زاد المسير في
علم التفسير الْحَاقَّةُ (1) مَا
الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا
ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ
نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ
بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ
أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ
حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ
تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
سورة الحاقّة
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا
الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا
عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ
خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ
فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ
(9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً
(10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي
الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها
أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
الْحَاقَّةُ: القيامة. قال الفراء: إنما قيل لها: حاقة، لأن
فيها حواق الأمور. وقال الزجاج: إنما سميت الحاقة، لأنها تحق
كل إنسان بعمله من خير وشرّ.
قوله عزّ وجلّ: مَا الْحَاقَّةُ هذا استفهام، معناه التفخيم
لشأنها، كما تقول: زيد، ما زيد؟ على التعظيم لشأنه. ثم زاد في
التهويل بأمرها، فقال عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ
أي: لأنك لم تعاينها، ولم تدر ما فيها من الأهوال. ثم أخبر عن
المكذّبين بها، فقال عزّ وجلّ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ
بِالْقارِعَةِ قال ابن عباس: القارعة: اسم من أسماء يوم
القيامة. قال مقاتل: وإنما سميت بالقارعة، لأن الله تعالى يقرع
أعداءه بالعذاب. وقال ابن قتيبة: القارعة: القيامة لأنها تقرع،
يقال: أصابتهم قوارع الدهر. وقال الزجاج: لأنها تقرع بالأهوال.
وقال غيرهم: لأنها تقرع القلوب بالفزع.
فأما بِالطَّاغِيَةِ ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها طغيانهم
وكفرهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وأبو عبيدة وابن
قتيبة. قال الزجاج: ومعنى الطاغية عند أهل اللغة: طغيانهم. و
«فاعلة» قد يأتي بمعنى المصادر، نحو عاقبة، وعافية. والثاني:
بالصيحة الطاغية، قاله قتادة. وذلك أنها جاوزت مقدار الصياح،
فأهلكتهم. والثالث: أن الطاغية: عاقر الناقة، قاله ابن زيد.
والريح الصرصر قد فسرناها في حم السجدة «1» . والعاتية: التي
جاوزت المقدار. وجاء في التفسير أنها عَتَتْ على خُزَّانها
يومئذ، فلم يكن لهم عليها سبيل.
__________
(1) فصلت: 16.
(4/328)
قوله عزّ وجلّ: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ أي
أرسلها وسلَّطها. والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار.
وفي قوله عزّ وجلّ: حُسُوماً ثلاثة أقوال «1» : أحدها: تباعاً،
قاله ابن عباس. قال الفراء:
الحسوم: التِّباع، يقال في الشيء إذا تتابع فلم ينقطع أوله عن
آخره: حسوم. وإِنما أُخِذَ- والله أعلم- من حَسْمِ الدَّاءِ:
إذا كُوي صاحبُه، لأنه يحمى ثم يكوى، ثم يتابع الكي عليه.
والثاني: كاملة، قاله الضحاك. فيكون المعنى: أنها حسمت الليالي
والأيام فاستوفتها على الكمال، لأنها ظهرت مع طلوع الشمس،
وذهبت مع غروبها. قال مقاتل: هاجت الريح غُدْوَةً، وسكنت
بالعَشِيِّ في اليوم الثامن، وقبضت أرواحهم في ذلك اليوم، ثم
بعث الله طيراً أسود فالتقطهم حتى ألقاهم في البحر. والثالث:
أنها حسمتهم، فلم تبق منهم أحداً، أي: أذهبتهم وأفنتهم، هذا
قول ابن زيد، قال الزّجّاج: وهذا هو الذي توجبه اللغة.
قوله عزّ وجلّ: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها أي: في تلك الليالي
والأيام صَرْعى وهو جمع صريع، لأنهم صرعوا بموتهم كَأَنَّهُمْ
أَعْجازُ نَخْلٍ أي: أصول نخل خاوِيَةٍ أي: بالية. وقد
بيَّنَّا هذا في سورة القمر «2» .
قوله عزّ وجلّ: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ فيه ثلاثة
أقوال: أحدها: من بقاءٍ، قاله الفراء. والثاني:
من بقية، قاله أبو عبيدة. قال: وهو مصدر كالطاغية. والثالث: هل
ترى لهم من أثر؟ قاله ابن قتيبة، قوله: وَجاءَ فِرْعَوْنُ
وَمَنْ قَبْلَهُ قرأ أبو عمرو، ويعقوب، والكسائي، وأبان: بكسر
القاف، وفتح الباء.
والباقون: بفتح القاف، وإسكان الباء. فمن كسر القاف أراد به:
من يليه ويَحفّ به من جنوده وأتباعه.
ومن فتحها أراد من كان قبله من الأمم الكافرة. وفي «المؤتفكات»
ثلاثة أقوال: أحدها: قرى قوم لوط.
والمعنى: وأهل المؤتفكات، قاله الأكثرون. والثاني: أنهم الذين
ائتفكوا بذنوبهم، أي: هلكوا بالذّنوب التي أعظمها الإفك، وهو
الكذب، قاله الزجاج. والثالث: أنه قارون وقومه، حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: بِالْخاطِئَةِ قال ابن قتيبة: أي: بالذنوب،
وقال الزجاج: الخاطئة: الخطأ العظيم فَعَصَوْا رَسُولَ
رَبِّهِمْ أي: كذَّبوا رسلهم فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً
أي: زائدة على الأخذات، قوله: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي:
تجاوز حدَّه حتى علا على كل شيء في زمن نوح حَمَلْناكُمْ يعني:
حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم فِي الْجارِيَةِ وهي: السفينة
التي تجري في الماء لِنَجْعَلَها
أي: لنجعل تلك الفَعْلةَ التي فعلنا من إغراق قوم نوح، ونجاة
من حملنا معه تَذْكِرَةً
أي: عبرةً، وموعظةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
أي
__________
(1) قال الزمخشري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 602- 603: قوله
تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ
حُسُوماً. والصرصر: الشديدة الصوت لها صرصرة. وقيل الباردة من
الصرّ، كأنها التي كرر فيها البرد وكثر: فهي تحرق لشدة بردها
عاتِيَةٍ شديدة العصف والعتو استعارة، أو عتت على عاد، فما
قدروا على ردّها بحيلة، من استتار ببناء، أو لياذ بجبل، أو
اختفاء في حفرة. فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم والحسوم
لا يخلو من أن يكون حاسم كشهود وقعود أو مصدرا كالشكور
والكفور، فإن كان جمعا فمعنى قوله: حُسُوماً نحسات حسمت كل خير
واستأصلت كل بركة، أو متتابعة هبوب الرياح: ما خفتت ساعة حتى
أتت عليهم تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي
على الداء.
وتحسم حسوما: تستأصل استئصالا.
(2) القمر: 20.
