «بعضه» بالخفض.
قوله عزّ وجلّ: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ أي: أخبر حفصة
بإفشائها السرَّ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي: من أخبرك بأني
أفشيت سرك؟ قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ثم خاطب
عائشة وحفصة، فقال: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ أي: من التعاون
على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالإيذاء فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما قال ابن عباس: زاغت، وأثمت. قال الزجاج: عدلت،
وزاغت عن الحقّ. قال مجاهد: كنّا نرى قوله عزّ وجلّ: فَقَدْ
صَغَتْ قُلُوبُكُما شيئاً هيِّناً حتى وجدناه في قراءة ابن
مسعود: فقد زاغت قلوبكما. وإنما جعل القلبين جماعة لأن كل
اثنين فما فوقهما جماعة. وقد أشرنا إِلى هذا في قوله عزّ وجلّ:
فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ «1» وقوله تعالى: إِذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرابَ «2» . قال المفسرون: وذلك أنهما أحبَّا ما كَرِهَ
رسول الله صلّى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته، وَإِنْ
تَظاهَرا عَلَيْهِ وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن ومجاهد،
والأعمش «تظاهرا» بتخفيف الظاء، أي: تعاونا على النبيّ صلّى
الله عليه وسلم بالإيذاء فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي:
وَليُّه في العون، والنصرة وَجِبْرِيلُ وليُّه وَصالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ وفي المراد بصالح المؤمنين ستة أقوال: أحدها:
أنهم أبو بكر وعمر، قاله ابن مسعود، وعكرمة، والضحاك. والثاني:
أبو بكر، رواه مكحول عن أبي أمامة. والثالث: عمر بن الخطّاب
قاله سعيد بن جبير، ومجاهد. والرابع: خيار المؤمنين، قاله
الربيع بن أنس. والخامس: أنهم الأنبياء، قاله قتادة، والعلاء
بن زياد العدوي، وسفيان. والسادس: أنه عليّ بن أبي طالب عليه
السلام، حكاه الماوردي، قاله الفراء: «وصالح المؤمنين» موحّد
في مذهب جميع، كما تقول: لا يأتيني إلا سائس الحرب، فمن كان ذا
سياسة للحرب، فقد أمر بالمجيء، ومثله قوله عزّ وجلّ:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ «3» ، قوله: وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ «4» ، وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ
هَلُوعاً «5» في كثير من القرآن يؤدي معنى الواحد عن الجميع.
قوله عزّ وجلّ: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ أي:
ظهراً، وهذا مما لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجمع، ومثله ثم
يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «6» ، وقد شرحناه هناك. ثم خوَّف نساءه،
فقال عزّ وجلّ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ.
__________
153 والطبراني في «الكبير» . 1264 من حديث ابن عباس في قوله عز
وجل: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ
حَدِيثاً قال: اطلعت حفصة على النبي صلّى الله عليه وسلم مع أم
إبراهيم عليه السلام فقال: «لا تخبري عائشة» ، وقال لها: «إن
أباك وأباها سيملكان، أو سيليان بعدي، فلا تخبري عائشة»
فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة ... »
الحديث. وفي إسناده الكلبي، وهو كذاب. وورد من حديث علي، أخرجه
ابن عدي 3/ 436، وكرره عن ابن عباس ومدارهما على سيف بن عمر،
وهو متروك متهم، وبه أعله ابن عدي. والصواب أن النبي صلّى الله
عليه وسلم لم يخبر على من سيخلفه، وإنما هناك أمارات على أنه
أبو بكر، والله أعلم.
الخلاصة: هذا خبر باطل لا أصل له، والصحيح في ذلك ما رواه
الشيخان من وجوه في شربه عليه السلام العسل عند زينب، وكذا
يليه في الصحة خبر مارية المتقدم برقم 2238.
وانظر «فتح القدير» 2551 و «الجامع لأحكام القرآن» 6036
بتخريجي والله الموفق.
__________
(1) النساء: 11.
(2) ص: 11.
(3) المائدة: 38.
(4) النساء: 16.
(5) المعارج: 19.
(6) غافر: 67.
(4/309)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ
غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ
يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي
اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ
يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ
رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
(1475) وسبب نزولها ما روى أنس عن عمر بن
الخطاب قال: بلغني بعض ما آذى به رسولَ الله نساؤه، فدخلتُ
عليهنَّ، فجعلت أَستقرئهن، واحدةً واحدةً، فقلت: والله
لتنتهِنَّ، أو ليبدلنَّه الله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه
الآية. والمعنى: واجبٌ من الله إِنْ طَلَّقَكُنَّ رسوله أَنْ
يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ أي: خاضعات
لله بالطاعة مُؤْمِناتٍ مصدِّقات بتوحيد الله قانِتاتٍ أي:
طائعات سائِحاتٍ فيه قولان: أحدهما: صائمات، قاله ابن عباس،
والجمهور. وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله عزّ وجلّ:
السَّائِحُونَ «1» . والثاني: مهاجرات، قاله زيد بن أسل وابنه.
«والثيّبات» جمع ثَيِّب، وهي المرأة التي قد تزوَّجت، ثم ثابت
إلى بيت أبويها، فعادت كما كانت غير ذات زوج. «والأبكار» :
العذارى.
[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ
عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما
تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى
رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا
إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
قوله عزّ وجلّ: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وقاية
النفس: بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، ووقاية الأهل: بأن
يُؤْمَروا بالطاعة، وينهوا عن المعصية. وقال عليّ رضي الله
عنه: علّموهم وأدّبوهم، قوله: وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ قد ذكرناه في البقرة «2» قوله عَلَيْها
مَلائِكَةٌ غِلاظٌ وهم خزنتها غِلاظٌ على أهل النار شِدادٌ
عليهم. وقيل: غلاظ القلوب شِدَاد الأبدان.
(1476) وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: خَزَنَةُ النَّار تسعةَ
عشر، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، وقُوَّته أن يضرب
بالمقمعة، فيدفع بتلك الضربة سبعين ألفاً، فيهوُون في قعر
جهنَّم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ أي: لا يخالفونه
فيما يأمر وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فيه قولان: أحدهما: لا
يتجاوزون ما يؤمرون. والثاني: يفعلونه في وقته لا يؤخِّرونه،
ولا يقدِّمونه. ويقال لأهل النار: يا أَيُّهَا الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ.
قوله عزّ وجلّ: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قرأ
أبو بكر عن عاصم، وخارجة عن نافع «نَصُوحاً» بضم النون.
والباقون بفتحها. قال الزجاج: فمن فتح فعلى صفة التوبة،
ومعناه: توبةً بالغةً في النّصح،
__________
صحيح. أخرجه الطبري 34426 من حديث أنس عن عمر، وإسناده صحيح
على شرط البخاري ومسلم.
وكرره الطبري 34427 وإسناده صحيح.
باطل، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح واه،
وراويته هو الكلبي، وقد أقر أنه روى عن أبي صالح عن ابن عباس
تفسيرا ليس له أصل عن ابن عباس.
__________
(1) التوبة: 112.
(2) البقرة: 23.
