زاد المسير في علم التفسير

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)

سورة الجنّ
كلّها مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)
قوله عزّ وجلّ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ قد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في (الأحقاف) «1» وبَيَّنَّا هنالك سبب استماعهم. ومعنى «النّفر» وعددهم، فأمّا قوله عزّ وجلّ: قُرْآناً عَجَباً فمعناه: بليغاً يعجب منه لبلاغته يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي: يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أي: لن نعدل بربنا أحداً من خلقه. وقيل: عنوا إبليس، أي: لا نطيعه في الشرك بالله.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا اختلف القراء في اثنتي عشرة همزة في هذه السورة، وهي:
«وأنه تعالى» ، «وأنه كان يقول» ، «وأنا ظننا» ، «وأنه كان رجال» ، «وأنهم ظنوا» ، «وأنا لمسنا» ، «وأنا كنا» ، «وأنا لا ندري» ، «وأنا منا» ، «وأنا ظننا أن لن نعجز الله» ، «وأنا لمّا سمعنا» ، «وأنّا منّا» ، ففتح
__________
(1) الأحقاف: 29. [.....]

(4/346)


الهمزة في هذه المواضع ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة مواضع «وأنه تعالى» ، «وأنه كان يقول» ، «وأنه كان رجال» ، وكسر الباقيات. وقرأ الباقون بكسرهن. وقال الزجاج: والذي يختاره النحويون في هذه السورة أن ما كان من الوحي قيل فيه:
«أن» بالفتح، وما كان من قول الجن قيل: «إن» بالكسر، معطوف على قوله عزّ وجلّ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً وعلى هذا يكون المعنى: وقالوا: إنه تعالى جَدُّ ربنا، وقالوا: إنه كان يقول سفيهنا. فأما من فتح، فذكر بعض النحويين: يعني الفراء، أنه معطوف على الهاء في قوله عزّ وجلّ: فَآمَنَّا بِهِ وبأنه تعالى جَدُّ رَبِّنا. وكذلك ما بعد هذا. وهذا رديء في القياس، لا يعطف على الهاء المتمكّنة المخفوضة إلا بإظهار الخافض. ولكن وجهه أن يكون محمولاً على معنى أمنَّا به، فيكون المعنى: وصدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ رَبِّنا.
وللمفسرين في معنى تَعالى جَدُّ رَبِّنا سبعة أقوال: أحدها: قُدْرَةُ رَبِّنا، قاله ابن عباس. والثاني:
غِنى رَبِّنا، قاله الحسن. والثالث: جَلاَلُ رَبِّنا، قاله مجاهد، وعكرمة. والرابع: عَظَمَةُ رَبِّنا، قاله قتادة.
والخامس: أَمْرُ رَبِّنا، قاله السدي. والسادس: ارتفاع ذِكره وعظمته، قاله مقاتل. والسابع: مُلْكُ رَبِّنا وثناؤه وسلطانه، قاله أبو عبيدة.
قوله: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا فيه قولان: أحدهما: أنه إبليس، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: أنه كفارهم، قاله مقاتل. و «الشطط» : الجَوْر، والكذب، وهو: وصفه بالشريك، والولد، ثم قالت الجن:
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وقرأ يعقوب: «أن لن تَقَوَّلَ» بفتح القاف، وتشديد الواو.
والمعنى: ظنناهم صادقين في قولهم: لله صاحبة وولد، وما ظننَّاهم يكذبون حتى سمعنا القرآن، يقول الله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بِسِّيدِ هذا الوادي من شَرِّ سُفَهَاءِ قومه، فيبيت في جِوارٍ منهم حتى يصبح.
(1492) ومنه حديث كردم بن أبي السائب الأنصاري، قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذُكِرَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملاً من الغنم، فوثب الراعي فنادى: يا عامر الوادي جارك، فنادى منادٍ لا نراه: يا سرحان أرسله. فإذا الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة، فأنزل الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ الآية.
__________
ضعيف جدا. أخرجه العقيلي 1/ 101 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية، والواحدي في «الوسيط» 4/ 364 من طريق فروة ثنا القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري، وإسناده ضعيف جدا، فيه عبد الرحمن بن إسحاق، وهو ضعيف متروك، وأبوه إسحاق بن الحارث، ضعفه أحمد وغيره، ولم يرو عنه سوى ابنه. وقال ابن حبان: منكر الحديث، فلا أدري التخليط منه أو من ابنه. وأخرجه الطبراني في «الكبير» 19/ 191- 192 وأبو الشيخ في «العظمة» 1122 من طريق القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق به. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 129 وقال: وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، وهو ضعيف. والظاهر أنه خفي عليه حال أبيه إسحاق، وقد ضعفه أحمد وغيره كما نقل الذهبي في «الميزان» 1/ 189. الخلاصة: الإسناد ضعيف جدا، والمتن منكر.

(4/347)


وفي قوله عزّ وجلّ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً قولان: أحدهما: أن الإنس زادوا الجن رهقاً لتعوُّذهم بهم، قاله مقاتل. والمعنى: أنهم لما استعاذوا بسادتهم قالت السادة: قد سدنا الجن والإنس. والثاني: أن الجن زادوا الإنس رَهَقاً، ذكره الزجاج. قال أبو عبيدة: زادوهم سَفَهَاً وطغياناً. وقال ابن قتيبة: زادوهم ضلالاً. وأصل الرهق: العيب. ومنه يقال: فلان يرهق في دينه.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا بقول الله عزّ وجلّ: ظن الجن كَما ظَنَنْتُمْ أيها الإنس المشركون أنه لا بعث. وقالت الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أي: أتيناها فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وهم الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع وَشُهُباً جمع شهاب، وهو النجم المضيء وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي: كنا نستمع، فالآن حين حاولنا الاستماع بعد بعث محمّد صلّى الله عليه وسلم رُمِينا بالشُّهُب. ومعنى «رصداً» قد أرصد له المرمى به وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بإرسال محمد إليهم، فيكذبونه، فيهلكون أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وهو أن يؤمنوا فيهتدوا، قاله مقاتل.
والثاني: أنه قول كفرة الجن، والمعنى: لا ندري أشرٌّ أريدَ بمن في الأرض بحدوث الرجم بالكواكب، أم صلاح؟ قاله الفراء. ثم أخبروا عن حالهم، فقالوا: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وهم المؤمنون المخلصون وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ فيه قولان: أحدهما: المشركون. والثاني: أنهم أهل الشرِّ دون الشرك كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً قال الفراء: أي: فرقاً مختلفة أهواؤنا. وقال أبو عبيدة: واحد الطرائق: طريقة، وواحد القِددِ: قدة، أي: ضروباً وأجناساً ومِلَلاً. قال الحسن، والسدي: الجن مثلكم، فمنهم قدريّة، ومرجئة، ورافضة.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أي: أيقنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي: لن نَفُوتَه إِذا أراد بنا أمراً وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي: أنه يدركنا حيث كنَّا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى وهو القرآن الذي أتى به محمد صلّى الله عليه وسلم آمَنَّا بِهِ أي: صدَّقنا أنه من عند الله عزّ وجلّ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً أي: نقصاً من الثواب وَلا رَهَقاً أي: ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ قال مقاتل: المخلصون لله وَمِنَّا الْقاسِطُونَ وهم المَرَدَة. قال ابن قتيبة: القاسطون: الجائرون. يقال: قسط: إذا عدل، إذا جاور، وأقسط: إذا عدل. قال المفسرون: هم الكافرون فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي: تَوَخَّوْه، وأَمَّوْه. ثم انقطع كلام الجن. قال مقاتل: ثم رجع إلى كفّار مكّة فقال عزّ وجلّ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يعني: طريقة الهدى، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد وقتادة والسدي، واختاره الزجاج، قال: لأن الطريقة هاهنا بالألف واللام معرفة، فالأوجب أن تكون طريقة الهدى: وذهب قوم إلى أن المراد بها طريقة الكفر، قال محمد بن كعب، والربيع، والفراء، وابن قتيبة، وابن كيسان. فعلى القول الأول يكون المعنى: لو آمنوا لوسَّعنا عليهم لِنَفْتِنَهُمْ أي: لنختبرَهم فِيهِ فننظر كيف شُكْرُهم. والماء الغَدَق: الكثير. وإنما ذكر الماء مثلاً، لأن الخير كله يكون بالمطر، فأقيم مقامه إِذ كان سببه.
وعلى الثاني: يكون المعنى: لو استقاموا على الكفر فكانوا كفاراً كلهم، لأكثرنا لهم المال لنفتنهم فيه عقوبة واستدراجا، ثم نعذبهم على ذلك. وقيل: لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم، كقوم نوح، قوله:
وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يعني: القرآن يَسْلُكْهُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «نسلكه» بالنون. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ يسلكه بالياء. عَذاباً صَعَداً قال ابن قتيبة: أي:

(4/348)


وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

عذاباً شاقاً. يقال: تصعَّدني الأمر: إذا شَقَّ علي. ومنه قول عمر: ما تَصَعَّدني شيء ما تصعَّدَتني خِطْبَةُ النِّكاح. ونرى أصل هذا كله من الصعود، لأنه شاق، فكني به عن المشَقَّات. وجاء في التفسير أنه جبل في النَّار يكلَّف صعوده، وسنذكره عند قوله عزّ وجلّ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً «1» إن شاء الله تعالى.

[سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 28]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فيها أربعة أقوال: أحدها: أنها المساجد التي هي بيوت للصّلوات، قاله ابن عباس. قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعَهُم أشركوا، فأمر الله عزّ وجلّ المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم. والثاني: الأعضاء التي يسجد عليها العبد، قاله سعيد بن جبير، وابن الأنباري، وذكره الفراء. فيكون المعنى، لا تسجدوا عليها لغيره. والثالث:
أن المراد بالمساجد هاهنا: البقاع كلُّها، قاله الحسن. فيكون المعنى: أن الأرض كلها مواضع للسجود، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها. والرابع: أنّ المساجد: السجود، فإنها جمع مسجد. يقال:
سجدت سجوداً، ومَسْجِداً، كما يقال: ضربت في الأرض ضرباً، ومَضْرِباً، ثم يجمع، فيقال:
المسَاجِد، والمضارِب. قال ابن قتيبة: فعلى هذا يكون واحدها: مَسْجَداً، بفتح الجيم. والمعنى:
أَخْلِصُوا له، ولا تسجدوا لغيره. ثم رجع إلى ذكر الجنّ فقال عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني محمداً صلّى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ أي: يعبده. وكان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في الأحقاف «2» كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قرأ الأكثرون: بكسر اللام، وفتح الباء. وقرأ هشام عن ابن عامر، وابن محيصن «لُبَداً» بضم اللام، وفتح الباء مع تخفيفها. قال الفراء: ومعنى القراءتين واحد. يقال: لِبَدة، ولُبَدة. قال الزجاج: والمعنى: كادوا يركب بعضهم بعضاً. ومنه اشتقاق اللبد الذي يفترش. وكل شيء أضفته إلى شيء فقد لَبَّدته. وقرأ قوم منهم الحسن، والجحدري: «لُبَّداً» بضم اللام مع تشديد الباء. قال الفراء:
فعلى هذه القراءة تكون صفة للرجال، كقولك: رُكَّعاً وركوعاً، وسُجَّداً وسجوداً. وقال الزّجّاج: هو جمع لا بد، مثل راكع، وركَّع.
وفي معنى الآية ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنه من إخبار الله تعالى عن الجن يحكي حالهم.
__________
(1) المدثر: 17.
(2) الأحقاف: 29.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 273: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: ذلك خبر من الله عن أن رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلم لما قام يدعوه كادت العرب تكون عليه جميعا في إطفاء نور الله.
ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 510: واختيار ابن جرير، وهو الأظهر لقوله بعده قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أي قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحقّ واجتمعوا على عداوته: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي أي: إنما أعبد ربي وحده لا شريك له، وأستجير به وأتوكل عليه.

(4/349)


والمعنى: أنه لما قام يصلي كاد الجن لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضاً، حِرْصاً على سماع القرآن، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: أنه من قول الجن لقومهم لما رجعوا إليهم، فوصفوا لهم طاعة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع، والسجود، فكأنهم قالوا: لما قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبداً. وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس. والثالث: أن المعنى: لما قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالدَّعوة تلبَّدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه، ليبطلوا الحق الذي جاء به، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي قرأ عاصم، وحمزة «قل إنما أدعو ربي» بغير ألف. وقرأ الباقون «قال» على الخبر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع بمثله فارجع عنه، فنزلت هذه الآية «1» .
قوله عزّ وجلّ: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا أي: لا أدفعه عنكم وَلا أسوق إليكم رَشَداً أي: خيراً، أي: إن الله تعالى يملك ذلك، لا أنا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي: إن عصيته لم يمنعني منه أحد، وذلك أنهم قالوا له: اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً قد بيّنّاه في الكهف «2» قوله: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ فيه وجهان، ذكرهما الفرّاء: أحدهما: أنه استثناء من قوله عزّ وجلّ: لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً إلا أن أبلغكم. والثاني: لن يجيرني من الله أحد إِن لم أبلِّغ رسالته. وبالأول قال ابن السائب. وبالثاني قال مقاتل. وقال بعضهم: المعنى: لن يجيرني من عذاب الله إلا أن أبلّغ عن الله ما أرسلت به، فذلك البلاغ هو الذي يجيرني. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بترك الإيمان والتوحيد.
قوله عزّ وجلّ: حَتَّى إِذا رَأَوْا يعني: الكفار ما يُوعَدُونَ من العذاب في الدنيا، وهو القتل، وفي الآخرة فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أي: جندا ونصيرا، أهم، أم المؤمنون؟ قُلْ إِنْ أَدْرِي أي: ما أدري أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ من العذاب أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أي: غاية وبُعْداً.
وذلك لأن علم الغيب لله وحده فَلا يُظْهِرُ أي: فلا يُطلِع على غيبه الذي يعلمه أحداً من الناس إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ لأن من الدليل على صدق الرسل إخبارَهم بالغيب. والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه. وفي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدلّه على الغيب فهو كافر. ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول فقال عزّ وجلّ: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي:
من بين يدي الرسول وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي: يجعل له حَفَظَةً من الملائكة يحفظون الوحي من أن يسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكَهَنة، فيتكلَّمون به قبل أن يخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم الناس. وقال الزّجّاج يسلك
__________
(1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.
(2) الكهف: 27.