(4/329)
فَإِذَا نُفِخَ فِي
الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ
وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ
يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
(17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ
(18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ
هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي
مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ
الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ
(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا
كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ
ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ
لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى
طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا
حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا
يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
أذن واعية أي أُذُنٌ تحفظُ ما سمعَتْ،
وتعمل به. وقال الفراء: لتحفظها كل أُذُن، فتكون عظة لمن يأتي
بعده.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 37]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ
الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ
السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمانِيَةٌ (17)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ
اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ
حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ
عالِيَةٍ (22)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ
أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا
لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27)
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ
(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ
(32)
إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا
يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ
غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ
وفيها قولان: أحدهما: أنها النفخة الأولى، قاله عطاء. والثاني:
الأخيرة، قاله ابن السّائب، ومقاتل. قوله: وَحُمِلَتِ
الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي: حملت الأرض والجبال وما فيها
فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً أي: كسرتا، ودقَّتا دقَّةً واحدة،
لا يثنى عليها حتى تستوي بما عليها من شيءٍ، فتصير كالأديم
الممدود. وقد أشرنا إلى هذا المعنى في الأعراف عند قوله عزّ
وجلّ:
جَعَلَهُ دَكًّا «1» . قال الفراء: وإنما قال: فدكتا، ولم
يَقُل: فَدُكِكْنَ، لأنه جعل الجبال كالشيء الواحد، كقوله عزّ
وجلّ: أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً «2»
وانشدوا:
هُمَا سَيِّدَانَا يَزْعُمانِ وَإنَّما ... يَسُودَانِنَا أَنْ
يَسَّرَتْ غَنَماهُما «3»
والعرب تقول: قد يسرت الغنم: إذا ولدت، أو تهيّأت للولادة.
قوله عزّ وجلّ: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي: قامت
القيامة وَانْشَقَّتِ السَّماءُ لنزول من فيها من الملائكة
فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ فيه قولان: أحدهما: أن وَهْيَها:
ضَعْفُها وتمزُّقْها من الخوف، قاله مقاتل.
والثاني: أنه تشققها، قاله الفراء: وَالْمَلَكُ يعني:
الملائكة، فهو اسم جنس عَلى أَرْجائِها أي: على جوانبها. قال
الزجاج: ورجاء كل شيء: ناحيته، مقصور. والتثنية: رجوان،
والجمع: أرجاء. وأكثر المفسرين على أن المشار إليها السماء.
قال الضحاك: إذا انشقت السماء كانت الملائكة على حافتها حتى
يأمرهم الله تعالى، فينزلون إلى الأرض، فيحيطون بها، ومن
عليها. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: على أرجاء الدنيا.
قوله عز وجل: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ فيه ثلاثة
أقوال «4» : أحدها: فوق رؤوسهم، أي: العرش
__________
(1) الأعراف: 143.
(2) الأنبياء: 30.
(3) البيت لأبي أسيدة الدبيري، كما في «اللسان» يسبر-.
(4) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 489: أي يوم
القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة ويحتمل أن يكون المراد
بهذا العرش، العرش العظيم، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم
القيامة لفصل القضاء، والله أعلم بالصواب اه.
(4/330)
على رؤوس الحَمَلة، قاله مقاتل. والثاني:
فوق الذين على أرجائها، أي: أن حملة العرش فوق الملائكة الذين
هم على أرجائها. والثالث: أنهم فوق أهل القيامة، حكاهما
الماوردي، يَوْمَئِذٍ أي:
يوم القيامة ثَمانِيَةٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ثمانية أملاك.
(1483) وجاء في الحديث أنهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة
أمدهم الله بأربعة أملاك آخرين، وهذا قول الجمهور.
والثاني: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدّتهم إلا الله عزّ
وجلّ، قاله ابن عباس، وابن جبير، وعكرمة. والثالث: ثمانية
أجزاء من الكروبيين لا يعلم عددهم إلا الله عزّ وجلّ، قاله
مقاتل.
(1484) وقد روى أبو داود في «سننه» من حديث جابر بن عبد الله
عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أُذِنَ لي أن
أُحَدِّثَ عن مَلَك من ملائكة الله من حملة العرش، أن ما بين
شحمة أُذُنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» .
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ على الله لحسابكم لا
تَخْفى عليه. قرأ حمزة، والكسائي: «لا يخفى» بالياء. وقرأ
الباقون بالتاء. والمعنى: لا يخفى عليه مِنْكُمْ خافِيَةٌ أي:
نفس خافية، أو فَعْلَة خافية.
(1485) وفي حديث أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه
قال: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال،
ومعاذير، وأما الثالثة، فعندها تتطاير الصحف في الأيدي، فآخذ
بيمينه، وآخذ بشماله، وكان عمر بن الخطاب يقول: حاسبوا أنفسكم
قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض
الأكبر، يومئذ لا تخفى منكم خافية. قوله: فَيَقُولُ هاؤُمُ قال
الزّجّاج: «هاؤم» أمر للجماعة بمنزلة هاكم. تقول للواحد: ها يا
رجل، وللاثنين: هاؤما يا رجلان. وللثلاثة: هاؤم يا رجال. قال
المفسرون: إنما يقول هذا ثقة بسلامته وسروراً بنجاته. وذكر
مقاتل أنها نزلت في أبي
__________
ضعيف. أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» 148 والطبري 34793 من طريق
محمد بن إسحاق قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
... فذكره. وهذا معضل. وأخرجه البيهقي في «البعث والنشور» 669
والطبراني في «المطوّلات» 360 من حديث أبي هريرة في أثناء حديث
الصور الطويل. وفي إسناده إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، قال ابن
عدي: أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة
الضعفاء اه.
حسن. أخرجه أبو داود 4727 وابن طهمان في «مشيخته» 238/ 2 من
حديث جابر، وإسناده حسن لأجل إبراهيم بن طهمان، فهو وإن روى له
البخاري ومسلم، فقد تكلم فيه غير واحد. لكن لأصله شواهد.
انظر «الصحيحة» 151.
ضعيف. أخرجه أحمد 4/ 414 وابن ماجة 4277 والطبري 34795 عن
الحسن عن أبي موسى، وإسناده ضعيف لانقطاعه بينهما، وأخرجه
الترمذي 2425 عن الحسن عن أبي هريرة، وهذا منقطع أيضا، الحسن
لم يسمع من أبي هريرة شيئا. وورد عن قتادة مرسلا. أخرجه الطبري
34797، وهذا ضعيف أيضا، فإن عامة مراسيل قتادة إنما هي عن
الحسن، فالحديث مداره على الحسن، ولم تتعدد مخارجه، فهو ضعيف
والراجح فيه الوقف، والله أعلم. وقد أخرجه الطبري وغيره من قول
ابن مسعود غير مرفوع، وهو أصح والله أعلم.
وانظر «تفسير الشوكاني» 2580 بتخريجنا.
(4/331)
سلمة بن عبد الأسد «1» .
قوله عزّ وجلّ: إِنِّي ظَنَنْتُ أي: علمت وأيقنت في الدنيا
أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي: أبعث، وأحاسب في الآخرة فَهُوَ
فِي عِيشَةٍ أي: في حالة من العيش راضِيَةٍ قال الفراء: أي:
فيها الرضى.
وقال الزجاج: أي: ذات رضىً يرضاها من يعيش فيها. وقال أبو
عبيدة: مجازها مجاز مرضيّة، قوله:
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أي: عالية المنازل قُطُوفُها أي: ثمارها
دانِيَةٌ أي: قريبة ممن يتناولها، وهي جمع قطف. والقطف: ما
يقطف من الثمار. قال البراء بن عازب: يتناول الرجل الثمرة وهو
نائم.
