زاد المسير في
علم التفسير لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ
(2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ
يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ
أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ
(7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
(9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا
قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ
بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
سورة القيمة
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ
بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ
نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ
بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ
أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)
وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ
لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)
يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
(13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
قوله تعالى: لا أُقْسِمُ اتفقوا على أن المعنى «قسم» واختلفوا
في «لا» فجعلها بعضهم زائدة، كقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ
أَهْلُ الْكِتابِ «1» وجعلها بعضهم توكيدا للقسم كقولك: لا
والله لا أفعل، وجعلها بعضهم رداً على منكري البعث. ويدل عليه
أنه «أقسم» على كون البعث. قال ابن قتيبة: زيدت «لا» على نية
الرد على المكذبين، كما تقول: لا والله ما ذاك كما تقول: ولو
حذفت جاز، ولكنه أبلغ في الرد. وقرأ ابن كثير إلا ابن فليح
«لأقسم» بغير ألف بعد اللام فجعلها لاما دخلت على «أقسم» ، وهي
قراءة ابن عباس، وأبي عبد الرحمن، والحسن، ومجاهد، وعكرمة.
وابن محيصن. قال الزجاج:
من قرأ «لأقسم» فاللام لام القسم والتوكيد. وهذه القراءة بعيدة
في العربية، لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع
النون، تقول: لأَضربنَّ زيداً. ولا يجوز: لأَضْرِبُ زيداً.
قوله عزّ وجلّ: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال
الحسن: أَقسمَ بالأولى ولم يقسم بالثانية. وقال قتادة: حكمها
حكم الأولى.
وفي «النفس اللّوامة» ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنها المذمومة،
قاله ابن عباس. فعلى هذا: هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها
اللوم. والثاني: أنها النفس المؤمنة، قاله الحسن. قال: لا ترى
المؤمن
__________
(1) الحديد: 29.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 528: إن المقسم
عليه متى كان منفيا جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي،
والمقسم عليه هاهنا إثبات المعاد والرد على ما يزعمه الجهلة من
العباد من عدم بعث الأجساد، ولهذا قال: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ والصحيح
أنه أقسم بهما جميعا كما قال قتادة رحمه الله وهو المروي عن
ابن عباس وسعيد بن جبير واختاره ابن جرير.
(4/368)
إلا يلوم نفسه على كل حال. والثالث: أنها
جميع النفوس. قال الفراء: ليس من نفس بَرَّةٍ ولا فاجرة إلا
وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قالت: هلّا زدت. وإن كانت
عملت سوءا قالت: ليتني لم أفعل «1» .
قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ
عِظامَهُ المراد بالإنسان هاهنا: الكافر.
وقال ابن عباس: يريد أبا جهل.
(1504) وقال مقاتل: عدي بن ربيعة وذلك أنه قال: أيجمع الله هذه
العظام؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم له:
«نعم» ، فاستهزأَ مِنْه، فنزلت هذه الآية. قال ابن الأنباري:
وجواب القسم محذوف كأنه: ليبعثنّ ليحاسبنّ، فدلّ قوله عزّ
وجلّ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ على
الجواب، محذوف.
وقوله عزّ وجلّ: بَلى وقف حسن. ثم يُبتدأ قادِرِينَ على معنى:
بلى نجمعها قادرين، ويصلح نصب «قادرين» على التكرير: بلى
فَلْيَحْسَبْنَا قادرين عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ وفيه
قولان: أحدهما:
أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفّ البعير، وحافر
الحمار، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة والخياطة،
هذا قول الجمهور. والثاني: نقدر على تسوية بنانه كما كانت، وإن
صغرت عظامها، ومن قدر على جمع صغار العظام، كان على جمع كبارها
أقدر، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج.
وقد بينا معنى البنان في الأنفال «2» .
قوله عزّ وجلّ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ
فيه قولان: أحدهما: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، قاله ابن
عباس. والثاني: يقدِّم الذنب ويؤخِّر التوبة، ويقول: سوف أتوب،
قاله سعيد بن جبير. فعلى هذا: يكون المراد بالإنسان: المسلم.
وعلى الأول: الكافر.
قوله عزّ وجلّ: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي: متى
هو؟ تكذيباً به، وهذا هو الكافر، فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ قرأ
أهل المدينة، وأبان عن عاصم «بَرَق» بفتح الراء، والباقون
بكسرها: قال الفراء: العرب تقول: بَرِق البصر يبرَق، وبَرَق
يبرُق: إذا رأى هولاً يفزع منه. و «بَرِق» أكثر وأجود. قال
الشاعر:
فَنَفْسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَني ... ودَاوِ الكُلُومَ ولاَ
تَبْرَقِ «3»
بالفتح. يقول: لا تفزع من هول الجراح التي بك. قال المفسرون:
يشخص بصر الكافر يوم القيامة، فلا يَطْرِفُ لما يرى من العجائب
التي كان يكذب بها في الدنيا. وقال مجاهد: برق البصر عند
الموت.
قوله عزّ وجلّ: وَخَسَفَ الْقَمَرُ قال أبو عبيدة: خسف وكسف
بمعنى واحد، أي: ذهب ضوءه.
__________
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 843 بدون إسناد.
وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 659: ذكره الثعلبي والبغوي
والواحدي بغير إسناد. فالخبر باطل لا أصل له، ولم ينسبه هؤلاء
إلى قائل، ولم يذكره السيوطي في «الدر» ولا في «أسباب النزول»
ولا ذكره الطبري، وكل ذلك دليل على وضعه، والله أعلم.
وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6181.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 327: وهذه الأقوال
التي ذكرناها عن- النفس اللوامة- وإن اختلفت بها ألفاظ
قائليها، فمتقاربات المعاني، وأشبه القول في ذلك بظاهر التنزيل
أنها تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات.
(2) الأنفال: 12.
(3) البيت لطرفة بن العبد، في ديوانه: 218، و «اللسان» - برق.
(4/369)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
(18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ
تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
(23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ
يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
قوله عزّ وجلّ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ إنما قال: «جمع» لتذكير القمر، هذا قول أبي عبيدة.
وقال الفراء: إنما لم يقل: جُمِعَتْ، لأن المعنى: جمع بينهما
وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: جمع بين ذاتَيْهما. وقال ابن مسعود: جمعا كالبعيرين
القرينين. وقال عطاء بن يسار:
يُجْمَعَان ثم يُقْذَفَان في البحر. وقيل: يُقْذَفَان في
النار. وقيل: يجمعان، فيطلعان من المغرب. والثاني:
جمع بينهما في ذهاب نورهما، قاله الفراء، والزجاج.
قوله عزّ وجلّ: يَقُولُ الْإِنْسانُ يعني: المكذِّب بيوم
القيامة أَيْنَ الْمَفَرُّ قرأ الجمهور بفتح الميم، والفاء،
وقرأ ابن عباس، ومعاوية، وأبو رزين وأبو عبد الرحمن، والحسن،
وعكرمة، والضّحّاك والزّهريّ، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: بكسر
الفاء. قال الزجاج: فمن فتح، فالمعنى: أين الفرار؟ ومن كسر،
فالمعنى: أين مكان الفرار؟ تقول: جلست مجلَساً بالفتح، يعني:
جلوساً. فإذا قلت: مجلسا بالكسر. فأنت تريد المكان.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا لا وَزَرَ قال ابن قتيبة: لا ملجأ. وأصل
الوزر: الجبل الذي يمتنع فيه إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
الْمُسْتَقَرُّ
أي: المنتهى والمرجع. يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما
قَدَّمَ وَأَخَّرَ
فيه ستة أقوال: أحدها: بما قدَّم قبل موته، وما سنَّ من شيء
فعُمِل به بعد موته، قاله ابن مسعود، وابن عباس. والثاني:
يُنَبَّأُ بأوَّل عمله وآخره. قاله مجاهد. والثالث: بما قدَّم
من الشَّرِّ، وأخَّر من الخير. قاله عكرمة. والرابع: بما قدَّم
من فرض، وأخَّر من فرض، قاله الضحاك. والخامس: بما قدَّم من
المعصية، وأخّر من الطاعة.
والسادس: بما قدَّم من أمواله، وما خلَّف للورثة قاله زيد بن
أسلم. قوله عزّ وجلّ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ
بَصِيرَةٌ
قال الفراء: المعنى: بل على الإنسان من نفسه بصيرة، أي رقباء
يشهدون عليه بعمله، وهي:
الجوارح. قال ابن قتيبة: فلما كانت جوارحه منه، أقامها مقامه.