(4/350)


من بين يدي الوحي. والرّصد من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي.
قوله عزّ وجلّ: لِيَعْلَمَ فيه خمسة أقوال «1» : أحدها: ليعلم محمد صلّى الله عليه وسلم أن جبرائيل قد بلَّغ إليه، قاله ابن جبير. والثاني: ليعلم محمّد صلّى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وأن الله قد حفظها فدفع عنها، قاله قتادة. والثالث: ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، قاله مجاهد.
والرابع: ليعلم الله عزّ وجلّ ذلك موجوداً ظاهراً يجب به الثواب، فهو كقوله عزّ وجلّ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ «2» قاله ابن قتيبة. والخامس: ليعلم النبيُّ أن الرسل قد أتته، ولم تصل إلى غيره، ذكره الزجاج. وقرأ رويس عن يعقوب «ليُعلَم» بضم الياء على ما لم يُسمَّ فاعله. وقال ابن قتيبة: ويُقرأ «لتَعْلَم» بالتاء، يريد: لتعلم الجن أن الرسل قد بلَّغت عن إلههم بما رجوا من استراق السّمع، قوله:
وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي: علم الله ما عند الرسل وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً فلم يفته شيء حتى الذّرّ والخردل.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 277: وأولى الأقوال عندنا بالصواب قول من قال: ليعلم الرسول أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالاتِ رِّبهم.
(2) آل عمران: 142.

(4/351)


يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)

سورة المزّمّل
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إلّا أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال: سوى آيتين منها، قوله عزّ وجلّ وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ والتي بعدها «1» . وقال ابن يسار، ومقاتل: فيها آية مدنيّة، وهي قوله عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ «2» .

[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو العالية، وأبو مجلز، وأبو عمران، والأعمش «المتزمِّل» بإظهار التاء. وقرأ عكرمة، وابن يعمر: «المزمل» بحذف التاء، وتخفيف الزاي.
قال اللغويون: «المُّزَّمِّل» الملتف في ثيابه، وأصله «المتزِّمل» فأدغمت التاء في الزاي، فثقِّلت. وكل من التفَّ بثوبه فقد تزمَّل. قال الزجاج: وإِنما أدغمت فيها لقربها منها.
(1493) قال المفسرون: وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يتزمَّل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فَرَقاً منه حتى أنس به. وقال السدي: كان قد تزمَّل للنوم. وقال مقاتل: خرج من البيت وقد لبس ثيابه، فناداه جبريل: يا
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4956 ومسلم 160 والواحدي في «أسباب النزول» 5 من حديث عائشة مطوّلا، وتقدّم في «الجزء الأول من هذا الكتاب» . وانظر «تفسير الشوكاني» 2598 بتخريجنا.
__________
(1) المزمل: 10- 11.
(2) المزمل: 20.

(4/352)


أيها المُزَّمِّل. وقيل: أريد به مُتَزَمِّل النبوة. قال عكرمة في معنى هذه الآية: زُمِّلْتَ هذا الأمر، فَقُمْ به.
وقيل: إِنما لم يخاطب بالنبي والرسول هاهنا، لأنه لم يكن بعد قد بلَّغ، وإنما كان في بدء الوحي.
قوله عزّ وجلّ: قُمِ اللَّيْلَ أي: للصلاة. وكان قيام الليل فرضاً عليه إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ هذا بدل من الليل، كما تقول: ضربت زيداً رأسَه. فإنما ذكرت زيداً لتوكيد الكلام، لأنه أوكد من قولك:
ضربت رأس زيد. والمعنى: قم من الليل النّصف إلّا قليلا، وهو قوله: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أي: من النصف أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي: على النصف. قال المفسرون: انقص من النصف إلى الثلث، أو زد عليه إلى الثلثين، فجعل له سَعَة في مدّة قيامه، إذا لم تكن محدودة، فكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين فشق ذلك عليه وعليهم، فكان الرجل لا يدري كم صلى، وكم بقي من الليل، فكان يقوم الليل كلَّه مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب فنسخ ذلك عنه وعنهم بقوله عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الآية، هذا مذهب جماعة من المفسرين. وقالوا: ليس في القرآن سورة نَسَخَ آخِرُها أولَها سوى هذه السورة. وذهب قوم إلى أنه نسخ قيام اللّيل في حقّه بقوله عزّ وجلّ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «1» ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس وقيل: نسخ عن الأمّة، وبقي فرضه عليه أبداً. وقيل: إنما كان مفروضاً عليه دونهم. وفي مدة فرضه قولان: أحدهما: سَنَةٌ، قال ابن عباس: كان بين أول (المزَّمِّل) وآخرها سَنَةٌ. والثاني: ستة عشر شهراً، حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ قد ذكرنا الترتيل في الفرقان «2» .
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا وهو القرآن. وفي معنى ثِقَله ستة أقوال «3» :
(1494) أحدها: أنه كان يثقُل عليه إذا أُوحي إليه، وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت: لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإِن جبينه ليتفصّد عرقاً.
والثاني: أن العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: أنه يثقل في
__________
صحيح. وهو قطعة من حديث عائشة في خبر مطول.
أخرجه البخاري 2 والترمذي 3638 والنسائي 2/ 146- 147 وأحمد 6/ 257 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 437 وفي «الدلائل» 7/ 52- 53 وأبو نعيم في «الدلائل» 1/ 279 من طرق عن مالك. وأخرجه مالك 1/ 202- 203 والبغوي في «شرح السنة» 3631 عن هشام بن عروة به. وأخرجه البخاري 3215 ومسلم 2333 وأحمد 6/ 158 والبيهقي في «الأسماء» 426 والحميدي 6/ 25 من طرق عن هشام بن عروة به.
__________
(1) الإسراء: 79.
(2) الفرقان: 32.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 281: وأولى الأقوال في ذلك أن يقال: إن الله وصفه بأنه قول ثقيل، فهو كما وصفه به ثقيل محمله ثقيل العمل بحدوده وفرائضه. وقال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 328: والقول: ثقله على النبي صلّى الله عليه وسلم كان يلقيه الملك إليه هو الأولى لأنه جاء: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] .

(4/353)


الميزان يوم القيامة، قاله ابن زيد. والرابع: أنه المهيب، كما يقال للرجل العاقل: هو رزين راجح، قاله عبد العزيز بن يحيى. والخامس: أنه ليس بالخفيف ولا السفساف، لأنه كلام الربّ عزّ وجلّ، قاله الفراء. والسادس: أنه قول له وزن في صحته وبيانه ونفعه، كما تقول: هذا كلام رصين، وهذا قول له وزن: إذا استجدته، ذكره الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ قال ابن مسعود، وابن عباس: هي قيام الليل بلسان الحبشة.
وهل هي في وقت مخصوص من الليل، أم في جميعه؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها في جميع الليل. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: الليل كلُّه ناشئة.
وإلى هذا ذهب اللغويون. قال ابن قتيبة: ناشئة الليل: ساعاته الناشئة، من نشأتْ: إذا ابتدأتْ. وقال الزجاج: ناشئة الليل: ساعات الليل، كلّ ما نشأ منه، أي: كلّ ما حدث. قال أبو علي الفارسي: كأن المعنى: إن صلاة ناشئة الليل، أو عمل ناشئة الليل.
والثاني: أنها في وقت مخصوص من الليل. وفيه خمسة أقوال «1» : أحدها: أنها ما بين المغرب والعشاء، قاله أنس بن مالك. والثاني: أنها القيام بعد النوم، وهذا قول عائشة، وابن الأعرابي. وقد نصّ عليه الإمام أحمد في رواية المروذي. والثالث: أنها ما بعد العشاء، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو مجلز. والرابع: أنها بَدْءُ الليل، قاله عطاء، وعكرمة. والخامس: أنها القيام من آخر الليل، قاله يمان، وابن كيسان.
قوله عزّ وجلّ: هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قرأ ابن عامر، وأبو عمرو «وِطاءً» بكسر الواو مع المد، وهوَ مصدر واطأت فلاناً على كذا مواطأة، وأراد أن القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهُّم للقرآن والإحكام لتلاوته. ومنه قوله تعالى: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ «2» . وقرأ الباقون «وَطْأً» بفتح الواو مع القصر. والمعنى: إنه أثقل على المصلي من ساعات النهار، من قول العرب:
اشتدت على القوم وَطْأَةُ السلطان: إذا ثقل عليهم ما يلزمهم.
(1495) ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» . ذكر معنى القراءتين ابن قتيبة.
وقرأ ابن محيصن «أشد وطاء» بفتح الواو، والطاء، وبالمدّ.
قوله عزّ وجلّ: وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: أخلص للقول وأسمع له، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات فتخلص القراءة، ويفرغ القلب لفهم التلاوة، فلا يكون دون سمعه وتفهّمه حائل.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي: فراغا لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل
__________
متفق عليه، وتقدّم.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 514: والغرض: أن ناشئة الليل هي: ساعاته وأوقاته، وكل ساعة منه تسمى ناشئة، وهي الآنات والمقصود: أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة، وأجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش.
(2) التوبة: 37. [.....]