قوله عزّ وجلّ: كُلُوا أي: يقال لهم: كلوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ أي: قَدَّمتم من الأعمال الصالحة
فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ الماضية، وهي أيام الدنيا.
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ قال مقاتل: نزلت في
الأسود بن عبد الأسد، قتله حمزة ببدر، وهو أخو أبي سلمة. وقيل:
نزلت في أبي جهل «2» .
قوله عزّ وجلّ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وذلك لما
يرى فيه من القبائح وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ لأنه لا حاصل
له في ذلك الحساب، إنما كلُّه عليه. وكان ابن مسعود، وقتادة،
ويعقوب، يحذفون الهاء من «كتابيه» ، و «حسابيه» في الوصل. قال
الزّجّاج: والوجه أن يوقف على هذه الهاءات، ولا توصل، لأنها
أدخلت للوقف. وقد حذفها قوم في الأصل، ولا أُحبُّ مخالفة
المصحف، وكذلك قوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ «3» .
قوله عزّ وجلّ: يا لَيْتَها يعني: الموتة التي ماتها في الدنيا
كانَتِ الْقاضِيَةَ أي: القاطعة للحياة، فكأنه تمنَّى دوام
الموت، وأنه لم يُبْعَثْ للحساب.
قوله هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ فيه قولان: أحدهما: ضلَّت عني
حجتي، قاله مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والسدي. والثاني: زال عني
ملكي، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: خُذُوهُ أي: يقول الله تعالى: خُذُوهُ
فَغُلُّوهُ أي: اجمعوا يده إلى عنقه ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ
أي: أدخلوه النار. وقال الزجاج: اجعلوه يصلى النّار. قوله:
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ وهي: حَلَقٌ منتظمة ذَرْعُها سَبْعُونَ
ذِراعاً وقال ابن عباس: بذراع المَلَك. وقال نوفٌ الشامي: كل
ذراع سبعون باعاً، الباع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان في رحبة
الكوفة. وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعاً. وقال مقاتل: ذرعها
سبعون ذراعاً بالذراع الأول. ويقال: إن جميع أهل النار في تلك
السلسلة.
قوله عزّ وجلّ: فَاسْلُكُوهُ أي: أدخلوه. قال الفراء: وذكر
أنها تدخل في دبر الكافر فتخرج من رأسه، فذلك سلكه فيها.
والمعنى: ثم اسلكوا فيه السلسلة، ولكن العرب تقول: أدخلت رأسي
في القلنسوة، وأدخلتها في رأسي. ويقال: الخاتم لا يدخل في يدي،
وإنما اليد تدخل في الخاتم، وإنما استجازوا ذلك، لأن معناه
معروف.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ
أي: لا يصدّق بوحدانيته وعظمته
__________
(1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، ليس بشيء. [.....]
(2) الصحيح عموم الآية في كل من يؤتى كتابه بشماله.
(3) القارعة: 10.
(4/332)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا
تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا
مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا
تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا
مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ
لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
(52)
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي:
لا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا
حَمِيمٌ أي: قريب ينفعه، أي: يشفع له وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ
غِسْلِينٍ في ثلاثة أقوال: أحدها: أنه صديد أهل النار، قاله
ابن عباس. قال مقاتل: إِذا سال القيح، والدم، بادروا أكله قبل
أن تأكله النار. والثاني: شجر يأكله أهل النار، قاله الضحاك،
والربيع. والثالث: أنه غُسَالَةُ أجوافهم، قاله يحيى بن سلام.
قال ابن قتيبة: وهو «فعلين» من «غسلت» كأنه غسالة.
قوله عزّ وجلّ: إِلَّا الْخاطِؤُنَ يعني: الكافرين.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 43]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ
شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ
قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)
قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ «لا» ردٌّ لكلام المشركين، كأنه
قيل: ليس الأمر كما يقول المشركون أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ
(38) وَما لا تُبْصِرُونَ وقال قوم: «لا» زائدة مؤكدة والمعنى:
أقسم بما ترون، وما لا ترون، فأراد جميع الموجودات. وقيل:
الأجسام والأرواح إِنَّهُ يعني: القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ فيه قولان: أحدهما: محمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله
الأكثرون. والثاني: جبريل، قاله ابن السائب، ومقاتل.
قال ابن قتيبة: لم يرد أنه قول الرسول، وإِنما أراد أنه قول
الرسول عن الله تعالى، وفي الرسول ما يدل على ذلك، فاكتفى به
من أن يقول عن الله، قوله: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا
ما تُؤْمِنُونَ وقرأ ابن كثير:
«يؤمنون» و «يَذَكَّرون» بالياء فيهما. قال الزجاج: «ما»
مؤكدة، وهي لغو في باب الإعراب. والمعنى: قليلاً تؤمنون. وقال
غيره: أراد نفي إيمانهم أصلاً. وقد بيَّنَّا معنى «الكاهن» في
الطور «1» قال الزجاج: وقوله عزّ وجلّ: «تنزيل» مرفوع ب «هو»
مضمرة يدل عليها قوله عزّ وجلّ: «وما هو بقول شاعر» هو تنزيل.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 44 الى 52]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ
الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ
(47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ
لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
(52)
قوله عزّ وجلّ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا أي: لو تكلَّف محمد
أن يقول علينا ما لم نقله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي:
لأخذناه بالقوة والقدرة، قاله الفراء، والمبرد، والزجاج. قال
ابن قتيبة: إنما أقام اليمين مقام القوة، لأن قوة كل شيء في
ميامنه.
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ وهو عرق
يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، فإذا انقطع بطلت القوى، ومات
صاحبه. قال أبو عبيدة: الوتين: نياط القلب، وأنشد الشَّمَّاخ:
إِذَا بَلَّغْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... عَرَابَةَ
فَاشْرَقِي بِدَمِ الوَتينِ
وقال الزجاج: الوتين: عرق أبيض غليظ كأنه قصبة.
قوله عزّ وجلّ: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ
أي: ليس منكم أحد يحجزنا عنه، وإنما قال تعالى: حاجِزِينَ لأن
أحداً يقع على الجمع، كقوله عزّ وجلّ: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «2» ،
__________
(1) الطور: 29.
(2) البقرة: 285.
(4/333)
هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، والزجاج.
ومعنى الكلام: لا يتكلَّف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلَّف
ذلك لعاقبناه، ثم لم يقدر على دفع عقوبتنا عنه وَإِنَّهُ يعني:
القرآن لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ في يوم القيامة. يندمون
إذا لم يؤمنوا به وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ إضافة إلى نفسه
لاختلاف اللفظين، كقوله عزّ وجلّ: وَلَدارُ الْآخِرَةِ «1» .
وقال الزجاج: المعنى: وإنه لليقين حق اليقين، وقد شرحنا هذا
المعنى، وما بعدها في الواقعة «2» .
__________
(1) يوسف: 109.
(2) الواقعة: 95- 96.