(4/310)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ
وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا
صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ
اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ
(10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ
فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي
الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي
مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ
مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ
وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
و «فَعُول» من أسماء الفاعلين التي تستعمل
للمبالغة في الوصف. تقول: رجل صبور، وشكور. ومن قرأ بالضم،
فمعناه: ينصحون فيها نصوحاً، يقال: نصحت له نصحاً، ونصاحة،
ونصوحاً. وقال غيره:
من ضم أراد: توبة نُصْحٍ لأنفسكم. وقال عمر بن الخطاب: التوبة
النصوح: أن يتوب العبد من الذنب وهو يحدِّث نفسه أنَّه لا
يعود. وسئل الحسن البصري عن التوبة النصوح، فقال: ندم بالقلب،
واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود. وقال ابن
مسعود: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، ثم قرأ هذه الآية.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ قد
بيَّنا معنى «الخزي» في آل عمران «1» وبيَّنا معنى قوله عزّ
وجلّ: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ
في الحديد «2» يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وذلك
إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يُطفأ سألوا الله تعالى أن
يتمم لهم نورهم، ويبلِّغهم به الجنة. قال ابن عباس: ليس أحد من
المسلمين إِلا يعطى نوراً يوم القيامة. فأما المنافق فيُطفَأ
نورُه، والمؤمن مُشْفِق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهم
يقولون: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا.
[سورة التحريم (66) : الآيات 9 الى 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ
مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا
عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ
الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ
آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي
عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها
فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها
وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
قوله عزّ وجلّ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ قد شرحناه
في براءة «3» .
قوله عزّ وجلّ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا
امْرَأَتَ نُوحٍ قال المفسرون منهم مقاتل: هذا المثل يتضمّن
تخويف عائشة وحفصة أنهما إن أغضبتا ربّهما لم يغن رسول الله
صلّى الله عليه وسلم عنهما شيئاً. قال مقاتل:
اسم امرأة نوح «والهة» وامرأة لوط «واهلة» .
قوله عزّ وجلّ: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا
صالِحَيْنِ: نوحاً ولوطاً عليهما السلام فَخانَتاهُما.
(14777) قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت
خيانتهما في الدِّين، كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون،
وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف، فإذا نزل بلوط ضيفٌ بالليل
أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار دخنت لتعلم قومه أنه قد نزل به
ضيف. وقال السّدّيّ: كانت خيانتهما: كفرهما.
__________
أخرجه الحاكم 2/ 496 والطبري 34461 و 34462 و 34464 من طرق عن
ابن عباس، وهو صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
__________
(1) آل عمران: 192.
(2) الحديد: 12. [.....]
(3) التوبة: 73.
(4/311)
وقال الضحاك: نميمتهما، وقال ابن السائب:
نفاقهما.
قوله عزّ وجلّ: فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ
شَيْئاً، أي: يدفعا عنهما من عذاب الله شيئاً. وهذه الآية تقطع
طمع مَن ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره. ثم أخبر أن
معصية الغير لا تضرّ المطيع بقوله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ وهي آسية بنت مزاحم.
وقال يحيى بن سلام:
ضرب الله المثل الأول يحذّر به عائشة وحفصة رضي الله عنهما. ثم
ضرب لهما هذا المثل يرغبهما في التمسك بالطاعة. وكانت آسية قد
آمنت بموسى. قال أبو هريرة: ضرب فرعون لامرأته أوتاداً في
يديها ورجليها، وكانوا إذا تفرَّقوا عنها أظلتها الملائكة،
فقالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فكشف
الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته قبل موتها، قوله:
وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ فيه قولان: أحدهما:
أن عمله: جِمَاعُهُ. والثاني: أنه دينه رويا عن ابن عباس،
قوله: وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني أهل دينه
المشركين.
قوله عزّ وجلّ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها قد ذكرنا فيه
قولين في سورة الأنبياء «1» فمن قال: هو فرج ثوبها، قال
«الهاء» في قوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيهِ ترجع إليه، وذلك أن
جبريل مَدَّ جيب درعها، فنفخ فيه، ومن قال: هو مخرج الولد،
قال: «الهاء» كناية عن غير مذكور، لأنه إنما نفخ في درعها لا
في فرجها.
قوله عزّ وجلّ: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وفيه قولان:
أحدهما: أنه قول جبريل إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
«2» . والثاني: الكلمات هي التي تضمنَّتها كتب الله المنزلة.
وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو مجلز، وعاصم الجحدري «بكلمةِ ربها»
على التوحيد وَكُتُبِهِ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة
والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «وكتابِهِ» على التوحيد، وقرأ أبو
عمرو، وحفص عن عاصم، وخارجة عن نافع «وكُتُبه» جماعة، وهي التي
أنزلت على الأنبياء، ومن قرأ «وكتابه» فهو اسم جنس على ما
بيَّنَّا في خاتمة البقرة «3» وقد بيّنّا فيها القنوت مشروحا
«4» . ومعنى الآية وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ، ولذلك لم يقل:
من القانتات.
__________
(1) الأنبياء: 92.
(2) مريم: 19.
(3) البقرة: 285.
(4) البقرة: 116.
(4/312)
تَبَارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي
خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ
تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ
يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ
عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا
فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ
تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ
سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا
بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا
نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا
كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
سورة الملك
وهي مكيّة كلّها بإجماعهم (1478) قال ابن مسعود: هي المانعة من
عذاب القبر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما
تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ
هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ
كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ
حَسِيرٌ (4)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ
وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ
عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها
سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ
مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ
خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ
جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ
شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي
أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ
فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
قوله عزّ وجلّ: تَبارَكَ قد شرحناه في الأعراف «1» .
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ قال ابن عباس:
يعني: السّلطان يعزّ ويذلّ.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قال
الحسن: خلق الموت المزيل للحياة، والحياة التي
__________
أخرجه الطبراني 10254 عن ابن مسعود قال: «كنا نسميها على عهد
رسول الله صلّى الله عليه وسلم المانعة» وقال الهيثمي 7/ 127-
128: رجاله ثقات اه وصححه الحاكم 2/ 468 ووافقه الذهبي. وأخرجه
النسائي في «اليوم والليلة» 716. وورد من حديث ابن عباس
مرفوعا: أخرجه الترمذي 2890 والبيهقي في «الدلائل» 7/ 41 من
حديث ابن عباس، وضعفه الترمذي بقوله: غريب من هذا الوجه، وكذا
ضعفه البيهقي فقال: تفرد به يحيى بن عمرو النكري، وهو ضعيف.
وأخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا وتفرد ابن مردويه به
يدل على وهنه.
وانظر «تفسير الشوكاني» 2559 و 2560 بتخريجنا.
__________
(1) الأعراف: 54.
(4/313)
هي ضدّ الموت «1» قوله: لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قد شرحناه في هود «2» ، قال
الزجاج: والمعلَّق ب أَيُّكُمْ مضمر تقديره: ليبلوكم، فيعلم
أيُّكم أحسن عملاً وهذا علم وقوع. وارتفعت «أي» بالابتداء، ولا
يعمل فيها ما قبلها، لأنها على أصل الاستفهام، ومثله أَيُّ
الْحِزْبَيْنِ أَحْصى «3» . والمعنى:
خلق الحياة ليختبركم فيها. وخلق الموت ليبعثَكم ويجازيَكم.
وقال غيره: اللام في «ليبلوَكم» متعلق بخلق الحياة دون خلق
الموت، لأن الابتلاء بالحياة. قوله: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ
سَماواتٍ طِباقاً أي: خلقهنَّ مطابقات، أي: بعضها فوق بعض ما
تَرى يا ابن آدم فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ قرأ حمزة
والكسائي: «من تفوُّت» بتشديد الواو من غير ألف. وقرأ الباقون
بألف. قال الفراء: وهما بمنزلة واحدة، كما تقول: تعاهدت الشيء
وتعهَّدته والتفاوت: الاختلاف. وقال ابن قتيبة: التفاوت:
الاضطراب والاختلاف وأصله من الفوت وهو أن يفوت شيء شيئاً،
فيقع الخلل، ولكنه متصل بعضه ببعض.