(4/354)


بعبادتك، قاله ابن عباس، وعطاء. وقرأ يحيى بن يعمر، وابن مسعود، وأبو عمران، وابن أبي عبلة «سبخاً» بالخاء المعجمة. قال الزجاج: ومعناها في اللغة صحيح. يقال سبخت القطن بمعنى نفشته.
ومعنى نَفَّشته: وسَّعته، فيكون المعنى: إن لك في النهار توسُّعاً طويلا.
قوله عزّ وجلّ: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي: بالنهار أيضاً وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا قال مجاهد: أخلص له إخلاصاً. وقال ابن قتيبة: انقطع إليه، من قولك: بَتَّلُت الشيء: إذا قطعتَه. وقال الزجاج: انقطع إِليه في العبادة. ومنه قيل لمريم: البتول، لأنها انقطعت إلى الله عزّ وجلّ في العبادة. وكذلك صدقة بتلة:
منقطعة من مال المصّدّق. والأصل في مصدر تبتّل تبتيلا. وإنما قوله عزّ وجلّ «تبتيلاً» محمول على معنى: تبتّل، رَبُّ الْمَشْرِقِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم «ربُّ» بالرفع. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بالخفض. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزّ وجلّ: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من التكذيب لك والأذى وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا لا جزع فيه. وهذه الآية عند المفسرين منسوخة بآية السيف، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي: لا تهتمَّ بهم، فأنا أكفيكهم أُولِي النَّعْمَةِ يعني: التَّنَعُّم.
وفيمن عُني بهذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المطعِمُون بِبَدْرٍ، قاله مقاتل بن حيان. والثاني: أنهم بنو المغيرة بن عبد الله، قاله مقاتل بن سليمان. والثالث: أنه المستهزئون، وهم صناديد قريش، حكاه الثعلبي.
قوله عزّ وجلّ: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا قالت عائشة: فلم يكن إلا اليسير حتى كانت وقعة بدر، وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وهي القيود، واحدها: نكل. وقد شرحنا معنى «الجحيم» في البقرة «1» وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وهو الذي لا يسوغ في الحلق. وفيه للمفسرين أربعة أقوال:
أحدها: أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولا يخرج، قاله ابن عباس، وعكرمة. والثاني: الزَّقُّوم، قاله مقاتل. والثالث: الضَّريع، قاله الزجاج. والرابع: الزَّقُّوم والغِسْلين والضَّريع، حكاه الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ قال الزجاج: هو منصوب بقوله عزّ وجلّ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا والمعنى: ينكِّل الكافرين ويعذِّبهم يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ أي: تُزَلزَل وتُحَرَّك أغلظ حركة.
قوله عزّ وجلّ: وَكانَتِ الْجِبالُ قال مقاتل: المعنى: وصارت بعد الشدة، والقوة كَثِيباً قال الفراء: «الكثيب» : الرمل. و «المهيل» : الذي تحرّك أسفله، فينهال عليك من أعلاه. والعرب تقول:
مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول. وقال الزجاج: الكثيب جمعه: كثبان، وهي: القطع العظام من الرمل.
والمهيل: السائل.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يعني أهل مكة رَسُولًا يعني: محمّدا صلّى الله عليه وسلم شاهِداً عَلَيْكُمْ بالتبليغ وإِيمان من آمن، وكفر من كفر وعصى كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا وهو موسى عليه السلام.
والوبيل: الشديد. قال ابن قتيبة: هو من قولك: استوبلت إذا استوخمته المكان ويقال: كلأ مستوبل
__________
(1) البقرة: 119.

(4/355)


إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

أُي: لاَ يُسْتَمْرَأُ. قال الزجاج: الوبيل: الثقيل الغليظ جداً. ومنه قيل للمطر العظيم: وابل. قال مقاتل:
والمراد بهذا الأخذ الوبيل: الغرق. وهذا تخويف لكفار مكة أن ينزل بهم العذاب لتكذيبهم، كما نزل بفرعون:
قوله عزّ وجلّ: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً أي: عذاب يوم. وقال الزجاج: المعنى: بأي شيء تتحصَّنون من عذاب يوم مِنْ هوله يَشيب الصغير من غير كِبَر. وقرأ أُبي بن كعب، وأبو عمران «نجعل الولدان» بالنون.
قوله عزّ وجلّ: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ قال الفراء: السماء تُذَكَّر وتؤنَّث. وهي هاهنا في وجه التذكير. قال الشاعر:
فَلَوْ رَفَع السَّماءُ إليه قوماً ... لَحِقْنَا بِالسَّماءِ مَعَ السَّحابِ
قال الزجاج: وتذكير السماء على ضربين: أحدهما: على أن معنى السماء معنى السقف.
والثاني: على قولهم: امرأة مُرْضِع على جهة النسب. فالمعنى: السماء ذات انفطار، كما أن المرضع ذات الرضاع. وقال ابن قتيبة: ومعنى الآية: السماء مُنْشَقّ به، أي: فيه، يعني في ذلك اليوم.
قوله عزّ وجلّ: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا وذلك أنه وعيد بالبعث، فهو كائن لا محالة.

[سورة المزمل (73) : الآيات 19 الى 20]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
إِنَّ هذِهِ يعني: آيات القرآن تَذْكِرَةٌ أي: تذكير وموعظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى أي: أقل مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ قرأ ابن كثير، وأهل الكوفة بفتح الفاء والثاء. والباقون: بكسرهما.
قوله عزّ وجلّ: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ يعني: المؤمنين وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يعلم مقاديرهما، فيعلم القدر الذي تقومونه من الليل عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ وفيه قولان:
أحدهما: لن تطيقوا قيام ثُلُثَيِ الليل، ولا ثلث الليل، ولا نصف الليل، قاله مقاتل.
والثاني: لن تحفظوا مواقيت الصلاة، قاله الفرّاء، قاله: فَتابَ عَلَيْكُمْ أي: عاد عليكم بالمغفرة والتخفيف فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ عليكم مِنَ الْقُرْآنِ يعني: في الصلاة، من غير أن يوقت وقتاً. وقال الحسن: هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء. ثم ذكر أعذارهم فقال عزّ وجلّ: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى فلا يطيقون قيام الليل وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ وهم المسافرون للتجارة يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي: من رزقه فلا يطيقون قيام الليل وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهم المجاهدون فلا يطيقون قيام

(4/356)


الليل فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ذكروا أن هذا نسخ عن المسلمين بالصلوات الخمس، فذلك قوله عزّ وجلّ:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي: الصلوات الخمس في أوقاتها «1» وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وقد سبق بيانه «2» . قال ابن عباس: يريد سوى الزكاة في صلة الرحم وقِرى الضيف، وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي: تجدوا ثوابه في الآخرة. هُوَ خَيْراً قال أبو عبيدة: المعنى: تجدوه خيراً. قال الزجاج:
ودخلت «هو» فصلاً. وقال المفسرون: ومعنى «خيراً» أي: أفضل مما أُعطيتم وَأَعْظَمَ أَجْراً من الذي تؤخّرونه إلى وقت الوصيّة عند الموت.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 518: وقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة، قال: وهذا يدل لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرّج لم تبيّن إلا بالمدينة، والله أعلم.
(2) الحديد: 18.