(4/334)
سَأَلَ سَائِلٌ
بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ
وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ
يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ
تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ
كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ
عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ
(12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا
لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ
وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
سورة المعارج
ويقال لها: سورة سأل سائل، ويقال لها: سورة الواقع. وهي مكّيّة
كلّها بإجماعهم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ
دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً
(6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ
كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ
الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ
(11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي
تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ
(14)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا
مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
قوله عزّ وجلّ: سَأَلَ سائِلٌ، قال المفسرون:
(1486) نزلت في النضر بن الحارث حين قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ
هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً
مِنَ السَّماءِ «1» ، وهذا مذهب الجمهور، منهم ابن عباس،
ومجاهد. وقال الربيع بن أنس: هو أبو جهل. قرأ أبو جعفر، ونافع،
وابن عامر: «سال» بغير همز. والباقون: بالهمز. فمن قرأ:
«سأل» بالهمز ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: دَعَا دَاعٍ على نفسه
بعذابٍ واقعٍ. والثاني: سأل سائل عن عذابٍ واقعٍ لمن هو؟ وعلى
من يَنْزِل؟ ومتى يكون؟ وذلك على سبيل الاستهزاء، فتكون الباء
بمعنى «عن» ، وأنشدوا:
فَإنْ تَسْأَلُوني بالنّساء فإنّني ... خبير بأدواء النّساء
طبيب «2»
__________
حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 640 عن ابن عباس وإسناده على
شرط البخاري، فيه المنهال صدوق ربما وهم وقد أخرجه له البخاري.
وأخرجه الحاكم 2/ 502 عن الأعمش عن سعيد بن جبير قوله، وقال:
صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورمز له الذهبي في «التلخيص»
أنه على شرط البخاري وزاد السيوطي نسبته في «الدر» 6/ 415
للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.
وتقدم في الأنفال.
__________
(1) الأنفال: 32.
(2) البيت لعلقمة بن عبدة، وهو في ديوانه 11 و «أدب الكاتب»
505.
(4/335)
والثالث: سأل سائل عذاباً واقعاً، والباء
زائدة.
ومن قرأ بلا همز ففيه قولان: أحدهما: أنه من السؤال أيضاً،
وإنما لَيَّن الهمزة، يقال: سأل، وسال، وأنشد الفراء:
تَعَالَوْا فَسَالُوا يَعْلمِ النَّاسُ أَيُّنَا ...
لِصَاحِبِهِ في أَوَّلِ الدَّهْرِ نافع
والثاني: المعنى: سال وادٍ في جهنم بالعذاب للكافرين، وهذا قول
زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن. وكان ابن عباس
في آخرين يقرءون «سَالَ سَيْلٌ» بفتح السين، وسكون الياء من
غير ألف ولا همز. وإذا قلنا: إنه من السؤال، فقوله عزّ وجلّ:
«للكافرين» جواب للسؤال، كأنه لما سأل: لمن هذا العذاب؟ قيل:
للكافرين. والواقع: الكائن. والمعنى: أنّ العذاب الذي سأله هذا
الكافر كائن لا محالة في الآخرة لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ
دافِعٌ قال الزجاج: المعنى: ذلك العذاب واقع من الله للكافرين.
قوله عزّ وجلّ: ذِي الْمَعارِجِ فيه قولان: أحدهما: أنها
السموات، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: هي معارج الملائكة. قال
ابن قتيبة: وأصل «المعارج» الدَّرَج، وهي من عَرَجَ: إِذا
صَعِدَ. قال الفراء: لما كانت الملائكة تَعْرُج إليه، وصف نفسه
بذلك. قال الخطابي: المعارج: الدَّرَج، واحدها:
مَعْرَجٌ، وهو المَصْعَدُ، فهو الذي يُصْعَدُ إِليه بأعمال
العباد، وبأرواح المؤمنين. فالمعارج: الطّرائق أي يُصْعَدُ
فيها. والثاني: أن المَعَارِجَ: الفَوَاضِلُ والنِّعم، قاله
قتادة.
قوله عزّ وجلّ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ قرأ الكسائي: «يَعْرُج»
بالياء. والروحُ وفي «الرّوح» قولان:
أحدهما: أنه جبريل، قاله الأكثرون. والثاني: أنه روُح الميِّت
حين تُقْبَضُ، قاله قبيصة بن ذؤيب.
قوله عزّ وجلّ: إِلَيْهِ أي: إلى الله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فيه قولان:
أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة،
والقرظي، وهذا هو مقدار يوم القيامة من وقت البعث إِلى أن يفصل
بين الخلق.
(1487) وفي الحديث: «إنه لَيُخفَّفُ على المؤمِن حتى يكون
أَخَفَّ عليه من صلاة مكتوبة» .
وقيل: بل لو ولي حساب الخلق سوى الله عزّ وجلّ لم يفرغ منه في
خمسين ألف سنة، والحقُّ يفرغ منه في ساعة من نهار. وقال عطاء:
يفرغ الله من حساب الخلق في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا.
فعلى هذا يكون المعنى: ليس له دافع من الله في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة. وقيل: المعنى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ
في يوم كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فعلى هذا
يكون في الكلام تقديم وتأخير.
والثاني: أنه مقدار صعود الملائكة من أسفل الأرض إلى العرش لو
صعده غيرهم قطعه في
__________
حسن بشاهده ورد من حديث أبي سعيد. أخرجه أحمد 3/ 75 وأبو يعلى
1390 من طريق الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج به وإسناده
ضعيف، ابن لهيعة ودراج ضعيفان. وأخرجه الطبري 34867 وابن حبان
7334 من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن درّاج به، وقد توبع
ابن لهيعة هاهنا فانحصرت العلة في دراج. وله شاهد من حديث أبي
هريرة: أخرجه ابن حبان 7333 وأبو يعلى 6025 وإسناده على شرط
البخاري ومسلم، وهو صحيح إن كان سمعه يحيى بن أبي كثير من أبي
سلمة، فهو وإن روى عنه، فإنه كثير الإرسال أيضا، وبكل حال
الحديث حسن.
(4/336)
خمسين ألف سنة، وهذا معنى قول مجاهد.
قوله عزّ وجلّ: فَاصْبِرْ أي: اصبر على تكذيبهم إياك صَبْراً
جَمِيلًا لا جزع فيه، وهذا قبل أن يُؤْمَرَ بقتالهم، ثم نسخ
بآية السيف، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ يعني: العذاب بَعِيداً غير
كائن وَنَراهُ قَرِيباً كائناً، لأن كل ما هو آتٍ قريب. ثم
أخبر متى يكون فقال عزّ وجلّ: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ
كَالْمُهْلِ وقد شرحناه في الكهف «1» وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ أي: كالصوف، فَشَبَّهها في ضَعْفها ولِينِها
بالصوف. وقيل: شبَّهها به في خِفَّتِها وسَيْرِها، لأنه قد نقل
أنها تسير على صورها، وهي كالهباء. قال الزجاج: «العهن» الصوف.