وقال أبو عبيدة: جاءت الهاء في «بصيرة» في صفة الذّكر، كما
كانت في: رجل راوية، وطاغية، وعلّامة.
قوله عزّ وجلّ: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ.
وفي المعاذير قولان: أحدهما: أنه جمع عذر، فالمعنى: لو اعتذر،
وجادل عن نفسه، فعليه من يكذَّب عذره، وهي: الجوارح، وهذا قول
الأكثرين. والثاني: أن المعاذير جمع معذار، وهو: الستر.
والمعاذير: الستور. فالمعنى: ولو أرخى ستوره، هذا قول الضحاك،
والسدي، والزجاج. فيخرج في معنى «ألقى» قولان: أحدهما: قال،
ومنه: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ «1» ، وهذا على القول
الأول.
والثاني: أرخى، وهذا على القول الثاني.
[سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 25]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ
عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22)
إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ
(24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
قوله عزّ وجلّ: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
__________
(1) النحل: 36.
(4/370)
(1505) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان
يشتد عليه حِفظه، وكان إذا نزل عليه الوحي يُحرِّك لسانه
وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي، مخافة أن لا يحفَظه،
فأنزل الله تعالى هذه الآية. معناها: لا تحرك بالقرآن لسانك
لتعجل بأخذه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
قال ابن قتيبة: أي: ضمَّه وجمعه في صدرك فَإِذا قَرَأْناهُ
أي: جمعناه فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أي:
جمعه. قال المفسرون: يعني: اقرأه إذا فرغ جبريل من قراءته «1»
. قال ابن عباس: فاتِّبع قرآنه، أي:
اعمل به. وقال قتادة: فاتبع حلاله وحرامه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا
بَيانَهُ فيه أربعة أقوال: أحدها: نبيِّنه بلسانك، فتقرؤه كما
أقرأك جبريل. وكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب، قرأه كما
وعده الله، قاله ابن عباس.
والثاني: إِن علينا أن نجزيَ به يوم القيامة بما فيه من وعد
ووعيد، قاله الحسن. والثالث: إِن علينا بيانه:
ما فيه من الأحكام، والحلال، والحرام، قاله قتادة. والرابع:
علينا أن ننزِّله قرآناً عربياً، فيه بيان للناس، قاله
الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال عطاء: أي: لا يؤمن أبو جهل بالقرآن
وبيانه، وقال ابن جرير:
والمعنى: ليس الأمر كما تقولون من أنكم لا تُبْعَثُون، ولكن
دعاكم إلى قِيلِ ذلك مَحَبَّتُكم للعاجلة.
قوله عزّ وجلّ: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ قرأ ابن كثير،
وأبو عمرو «بل يحبون العاجلة ويذرون» بالياء فيهما. وقرأ
الباقون بالتاء فيهما. والمراد: كفار مكة، يحبونها ويعملون لها
«ويذرون الآخرة» أي:
يتركون العمل إيثارا للدنيا عليها.
قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي: مشرقة بالنّعم
إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ روى عطاء عن ابن عباس قال: إلى الله
ناظرة. قال الحسن: حق لها أن تَنْضَر وهي تنظر إلى الخالق،
وهذا مذهب عكرمة. ورؤية الله عزّ وجلّ حقّ لا شكّ فيها.
والأحاديث صحيحة صحاح، قد ذكرتُ جملة منها في «المغني» و
«الحدائق» .
قوله عزّ وجلّ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ قال ابن قتيبة:
أي: عابسة مقطّبة.
قوله عزّ وجلّ: تَظُنُّ قال الفراء: أي: تعلم، و «الفاقرة»
يقال: إنه الداهية. قال ابن قتيبة: إنه من فَقارة الظهر، كأنها
تكسره، يقال: فَقَرْتُ الرجل إذا كسرتَ فَقارَه، كما يقال:
رَأَسْتُه: إذا ضربتَ رأْسَه، وبَطَنْتُه: إذا ضَرَبْتَ
بَطْنَه. قال ابن زيد: والفاقرة: دخول النار. قال ابن السائب:
هي أن تُحْجَبَ عن ربها، فلا تنظر إليه.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4929 والبغوي في «التفسير» 2297 بترقيمنا
عن قتيبة بن سعيد بن عن ابن عباس.
وأخرجه البخاري 5 و 4927 و 4928 و 5044 و 7524 ومسلم 448
والترمذي 3329 والنسائي في «التفسير» 654 من طريق موسى بن أبي
عائشة به.
__________
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 349: فكان رسول
الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا
انطلق جبريل قرأه النبي صلّى الله عليه وسلم كما ثبت في
الصحيح. وهذا يعضد ما تقدم في سورة المزمل من قوله: وَرَتِّلِ
الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أن قراءته صلّى الله عليه وسلم كان يمد
صوته مدّا. وهذا المعنى صحيح. وذلك أن المتلقن من حكمه الأوكد
أن يصغي إلى الملقن بقلبه ولا يستعين بلسانه، فيشترك الفهم بين
القلب واللسان، فيذهب روح التحصيل بينهما، ويخزل اللسان بتجرد
القلب للفهم، فيتيسر التحصيل، وتحريك اللسان يجرد القلب عن
الفهم، فيتعسر التحصيل بعادة الله التي يسّرها.
(4/371)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ
التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ
الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى
رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا
صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ
إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)
ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ
أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ
يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى
(40)
[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27)
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ
بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى
(32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ
فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ
نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً
فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال الزجاج: «كلا» ردع وتنبيه. المعنى:
ارتَدِعوا عما يؤدِّي إلى العذاب. وقال غيره: معنى «كلا» : لا
يُؤْمِنُ الكافر بهذا.
قوله عزّ وجلّ: إِذا بَلَغَتِ يعني: النفس. وهذه كناية عن غير
مذكور. والتَّراقِيَ العظام المكتنفة لنُقْرَة النَّحر عن يمين
وشمال. وواحدة التراقي تَرْقوة، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن
الإشفاء على الموت، وَقِيلَ مَنْ راقٍ
فيه قولان: أحدهما: أنه قول الملائكة بعضهم لبعض: من يرقى
روحه، ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب؟ رواه أبو الجوزاء عن
ابن عباس، وبه قال أبو العالية ومقاتل.
والثاني: أنه قول أهله: هل مِنْ رَاقٍ يَرْقيه بالرُّقى؟ وهو
مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال عكرمة، والضحاك، وأبو قلابة،
وقتادة، وابن زيد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج.
قوله عزّ وجلّ: وَظَنَّ أي: أيقن الذي بلغت روحه التراقيَ
أَنَّهُ الْفِراقُ للدنيا وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ
فيه خمسة أقوال: أحدها: أمر الدنيا بأمر الآخرة، رواه الوالبي
عن ابن عباس: وبه قال مقاتل.
والثاني: اجتمع فيه الحياة والموت، قاله الحسن. وعن مجاهد
كالقولين. والثالث: التفت ساقاه في الكفن، قاله سعيد بن
المسيب. والرابع: التفت ساقاه عند الموت، قاله الشعبي.
والخامس: الشّدة بالشّدة، قاله قتادة. آخر شدة الدنيا بأول شدة
الآخرة.
قوله عزّ وجلّ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي: إلى
الله المنتهى، قوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى قال أبو عبيدة:
«لا» هاهنا في موضع «لم» . قال المفسرون هو أبو جهل وَلكِنْ
كَذَّبَ بالقرآن وَتَوَلَّى عن الإيمان ثُمَّ ذَهَبَ إِلى
أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي: رجع إليهم يتبختر ويختال. قال الفراء:
يَتَمَطَّى أي: يتبختر، لأن الظهر هو المَطَا، فيلوي ظهره
متبختراً. وقال ابن قتيبة: أصله يتمطّط، فقلبت الطاء فيه، كما
قيل:
يتظنّى، أي: يتظنن، ومنه المشية المُطَيْطَاء. وأصل الطاء في
هذا كله دال. إنما هو مد يده في المشي إذا تبختر. يقال:
مَطَطتُ ومَدَدتُ بمعنى.
قوله عزّ وجلّ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى قال ابن قتيبة: هو تهديد
ووعيد. وقال الزجاج: العرب تقول:
أولى لفلان: إِذا دعت عليه بالمكروه، ومعناه: وليك المكروه يا
أبا جهل.
قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ يعني: أبا جهل أَنْ
يُتْرَكَ سُدىً قال ابن قتيبة: أي: يهمل فلا يؤمر ولا ينهى ولا
يعاقب، يقال: أسديت الشيء، أي: أهملته. ثم دل على البعث ب قوله
عزّ وجلّ:
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى قرأ أبن كثير،
ونافع، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تُمْنَى» بالتاء.
وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم، ويعقوب «يُمْنَى» بالياء. وعن
أبي عمرو كالقراءتين. وقد شرحنا هذا في النجم «1» ثُمَّ كانَ
عَلَقَةً بعد النطفة فَخَلَقَ فيه الروح، وسَوَّى خلقه
فَجَعَلَ مِنْهُ أي:
__________
(1) النجم: 24.
(4/372)
خَلَقَ من مائه أولاداً ذكوراً وإناثاً
أَلَيْسَ ذلِكَ الذي فعل هذا بِقادِرٍ على أن يحيي الموتى وقرأ
أبو بكر الصديق، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري «يقدر» عَلى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتى وهذا تقرير لهم، أي: إن من قَدَر على
الابتداء قَدَر على الإعادة.
(1506) قال ابن عباس: إذا قرأ أحدكم هذه الآية، فليقل: اللهم
بلى.
__________
أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا كما في «الدر» 6/ 479.
وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. أخرجه أبو
داود 887 عن عبد الله بن محمد الزهري به. وأخرجه أحمد 2/ 249
والترمذي 3347 مختصرا والبيهقي 2/ 310 من طريق إسماعيل بن أمية
به.
وقال الترمذي: هذا حديث إنما يروى بهذا الإسناد عن هذا
الأعرابي عن أبي هريرة، ولا يسمى اه.
وأخرجه الحاكم 2/ 510 من طريق إسماعيل بن أمية عن أبي اليسع عن
أبي هريرة به وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! في حين قال الذهبي
في «الميزان» 4/ 589: أبو اليسع لا يدرى من هو. وأخرجه عبد
الرزاق 3658 في «التفسير» عن إسماعيل بن أمية مرسلا، وهو
الصحيح. الخلاصة: الحديث ضعيف بصيغة الأمر، وأما كونه مستحب
فهو حسن كما في حديث موسى بن أبي عائشة أخرجه أبو داود 884
والبيهقي 2/ 310 وعبد الرزاق في «التفسير» عن إسرائيل عن موسى
بن أبي عائشة: أن رجلا حدثهم أنه سمعه من النبي صلّى الله عليه
وسلم.
(4/373)
هَلْ أَتَى عَلَى
الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا
مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ
أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا
كَفُورًا (3)
سورة الإنسان
سورة هل أتى: ويقال لها: سورة الدهر وفيها ثلاثة أقوال «1» :
أحدها: أنها مدنيّة كلّها، قاله الجمهور منهم، مجاهد وقتادة.
والثاني:
مكيّة، قاله ابن يسار، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس. والثالث: أنّ
فيها مكّيّا ومدنيّا.
ثم في ذلك قولان: أحدهما: أن المكّيّ منها آية، وهي قوله عزّ
وجلّ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وباقيها
جميعه مدنيّ، قاله الحسن وعكرمة. والثاني: أنّ أوّلها مدنيّ
إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ «2» ومن هذه الآية إلى آخرها مكّيّ، حكاه
الماورديّ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ
شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً
(2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا
كَفُوراً (3)
قوله تعالى: هَلْ أَتى قال الفراء: معناه: قد أتى. و «هل» تكون
خبراً، وتكون جحداً، فهذا من الخبر، لأنك تقول: هل وعظتك؟ هل
أعطيتك؟ فتقرِّره بأنك قد فعلت ذلك. والجحد، أن تقول:
وهل يقدر أحد على مثل هذا؟ وهذا قول المفسرين، وأهل اللغة. وفي
هذا الإنسان قولان: أحدهما:
أنه آدم عليه السلام. والحين الذي أتى عليه: أربعون سنة، وكان
مصوَّراً من طين لم يُنُفَخ فيه الروح، هذا قول الجمهور.
والثاني: أنه جميع الناس، روي عن ابن عباس، وابن جريج، فعلى
هذا يكون الإنسان اسم جنس، ويكون الحين زمان كونه نطفة، وعلقة،
ومضغة.
قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً المعنى: أنه
كان شيئاً، غير أنه لم يكن مذكوراً.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني: ولد آدم
مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ قال ابن قتيبة: أي:
أخلاط. يقال: مشجته، فهو مشيج، يريد: اختلاط ماء المرأة بماء
الرجل.
قوله تعالى: نَبْتَلِيهِ قال الفراء: هذا مقدَّم، ومعناه
التأخير، لأن المعنى: خلقناه وجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه.
قال الزجاج: المعنى: جعلناه كذلك لنختبره وقوله عزّ وجلّ:
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 19/ 170:
قال الجمهور: مدنية وقيل: فيها مكي، من قوله تعالى: إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا [الإنسان:
23] إلى آخر السورة وما تقدّمه مدني.
(2) الإنسان: 23.
(4/374)
إِنَّا أَعْتَدْنَا
لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ
الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا
كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ
يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا
وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا
نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ
مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ
اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً
وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً
وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا
يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ
كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا
تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا
زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا
رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا
رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا
أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا
طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ
سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا
تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ
لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ
يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا
ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ
وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ
سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ
يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (31)
أي بيَّنَّا له سبيل الهدى بنصب الأَدلة،
وبعث الرسول «1» إِمَّا شاكِراً أي: خلقناه إما شاكرا وَإِمَّا
كَفُوراً وقال الفراء: بيَّنَّا له الطريق إن شكر، أو كفر.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 31]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً
وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ
كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ
اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً
وَأَسِيراً (8)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ
جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً
عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ
الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ
بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها
عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا
زَمْهَرِيراً (13)
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها
تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ
وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ
قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ
مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى
سَلْسَبِيلاً (18)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ
حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ
رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ
سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ
فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا
كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ
كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
(25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً
طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ
وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ
خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا
أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ
سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ
اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي
رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً
(31)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وقرأ
ابن كثير، وابن عامر، وحمزة «سلاسل» بغير تنوين، ووقفوا بألف،
ووصله أبو عمرو بألف من غير تنوين والباقون يصلون بالتنوين
ويقفون بألف.
قال مكي بن أبي طالب النحوي: «سلاسل» و «قوارير» أصله أن لا
ينصرف، ومن صرفه من القراء، فإنها لغة لبعض العرب. وقيل: إنما
صرفه لأنه وقع في المصحف بالألف، فصرفه لاتباع خط المصحف. قال
مقاتل: السلاسل في أعناقهم، والأغلال في أيديهم. وقد شرحنا
معنى «السّعير» في سورة النّساء «2» .
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْأَبْرارَ واحدهم بَرٌّ، وبَارٌّ، وهم
الصادقون. وقيل: المطيعون. وقال الحسن: وهم الذين لا يؤذون
الذَّر يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي: من إناءٍ فيه شراب كانَ
مِزاجُها يعني:
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 535: وقوله: إِنَّا
هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي بيناه له ووضحناه وبصّرناه به،
كقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا
الْعَمى عَلَى الْهُدى وكقوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ، أي
بينا له طريق الخير وطريق الشر، وهذا قول عكرمة وعطية وابن زيد
ومجاهد- في المشهور عنه- والجمهور.
(2) النساء: 10.
(4/375)
مزاج الكأس كافُوراً وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الكافور المعروف، قاله مجاهد، ومقاتل، فعلى هذا في
المراد «بالكافور» ثلاثة أقوال: أحدها: برده، قاله الحسن.
والثاني: ريحه، قاله قتادة.
والثالث: طعمه، قاله السدي. والثاني: أنه اسم عين في الجنة،
قاله عطاء، وابن السائب. والثالث: أن المعنى: مزاجها كالكافور
لطيب ريحه، وأجازه الفراء، والزجاج.
قوله عزّ وجلّ: عَيْناً قال الفراء: هي المفسرة للكافور، وقال
الأخفش: هي منصوبة على معنى: أعني عيناً. وقال الزجاج: الأجود
أن يكون المعنى: من عين، قوله: يَشْرَبُ بِها فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يشرب منها. والثاني: يشربها، والباء صلة. والثالث: يشرب
بها عباد الله الخمر يمزجونها بها.