قوله عزّ وجلّ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ كرِّر البصر هَلْ تَرى
مِنْ فُطُورٍ وقرأ أبو عمرو، وحمزة والكسائي «هل ترى» بإدغام
اللام في التاء، أي: هل ترى فيها فروجا وصدوعا.
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي:
مرَّةً بعد مرَّة يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً قال
ابن قتيبة:
أي: مبعداً، من قولك: خسأتُ الكلب: إذا باعدتَه وَهُوَ حَسِيرٌ
أي: كليل منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه. وقال الزجاج: قد أعيا
من قبل أن يرى في السماء خللا.
قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِمَصابِيحَ قد شرحناه في حم السّجدة «4» . قوله: وَجَعَلْناها
رُجُوماً لِلشَّياطِينِ أي: يرجم بها مسترقو السّمع. وقد سبق
بيان هذا المعنى «5» وَأَعْتَدْنا لَهُمْ: في الآخرة عَذابَ
السَّعِيرِ وهذا وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله: سَمِعُوا
لَها شَهِيقاً أي: صوتاً مثل صوت الحمار. وقد بينا معنى الشهيق
في هود «6» وَهِيَ تَفُورُ أي: تغلي بهم كغلي المِرْجَل تَكادُ
تَمَيَّزُ أي: تتقطَّع من تَغَيُّظها عليهم كُلَّما أُلْقِيَ
فِيها فَوْجٌ أي: جماعة منهم سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ وهذا سؤال توبيخ.
قوله عزّ وجلّ: إِنْ أَنْتُمْ أي: قلنا للرسل: إِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: في ذهاب عن الحق بعيد. قال الزجاج: ثم
اعترفوا بجهلهم فقالوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أي: سماع من يعي
ويفكّر أَوْ نَعْقِلُ
__________
(1) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 181: قوله
تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قيل: المعنى
خلقكم للموت والحياة، يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة
وقدّم الموت على الحياة، لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من
نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له
الآية أهم. قال العلماء:
الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح
بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما وتبدل حال وانتقال من دار إلى
دار، والحياة عكس ذلك. قلت: وفي التنزيل قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ السجدة: 11 وقال:
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ
[الأنفال: 50] وقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِها [الزمر: 42] فالوسائط ملائكة مكرمون صلوات الله
عليهم. وهو سبحانه المميت على الحقيقة.
(2) هود: 7.
(3) الكهف: 12.
(4) فصلت: 12.
(5) الحجر: 18.
(6) هود: 106.
(4/314)
إِنَّ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا
وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ
الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي
السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ
كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا
يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
بَصِيرٌ (19)
عقل من يُميِّز وينظر ما كُنَّا من أهل
النار فَسُحْقاً. وهو منصوب على المصدر، المعنى: أسحقهم الله
سحقاً، أي: باعدهم الله من رحمته مباعدة، والسحيق: البعيد.
وكذلك روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «فسحقاً» أي: بُعْدَاً.
وقال سعيد بن جبير، وأبو صالح: السُّحق: وادٍ في جهنّم يقال
له:
سحق.
[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 15]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ
اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي
مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ قد شرحناه في سورة الأنبياء «1» لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وهو: الجنة. ثم عاد إلى خطاب
الكفّار، فقال عزّ وجلّ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ
اجْهَرُوا بِهِ قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون
من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيخبره جبريل بما قالوا،
فيقول بعضهم: أسروا قولكم حتى لا يسمع إله محمّد «2» .
قوله عزّ وجلّ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ أي: ألا يعلم ما في
الصدور خالقها؟! واللَّطِيفُ مشروح في الأنعام «3» والْخَبِيرُ
في سورة البقرة «4» .
قوله عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا
أي: مُذَلَّلةً سَهْلَةَ لم يجعلها ممتنعة بالحُزُونَة
والغِلَظ.
قوله عزّ وجلّ: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: طرقاتها، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
والثاني: جبالها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال
قتادة، واختاره الزجاج، قال: لأن المعنى: سهل لكم السلوك فيها،
فإذا أمكنكم السلوك في جبالها، فهو أبلغ في التذليل. والثالث:
في جوانبها، قاله مقاتل، والفراء، وأبو عبيدة، واختاره ابن
قتيبة، قال: ومنكبا الرّجل: جانباه.
قوله عزّ وجلّ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي: إليه تُبْعَثُون من
قبوركم.
[سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 19]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ
الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي
السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ
كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى
الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ
إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
ثم خوف الكفار فقال: أَأَمِنْتُمْ قرأ ابن كثير: «وإليه النشور
أأمنتم» وقرأ نافع، وأبو عمرو:
__________
(1) الأنبياء: 49.
(2) عزاه المصنف لابن عباس، وكذا الواحدي في «الأسباب» 835.
ساقه بدون إسناد، وهو باطل، فإن سباق الآيات وسياقها يدل على
أن المراد بالآية المؤمنون. [.....]
(3) الأنعام: 103.
(4) البقرة: 234.
(4/315)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي
هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ
الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي
يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ
وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ
أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا
تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ
وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا
الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ
(26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
«النشور آمنتم» بهمزة ممدودة. وقرأ عاصم،
وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «أأمنتم» بهمزتين، مَنْ فِي
السَّماءِ قال ابن عباس: أمنتم عذاب مَنْ في السماء، وهو الله
عزّ وجلّ؟! وتَمُورُ بمعنى: تدور.
قال مقاتل: والمعنى: تدور بكم إلى الأرض السّفلى.
قوله عزّ وجلّ: أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً وهي:
الحجارة، كما أرسل على قوم لوط فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
أي: كيف كانت عاقبة إِنذاري لكم في الدنيا إذا نزل بكم العذاب
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: كفار الأمم
فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي: إنكاري عليهم بالعذاب.
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أي:
تصفُّ أجنحتها في الهواء، وتقبض أجنحتها بعد البسط، وهذا معنى
الطيران، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط ما يُمْسِكُهُنَّ أن
يقعن إِلَّا الرَّحْمنُ.
[سورة الملك (67) : الآيات 20 الى 27]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ
دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ
بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي
مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ
قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ
فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا
نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ
وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تَدَّعُونَ (27)
قوله عزّ وجلّ: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ هذا
استفهام إنكار. ولفظ «الجُنْدِ» مُوحَّد، فلذلك قال عزّ وجلّ:
«هذا الذي هو» والمعنى: لا جُنْدَ لكم يَنْصُرُكُمْ أي: يمنعكم
من عذاب الله إن أراده بكم، إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي
غُرُورٍ وذلك أن الشيطان يغرُّهم، فيقول: إن العذاب لا ينزل
بكم، أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ المطر وغيرَه إِنْ
أَمْسَكَ الله ذلك عنكم بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ أي: تمادٍ في
كفر وَنُفُورٍ عن الإيمان.
ثم ضرب مثلاً، فقال عزّ وجلّ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى
وَجْهِهِ قال ابن قتيبة: أي لا يبصر يميناً، ولا شمالاً ولا من
بين يديه. يقال: أكبّ الله فلانا على وجهه، بالألف، وكبَّه
الله لوجهه، وأراد:
الأعمى. قال المفسرون: هذا مثل للمؤمن، والكافر، و «السويُّ» :
المعتدل، أي: الذي يبصر الطريق.
وقال قتادة: هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مُكِبّاً على
وجهه، والمؤمن يمشي سوياً.
قوله عزّ وجلّ: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ فيه قولان: أحدهما:
أنهم لا يشكرون، قاله مقاتل: والثاني:
أنهم يشكرون قليلا، قاله أبو عبيدة.