واحدته: عِهْنَةٌ، ويقال: عُهْنَةٌ، وعُهْنٌ، مثل: صُوفَةٍ،
وصُوفٍ. وقال ابن قتيبة: «العِهْنُ» الصّوف المصبوغ.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) قرأ
الأكثرون: «يسأل» بفتح الياء. والمعنى: لا يسأل قريب عن
قرابته، لاشتغاله بنفسه. وقال مقاتل: لا يسأل الرجل عن قرابته،
ولا يكلِّمه من شدة الأهوال. وقرأ معاوية، وأبو رزين، والحسن،
وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن، وابن أبي عبلة،
وأبو جعفر بضم الياء. والمعنى: لا يقال للحميم: أين حميمك؟
قوله عزّ وجلّ: يُبَصَّرُونَهُمْ أي: يُعَرَّفُ الحميم حميمَه
حتى يَعْرِفَه، وهو مع ذلك لا يسأل عن شأنه، ولا يكلِّمه
اشتغالاً بنفسه. يقال: بَصَّرْتُ زيداً كذا: إذا عَرَّفْتَهُ
إيَّاه. قال ابن قتيبة: معنى الآية: لا يَسْأَلُ ذو قرابة عن
قرابته، ولكنهم يُبَصَّرُونَهم، أي: يُعَرَّفُونَهم. وقرأ
قتادة، وأبو المتوكل، وأبو عمران «يُبْصِرُونَهم» بإسكان
الباء، وتخفيف الصاد، وكسرها.
قوله عزّ وجلّ: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ يعني: يتمنَّى المشرك لو
قُبِلَ منه هذا الفداءُ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)
وَصاحِبَتِهِ وهي الزوجة وَفَصِيلَتِهِ قال ابن قتيبة: أي:
عشيرته. وقال الزجاج: هي أدنى قبيلته منه.
ومعنى تُؤْوِيهِ تضمه، فيودُّ أن يفتديَ بهذه المذكورات ثُمَّ
يُنْجِيهِ من ذلك الفداء كَلَّا لا ينجيه ذلك إِنَّها لَظى قال
الفراء هو اسم من أسماء جهنّم فلذلك لم يجر لها ذكر «2» ، وقال
غيره: معناها في اللغة: اللهب الخالص، وقال ابن الأنباري: سميت
لظى لشدة تَوَقُّدِها وتلهُّبِها، يقال: هو يتلظَّى، أي:
يتلهَّب ويتوقَّد. وكذلك النار تتلظّى يراد به هذا المعنى.
وأنشدوا:
جَحِيماً تَلَظَّى لا تَفْتَّرُ سَاعَةً ... ولا الحَرُّ
مِنْها غَابِرَ الدَّهْرِ يَبْرُدُ
نَزَّاعَةً لِلشَّوى قرأ الجمهور «نَزَّاعةٌ للشوى» بالرفع على
معنى: هي نزَّاعة. وقرأ عمر بن الخطّاب، وأبو رزين، وابن عبد
الرحمن، ومجاهد، وعكرمة، وابن أبي عبلة، وحفص عن عاصم
«نَزَّاعةً» بالنصب. قال الزجاج: وهذا على أنها حال مؤكدة، كما
قال تعالى: هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً ويجوز أن ينصب على معنى
«إنها تتلظى نزاعة» . وفي المراد ب الشَّوى أربعة أقوال:
أحدها: جلدة الرأس، قاله مجاهد. والثاني: محاسن الوجه، قاله
الحسن، وأبو العالية. والثالث: العصب، والعقب، قاله ابن جبير.
والرابع: الأطراف: اليدان، والرّجلان، والرأس، قاله الفرّاء،
والزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ عن الإيمان وَتَوَلَّى
عن الحق. قال المفسّرون: تقول: إليّ يا
__________
(1) الكهف: 29.
(2) فاطر: 31.
(4/337)
إِنَّ الْإِنْسَانَ
خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20)
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ
(22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ
بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ
مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
(29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)
أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ
كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا
خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ
الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى
أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
(41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ
الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ
(43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ
الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
مشرك، إِليّ يا منافق وَجَمَعَ فَأَوْعى
قال الفراء: أي جمع المال في وعاءٍ فلم يؤدِّ منه زكاةً، ولم
يصل منه رحماً.
[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 44]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ
جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ
الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ
(23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ
بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ
مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ
فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ
بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ
فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا
قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ
عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ
جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا
أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا
لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما
نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا
حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ
يُوفِضُونَ (43)
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ
الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً قال مقاتل:
عنى به أُميَّة بن خلف الجُمَحي «1» . وفي الهَلوع سبعة أقوال:
أحدها: أنه الموصوف بما يلي هذه الآية، رواه عطية عن ابن عباس،
وبه قال أبو عبيدة، والزجاج. والثاني: أنه الحريص على ما لا
يحلُّ له، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث:
البخيل، قاله الحسن، والضحاك. والرابع: الشحيح، قاله ابن جبير.
والخامس: الشَّرِه، قاله مجاهد.
والسادس: الضَّجُور، قاله عكرمه، وقتادة، ومقاتل، والفراء.
والسابع: الشديد الجزع، قاله ابن قتيبة.
قوله عزّ وجلّ: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي: إذا أصابه الفقر
جَزُوعاً لا يصبر، ولا يحتسب وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ أصابه
المال مَنُوعاً يمنعه من حق الله إِلَّا الْمُصَلِّينَ وهم أهل
الإيمان بالله. وإنما استثنى الجمع من الإنسان، لأنه اسم جنس
الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وفيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الذين يحافظون على المكتوبات، وهو معنى قول ابن
مسعود. والثاني: أنهم لا يلتفتون عن أيمانهم وشمائلهم في
الصلاة، قاله عقبة بن عامر، واختاره الزجاج. قال: ويكون
اشتقاقه من الدائم، وهو الساكن، كما جاء في الحديث أنه:
__________
(1) الصحيح عموم الآية، ولفظ «آل» في «الإنسان» لاستغراق
الجنس. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 18/ 251: قوله
تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً يعني الكافر، عن
الضحاك، والهلع في اللغة: أشد الحرص، وأسوأ الجزع وأفحشه
والمعنى: أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما ما لا
ينبغي. وقال صلّى الله عليه وسلم: «شرّ ما أعطي العبد شحّ هالع
وجبن خالع» اه. قلت: حسن. أخرجه أبو داود 2511 والبخاري في
«التاريخ» 6/ 8- 9 وابن حبان 3250 وأبو نعيم 9/ 50 وأحمد 2/
302 و 320 من حديث أبي هريرة وإسناده حسن فيه عبد العزيز بن
مروان، وهو صدوق، والحديث جوّده العراقي في «الإحياء» 3/ 253.
(4/338)
(1488) نهى عن البول في الماء الدائم.
والثالث: أنهم الذين يكثرون فعل التطوع، قاله ابن جبير.
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ قد سبق شرح هذه
الآية والتي بعدها في الذاريات «1» وبينا معنى «يوم الدين» في
«الفاتحة» . وما بعد هذا قد شرحناه في المؤمنين «2» إلى قوله
عزّ وجلّ: «لأماناتهم» قرأ ابن كثير وحده: «لأمانتهم»
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قرأ ابن كثير، ونافع وأبو
عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «بشهادتهم» على
التوحيد. وقرأ حفص عن عاصم: «بشهاداتهم» جمعا، قائِمُونَ أي:
يقيمون فيها بالحق ولا يكتمونها، فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا
قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ.