وفي هذه العين قولان: أحدهما: أنها الكافور الذي سبق ذكره.
والثاني: التّسنيم، وعِبادُ اللَّهِ هاهنا: أولياؤه
يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً قال مجاهد: يقودونها إلى حيث شاؤوا
من الجنة. قال الفراء: حيث ما أحب الرجل من أهل الجنّة فجّرها
لنفسه.
قوله عزّ وجلّ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قال الفراء: فيه إضمار
«كانوا» يوفون بالنذر. وفيه قولان «1» :
أحدهما: يوفون بالنذر إذا نذروا في طاعة الله، قاله مجاهد،
وعكرمة. والثاني: يوفون بما فرض الله عليهم، قاله قتادة. ومعنى
«النذر» في اللغة: الإيجاب. فالمعنى يوفون بالواجب عليهم،
قوله: وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً قال ابن
عباس: فاشياً. وقال ابن قتيبة: فاشياً منتشراً. يقال: استطار
الحريق: إِذا انتشر، واستطار الفجر: إذا انتشر الضوء. وأنشدوا
للأعشى:
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 536: وقوله تعالى:
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي: يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من
فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع وما أوجبوه على أنفسهم بطريق
النذر.
وقال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 19/ 115: أي
لا يخلفون إذا نذروا. وقال معمر عن قتادة: بما فرض الله عليهم
من الصلاة والزكاة والحج والعمرة، وغيره من الواجبات. والنذر:
حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه في شيء يفعله، وإن شئت قلت:
النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم
يلزمه. وقد قال الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج: 29]- أي أعمال نسكهم التي
ألزموها أنفسهم امتثال أمر الله بإحرامهم الحج. وهذا يقوي قول
قتادة. قال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 353: النذر
مكروه بالجملة، ثبت في الصحيح عن مالك عن أبي الزناد، عن عبد
الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلّى
الله عليه وسلم قال: «قال تعالى: لا يأتي النذر على ابن آدم
بشيء لم أكن قدّرته له، إنما يستخرج به من البخيل» - قلت: حديث
صحيح. أخرجه أحمد 2/ 242 والحميدي 1112 والطحاوي في «المشكل»
842 من طريق سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن
النبي صلّى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى. وأخرجه أبو
داود 3288 من طريق مالك به ولم يقل: «قال الله تعالى: ... »
وأخرجه البخاري 6694 والنسائي 7/ 106. من طريق أبي الزناد به،
وليس فيه «قال الله تعالى» .
وأخرجه البخاري 6694 ومسلم 1640 والنسائي 7/ 16- 17 والترمذي
1538 وابن ماجة 2123 وأحمد 2/ 373 و 412 و 463 وابن أبي عاصم
في «السنة» 312 وابن حبان 4376 والحاكم 4/ 304 والبيهقي 10/ 77
من طريق عبد الرحمن الأعرج به. ولم يقل: «قال الله تعالى» .
قال ابن العربي: وذلك لفقه صحيح، وهو أن الباري سبحانه وعد
بالرزق على العمل ومنه مفروض، ومنه مندوب، فإذا عين العبد
ليستدر به الرزق، أو يستجلب به الخير، أو يستدفع به الشر لم
يصل إليه به، فإن وصل فهو لبخله. والله أعلم. [.....]
(4/376)
فبانت وقد أسأرت في الفؤاد ... صَدْعاً
عَلَى نَأْيِها مُسْتَطِيراً «1»
وقال مقاتل: كان شرّه فاشيا في السموات، وانشقّت، وتناثرت
الكواكب، وفزعت الملائكة، وكوِّرت الشمس والقمر في الأرض،
ونُسِفَتْ الجبال، وغَارَت المياه، وتكَسَّر كل شيء على وجه
الأرض من جبلٍ، وبناءٍ، وفَشَا شَرُّ يوم القيامة فيهما.
قوله عزّ وجلّ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ اختلفوا
فيمن نزلت على قولين:
(1507) أحدهما: نزلت في علي بن أبي طالب. آجر نفسه يسقي نخلاً
بشيء من شعيرٍ ليلة حتى أصبح، فلما قبض الشعير طحن ثلثه،
وأصلحوا منه شيئاً يأكلونه، فلما استوى أتى مسكين، فأخرجوه
إليه، ثم عمل الثلث الثاني، فلما تم أتى يتيم، فأطعموه، ثم عمل
الثلث الباقي، فلمّا تمّ جاء أسير من المشركين، فأطعموه
وطوَوْا يومهم ذلك، فنزلت هذه الآيات، رواه عطاء عن ابن عباس.
(1508) والثاني: أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري صام يوماً،
فلما أراد أن يفطر جاء مسكين، ويتيم، وأسير، فأطعمهم ثلاثة
أرغفة، وبقي له ولأهله رغيف واحد، فنزلت فيهم هذه الآية، قاله
مقاتل.
وفي هاء الكناية في قوله عزّ وجلّ عَلى حُبِّهِ قولان: أحدهما:
ترجع إلى الطعام، فكأنهم كانوا يُؤْثِرُون وهم محتاجون إليه،
وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والزجاج، والجمهور. والثاني: أنها
ترجع إلى الله تعالى، قاله الداراني. وقد سبق معنى «المسكين
واليتيم» «2» . وفي الأسير أربعة أقوال «3» : أحدها:
أنه المسجون من أهل القبلة، قاله مجاهد، وعطاء وسعيد بن جبير.
والثاني: أنه الأسير المشرك، قاله الحسن، وقتادة. والثالث:
المرأة، قاله أبو حمزة الثمالي. والرابع: العبد، ذكره
الماورديّ.
__________
موضوع. ذكره الواحدي في «الأسباب» 844 عن عطاء عن ابن عباس
معلقا بدون إسناد. وأخرجه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام عن
ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس، ومن رواية الكلبي عن
أبي صالح عن ابن عباس، في قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
... الآية فذكره بتمامه، وزاد في أثناءه أشعارا لعلي وفاطمة.
قاله الحافظ في «تخريج الكشاف» 4/ 670. وأخرجه ابن الجوزي في
«الموضوعات» 1/ 390 عن الأصبغ بن نباتة ... فذكره بشعره وزيادة
بعض الألفاظ، ثم قال: وهذا لا نشك في وضعه. وكذا قال الحكيم
الترمذي في «نوادر الأصول» 1/ 154- 155: ومن الحديث الذي ينكره
قلوب المحققين: ما روي عن ابن عباس ... فذكره ثم قال: هذا حديث
مزوّق، وقد تطرف فيه صاحبه حتى يشبّه على المستمعين، والجاهل
يعض على شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يدري أن صاحب
هذا الفعل مذموم.
- وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6208 بتخريجي.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء،
وذكر نزول السورة ليس له أصل في هذا الخبر، وقد ورد في أبي
الدحداح غير هذه الآية، وتقدم.
__________
(1) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس، وهو في ديوانه 93.
(2) البقرة: 83.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 537: قال عكرمة: هم
العبيد، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك، وقد
أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في
غير ما حديث، حتى إنه كان آخر ما أوصى به أن جعل يقول: «الصلاة
وما ملكت أيمانكم» .
(4/377)
فصل: وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية
تضمنت مدحهم على إطعام الأسير المشرك.
قال: وهذا منسوخ بآية السيف. وليس هذا القول بشيء، فإن في
إطعام الأسير المشرك ثواباً، وهذا محمول على صدقة التطوع. فأما
الفرض فلا يجوز صرفه إلى الكفَّار، ذكره القاضي أبو يعلى.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي:
لطلب ثواب الله. قال مجاهد، وابن جبير: أما إنهم ما تكلموا
بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم لِيَرْغَبَ في
ذلك راغب.
قوله عزّ وجلّ: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً أي: بالفعل وَلا
شُكُوراً بالقول إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً أي: ما في
يوم عَبُوساً قال ابن قتيبة: أي: تعبس فيه الوجوه، فجعله من
صفة اليوم، كقوله عزّ وجلّ: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «1» ، أراد:
عاصف الريح: فأما «القمطرير» فروى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس:
أنه الطويل. وروى عنه العوفي أنه قال: هو الذي يقبّض فيه الرجل
ما بين عينيه ووجهه. فعلى هذا يكون اليوم موصوفاً بما يجري
فيه، كما قلنا في «العبوس» لأن اليوم لا يوصف بتقبيض ما بين
العينين. وقال مجاهد، وقتادة: «القمطرير» الذي يقلِّص الوجوه،
ويقبض الحياة، وما بين الأعين من شدته. وقال الفراء: هو
الشديد. يقال: يوم قمطرير، ويوم قماطر، وأنشدني بعضهم.