قوله عزّ وجلّ: ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: خلقكم
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون الوعد: بالعذاب
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً أي: رأوا العذاب قريباً منهم
سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا قال الزجاج: أي: تبين فيها
السُّوءُ. وقال غيره: قُبِّحْت بالسواد وَقِيلَ هذَا الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ فيه قولان: أحدهما: أنَّ «تدَّعون»
بالتشديد، بمعنى تدعون بالتخفيف، وهو «تفتعلون» من الدعاء.
يقال: دعوت، وادَّعيت، كما يقال:
خَبَرْتُ وَاخْتَبَرْتُ، ومثله: يدّكرون، ويذكرون، هذا قول
الفراء، وابن قتيبة. والثاني: أن المعنى: هذا الذي كنتم من
أجله تَدَّعون الأباطيلَ والأكاذيبَ، تَدَّعون أنكم إِذا
مُتُّم لا تُبْعَثُون؟! وهذا اختيار الزجاج.
(4/316)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا
فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ
هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ
يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
وقرأ أبو رزين، والحسن، وعكرمة، وقتادة
والضحاك، وابن أبي عبلة، ويعقوب: «تَدْعون» بتخفيف الدال،
وسكونها، بمعنى تَفْعَلون من الدعاء. وقال قتادة: كانوا يدعون
بالعذاب.
[سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ
أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ
تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ
يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
قوله عزّ وجلّ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ
بعذاب وَمَنْ مَعِيَ من المؤمنين «1» . قرأ ابن كثير، ونافع،
وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «معيَ» بفتح الياء. وقرأ
أبو بكر عن عاصم، والكسائي: «معي» بالإسكان أَوْ رَحِمَنا فلم
يعذِّبْنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ أي يمنعهم ويؤمِّنُهم
مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ومعنى الآية: إنا مع إيماننا، بين الخوف
والرّجاء: فمن يجيرُكم مع كفركم من العذاب؟! أي: لأنه لا رجاء
لكم كرجاء المؤمنين قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ الذي نعبُدُ
فَسَتَعْلَمُونَ وقرأ الكسائي:
«فسيعلمون» بالياء عند معاينة العذاب مَن الضالُّ نحن أم أنتم.
قوله عزّ وجلّ: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً قد بيَّنَّاه
في الكهف «2» فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي: بماءٍ
ظاهر تراه العيون، وتناله الأرشية.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 471: يقول الله
تعالى: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه:
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ
رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي:
خلّصوا أنفسكم، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة
والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب
والنّكال، فسواء عذّبنا الله أو رحمنا، فلا مناص لكم من نكاله
وعذابه الأليم الواقع بكم. ثم قال:
قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا كما
قال: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ثم قال: قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي: ذاهبا في
الأرض إلى أسفل، فلا ينال بالفؤوس الحداد، ولا السواعد الشداد،
والغائر عكس النابع. ولهذا قال: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ
مَعِينٍ أي: نابع وسائح جار على وجه الأرض، أي: لا يقدر على
ذلك إلا الله عز وجل. فمن فضله وكرمه أنبع لكم المياه وأجراها
في سائر أقطار الأرض، بحسب ما يحتاج العباد إليه، من القلة
والكثرة، فله الحمد والمنّة.
(2) الكهف: 41.
(4/317)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا
يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
(2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ
لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
(7)
سورة القلم
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم إلّا ما حكي عن ابن عباس وقتادة أن
فيها من المدني قوله عزّ وجلّ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ إلى قوله
عزّ وجلّ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ
مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
قوله عزّ وجلّ: ن قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر،
وحمزة، وحفص: نْ وَالْقَلَمِ النون في آخر الهجاء من نون ظاهرة
عند الواو، وهذا اختيار الفراء. وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان
لا يُبين النون من «نون» . وبها قرأ الكسائي، وخلف، ويعقوب،
وهو اختيار الزجاج. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وقتادة،
والأعمش: «نونِ والقلم» بكسر النون وقرأ الحسن، وأبو عمران،
وأبو نهيك: «نُ والقلم» برفع النون..
وفي معنى (نون) سبعة أقوال «1» : أحدها: أنها الدواة.
(1479) روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه
قال: «أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النّون،
__________
صدره قوي بشواهده، وعجزه باطل. أخرجه ابن عدي 6/ 269 من طريق
محمد بن وهب عن الوليد بن مسلم به، وأعله بمحمد بن وهب، وحكم
ببطلانه، ووافقه الذهبي في «الميزان» 4/ 61. وأخرجه الآجري في
«الشريعة» 358 من طريق الحسن بن يحيى الخشني عن الحسين أبي عبد
الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده
ضعيف لضعف الحسن بن يحيى الخشني، وكذا ذكره ابن كثير في
«تفسيره» 4/ 428 من هذا الوجه ونسبه لابن أبي حاتم وقال: غريب
جدا. ولقوله «أول ما خلق الله القلم» شواهد كثيرة والمنكر فيه
لفظ «النون وهي الدواة» ويشهد لصدره حديث عبادة بن الصامت:
أخرجه أبو داود 4700 والترمذي 2156 وأحمد 5/ 317 والآجري 359.
وحديث ابن عباس: أخرجه أبو يعلى 2329 والبيهقي 9/ 3 وذكره
الهيثمي في «المجمع» 7/ 190 وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات.
وانظر «الجامع لأحكام القرآن»
__________
(1) الراجح في هذه الأقوال القول الأول، يدل على ذلك ذكر
القلم، والله تعالى أعلم.
(4/318)
وهي الدواة» وهذا قول ابن عباس في رواية
سعيد بن جبير، وبه قال الحسن وقتادة.
والثاني: أنه آخر حروف الرحمن، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثالث: أنه الحوت الذي على ظهر الأرض، وهذا المعنى في رواية
أبي ظبيان عن ابن عباس، وهو مذهب مجاهد، والسّدّيّ، وابن
السّائب «1» . والرابع: أنه لَوْح من نور، قاله معاوية بن
قرّة. والخامس: أنه افتتاح اسمين «نصير» ، و «ناصر» قاله عطاء.
والسادس: أنه قَسَم ٌبِنُصْرَةِ الله للمؤمنين، قاله القرظي.
والسابع: أنه نهر في الجنة، قاله جعفر الصادق.
وفي «القلم» قولان «2» : أحدهما: أنه الذي كتب به في اللوح
المحفوظ. والثاني: أنه الذي يكتب به الناس. وإنما أقسم به، لأن
كتبه إنما تكتب ويَسْطُرُونَ بمعنى: يكتبون.
وفي المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة. وفيما أرادوا
بما يكتبونه قولان: أحدهما: أنه الذّكر، قاله مجاهد، والسدي.
والثاني: أعمال بني آدم، قاله مقاتل. والقول الثاني: أنهم جميع
الكتبة، حكاه الثّعلبيّ، قوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
بِمَجْنُونٍ أي: ما أنت بِإنْعامِ ربِّك عليك بالإيمان
والنُّبوَّة بمجنون. قال الزجاج: هذا جواب قولهم: إنك لمجنون.
وتأويله: فارقك الجنون بنعمة الله.
قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّ لَكَ بصبرك على افترائهم عليك. ونسبتهم
إيّاك إلى الجنون لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أي: غير مقطوع
ولا منقوص، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فيه ثلاثة أقوال
«3» :
أحدها: دين الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: أدب القرآن، قاله
الحسن. والثالث: الطبع الكريم. وحقيقة «الخُلُق» : ما يأخذ به
الإنسان نفسه من الآداب، فسمي خُلُقاً، لأنه يصير كالخِلْقة في
صاحبه. فأما ما طبع عليه فيسمى: «الخِيم» فيكون الخِيم: الطبع
الغريزي. والخُلُق: الطبع المُتكلَّف.
هذا قول الماوردي.