(1489) نزلت في جماعة من الكفار جلسوا حول رسول الله صلّى الله
عليه وسلم يستهزئون بالقرآن، ويكذِّبون به. قال الزجاج:
والمُهْطِع: المُقْبِلُ ببَصَره على الشيء لا يُزَايِلُه،
وكانوا ينظرون إلى النبيّ نظرة عداوة.
وقد سبق الخلاف في قوله تعالى: مُهْطِعِينَ «3» .
قوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ. قال الفرّاء:
العزون: الحلق، الخلق الجماعات، واحدتها:
عِزَةٌ.
(1490) وكانوا يجتمعون حول النبي صلّى الله عليه وسلم يقولون:
لئن دخل هؤلاء الجنة، كما يقول محمد، فلندخلنَّها قبلهم، فنزل
قوله تعالى: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ
جَنَّةَ نَعِيمٍ وقرأ ابن مسعود، والحسن، وطلحة بن مصرف،
والأعمش، والمفضل عن عاصم «أن يَدْخُلَ» بفتح الياء، وضم
الخاء.
وقال أبو عبيدة: عِزِين جمع عِزَة، مثل ثُبَة، وثُبِين، فهي
جماعات في تفرقة.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: لا يكون ذلك إِنَّا خَلَقْناهُمْ
مِمَّا يَعْلَمُونَ فيه قولان:
أحدهما: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، فالمعنى: لا يستوجب
الجنة أحد بما يَدَّعيه من الشرف على غيره، إذ الأصل واحد،
وإِنما يستوجبها بالطاعة.
والثاني: إنا خلقناهم من أقذار. فبما يستحقون الجنة ولم
يؤمنوا؟! (1491) وقد روى بشر بن جحّاش عن النبيّ صلّى الله
عليه وسلم «أنه تلا هذه الآية إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا
يَعْلَمُونَ ثم
__________
صحيح. أخرجه البخاري 239 ومسلم 282 وأبو داود 69 والترمذي 68
والنسائي 1/ 49 وأحمد 2/ 346 من حديث أبي هريرة. وانظر «فتح
القدير» 1/ 83 للكمال ابن الهمام بتخريجي.
صحيح. أخرجه البخاري 239 ومسلم 282 وأبو داود 69 والترمذي 68
والنسائي 1/ 49 وأحمد 2/ 346 من حديث أبي هريرة. وانظر «فتح
القدير» 1/ 83 للكمال ابن الهمام بتخريجي.
انظر الحديث الآتي.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 840 بدون سند، ولم يعزه لأحد
إنما ذكره نقلا عن المفسرين، فهو واه، ليس بشيء.
ضعيف، أخرجه البيهقي في «الشعب» 3473 عن جعفر بن محمد الفريابي
ثنا صفوان ثنا الوليد بن مسلم، ثنا جرير بن عثمان الرحبي عن
عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بشر بن جحاش قال: «قال
النبي صلّى الله عليه وسلم وبصق يوما ... فذكره» رجاله ثقات
سوى عبد الرحمن بن ميسرة، فقد وثقه العجلي وابن حبان على
قاعدتهما في توثيق المجاهيل، وقال علي المديني: مجهول، والقول
قول ابن المديني، فإنه إمام هذا الشأن.
قلت: ولفظ «بصق في كفه» غريب، بل هو منكر، وراويه لا يحتمل
التفرد بمثل هذا. وأخرجه ابن ماجة-
__________
(1) الذاريات: 19.
(2) المؤمنون: 7- 8.
(3) إبراهيم: 43، والقمر: 8. [.....]
(4/339)
بزق، وقال: يقول الله عزّ وجلّ: أنَّى
تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه؟! حتى إذا سَوَّيتُك،
وعَدَّلتُك، مَشَيْتَ بين بُرْدَيْنِ، وللأرض منك وئيد،
فجمعتَ، ومنعتَ، حتى إذا بلغت التراقي قلت:
أتَصدَّقُ، وأنَّى أوان الصدقة؟!» .
قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ قد تكلمنا عليه في الحاقة «1»
والمراد بالمشارق، والمغارب:
مشرق كل يوم ومغربُه، إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ
نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي: نَخْلُقَ أَمْثَلَ منهم،
وأَطْوَعَ لله حين عَصَوْا وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ مفسر في
الواقعة «2» فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم وَيَلْعَبُوا أي:
يلهوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا وقرأ ابن محيصن «يَلْقَوْا
يومَهم الذي يوعدون» وهو يوم القيامة. وهذا لفظ أمر، معناه
الوعيد. وذكر المفسرون أنه منسوخ بآية السيف. وإذا قلنا: إنه
وعيد بلقاء يوم القيامة، فلا وجه للنسخ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ
مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً أي: يخرجون بسرعة كأنهم
يَسْتَبِقُون.
قوله عزّ وجلّ: كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ قرأ ابن عامر، وحفص عن
عاصم بضمّ النون والصاد. قال ابن جرير: وهو واحد الأنصاب، وهي
آلهتهم التي كانوا يعبدونها. فعلى هذا يكون المعنى: كأنهم إلى
آلهتهم التي كانوا يعبدونها يُسرعون. وقرأ ابن كثير، وعاصم،
ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي بفتح النون وسكون الصاد،
وهي في معنى القراءة الأولى، إلا أنه مصدر. كقول القائل: نصبت
الشيء أنصبه نصباً. قال قتادة: معناه: كأنهم إلى شيء منصوب
يسرعون. وقال ابن جرير: تأويله: كأنهم إِلى صنم منصوب
يُسْرِعُون. وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، والنخعي «نُصْب» برفع
النون، وإسكان الصاد.
وقرأ الحسن، وأبو عثمان النَّهدي، وعاصم الجحدري «إلى نَصَبٍ»
بفتح النون والصاد جميعاً. قال ابن قتيبة: النصب: حجر يُنْصَبُ
أو صنم، يقال: نَصْب، ونُصْب، ونُصُب. وقال الفراء: النَّصْب
والنُّصْبُ واحد، وهو مصدر، والجمع: الأنصاب. وقال الزجاج:
النَّصْب، والنُّصُب: العلم المنصوب. قال الفراء: والإيفاض:
الإسراع.
قوله عزّ وجلّ: تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ قرأ أبو المتوكل، وأبو
الجوزاء، وعمرو بن دينار «ذِلَّةُ ذلك اليومِ» بغير تنوين،
وبخفض الميم. وباقي السّورة قد تقدّم بيانه «3» .
__________
2707 وأحمد 4/ 210 والطبراني 1193 من طرق عن حريز بن عثمان به.
وأخرجه الطبراني 1194 من طريق ثور بن يزيد الرحبي عن عبد
الرحمن بن ميسرة به. وقال البوصيري في «الزوائد» إسناده صحيح؟!
واضطرب الألباني فحسن إسناده في «الصحيحة» 1099 في حين صححه
برقم 1143؟!! وما تمسك به الألباني قول أبي داود: شيوخ حريز
كلهم ثقات، وفيما قاله نظر، فابن المديني نص على الرجل بعينه
في حين عبارة أبي داود عامة، على أن علي المديني أثبت وأعلم في
الرجال من أبي داود، وقاعدة أبي داود فيها نظر، فإن شعبة أثبت
من حريز، وهو مع تعنته في الرجال روى عن ضعفاء ومثل هذا كثير.