بَنِي عَمِّنَا هَلْ تَذْكُرونَ بَلاَءَنَا ... عليكُم إذا ما
كان يَوْمٌ قُماطِرُ
وقال أبو عبيدة: العبوس، والقمطرير، والقماطر، والعَصِيب،
والعَصَبْصَب: أشد ما يكون من الأيام، وأطوله في البلاء.
قوله عزّ وجلّ: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ
بطاعتهم في الدنيا وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي: حُسْنَاً وبياضاً
في الوجوه، وَسُرُوراً لا انقطاع له. وقال الحسن: النَّضْرة في
الوجوه والسُّرُور في القلوب وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا على
طاعته، وعن معصيته جَنَّةً وَحَرِيراً وهو لباس أهل الجنة
مُتَّكِئِينَ فِيها قال الزجاج: هو منصوب على الحال، أي: جزاهم
جنة في حال اتكائهم فيها. وقد شرحنا هذا في الكهف «2» .
قوله عزّ وجلّ: لاَ يَرَوْنَ فِيها شَمْساً فيُؤذيهم حَرُّها
وَلا زَمْهَرِيراً وهو البرد الشديد. والمعنى: لا يجدون فيها
الحَرَّ والبرد. وحكي عن ثعلب أنه قال: الزمهرير: القمر،
وأنشد:
وَلَيْلَةٍ ظَلاَمُهَا قَد اعْتَكَرْ ... قَطَعْتُهَا
وَالزّمْهَريرُ مَا زَهَر
أي: لم يطلع القمر.
قوله عزّ وجلّ: وَدانِيَةً قال الفراء: المعنى: وجزاهم جنة،
ودانيةً عليهم ظلالها، أي: قريبة منهم ظلال أشجارها
وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا قال ابن عباس: إِذا هَمَّ أن
يتناول من ثمارها تَدَلَّتْ إليه حتى يتناولَ ما يريد. وقال
غيره: قُرِّبَتْ إليهم مُذَلَّلة كيف شاؤوا، فهم يتناولونها
قياماً، وقعودا، ومضطجعين، فهو كقوله عزّ وجلّ: قُطُوفُها
دانِيَةٌ «3» . فأمّا «الأكواب» فقد شرحناها في (الزّخرف) «4»
قوله: كانَتْ قَوارِيرَا أي: تلك الأكواب هي قوارير، ولكنها من
فضة. قال ابن عباس: لو ضَرَبْتَ فضةَ الدنيا حتى جعلتَها مثل
جناح الذباب، لم يُرَ الماء من ورائها، وقوارير الجنة من فضة
في صفاء
__________
(1) إبراهيم: 18.
(2) الكهف: 31.
(3) الحاقة: 23.
(4) الزخرف: 71.
(4/378)
القارورة. وقال الفراء. وابن قتيبة: هذا
على التشبيه، المعنى: كأنها من فضة، أي: لها بياض كبياض الفضة
وصفاء كصفاء القوارير. وكان نافع، والكسائيّ، وأبو بكر عن عاصم
يقرءون «قواريراً قواريراً» فَيَصِلُونَهما جميعاً بالتنوين.
ويقفون عليهما بالألف. وكان ابن عامر وحمزة يَصِلاَنِهما
جميعاً بغير تنوين، ويقفان عليهما بغير ألف. وكان ابن كثير يصل
الأول بالتنوين، ويقف بغير ألف. ويصل الثاني بغير تنوين وروى
حفص عن عاصم أنه كان يقرأ «سلاسل» و «قوارير قوارير» يَصِلُ
الثلاثة بغير تنوين، ويقف على الثلاثة بالألف. وكان أبو عمرو
يقرأ الأول «قواريرا» فيقف عليه بألف، ويصل بغير تنوين.
وقال الزجاج: الاختيار عند النّحويين أن لا تنصرف «قوارير» لأن
كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف. ومن قرأ «قواريرا» يصرف
الأول لأنّه رأس آية، ويترك صرف الثاني لأنه ليس بآخر آية. ومن
صرف الثاني: أتبع اللفظ اللفظ، لأن العرب ربما قلبت إعراب
الشيء لتُتْبِعَ اللفظ اللفظ، كما قالوا:
جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ. وإِنما الخَرِبُ من نعت الجحر.
قوله عزّ وجلّ: قَدَّرُوها تَقْدِيراً وقرأ ابن عباس وأبو عبد
الرحمن السلمي، وأبو عمران، والجحدري، وابن يعمر «قُدِّروها»
برفع القاف، وكسر الدال، وتشديدها. وقرأ حميد، وعمرو بن دينار
«قَدَرُوها» بفتح القاف، والدال، وتخفيفها. ثم في معنى الآية
قولان: أحدهما: قَدَّرُوها في أنفسهم، فجاءت على ما قَدَّرُوا،
قاله الحسن. وقال الزجاج: جعل الإناء على قَدْر ما يحتاجون
إليه ويريدونه على تقديرهم. والثاني: قَدَّروها على مقدارٍ لا
يزيد ولا ينقص، قاله مجاهد. وقال غيره: قدروا الكأس على قَدْر
رِيِّهم، لا يزيد عن رِيِّهم فيُثْقِلُ الكفَّ، ولا ينقص منه
فيطلب الزيادة، وهذا ألذُّ الشراب. فعلى هذا القول يكون الضمير
في «قدَّروا» للسقاة والخدم. وعلى الأول للشاربين.
قوله عزّ وجلّ: وَيُسْقَوْنَ فِيها يعني في الجنة كَأْساً كانَ
مِزاجُها زَنْجَبِيلًا والعرب تضرب المثل بالزنجبيل والخمر
ممزوجين. قال المسيّب يصف فم امرأة:
فَكَأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبيل بِهِ ... إذْ ذُقْتَهُ
وَسُلاَفَةُ الخَمْرِ «1»
وقال آخر:
كَأَنَّ القرنفل والزّنجبيل ... باتا بِفِيها وأرْيَاً
مُشَاراً «2»
الأَرْي: العسل. والمشار: المستخرج من بيوت النّحل. قال مجاهد:
الزّنجبيل: اسم العين التي منها شراب الأبرار. وقرأت على شيخنا
أبي منصور اللغوي قال: الزنجبيل معرّب. قال: وقال
الدِّيْنَوَرِي: يَنْبُتُ في أرياف عُمَان، وهي عروق تسري في
الأرض، وليس بشجرة تؤكل رُطَباً، وأجود ما يحمل من بلاد الصين.
قال الزجاج: وجائز أن يكون فيها طعم الزنجبيل، والكلام فيه
كالكلام السابق في الكافور. وقيل: شراب الجنّة على بردِ
الكافور، وطعم الزنجبيل، وريح المسك.
قوله عزّ وجلّ: عَيْناً فِيها قال الزجاج: يسقون عيناً.
وسلسبيل: اسم العين، إلا أنه صرف لأنه رأس آية. وهو في اللغة:
صفة لما كان في غاية السلاسة. فكأن العين وصفت وسميت بصفتها.
وقرأت
__________
(1) هو في آخر ديوان الأعشى ابن أخت المسيب بن علس.
(2) البيت في ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس 93.
(4/379)
على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: قوله عزّ
وجلّ تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا قيل: هو اسم أعجمي نَكِرَة، فلذلك
يصرف. وقيل: هو اسم معرفة، إلا أنه أُجْرِيَ، لأنه رأس آية.
وعن مجاهد قال: حديدة الجرية. وقيل: سلسبيل: سلس ماؤها، مستفيد
لهم. وقال ابن الأنباري: السّلسبيل صفة الماء، لِسَلَسِهِ
وسهولة مدخله في الحلق. يقال: شراب سَلْسَل، وسَلْسال،
وسَلْسَبِيل. وحكى الماوردي: أن عليّاً عليه السلام قال:
المعنى: سَلْ سَبِيلاً إليها، ولا يصح.