(4/357)


يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

سورة المدّثّر
وهي مكّيّة بإجماعهم قال مقاتل: فيها من المدني آية، وهي قوله عزّ وجلّ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 37]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34)
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
فأمّا سبب نزولها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله قال:
(1496) حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: جاورت بِحِرَاء شهراً، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4923 و 4924 ومسلم 161 ح 257 و 258 وأحمد 3/ 306 و 392 والطبري 35309 وابن حبان 34 و 35 وأبو عوانة 1/ 112 و 114 و 115 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 155- 156 من طرق عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قلت: إنهم-
__________
(1) المدثر: 31.

(4/358)


بطن الوادي، فنوديتُ فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني، وعن شمالي، فلم أر أحداً، ثم نوديتُ فرفعتُ رأسي فإذا هو في الهواء، يعني: جبريل عليه السلام، فأقبلتُ إِلى خديجة، فقلت: دثّروني دثّروني، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ.
(1497) قال المفسرون: فلما رأى جبريل وقع مغشياً عليه، فلما أفاق دخل إلى خديجة، ودعا بماءٍ فصبَّه عليه، وقال: دثِّروني، فدثَّروه بقطيفة، فأتاه جبريل فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، والأعمش «المتدثِّر» بإظهار التاء، وقرأ أبو رجاء، وعكرمة، وابن يعمر «المدثر» بحذف التاء، وتخفيف الدال. قال اللغويون: وأصل «المدَّثِّر» المتدثر، فأدغمت التاء، كما ذكرنا في المتزمّل، وهذا قول الجمهور من التدثير بالثياب، وقيل المعنى: يا أيها المدثر بالنبوَّة، وأثقالها. قال عكرمة:
دثّرت هذا الأمر فقم به..
قوله عزّ وجلّ: قُمْ فَأَنْذِرْ كفارَ مكة العذابَ إن لم يُوحِّدوا وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي: عظِّمه عما يقول عبدة الأوثان وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ فيه ثمانية أقوال «1» :
أحدها: لا تلبسها على معصية، ولا على غدر. قال غيلان بن سلمة الثقفي:
وَإني بِحَمْدِ الله لاَ ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلاَ مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ «2»
روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: لا تكن ثيابُك من مكسب غير طاهر، روي عن ابن عباس أيضاً.
والثالث: طهر نفسك من الذنب، قاله مجاهد! وقتادة. ويشهد له قول عنترة:
فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الأَصَمِّ ثِيَابَهُ ... لَيْسَ الكَرِيمُ عَلَى القَنَا بِمُحرَّمِ
أي: نفسه، وهذا مذهب ابن قتيبة. قال: المعنى: طهر نفسك من الذنوب، فكنّى عن الجسم
__________
يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت، فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «جاورت ... » الحديث، وفيه «وصبوا عليّ ماء باردا» . وأخرجه البخاري 4 و 3238 و 4925 و 4954 و 6214 ومسلم 161 ح 255 وأحمد 3/ 306 والترمذي 3325 والطبري 35307 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 138 و 156 وأبو نعيم في «الدلائل» 1/ 278 من طرق عن الزهري عن أبي سلمة به.
انظر ما قبله.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 521 وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي: اغسلها بالماء. وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر ويطهر ثيابه. وهذا القول اختاره ابن جرير وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب. وقال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 340: ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز، وإذا حملناها على الثياب المعلومة فهي تتناول معنيين: أحدهما: تقصير الأذيال، فإنها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب لغلام من الأنصار: وقد رأى ذيله مسترخيا: يا غلام، ارفع إزارك، فإنه أتقى وأنقى وأبقى اه. والمعنى الثاني: غسلها من النجاسة، وهو ظاهر منها صحيح فيها.
(2) البيت لغيلان بن سلمة الثقفي، كما في «الجامع لأحكام القرآن» 19/ 59 و «تفسير الطبري» 12/ 298 و «اللسان» - ثوب-.

(4/359)


بالثياب، لأنها تشتمل عليه. قالت ليلى الأخيلية وذَكَرَتْ إبلاً:
رَمَوْها بأثواب خِفَافٍ فلا ترى ... لَهَا شَبَهَاً إلا النَّعَام المُنَفَّرا
أي: ركبوها، فَرَمَوْها بأنفسهم! والعرب تقول للعفاف: إزارٌ، لأن العفيف كأنه استتر لما عَفَّ.
والرابع: وعَمَلَكَ فأصلح، قاله الضّحّاك. الخامس: خُلُقَكَ فَحَسِّنْ، قاله الحسن، والقرظي.
والسادس: وَثِيَابَك فقصّر وشمّر، قاله طاوس. والسابع: قَلْبَكَ فَطَهِّرْ، قاله سعيد بن جبير. ويشهد له قول امرئ القيس.
فإن تك قَدْ سَاءَتْكِ مِني خَلِيقَةٌ ... فَسُلِّي ثِيابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
أي: قلبي من قلبك.
والثامن: اغسل ثيابك بالماء، ونقِّها، قاله ابن سيرين، وابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعاصم إلّا أبا بكر، ويعقوب، وابن محيصن، وابن السميفع «والرُّجزَ» بضم الراء. والباقون بكسرها. ولم يختلفوا في غير هذا الموضع. قال الزجاج: ومعنى القراءتين واحد. وقال أبو علي: قراءة الحسن بالضم، وقال: هو اسم صنم. وقال قتادة: صنمان: إساف، ونائلة. ومن كسر، الرّجز: العذاب. فالمعنى: ذو العذاب فاهجر.
وفي معنى: «الرّجز» للمفسّرين فيه ستة أَقوال «1» : أحدها: أنه الأصنام، والأوثان، قاله ابن عباس. ومجاهد، وعكرمة وقتادة، والزهري، والسدي، وابن زيد. والثاني: أنه الإثم، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: الشرك، قاله ابن جبير، والضحاك. والرابع: الذنب، قاله الحسن. والخامس:
العذاب، قاله ابن السائب. قال الزجاج: الرجزُ في اللغة: العذاب، ومعنى الآية: اهجر ما يؤدِّي إلى عذاب الله. والسادس: الشيطان، قاله ابن كيسان.
قوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: لا تعط عطيَّة تلتمس بها أفضل منها، قاله
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 521: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ على كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك، كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 303: وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قول من قال: معنى ذلك: ولا تمنن على ربك من أن تستكثر عملك الصالح. قال: وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لأن ذلك في سياق آيات تقدم فيهن أمر الله بنيه بالجدّ في الدعاء إليه، والصبر على ما يلقى من الأذى فيه، فهذه بأن تكون من أنواع تلك، أشبه منها بأن تكون من غيرها.
وقال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 242: وأما من قال: أراد به العمل، أي لا تستكثر به على ربك فهو صحيح، فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.
وأما قوله: «لا تعط عطيَّة تلتمس بها أفضل منها» فهذا لا يليق بالنبي صلّى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم: 39] . وقد روي عن عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها. وفي الحديث: «لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت» . قلت: صحيح.
أخرجه البخاري 2568 و 5178 وأحمد 2/ 424 وابن حبان 5291 من حديث أبي هريرة وأخرجه الترمذي 1338 وصححه ابن حبان 9292 من حديث أنس، وفي الباب من حديث ابن عمر أخرجه البخاري 5179 ومسلم 1429 وغيرهما. ومعنى الكراع: مستدق الساق من الرجل.
قال ابن العربي: وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب، لأنها باب من أبواب المذلة. وكذلك قول من قال: إن معناه لا تعط عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع. وذلك في حيزه بحكم الامتناع.