__________
(1) الحاقة: 38.
(2) الواقعة: 60.
(3) المعارج: 42.
(4/340)
إِنَّا أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ
إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ
أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (4)
سورة نوح
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ
قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1)
قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ
لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (4)
قوله تعالى: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أي: بأن أنذر قومك. و
«العذاب الأليم» : الغَرَق.
قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن
عامر، والكسائي، وعلي بن نصر عن أبي عمرو «أنُ اعبدوا الله»
بضم النون. وقرأ عاصم، وحمزة، وعبد الوارث عن أبي عمرو «أنِ
اعبدوا الله» ، بكسر النون. قال أبو عليّ: من ضمّ كره الكسرة
قبل الضمّة.
قوله عزّ وجلّ: وَأَطِيعُونِ أثبت الياء في الحالين يعقوب.
قوله عزّ وجلّ: مِنْ ذُنُوبِكُمْ «مِن» هاهنا صلة. والمعنى:
يغفر لكم ذنوبَكم، قاله السدي ومقاتل. وقال الزجاج: إنما دخلت
«من» هاهنا لتختص الذنوب من سائر الأشياء. ولم تدخل لتبعيض
الذنوب، ومثله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1»
وذهب بعض أهل المعاني إلى أنها للتبعيض.
والمعنى يغفر لكم من ذنوبكم إلى وقت الإيمان وَيُؤَخِّرْكُمْ
أي: عن العذاب إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو منتهى آجالهم.
والمعنى: فتموتوا عند منتهى آجالكم غير مِيتة المعذَّبين إِنَّ
أَجَلَ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه أجل الموت،
قاله مجاهد. فيكون المعنى: إن أجل الله الذي أَجَّلكم إِليه لا
يُؤَخَّرُ إذا جاءَ، فلا يمكنكم حينئذ الإيمان. والثاني: أنه
أجل البعث، قاله الحسن. والثالث: أجل
__________
(1) الحج: 30.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 501:
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: يمدّ في أعماركم
ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تنزجروا عما نهاكم عنه أوقعه بكم
وقد يستدل بهذه الآية من يقول: إن الطاعة والبر وصلة الرحم
يزاد بها في العمر حقيقة، كما ورد به الحديث: «صلة الرحم تزيد
في العمر» وقوله: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ
لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة،
فإنه إذا أمر الله تعالى بكون ذلك لا يرد ولا يمانع، فإنه
العظيم الذي قهر كل شيء، العزيز الذي دانت لعزته جميع
المخلوقات.
(4/341)
قَالَ رَبِّ إِنِّي
دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ
لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا
اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ
إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ
كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ
مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ
خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ
اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ
فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ
أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ
فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا
فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي
وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا
خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا
لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا
سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ
أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا
ضَلَالًا (24)
العذاب، قاله السّدّيّ ومقاتل.
[سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 24]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5)
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي
كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ
فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ
جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ
لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10)
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً
(13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً
(15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ
سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً
(17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ
إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ
وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً
(22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا
وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ
أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً
(24)
قوله عزّ وجلّ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أي:
تباعداً من الإيمان وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان
والطاعة جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لئلا يسمعوا صوتي
وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي: غطوا بها وجوههم لئلا يَرَوْني
وَأَصَرُّوا على كفرهم وَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بك
واتِّباعي ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً أي: أعلنت لهم
بالدعاء. قال ابن عباس: بأعلى صوتي ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ
لَهُمْ أي: كرَّرت الدعاء معلناً وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ
إِسْراراً قال ابن عباس: يريد أكلِّم الرجل بعد الرجل. في
السِّرِّ، وأدعوه إلى توحيدك وعبادتك فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ قال المفسرون «1» : منع الله عنهم القطر، وأعقم
أرحام نسائهم أربعين سنة، فقال لهم نوح: اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ من الشرك، أي: استدعوا مغفرته بالتوحيد يُرْسِلِ
السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً قد شرحناه في أول الأنعام «2»
ومعنى الكلام أنه أخبرهم أن الإيمان يجمع لهم خير الدنيا
والآخرة.
قوله عزّ وجلّ: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً فيه
أربعة أقوال: أحدها: لا تَرَوْن لله عظمة، قاله ابن عباس.
والثاني: لا تخافون لله عظمة، قاله الفراء وابن قتيبة.
والثالث: لا تَرَوْن لله طاعة، قاله ابن زيد.
والرابع: لا ترجون عاقبة الإيمان والتوحيد، قاله الزّجّاج.
قوله وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي: وقد جعل لكم في أنفسكم
آيةً تدل على توحيده من خلقه إياكم من نطفة، ثم من علقة شيئاً
بعد شيء إلى آخر الخلق. قال ابن الأنباري: الطَّوْر: الحال،
وجمعه: أطوار.
وقال ابن فارس: الطَّوْر: التارة، طوراً بعد طور، أي: تارةً
بعد تارة. وقيل: أراد بالأطوار: اختلاف
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 501: فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أي ارجعوا
إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب، فإنه من تاب
إليه تاب عليه. ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك،
ولهذا قال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ
غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي:
متواصلة الأمطار. ولهذا يستحب قراءة هذه السورة في صلاة
الاستسقاء، لأجل هذه الآية. وهذا مقام الدعوة بالترغيب.
(2) الأنعام: 6.
(4/342)
المناظر والأخلاق، من طويل، وقصير، وغير
ذلك، ثم قرّرهم، فقال عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ
اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وقرأ ابن مسعود، وابن أبي
عبلة «طباقٍ» بتنوين القاف، وكسرها من غير ألف. وقد بيَّنَّا
هذا في سورة الملك «1» .
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً فيه قولان
«2» : أحدهما: أن وجهَ القمر قِبَل السموات، وظهرَه قِبَل
الأرض، يضيء لأهل السموات، كما يضيء لأهل الأرض، وكذلك الشمس،
هذا قول عبد الله بن عمر. والثاني: أن القمر في السماء الدنيا.
وإنما قيل: «فيهن» لأنهن كالشيء الواحد، ذكره الأخفش والزجاج،
وغيرهما. وهذا كما تقول: أتيت بني تميم، وإنما أتيت بعضهم،
وركبت في السّفن، قوله: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يستضيء بها
العالم وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني: أن مبتدأ
خلقكم من الأرض، وهو آدم نَباتاً قال الخليل: معناه: فنبتُّم
نباتاً، وقال الزجاج: «نباتاً» محمول في المصدر على المعنى،
لأنّ المعنى أنبتكم: جعلكم تنبتون نباتاً. قال ابن قتيبة: هذا
مما جاء فيه المصدر على غير المصدر، لأنه جاء على نبت، ومثله
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «3» فجاء على «بَتَّل» .
قال الشاعر:
وَخَيْرُ الأَمْرِ ما استقبلت منه ... وليس بِأَنْ تَتَبَّعَهُ
اتِّباعاً «4»
فجاء على اتَّبَعْتُ.
وقال الآخر:
وإن شئتم تعاودنا عواداً
فجاء على «عاودنا» ، وإنما تجيء المصادر مخالفة للأفعال، لأن
الأفعال وإن اختلفت أبنيتها، واحدة في المعنى.