(1480) وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فقالت: كان خُلُقُه القرآن.
تعني: كان على ما أمره الله به في القرآن.
__________
6064 و 6065 و «أحكام القرآن» 2168.
الخلاصة: هو باطل بهذا اللفظ، وذكر القلم قوي له شواهد.
صحيح. أخرجه مسلم 746 وأبو داود 1342 و 1343 وعبد الرزاق 4714
و 4751 من حديث عائشة مطولا. وأخرجه الحاكم 2/ 392 من حديث
عائشة بلفظ: أن سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن: قد أفلح
المؤمنون.
__________
(1) هذه الروايات جميعا مصدرها الإسرائيليات، وهي من أباطيل
الإسرائيليين وترّهاتهم.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 473: وقوله:
وَالْقَلَمِ الظاهر أنه جنس القلم يكتب به كقوله: اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ فهو قسم
منه تعالى، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم
الكتابة التي بها تنال العلوم.
(3) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 199: أصح الأقوال
ما ذكرته عائشة في صحيح مسلم.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 475: ومعنى هذا أنه
عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن، أمرا ونهيا، سجية له،
وخلقه تطبعه، وترك طبعه الجبلّيّ فمهما أمره القرآن فعله،
ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق
العظيم، من الحياء والكرم، والشجاعة، والصفح، والحلم، وكل خلق
جميل.
(4/319)
فَلَا تُطِعِ
الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ
بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ
وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ
(16)
قوله عزّ وجلّ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ
يعني: أهل مكة. وهذا وعيد لهم بالعذاب. والمعنى:
سترى ويرون إذا نزل بهم العذاب بِبَدْرٍ. بِأَيِّكُمُ
الْمَفْتُونُ وفيه أربعة أقوال: أحدها: الضالُّ، قاله الحسن.
والثاني: الشيطان، قاله مجاهد. والثالث: المجنون، قاله الضحاك.
والمعنى: الذي قد فتن بالجنون. والرابع: المعذَّب، حكاه
الماوردي.
وفي الباء قولان: أحدهما: أنها زائدة، قاله أبو عبيدة، وابن
قتيبة. وأنشدوا:
نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الفَلَجْ ... نَضْرِبُ
بِالسَّيْف وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ «1»
والثاني: أنها أصلية، وهذا قول الفراء، والزجاج. قال الزجاج:
ليس كونها لغواً بجائز في العربية في قول أحد من أهلها.
وفي الكلام قولان للنحويين: أحدهما: أن «المفتون» هاهنا:
الفتون. والمصادر تجيء على المفعول. تقول العرب: ليس هذا معقود
رأي، أي: عقد رأي، تقول: دعه إلى ميسوره، أي: يسره.
والمعنى: بأيكم الجنون. والثاني: بأيكم المفتون بالفرقة التي
أنت فيها، أم بفرقة الكفار؟ فيكون المعنى: في أي الفرقتين
المجنون. وقد ذكر الفراء نحو ما شرحه الزجاج. وقد قرأ أُبَيُّ
بن كعب، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: «في أي المفتون» . ثم أخبر
أنه عالم بالفرقتين بما بعد هذا.
[سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 16]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ
فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10)
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ
وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
قوله عزّ وجلّ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وذلك أن رؤساء أهل
مكة دَعَوْه إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم وَدُّوا لَوْ
تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ فيه سبعة أقوال «2» : أحدها: لو ترخص
فيرخصون، قاله ابن عباس.
__________
(1) البيت لراجز من بني جعدة، كما في «مجاز القرآن» 2/ 5 و
«الخزانة» 4/ 160 والفلج: موضع بنجد.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 182: وأولى الأقوال
بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ود هؤلاء المشركون يا محمد لو
تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلبون
لك في عبادتك إلهك، كما قال جل ثناؤه وَلَوْلا أَنْ
ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً
قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ
الْمَماتِ وإنما هو مأخوذ من الدهن شبّه التليين في القول
بتليين الدهن.
وقال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 305: وقال أهل
اللغة: الإدهان هو التلبيس، معناه: ودوا لو تلبس إليهم في
عملهم وعقدهم فيميلون إليك. وحقيقة الإدهان إظهار المقاربة مع
الاعتقاد للعداوة، فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة، وإن
كانت مع سلامة الدين فهي مداراة أي مدافعة. وقد ثبت في الصحيح
عن عائشة أنه استأذن على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال:
«ائذنوا له، بئس أخو العشيرة هو، أو ابن العشيرة، فلما دخل
ألان له الكلام، فقلت: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له
في القول! فقال لي: «يا عائشة، إن شر الناس منزلة من تركه أو
ودعه الناس اتقاء فحشه» .
قلت: حديث صحيح. أخرجه البخاري 6054 و 6131 ومسلم 2591 وأبو
داود 4791 والترمذي 1996 وأحمد 6/ 38 والحميدي 249 وابن حبان
4538 والبيهقي 10/ 345 والبغوي 3563 من طريق سفيان بن عيينة عن
محمد بن المنكدر عن عروة بن الزبير عن عائشة به.
(4/320)
والثاني: لو تُصَانِعُهم في دِينك
فَيَصانِعون في دينهم، قاله الحسن. والثالث: لو تكفر فيكفرون،
قاله عطية، والضحاك، ومقاتل. والرابع: لو تَلِينُ لهم فيلينون
لك، قاله ابن السائب. والخامس: لو تنافق وترائي فينافقون
ويراءون، قاله زيد بن أسلم. والسادس: ودُّوا لو تداهن في دينك
فيداهنون في أديانهم. وكانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم
مُدَّة، ويعبدوا الله مدة، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: هو
من المداهنة. والسابع: لو تقاربهم فيقاربوك، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ وهو كثير الحلف
بالباطل مَهِينٍ وهو الحقير الدنيء. وروى العوفي عن ابن عباس
قال: المَهين: الكذَّاب. واختلفوا فيمن نزل هذا على ثلاثة
أقوال: أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: الأخنس بن شريق، قاله عطاء، والسدي.
والثالث: الأسود بن عبد يغوث، قاله مجاهد.
قوله عزّ وجلّ: هَمَّازٍ قال ابن عباس: هو المغتاب. وقال ابن
قتيبة: هو العيّاب.
قوله عزّ وجلّ: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي: يمشي بين الناس
بالنميمة، وهو نقل الكلام السيء من بعضهم إلى بعض ليفسد بينهم
«1» ، قوله: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ فيه قولان: أحدهما: أنه منع
ولده وعشيرته الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: مَنَّاعٍ
للحقوق في ماله، ذكره الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: مُعْتَدٍ أي ظلوم أَثِيمٍ فاجر عُتُلٍّ بَعْدَ
ذلِكَ أي مع ما وصفناه به.
وفي «العُتُلِّ» سبعة أقوال: أحدها: أنه العاتي الشديد
المنافق، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الموفر الجسم، قاله
الحسن. والثالث: الشديدُ الأَشِرُ، قاله مجاهد. والرابع:
القويُّ في كفره، قاله عكرمة.
والخامس: الأكول الشروب القوي الشديد، قاله عبيد بن عمير.
والسادس: الشديد الخصومة بالباطل، قاله الفراء. والسابع: أنه
الغليظ الجافي، قاله ابن قتيبة.