(4/360)


ابن عباس، وعكرمة، وقتادة. قال المفسرون: معناه: أَعْطِ لِربّك وأرد به الله، فأدَّبه بأشرفِ الآداب.
ومعنى «لا تمنن» : لا تعط شيئاً من مالك لتُعطَى أكثر منه. وهذا الأدب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصة، وليس على أحد من أمته إثم أن يهديَ هدية يرجو بها ثواباً أكثر منها. والثاني: لا تمنن بعملك تستكثره على ربك، قاله الحسن. والثالث: لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه، قاله مجاهد. والرابع: لا تمنن على الناس بالنُّبُوَّة لتأخذ عليها منهم أجرا، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: وَلِرَبِّكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: لأجل ربك. والثاني: لثواب ربك. والثالث:
لأمر ربك. والرابع: لوعْدِ ربِّك فَاصْبِرْ فيه قولان: أحدهما: على طاعته وفرائضه. والثاني: على الأذى والتكذيب.
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي: نفخ في الصور. وهل هذه النفخة هي الأولى أو الثانية؟
فيه قولان: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ أي: تعسّر الأمر فيه عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ غير هيّن، قوله: ذَرْنِي قد شرحناه في المزمل «1» وَمَنْ خَلَقْتُ أي: ومن خلقته وَحِيداً فيه قولان «2» : أحدهما: خلقته وحيداً في بطن أمه لا مال له ولا ولد، قاله مجاهد. والثاني: خلقته وحدي لم يَشْركني في خَلْقِهِ أحَدٌ، قاله الزجاج.
(1498) قال ابن عباس: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً، فإنك أتيت محمّدا تتعرّض لمقالته، فقال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل منه قولاً يبلغ قومك أنَّك منكر له، قال: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، والله ما يشبهها الذي يقول، والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو ولا يُعلى. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه. فقال: هذا سحر يؤثر: يأثره عن غيره،
__________
أخرجه الحاكم 2/ 506 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 199- 200 والواحدي في «أسباب النزول» 842 عن ابن عباس، وصححه الحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي، ورجاله رجال الصحيح. وورد عن عكرمة مرسلا، أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 3384. وفي إسناده راو مجهول. وورد موصولا عن ابن عباس من وجه آخر أخرجه الطبري 35420 وفيه عطية العوفي واه لكن تعدّد طرقه يفيده قوة، والله أعلم. وانظر ما بعده. وانظر «تفسير الشوكاني» 2606 بتخريجنا.
__________
(1) المزمل: 11.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 522: يقول تعالى متوعدا لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله، وبدلها كفرا وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وجعلها من قول البشر. وقد عدد الله نعمه حيث قال: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أي خرج من بطن أمه لا مال له ولا ولد، ثم رزقه الله مالًا مَمْدُوداً.

(4/361)


فنزلت: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ... الآيات كلُّها.
(1499) وقال مجاهد: قال الوليد لقريش: إن لي إِليكم حاجة فاجتمعوا في دار الندوة، فقال:
إنكم ذوو أحساب وأحلام، وإن العرب يأتونكم، وينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا على شيء واحد. ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: نقول: إِنه شاعر. فعبس عندها، وقال: قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر. فقالوا: نقول: إنه كاهن، قال: إِذن يأتونه فلا يجدونه يحدث بما يحدث به الكهنة، فقالوا: نقول: إِنه مجنون، قال: إذن يأتونه فلا يجدونه مجنوناً. فقالوا: نقول: إنه ساحر.
قال: وما الساحر؟ قالوا: بشر يحبِّبون بين المتباغضين، ويبغِّضون بين المتحابين، قال: فهو ساحر، فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إِلا قال: يا ساحر، فاشتد ذلك عليه، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وذكر بعض المفسّرين أن قوله عزّ وجلّ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً منسوخ بآية السيف. ولا يصحّ.
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً في معنى الممدود ثلاثة أقوال: أحدها: كثيراً، قاله أبو عبيدة. والثاني: دائماً، قاله ابن قتيبة. والثالث: غير منقطع، قاله الزجاج.
وللمفسرين في مقداره أربعة أقوال: أحدها: غَلَّة شهر بشهر، قاله عمر بن الخطاب. والثاني:
ألف دينار، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير. قال الفرّاء: ونرى أنّ الممدود: جعل غاية للعدد، لأنّ الألف غاية للعدد يرجع في أول العدد من الألف. والثالث: أربعة آلاف، قاله قتادة. والرابع: أنه بستان كان له بالطائف لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَبَنِينَ شُهُوداً أي: حضورا معه لا يحتاجون إلى التّصرّف والنّفر فيغيبوا عنه.
وفي عددهم أربعة أقوال: أحدها: عشرة، قاله مجاهد. والثاني: ثلاثة عشر، قاله ابن جبير.
والثالث: اثنا عشر، قاله السدي. والرابع: سبعة، قاله مقاتل. قوله: وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي: بسطت له العيش، وطول العمر، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ فيه قولان: أحدهما: أيطمع أن أدخله الجنة. قاله الحسن.
والثاني: أن أزيده من المال والولد، قاله مقاتل.
إلى قوله: كَلَّا أي: لا أفعل فمنعه الله المالَ والوَلدَ حتى مات فقيراً، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي: معانداً.
وفي المراد بالآيات هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن قاله ابن جبير. والثاني: الحق، قاله مجاهد. والثالث: رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله السّدّيّ.
قوله عزّ وجلّ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قال الزجاج: سأحمله على مشقة من العذاب وقال غيره:
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 842 معلقا عن مجاهد. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 2/ 199- 200 من طريق محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير، وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد، وأصل الخبر له شواهد كثيرة. ورد من مرسل ابن زيد، أخرجه الطبري 35424. وورد من مرسل قتادة مختصرا، أخرجه الطبري 35421. وورد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 35423.
رووه بألفاظ متقاربة مختصرا ومطوّلا، فالخبر صحيح في الأصل وانظر ما قبله.