قوله عزّ وجلّ: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ قد
سبق بيانه «1» إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً
مَنْثُوراً أي: في بياض اللؤلؤ وحسنه، واللؤلؤ إذا انتثر من
الخيط على البساط كان أحسن منه منظوما. وإنما شُبِّهوا باللؤلؤ
المنثور، لانتشارهم في الخدمة. ولو كانوا صفّا لشبّهوه
بالمنظوم. قوله: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ يعني:
الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً لا يوصف وَمُلْكاً كَبِيراً أي:
عظيماً واسعاً لا يريدون شيئاً إِلا قدَروا عليه، ولا يدخل
عليهم ملَك إلّا باستئذان.
قوله عزّ وجلّ: عالِيَهُمْ قرأ أهل المدينة، وحمزة، والمفضل عن
عاصم بإسكان الياء، وكسر الهاء. وقرأ الباقون بفتح الياء، إلا
أن الجعفي عن أبي بكر قرأ «عَالِيَتُهُم» بزيادة تاء مضمومة.
وقرأ أنس بن مالك، ومجاهد وقتادة «عَلَيْهِم» بفتح اللام،
وإسكان الياء من غير تاءٍ، ولا ألف.
قال الزجاج: فأما تفسير إعراب «عالِيْهم» بإسكان الياء، فيكون
رفعه بالابتداء، ويكون الخبر ثِيابُ سُندُسٍ وأما «عَالِيَهم»
بفتح الياء، فنصبه على الحال من شيئين، أحدهما من الهاء
والميم، والمعنى: يطوف على الأبرار وِلْدَانٌ مُخَلَّدُون عالي
الأبرار ثياب سندس، لأنه قد وصف أحوالهم في الجنة، فيكون
المعنى: يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء. ويجوز أن يكون حالاً
من الوِلْدان.
المعنى: إذا رأيتَهم حَسِبْتَهم لؤلؤاً منثوراً في حال عُلُوِّ
الثياب. وأمّا «عاليهم» فقد قرئت بالرفع وبالنصب، وهما وجهان
جَيِّدان في العربية، إلا أنهما يخالفان المصحف، فلا أرى
القراءة بهما، وتفسيرها كتفسير «عاليهم» .
قوله عزّ وجلّ: ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ قرأ ابن عامر، وأبو
عمرو، «خضر» رفعا «وإِسْتَبْرقٍ» خفضاً.
وقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم «خُضْرٍ» خفضاً «وإستبرقٌ»
رفعا. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم «خُضْرٌ وإستبرقٌ» كلاهما
بالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي «خضْرٍ وإسْتَبْرقٍ» كلاهما
بالخفض. قال الزجاج: من قرأ خُضْرٌ بالرفع، فهو نعت الثياب،
ولفظ الثياب لفظ الجمع، من قرأ «خُضْرٍ» فهو من نعت السندس،
والسندسُ في المعنى راجع إلى الثياب. ومن قرأ «وإستبرق» رفعا
فهو نسق على «ثياب» والمعنى: عليهم إستبرق. ومن خفض عطفه على
السندس، فيكون المعنى: عليهم ثياب من هذين النوعين وقد
بَيّنَّا في الكهف «2» معنى السندس، والإستبرق والأساور.
قوله عزّ وجلّ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً فيه
قولان: أحدهما: لا يُحْدِثون ولا يَبُولُون عن شُرْب خَمْر
الجَنَّة. قاله عطية. والثاني: لأن خمر الجنة طاهرةٌ، وليست
بنجسةٍ كخمرِ الدنيا، قاله الفراء: وقال أبو قلابة: يُؤْتَوْنَ
بعد الطَعام بالشَّرابِ الطَّهورِ فيشربون فَتَضْمُر بذلك
بُطونُهم، ويفيض من
__________
(1) الواقعة: 17.
(2) الكهف: 31.
(4/380)
جلودهم عرق مثل رشح المسك.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ هذا يعني: ما وصف من نعيم أهل الجنة كانَ
لَكُمْ جَزاءً بأعمالكم وَكانَ سَعْيُكُمْ أي: عملكم في الدنيا
بطاعة الله مَشْكُوراً قال عطاء: يريد: شكرتكم عليه، وأثيبكم
عليه أفضل الثواب إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
تَنْزِيلًا، أي: فصّلناه في الإنزال، فلم نُنْزِلْه جُمْلَةً
واحدةً فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ قد سبق بيانه في مواضع «1»
. والمفسّرون يقولون: هو منسوخ بآية السيف، ولا يصحّ، قوله:
وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ أي: من مشركي أهل مكة آثِماً أَوْ
كَفُوراً «أو» بمعنى الواو، كقوله: أَوِ الْحَوايا «2» . وقد
سبق بيان هذا.
وللمفسّرين في المراد بالآثم وفي الكفور ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهما صفتان لأبي جهل. والثاني:
أن الآثم: عتبة بن ربيعة، والكفور الوليد بن المغيرة. والثالث:
الآثم: الوليد. والكَفُور: عتبة، وذلك أنهما قالا له: ارجع عن
هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج. قوله وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ أي: اذكره بالتوحيد في الصلاة بُكْرَةً يعني: الفجر
وَأَصِيلًا يعني: العصر. وبعضهم يقول: الظهر والعصر وَمِنَ
اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ يعني: المغرب والعشاء. وَسَبِّحْهُ
لَيْلًا طَوِيلًا وهي: صلاة الليل كلّ فريضة عليه، وهي
لأُمَّتِهِ تَطَوُّع إِنَّ هؤُلاءِ يعني: كفّار مكّة
يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي يعني: الدّار العاجلة، وهي الدنيا
وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يعني: أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا أي:
عسيراً شديداً. والمعنى: أنهم يتركون الإيمان به، والعمل له.
ثم ذكر قدرته، فقال عزّ وجلّ: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا
أَسْرَهُمْ أي: خَلْقهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة،
والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. قال ابن قتيبة: يقال: امرأة
حَسَنَةُ الأسر، أي: حَسَنَةُ الخَلْقِ كأنها أُسِرتْ أي:
شُدَّتْ. وأصل هذا من الإسار، وهو: القِدُّ. الذي تشد به
الأقتاب يقال: ما أحسن ما أَسَر قَتَبَهُ، أي: ما أحسن ما
شَدَّه بالقِدِّ. وروي عن أبي هريرة قال: مفاصلهم. وعن الحسن
قال: أوصالهم بعضا إلى بعض بالعروق والعصب، قوله: وَإِذا
شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي: إذا شئنا أهلكناهم وأتينا
بأشباههم، فجعلناهم بدلاً منهم إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ وقد
شرحنا الآية في المزّمّل «3» .
قوله عزّ وجلّ: وَما تَشاؤُنَ إيجاد السبيل إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللَّهُ ذلكم، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، «وما يشاءون» بالياء.
قوله عزّ وجلّ: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ قال
المفسرون: والرّحمة هاهنا: الجنّة وَالظَّالِمِينَ المشركين.
قال أبو عبيدة: نصب «الظالمين» بالجوار، المعنى: ولا يُدخل
الظالمين في رحمته. وقال الزجاج: إنما نصب «الظالمين» لأنَّ
قبله منصوباً. المعنى: يُدخل من يشاء في رحمته، ويعذب
الظالمين، فيكون قوله عزّ وجلّ: أَعَدَّ لَهُمْ تفسيراً لهذا
المضمر، وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة
«والظالمون» رفعا.
__________
(1) الطور: 48، والقلم: 48.
(2) الأنعام: 146.
(3) المزمل: 19. [.....]
(4/381)
وَالْمُرْسَلَاتِ
عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ
نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ
ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ
لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا
السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ
(12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ
الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ
الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ
مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ
(21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ
الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً
وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ
وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ
(30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا
تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ
(33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ
لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ
(36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ
الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ
لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ
وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا
إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا
يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
سورة المرسلات
وهي مكّيّة كلّها في قول الجمهور وحكي عن ابن عباس، وقتادة،
ومقاتل أن فيها آية مدنيّة، وهي قوله عزّ وجلّ: وَإِذا قِيلَ
لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 50]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2)
وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما
تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ
(11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ
الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)
كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي
قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا
فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً
(26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ
ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ
وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا
قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا
يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
قوله تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فيه أربعة أقوال «2»
: أحدها: أنها الرياح يَتْبَعُ بعضُها بعضاً، رواه
__________
(1) المرسلات: 48.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 541: توقف ابن جرير
في الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً هل هي الملائكة، ولم يرجح- وقطع بأن
العاصفات عصفا هي الرياح كما قاله ابن مسعود اه.