قوله عزّ وجلّ: سُبُلًا فِجاجاً قال الفراء: هي الطرق الواسعة.
قوله عزّ وجلّ: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ
وَوَلَدُهُ قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وعاصم «ووَلَده» بفتح
اللام والواو. وقرأ الباقون «وُلْده» بضم الواو، وسكون اللام.
قال الزجاج: وهما بمعنى واحد، مثل العَرَب، والعُرْب،
والعَجَم، والعُجْم. وقرأ الحسن، وأبو العالية، وابن يعمر،
والجحدري:
«وَوِلْده» بكسر الواو، وإسكان اللام. قال المفسرون: المعنى:
أن الأتباع، والفقراء اتّبعوا رأي الرؤساء والكبراء.
__________
(1) الملك: 3.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 502: المقصود أن
الله سبحانه خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ
الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي فاوت
بينهما في الاستنارة، فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة، ليعرف
الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدّر القمر منازل وبروجا
وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى
يستتر، ليدل على مضي الشهور والأعوام. كما قال: هُوَ الَّذِي
جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ
مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما
خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
(3) المزمل: 8.
(4) البيت للقطامي، وهو في ديوانه 35 و «اللسان» - تبع-.
(4/343)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ
عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ
إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا
فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا
(28)
قوله عزّ وجلّ: وَمَكَرُوا مَكْراً
كُبَّاراً وقرأ أبو رجاء، وأبو عمران: «كُبَارا» برفع الكاف،
وتخفيف الباء. وقرأ أبو يعمر، وأبو الجوزاء، وابن محيصن
«كِبَارا» بكسر الكاف مع تخفيف الباء والمعنى «كبيراً» يقال:
كبير وكبار وكبار وقد شرحنا هذا في أول ص. ومعنى «المكر» :
السعي في الفساد: وذلك أن الرؤساء منعوا أتباعهم عن الإيمان
بنوح وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي: لا تَدَعُنَّ
عبادتها وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا قرأ أبو جعفر، ونافع بضم الواو.
والباقون بفتحها. وهذا الاسم وما بعده أسماء آلهتهم.
وجاء في التفسير أن هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم ونوح،
فنشأ قوم بعدهم يأخذون بأخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو
صورتم صُوَرَهُمْ كان أنشط لكم، وأشوق للعبادة، ففعلوا. ثم نشأ
قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم،
فعبدوهم وكان ابتداء عبادة الأوثان من ذلك الوقت. وسمّيت تلك
الصورة بهذه الأسماء، لأنهم صوروها على صور أولئك القوم
المسمّين بهذه الأسماء. وقيل: إنما هي أسماء لأولاد آدم، مات
منهم واحد، فجاء الشيطان فقال: هل لكم أن أصور لكم صورته،
فتذكرونه بها؟ فصورها. ثم مات آخر، فصور لهم صورته، إلى أن صور
صوراً خمسة.
ثم طال الزمان، وتركوا عبادة الله، فقال لهم الشيطان: ما لكم
لا تعبدون شيئا؟ فقالوا: من نعبد؟ قال:
هذه آلهتكم، وآلهة آبائكم، ألا ترونها مصوَّرة في مصلاكم؟!
فعبدوها.
وقال الزجاج: هذه الأصنام كانت لقوم نوح، ثم صارت إِلى العرب،
فكان «ود» لكلب، و «سواع» لهمدان، و «يغوث» لمذحج، و «يعوق»
لكنانة و «نسر» لحمير، وقال مقاتل: إنما كان «سواع» لهذيل و
«يعوق» لهمدان «ويغوث» لبني غطيف، وهم حيّ من بني مراد. وقيل:
لما جاء الطوفان غطى على هذه الأصنام وطمَّها التراب، فلما
ظهرت بعد الطوفان صارت إلى هؤلاء المذكورين، قال الواقدي: كان
«ودّ» على صورة رجل، و «سواع» على صورة امرأة، و «يغوث» على
صورة أسد، و «يعوق» على صورة فرس، و «نسر» على صورة النسر من
الطير.
قوله عزّ وجلّ: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً فيه قولان: أحدهما:
وقد أضلت الأصنام كثيراً من الناس، أي: ضلوا بسببها. والثاني:
وقد أضلَّ الكبراء كثيراً من الناس. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ
يعني: الكافرين إِلَّا ضَلالًا وهذا دعاء من نوح عليهم، لما
أعلمه الله أنهم لا يؤمنون.
[سورة نوح (71) : الآيات 25 الى 28]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ
يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ
نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ
دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ
وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ
إِلاَّ تَباراً (28)
قوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ «ما» : صلة. والمعنى من
خطيئاتهم: أي من أجلها، وسببها وقرأ أبو عمرو «مما خطاياهم»
وقرأ أبو الجوزاء، والجحدري «خطيئتهم» من غير ألف أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا ناراً قال ابن السائب: المعنى: سيدخلون في الآخرة
ناراً، فجاء لفظ الماضي بمعنى الاستقبال، لأن الوعد حق، هذا
قول الأكثرين. وقال الضحاك: فأُدخلوا نارا في الدنيا، وذلك
أنهم كان يغرقون من جانب، ويحترقون في الماء من جانب.
قوله عزّ وجلّ: فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَنْصاراً أي: لم يجدوا أحداً يمنعهم من عذاب الله.
(4/344)
قوله عزّ وجلّ: دَيَّاراً قال ابن قتيبة:
أي: أحداً. يقال: ما بالمنازل دَيَّارٌ، أي: ما بها أحد، وهو
من الدار، أي: ليس بها نازل داراً. وقال الزجاج: أصلها:
«دَيْوار» فَيْعَال، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت إحداهما في
الأخرى. وإِنما دعا عليهم نوح، لأنّ الله عزّ وجلّ أوحى إِليه
أنه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «1» .
قوله عزّ وجلّ: يُضِلُّوا عِبادَكَ وذلك أن الرجل منهم كان
ينطلق بابنه إلى نوح، فيحذِّره تصديقه.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً قال
المفسرون: إن الله تعالى أخبر نوحاً أنهم لا يلدون مؤمناً،
فلذلك علم الفاجر الخارج عن الطاعة.
قوله عزّ وجلّ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ قال الحسن:
وذلك أنهما كانا مؤمنَين. وقرأ أبو بكر الصديق، وسعيد بن
المسيب، وابن جبير، والجحدري، والجوني «ولوالدِي» ساكنة الياء
على التوحيد.
وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وابن يعمر، والزهري، والنخعي
«ولولديّ» من غير ألف على التثنية، قوله: وَلِمَنْ دَخَلَ
بَيْتِيَ وقرا حفص عن عاصم «بيتيَ» بفتح الياء. وفيه ثلاثة
أقوال: أحدها: منزله، قاله ابن عباس. والثاني: مسجده، قاله
الضّحّاك. والثالث: سفينته، حكاه الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ هذا عام في
كل من آمن وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ يعني: الكافرين إِلَّا
تَباراً أي: هلاكا ومنه قوله عزّ وجلّ: تَبَّرْنا تَتْبِيراً
«2» .
__________
(1) هود: 36.
(2) الفرقان: 39.
(4/345)
|