(4/362)


سأكلِّفه مشقةً من العذاب لا راحة له منها. وقال ابن قتيبة: «الصَّعود» : العقبة الشاقة، وكذلك «الكؤود» .
(1500) وفي حديث أبي سعيد عن نبيّ الله صلّى الله عليه وسلم في قوله عزّ وجلّ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قال: جبل من نار يكلَّف أن يصعده، فإذا وضع يده عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت. يصعد سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً.
(1501) وذكر ابن السائب أنه جبل من صخرة ملساء في النار، يكلَّف أن يصعَدها حتى إِذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلَّف أن يصعَدها، فذلك دأبه أبدا، يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد، فيصعدها في أربعين سنة.
قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ أي: تفكر ماذا يقول في القرآن وَقَدَّرَ القول في نفسه فَقُتِلَ أي:
لعن كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أي: لُعِن على أيّ حال قدَّر من الكلام. وقيل: «كيف» هاهنا بمعنى التعجب والإنكار والتوبيخ. فإنما كرر تأكيداً ثُمَّ نَظَرَ في طلب ما يدفع به القرآن، ويردُّه ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ قال اللغويون: أي: كَرَّهَ وَجْهَهُ وقطَّب. يقال: بسر الرجل وجهه، إذا قبضه. وأنشدوا لتَوْبَةَ:
وقَدْ رَابَني مِنْها صُدُودٌ رَأَيْتُهُ ... وَإِعْرَاضُها عن حَاجتي وبُسُورُها «1»
قال المفسرون: كرَّه وجهه، ونظر بكراهية شديدة، كالمهتمّ المتفكِّر في الشيء ثُمَّ أَدْبَرَ عن الإيمان وَاسْتَكْبَرَ أي: تكبر حين دعي إليه فَقالَ إِنْ هذا أي: ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي:
يُروى عن السَّحَرة إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ أي: من كلام الإنس، وليس من كلام الله تعالى، فقال الله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ أي: سأدخله النار. وقد ذكرنا «سقر» في سورة القمر «2» ، قوله: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لِعِظَم شَأْنِها لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ أي: لا تبقي لهم لحماً إلا أكلته، ولا تذرهم إذا أُعيدوا فيها خلقاً جديداً لَوَّاحَةٌ أي: مغيِّرة يقال: لاحته الشمس، أي: غيّرته. وأنشدوا:
__________
ضعيف. وصدر الحديث أخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 382 من طريق عبد الله بن سليمان عن منجاب بن الحارث أنا شريك عن عمار الذهني عن عطية العوفي عن أبي سعيد، وعطية ضعيف. وأخرجه الطبري 35412 من طريق شريك به. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 131: أخرجه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه عطية، وهو ضعيف. وأخرجه أحمد 3/ 75 والترمذي 3326 والحاكم 2/ 507 والطبري 35413 والبيهقي في «البعث» 513 من حديث أبي سعيد بلفظ «الصعود جبل في النار يكلف الكافر أن يصعد فيه سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً» . وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن درّاج.
وقال ابن كثير: وفيه غرابة ونكارة، قلت: إسناده ضعيف لضعف درّاج في روايته عن أبي الهيثم، وتابعه عطية عند الطبري 35412 وعطية ضعيف، والحديث صححه الحاكم! وسكت الذهبي، ولعل سبب سكوت الذهبي عليه هو كون الحديث في مقام الترهيب، وقد تساهل أهل العلم في ذلك والله أعلم.
وانظر «فتح القدير» 2607 بتخريجنا ولله الحمد والمنة.
عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وقد كذّبه غير واحد، وهو ساقط الرواية.
__________
(1) البيت لتوبة بن الحميّر، وهو في «مجاز القرآن» 2/ 275. و «الأغاني» 10/ 272.
(2) القمر: 48.

(4/363)


يا ابْنَةَ عَمِّي لاَحَني الهواجر
وقرأ ابن مسعود، وابن السّميفع، وابن عبلة «لوَّاحةً» بالنصب.
وفي «البَشَر» قولان: أحدهما: أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة، وهذا قول مجاهد، والفراء، والزجاج. والثاني: أنهم الإنس من أهل النار، قاله الأخفش، وابن قتيبة في آخرين.
قوله عزّ وجلّ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ وهم خزنتها.
(1502) مالك ومعه ثمانية عشر، أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يسع كَفّ أحدهم مثل ربيعة ومضر. قد نزعت منهم الرحمة. فلما نزلت هذه الآية قال أبو جهل: يخوّفكم محمّد بتسعة عشر، ما له من الجنود إلا هؤلاء! أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم يخرجون من النار! فقال أبو الأشد «1» قال مقاتل:
اسمه: أسيد بن كلدة. وقال غيره: كلدة بن خلف الجمحي: يا معشر قريش: أنا أمشي بين أيديكم وأدفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر، فندخل الجنة، فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً لا آدميين، فمن يطيقهم ومن يغلبهم؟! وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ في هذه القِلَّة إِلَّا فِتْنَةً أي: ضلالة لِلَّذِينَ كَفَرُوا حتى قالوا ما قالوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أن ما جاء به محمد حق، لأن عِدَّتهم في التوراة تسعة عشر، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا من أهل الكتاب إِيماناً أي: تصديقا بمحمّد صلّى الله عليه وسلم إذ وجدوا ما يخبرهم به موافقاً لما في كتابهم وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ أي: ولا يشك هؤلاء في عدّة الخَزَنَة.
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النفاق، ذكره الأكثرون. والثاني: أنه الشك، قاله مقاتل، وزعم أنهم يهود أهل المدينة، وعنده أن هذه الآية مدنية. والثالث: أنه الخلاف، قاله الحسين بن الفضل. وقال: لم يكن بمكة نفاق. وهذه مكية. فأما «الكافرون» فهم مشركو العرب، ماذا أَرادَ اللَّهُ أي: أي شيء أراد الله بِهذا الحديث والخبر مَثَلًا والمثل يكون بمعنى الحديث نفسه ومعنى الكلام: يقولون ما هذا من الحديث كَذلِكَ أي: كما أضلَّ من أنكر عدّة الخَزَنَة، وهدى من صدَّق يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وأُنزل في قول أبي جهل: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار. وذلك أن لكل واحد من هؤلاء التسعة عشر من الأعوان ما لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ، وذكر الماوردي في وجه الحكمة في كونهم تسعة عشرة قولاً محتملاً، فقال: التسعة عشر: عدد يجمع أكثر القليل، وأقل الكثير، لأن الآحاد أقل الأعداد، وأكثرها تسعة، وما سوى الآحاد كثير. وأقل الكثير: عشرة، فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير، وأكثر القليل. ثم رجع إلى ذكر النار فقال عزّ وجلّ: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى أي: ما
__________
لا أصل له بهذا اللفظ. ذكره الزمخشري في «الكشاف» 4/ 651 فقال الحافظ: لم أجده. والظاهر أن مصدره مقاتل، حيث ذكره المصنف في أثناء الخبر، أو يكون الكلبي، وكلاهما ممن يضع الحديث.
__________
(1) وقع في المطبوع: أبو الأسدين، وسيأتي في سورة الانفطار، الآية 6: أبو الأشدين، والتصويب عن «معالم التنزيل» 4/ 385 و «الكشاف» 4/ 651 و «تفسير الماوردي» 4/ 145.

(4/364)


كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

النار في الدنيا إلّا مذكّرة بنار الآخرة كَلَّا أي: حقاً وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «إذا أدبر» وقرأ نافع، وحمزة، وحفص، والفضل عن عاصم، ويعقوب وخلف، «إذ» بسكون الذال من غير ألف بعدها «أدبر» بسكون الدال، وبهمزة قبلها.
وهل معنى القراءتين واحد، أم لا؟ فيه قولان «1» : أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد. يقال: دبر الليل، وأدبر، ودبر الصيف وأدبر، هذا قول الفراء. والأخفش، وثعلب. والثاني: أن «دبر» بمعنى خلف، و «أدبر» بمعنى وَّلى. يقال: دبرني فلان: جاء خلفي، وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيدة وابن قتيبة.
قوله عزّ وجلّ: إِذا أَسْفَرَ أي: أضاء وتبيَّن إِنَّها يعني: سقر لَإِحْدَى الْكُبَرِ قال ابن قتيبة:
الكُبَر، جمع كبرى، مثل الأُوَل والأُولى، والصُّغَر والصُّغْرى. وهذا كما يقال: إنها لإحدى العظائم.
قال الحسن: والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها.
وقال ابن السائب، ومقاتل: أراد بالكُبَر: دركات جهنّم السبعة.
قوله عزّ وجلّ: نَذِيراً لِلْبَشَرِ قال الزجاج: نصب «نذيراً» على الحال. والمعنى: إِنها لكبيرة في حال الإنذار. وذَكَّر «النذير» ، لأن معناه معنى العذاب. ويجوز أن يكون «نذيراً» منصوباً متعلقاً بأول السورة، على معنى: قم نذيرا للبشر.
قوله عزّ وجلّ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ بدل من قوله عزّ وجلّ: «للبشر» ، أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن يتقدَّم في طاعة الله أو يتأخَّر عن معصيته، قاله ابن جريج. والثاني: أن يتقدَّم إلى النار، أو يتأخَّر عن الجنة، قاله السدي. والثالث: أن يتقدَّم في الخير، أو يتأخر إلى الشر، قاله يحيى بن سلام. والرابع: أن يتقدَّم في الإيمان، أو يتأخَّر عنه. والمعنى: أن الإِنذار قد حصل لكل أحد ممن أقر أو كفر.