(4/382)
أبو العُبَيْدَينِ عن ابن مسعود، والعوفي
عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة. والثاني: أنها الملائكة
التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه، رواه مسروق عن ابن
مسعود، وبهذا قال أبو هريرة ومقاتل.
وقال الفراء: هي الملائكة.
فأمّا قوله عزّ وجلّ: عُرْفاً فإنها: أُرْسِلتْ بالمعروف،
ويقال: تَتَابَعَتْ كعُرْفِ الفَرَسِ. والعرب تقول: يركب الناس
إلى فلان عُرْفاً واحداً: إِذا توجهوا إليه فأكثروا. قال ابن
قتيبة: يريد أن الملائكة متتابعة بما ترسَل به. وأصله من عرف
الفرس، لأنه طرف مستوٍ، بعضه في إِثر بعض فاستعير للقوم يتبع
بعضُهم بعضاً. والثالث: أنهم الرسل بما يعرفون به من المعجزات،
هذا معنى قول أبي صالح، ذكره الزجاج. والرابع: أنها الملائكة
والريح، قاله أبو عبيدة. قال: ومعنى «عرفا» : يتبع بعضها بعضا.
يقال:
جاءوني عُرْفاً.
وفي «العاصفات» قولان: أحدهما: أنها الرياح الشديدة الهبوب،
قاله الجمهور. والثاني:
الملائكة، قاله مسلم بن صبيح. قال الزجاج: تعصف بروح الكافر.
وفي «الناشرات» خمسة أقوال: أحدها: أنها الرياح تنشر السحاب،
قاله ابن مسعود، والجمهور.
والثاني: الملائكة تنشر الكتب، قاله أبو صالح. والثالث: الصحف
تنشر على الله تعالى بأعمال العباد، قاله الضحاك. والرابع:
البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح، قاله الربيع. والخامس: المطر
ينشر النبات، حكاه الماوردي.
وفي «الفارقات» أربعة أقوال «1» : أحدها: الملائكة تأتي بما
يفرِّق بين الحق والباطل، قاله الأكثرون. والثاني: آي القرآن
فَرَّقَتْ بين الحلال والحرام، قاله الحسن، وقتادة، وابن
كيسان.
والثالث: الريح تفرّق بين السحاب فتبدِّدُه، قاله مجاهد.
والرابع: الرسل، حكاه الزّجّاج.
وفي «الملقيات ذكرا» قولان: أحدهما: الملائكة تبلّغ ما حملت من
الوحي إلى الأنبياء، وهذا مذهب ابن عباس، وقتادة، والجمهور.
والثاني: الرسل يلقون ما أُنزل عليهم إلى الأمم، قاله قطرب.
قوله عزّ وجلّ: عُذْراً أَوْ نُذْراً وقرأ ابن كثير، ونافع،
وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «عُذْراً» خفيفاً «أو نُذُراً»
ثقيلا. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص، وخلف «عُذْراً
أو نُذْراً» خفيفتان.
قال الفراء: وهو مصدر، مثقَّلاً كان أو مخفّفاً. ونصبه على
معنى: أُرسلتُ بما أرسلتُ به إِعذاراً من الله وإنذاراً. وقال
الزجاج: المعنى: فالملقياتِ عُذراً أو نُذراً. ويجوز أن يكون
المعنى: فالملقيات ذكراً للإعذار والإنذار. وهذه المذكورات
مجرورات بالقسم. وجواب القسم إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ قال
المفسرون: إنَّ ما توعَدون به من أمر الساعة، والبعث، والجزاء
لَواقِعٌ، أي: لكائن. ثم ذكر متى يقع فقال عزّ وجلّ: فَإِذَا
النُّجُومُ طُمِسَتْ أي: مُحِيَ نُورُها وَإِذَا السَّماءُ
فُرِجَتْ: شُقَّتْ وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ قال الزجاج: أي:
ذُهِبَ بها كلُّها بسرعة. يقال: انتسفتُ الشيء: إذا أخذته
بسرعة.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 542: يعني
الملائكة، ولا خلاف هاهنا فإنها تنزل بأمر الله على الرسل،
فتفرق بين الحقّ والباطل، والهدى والغي، والحلال والحرام،
وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم عقاب
الله إن خالفوا أمره.
(4/383)
قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الرُّسُلُ
أُقِّتَتْ قرأ أبو عمرو «وُقِّتَتْ» بواو مع تشديد القاف.
ووافقه أبو جعفر، إلا أنه خَفَّفَ القاف. وقرأ الباقون:
«أُقِّتت» بألف مكان الواو مع تشديد القاف. قال الزجاج:
وُقِّتَتْ وأُقِّتَتْ بمعنى واحد. فمن قرأ «أُقِّتت» بالهمز،
فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو. وكل واو انضمت،
وكانت ضمّتها لازمة، جاز أن تبدل منها بهمزة. وقال الفراء:
الواو إذا كانت أول حرف، وضُمَّتْ، همزت. تقول: صلى القوم
أُحداناً. وهذه أُجوهٌ حسان. ومعنى «أُقِّتت» : جمعت لوقتها
يوم القيامة. وقال ابن قتيبة: جمعت لوقت، وهو يوم القيامة.
وقال الزجاج: جعل لها وقت واحد لفصل القضاء بين الأمّة.
قوله عزّ وجلّ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي: أُخِّرَتْ.
وضَرْبُ الأجل لجمعهم، يعجِّب العباد من هول ذلك اليوم. ثم
بيّنه فقال عزّ وجلّ: لِيَوْمِ الْفَصْلِ وهو يوم يفصل الله
تعالى فيه بين الخلائق. ثم عَظَّم ذلك اليوم بقوله: وَما
أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ بالبعث. ثم أخبر الله تعالى عما فعل بالأمم
المكذِّبة، فقال: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ يعني بالعذاب
في الدنيا حين كذَّبوا رسلهم ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ
والقراء على رفع العين في «نتبعُهم» ، وقد قرأ قوم منهم أبو
حيوة بإسكان العين. قال الفراء:
«نتبعهم» مرفوعة. ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود «وسنتبعهم
الآخرين» . ولو جزمتَ على معنى: ألم نقدر على إهلاك الأولين
وإتباعهم الآخرين كان وجهاً جيداً. وقال الزجاج: الجزم عطف على
«نُهْلكْ» ، ويكون المعنى: لمن أُهلك أولاً وآخراً. والرفع على
معنى: ثم نتبع الأول والآخر من كل مجرم. وقال مقاتل: ثم نتبعهم
الآخرين: يعني: كفار مكّة كذّبوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم،
وقال ابن جرير: الأوَّلون: قوم نوح، وعاد، وثمود، والآخرون:
قوم إبراهيم، ولوط، ومَدْيَن.
قوله عزّ وجلّ: كَذلِكَ أي: مثل ذلك نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ
يعني: المكذِّبين. فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله عزّ
وجلّ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ؟ فالجواب: أنه أراد
بكل آية منها غير ما أراد بالأخرى، لأنه كلما ذكر شيئاً قال:
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بهذا.
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ قرأ قالون عن نافع بإظهار
القاف. وقرأ الباقون بإدغامها.
قوله عزّ وجلّ: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي: ضعيف فَجَعَلْناهُ فِي
قَرارٍ مَكِينٍ يعني: الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ وهو مدة
الحمل فَقَدَرْنا قرأ أهل المدينة، والكسائي «فَقَدَّرْنَا»
بالتشديد. وقرأ الباقون: بالتخفيف.
وهل بينهما فرق؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد. قال الفراء: تقول العرب:
قَدَر عليه، وقَدَّر عليه. وقد احتج من قرأ بالتخفيف فقال: لو
كانت مشدّدة لقال: فنعم القادرون، فأجاب الفراء فقال: قد تجمع
العرب بين المعنيين، كقوله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ
أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «1» . قال الشاعر:
وَأَنْكَرَتْني وَمَا كانَ الَّذي نَكِرَتْ ... مِنَ
الحَوَادِثِ إِلاَّ الشَّيْبَ والصَّلَعَا «2»
يقول: ما أنكرت إلّا ما يكون في الناس.
__________
(1) الطارق: 17.
(2) البيت للأعشى الكبير ديوانه: 101 من قصيدة يمدح بها هوذة
بن علي الحنفي ملك اليمامة.