وفي «الزنيم» أربعة أقوال «2» : أحدها: أنه الدَّعيُّ في قريش
وليس منهم، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا معروف في اللغة أنّ
الزّنيم: هو الملصق في القوم وليس منهم، وبه قال الفراء، وأبو
عبيدة وابن قتيبة. قال حسان:
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آل هَاشِمٍ ... كما نِيطَ خلف
الرّاكب القدح الفرد
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 476: مَشَّاءٍ
بِنَمِيمٍ يعني: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم وينقل
الحديث لفساد ذات البين، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس
قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقبرين قال: «إنهما
يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من
البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة» . وقال
الزمخشري في «الكشاف» 4/ 591: حَلَّافٍ كثير الحلف في الحقّ
والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. ومثله قوله تعالى:
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة:
224] مَهِينٍ من المهانة وهي القلة والحقارة، يريد القلة في
الرأي والتمييز. أو أراد الكذاب لأنه حقير عند الناس هَمَّازٍ
عياب طعان، وعن الحسن: يلوي شدقيه في أقفية الناس مَشَّاءٍ
بِنَمِيمٍ مضرب نقّال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية
والإفساد بينهم. والنميم والنميمة: السعاية.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 478: الأقوال في
هذا كثيرة وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو:
المشهور بالشر الذي يعرف به من بين الناس، وغالبا يكون دعيّا
ولد زنا، فإنه في الغالب يتسلّط الشيطان عليه ما لا يتسلط على
غيره.
(4/321)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ
كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا
لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ
(19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ
(21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ
(22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا
يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا
عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا
إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ
أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى
رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى
رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ
تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ
أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ
فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
والثاني: أنه الذي يعرف بالشَّرِّ، كما
تعرف الشاة بِزَنَمتها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: أنه الذي له زَنَمة مثل زنمة الشاة. وقال ابن عباس:
نُعت فلم يعرف حتى قيل: زنيم، فعرف، وكانت له زنمة في عنقه
يعرف بها. ولا يعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه
من ذكر عيوب الوليد، لأنه وصف بالحلف، والمهانة، والعيب للناس،
والمشي بالنميمة، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدِّعوة،
فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة، قال الزّجّاج:
والزَّنَمَتان:
المعلقتان عند حلوق المعزى. وقال ابن فارس: هي التي تتعلق من
أذنها. والرابع: أنه الظلوم، رواه الوالبيّ عن ابن عباس.
قوله عزّ وجلّ: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ قرأ ابن كثير،
ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم: «أن كان» على
الخبر، أي: لأن كان. والمعنى لا تطعه لماله وبنيه. وقرأ ابن
عباس بهمزتين، الأولى: مخففة. والثانية: ملينة، وفصل بينهما
بألف أبو جعفر. وقرأ حمزة: «أأن كان» بهمزتين مخففتين على
الاستفهام، وله وجهان: أحدهما: ألأن كان ذا مال تطيعه؟ -!
والثاني: ألأن كان ذا مال وبنين؟! إِذا تُتْلى عَلَيْهِ
آياتُنا يكفر بها؟ فيقول: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ذكر القولين
الفراء. وقرأ ابن مسعود: «أن كان» بهمزة واحدة مقصورة. ثم
أوعده فقال عزّ وجلّ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ الخرطوم:
الأنف. وفي هذه السِّمة ثلاثة أقوال: أحدها: سنسمه بالسيف،
فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش، فقاتل يوم بدر فخطم
بالسيف، قاله ابن عباس. والثاني: سنُلْحق به شيئاً لا يفارقه،
قاله قتادة، واختاره ابن قتيبة. والثالث: أن المعنى:
سَنُسَوِّد وجهه. قال الفراء: و «الخرطوم» وإِن كان قد خص
بالسِّمة، فإنه في مذهبٍ الوجه، لأن بعض الوجه يؤدِّي عن
البعض. وقال الزجاج: سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به
أهل النار من اسوداد وجوههم. وجائز- والله أعلم- أن يفرد بسمة
لمبالغته في عداوته لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يتبيّن بها
عن غيره.
[سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 41]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ
أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا
يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ
وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22)
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا
يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا
عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا
لَضَالُّونَ (26)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ
رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا
كُنَّا طاغِينَ (31)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى
رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ
لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا
بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما
تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40)
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا
صادِقِينَ (41)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يعني: أهل مكة، أي:
ابتليناهم بالجوع، والقحط كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ
حين هلكت جنّتهم.
(4/322)
وهذه الإشارة إِلى قصتهم «1»
ذكر أهل التفسير أن رجلاً كان بناحية اليمن له بستان، وكان
مؤمنا. وذلك بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، وكان يأخذ منه قدر
قوته، وكان يتصدّق بالباقي. وقيل: كان يترك للمساكين ما
تعدَّاه المنجل، وما يسقط من رؤوس النخل، وما ينتثر عند
الدّباس، فكان يجتمع من هذا شيء كثير، فمات الرجل عن ثلاثة
بنين، فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير، وإِنما
كان أبونا يفعل هذا إذْ كان المال كثيراً، والعيال قليلاً،
وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا. فعزموا على حرمان المساكين،
وتحالفوا بينهم ليغدون قبل خروج الناس، فليصرمُنَّ نخلهم، فذلك
قوله عزّ وجلّ: إِذْ أَقْسَمُوا أي:
حلفوا لَيَصْرِمُنَّها أي: ليقطعنّ نخلهم مُصْبِحِينَ أي: في
أول الصباح. وقد بقيت من الليل ظُلمة لئلا يبقى للمساكين شيء.
وفي قوله عزّ وجلّ: وَلا يَسْتَثْنُونَ قولان: أحدهما: لا
يقولون: إن شاء الله، قاله الأكثرون.
والثاني: لا يستثنون حق المساكين، قاله عكرمة، فَطافَ عَلَيْها
طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ أي: من أمر ربك. قال الفراء: الطائف لا
يكون إلا بالليل. قال المفسرون: بعث الله عليها ناراً بالليل،
فاحترقت، فصارت سوداء، فذلك قوله عزّ وجلّ: فَأَصْبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: كالرَّماد الأسود، قاله ابن عباس. والثاني: كالليل
المسودّ، قاله الفراء. وكذلك قال ابن قتيبة: أصبحت سوداء
كالليل محترقة. والليل: هو الصريم، والصبح أيضاً: صريم، لأن كل
واحد منهما ينصرم عن صاحبه. والثالث: أصبحت قد ذهب ما فيها من
الثمر، فكأنه قد صرم، أي: قطع، وجُذَّ حكاه ابن قتيبة أيضا.
قوله عزّ وجلّ: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أي: نادى بعضهم بعضاً
لما أصبحوا أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ يعني:
الثمار والزروع والأعناب إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي: قاطعين
للنخل، فَانْطَلَقُوا أي: ذهبوا إلى جنَّتهم وَهُمْ
يَتَخافَتُونَ قال ابن قتيبة: يتشاورون ب أَنْ لا
يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ.
قوله: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ فيه ثمانية أقوال: أحدها: على
قدرة، قاله ابن عباس. والثاني: على فاقة، قاله الحسن في رواية.
والثالث: على جد، قاله الحسن في رواية، وقتادة، وأبو العالية،
والفراء! ومقاتل.
والرابع: على أمر مجمع قد أسَّسوه بينهم، قاله مجاهد، وعكرمة.
والخامس: أنّ الحرد، اسم الجنّة،
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 18/ 210:
قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جدّ ثمره أن يواسي منها
من حضره، وذلك معنى قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ
[الأنعام: 141] وأنه غير الزكاة. وقال بعضهم: وعليه ترك ما
أخطأه الحصادون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا. وروي
أنه نهي عن الحصاد بالليل. وقيل: إنما نهى عن ذلك خشية الحياة
وهوام الأرض.
قلت: الأول أصح، والثاني: حسن، وإنما قلنا الأول أصح لأن
العقوبة كانت بسبب ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله
تعالى. وفي هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان،
لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم ونظير هذه الآية،
قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ
مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] وفي الصحيح: عن النبي صلّى
الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل
والمقتول في النار» قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال
المقتول؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» متفق عليه. اه.