[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 56]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)
كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
قوله عزّ وجلّ: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: كل نفس بالغةٍ مُرتَهنةٌ بعملها لتُحاسَب عليه إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ وهم أطفال المسلمين، فإنه لا حساب عليهم، لأنه لا ذنوب عليهم، قاله عليّ رضي الله عنه واختاره الفراء. والثاني: كل نفس من أهل النار مرتهنة في النار، إلّا أصحاب
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 315: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما لغتان بمعنى، وذلك أنه محكي عن العرب، قبح الله ما قبل وأبر، ودبر الصيف وأدبر، وكذلك قبل وأقبل، وأخرى أن أهل التفسير لم يميزوا في تفسيرهم بين القراءتين وذلك دليل على أنهم فعلوا ذلك كذلك، لأنهما بمعنى واحد. [.....]

(4/365)


اليمين، وهم المؤمنون، فإنهم في الجنة، قاله الضحاك. والثالث: كل نفس مرتهنةٌ بعملها لتحاسب عليه إلا أصحاب اليمين، فإنهم لا يحاسبون، قاله ابن جريج.
قوله عزّ وجلّ: يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ قال مقاتل: إذا خرج أهل التوحيد من النار قال المؤمنون لمن بقي في النار: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قال الفرّاء: وهذه الآية تقوّي أنهم الولدان لأنهم لم يعرفوا الذنوب فسألوا ما سلككم في سقر؟ قال المفسرون: سلككم بمعنى: أدخلكم. وقال مقاتل: ما حبسكم فيها؟ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ لله في دار الدنيا وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي: لم نتصدَّق لله وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أهل الباطل والتكذيب وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أي: بيوم الجزاء والحساب حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ وهو الموت. يقول الله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ وهذا إنما جرى بعد شفاعة الأنبياء والملائكة والشهداء والمؤمنين. وهذا يدل على أنّ نفع الشفاعة لمن آمن. قوله: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ يعني: كفار قريش حين نفروا من القرآن والتذكير بمواعظه. والمعنى: لا شيء لهم في الآخرة إِذْ أعرضوا عن القرآن ولم يؤمنوا به، ثم شبَّههم في نفورهم عنه بالحمر، فقال عزّ وجلّ:
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر، والمفضل عن عاصم بفتح الفاء. والباقون بكسرها. قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: من قرأ بفتح الفاء أراد: مذعورة، استنفرت فنفرت، ومن قرأ بكسر الفاء أراد: نافرة: قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: حُمُرٌ مستنفَرة. وناس من العرب يكسرون الفاء. والفتح أكثر في كلام العرب. وقراءتنا بالكسر. أنشدني الكسائي:
اِحْبِسْ حِمَارَك إنَّه مُسْتَنْفِرُ ... في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عمدن لغرّب
«وغرّب» موضع.
وفي «القسورة» سبعة أقوال: أحدها: أنه الأسد، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس: وبه قال أبو هريرة، وزيد بن أسلم، وابنه. قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عايَنَتْ الأسد هَرَبَتْ منه، فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم هربوا منه، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة، والزجاج. قال ابن قتيبة:
كأنَّه من القَسْرِ والقهر. والأسد يقهر السباع. والثاني: أن القسورة: الرماة، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال أبو موسى الأشعري، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وابن كيسان. والثالث: أن القسورة: حِبَال الصيادين، رواه عكرمة عن ابن عباس. والرابع: أنهم عُصَبُ الرِّجَال، رواه أبو حمزة عن ابن عباس. واسم أبي حمزة: نصر بن عمران الضبعي. والخامس: أنه رِكْز الناس، وهذا في رواية عطاء أيضاً عن ابن عباس. ورِكْز الناس: حِسُّهم وأصواتهم. والسادس: أنه الظُّلْمة والليل، قاله عكرمة. والسابع: أنه النَّبْل، قاله قتادة.
قوله عزّ وجلّ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: إن سَرَّك أن نَتَّبِعْك، فليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله تعالى إلى فلان بن فلان يؤمر فيه باتِّباعك قاله الجمهور «1» . والثاني: أنهم أرادوا براءةً من النار أن لا يعذَّبوا بها، قاله أبو صالح. والثالث: أنهم قالوا: كان الرجل إذا أذنب في بَني إسرائيل وجده مكتوباً إذا أصبح في رقعة.
__________
(1) عزاه المصنف للجمهور. وهو عند الطبري 35519 عن قتادة. وعزاه السيوطي في «الدر» 6/ 461 لعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد.

(4/366)


فما بالنا لا نرى ذلك؟ فنزلت هذه الآية، قاله الفراء. فقال الله تعالى: كَلَّا أي: لا يؤتَون الصُّحُف بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أي: لا يخشون عذابها. فالمعنى: أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالة كَلَّا أي: حقاً. وقيل: معنى (كلا) : ليس الأمر كما يريدون ويقولون إِنَّهُ يعني القرآن تَذْكِرَةٌ أي: تذكير وموعظة فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ الهاء عائدة على القرآن فالمعنى: فمن شاء أن يذكر القرآن ويتعظ به ويفهمه، ذَكره. ثم رد المشيئة إلى نفسه فقال عزّ وجلّ: وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي: إلا أن يريد لهم الهدى هُوَ أَهْلُ التَّقْوى أي: أهل أن يُتَّقى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي: أهل أن يَغفِر لمن تاب.
(1503) روى أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية، فقال: «قال ربكم عزّ وجلّ: أنا أهل أن أُتقى، فلا يشرك بي غيري. وأنا أهل لمن اتَّقى أن يشرك بي غيري أن أغفر له» .
__________
ضعيف، في إسناده سهيل بن أبي حزم ضعيف، ومداره عليه. قال الحافظ في «التهذيب» قال أحمد: روى أحاديث منكرة، وقال ابن معين: صالح. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات. أخرجه ابن ماجة 4299 وأبو يعلى 3317 من طريق هدبة بن خالد ثنا سهيل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس به. وأخرجه الترمذي 3325 وأحمد 3/ 142 و 243 والدارمي 2/ 302- 303 والحاكم 2/ 508 والواحدي في «الوسيط» 4/ 388- 389 من طرق عن سهيل بن أبي حزم به. وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي في الحديث، وقد تفرّد سهيل بهذا الحديث عن ثابت.
الخلاصة: هو حديث ضعيف.
وانظر «فتح القدير» 2612 و «الجامع لأحكام القرآن» 6180 بتخريجنا.

(4/367)