(4/384)
والثاني: أن المخفَّفة من القُدْرَة
والملك، والمشدَّدة من التقدير والقضاء. ثم بيَّن لهم صنعه
ليعتبروا فيوحّدوه، فقال عزّ وجلّ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ
كِفاتاً قال اللغويون: الكفت في اللغة: الضم.
والمعنى: أنها تضم أهلها أحياءً على ظهرها، وأمواتاً في بطنها.
قال ابن قتيبة: يقال: اكفتْ هذا إليك، أي: ضمه. وكانوا يسمون
بقيع الغرقد: كفتة، لأنه مقبرة يضمّ الموتى.
وفي قوله عزّ وجلّ: أَحْياءً وَأَمْواتاً قولان: أحدهما: أن
المعنى: تكفتهم أحياءً وأمواتاً، قاله الجمهور. قال الفراء:
وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم، كأنك قلت: ألم
نجعل الأرض كفاتَ أحياءٍ وأمواتٍ، فإذا نَوَّنْتَ نصبتَ كما
يقرأ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً
«1» وقال الأخفش: انتصب على الحال.
والقول الثاني: أن المعنى: ألم نجعل الأرض أحياءً بالنبات
والعمارة، وأمواتاً بالخراب واليبس، هذا قول مجاهد، وأبي
عبيدة.
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ قد سبق بيانه
شامِخاتٍ أي: عاليات وَأَسْقَيْناكُمْ قد سبق معنى «أسقينا»
«2» ومعنى «الفرات» «3» والمعنى: أن هذه الأشياء أعجب من
البعث. ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة: انْطَلِقُوا إِلى ما
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا، وهو النار انْطَلِقُوا
إِلى ظِلٍّ قرأ الجمهور هذه الثانية بكسر اللام على الأمر.
وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، ورويس عن يعقوب بفتح اللام
على الخبر بالفعل الماضي. قال ابن قتيبة: «والظّل» هاهنا: ظل
من دخان نار جهنم سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدُّخان
العظيم إذا ارتفع أن يتشعب، فيقال لهم: كونوا فيه إِلى أن يفرغ
من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه، أو حيث شاء من
الظل، ثم يُؤْمَرُ بكل فريق إلى مستقرِّه من الجنة والنار لا
ظَلِيلٍ أي: لا يظلكم من حرِّ هذا اليوم بل يدنيكم من لهب
النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس. قال مجاهد: تكون شعبة
فوق الإِنسان، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن شماله، فتحيط به. وقال
الضحاك: الشعب الثلاث: هي الضَّريع، والزَّقوم، والغِسْلين.
فعلى هذا القول يكون هذا بعد دخول النار.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي: لا يدفع عنكم
لَهَبَ جهنم. ثم وصف النار فقال عزّ وجلّ إِنَّها تَرْمِي
بِشَرَرٍ، وهو جمع شررة، وهو ما يتطاير من النار متفرقاً
كَالْقَصْرِ قرأ الجمهور بإسكان الصاد على أنه واحد القصور
المبنيَّة. وهذا المعنى في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس،
وهو قول الجمهور. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، وأبو
الجوزاء «كالقَصَر» بفتح الصاد. وفي أفراد البخاري من حديث ابن
عباس قال: كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل فنرفعه
للشتاء، فنسميه:
القصر. قال ابن قتيبة: من فتح الصاد أراد: أُصول النخل
المقطوعة المقلوعة. وقال الزّجّاج: أراد أعناق الإبل. وقرأ سعد
بن أبي وقاص، وعائشة، وعكرمة، وأبو مجلز، وأبو المتوكل، وابن
يعمر «كالقَصِر» بفتح القاف، وكسر الصاد. وقرأ ابن مسعود، وأبو
هريرة، والنخعي «كالقُصُر» برفع القاف والصاد جميعاً. وقرأ أبو
الدرداء، وسعيد بن جبير «كالقِصَر» بكسر القاف، وفتح الصاد،
وقرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ
«كالقصر» بضمّ القاف وإسكان الصاد.
__________
(1) البلد: 14- 15.
(2) الحجر: 22، الجن: 16.
(3) الفرقان: 53، فاطر: 12.
(4/385)
قوله عزّ وجلّ: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ قرأ ابن
كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم
«جِمالاَتٌ» بألف، وكسر الجيم. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن
عاصم «جِمَالَةُ» على التوحيد. وقرأ رويس عن يعقوب «جُمَالاَت»
بضم الجيم. وقرأ أبو رزين، وحميد، وأبو حيوة «جُمَالة» برفع
الجيم على التوحيد. قال الزجاج: من قرأ «جِمالات» بالكسر، فهو
جمع جِمَال، كما تقول:
بُيوت، وبُيوتَات، وهو جمع الجمع، فالمعنى: كأن الشرارات
كالجمالات. ومن قرأ «جُمالات» بالضم، فهو جمع «جمالة» ، وهو
القلس من قلوس سفن البحر، ويجوز أن يكون جمع جمل وجمال
وجمالات، ومن قرأ جِمالةً فهو جمع جَمَل وجِمالة، كما قيل:
حَجر، وحِجَارة. وذَكَر، وذِكَارَة.
وقرئت «جُمالة» على ما فسرناه في جُمالات بالضم. و «الصُّفْر»
هاهنا: السود. يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصفرة: إِبل
صُفْرٌ. وقال الفراء: الصُّفْر: سود الإبل لا يُرى الأسود من
الإبل إلا وهو مُشْرَبٌ صُفْرَةً، فلذلك سَمَّتْ العرب سود
الإبل: صُفْراً، كما سَمَّوا الظباء: أدماً لما يعلوها من
الظلمة في بياضها، قال الشاعر:
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هنّ سور أولادها كالزّبيب
قوله عزّ وجلّ: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ قال المفسرون: هذا
في بعض مواقف القيامة. قال عكرمة:
تكلَّموا واختصموا، ثم ختم على أفواههم، فتكلَّمت أيديهم،
وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون ولا يؤذون لهم فيعتذرون. وقال ابن
الأنباري: لا ينطقون بحجة تَنْفَعُهم. وقرأ أبو رجاء، والقاسم
بن محمد، والأعمش، وابن أبي عبلة «هذا يومَ لا ينطقون» بنصب
الميم.
قوله عزّ وجلّ: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي: بين أهل الجنة وأهل
النار جَمَعْناكُمْ يعني: مكذِّبي هذه الأمة وَالْأَوَّلِينَ
من المكذِّبين الذين كذَّبوا أنبياءَهم فَإِنْ كانَ لَكُمْ
كَيْدٌ فَكِيدُونِ أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب، أي: إن
قَدَرْتُم على حيلة، فاحتالوا لأنفسكم. ثم ذكر ما للمؤمنين،
فقال عزّ وجلّ:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ يعني: ظلال الشجر، وظلال أكنان
القصور وَعُيُونٍ الماء وهذا قد تقدّم بيانه، إلى قوله عزّ
وجلّ: كُلُوا أي: ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم
تعملون في الدنيا بطاعة الله.
ثم قال لكفار مكة: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا في الدنيا
إِلى منتهى آجالكم إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي: مشركون بالله.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا فيه قولان:
أحدهما: أنه حين يُدْعَون إلى السجود يوم القيامة، رواه العوفي
عن ابن عباس. والثاني: أنه في الدنيا كانوا إذا قيل لهم:
اركعوا، أي صلوا لا يَرْكَعُونَ أي: لا يصلُّون. وإلى نحو هذا
ذهب مجاهد في آخرين، وهو الأصح.
(1509) وقيل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلّى الله عليه
وسلم بالصلاة، فقالوا: لا نحني، فإنها مَسَبَّةٌ علينا، فقال:
«لا خير في دين ليس فيه ركوع» .
قوله عزّ وجلّ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي: إن
لم يصدِّقوا بهذا القرآن، فبأيِّ كتاب بعده يصدِّقون، ولا كتاب
بعده.
__________
ضعيف. أخرجه أبو داود 3026 وأحمد 4/ 218 من حديث عثمان بن أبي
العاص وليس فيه سبب نزول، وحسّن إسناده الأرناؤوط في «جامع
الأصول» 6175. وخالفه الألباني فذكره في ضعيف أبي داود 652 و
«الضعيفة» 4319 وعلته عنعنه الحسن، وهو مدلس.
(4/386)
|