(4/323)
قاله السدي. والسادس: أنه الحنَق والغضب
على المساكين، قاله الشعبي، وسفيان، وأنشد أبو عبيدة:
أُسُودُ شَرَىً لاَقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ ... تَسَاقَوْا على
حَرْدٍ دِمَاءَ الأَسَاوِدِ «1»
والسابع: أنه المنع، مأخوذ من حارَدَتِ السَّنَة فليس فيها
مطر، وحاردت الناقة فليس لها لبن، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة.
والثامن: أنه القصد. يقال: حَرَدْتُ حَرْدَكَ، أي: قَصَدْتُ
قَصْدَكَ، حكاه الفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وأنشدوا:
قَدْ جَاءَ سَيْلٌ كَانَ مِنْ أَمْرِ اللهْ ... يَحْرُدُ
حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّةْ
أي: يقصد قصدها. قال ابن قتيبة: وفيها لغتان: حَرَدٌ، وحَرْدٌ،
كما يقال: الدَّرَك، والدّرك.
وقوله: قادِرِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: قادرين على جَنَّتهم
عند أنفسهم، قاله قتادة. والثاني:
قادرين على المساكين، قاله الشعبي. والثالث: أن المعنى: منعوا
وهم قادرون، أي: واجدون، قاله ابن قتيبة، قوله: فَلَمَّا
رَأَوْها محترقة قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ أي: قد ضللنا طريق
جَنَّتنا، فليست هذه. ثم علموا أنها عقوبة، فقالوا: بَلْ
نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي: حرمنا ثمر جنّتنا بمنعنا المساكين
قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم، وأفضلهم لَوْلا أي: هلاَّ
تُسَبِّحُونَ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: هلا تَسْتَثْنُون عند
قولكم:
لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ قاله ابن جريج والجمهور. والمعنى:
هلاَّ قلتم: إن شاء الله. قال الزجاج: وإنما قيل للاستثناء:
تسبيح، لأنّ التسبيح في اللغة: تنزيه الله عزّ وجلّ عن السوء.
والاستثناء تعظيم لله، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلاً
إلا بمشيئة الله. والثاني: أنه كان استثناؤهم قول: «سبحان
الله» قاله أبو صالح. والثالث: هلا تسبِّحون الله وتشكرونه على
ما أعطاكم، حكاه الثعلبي. وقوله تعالى: قالُوا سُبْحانَ
رَبِّنا فنزَّهوه أن يكون ظالماً فيما صنع، وأقرُّوا على
أنفسهم بالظلم فقالوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بمنعنا
المساكين فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أي:
يلوم بعضهم بعضاً في منع المساكين حقوقهم. يقول هذا لهذا:
أَنْتَ أَشَرْتَ علينا. ويقول الآخر: أنت فَعَلْتَ، ثم نادَوْا
على أنفسهم بالويل، فقالوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ
حين لم نصنع ما صنع آباؤنا، ثم رجعوا إِلى الله تعالى فسألوه
أن يبدِّلهم خيراً منها، فذلك قوله: عَسى رَبُّنا أَنْ
يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها. وقرأ قوم: «يبدِلنا» بالتخفيف،
وهما لغتان. وفرَّق قوم بينهما، فقالوا: التبديل: تغيير حال
الشيء وصفته والعين باقية. والإبدال: إزالة الشيء ووضع غيره
مكانه.
ونقل أن القوم أخلصوا، فبدَّلهم الله جنَّةً العنقودُ منها وقر
بغل «2» .
قوله عزّ وجلّ: كَذلِكَ الْعَذابُ ما فعلنا بهم نفعل بمن تعدّى
حدودنا. وهاهنا قصة أهل الجنّة. ثم قال عزّ وجلّ: وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني: المشركين.
ثم ذكر ما للمتقين عنده بما بعد هذا، فقال المشركون: إنا
لنُعْطى في الآخرة أفضل ممّا يعطون، فقال تعالى مكذِّباً لهم:
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ قال الزجاج: هذه
ألف الاستفهام مجازها هاهنا مجاز التوبيخ والتقرير.
قوله عزّ وجلّ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي: كيف تقضون بالجَوْرِ،
أَمْ لَكُمْ كِتابٌ أُنْزِلَ من عند الله فِيهِ هذا
تَدْرُسُونَ أي: تقرؤون ما فيه إِنَّ لَكُمْ في ذلك الكتاب
لَما تَخَيَّرُونَ أي: ما تختارون وتشتهون. وقرأ أبو الجوزاء،
وعاصم الجحدري، وأبو عمران: «أن لكم» بفتح الهمزة. وهذا تقريع
__________
(1) البيت للأشهب بن رميلة الذي كان يهاجي الفرزدق، كما في
«الكامل» للمبرد 438 و «الخزانة» 2/ 508. [.....]
(2) وقر بغل: حمل بغل.
(4/324)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
(42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ
كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ
تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
لهم، وتوبيخ على ما يتمنَّوْن من الباطل،
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ
عَلَيْنا بالِغَةٌ أي: ألكم عهود على الله تعالى حلف لكم على
ما تَدَّعُونَ بأَيْمانٍ بالغةٍ، أي: مُؤكَّدةٍ. وكل شيء
متناهٍ في الجودة والصحة فهو بالغ. ويجوز أن يكون المعنى:
بالغة إلى يوم القيامة، أي: تبلغ تلك الأَيمان إلى يوم القيامة
في لزومها وتوكيدها إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ لأنفسكم به
من الخير والكرامة عند الله تعالى. قال الفراء: والقرَّاء على
رفع «بالغة» إلّا الحسن فإنه ينصبها على مذهب المصدر، كقوله
عزّ وجلّ:
حَقًّا. ومعنى الآية: هل لكم أيمان علينا بالغة بأنّ لكم ما
تحكمون؟! لمّا كانت اللام في جواب «إن» كسرتَها.
قوله عز وجل: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ فيه قولان:
أحدهما: أنه الكفيل، قاله ابن عباس، وقتادة. والمعنى: أيُّهُمْ
كفل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير. والثاني: أنه
الرسول، قاله الحسن.
قوله عزّ وجلّ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يعني: الأصنام التي
جعلوها شركاء لله تعالى، والمعنى: ألهم أرباب يفعلون بهم هذا
الذي زعموا. وقيل: يشهدون لهم بصدق ما ادَّعَوْا فَلْيَأْتُوا
بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في أنها شركاء لله.
وإنما أضيف الشرك إليهم لادّعائهم أنهم شركاء لله.
[سورة القلم (68) : الآيات 42 الى 47]
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا
يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ
سالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي
لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً
فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
يَوْمَ يُكْشَفُ المعنى: فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق. قرأ
الجمهور: «يُكْشَفُ» بضم الياء، وفتح الشين. وقرأ ابن أبي
عبلة، وعاصم الجحدريّ، وأبو الجوزاء، بفتح الياء، وكسر الشين.
وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس: «تكشف» بتاء مفتوحة، وبكسر الشين.
وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وابن يعمر، والضحاك: «نَكشف» بنون
مفتوحة مع كسر الشين. وهذا اليوم هو يوم القيامة. وقد روى
عكرمة عن ابن عباس: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: يكشف عن
شدّة، وأنشدوا:
وَقَامَتْ الحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ
وهذا قول مجاهد، وقتادة.
قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج
إِلى معاناته والجدّ فيه، شمّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في
موضع الشدة، هذا قول الفراء وأبي عبيدة، واللغويين. وقد أضيف
هذا الأمر إِلى الله تعالى.
(1481) فروي في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه «يكشف عن
__________
صحيح. أخرجه البخاري 7439 و 4919 وابن حبان 7377 والبيهقي في
«الأسماء والصفات» 745 والبغوي في «شرح السنة» 4221 من حديث
أبي سعيد. وأخرجه مسلم 183 من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن
أسلم به مطوّلا. وأخرجه أحمد 3/ 16- 17 من طريق عبد الرحمن بن
إسحاق عن زيد بن أسلم به
(4/325)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ
مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ
رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ
بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ
إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ
لِلْعَالَمِينَ (52)
ساقه» ، وهذا إضافة إليه، لأن الكل له
وفعله. وقال أبو عمر الزّاهد: السّاق: يراد بها النّفس «1» ،
ومنه قول عليّ رضي الله عنه: أقاتلهم ولو تلفت ساقي، أي: نفسي.
فعلى هذا يكون المعنى: يتجلّى لهم.
قوله تعالى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يعني: المنافقين
فَلا يَسْتَطِيعُونَ كأن في ظهورهم سفافيد الحديد. قال النقاش:
وليس ذلك بتكليف لهم أن يسجدوا، وهم عجزة، ولكنه توبيخ لهم
بتركهم السجود خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي: خاضعةً تَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ أي: تغشاهم وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ
يعني:
بالأذان في دار الدنيا، ويُؤْمَرون بالصلاة المكتوبة وَهُمْ
سالِمُونَ أي: معافَوْن ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد. وفي
هذا وعيد لمن ترك صلاة الجماعة. وكان كعب يقول: والله ما نزلت
هذه الآية إلا في الذين يتخلَّفون عن الجماعات فَذَرْنِي
وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ يعني: القرآن. والمعنى:
خَلِّ بيني وبينه. قال الزجاج: أي: لا تشغل قلبك به، كِلْه
إليَّ فأنا أكفيك أمره. وذكر بعض المفسرين أن هذا القدر من
الآية إلى قوله: «الحديث» منسوخ بآية السيف. وما بعد هذا مفسر
في الأعراف «2» إِلى قوله عزّ وجلّ: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً
فإنها مفسّرة والتي تليها في الطّور «3» .
[سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 52]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ
إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ
نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ
(49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ
بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ
إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ
لِلْعالَمِينَ (52)
قوله عزّ وجلّ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي: اصبر على أذاهم
لقضاء ربك الذي هو آتٍ. وقيل: معنى الأمر بالصبر منسوخ بآية
السيف.
قوله عزّ وجلّ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وهو يونس. وفي
ماذا نُهِيَ أن يكون مثله قولان:
أحدهما: أنه العجلة، والغضب، قاله قتادة. والثاني: الضعف عن
تبليغ الرسالة، قاله ابن جرير. قال ابن الأنباري: وهذا لا
يُخْرِجُ يونس من أولي العزم، لأنها خطيئة. ولو قلنا: إن كل
مخطئ من الأنبياء ليس من أولي العزم، خرجوا كلهم إلا يحيى. ثم
أخبر عن عقوبته إذ لم يصبر، فقال عزّ وجلّ: إِذْ نادى وَهُوَ
مَكْظُومٌ قال الزجاج: مملوء غمّا وكربا.
قوله عزّ وجلّ: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ وقرأ ابن مسعود، وابن
عباس، وابن أبي عبلة: «لولا أن تَداركتْه» بتاء خفيفة، وبتاءٍ
ساكنة بعد الكاف مع تخفيف الدال. وقرأ أبو هريرة، وأبو
المتوكل: «تَدَّاركه» بتاء واحدة خفيفة مع تشديد الدال. وقرأ
أُبَيّ بن كعب: «تتداركه» بتاءين خفيفتين نِعْمَةٌ مِنْ
رَبِّهِ فرحمه بها، وتاب عليه من معاصيه لَنُبِذَ بِالْعَراءِ
وَهُوَ مَذْمُومٌ وقد بينا معنى «العَراء» في الصافات «4» .
ومعنى الآية: أنه نبِذَ غيرَ مذموم لنعمة الله عليه بالتوبة
والرحمة. وقال ابن جريج: نُبِذَ بالعراء، وهي أرض المحشر،
فالمعنى: أنه كان يبقى مكانه إلى يوم القيامة فَاجْتَباهُ
رَبُّهُ أي: استخلصه واصطفاه، وخلّصه
__________
مطوّلا. وأخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 173 من طريق هشام بن
سعد عن زيد به.
__________
(1) هذه الأقوال جميعا يردها الحديث الصحيح المتقدم، ولم يسق
المصنف لفظه.
(2) الأعراف: 182- 183.
(3) الطور: 39- 40.
(4) الصافات: 145.
(4/326)
من الذم فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
فردَّ عليه الوحي، وشفّعه في قومه ونفسه، قوله: وَإِنْ يَكادُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ قرأ
الأكثرون بضم الياء، من أزلقته، وقرأ أهل المدينة، وأبان
بفتحها من زَلَقْتُه أزْلِقُهُ، وهما لغتان مشهورتان في العرب.
قال الزجاج: يقال: زلق الرّجل رأسه أزلقه: إذا حلقه. وفي معنى
الآية للمفسرين قولان «1» :
(1482) أحدهما: أن الكفار قصدوا أن يصيبوا رسول الله صلّى الله
عليه وسلم بالعين، وكان فيهم رجل يمكث اليومين والثلاثة لا
يأكل شيئاً، ثم يرفع جانب خبائه، فتمرُّ به النَّعم، فيقول: لم
أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلاً
حتى يسقط منها عدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله
صلّى الله عليه وسلم بالعين، فعصم الله نبيَّه، وأنزل هذه
الآية، وهذا قول الكلبي، وتابعه قوم من المفسرين تلقَّفوا ذلك
من تفسيره، منهم الفراء.
والثاني: أنهم كانوا ينظرون إليه بالعداوة نظرا سديدا يكاد
يُزْلِقُه من شدته، أي: يلقيه إلى الأرض. وهذا مستعمل في كلام
العرب. يقول القائل: نظر إليَّ فلان نظراً كاد يصرعني.
وأنشدوا:
يَتَقَارضُون إذا التَقَوْا في مَوْطنٍ ... نَظَراً يزيل مواطئ
الأَقْدَامِ
أي: ينظر بعضهم إلى بعض نظراً شديداً بالعداوة يكاد يزيل
الأقدام، وإلى هذا ذهب المحققون، منهم ابن قتيبة، والزجاج.
ويدل على صحته أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو
قوله تعالى: لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ والقوم كانوا يكرهون
ذلك أَشَدَّ الكراهة، فيُحِدُّون النظر إليه بالبغضاء. وإصابةُ
العين، إنما تكون مع الإعجاب والاستحسان، لا مع البغض فلا يُظن
بالكلبي أنه فهم معنى الآية. قوله:
وَما هُوَ يعني: القرآن إِلَّا ذِكْرٌ أي: موعظة.
__________
عزاه المصنف للكلبي، وهو متهم بالكذب، فهذا خبر باطل، لا أصل
له.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 482: وفي هذه الآية
دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق، بأمر الله- عز وجل-.
وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 222: أخبر الله بشدة
عداوتهم للنبي صلّى الله عليه وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين،
فعصم الله نبيه صلّى الله عليه وسلم قال القشيري: وفي هذا نظر،
لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع
الكراهية والبغض.
قلت: أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرناه، وأن مرادهم
بالنظر إليه قتله ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين
عداوة حتى يهلك، يقال: زلقه، يزلقه، أزلقه، إذا نحّاه وأبعده.
فمعنى الكلمة إذا التنحية والإزالة، وذلك لا يكون في حقّ النبي
صلّى الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته.
(4/327)
|